۩ أكاديمية الفينيق ۩

۩ أكاديمية الفينيق ۩ (http://www.fonxe.net/vb/index.php)
-   ☼ بيادر فينيقية ☼ (http://www.fonxe.net/vb/forumdisplay.php?f=31)
-   -   على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ... (http://www.fonxe.net/vb/showthread.php?t=69163)

ياسر سالم 08-08-2017 08:51 PM

على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 
شَاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيّ، حِينَ تَحمّلوا، ... فَتَكَنّسُوا قُطُناً تَصِرّ خِيَامُها*
شَاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيّ، حِينَ تَحمّلوا، ...
فَتَكَنّسُوا قُطُناً تَصِرّ خِيَامُها*

لم يكن بدعا من الشعراء أن يقف لبيد موقفا سبق اليه ووقف عليه كل صَبِّ محبِّ صادق دَنِفٍ ؛ يحسن أن يُبري الكلام بشفرة الشعور الموخز
انه طريق مُضْن، تشتجر فيه الظنون، وتئن الروح، وتخر من عليائها ، منطرحة على مرابع الوجد ... طريق عسيف كـ حَزْن ثهلان، عبَّده الشعراء ، وتوافر عليه العاشقون ، مذ رصّع الشعر بالشعور جِيد الكلام ...
يجرد لبيد من نفسة محبا آخر ، يخاطبه ، ويوسعه وخزا، بشعور ملتهب فائر مائر صخوب

يقول شاقتك - أي دعتك بداعي الشوق ، وأخذت بمجامع قلبك ، وملاك روحك ، وهي ترحل عنك، ونجمها يؤذن بأفول ، أمام عينك ، ولمّا تغادر بعد ...
وأنهلتك من حبها نهلة حارة ، تملأ قلبك من لوعات الفراق ، ومر الفراق؛ ما يحيل حالك إلى انكفاء وانطفاء وحسرات.
انهن ظعن الحي كلهن ...!
نكل عن محبوبته رسما واسما ، وجَسّدَ صورتها في كل من حولها من نساء ، فكأنهن كلهن هي ...تبعثرت روحها فيهن ، وارتدت عليه ندبات وانطراح، و كأن الرحيل قد استحال سهاما كثيرة بعددهن ، تنهال على شغاف قلبه ، وتُبَضّع فؤاده ، و هو يتبصر ظعن الحي يتهيأن من بين يديه وعم يمينه وعن شماله ومن خلفه ..
واستحقت النساء كلهن وصف الظعن (الحالّات في الهوادج ) ..النازلات بأول منازل الرحيل؛ فقد انقلب حالهن من حال مطمئنة آمنة في الحي الذي هو مظنة اللقاء والتناجي ؛ إلى حال كلها قفَجْعٌ، وَوَلْعٌ، وإخلافٌ، وتبديل .. فحُقّ الشوق وقد حضر أوانه ، انها لحظة ( التحمل) ، تلك اللفظة المحمومة ، التي تفصل هذا الشعور عن غيره، وتبرزه بكل ما يبلغه الأسى والحزن
(وإنه لمن المناطر الهائلة والمواقف الصعبة التي تفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتسكب كل عين جمود، ويظهر مكنون الجوى.)**

وقد ذاق هذه المرارة امرؤ القيس من قبله ، فزفر ذات رحيل وفراق ..

كأني غداة البين يوم (تحملوا) ..
لدى سمرات الحي ناقف حنظلة

فما أقهره من شعور ، ذلك الذي ينتحي بصاحبه الى شجرات لا حضور لجمالها في قلب وامق متفجع ، تتفجر المرارة من قلبه ، فتملأ أركان روحه بعلقم لا يدانيه الا تلك التتي يتَحَسّاها من ينزع قشرة الحنظل بيديه، فينفجر منها مستودع المرارة..

فها هن أولات .. وقد تكنسْنَ الهوادج، وحللن فيها على نحو من المُكث واللبث الطويل بكل ما أفادته لفظة ( قُطُنا) من معنى عميق!
ولعله اختار لهن أن يتكنسن لا ان يدخلن أو يَلِجْنَ لما في وقعها من جمال كائن غير خَفيّ و أثر لازم جَلِيّ..
فلا تتكنس الا الظباء (الكِنَاسُ محل استتار الظباء ) .. وعلى ثقة من أن كل المتكنسات ليس لهن من الرشاقة والدلال ما للظباء ؛ إلا أن وصف محبوبته المطبوع في قلبه ، قد تضمنهن جميعا فاصطبغن به .. فكانت (نوار ) وكل من تقيم بينهن ظباء حسان ذوات جمال ودلال ورشاقة ..

لم يبق لك- أيها المسكين الواله على شفا البين - مما يثير شجنك، ويستنزل عبرتك؛ إلا صرير خشب الهوادج .. ذاك الذي يصطك بأذنك صخبا، ليفرغ على قلبك شحنات طارحة من حرقة البين و ألم الفراق .. (وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلا.)**


-----------
* البيت من المعلقة وهي من أحظى المعلقات عندي
** طوق الحمامة - ابن حزم الأندلسي

زياد السعودي 07-08-2018 12:59 AM

رد: على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 
بوركتم على الرفد والإثراء
كل الود

ياسر سالم 02-10-2018 05:54 PM

رد: على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زياد السعودي (المشاركة 1750741)
بوركتم على الرفد والإثراء
كل الود

أشكرك استاذنا الراقي
تحياتي لك واسعدني مروركم
كل التقدير

ضياء أحمد 25-10-2018 11:12 PM

رد: على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 
استقراء مبدع
ما شاء الله

ياسر سالم 22-02-2019 10:40 AM

رد: على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ضياء أحمد (المشاركة 1759725)
استقراء مبدع
ما شاء الله

اشكرك على وجودك والقراءة
تحياتي

ياسر أبو سويلم الحرزني 22-02-2019 10:10 PM

رد: على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 


قراءة مبدعة وأكثر من رائعة.
وكلّ قراءة لها لا تفضي إلا إلى قراءة جديدة.

استمتعت كثيراً هنا ، فلك الشكر.

تحيّاتي واحترامي أستاذنا الفاضل ياسر سالم.

ياسر سالم 23-02-2019 11:53 PM

رد: على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر أبو سويلم الحرزني (المشاركة 1773622)


قراءة مبدعة وأكثر من رائعة.
وكلّ قراءة لها لا تفضي إلا إلى قراءة جديدة.

استمتعت كثيراً هنا ، فلك الشكر.

تحيّاتي واحترامي أستاذنا الفاضل ياسر سالم.





مرحبا استاذنا المكرم ياسر... طبت اسما ورسما
فكرة الذهاب إلى باحات الشعر الجاهلي، والتروح بانفاس روضه.، والتضلع من رقراقه، هو وحده دواء ناجع ينسخ بأصالته ظلَ ادب معاصر مغشوش ملوث ، يحدق بنا ولم نفلح في السلامة من رذاذه..
..
هناك تشعر بالغني ، ويظل الانبهار هو عنوان التذوق،
ومهما حاولنا تقريب الجمال للمحرومين ؛ فسنبقي أعاجم عند حدود اللفظ وما يشي به من دلالات معجمية فقيرة ،
فالمعاني عندهم لم تكن يوما ألفاظا ذات حروف.. ولكنها صورا مطبوعة في الذهن ، تتوارد على خو اطرهم متسقة متناغمة.، في ألمعية متقنة، وتحرير منقطع النظير.،
بعيدا عن التجريد والتأطير والتنظير الذي نكتب به ونقرأ
.. اشكرك لاعتبارك هذا النص ذا بال..
غير انني كلما عدت اليه والي امثاله مما كتبت ؛ وجدته يتقزم كثيرا أمام تراث عملاق لم نفلح في الإحاطة بكينونته
تحياتي لحضرتك
... ***
******

***

ثناء حاج صالح 24-02-2019 12:26 AM

رد: على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسر سالم (المشاركة 1676445)
شَاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيّ، حِينَ تَحمّلوا، ... فَتَكَنّسُوا قُطُناً تَصِرّ خِيَامُها*

لم يكن بدعا من الشعراء أن يقف لبيد موقفا سبق اليه ووقف عليه كل صب محب صادق دنف ؛ يحسن أن يبري الكلام بشفرة الشعور الموخز
انه طريق مضن تشتجر فيه الظنون وتئن الروح منطرحة على مرابعه ... عبَّده الشعراء ، وتوافر عليه العاشقون ، مذ رصّع الشعر بالشعور جِيد الكلام ...
يجرد لبيد من نفسة محبا آخر ، يخاطبه ، ويوسعه وخزا بشعور ملتهب فائر مائر صخوب

يقول شاقتك - أي دعتك بداعي الشوق ، وأخذت بمجامع قلبك ، وملاك روحك ، ونجمها يؤذن بأفول ، أمام عينك ، ولمّا تغادر بعد ...
وأنهلتك من حبها نهلة حارة ، تملأ قلبك من لوعات الفراق ، ما يحيل حالك إلى انكفاء وحسرات
انهن ظعن الحي كلهن ... نكل عن محبوبته رسما واسما ، الى كل من حولها من النساء ، فكأنهن كلهن هي ...تبعثرت روحها فيهن ، و كأن الرحيل قد استحال سهاما كثيرة يعددهن ، تنهال على شغاف قلبه ، وتُبَضّع فؤاده ، و هو يتبصر ظعن الحي يتهيأن أمامه ومن حوله ..
واستحق النساء كلهن وصف الظعن (الحالّات في الهوادج ) ..النازلات بأول منازل الرحيل .. فقد انقلب حالهن من حال مطمئنة آمنة في الحي الذي هو مظنة اللقاء والتناجي ؛ إلى حال كلها قهر وولع وترحال وتبديل .. فحُقّ الشوق وقد حضر أوانه ، انها لحظة ( التحمل) ، تلك اللفظة المحمومة ، التي تفصل هذا الشعور عن غيره وتبرزه بكل ما يبلغه الأسى والحزن
(وإنه لمن المناطر الهائلة والمواقف الصعبة التي تفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتسكب كل عين جمود، ويظهر مكنون الجوى.)**

وقد ذاق هذه المرارة امرؤ القيس من قبله ، فزفر ذات رحيل وفراق ..
كأني غداة البين يوم تحملوا .. لدى سمرات الحي ناقف حنظلة
فما أقهره من شعور ، ذلك الذي ينتحي بصاحبه الى شجرات لا حضور لجمالها في قلب صب متفجع ، تتفجر المرارة من قلبه ، فتملأ أركان روحه بمرارة لا تدانيها الا تلك التتي يتحساها من ينزع قشرة الحنظل بيديه فينفجر منها مستودع المرارة..

فها هن أولات .. وقد تكنسن الهوادج وحللن فيها على نحو من المُكث واللبث الطويل بكل ما أفادته لفظة ( قُطُنا) من معنى عميق
ولعله اختار لهن أن يتكنسن لا ان يدخلن أو يلجن لما في وقعها من جمال كائن لا يخفى و أثر لازم جلي
فلا تتكنس الا الظباء (الكِنَاسُ محل استتار الظباء ) .. وعلى ثقة من أن كل المتكنسات ليس لهن من الرشاقة والدلال ما للظباء ؛ إلا أن وصف محبوبته المطبوع في قلبه ، قد تضمنهن جميعا واصطبغن به .. فكانت (نوار ) وكل من تقيم بينهن ظباء حسان ذوات جمال ودلال ورشاقة ..

لم يبق لك- أيها المسكين الواله على شفا البين - مما يثير شجنك ويستنزل عبرتك إلا صرير خشب الهوادج .. ذاك الذي يصطك بأذنك صخبا ليفرغ على قلبك شحنات طارحة من حرقة البين و ألم الفراق .. (وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلا.)**


-----------
* البيت من المعلقة وهي من أحظى المعلقات عندي
** طوق الحمامة - ابن حزم الأندلسي

السلام عليكم
قراءة ذات وقفات تأملية جمالية تدعو للانبهار ، لهذا الاحتراف في فن التذوق الشعري الأصيل !
أبدعتم في التعبير عما استسغتم من الصور الشعرية التي تحوَلت بريشتكم إلى لوحات فنية خالدة !
دمتم بخير وسعادة
ولكم التحية والتقدير

ياسر سالم 24-02-2019 11:11 AM

رد: على ضفاف التذوق ... ألم البين /لبيد ...
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ثناء حاج صالح (المشاركة 1773749)
السلام عليكم
قراءة ذات وقفات تأملية جمالية تدعو للانبهار ، لهذا الاحتراف في فن التذوق الشعري الأصيل !
أبدعتم في التعبير عما استسغتم من الصور الشعرية التي تحوَلت بريشتكم إلى لوحات فنية خالدة !
دمتم بخير وسعادة
ولكم التحية والتقدير




وعليكم السلام أستاذتنا الكريمة الشاعرة ثناء صالح

اشكرك على رفدك لهذا الطرح ببعض قطرات ندى ،
نَجَمَت له نبتته ، واشتدت على سوقها بتوارد الكبار امثالكم على افيائها
أن محاولة النيل من جمال ما نسجه الأوائل ؛ ستظل قاصرة ما لم يتهيأ لها عينٌ راصدٍ واعٍ ، وقلمٌ ماهرٌ خِرِّيتٌ
لقد استفزتني تصاويرُهم التي جاوزت في بذخها حدود سقف الإبداع ، وكان ذلك غير مرة.. فلما عكفت على مُدارستها عاما وبعض عام ؛ وجدتني من جمالهم في بحر لجي ، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب

فَآلَيْتُ لاَ يَنْفَكُّ كَشْحِي بِطَانَةْ ... لِشعر رَقِيقِ الضفْتَيْنِ مُهَذبِ #

ثم وجدتني اقل من أن ينال من بِكر معانيهم ، او يطاول بقامته القصيرة صروح ما بنوه من جمال عربي فائق الروعة ، قد بلغ من مراتب الإعجاز حدّا مهولا...
فارجو ان يلتمس لي المتذوق العذر...
فما زلت بين ربوع أوابدهم فرخ داجن

تحياتي لحضرتك.. وكم وكم سرني مرورك
... ***
*********

***

_______
# اصل البيت من معلقة طرفة وقد تصرفت في عجزه بالقدر الذي يوافق المعنى الذي اردت وحاولت - قدري - الا اثلم الوزن


الساعة الآن 08:33 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط