۩ أكاديمية الفينيق ۩

۩ أكاديمية الفينيق ۩ (http://www.fonxe.net/vb/index.php)
-   🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ (http://www.fonxe.net/vb/forumdisplay.php?f=55)
-   -   العنقاء نازك الملائكة يليق بها الضوء (http://www.fonxe.net/vb/showthread.php?t=31295)

زياد السعودي 08-10-2011 12:11 PM

العنقاء نازك الملائكة يليق بها الضوء
 

سلام الله


تعودنا أن نضع نصاً تحت الضوء
ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربةٍ فذّة
سنستميح روح العنقاء نازك الملائكة
لنضعها تحت الضوء
إذ بها يليق الضوء




نبذة عن حياتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نازك الملائكة



نازك صادق الملائكة الشاعرة العراقية المميزة التي صنعت ثورة جديدة في الشعر المعاصر، حيث أثارت نازك الملائكة مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ثورة في الشعر العربي الحديث بعد نشرهما في وقت واحد قصيدة"الكوليرا" عام 1947 للملائكة وقصيدة"هل كان حبًا" للسياب، لينوها عن بدء مرحلة جديدة في الشعر العربي الذي عُرف حينذاك بالشعر الحر.






نشأة نازك الملائكة



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ولدت نازك صادق الملائكة في بغداد يوم الثالث والعشرين من أغسطس عام 1923 في أسرة لها باع طويل في الثقافة والشعر؛ فكانت أمها تنشر الشعر في المجلات والصحف العراقية, كما أصدرت ديوان شعر في الثلاثينيات اسمه "أنشودة المجد" وذلك تحت اسم أدبي هو "أم نزار الملائكة"، أما والدها صادق الملائكة فترك مؤلفات أهمها موسوعة "دائرة معارف الناس" في عشرين مجلدًا، ومن هنا يأتي سبب تسمية العائلة بهذا الاسم "الملائكة" فهو لقب أطلقه على العائلة بعض الجيران بسبب ما كان يسود البيت من هدوء وسكينة،ثم انتشر اللقب وشاع وحملته الأجيال التالية للعائلة.
أما خالها جميل وعبد الصاحب الملائكة من الشعراء المعروفين أيضا، وعرف عن شقيقها الأوحد نزار الملائكة، الذي كان يعيش في لندن بأنه كان شاعراً أيضًا.





حياة نازك ودراستها



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



بدأت نازك الملائكة كتابة الشعر وهي في العاشرة من عمرها،أتمت دراستها الثانوية والتحقت بدار المعلمين العالية التي أصبحت حاليًا كلية التربية، وتخرجت منها عام 1944 بدرجة امتياز، والتحقت بعد ذلك بمعهد الفنون الجميلة وتخرجت من قسم الموسيقى تخصص "عود" عام 1949، درست الملائكة اللغة العربية في كلية التربية جامعة بغداد، ولم تتوقف في دراستها الأدبية والفنية إلى هذا الحد حيث درست اللغة اللاتينية في جامعة برستن بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم حصلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وينكسونسن بالولايات المتحدة أيضًا، كذلك درست اللغة الفرنسية وأتقنت الإنجليزية، وترجمت بعض الأعمال الأدبية عنها، عملت نازك مدرسة للأدب العربي في جامعتي البصرة وبغداد.



غادرت العراق في الخمسينيات وذلك لأسباب سياسية واتجهت إلى الكويت واستقرت هناك فترة طويلة حيث عملت مدرسة للأدب المقارن بجامعة الكويت.



مثلت الملائكة العراق في مؤتمر الأدب العربي المنعقد في بغداد عام 1965، ثم غادرت العراق مرة أخرى في ظل الحرب الأمريكية العراقية لتتوجه إلى القاهرة وتستقر بها وذلك في عام 1991، حيث أقامت هناك في حي سرايا القبة شرق القاهرة حتى توفتها المنية.



مُنحت جائزة البابطين للشعر عام 1996وذلك تقديرا لدورها في ميلاد الشعر الحر، كما أقامت دار الأوبرا المصرية احتفالاً كبيرًا تكريمًا لها، وأيضًا بمناسبة مرور نصف قرن على بداية الشعر الحرفي الوطن العربي، ولكنها لم تحضره بسبب ظروفها الصحية، وذلك في عام 1999






رحيل نازك الملائكة



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



جاءت وفاة الشاعرة العراقية نازك الملائكة يوم الأربعاء الموافق العشرين من يونيو عام 2007 في منزلها الذي أُقامت به منذ مجيئها إلى مصر, وذلك بعد معاناة طويلة ورحلة شاقة مع المرض, فتوفيت اثر هبوط حاد في الدورة الدموية قد عانت قبلة من أمراض عديدة مثل أمراض الشيخوخة والزهايمر, وقد شُيعت الجنازة من أحد مساجد مصر الجديدة في القاهرة.
وحضر عدد قليل من أفراد الجالية العراقية وعدد من المصريين من سكان حي سرايا القبة من جيرانها منذ وصولها إلى مصر عام 1990، وقد حضر مراسم الجنازة أمين المجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور وعدد من المثقفين والكتّاب المصريين, ونُقل جثمانها الذي لُفّ بالعلم العراقي إلى مقبرة مدينة السادس من أكتوبر خارج العاصمة المصرية بجوار مدفن نجيب محفوظ.
وقد نعى المجلس العراقي للثقافة الأديبة الراحلة, وقام نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي وقتذاك بتقديم التعزية للقائم بالأعمال العراقية في القاهرة, وبدأ في اتخاذ الإجراءات لنقل الجثمان إلى بغداد




مجموعات شعرية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




أهم مجموعاتها الشعرية:
• عاشقة الليل 1947 ,نشر في بغداد , وهو أول أعمالها التي تم نشرها.
• شظايا الرماد 1949
• قرارة الموجة1957 .
• شجرة القمر 1968
• ويغير ألوانه البحر 1970 .
• مأساة الحياة واغنية للإنسان 1977
• الصلاة والثورة 1978




مؤلفاتها




ونازك الملائكة إلى جانب كونها شاعرة رائدة فإنها ناقدة متميزة، وقد صدر لها
• قضايا الشعر الحديث ،عام 1962
• التجزيئية في المجتمع العربي ،عام 1974 وهي دراسة في علم الاجتماع.
• سايكولوجية الشعر, عام 1992
• الصومعة والشرفة الحمراء.
كما صدر لها في القاهرة مجموعة قصصية عنوانها "الشمس التي وراء القمة" عام 1997





قالوا عن نازك الملائكة



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



شعراء لبنانيون: ستبقى منارة مشعَّة
الشاعر محمد علي شمس الدين:
أحب منها وجهها الأول





أحب من نازك الملائكة وجهها الأول، الوجه الشجاع والمغامر، من خلال «عاشقة الليل»، والمقدمة القوية للديوان، ومن خلال خروجها على النمطية الكلاسيكية في الشعر وتحطيم القيود في مجتمع محافظ جداً، كالعالم العربي والعراق. امتازت نازك الملائكة في تلك المرحلة الأولى بشجاعة ورؤيا، وبنبض إنساني وألم عال جداً، ثم اكملت الشعرية برؤيا نقدية من خلال كتابها عن القصيدة الحرة. وهو اول كتاب نقدي جريء عن معنى القصيدة الحرة، ومغامرة الشعر العربي المعاصر. بهذا الكتاب سبقت الجميع، لكنها بعد ذلك انتكست، وسيطر عليها الطابع العراقي المحافظ، وربما النجفي، فتراجعت عن مغامراتها التحديثية وعادت إلى الصراط المستقيم، والكلاسيكية، لتنتج قصائد، إذا ما قيست بالحداثة، فهي لا شيء، وإذا ما قيست بالكلاسيكية فمستواها متدن. وهنا دخلت نازك الملائكة في سجن من ظلمة الذات والسجن الاجتماعي حتى الموت. في البدايات، تقدمت نازك الملائكة على عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري، كانت أكثر جرأة منهم جميعا ومبادرة، وأكثر تقدماً من فدوى طوقان، وسلمى الخضراء الجيوسي، لكن الحداثة تحليق دائم، وهي لم تفعل وإنما طوت جناحيها ونامت، فنامت عنها عيون الشعر.



الشاعر جوزيف عيساوي:
قرأتها كمن يحاول اكتشاف تاريخ أدبي




قبل ثلاثة أعوام، وقعت على نسخة عتيقة من أحد دواوين نازك الملائكة، موقع بخطها، وبقلم أسود سيّال، مهدى إلى الصحافي والمخرج فاروق البقيلي. سحرني اسمها على الديوان، واصفرار ورقه، وخطها الجميل، كالجزء الثاني من اسمها.
عدت إلى البيت لم أنم ليلتها، وانا أقرأ شعراً رومانسياً لسيدة دخلت أسطورة الأدب الحديث، كأول من كسر العمود الشعري، قبل ان تتوارى، مفضلة الحياة ربما على الكتابة، والسكينة او الوحدة أو الألم الصامت على مشقة الإبداع الشعري. «كأس حليب مثلج ترف»، أظنه مطلع بيت للملائكة في وصف القمر، حفظته من الكتاب المدرسي، وكنت كلما قرأت بيتاً في ديوانها المسحور، تلك الليلة، استعيد حالاتي الشخصية على مقاعد الدراسة، كما تأملت قاموسها الشعري، ولعبتها الماكرة من غير تصنع، المتعمقة دونما استغراق في غموض اللاوعي وتموجاته. لا أخفي اني قرأتها، برغبة من يحاول اكتشاف تاريخ أدبي للتحول الخارق الذي طرأ على القصيدة العربية في أربعينات القرن الماضي، عبر ما عرف بقصيدة التفعيلة والشعر الحر، قبل ان يتحقق الاختراق الأعظم والأرحب عبر قصيدة النثر، بآفاقها وامتداداتها اللامتناهية. على ان هذا لا يعني أن شعر الملائكة تركني محايداً، لجهة الجمال والصور التي رسمت في نفسي دوائر من الغيم، واقواس قزح لطيفة، وتلك السيولة القمرية التي تجري في حبرها كنهر أو ساقية سماوية. هذا العشق (الملائكي) لا يتسرب إليه شر إلا شر الألم واللوعة من العشق، رجلاً كان أم وجوداً أم ذاتاً، مألومة بالأسئلة، شعرية كانت أو فكرية.





كتاب سعوديون : نازك الملائكة مثَّلت تحوُّلا شعرياً مكتملاً





اعتبر الأدباء والنقاد السعوديون رحيل الشاعرة العراقية نازك الملائكة، حدثاً بالغ الأهمية، وذلك لأهمية موقعها في الخريطة الشعرية العربية الحديثة، فالشاعرة تعد من أوائل الشعراء الذين كتبوا القصيدة العربية الحديثة، في ما يعد كثير من النقاد قصيدتها «الكوليرا»، التي نشرتها في عام 1947، الشرارة الأولى، للشعر العربي الحديث، التي فتحت باباً واسعاً للتجديد في الشعر العربي.





الشاعر أحمد الملاّ: الملائكة كانت تعي دورها



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



يقول الشاعر أحمد الملا، مدير نادي المنطقة الشرقية الأدبي:



«وفاة الشاعرة العراقية نازك الملائكة، لها دلالتان: الأولى تاريخية والثانية حدثية، فالتاريخي في وفاة نازك الملائكة، لا يشك أحد في دور الشاعرة، في المسيرة الشعرية العربية الحديثة، حيث أن الشاعرة أسست لحركة التجديد الشعري العربي المعاصر، لكن ذلك لا يعني الريادة، لأن من يطلق الشرارة الأولى ليس بالضرورة أن يكون الرائد في هذا المجال، ومن يستحق لقب رائد هو من رسخ المبادئ بشكل أكبر، ولذلك هناك خلافات كثيرة حول مكتشف التجربة الشعرية الحديثة، لكن لا أحد يشك في أن الملائكة والشاعر بدر شاكر السياب لهما دور كبير في ذلك.



والموقف الآن لا يبحث في هذا المجال، بقدر ما يبحث في أهمية نازك الملائكة ودورها في التيار الذي عمل على مسألة التجديد الشعري والفكري العربي في هذا المجال، خاصة أن دورها لم يقتصر على كتابة الشعر فقط، وإنما بحثت في الجانب النقدي في هذه التجربة، من خلال كتابها الرائع والمهم «قضايا الشعر العربي المعاصر»، وهذا يعطي دلالة أنها كانت تمارس دورها عن وعي وليست صدى لتجارب أخرى".



ويضيف الملا:



«أما في الشق الثاني، وهو الحدث (الوفاة) فمن الأسف أن تجد أحد المبدعين ينتهي بهذا الشكل وبدون أي تقدير، وفي مكان مجهول، بينما المتوقع أن يكون له اهتمام في حياته وما بعد مماته. للأسف اننا في العالم العربي والعالم الثالث عموماً نتذكر مبدعينا ونكرمهم بعد رحيلهم، ويكون حديثنا عنهم بشكل تطهيري وبشكل يوحي برفع اللائمة عن أنفسنا تجاههم، بينما في المجتمعات التي تحترم قدراتها وتحترم مبدعيها، تحتفي بهم في حياتهم وبعد مماتهم، فقبل موت الشاعرة كانت هناك مطالبات عديدة برعاية الشاعرة والاهتمام بصحتها، لكن لم يكن هناك التجاوب المأمول مع وضع الشاعرة من قبل المؤسسات المختلفة في الوطن العربي، وهذا ينسحب على كثير من المبدعين، الذين يكونون في أمس الحاجة إلى الرعاية والاهتمام، لكن ذلك لا يأتي إلا بعد فوات الأوان، وما نتمناه في كل حدث مثل هذا أن يتم الاهتمام بالمبدعين قبل وأثناء معاناتهم، وليس بعد رحيلهم».





الدكتور معجب الزّهراني: موتها انسحاب للشعر من المشهد العبثي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




ويقول الدكتور معجب الزهراني، أستاذ الأدب العربي بجامعة الملك سعود، بالرياض، والناقد الأدبي:



«تمثل نازك الملائكة، لحظة تحول مهمة جداً في الشعرية وكذلك سياق الشعرية العربية الحديثة، وهي بقدر ما ألقي الضوء حولها، ستظل هناك نقاط ملتبسة في هذا اللحظة التحولية المثيرة للأسئلة، فقبلها حاول بعض الشعراء المهجريين، أحداث نوع من أنواع الثورة في لغة القصيدة العربية وفي موضوعاتها وفي أشكالها، ولكن أن تأتي نازك الملائكة وتشخص هذا التحول في قصائدها، وكذلك السياب، فهذا ما يثير الأسئلة، وفي اعتقادي أنه ما زالت هناك حاجة ماسة للبحث في لحظة التحول هذه، رغم ما كتب عنها من دراسات نقدية».



ويضيف الزهراني:



«الذي يثير اهتمامي الشخصي عندما أدرس الأدب العربي الحديث أو حينما أكتب موضوعاً حوله، أن الموروث الشعري المكتنز في الذاكرة العراقية، سواء الفردية أو الجماعية أو المكانية، إلى الآن لم يبحث بشكل معمق، ونحن بحاجة إلى بحوث تغامر في هذا الاتجاه تماماً، كأن نقول إن ذاكرة السرد النثري عريقة في مصر، أو ذاكرة الشعر التقليدي بنوعية الفصيح والشعبي عريقة في الجزيرة العربية، هناك ذاكرة شعرية ثرية ومتنوعة في بلاد وادي الرافدين، واعتقد أننا بحاجة إلى دراسات معمقة في هذا المجال، ويجب أن تستصحب هذه الدراسات دراسات الفكر الفلسفي والأنثربولوجي الحديث، كشرط أساسي، إذ لا تكفي الدراسات النقدية والبلاغية المعتادة، وهذا من شأنه أن يلقي ضوءاً جديداً على هذا التحول، الذي وجد ناضجاً ومكتملا على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، ولا يكفي أن نقول إنهما تأثرا بالشعر الأنجليزي، أو بفلان من الشعراء، هذا المقولات تريح الذهن من عناء البحث، لكن هناك حاجة إلى بحوث معمقة في المناطق المجهولة".



ويبين الزهراني:



"نازك الملائكة ربما تكون هي من دشن هذا التحول، وأعطى له مشروعية التسمية، لكنها لم تكن وحدها التي مثلت التحول في المستوى الجمالي، ربما يكون السياب مثل هذا الجانب بعمق وبجدية أكثر من الملائكة، لكن المصاحبة النقدية التي حاولت من خلالها الملائكة أن تتبعها في كتابتها المبكرة عن قصيدة التفعيلة، والشعر الحر، أيضاً مثيرة للتساؤل والاهتمام، لأنها محاولة جدية لوضع وتقنين جماليات هذه الظاهرة واستكشاف قوانينها، وربما نقطة ضعف نازك الملائكة أنها كانت مثل الحصان الذي يركض في فضاء الشعر، حيث كانت تركض باللغة إلى الأمام، لكنها عندما كانت تنظر تعود إلى الخلف، حيث كانت تستخدم الكثير من مفاهيم العروض التقليدية، وبالتالي كانت هناك مفارقة بين تنظيراتها ونصها الشعري، وهذا ما تنبهت له في كتاباتها المتأخرة نوعاً ما، لكنها تظل لحظة رمزية باهرة، ويلح أننا في أمس الحاجة إلى المزيد من البحوث للإلقاء الضوء على هذه اللحظة".



ويرى الدكتور معجب الزهراني، أن موت الشاعرة له دلالة تتسع لتشمل فضاءات مشرقية كثيرة، كأنما انسحابها هو موت سلمي، موت سعيد، كما يقول البير كامو في أحد كتبه، يقابل هذا الموت العنيف هذا الموت العبثي، الذي يكاد يفقدنا حس التعاطف معه لأن هناك من يمارسه بمنظور المقدس الوطني أو المقدس القومي أو المقدس الديني، وبالتالي هو موت عبثي يأخذ شكل الجريمة، بينما نازك الملائكة تلك الشاعرة المرهفة الرائدة ماتت بسلم وسلام، وكأنما هي تنسحب من مشهد لم يعد صالحاً للشعر.



http://www.fonxe.net/vb/images/FH_Ab...bits_start.gif

قراءات في شعر نازك الملائكة




هاتف جنابي / شاعر وكاتب عراقي مقيم في وارسو

( نازك الملائكة شاعرة عصامية بروح كاهنة )





منْ لا يعرف الشاعرة نازك الملائكة عن قرب، لا يمكن أن يدرك حتى النهاية إلى أي مدى ينطبق شعرها على حياتها وتجربتها،وكم تنطبق الأسماء على مسمياتها أحيانا،كما هو الحال مع الملائكة. شاءت الصدف والأقدار أن تكون أستاذتي في مادة الأدب المعاصر في جامعة بغداد -كلية التربية الملغاة أواخر الستينيات.على أنني لا أنوي في هذه العجالة أن أتحدث عن حياتها الغنية كاملة، فهذا ليس من دواعي هذا النص، إنما بودي التنويه إلى مثابرتها وصفائها الذهني وشفافيتها المفرطة ورهافة سمعها الموسيقي.علينا أن نتذكر دائما ولعها بالموسيقى.حدثتنا ذات محاضرة،عن غفلة المرء عما قد يلحق الضرر به في يومه الذي يتراءى أنه طبيعي.فمثلا،كيف يبدو لمس النقود والتعامل بها بريئا وعاديا، إلا أنه قد يسبب في نقل العدوى ومنها الحساسية والأمراض الجلدية وما شابه.أنا،مثلا،أضافت قائلة: أغسل يدي بعد كل مرة ألمس فيها النقود.لقد تسمّرتُ شخصيا بعد سماعي ملاحظتها الحياتية المذكورة، واستغربت منها تضييع وقتها ووقتنا بلا طائل.
لكنني أدركتُ حماقتي، حينما سمعت جملتها الأخيرة: كل هذا الدرن يمكن الشعر أن يغسله! لا يمكنك ألا تنصت لها،لأنها وببساطة أستاذة العفة والرهبنة والحديث همسا.صوتها رقيق،نظراتها شبه حالمة، ذهنها متوقد وخيالها بلا حدود،لم تكنْ تؤمن بالكتابة الشعرية الواعية حتى النهاية،"لأن الوعي التام قلما ينتج شيئا ذا قيمة"(مقدمتها للمجلد الثاني من ديوانها).




لم تتحدث كثيرا عن نفسها وهذه من أجمل خصالها.لكنها كانت تتحدث عن ضرورة الشعر،وأهمية الحياة في إغناء التجربة الفنية ودور القراءة المتأنية والمزاج الفردي في صياغة الشاعر وعالمه التولدي.كانت في أشعارها الأولى حتى منتصف الستينات تكدح شعريا،مصوبة البيت ومراجعة تلك القصيدة،والدليل على ذلك،أن إحدى قصائدها ذات الطبيعة الرومانسية قد كتبت ثلاثَ مرات بشكل مغاير،في غضون عشرين عاما،وعلى البحر الحادي عشر الخفيف والغريب أنها اتبعته في القصائد الطوال الثلاثة.




كانت أجواؤها متشائمة وحزينة في الأولى فانفراج نفسي ونوع من الأمل والفرح في الأخريين. ونظرا للإختلاف فيما بين القصائد قامت بنشرها كلها في الجزء الأول من ديوانها الصادر عن دار العودة في بيروت. متسلسلة هكذا: "مأساة الحياة"(1945-1946 )، "أغنية الإنسان-1"(1950) و"أغنية الإنسان-2"(1965).إن إصرارها على تنقيح القصيدة الأولى أعطاها على مدى عشرين عاما ثلاثة نصوص متباينة.
لم تكن هذه القصائد بالنسبة لتطور الشعر الحديث تعني شيئا، لكنها ذات قيمة من حيث المجهود والمثابرة والتجربة الشخصية، وعلاقتها هنا وهناك بأجواء مماثلة في الشعر الإنجليزي، خصوصا لدى (جون كيتس) الذي سبقها في تجربة مماثلة باعتراف الشاعرة ذاتها.هذه التجربة المضنية، قد ساعدتها قبل كل شيء في الابتعاد ، ولو إلى حين، عن مواصلة كتابة المطولات الشعرية التي كانت تميل إليها في البداية، ودفعتها إلى بلورة آرائها حول طبيعة الشعر الجديد "شعر التفعيلة" أو كما أسمته خطأ "الشعر الحر" ، الذي دعت إليه ودافعت عنه في مقدمتها لديوانها وفي كتابها الهام"قضايا الشعر المعاصر"(1962). للأفق المفتوح على الأدب العالمي دور مهم جدا في تجربة وآراء نازك الشعرية والنقدية. ألم تدرس الأدب المقارن؟ كانت تقرأ بالإنجليزية بنهم، وبما أن مطالعاتها المكثفة انحصرت في الثلاثين سنة ونيف التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أثناء دراستها في دار المعلمين العالية في بغداد، والأدب المقارن في الولايات المتحدة الأميركية، كما وأشيع عن كونها ملمة باللاتينية والفرنسية.




رغم نزوعها نحو التجديد ودعوتها لتخليص الشعر العربي من التقليدية والماضوية، يعني من"الرقدة الطويلة التي جثمتْ على صدره طيلة القرون المنصرمة الماضية"(نازك الملائكة 1949)، إلا أنها أوحت لنا بأن قسطا من الردة والتخاذل في مسعاها التجديدي قد تلبسها في الثلاثين سنة الأخيرة التي سبقت موتها،وكأنها انعكاس للردة الناغلة في الجسد العربي منذ سنوات طويلة. وإلا فبماذا نفسر عودتها لكتابة الشعر العمودي الذي خرقت قواعده بنفسها؟ألم تقلْ من قبل: بأن مزية شعر التفعيلة "أنها تحرر الشاعر من طغيان الشطرين"، و"أن الأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعا، والألفاظ ستتسع حتى تشمل آفاقا جديدة واسعة من قوة التعبير...".




في الحقيقة، كانت نازك تعتقد بأن مسعاها وزملائها هو بمثابة "تعديل" للخليل بن أحمد الفراهيدي، وليس "خروجا" عنه.من هنا، يبدو لنا،أنها كانت في شعرها وأرائها النقدية وسلوكها تحاذر من المبالغة في التجديد ولا ترغب في رؤيته مُتفرعنا في الساحة كشكل أدبي فريد. مازالت ثقتها بالماضي أعلى منها بالحاضر. هذا التصور وتأثير المحيط المحافظ عليها وشخصيتها الميالة على الترهب هو الذي أوقف مسعاها التحديثي ووضعها خلف السياب من حيث المواصلة والبحث عن الحلول التقنية والجمالية في شعرنا المعاصر. على أية حال، فنحن أمام حساسيتين ومجهودين شعريين مختلفين.لكن ما قدمته نازك لحركة الشعر العربي،باعتقادنا،يجعلها أكثر الشواعر حضورا وتأثيرا في تاريخ الشعر العربي المعاصر.




إن حالة التردد وعدم الثقة الكاملة بمنجزات شعر الحداثة ليست بالغريبة وسط الشعراء بما فيهم الأجانب.على أن هذا الأمر المتمثل بانتكاس الشاعرة على صعيد التجديد في سنواتها الأخيرة، لا يغير شيئا في كونها سواء بمسعاها التجديدي أو بتنظيرها لحركة الشعر العربي الجديد قد فاقت الكثيرين من الشعراء العرب أفقا واجتهادا وجرأة.هذه الشاعرة الحذرة الدؤوبة بحساسيتها العالية أطلقت هي والسياب بدون شك شرارة التجديد في شعرنا المعاصر بخرقهما للقواعد التقليدية التي كانت سائدة لقرون. سوى أن المفارقة تكمن في أنها لم تجعل الخرق هو القاعدة السائدة. على أنها، سعت لإقناعنا أكثر من ذي قبل بفكرة أن "الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها، ولا نماذج معينة للألوان التي تتلون بها أشياؤها وأحاسيسها" على حد تعبيرها.




لقد رحلت شاعرة مجددة هامة وحاضرة بمضاء في شعرنا المعاصر، خرقت صنمية القصيدة العربية وجعلتنا أقرب إلى الحداثة من ذي قبل.على صعيد المعاناة، كانت حياتها في السنوات الأخيرة تمثل وجه العراق الطموح العصامي المعذب الذي تلاحقه لعنة الآلهة. نازك الملائكة شاعرة عصامية بروح كاهنة.




عبد الستار نورعلي / شاعر عراقي مقيم في السويد
( نازك الملائكة بين الشكل والمضمون)



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




لا تزالُ جدلية البحث في أسبقية الشاعر الذي كتب القصيدة الأولى في الشعر الحر (شعر التفعيلة) بدر شاكر السياب أم نازك الملائكة مستمرة . كلٌ يأتي بدليل مستند إلى تاريخ كتابة القصيدة وظروفها. وكل ذلك لمنح الريادة لأحدهما على الآخر. وهناك من يرى بأن بلند الحيدري هو أسبق منهما بالاعتماد على أنه نشر ديوانه الأول (خفقة الطين) في منتصف عام 1946 قبل ديوان نازك الملائكة الأول (عاشقة الليل) أوائل 1947 ، وديوان بدر شاكر السياب الأول (أزهار ذابلة) أواسط 1947 .




في عمليات التجديد في الإبداع الفني ومجايلة المبدعين المجددين لبعضهم تثار مثل هذه الأسئلة ويحدث الخلاف في الرأي . وأحياناً يبدو الأمر وكأنه الأهم في مسيرة العملية التجديدية أكثر من أهمية موضوعة التجديد والتحديث والعصرنة نفسها في فنون الإبداع المختلفة. الشاعرة الراحلة نازك الملائكة ( 1922- 20 حزيران 2007 ) هي أحد أهم وأكبر الأسماء في حركة تجديد الشكل في القصيدة العربية الكلاسيكية العمودية في القرن العشرين إلى جانب بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري في العراق والعالم العربي . لكن السؤال الذي يجب أن يتجرأ النقاد والباحثون في البحث فيه هو: هل هي أهمهم ؟ لقد بدأت الشاعرة الراحلة مجددة ورائدة في قصيدة التفعيلة (الشعر الحر) ، لكنها تراجعت بعد زمن إلى الشكل الكلاسيكي ، حين كانت تؤكد في أطروحاتها النقدية على أهمية التفعيلة (الإيقاع) في حركة التجديد وقد كتبت في ذلك وفي كتابها النقدي المهم (قضايا الشعر المعاصر) ، و بذا دخلت عالم النقد والتنظير أيضاً لتكون مبدعة كبيرة ومهمة فيه.




بينما تجاوزها بدر شاكر السياب في التجديدية الشعرية مع عمره القصير 1926- 1964 ، وكذا عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ، وهم جميعاً بدأوا معاً حركة التجديد هذه وفي نفس الزمن ، علماً بأن الشعراء الرجال الثلاثة ولدوا في عام 1926 الذي أسماه السياب عام العبقرية في العراق لأنهم كشعراء كبار ومجددين مهمين ولدوا فيه ، في حين ولدت نازك عام 1922 .نازك الملائكة ولا شك من أكبر الشعراء العرب المبدعين والمجددين في القرن العشرين . تركت أثرها وبصماتها ونحتت اسمها في ذاكرة تاريخ الأدب العربي الغني والمشرق ، وأثرت القصيدة العربية بالقمم من القصائد ، وأثرت (بتشديد الثاء) في أجيال من الشعراء العرب بعدها. انحدار الشاعرة العائلي ، الأب شاعر وأديب والأم شاعرة والشقيق شاعر والبيت ملتقى للأدباء والكتاب ، كان له أثره البالغ في شاعريتها وثقافتها ورسم مستقبلها إلى جانب الموهبة الشخصية الفذة ، مدعومة بإرادة المواصلة وتثقيف الذات وإتقان اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية ، كي تتمكن من قراءة نتاجات مبدعيها بلغاتها لأهمية ذلك للمبدع .




امتاز شعر نازك الملائكة بالحزن والشجن الرومانسي متأثرة في ذلك بالمدرسة الرومانسية التي كانت تأثيراتها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي واضحة في شعر الشعراء العرب ، وهذا ما دفع النقاد إلى القول بأنها جددت في الشكل دون المضمون إشارة إلى شعرها الحر. لكننا نلمح في ثنايا هذه الرومانسية حساً إنسانياً عالياً في التعبير عن معاناة الإنسان في هذه الحياة المثقلة بالاضطرابات والخطوب والحروب ، وهو ما اضطرت معه الشاعرة إلى اعتماد الشكل الكلاسيكي العمودي في التعبير عنه ممزوجاً بالفكر . وهذا الحس الرومانسي المشوب بالإنساني هو حس الشاعر المرهف الحزين الشجي المنشغل بالهم العام الذائب في الذاتي ، وهو ما امتازت به شاعرتنا الكبيرة ، والذي يحتاج إلى البحث فيه والكتابة عنه أكثر من الغوص في الشكلياتية الإبداعية والأسبقية من غير النظر في المضمون وما يضطرب فيه من أحاسيس وأفكار وتجارب ومعاناة هي أساس العملية الإبداعية ومفجر اللحظة الشعرية في روحية النص النابعة من ذات المبدع ونزيفه الداخلي.




وهذا لا يعني بالضرورة أن التركيز على الشكلياتية غير مهم في تأريخية الإبداع ، فالشكل هو الولادة الطبيعية للمضمون المخلوق من جملة عوامل ذاتية خاصة بالمكونات السيكولوجية للشاعر من موهبة وثقافة وفكر وتربية وبيئة ، وموضوعية متعلقة بالزمان والمكان والمؤثر التاريخي الجغرافي في ما يحيط بالشاعر والنص. كما أن المضمون هو ولادة الشكل في ارتباط عضوي جدلي بين الصورتين ، وعليه فالتركيز على جانب وإهمال الثاني هو تشطير للنصية الشعرية. فالشاعر هو بناء الذاتي والموضوعي والشكلي و المضموني.




وفي شاعرة مثل نازك الملائكة والزمن الشعري الذي كتبت فيه تكون العلاقة بين الشكل والمضمون مهمة في عملية الخلق الشعري ، وربما لهذا أثر في أنها تراجعت لتعود إلى الشكل القديم الكلاسيكي. والأمر في حاجة إلى بحث أكاديمي رصين ، كما أن مضمون شعر نازك الملائكة بحاجة إلى الدراسة والتحليل والكتابة فيه. فالحزن الشفاف العميق هو ما يصبغ نتاج شاعرتنا الكبيرة ، وقصيدتها التجديدية الأولى (الكوليرا) صورة واضحة من الألم والحزن لما حدث من اجتياح وباء الكوليرا قرى مصر في 1947 ، وهي التعبير الأول عن هذا الحس الذي صبغ مضامين شعرها بهذا اللون من المشاعر الذاتية التي تعلقت بالهموم الإنسانية عامة ، وهو ما يميز إبداعها.لكن المؤلم والمحزن في رحيلها أنها عانت العوز والمرض والألم الجسدي بعد معاناة الألم الروحي ، وبعد هذا التراث الأدبي الكبير من شعر ونقد ودراسة وتدريس ، فلم تجد العلاج والرعاية في الوطن الأم والأرض التي ولدت فيها ورفعت اسمها بعطائها الفذ وإبداعها الخلاق السامي. والأكثر إيلاماً موتها في بلاد غير بلادها وإن لم يكن غريباً ، مثلما الجواهري الكبير والبياتي وبلند الحيدري. ويبدو أن قدر المبدعين العراقيين مرسوم في هذا الطريق ، غربة واغتراب وإهمال وتهميش وأولو أمر في كل زمان منشغلون بأمورهم في بناء القصور والقباب وأقواس النصر وفي المديح وانتفاخ الأرصدة والبغضاء والمنكر والظلم والطموح غير المشروع والأحقاد والقتال ونشر الشرور وضياع السلم والأغاني .



نازك الملائكة رائدة في الإبداع.. وفي التنظير النقدي أيضاً



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




لا ينبغي أن يكون رحيل الشاعرة العربية الكبيرة نازك الملائكة، السبب الوحيد في إزجاء التحية إليها واستذكار دورها العظيم في إرساء المفاهيم الأساسية للتحولات التي شهدتها القصيدة العربية الجديدة خارج تخوم المألوف والمتعارف عليه من الأشكال الشعرية التي كانت في أواخر النصف الأول من القرن العشرين قد وصلت إلى غايتها القصوى، بل لابد من أن يكون هذا الرحيل مناسبة لإعادة قراءة نازك الملائكة، لا بوصفها شاعرة فقط وإنما بوصفها ناقدة أيضاً، فقد أسهمت في التنظير للقصيدة الجديدة وتطور الرؤية النقدية نحو النص الشعري وهكذا فلم يكن دورها يقتصر على الريادة الشعرية، وإنما تعداه إلى كونها رائدة في مجال النقد الأدبي الحديث.




لقد كانت القصيدة الجديدة أو قصيدة التفعيلة –بعد أن اتسع نشاطها وتكاثر شعراؤها- تنتظر نقاداً من داخلها ومن بين أنصارها، وقد تولى كتاب "قضايا الشعر المعاصر" لنازك الملائكة القيام بهذه المهمة الريادية خير قيام، وبرغم الملاحظات السلبية التي قيلت عنه، فقد جاء في الوقت المناسب وطرح كثيراً من الأسئلة والمحاذير على طريق التجربة الشعرية الجديدة، وظل وسط ركام الكتابات النقدية التي رافقت ميلاد القصيدة الجديدة شديد الخصوصية، بالغ الدلالة في دعوته إلى ضرورة تغيير الذائقة الشعرية. وإذا كان الكتاب قد أثار معارضة حادة من قبل البعض فإنه أيقظ الوعي لدى القراء والنقاد المتابعين لحركة الشعر الجديد ودعا شعراء هذه الحركة أنفسهم إلى مزيد من اكتشاف الذات.




ولا أعتقد أن كتاب "قضايا الشعر المعاصر" كان بداية الجهد النقدي لنازك الملائكة فقد سبقته مقدمة ديوانها الثاني "شظايا ورماد" عام 1949 ولا أريد أن أبالغ في أهمية هذه المقدمة وفي الأثر الذي تركته قراءتها لدى الشعراء بخاصة، فقد كان بمثابة بيان الحداثة الأول. وهو بيان توفرت له كل مقومات الإقناع والوضوح، ابتداء من سطوره الأولى التي تقول: "في الشعر كما في الحياة يصح تطبيق عبارة برناردشو (اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية) لسبب هام هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة تتبعها في ترتيب أحداثها ولا نماذج معينة للألوان التي تتكون بها أشياؤها وأحاسيسها".(ص7) يضاف إلى هذا الرأي الجريء المنادي باللا قاعدة في الإبداع والبحث عن طرق جديدة مناهضة للمألوف وخارجه عليه ليتناسب مع تطور الحياة ذاتها وعدم الوقوف أو الدوران، أقول إنه يضاف إلى ذلك حديثها في المقدمة عن الأوزان وما كان يضطر إليه الشاعر من تكلف في إضافة ألفاظ وأحياناً معاني تخرج بالصورة وبالمعنى الأصلي عن هدف الشاعر حفاظاً على الوزن الخليلي. وهي تقدم في هذا المجال نموذجاً عملياً من أربع قصائد من ديوانها "شظايا ورماد" تبرر من خلالها الخروج وترى أن هذا الأسلوب ليس خروجاً على طريقة الخليل وإنما هو تعديل لها، يتطلب تطور المعاني والأساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل". (ص15)




ووقفة ثالثة وأخيرة مع تلك المقدمة/ البيان عند فقرة تتحسر فيها على الجهد الضائع الذي ذهب في البحث عن الزوائد اللفظية التي لا هدف لها سوى البحث عن استقامة الوزن -وإن أخل بالمعنى- وبالصورة المنشودة إذ تقول: "وليس هذا مكان الحديث عن الخسائر الفادحة التي أنزلتها القافية الموحدة بالشعر العربي طيلة العصور الماضية وإنما المهم أن نلاحظ أن هذه القافية تضفي على القصيدة لوناً رتيباً يمله السامع، فضلاً عما يثير في نفسه من شعور بتكلف الشاعر وتقيده للقافية، ومن المؤكد أن القافية الموحدة خنقت أحاسيس كثيرة ووأدت معاني لا حصر لها في صدور شعراء أخلصوا لها".(ص18)




هذا الموقف الجريء في الخروج على المألوف في الكتابة الشعرية وهجاء القافية هو الذي جعل من ريادتها النقدية أكثر ربما من ريادتها الشعرية. والذين تحاملوا على الشاعرة الكبيرة واتهموها بالارتداد لم يكونوا ينظرون إلى شعرها بقدر ما كانوا ينظرون إلى هذه البدايات التنظيرية الجريئة التي تراجعت عنها أو عن بعضها في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" وما ورد فيه من آراء بدت وكأنها تعبير عن تراجع خطير تجاه مفهوم اللاقاعدة في الإبداع الذي أخذت به وبشرت بتعميمه، ورفض كل ما من شأنه أن يجعل المبدع يحتفي أو يهتم بأي مرجع خارجي لا يخدم نصه أو فنية الشعر وجمالياته.




أذكر لمناسبة رحيل الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة أنني قبل عشرة أعوام، اخترت أن أدرّس شعر نازك لطلابي في الدراسات العليا، فاكتشفت من خلال ذلك الدرس أن التنظير النقدي لدى هذه الشاعرة الكبيرة قد جنى على شعرها وعلى شاعريتها أيضاً، لاسيما في أعمالها الشعرية الأخيرة التي ظهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم فقد تخلت الشاعرة عن التلقائية وبدت وكأنها تكتب القصيدة تحت سيطرة المفاهيم النقدية التي نادت بها، سواءً في بناء القصيدة أو في أسلوبها الإيقاعي. وهذا ما أفقد شعرها الأخير العفوية التي امتازت بها في أعمالها الشعرية الأولى الخالية من الترتيب والكثافة الذهنية. وربما قادتها المقارنة بين قديمها وجديدها واكتشاف الهوة الساحقة بينهما إلى أن تهجر الشعر وتتوقف عن كتابته.




ولا ريب أنه عندما يعلو التنظير لدى الشاعر ويتحكم في مخيلته فإن شعره ينطفئ ويذوب ويغدو محكوماً بالمباشرة والذهنية مهما حاول الشاعر الناقد الخلاص من مؤثرات التنظير، وقد قيل الكثير عن أسباب توقف نازك الملائكة عن كتابة الشعر على مدى ثلث قرن، ويعزو بعضهم ذلك التوقف إلى ما عانته من إهمال وجحود، والبعض الآخر عَزا الانقطاع إلى الكآبة التي عانت منها نتيجة انقطاع الشعر وعدم استجابته لنداءاتها المتكررة. ولا أستطيع أن أتبين كيف ينقطع الشعر عن الشاعرة. أعرف أن الشاعر هو الذي ينقطع عن الشعر وعن متابعة كتابته وقراءة ما ينشر فيه. وشعراء كثيرون بلغوا من العمر عِتيَّا وهم يكتبون الشعر دون الوقوع في مأزق الانقطاع لأنهم لم ينقطعوا عنه وعن متابعة أحدث إصداراته وآخر موجاته، ومن هنا فإن كل ما قيل ويقال عن انقطاع الشاعرة الكبيرة عن مواصلة كتابة الشعر لا يخضع لمنطق الواقع، واقعها هي وواقع الكتابة الشعرية.




ولعل السبب الرئيس في توقف نازك الملائكة عن كتابة الشعر يعود إلى عاملين اثنين أحدهما إغراقها وتمتعها في التنظير النقدي كما سبقت الإشارة، والعامل الثاني أنها اصطدمت بأجيال تكتب الشعر على غير مثال سابق مخالفة بذلك القواعد التي رسمتها في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" وهو ما جعلها تنظر إلى نتاج هذه الأجيال نظرة دونية، ولم تشعر بحافز يدفعها إلى تأمل هذا الإنتاج واكتشاف مواهب حقيقية قادرة على إدراك تحولات الزمن وأن الشعر هو وليد أحداث الحياة كما أكدت ذلك في مقدمة "شظايا ورماد" ومن هنا فهي التي توقفت عن كتابة الشعر وليس الشعر هو الذي توقف عنها. لعلها فكرة سخيفة تلك التي تقول إن الشعر ينقطع عن الشاعر ولا يستجيب له، وبرغم صحة ما يقال من أن القصيدة هي التي تستدعي شاعرها أحياناً فإن الشاعر في الغالب الأعم هو الذي يستدعي القصيدة أو أنه هو الذي يهيئ لمجيئها.
وإذا كانت نازك الملائكة قد توقفت عن كتابة الشعر لأنه لا يستجيب لها فلماذا توقفت عن الكتابة غير الشعرية بكل أنواعها وهي التي كتبت القصة القصيرة وكتبت في قضايا الثقافة المختلفة ولها دراسات اجتماعية وفكرية متنوعة؟




إن البحث في هذا الموضوع يستدعي دراسة شاملة للمؤثرات النفسية والاجتماعية التي خضعت لها الشاعرة في العقود الثلاثة الأخيرة من حياتها، وأتذكر بالمناسبة أنني تعرفت على الشاعرة الكبيرة في منتصف سبعينيات القرن المنصرم في القاهرة وتحدثت إليها كثيراً وحاولت أن اعرف منها شخصياً ردها على تهمة الارتداد عن قصيدة التفعيلة وعودتها إلى كتابة القصيدة العمودية بعد أن أعلنت بعنف ضجرها من القافية ورتابة الوزن.وقد هاجت وضاجت واستنكرت بانفعال شديد ما يشاع عن تراجعها أو ارتداداتها وأكدت -يومئذ- أنها كانت وما تزال عند موقفها من تأييدها المطلق لما كانت تسميه بالشعر الحر، وأن هذا النوع من الشعر حقق إنجازاً بالغ الأهمية في تاريخ الشعر العربي الحديث ولذلك فإنها تعتز بدورها في تأصيله، وأن ملاحظاتها على كثير من الغث الذي ينشر باسمه لا يؤثر بحال على نجاح التجربة وتصاعدها.




حوار حول تجربة نازك الملائكة وعطائها الإبداعي في الصالون الثقافي
محمد فوراتي



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



بحضور نخبة من المثقفين القطريين والعرب
د. ناجي: الشاعرة من أجرأ الرواد الذين تناولوا قضية الشعر الحر وأشدهم تحمسا للتجديد
بشرى ناصر: القصيدة العربية تطورت بفعل ثورة نازك الملائكة وأقرانها
اجتمع عدد من الباحثين والشعراء مساء الاربعاء الماضي في الصالون الثقافي بمقره المؤقت مسرح قطر الوطني للحوار حول تجربة الشاعرة العربية الراحلة نازك الملائكة، وقد تابع الحوار الذي أداره الزميل الإعلامي محمد الربيع عدد من المثقفين القطريين والعرب.




وقدم عدد من الباحثين خلاصة ملاحظاتهم حول تجربة وشعر نازك الملائكة من خلال مداخلات ثلاث شارك فيها كل من الدكتورة ابتسام ناجي الأستاذة بكلية الآداب والعلوم بجامعة قطر التي تناولت حياة نازك الملائكة الأدبية وكتبها وتوجهها وقصيدة التفعيلة، والكاتبة القطرية بشرى ناصر حول تجربة نازك الملائكة الغنية بالعطاء حيث رصدت من خلال هذا المحور ملامح هذه التجربة وتأثير الاحداث المختلفة عليها. أما الكاتب قيس مجيد فتناول بالدراسة والتحليل التشاؤم فى قصائد نازك الملائكة واسبابه وكيفية التعبير عنه وقد تخللت هذه المداخلات القيمة قراءات شعرية من قصائد الشاعرة تولاها الشاعر القطري علي ميرزا.




وفي بداية الجلسة قال الزميل محمد الربيع إننا نجتمع اليوم لنتأمل ونتحاور ونؤدي فروض العرفان لهذه الشاعرة الرائدة، التي اعمرت قلوب وعقول أجيال من المثقفين والمبدعين وهواة الشعر العربي، بآلاء من شعرها الذي ضمته دواوينها، مثلما نحن هنا للتأمل في انتاجها النقدي ومعرفتها الجمالية التي ضمتها كتبها: قضايا الشعر المعاصر، والتجزيئية في الشعر العربي، وسيكولوجية الشعر، والصومعة والشرنقة الحمراء. وقال الربيع إن الراحلة نازك الملائكة اكتسبت هذا الموقع الاستثنائي بجلد بين على التفكير والتأمل والكتابة الرفيعة التي تفتح أفقا وتبشر بكشف سرّ، بل توقد جذوة وتثير الأسئلة في مضمار الشعر العربي المعاصر.



شاعرة وناقدة
ثم أحيلت الكلمة للدكتورة ابتسام ناجي التي كانت مشغولة بنشأة الشاعرة نازك الملائكة تتتبع صغائر التفاصيل في حياتها.
تقول: نازك الملائكة شاعرة صدقت التوقعات وحققت ما تضمنته الأسماء، فقد توقع لها أبوها أن تكون مشهورة فاشتهرت، وسماها نازك تيمنا وإكراما للثائرة السورية نازك العابد التي ثارت وشاركت في المظاهرات ضدّ الاستعمار الفرنسي.




وكانت الصحف في ذلك الزمن تتحدث عنها بإعجاب فسميت بهذا الاسم، تحية لجرأتها وعروبتها ونضالها.
ومن معاني نازك في اللغة التركية «الرقيقة واللطيفة والحساسة» وهل أدل على ذلك من اهتمامها بالفن والموسيقى وتخرجها من معهد الفنون الجميلة «فرع العود».



ومما يدل على رقة احساسها تأثرها أيضا بالوباء الذي اجتاح مصر في عام 1947، فكتبت قصيدتها التي استهل الشعر الحر عهده بها أو ما سمي «بشعر التفعيلة» في الأدب العربي المعاصر. فهي لم تشاهد الكوليرا ولكنها سمعت عنها في الإذاعة فقط.




ومن معاني اسمها باللغة العربية «حامل الرمح»، وقد حملت بالفعل الرمح الأدبي فكانت من اوائل النساء العراقيات اللواتي أنهين دراستهن الثانوية والجامعية بحصولها على ما جستير في الأدب المقارن من أمريكا، ثم أصبحت رائدة الشعر الحرّ حيث حملت لواء التجديد في الشعر العربي المعاصر، وخاضت معارك صاخبة ضدّ انصار القديم في الشعر والثقافة والحياة. وبذلك صدقت المقولة المشهورة «لكلّ امرئ من اسمه نصيب».




وتحدثت الدكتورة ابتسام ناجي عن دور المنزل في نشأة الشاعرة فقد ولدت في بغداد وسط عائلة أدبية مثقفة معروفة معظم أفرادها من الشعراء، والدها ووالدتها شاعران وكذلك أخوها نزار، وأسرتها لأمها كانت أسرة شعر أيضا...فالبيت إذا كان بيئة أدبية وشعرية مناسبة لتسمح وتهيئ لتفجّر موهبة نازك الشعرية والأدبية لاحقا فنشأت محبة للموسيقى والشعر والتمثيل والقصص والسفر.




كما تحدثت الدكتورة عن صفة التمرد التي كانت تلازمها منذ طفولتها، فكانت منزوية وعنيدة متمسكة بآرائها إلى حدّ يضايق معلماتها وأبويها، وكانت في نفسها مقدرة على الكتمان والصمت تندر في الأطفال. فليس إذا من المستغرب أن تكون نازك من أجرأ الرواد الذين تناولوا قضية الشعر الحر وأشدهم تحمسا للتجديد، متسلحة بثقافة نظرية، وبقدرة تطبيقية مستمدتين من تكوينها الثقافي وإحساسها الشعري المرهف.




كما تؤكد الدكتورة ابتسام ناجي ان نازك كانت شاعرة وناقدة في نفس الوقت، وقد أغنت المكتبة العربية بتراثها الأدبي، ففي مجال الشعر والأدب تركت تراثا شعريا وأدبيا مهما، بداته بديوانها الشعري «عاشقة الليل».




وفي مجال النقد أصدرت «قضايا الشعر المعاصر» وكذلك دراسة في علم الاجتماع بعنوان «التجزيئية في المجتمع العربي»، ومحاضرات في شعر علي محمود طه، والأدب والفكر والغزة، وسيكولوجية الشعر.
وحصلت الملائكة على عديد الجوائز منها جائزة درع الابداع العراقي عام 1992 وجائزة البابطين الشعرية عام 1996.




الشعر الحر
أما الكاتبة القطرية بشرى ناصر فتناولت بالبحث في مداخلتها ارهاصات ظهور حركة الشعر الحر من خلال تجربة نازك الملائكة وجيلها من الشعراء.
تقول: لقد توفرت عوامل زمنية وحضارية وسياسية لولادة ما يسمى بالشعر الحر على يد فتاة تدعى نازك الملائكة، وشاب عليل اسمه بدر شاكر السياب، لتؤرخ في مجموعتها الشعرية الثانية «شظايا ورماد» سنة 1947 بقصيدة الكوليرا ولادة أول قصيدة شعر حرّ، فحتمية التغيير كما تؤكد الملائكة نفسها «... وشعرنا العربي كان ولم يزل في طليعة فن القول تعرض هو الآخر لهزات تجديدية لما فطر عليه الذوق العربي من استعداد وامكانية للتطور...».




ولكن البعض يعترض على هذه التسمية مثل الدكتور عبد الواحد الذي يقول ان الشعر الذي دعت له الملائكة يلتزم بالوزن والقافية، فكيف له ان يكون حراً؟ فتسمية الشعر الحر تسمية غير دقيقة عند إطلاقها على هذا الشكل الشعري الذي أنتج بلبلة لاتزال تعيش معنا حتى اللحظة، فالتسمية الأفضل وبعد عشرات السنوات من البحث هي: شعر التفعيلة.




كما سلطت بشرى ناصر جزءا من بحثها عن انتصار الملائكة للتجديد التي قالت يوما ما: إن المد العظيم من القصائد الحرة الذي غمر العالم العربي أعطاني فرصة لاستكمال قواعد الشعر الحر، أو على الأقل غربلتها، ثم ان طائفة من القواعد التي وضعتها أصبحت تبدو بالنسبة لي على شيء من التزمت، إذ ان سمعي تطور، فما كان يمكن نضوج الشعر الحر دفعة واحدة، خاصة وان الشعر منذ 1962 وهو ينمو، فالعروض استقراء لما ينظمه الشعراء من ناحية، واعتماد على قوانين العروض من ناحية أخرى.




وتعلن الشاعرة ضيقها بالقافية الموحدة بقولها: ذلك الحجر الذي تلقمه الطريقة القديمة كل بيت. ومن هنا راحت تقترح أسلوبا جديدا في القافية يعتمد على تركيز البيت الشعري وايجازه عند انتهاء المعنى المطلوب.
وتضيف الكاتبة القطرية: لقد ظل الشعر الحر يصارع ويناضل لتأسيس نفسه، حتى تم الاعتراف به رسميا في مؤتمر الأدباء الرابع بالقاهرة، لتتطور القصيدة العربية بفعل ثورة نازك الملائكة وأقرانها حتى تكاد تكون ثورة في كتابة الشعر في الخمسينيات وليصبح للعراقيين نصيب الأسد منها فلمعت أسماء بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وعبد الرزاق عبد الواحد إضافة للسياب والملائكة.




ومن جهة أخرى اختار الأستاذ قيس مجيد المولى التحدث عن التشاؤم في شعر نازك الملائكة فقال: لقد اتشحت فلسفة التشاؤم في شعر نازك الملائكة على عدم التوافق مع جدلية التناقض والمرادفات، وهي تعاسة لا تتصل بالمكونات المادية أي الرغبة في الاستحواذ على الرغبات والأمنيات.. تلك التي تتصل بالسياق العام لما يطمح المرء لتحقيقه. فنازك الملائكة انفصلت روحيا عن التفسير المعاش والقبول الطوعي للحقائق الكونية، وكان ذلك في أول سجالاتها حين عشقت الليل للبحث عن منفذ للنور.
ويؤكد الباحث أن نتيجة هذا التشاؤم أنها اوجدت مكانها القصي الذي حلمت به ومنحها التوافق وعزلتها الشعرية، أي تفرد عن الآخرين من أقرانها الشعراء الذين تناولوا هذا الموضوع.




وضمن هذه الفلسفة كان شأنها شأن أفلاطون والفارابي ودانتي وشيشرون الذين بحثوا عن مدنهم الفاضلة بعيداً عن المكر والخديعة والقهر. كما كان تشاؤمها وسيلة أمان واستقرار لبعدها النفسي المنتج والذي ترك أثرا واضحا في دلالاتها العاطفية.



وقد استفزت هذه البحوث الثلاثة عددا من المثقفين ومنهم حسن رشيد وباسم عبود الذين أثاروا عددا من القضايا في النقاش مثل قضية الريادة في الشعر الحر وعلاقة الراحلة بالسياب وأثر إقامتها في مصر على نتاجها الشعري.





نازك الملائكة عالم شعري حزين




من يطالع قصائد نازك يتأكد أنها تريد التعبير في نصوصها عن خفايا حقيقية ستتحقق لاحقا في قابل الزمن، خصوصا في الذي يكمن في نصوص شعرية رائعة كتبتها، مثل: "أنا"، و"مأساة الحياة" و"عاشقة الليل" و"الكوليرا" و"مرثية يوم تافه" و"أنشودة السلام" و"صلاة الأشباح" و"غرباء" وغيرها من القصائد التي تترجم واقعا عصيبا محشوا بالأحداث التراجيدية القاسية.




يقول الناقد والشاعر المصري فاروق شوشة: "إن نازك في جسمها النحيل وحجمها القليل حركة لا تهدأ واشتعال لا يسكن، كشفا لي عن حقيقتها الشعرية، وكيف أنها تعيش شعرها في واقعها اليومي ولا تنفصل عنه، ليست هناك حدود أو مسافات بين الإنسانة والشاعرة، إنها قصيدة قلقة متحركة وعاصفة متمردة جامحة، وعقل فوار بالشكوك والهواجس والتساؤلات، وقوام ينوء تحت عبء وجدان مثقل مشتعل".




تقول نازك في قصيدتها ويبقى لنا البحر:




عن اللون والبحر تسألني يا حبيبي




وأنت بحاري




ومرجانتي ومحاري




ووجهك داري




فخذ زورقي فوق موجة شوق مغلفة خافية




إلى شاطئ مبهم مستحيل




فلا فيه سهل ولا رابية




إلى غسق قمري المدار




وليس له في الظهيرة لون.




وليس له في الكثافة غصن




ولا فيه هول، ولا فيه أمن.




وعالم نازك الملائكة الشعري هو عالم حزين، لكن الحزن عندها ذا طابع خاص تقول هذه اللائذة بحزنها الشّفيف في قصيدة "كلمات":




شكوتُ إلى الريح وَحدةَ قلبي وطولَ انفرادي




فجاءت معطّرةً بأريجِ ليالي الحصادِ




وألقتْ عبيرَ البنفسَجِ والوردِ فوق سُهَادي




ومدّتْ شَذاها لخدّي الكليلِ مكانَ الوسادِ




وروّت حنيني بنجوى غديرٍ يُغنّي لوادِ




وقالتْ: لأجلكِ كان العبيرُ ولونُ الوهادِ




ومن أجلِ قلبكِ وحدَكِ جئت الوجودَ الجميلْ




ففيمَ العويل؟




وصدّقتُها ثم جاءَ المساء الطويلْ




وساد السكونُ عُبابَ الظلام الثقيل




فساءلت ليلي: أحقٌّ حديثُ الرياحْ؟




فردّ الدُجَى ساخرَ القسماتْ:




أصدّقتِها؟ إنها كلماتْ..!!




إنّ صورة الحزن ليست قاتمةً كما تبدو في ظاهرها، بل هي قراءة لما يجب أن يُقرأ عبر الخطاب الشّعريّ، سابرةً أغوار النّفس البشريّة المملوءة بجروح الواقع، لقد انسكب الحزن في داخل نازك الملائكة كانسكاب السّائل في الدّورق الشّفيف، فحينما نقرأ شعرها نبصر هذا الحزن في داخلها المرسوم عبر الكلمات، وهو موقف شعريّ من الوجود والموجودات.




من هنا كانت كلمات نازك الملائكة نموذجا إنسانيا حافلا بالوجع الشعري الذي لا يقدر على تلمس أبعاده وتجسيده على الورق إلا من يملك قدرة إبداعية متميزة.




ردة فعل نازك الملائكة الانقلاب على الشعر الحر
بعد أن تتابعت موجات الشعر الجديد أو الشعر الحر، لم تتردد نازك الملائكة في رفع صوتها بالتحذير والتنبيه حين رأت مسيرة الشعر الحر قد أصبحت مشوبة بالكثير من الشوائب، مشيرة في تقديمها "للصلاة والثورة" الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1978 إلى الظروف التي تعرقل هذه المسيرة، نتيجة لاستهانة بعض شعرائه بالعروض واحتقارهم له، مع ازدرائهم للعربية وقواعدها، وتحقيرهم العامد للتراث، ومحاولة الإغراب وإثارة الدهشة على حساب العقل الإنساني.




تقول نازك: "ومن أبرز هذه الظروف المعرقلة ما أسميه بالتعمية، ولا أقول الغموض؛ لأن الغموض ستار جميل فني يشف ولا يحجب، في حين أن التعمية مأخذ فني وعيب ينتقص القيمة الجمالية للقصيدة، وكل هذه المعايب لا تنبع من شكل الشعر الحر، وليست ملازمة له، لأن الضعف كامن لدى بعض شعرائه لا في الشكل نفسه".




ويعلق فاروق شوشة على هذا الرأي قائلاً: إن المتابع لكثير من قصائد الشعر الحر عند عدد من مبدعيه الكبار اليوم سوف يتأكد من صحة نبوءة نازك.





عدنان الصائغ / شاعر عراقي مقيم في لندن
( رحلت عرّابة الحزن العربي)




لم ألتقِ شاعرة قرارة الموجة، وعاشقة الليل، إلاّ مرة واحدة، وحيدة، في مهرجان شعري، في بغداد، بعد منتصف الثمانينات..لم تحضر لكي تلقي، مكتفية بصمتها الجليل. ذلك الصمت الطويل الذي سيمتد طيلة سنوات عزلتها في منزلها البغدادي ثم رقودها على أسرة المستشفيات الغريبة، ثم داخل منزلها القاهري المقفل على عزلتها السرمدية، حتى رحيلها في 20/6/2007 عن 85 سطراً في كتاب الوجود.كأن هذا الصمت - الذي تلفعت به طيلة تلك السنوات - صرخة احتجاج على عهر السياسات والخطاب العربي الأجوف، أو ربما مرثية يائسة للزمن الأغبر الذي عاشته في نهايات حياتها، وما زلنا نعيشه: دكتاتوريات تجرُّ حروباً، وحروباً تتلاقح وتتناسل عن كوارث، وكوارث تتفتق عن ميليشيات ومفخخات واحتلال وارهاب وتكفير وتطبير وتدمير.. وإلى آخر الدورة وما سيأتي..كيف لشاعر ثمانيني شاب مثلي، وقتذاك، فتح عينيه على مشهد الكوارث وعاش الحروب الطويلة، أن يجد نفسه فجأة أمام شاعرة رائدة عاشت مع زميلها السياب مخاضات ولادة القصيدة الحرة عام 1947.. وكانت قصيدتاهما الشهيرتان: "الكوليرا" و"هل كان حباً؟" فاتحة وانعطافة جديدة في تاريخ القصيدة العربية، وما زالتا ساحة مفتوحة للمنافسات والمناقشات وللدراسات.كنتُ طيلة الأمسية، وبعيداً عن خبيصة الشعراء المنشدين، وعن أسبقية الريادة، أختلس النظر لعينيها الحزينتين كأني أستنطقهما علَّ إجابة تفك لي شفرة القصيدة التي تلبستني، أو كنه هذا الوجود والألم المتلازمين في حياتنا..




فمنذ ديوانها الأول "عاشقة الليل" الذي أصدرته عام 1947، ظلت وفية لحزنها عبر دواوينها اللاحقة: "شظايا ورماد" - 1949 ، "قرارة الموجة" - 1957 ، "شجرة القمر" - 1968 ، "يغير ألوانه البحر" - 1970 ، "مأساة الحياة وأغنية للإنسان" - 1977، للصلاة والثورة" - 1978، ومجموعتها القصصية التي صدرت لها بالقاهرة عام 1997 تحت عنوان "الشمس التي وراء القمة".. وقد أشار الناقد اللبناني مارون عبود إلى ذلك الديوان الأول منذ صدوره، قائلاً: "كانت تسود قصائده مسحة من الحزن العميق فكيفما اتجهنا في ديوان عاشقة الليل لا نقع إلا على مأتم، ولا نسمع إلا أنيناً وبكاءً، وأحياناً تفجعاً وعويلاً"




بدايات التسعينات، ذات بغداد وعمان، وفي جلسة مصارحة وحوار طويل (صدر فيما بعد في كتاب)، قلتُ للشاعر عبد الوهاب البياتي: أعود بك لفتح ملف ريادة الشعر الحر من جديد، هذا الملف الشهير الذي كثرت الآراء والمناقشات حوله منذ فترة الخمسينات وحتى وقتنا الحاضر.. ترى من كان الرائد الأول برأيك: السياب، البياتي، نازك، بلند الحيدري، صلاح عبد الصبور.. الخ؟ابتسم بطريقته المعروفة وأجابني:"بالرغم من عدم أهمية هذا الأمر لأن الشعر هو ميدان سباق المسافات البعيدة ولكنني أعتقد أن نازك الملائكة هي أول من بدأت، ولكن هذه البداية بالرغم من أهميتها وجلالها تبقى إشارة تاريخية فالعبرة في الخواتيم كما يقول المثل فلا نازك ولا السياب استطاعا في البدايات أن يوظفا الشكل الجديد في اقتناص النور القادم من بعيد.." لكنه عقب فيما بعد - رغم حساسية الموضوع بالنسبة له - على أهميتها الثقافية وسعة اطلاعها..غير أنها ومنذ أكثر من ربع قرن تقريباً، فضلت أن تغيب عن معترك الحياة وضجيج المتنازعين حول ريادة الشعر الحر، شائحة بوجهها عن المعارضين والمؤيدين لها معاً.. مفضلة أن تقبع في ليلها الطويل بعيداً عن الأضواء والأدباء وكاميرات الصحفيين.غير أن تلك الغصة أو الجحود حملتهما معها إلى نهايات حياتها..




تكتب في رسالة لها إلى صديقها الأديب عيسى الناعوري مؤرخة في 1953/11/16 تقول فيها: "أنا أعلم أن بدر السياب بدأ يحاول في إلحاح منذ سنة 1950 أن يخبر كل إنسان إنه هو الذي بدأ الحركة وأنني أنا لست سوى تابعة، ولكن الزميل، سامحه الله على كل حال، ينسى أن القصائد كثيرا ما تنشر في الصحف قبل جمعها في دواوين مطبوعة، وهو لا يعلم على الإطلاق أن قصيدتي الحرة الوزن "الكوليرا" المنشورة في "شظايا ورماد" قد نشرت في عدد كانون الأول (ديسمبر) 1947 في بيروت في مجلة العروبة التي يصدرها الأستاذ محمد علي الحوماني،وأنني كنت قبل ذلك بشهرين قد أرسلتها إلى أديب صديق من لبنان أستطلع رأيه في هذا الأسلوب الجديد الذي وفقت إليه وأنا أحاول في جهد



نفسي منفعل التعبير عن إحساسي تجاه الآلاف من الموتى الذين قضى عليهم داء الكوليرا الذي تفشى في مصر آنذاك، وقد استلمت من الأديب المذكور رسالة ما زلت أحتفظ بها يخبرني فيها أنه عرض القصيدة على عمر أبو ريشة ونقولا فياض وعبدالله العلايلي وغيرهم فانقسموا حولها في الرأي".. وكانت الملائكة قد دونت في كتابها "قضايا الشعر الحديث" - 1962، تفاصيل ذلك الحدث، كتابة القصيدة الأولى التي أرخت لولادة الشعر الحر، قائلة: "بداية حركة الشعر كانت سنة 1947 في العراق ،ومن العراق بل من بغداد نفسها زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت بسبب تطرف الذين استجابوا لها تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعا".." وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر ،قصيدتي المعنونة " الكوليرا" وكنت قد نظمت تلك القصيدة 1947 أصور بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي دهمها وقد حاولت فيها التعبير عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر وقد ساقتني ضرورة التعبير إلى اكتشاف الشعر الحر". ترى إلى أين ستسوقنا اليوم - نحن الشعراء المعاصرين، أو المحاصرين - ضرورة التعبير أمام وقع أرجل كوليرا الموت الجديد الذي راح يجوب شوارع الوطن من أقصاه إلى أقصاه




فرات إسبر / شاعرة سورية مقيمة في نيوزيلندا
(الغياب الجريح)



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



نازك الملائكة الشاعرة المبحرة في أعماق القصيدة ، المتحدية للرجل بأنوثتها وشعرها ، غادرت على متن الغياب الصعب ،الغياب الذي لا عودة منه وإن كنا نقنع أنفسنا بأننا نحيا بالشعر وبالقصائد .
غادرت نازك الملائكة بعيدة عن الوطن وجراحاته، منسية من توابيت الموت العراقي اليومي ، منسية من الطوائف والتسميات الطائفية ،نازك شاعرة وحسب ، شاعرة بما حل بمصير البلاد ومصيرها .
هل غياب الشاعرة عن عراقها إلا موت من نوع آخر؟أنا أومن بأن الوطن هو واحد ,أنى تقيم وتنعم هو وطنك ، ولكن التسميات لا تقف أمام الجغرافيا ،مسقط الرأس، هو الحنين الموجع ، ورغم أثار الدماء المتراكمة على خد الأرض ،هو قاس ولا يحتمل .عرفت نازك الملائكة في مرحلة مبكرة من عمري من خلال دواوينها ولكنني لم أكن أقرأها ،كما قرأتها اليوم ، كنت أقرأ الشعر كمن يقرأ حكاية.



الزمن بالنسبة لي تغير ، ما كنته بالأمس لم أكن أنا اليوم وما كانته الشاعرة نازك الملائكة لم تكن هي اليوم، كما أفهمها ، كنت أراها من بعيد شاعرة لها اسم مهم في الساحة الأدبية .ولكنني اليوم أراها إمرأة أغار عليها العمر، وجعلها سيدة مريضة مقعدة بعيدة عن الأهل والديار ، أنثى مقصية بفعل الشيخوخة وبفعل البشر والحكومات ، وقد تكون أيضا بفعل الرجل ولكن لبعض النساء وأقول أكثرهن ، سمو نفس ورفعة ، بعض النساء تقاسي أشد صنوف العذاب معاملة وقسوة، وتغريبا وتهجيرا سواء على الصعيد الداخلي - داخل الوطن أو خارجه -أو على الصعيد النفسي بما تعانيه وتتحمله بفعل القوانين الظالمة الجائرة، وهو ما لا نعرفه شخصيا عنها وإنما نرى قوة وتحديا في كتاباتها ،وهذا جزء من ألانا العزيزة الغالية التي لا تقدر بثمن، أن تبقي المرأة أسرارها حبيسة دواخلها رغم براكين القهر ، وزلازل الرجال بكل أصنافهم وعذاباتهم .لا أدري وأنا أتخيل دور المرأة المبدعة ،في حياتنا العربية ،لابد من ذكر أسماء مهمة ، بدءا من خالدة سعيد، التي كانت تكتب تحت اسم مستعار كي تبدي أراء تؤمن بها في أعماقها ووجودها وخشية من الرجل السليط المتسلط لا فردا ,إنما جماعة تتمثل بقدرتهم على فرض الأراء دون النظر إلى المرأة ككيان وكإنسان له قيمة .خالدة سعيد ، صاحبة الاسم الرفيع بدءا من عصر السوريالة إلى كتاباتها في الأدب والنقد والفن ..والمسرح ، ومترجمة القط الأسود لادغار ألن بو وكتابها المهم عن "المرأة أوالإبداع والتحرر" ورأيها المهم ،بأنه لابد من تغيير جذري في واقع المرأة العربية ، خالدة سعيد التي ترى عودة المرأة من غيابها مرهون بالتخلص والتحرر من التقاليد والأعراف .خالدة الغنية عن التعريف، وصديقة نازك الملائكة ، في مرحلة من مراحل العمر، أطال الله عمرها.



النساء المبدعات دائما يقفن على أجنحة الغياب تغتالهن زرقة العالم المجنون بغياب مقصود ومتعمد ، يقصيها الرجل من الأرض إلى الأرض ويبدع ويتففن في هذا الإقصاء .غادة السمان وجه آخر لصيحة إمرأة كانت قوية و جبارة وقفت في مهب رياح الرجال وهي تقول لهم بصوتها العالي ها أنا بجنوني وعشقي على عكس نازك ..غياب آخر أذكره، غياب صاحبة " ذكر الورد" سنية صالح غابت خلف ذكرها جسدا وشعرا وقادها الرجل الشاعر إلى هلاك محتم وما كان منه إلا أن عاش طويلا بعدها ،وتركها في الغياب الجريح لذاكرة أحباب ما مازالوا أوفياء لها .



لا أدري عندي عداوة بالغة ضد الرجل المثقف ، لأني أراه ذو وجهين ،باطن لا يظهره ويتخفى تحته باسم الثقافة والإبداع .قد يأتي يوم ويقف هنا من يعزي بي وينشد على قبري، نشيد الغياب الأخير
ربما هناك صفحات مجهولة من حياتي يعتليها الغياب والغبار ، ربما ذات يوم سأصرخ في وجهي قاتلي ، قبل أن أغيب ،لا بد أن افعلها ، لا بدّ .أنا المرهونة للغياب الجريح .





جنات بومنجل / كاتبة وقاصة جزائرية مقيمة في أبو ظبي

(تموت بعيدة عن عبق الفرات)




هكذا بصمت الملائكة ترحل رائدة الشعر الحر ،بعد صراع طويل مع المرض والتغييب والنسيان ، الشاعرة التي شغلت القلوب بقصائدها ، تموت بعيدة عن عبق الفرات وشجن العراق الكليم ، حيث أنهك جسدها الهزيل شبح السرطان ، واتعب قلبها ، هذا الوضع الأليم الذي يعيشه العراق البهي .



إنها أحد المؤثرين الهامين جدا في الحركة الشعرية العربية ، بقصائدها في الشعر الحر وبرؤاها النقدية الهامة ، وتحقق ما قالته ذات يوم في إحدى قصائدها : ضاع عمري في دياجير الحياة/ وخبت أحلام قلبي المغرق/ ها أنا وحدي على شط الممات/و الأعاصير تنادي زورقي ..)



إن المرور على حياة نازك الملائكة دون الوقوف طويلا أمام تجربتها الشعرية والنقدية لهو تقصير كبير في حق هذه الشاعرة التي أعطت الكثير للقصيدة العربية حيث أصدرت دواوين شعر كثيرة من بينها / عاشقة الليل ، وقرار الموجة ، وشجرة القمر ، ويغير البحر ألوانه وللصلاة والثورة ، وغيرها من الكتب التي اهتمت بالشعر المعاصر وسيكولوجية الشعر.هي القائلة أيضا : أن بداية حركة الشعر الحر كانت سنة 1947 في العراق ومن العراق بل من بغداد نفسها زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله، وكادت بسبب تطرف الذين استجابوا لها تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعا.وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة ( الكوليرا) وكنت قد نظمت تلك القصيدة عام 1947 أصور بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي دهمها وقد حاولت فيها التعبير عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى ضحايا الوباء في ريف مصر.وقد ساقتني ضرورة التعبير إلى اكتشاف الشعر الحر. رحم الله الشاعرة واسكنها فسيح جناته .




نماذج شعرية ملائكية



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



قصيدة (عاشقة الليل)



يا ظلامَ الليــلِ يا طــاويَ أحزانِ القلوبِ
أُنْظُرِ الآنَ فهذا شَبَحٌ بادي الشُحـــــوبِ
جاء يَسْعَى ، تحتَ أستاركَ ، كالطيفِ الغريبِ
حاملاً في كفِّه العــودَ يُغنّــــي للغُيوبِ
ليس يَعْنيهِ سُكونُ الليــلِ في الوادي الكئيبِ




هو ، يا ليلُ ، فتاةٌ شُهد الوادي سُـــرَاها
أقبلَ الليلُ عليهــا فأفاقتْ مُقْلتاهـــــا
ومَضتْ تستقبلُ الواديْ بألحــانِ أساهــا
ليتَ آفاقَكَ تــدري ما تُغنّــي شَفَتاهــا
آهِ يا ليلُ ويا ليتَــكَ تـدري ما مُنَاهـــا




جَنَّها الليلُ فأغرتها الدَيَاجــي والسكــونُ
وتَصَبَّاها جمالُ الصَمْــتِ ، والصَمْتُ فُتُونُ
فنَضتْ بُرْدَ نهارٍ لفّ مَسْــراهُ الحنيـــنُ
وسَرَتْ طيفاً حزيناً فإِذا الكــونُ حزيــنُ
فمن العودِ نشيجٌ ومن الليـــلِ أنيـــنُ




إِيهِ يا عاشقةَ الليلِ وواديـــهِ الأَغــنِّ
هوذا الليلُ صَدَى وحيٍ ورؤيـــا مُتَمنٍّ
تَضْحكُ الدُنْيا وما أنتِ سوى آهةِ حُــزْنِ
فخُذي العودَ عن العُشْبِ وضُمّيهِ وغنّــي
وصِفي ما في المساءِ الحُلْوِ من سِحْر وفنِّ




ما الذي ، شاعرةَ الحَيْرةِ ، يُغْري بالسماءِ ؟
أهي أحلامُ الصَبايا أم خيالُ الشعـــراء ؟
أم هو الإغرامُ بالمجهولِ أم ليلُ الشقــاءِ ؟
أم ترى الآفاقُ تَستهويكِ أم سِحْرُ الضيـاءِ ؟
عجباً شاعرةَ الصمْتِ وقيثارَ المســـاء




طيفُكِ الساري شحوبٌ وجلالٌ وغمـوضُ
لم يَزَلْ يَسْري خيالاً لَفَّه الليلُ العـريضُ
فهو يا عاشقةَ الظُلْمة أســـرارٌ تَفيضُ
آه يا شاعرتي لن يُرْحَمَ القلبُ المَهِيـضُ
فارجِعي لا تَسْألي البَرْق فما يدري الوميضُ
عَجَباً ، شاعرةَ الحَيْرةِ ، ما سـرُّ الذُهُولِ ؟
ما الذي ساقكِ طيفاً حالماً تحتَ النخيـلِ ؟
مُسْنَدَ الرأسِ الى الكفَينِ في الظلِّ الظليلِ
مُغْرَقاً في الفكر والأحزانِ والصمتِ الطويلِ
ذاهلاً عن فتنةِ الظُلْمة في الحقلِ الجميــلِ




أَنْصتي هذا صُراخُ الرعْدِ ، هذي العاصفاتُ
فارجِعي لن تُدْركي سرّاً طوتْهُ الكائنــاتُ
قد جَهِلْناهُ وضنَــتْ بخفايــاهُ الحيــاةُ
ليس يَدْري العاصـفُ المجنونُ شيئاً يا فتاةُ
فارحمي قلبَكِ ، لــن تَنْطِقُ هذي الظُلُماتُ








قصيدة (أنا)




الليلُ يسألُ من أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولفقتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون?
والريحُ تسأل من أنا
أنا روحُها الحيران أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
نبقى نمرُّ ولا بقاءْ
فإذا بلغنا المُنْحَنى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ
فإِذا فضاءْ!
والدهرُ يسألُ من أنا
أنا مثلهُ جبّارةٌ أطوي عُصورْ
وأعودُ أمنحُها النشورْ
أنا أخلقُ الماضي البعيدْ
من فتنةِ الأمل الرغيدْ
وأعودُ أدفنُهُ أنا
لأصوغَ لي أمسًا جديدْ
غَدُهُ جليد
والذاتُ تسألُ من أنا
أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في ظلام
لا شيءَ يمنحُني السلامْ
أبقى أسائلُ والجوابْ
سيظَل يحجُبُه سراب
وأظلّ أحسبُهُ دنا فإذا
وصلتُ إليه ذابْ
وخبا وغابْ








جامعة الظــــــــلال



أخيرا لمست الحياه
وأدركت ماهى أىّ فراغ ثقيل
أخيرا تبيّنت سرّ الفقاقيع واخيبتاه
وأدركت أنى أضعت زمانا طويل
ألمّ الظلال وأخبط فى عتمة المستحيل
ألمّ الظلال ولا شىء غير الظلال
ومرّت علىّ الليال
وها أنا أدرك أنى لمست الحياه
وان كنت أصرخ واخيبتاه .



ومرّ علىّ زمان بطىء العبور
دقائقه تتمطّى ملالا كأن العصور
هنالك تغفو وتنسى مواكبها أن تدور
زمان شديد السواد ولون النجــوم
يذكّرنى بعيون الذئاب
وضوء صغير يلوح وراء الغيوم
عرفت به فى النهايه لون السراب
ووهم الحياه
فواخيبتاه



أهذا اذن هو ما لقّبوه الحياه ؟
خطوط نظلّ نخططها فوق وجه المياه؟
وأصداء أغنية فظة لا تمسّ الشفاه؟
وهذا اذن هو سرّ الوجود؟
ليال ممزقة لا تعود؟
واّثار أقدامنا فى طريق الزمان الأصم



تمرّ عليها يد العاصفه
فتمسحها دونما عاطفه
وتسلمها للعدم
ونحن ضحــايا هنا
تجوع وتعطش أرواحنا الحائره
ونحسب أن المنى
ستملأ يوما مشاعرنا العاصره
ونجهل أنّا ندور
مع الوهم فى حلقات
نجزّىء ايامنا الاّفلات
الى ذكريات
وننتظر الغد خلف العصور
ونجهل أن القبور
تمد الينا بأذرعها البارده
ونجهل أن الستائر تخفى يدا مارده



عرفت الحياة وضقت بجمع الظلال
وأضجرنى أن نجوب التلال
نحدّق فى حسرة خلف ركب الليال
تسير بنا القافله
نجوس الشوارع فى وحدة قاتله
الام يخادعنا المبهم ؟
وكيف النهايه ؟ لا أحد يعلم



سنبقى نسير
وأبقى أنا فى ذهولى الغريرّ
ألمّ الظلال كما كنت دون اهتمام
عيون ولا لون لا شىء الا الظلام
شفاه تريد ولا شىء يقترب مما تريد
وأيد تريد احتضان الفضاء المديد
وقلب يريد النجوم
فيصفعه فى الدياجير صوت القدوم
يهيل التراب على اّخر الميّتين
وأقصوصة من يراع السنين
تضجّ بسمعى فأصرخ : اّه !
أخيرا عرفت الحياه
فواخيبتاه



**************




دعــــوة الى الأحـــلام




تعال لنحلم , ان المســـاء الجميــــــل دنا
ولين الدجــى وخدود النجوم تنادى بنــــا
تعال نصيد الرؤى ، ونعـــد خيـــوط السّنا
ونشهد منحدرات الرّمــــــال على حـبّــــنا



سنمشى معا فوق صدر جزيرتنا الساهده
ونبقى على الرّمل اثار أقدامـــنا الشـــارده
ويأتى الصـــباح فيلقى بأنــــــــدائه البـــارده
وينبت حــيث حلمنا ولــــو وردة واحـــــــــده



سنحلم أنّا صعـــــدنا نرود جبــــــــــال القمــر
ونمرح فى عزلة اللانهـــــــاية واللابشــــــــــر
بعيدا . بعيدا . الى حيث لا تســـتطيع الذكــر
الينا الوصــــول فنحن وراء امتداد الفكـــــــــر



سنحلم أنّا استحلنا صبيين فوق التـــــــــــلال
بريئين نركض فوق الصخور ونرعى الجمـــال
شريدين ليس لنا منزل غير كـــوخ الخيـــــــال
وحين ننام نمرّغ أجســـامنا فى الرّمـــــــــــال



سنحلم أنّا نســــير الى الأمس لا للغـــــــــــد
وأنّا وصلنا الى بـــــــابل ذات فجـــــــــــــر نـــد
حبيبين نحمـــــل عهد هوانــــــــا الى المعبـــد
يباركنا كاهـــــــــــن بابــــــــــلىّ نقــــىّ اليــــد



الكوليرا




سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ, يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
في صمتِ الفجْر, أصِخْ, انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ, عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى, مَوْتَى, ضاعَ العددُ
مَوْتَى, موتَى, لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
الكوليرا
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخ الفلاّحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ
لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ
يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ
يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ
لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ, الموتُ, الموتْ
يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ




شجرة القمر




1



على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ
وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ
وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ
وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ
هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ
إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ
ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ
ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ
وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ
وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ
وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ
ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ
وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ
يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ
ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ
وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ
وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ
على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ
وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا
أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى





وفي ذات صيفٍ تسلّل هذا الغلامُ مساءْ
خفيفَ الخُطَى, عاريَ القدمين, مَشُوقَ الدماءْ
وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ
وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ
وراح يعُدّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ
وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ
وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ
ولاحَ الجبينُ اللجينيّ والفتنةُ المُلْهِمهْ
وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما
على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما
... وطوّقَهُ العاشقُ الجبليّ ومسّ جبينَهْ
وقبّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ
وعاد به: ببحارِ الضِّياءِ, بكأس النعومهْ
بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ
وأخفاه في كُوخه لا يَمَلّ إليه النَّظَرْ
أذلكَ حُلْمٌ وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ
وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ
وكلّلَهُ بالأغاني, بعيْنيهِ, بالزّنْبقِ





وفي القريةِ الجبليّةِ, في حَلَقات السّمَرْ
وفي كلّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: "أين القمر!"
"وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجنا"
"وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلنا"
ونادت صبايا الجبالِ جميعًا "نُريدُ القَمَرْ!"
فردّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: "نُريدُ القَمَرْ"
"مُسامِرُنا الذهبيّ وساقي صدى زَهْرنا"
"وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا"
"مُقَبّلُ كلّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ"
"وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ"
"يضيءُ الطريقَ إلى كلّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ"
"ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ"
"ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر?"
"ومَنْ ذا يرقّقُ ألحاننا مَن يغذّي السّمَرْ"
ولحنُ الرعاةِ تردّدَ في وحشةٍ مضنيهْ
فضجّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ
وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ
ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ
وجُنّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ
ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: "نُريدُ القَمَرْ"
وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ
إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ
وأشرَبَ من نارِهِ كلّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ
وأيقَظَ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ
وجَمّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ
ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ
وهزَّ السكونَ وصاحَ: "لماذا سَرَقْت القَمَرْ?"
فجُنّ المَسَاءُ ونادى: "وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ?"





وفي الكوخِ كان الغلامُ يضُمّ الأسيرَ الضحوكْ
ويُمْطرُهُ بالدموع ويَصْرُخُ: "لن يأخذوك
وكان هُتَافُ الرّعاةِ يشُقّ إليهِ السكونْ
فيسقُطُ من روحه في هُوًى من أسًى وجنونْ
وراح يغنّي لملهِمه في جَوًى وانْفعالْ
ويخلطُ بالدَّمْع والملح ترنيمَهُ للجمالْ
ولكنّ صوتَ الجماهيرِ زادَ جُنونًا وثورهْ
وعاد يقلِّبُ حُلْمَ الغلامِ على حدِّ شفرهْ
ويهبطُ في سَمْعه كالرّصاص ثقيلَ المرورْ
ويهدم ما شيّدتْهُ خيالاتُهُ من قصور
وأين سيهرُبُ أين يخبّئ هذا الجبينْ
ويحميهِ من سَوْرة الشَّوْقِ في أعين الصائدين
وفي أيّ شيء يلفّ أشعَّتَهُ يا سَمَاءْ
وأضواؤه تتحدّى المخابئَ في كبرياءْ
ومرّتْ دقائقُ منفعِلاتٌ وقلبُ الغُلامْ
تمزِّقُهُ مُدْيةُ الشكِّ في حَيْرةٍ وظلامْ
وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثَّرَى في ضَجَرْ
ليدفِنَ هذا الأسيرَ الجميلَ, وأينَ المفرْ
وراحَ يودِّعُهُ في اختناقٍ ويغسِلُ لونهْ
بأدمعِه ويصُبّ على حظِّهِ ألفَ لعنَهْ





وحينَ استطاعَ الرّعاةُ المُلحّون هدْمَ الجدارْ
وتحطيمَ بوّابةِ الكوخ في تَعَبٍ وانبهارْ
تدفّقَ تيّارهم في هياجٍ عنيفٍ ونقمهْ
فماذا رأوا أيّ يأسٍ عميق وأيّة صَدْمَهْ!
فلا شيءَ في الكوخ غيرَ السكون وغيرَ الظُّلَمْ
وأمّا الغُلامُ فقد نام مستَغْرَقًا في حُلُمْ
جدائلُهُ الشُّقْرُ مُنْسدلاتٌ على كَتِفَيهِ
وطيفُ ابتسامٍ تلكّأ يَحلُمُ في شفتيهِ
ووجهٌ كأنَّ أبولونَ شرّبَهُ بالوضاءهْ
وإغفاءةٌ هي سرّ الصَّفاءِ ومعنى البراءهْ
وحار الرُّعاةُ أيسرقُ هذا البريءُ القَمَرْ
ألم يُخطِئوا الاتّهام ترى ثمّ... أينَ القَمَرْ
وعادوا حَيارى لأكواخهم يسألونَ الظلامْ
عن القَمَر العبقريّ أتاهَ وراءَ الغمامْ
أم اختطفتْهُ السَّعالي وأخفتْهُ خلفَ الغيومْ
وراحتْ تكسّرُهُ لتغذّي ضياءَ النجومْ
أمِ ابتلعَ البحرُ جبهتَهُ البضّةَ الزنبقيّهْ
وأخفاهُ في قلعةٍ من لآلئ بيضٍ نقيّهْ
أم الريحُ لم يُبْقِ طولُ التنقّلِ من خُفِّها
سوى مِزَقٍ خَلِقاتٍ فأخفتْهُ في كهفها
لتَصْنَعَ خُفّينِ من جِلْدِهِ اللّين اللَّبَنيّ
وأشرطةً من سَناهُ لهيكلها الزنبقي





وجاء الصباحُ بَليلَ الخُطَى قمريّ البرُودْ
يتوّجُ جَبْهَتَهُ الغَسَقيَّةَ عِقْدُ ورُودْ
يجوبُ الفضاءَ وفي كفّه دورقٌ من جَمالْ
يرُشّ الندى والبُرودةَ والضوءَ فوق الجبالْ
ومرَّ على طَرَفَيْ قدمَيْه بكوخ الغُلامْ
ورشَّ عليه الضياءَ وقَطْرَ النَّدى والسَّلامْ
وراح يسيرُ لينجز أعمالَهُ في السُُّفُوحْ
يوزِّعُ ألوانَهُ ويُشِيعُ الرِّضا والوضوحْ
وهبَّ الغلامُ مِنَ النوم منتعشًا في انتشاءْ
فماذا رأى يا نَدَى! يا شَذَى! يا رؤى! يا سماءْ!
هنالكَ في الساحةِ الطُّحْلُبيَّةِ, حيثُ الصباحْ
تعوَّدَ ألاَّ يَرَى غيرَ عُشْبٍ رَعَتْهُ الرياحْ
هنالكَ كانت تقومُ وتمتدّ في الجوِّ سِدْرَهْ
جدائلُها كُسِيَتْ خُضْرةً خِصْبةَ اللون ِثَرَّهْ
رعاها المساءُ وغذَّت شذاها شِفاه القَمَرْ
وأرضَعَها ضوءُه المختفي في الترابِ العَطِرْ
وأشربَ أغصانَها الناعماتِ رحيقَ شَذَاهُ
وصبَّ على لونها فضَّةً عُصِرَتْ من سَناهُ
وأثمارها أيّ لونٍ غريبٍ وأيّ ابتكارْ
لقد حار فيها ضياءُ النجومِ وغارَ النّهارْ
وجُنّتْ بها الشَّجَراتُ المقلِّدَةُ الجامِدَهْ
فمنذ عصورٍ وأثمارُها لم تَزَلْ واحدهْ
فمن أيِّ أرضٍ خياليَّةٍ رَضَعَتْ أيّ تُرْبهْ
سقتْها الجمالَ المفضَّضَ أي ينابيعَ عذْبَهْ
وأيةُ معجزةٍ لم يصِلْها خَيالُ الشَّجَرْ
جميعًا فمن كلّ غُصْنٍ طريٍّ تَدَلَّى قَمَرْ





ومرَّتْ عصورٌ وما عاد أهلُ القُرى يذكرون
حياةَ الغُلامِ الغريبِ الرُّؤى العبقريِّ الجُنون
وحتى الجبالُ طوتْ سرّه وتناستْ خطاهُ
وأقمارَهُ وأناشيدَهُ واندفاعَ مُناهُ
وكيف أعادَ لأهلِ القُرى الوالهين القَمَرْ
وأطلَقَهُ في السَّماءِ كما كانَ دونَ مقرْ
يجوبُ الفضاءَ ويَنْثرُ فيه النَّدَى والبُرودهْ
وشِبْهَ ضَبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدهْ
وهَمْسًا كأصداء نبعٍ تحدّر في عمْق كهفِ
يؤكّدُ أنَّ الغلامَ وقصّتَهُ حُلْمُ صيفِ



خمس أغان للألم




1



مُهْدي ليالينا الأسَى والحُرَقْ
ساقي مآقينا كؤوسَ الأرَقْ
نحنُ وجدناهُ على دَرْبنا
ذاتَ صباحٍ مَطِيرْ
ونحنُ أعطيناهُ من حُبّنا
رَبْتَةَ إشفاقٍ وركنًا صغيرْ
ينبِضُ في قلبنا
فلم يَعُد يتركُنا أو يغيبْ
عن دَرْبنا مَرّهْ
يتبعُنا ملءَ الوجودِ الرحيبْ
يا ليتَنا لم نَسقِهِ قَطْرهْ
ذاكَ الصَّباحَ الكئيبْ
مُهْدي ليالينا الأسَى والحُرَقْ
ساقي مآقينا كؤوس الأرَقْ





مِن أينَ يأتينا الأَلمْ
من أَينَ يأتينا
آخَى رؤانا من قِدَمْ
ورَعى قوافينا



أمسِ اصْطحبناهُ إلى لُجج المياهْ
وهناكَ كسّرناه بدّدْناهُ في موج البُحَيرهْ
لم نُبْقِ منه آهةً لم نُبْقِ عَبْرهْ
ولقد حَسِبْنا أنّنا عُدْنا بمنجًى من أذَاهْ
ما عاد يُلْقي الحُزْنَ في بَسَماتنا
أو يخْبئ الغُصَصَ المريرةَ خلف أغنيَّاتِنا




ثم استلمنا وردةً حمراءَ دافئةَ العبيرْ
أحبابُنا بعثوا بها عبْرَ البحارْ
ماذا توقّعناهُ فيها غبطةٌ ورِضًا قريرْ
لكنّها انتفضَتْ وسالتْ أدمعًا عطْشى حِرَارْ
وسَقَتْ أصابعَنا الحزيناتِ النَّغَمْ
إنّا نحبّك يا ألمْ




من أينَ يأتينا الألم
من أين يأتينا
آخى رؤانا من قِدَمْ
ورَعَى قوافينا
إنّا له عَطَشٌ وفَمْ
يحيا ويَسْقينا





أليسَ في إمكاننا أن نَغْلِبَ الألمْ
نُرْجِئْهُ إلى صباحٍ قادمٍ أو أمْسِيهْ
نشغُلُهُ نُقْنعهُ بلعبةٍ بأغنيهْ
بقصّةٍ قديمةٍ منسيّةِ النَّغَمْ




ومَن عَسَاهُ أن يكون ذلك الألمْ
طفلٌ صغيرٌ ناعمٌ مُستْفهِم العيونْ
تسْكته تهويدةٌ ورَبْتَةٌ حَنونْ
وإن تبسّمنا وغنّينا له يَنَمْ



يا أصبعًا أهدى لنا الدموع والنَّدَمْ
مَن غيرهُ أغلقَ في وجه أسانا قلبَهُ
ثم أتانا باكيًا يسألُ أن نُحبّهُ
ومن سواهُ وزّعَ الجراحَ وابتسَمْ



هذا الصغيرُ... إنّه أبرَأ مَنْ ظَلَمْ
عدوّنا المحبّ أو صديقنا اللدودْ
يا طَعْنةً تريدُ أن نمنحَها خُدودْ
دون اختلاجٍ عاتبٍ ودونما ألمْ



يا طفلَنا الصغيرَ سَامحْنا يدًا وفَمْ
تحفِرُ في عُيوننا معابرًا للأدمعِ
وتَسْتَثيرُ جُرْحَنا في موضعٍ وموضعِ
إنّا غَفَرْنا الذنبَ والإيذاء من قِدَمْ





كيف ننسىَ الألَمْ
كيف ننساهُ
من يُضيءُ لنا
ليلَ ذكراهُ
سوف نشربُهُ سوف نأكلُهُ
وسنقفو شُرودَ خُطَاه
وإذا نِمنا كان هيكلُهُ
هو آخرَ شيءٍ نَرَاهْ



وملامحُهُ هي أوّلَ ما
سوف نُبْصرُهُ في الصباحْ
وسنحملُهُ مَعَنا حيثُما
حملتنا المُنى والجراحْ



سنُبيحُ له أن يُقيم السُّدودْ
بين أشواقنا والقَمَرْ
بين حُرْقتنا وغديرٍ بَرُودْ
بين أعيننا والنَّظَرْ



وسنسمح أن يَنْشُر البَلْوى
والأسَى في مآقينا
وسنُؤْويه في ثِنْيةٍ نَشْوَى
من ضلوع أغانينا
وأخيرًا ستجرفُهُ الوديانْ
ويوسّدُهُ الصُّبَّيْر
وسيهبِطُ واديَنَا النسيان
يا أسانا, مساءَ الخَيْرْ!



سوف ننسى الألم
سوف ننساهُ
إنّنا بالرضا
قد سقيناهُ





نحن توّجناكَ في تهويمةِ الفجْرِ إلهَا
وعلى مذبحكَ الفضيّ مرّغْنَا الجِبَاهَا
يا هَوانا يا ألَمْ
ومن الكَتّانِ والسِّمْسِمِ أحرقنا بخورَا
ثمّ قَدّمْنا القرابينَ ورتّلْنَا سُطورَا
بابليَّاتِ النَّغَمْ




نحنُ شَيّدنا لكَ المعبَدَ جُدرانًا شَذيّهْ
ورَششنا أرضَهُ بالزَّيتِ والخمرِ النَّقيَّهْ
والدموع المُحرِقهْ
نحن أشعلنا لكَ النيرانَ من سَعف النخيلِ
وأسانا وَهشيم القمح في ليلٍ طويلِ
بشفاهٍ مُطْبَقَهْ



نحنُ رتّلْنَا ونادَيْنا وقدّمْنا النذورْ:
بَلَحٌ من بابلِ السَّكْرَى وخُبْزٌ وخمورْ
وورودٌ فَرِحَهْ
ثمّ صلّينا لعينيك وقرّبنا ضحيّهْ
وجَمَعْنا قطَراتِ الأدمُعِ الحرّى السخيّهْ
وَصنَعْنا مَسْبَحَهْ



أنتَ يا مَنْ كفُّهُ أعطتْ لحونًا وأغاني
يا دموعًا تمنحُ الحكمةَ, يا نبْعَ معانِ
يا ثَرَاءً وخُصوبَهْ
يا حنانًا قاسيًا يا نقمةً تقطُرُ رحْمَه
نحنُ خبّأناكَ في أحلامنا في كلّ نغْمهْ
من أغانينا الكئيبهْ




النهر العاشق




أين نمضي إنه يعدو إلينا
راكضًا عبْرَ حقول القمْح لا يَلْوي خطاهُ
باسطًا, في لمعة الفجر, ذراعَيْهِ إلينا
طافرًا, كالريحِ, نشوانَ يداهُ
سوف تلقانا وتَطْوي رُعْبَنا أنَّى مَشَيْنا



إنه يعدو ويعدو
وهو يجتازُ بلا صوتٍ قُرَانا
ماؤه البنيّ يجتاحُ ولا يَلْويه سَدّ
إنه يتبعُنا لهفانَ أن يَطْوي صبانا
في ذراعَيْهِ ويَسْقينا الحنانا



لم يَزَلْ يتبعُنا مُبْتسمًا بسمةَ حبِّ
قدماهُ الرّطبتانِ
تركتْ آثارَها الحمراءَ في كلّ مكانِ
إنه قد عاث في شرقٍ وغربِ
في حنانِ



أين نعدو وهو قد لفّ يدَيهِ
حولَ أكتافِ المدينهْ
إنه يعمَلُ في بطءٍ وحَزْمٍ وسكينهْ
ساكبًا من شفَتَيْهِ
قُبَلاً طينيّةً غطّتْ مراعيْنا الحزينهْ



ذلكَ العاشقُ, إنَّا قد عرفناهُ قديما
إنه لا ينتهي من زحفِهِ نحو رُبانا
وله نحنُ بنَيْنا, وله شِدْنا قُرَانا
إنه زائرُنا المألوفُ ما زالَ كريما
كلَّ عامٍ ينزلُ الوادي ويأتي للِقانا



نحن أفرغنا له أكواخنا في جُنْح ليلِ
وسنؤويهِ ونمضي
إنه يتبعُنا في كل أرضِ
وله نحنُ نصلّي
وله نُفْرِغُ شكوانا من العيشِ المملِّ



إنه الآن إلهُ
أو لم تَغْسِل مبانينا عليه قَدَمَيْها
إنه يعلو ويُلْقي كنزَهُ بين يَدَيها
إنه يمنحُنا الطينَ وموتًا لا نراهُ
من لنا الآنَ سواهُ



صلاة الأشباح




تململت الساعةُ الباردهْ
على البرج, في الظلمة الخامدهْ
ومدّتْ يدا من نُحاسْ
يدًا كالأساطير بوذا يحرّكُها في احتراسْ
يدَ الرَّجل المنتصبْ
على ساعة البرج, في صمته السرمديّ
يحدّقُ في وجْمة المكتئبْ
وتقذفُ عيناهُ سيلَ الظلامِ الدَّجِيّ
على القلعة الراقدهْ
على الميّتين الذينَ عيونُهُمُ لا تموت
تظَلّ تحدَّقُ, ينطقُ فيها السكوتْ
وقالتْ يد الرَّجُلِ المنتصِب:
"صلاةٌ, صلاهْ!"




ودبّتْ حياهْ
هناكَ على البُرْج, في الحَرَس المُتْعَبينْ
فساروا يجرّونَ فوق الثَّرَى في أناهْ
ظلالَهُمُ الحانيات التي عَقَفَتْها السنينْ
ظلالَهُمُ في الظلام العميقِ الحزينْ
وعادتْ يدُ الرجل المنتصِبْ
تُشير: "صلاةٌ, صلاهْ!"
فيمتزجُ الصوتُ بالضجّة الداويهْ,
صدى موكبِ الحَرَسِ المقتربْ
يدُقّ على كلّ بابٍ ويصرخُ بالنائمينْ
فيبرُزُ من كلّ بابٍ شَبَحْ
هزيلٌ شَحِبْ,
يَجُرّ رَمَادَ السنينْ,
يكاد الدُّجى ينتحبْ
على وَجْهِهِ الجُمْجُمِيّ الحزينْ



وسار هنالكَ موكبُهُمْ في سُكونْ
يدبّونَ في الطُّرقاتِ الغريبةِ, لا يُدْركونْ
لماذا يسيرونَ ماذا عسى أن يكونْ
تلوَّتْ حوالَيْهمُ ظُلُماتُ الدروبْ
أفاعيَ زاحفةً ونُيُوبْ
وساروا يجرّون أسرارَهُمْ في شُحُوب
وتهمسُ أصواتهم بنشيدٍ رهيبْ,
نشيدِ الذينَ عيونُهُمُ لا تموتْ,
نشيد لذاك الإلهِ العجيبْ
وأغنيةٌ ليد الرَّجُلِ المنتصبْ
على البرج كالعنكبوتْ
يدٌ من نحاسْ
يحرّكها في احتراسْ
فترسل صيحَتها في الدياجي
"صلاةٌ, صلاهْ"




وفي آخر الموكب الشَّبَحيّ المُخيفْ
رأى حارس شَبَحَيْن
يسيرانِ لا يُدْركان متى كان ذاك وأيْن
تحُزّ الرّياح ذراعيهما في الظلام الكثيفْ
وما زال في الشَّبَحينِ بقايا حياهْ
ولكنّ عينيهما في انطفاءْ
ولفظُ "صلاة صلاهْ"
يضِجّ بسَمْعَيْهما في ظلام المساءْ




"ألستَ ترى"
"خُذْهما!"
ثم ساد السكون العميق
ولم يَبْقَ من شَبَح في الطريق



وفي المعْبَد البرْهميّ الكبير
وحيثُ الغموضُ المُثيرْ
وحيثُ غرابةُ بوذا تلُفّ المكانْ
يُصلّي الذينَ عيونُهُم لا تموتْ
ويَرْقُبُهم ذلكَ العنكبوتْ
على البرج مستغْرَقًا في سكوتْ,
فيرتفعُ الصوت ضخْمًا, عميق الصدى, كالزمان
ويرتجفُ الشَّبَحانْ



"من القلعةِ الرطبةِ الباردهْ"
"ومن ظُلُمات البيوت"
"من الشُرَف الماردهْ"
"من البرجِ, حيثُ يدُ العنبكوتْ"
"تُشيرُ لنا في سكوتْ"
"من الطرقات التي َتعْلِك الظُلْمَةَ الصامتهْ"
"أتيناكَ نسحَب أسرارَنا الباهتهْ"
"أتيناكَ, نحن عبيدَ الزمانْ"
"وأسرَاه نحن الذينَ عيونُهُم لا تموتْ"
"أتينا نَجُرّ الهوانْ"
"ونسألُكَ الصفْحَ عن هذه الأعين المُذْنبهْ"
"ترسّبَ في عُمْق أعماقها كلُّ حزْنِ السنينْ"
"وصوتُ ضمائرِنا المُتعَبَهْ"
"أجشٌّ رهيبُ الرّنينْ"
"أتيناكَ يا من يذُرّ السُّهادْ"
"على أعينِ المُذْنبينْ"
"على أعينِ الهاربينْ"
"إلى أمسِهِم ليلوذوا هناك بتلّ رمَادْ"
"من الغَدِ ذي الأعين الخُضرِ. يا من نراهْ"
"صباحَ مساءَ يسوقُ الزمانْ"
"يحدّق, عيناه لا تغفوان"
"وكفَّاه مَطْويّتانْ"
"على ألفِ سرٍّ. أتينا نُمرِّغ هذي الجباهْ"
"على أرض معبدِهِ في خُشُوعْ"
"نُناديهِ, دونَ دموعْ,"
"ونصرخ: آهْ!"
"تعِبْنا فدعْنا ننامْ"
"فلا نسْمع الصوتَ يَهْتف فينا: "صلاهْ!"
"إذا دقَّتِ الساعة الثانيهْ,"
"ولا يطرق الحَرَس الكالحونْ"
"على كل باب بأيديهم الباليه"
"وقد أكلتْها القُرونْ"
"ولم تُبْق منها سوى كومة من عظامْ"
"تعبنا... فدعنا ننامْ.."
"ننامُ, وننسى يد الرجل العنكبوتْ"
"على ساحة البرج. تنثُرُ فوق البيوتْ"
"تعاويذَ لعنتها الحاقدهْ"
"حنانك بوذا, على الأعينِ الساهدهْ"
"ودعها أخيرًا تموتْ"



وفي المعبد البرهمي الكبيرْ
تحرّكَ بوذا المثيرْ
ومدّ ذراعيه للشبحَيْنْ
يُبارك رأسيْهما المُتْعَبيْنْ
ويصرخُ بالحَرَس الأشقياءْ
وبالرَّجُلِ المنتصبْ
على البرْج في كبرياءْ,
"أعيدوهما!"
ثم لفَّ السكونُ المكانْ
ولم يبقَ إلا المساءْ,
وبوذا, ووجه الزمانْ



أغنية الهاوية




مججتُ الزوايا التي تلتوي
وراءَ النفوسْ
وراءَ بريقِ العُيُونْ
وأبغضتُ حتى السُّكونْ
وتلكَ المعاني التي تنطوي
عليها الكؤوسْ
معاني الصَّدَى والجُنونْ
معاني الخطايا التي تُبرقُ
بريقَ النجومْ
وفي لمسها اللهبُ المُحرقُ
ولونُ الهمومْ
كرهتُ الجفونَ التي تأسرُ
وخلفَ سماء ابتساماتها
لهيب الحقود
كرهتُ الأكفَّ التي تعصرُ
وخلفَ حرارة رَعْشاتها
جمودٌ كذُلِّ الحياهْ
على جُثةٍ تحت بعض اللحودْ
تعيثُ بها دودةٌ في برودْ
كرهتُ ارتعاشَ الشفاهْ
برَجعِ الصلاهْ
ففي كلِّ لفظٍ خطيئهْ
تجيشُ بها رَغباتٌ دنيئهْ
وعفتُ طُموحي وبحثي الطويلْ
عن الخيرِ, والحبِّ, والمُثلِ العاليهْ
وحقّرتُ سعيي إلى عالمٍ مستحيلْ
فخلفَ انخداعيَ تنتظرُ الهاويهْ
وعفتُ جنوني القديمَ وعفتُ الجديدْ
وأودعتهُ في مكانٍ بعيدْ
دفنتُ به رَغَباتِ البشرْ
وسمّيتهُ جنة الواهمين
ستمضي السنينْ
لماذا أُحسُّ الأسى والضَّجَرْ,
وكفُّ المطَرْ
تلفُّ على عنقي المختنقْ
حبالَ الفِكرْ
وأينَ أسيرُ وقلبي النزقْ
هنالكَ ما زالَ, لا يبرُدُ
ولا يحترقْ
كقلبِ أبي الهولِ. أين الغدُ
أُحسُّ حياتي تذوبْ
قفي لحظةً واحدهْ
ولا تَسحبي يَدكِ الباردهْ
فأغنيةُ الهاويهْ
تُهِيبُ بأقداميَ الشاردهْ
وتَلوي الدروبْ
قفي لحظةً يا حبالَ الحياهْ
ولا تتركيني هنا
معلقةً بالفراغِ الرهيبْ
فأمسي القريبْ
تلاشى على آخرِ المنحنى
وظلُّ غدي
تَلثَّمَ, أُوّاهُ لو أهتدي
قفي لحظةً واحدهْ
ولا تَسحبي يَدَكِ الباردهْ
فأغنيةُ الهاويهْ
تردّدها الأنفسُ الجانيهْ
تكرّرُها في جُنونْ
على سمعيَ المُجهَدِ
تكرّرُها لم يَعُدْ لي سكونْ
أكادُ أسيرُ إلى الهاويهْ
مع السائرينْ
وأدفِنُ آخرَ أحلاميهْ
وأنسى غدي



مأساة الحياة



عبثاً تَحْلُمين شاعرتي ما
من صباحٍ لليلِ هذا الوجود
عبثاً تسألين لن يُكْشف السرُ
ولن تَنْعمي بفكِ القيودِ
في ظلال الصفصافِ قَضَيتِ ساعاتكِ
حَيْرى تُمضُك الأسرارُ
تسألين الظلالَ و الظلُ
لايعلمُ شيــــــئاً....
أبداً تنظرين للأ ُفق المجهول
حَيْرى فهل تجلّى الخفيُّ؟
أبداً تسأليـــــن...
...صمتٌ مُسْتغلِقٌ أبديُّ
فيمَ لا تيأسينَ؟ ما أدركَ الأسرارَ
قلبٌ من قبلُ كي تدركيها
أسفاً يا فتاةُ لن تفهمي الأيامَ
فلتقنعي بأن تجهليها
أُتركي الزورق الكليل تسِّيرْه
أكفُّ الأقدارِ كيف تشاءُ
ما الذي نلتِ من مصارعة الموجِ؟
وهل نامَ عن مناكِ الشقاءُ؟
آهِ يا من ضاعتْ حياتك في الأحلامِ
ماذا جَنَيْتِ غير الملالِ؟
لم يَزَلْ سرُّها دفينا فيا ضياعهَ
عُمْرٍ قضَّيتِهِ في السؤالِ
هُوَ سرُّ الحياة دقَّ على الأفهامِ
حتى ضاقت به الحكماءُ
فيأسي يا فتاةُ ما فُهمتْ من
قبلُ أسرارُها ففيم الرجاءُ؟
جاء من قبلِ أن تجيئي إلى الدُّنْيا
ملايينُ ثم زالوا و بادوا
ليتَ شعري ماذا جَنَوْا من لياليهمْ؟
وأينَ الأفراحُ و الأعيادُ؟
ليس منهم إلاَّ قبورٌ حزيناتٌ
أقيمت على ضفاف الحياةِ
رحلوا عن حِمَى الوجودِ ولاذوا
في سكونٍ بعالم الأمواتِ
كم أطافَ الليلُ الكئيب على الجو
وكم أذعنت له الأكوانُ
شهد الليلُ أنّه مثلما كان
فأينَ الذينَ بالأمس كانوا؟
كيف يا دهرُ تنطفي بين كفَّيك
الأماني وتخمد الأحلامُ؟
كيف تَذْوي القلوبُ وهي ضياءٌ
ويعيشُ الظلام ُوهو ظلام



مرثية يوم تافه



لاحتِ الظلمةُ في الأفْق السحيقِ
وانتهى اليومُ الغريبُ
ومضت أصداؤه نحو كهوفِ الذكرياتِ
وغداً تمضي كما كانت حياتي
شفةٌ ظمأى وكوبُ
عكست أعماقُهُ لونَ الرحيقِ
وإِذا ما لمستْهُ شفتايا
لم تجدْ من لذّةِ الذكرى بقايا
لم تجد حتى بقايا
انتهى اليومُ الغريبُ
انتهى وانتحبتْ حتى الذنوبُ
وبكتْ حتى حماقاتي التي سَمّيتُها
ذكرياتي
انتهى لم يبقَ في كفّيّ منه
غيرُ ذكرى نَغَمٍ يصرُخُ في أعماق ذاتي
راثياً كفّي التي أفرغتُها
من حياتي , وادّكاراتي , ويومٍ من شبابي
ضاعَ في وادي السرابِ
في الضباب .
كان يوماً من حياتي
ضائعاً ألقيتُهُ دون اضطرابِ
فوق أشلاء شبابي
عند تلِّ الذكرياتِ
فوق آلافٍ من الساعاتِ تاهت في الضَّبابِ
في مَتاهاتِ الليالي الغابراتِ .
كان يوماً تافهاً . كان غريبا
أن تَدُقَّ الساعةُ الكَسْلى وتُحصي لَحظاتي
إنه لم يكُ يوماً من حياتي
إنه قد كان تحقيقاً رهيبا
لبقايا لعنةِ الذكرى التي مزقتُها .
هي والكأسُ التي حطّمتها
عند قبرِ الأمل الميِّتِ , خلفَ السنواتِ ,
خلف ذاتي
كان يوماً تافهاً.. حتى المساءِ
مرت الساعاتُ في شِبْهِ بكاءِ
كلُّها حتى المساءِ
عندما أيقظَ سمعي صوتُهُ
صوتُهُ الحُلْوُ الذي ضيّعتُه
عندما أحدقتِ الظلمةُ بالأفْقِ الرهيبِ
وامّحتْ حتى بقايا ألمي , حتى ذنوبي
وامّحى صوتُ حبيبي
حملت أصداءه كفُّ الغروبِ
لمكانٍ غابَ عن أعينِ قلبي
غابَ لم تبقَ سوى الذكرى وحبّي
وصدى يومٍ غريبِ
كشحوبي
عبثاً أضرَعُ أن يُرجِعَ لي صوتَ حبيبي



غُرباءْ



أطفئ الشمعةَ واتركنا غريبَيْنِ هنا
نحنُ جُزءانِ من الليلِ فما معنى السنا?
يسقطُ الضوءُ على وهمينِ في جَفنِ المساءْ
يسقطُ الضوءُ على بعضِ شظايا من رجاءْ
سُمّيتْ نحنُ وأدعوها أنا:
مللاً. نحن هنا مثلُ الضياءْ
غُربَاءْ
اللقاء الباهتُ الباردُ كاليومِ المطيرِ
كان قتلاً لأناشيدي وقبرًا لشعوري
دقّتِ الساعةُ في الظلمةِ تسعًا ثم عشرا
وأنا من ألمي أُصغي وأُحصي. كنت حَيرى
أسألُ الساعةَ ما جَدْوى حبوري
إن نكن نقضي الأماسي, أنتَ أَدْرى,
غرباءْ
مرّتِ الساعاتُ كالماضي يُغشّيها الذُّبولُ
كالغدِ المجهولِ لا أدري أفجرٌ أم أصيلُ
مرّتِ الساعاتُ والصمتُ كأجواءِ الشتاءِ
خلتُهُ يخنق أنفاسي ويطغى في دمائي
خلتهُ يَنبِسُ في نفسي يقولُ
أنتما تحت أعاصيرِ المساءِ
غرباءْ
أطفئ الشمعةَ فالرُّوحانِ في ليلٍ كثيفِ
يسقطُ النورُ على وجهينِ في لون الخريف
أو لا تُبْصرُ? عينانا ذبولٌ وبرودٌ
أوَلا تسمعُ? قلبانا انطفاءٌ وخمودُ
صمتنا أصداءُ إنذارٍ مخيفِ
ساخرٌ من أننا سوفَ نعودُ
غرباءْ
نحن من جاء بنا اليومَ? ومن أين بدأنا?
لم يكنْ يَعرفُنا الأمسُ رفيقين.. فدَعنا
نطفرُ الذكرى كأن لم تكُ يومًا من صِبانا
بعضُ حبٍّ نزقٍ طافَ بنا ثم سلانا
آهِ لو نحنُ رَجَعنا حيثُ كنا
قبلَ أن نَفنَى وما زلنا كلانا
غُرباءْ




الأفعــــــوان



أين أمشــى ؟ مللـــت الــدروب
وسئمــت المــــروج
والعــدو الخفـــى اللجـــوج
لم يــزل يقتفــى خطواتــى فأين الهروب ؟
الممرات والطـــرق الذاهبــــات ؟
بالاغانى الى كل أفق غريــب
ودروب الحيــــاة
والدهاليز فى ظلمات الدجى الحالكـــات
وزوايا النهار الجــــديب
جبتها كلها ، وعدوى الخفى العنيـــد
صامد كجبال الجليــد
فى الشمال البعيـــد
صامد كصمـــــود النجــــــــوم
فى عيون جفاها الرقــــــــــــاد
ورمتها أكـــف الهمــــــــــــــوم
بجراح السهــــــاد
صامـــد كصمــــود الزمــن
ســـــاعة الانتظـــــار
كلمــا أمعنــــت فـى الفــــرار
خطــــواتى تخطـــى القنن
وأتانى بما حطمتـــه جهـــود النهار
من قيــود التذكر .. لن أنشد الانفــلات
وعدوى المخيـــف
مقلتـــاه تمــج الخريــــف
فوق روح تـــريد الربيـــع
ووراء الضبـــاب الشفيــــف
ذلــك الأفعـــــــوان الفظيــع
ذلك الغــول أى انعتــــــــــاق
من ظــلال يديـــه علـــــى جبهتــى البارده
أين أنجـــو وأهدابـــه الحاقــده
فى طريقــــى تصــــب غــدا ميتـــا لا يطاق .





أغنية حب للكلمات



فيمَ نخشَى الكلماتْ
وهي أحياناً أكُفٌّ من ورودِ
بارداتِ العِطْرِ مرّتْ عذْبةً فوق خدودِ
وهي أحياناً كؤوسٌ من رحيقٍ مُنْعِشِ
رشَفَتْها، ذاتَ صيفٍ، شَفةٌ في عَطَشِ
فيم نخشى الكلماتْ ؟
إنّ منها كلماتٍ هي أجراسٌ خفيّهْ
رَجعُها يُعلِنُ من أعمارنا المنفعلاتْ
فترةً مسحورةَ الفجرِ سخيّهْ
قَطَرَتْ حسّا وحبّاً وحياةْ
فلماذا نحنُ نخشى الكلماتْ؟
نحنُ لُذْنا بالسكونِ
وصمتنا، لم نشأ أن تكشف السرَّ الشِّفاهُ
وحَسِبنا أنّ في الألفاظ غُولاً لا نراهُ
قابعاً تُخْبئُهُ الأحرُفُ عن سَمْع القرونِ
نحنُ كبّلنا الحروف الظامئهْ
لم نَدَعْها تفرشُ الليلَ لنا
مِسْنداً يقطُرُ موسيقَى وعِطْراً ومُنَى
وكؤوساً دافئهْ
فيم نخشى الكلماتْ؟
إنها بابُ هَوىً خلفيّةٌ ينْفُذُ منها
غَدُنا المُبهَمُ فلنرفعْ ستارَ الصمتِ عنها
إنها نافذةٌ ضوئيّةٌ منها يُطِلّ
ما كتمناهُ وغلّفناهُ في أعماقنا
مِن أمانينا ومن أشواقنا
فمتى يكتشفُ الصمتُ المملُّ
أنّنا عُدْنا نُحبّ الكلماتْ؟
ولماذا نحن نخشَى الكلماتْ ؟
الصديقات التي تأتي إلينا
من مَدَى أعماقنا دافئةَ الأحرُفِ ثَرّهْ ؟
إنها تَفجؤنا، في غَفْلةٍ من شفتينا
وتغنّينا فتنثالُ علينا ألفُ فكرهْ
من حياةٍ خِصْبة الآفاقِ نَضْرهْ
رَقَدَتْ فينا ولم تَدْرِ الحياةْ
وغداً تُلْقي بها بين يدينا
الصديقاتُ الحريصاتُ علينا، الكلماتْ
فلماذا لا نحبّ الكلماتْ؟
فيمَ نخشى الكلماتْ؟
إنّ منها كلماتٍ مُخْمليات العُذوبَهْ
قَبَسَتْ أحرفُها دِفْءَ المُنى من شَفَتين
إنّ منها أُخَراً جَذْلى طَروبهْ
عَبرَت ورديّةَ الأفراح سَكْرى المُقْلتين
كَلِماتٌ شاعريّاتٌ، طريّهْ
أقبلتْ تلمُسُ خَدّينا، حروفُ
نامَ في أصدائها لونٌ غنيّ وحفيفُ
وحماساتٌ وأشواقٌ خفيّهْ
فيمَ نخشى الكلماتْ؟
إن تكنْ أشواكها بالأمسِ يوماً جرَحتْنا
فلقد لفّتْ ذراعَيْها على أعناقنا
وأراقتْ عِطْرَها الحُلوَ على أشواقنا
إن تكن أحرفُها قد وَخَزَتْنا
وَلَوَتْ أعناقَها عنّا ولم تَعْطِفْ علينا
فلكم أبقت وعوداً في يَدَينا
وغداً تغمُرُنا عِطْراً وورداً وحياةْ
آهِ فاملأ كأسَتيْنا كلِماتْ
في غدٍ نبني لنا عُشّ رؤىً من كلماتْ
سامقاً يعترش اللبلابُ في أحرُفِهِ
سنُذيبُ الشِّعْرَ في زُخْرُفِهِ
وسنَرْوي زهرَهُ بالكلماتْ
وسنَبْني شُرْفةً للعطْرِ والوردِ الخجولِ
ولها أعمدةٌ من كلماتْ
وممرّاً بارداً يسْبَحُ في ظلٍّ ظليلِ
حَرَسَتْهُ الكلماتْ
عُمْرُنا نحنُ نذرناهُ صلاةْ
فلمن سوف نُصلِّيها ... لغير الكلماتْ ؟




إلى الشِعر





من بَخور المعابدِ في بابل الغابرهْ
من ضجيج النواعيرِ في فَلَواتِ الجَنوبْ
من هتافاتِ قُمْريّةٍ ساهرهْ
وصدى الحاصدات يغنّين لحنَ الغروبْ
ذلكَ الصوتُ, صوتُكَ سوف يؤوبْ
لحياتي, لسمع السنينْ
مُثخَنًا بعبيرِ مساءٍ حزينْ
أثقلتهُ السنابِلُ بالأرَجِ النَّشْوانْ,
بصدًى شاعريّ غريبْ
من هُتافاتِ ضفدعةٍ في الدجى النعسان
يملأُ الليلَ والغدْرانْ
صوتُها المتراخي الرتيبْ
ذلك الصوتُ, صوتُكَ سوف يؤوب
لحياتي, لسَمْع المساءْ
سيؤوبُ وأسمعُ فيه غناءْ
قمريَّ العُذوبةِ فيه صَدًى من ليالي المطر
من هدوءِ غُصونِ الشجر
وهي تمتصّ سَكْرى, رحيق السَّماءْ
الرحيقَ الذي عطّرتْهُ الغيومْ
بالرؤى, بتحايا النجومْ
سأجوبُ الوجودْ
وسأجمَعُ ذرّاتِ صوتِكَ من كل نَبْعٍ بَرودْ
من جبال الشِّمالْ
حيث تهمسُ حتى الزنابقُ بالأُغنياتْ
حيثُ يحكي الصنوبرُ للزَّمَنِ الجوّالْ
قصصًا نابضاتْ
بالشَّذى, قصصًا عن غرامِ الظِّلالْ
بالسواقي, وعن أغنياتِ الذئابْ
لمياهِ الينابيعِ في ظُلَلِ الغاباتْ
عن وقَارِ المراعي وفلسفة الجَدْولِ المُنْسابْ
عن خَروفٍ يُحسّ اكتِئابًا عميقْ
ويُقضِّي النَّهارْ
يقضِمُ العُشْبَ والأفكارْ
مُغْرَقًا في ضَبابِ وجودٍ سحيقْ
وسأجمعُ ذرّاتِ صَوْتِك من ضَحِكاتِ النعيمْ
في مساءٍ قديمْ
من أماسيِّ دِجلةَ يُثْقلُ أجواءَهُ بالحنينْ
مرحُ الساهرينْ
يرشفونَ خرير المياهْ
وهي تَرْطُمُ شاطئَهُمْ, وضياءُ القَمَرْ
قَمَرِ الصيفِ يملأ جوّ المَساءِ صُوَرْ
والنسيمُ يمرّ كلمس شِفاهْ
من بلادٍ أُخَرْ
ليلةٌ شهرزاديّةُ الأجواءْ
في دجاها الحَنونْ
كلّ شيءٍ يُحسّ ويحلُمُ حتى السكونْ
ويهيم بحبِّ الضياءْ
وسأسمَع صوتَكَ حيثُ أكونْ
في انفعال الطبيعةِ, في لَحَظاتِ الجنونْ
حينَ تُثْقل رجعَ الرُّعودْ
ألفُ أسطورةٍ عن شَبابِ الوجودْ
عن عصورٍ تَلاَشَتْ وعن أُمَم لن تعودْ
عن حكاياتِ صبيانِ (عادْ)
لصبايا (ثمودْ)
وأقاصيصَ غنَّتْ بها شهرزادْ
ذلك الملكَ المجنونْ
في ليالي الشتاءْ
وسأسمَعُ صوتَكَ كلّ مَسَاءْ
حين يغفو الضياءْ
وتلوذُ المتاعبُ بالأحلامْ
وينامُ الطموحُ تنامُ المُنَى والغَرَامْ
وتنامُ الحياةُ, ويبقى الزَّمَانْ
ساهرًا لا يَنَامْ
مثل صوتك, ملء الدُّجَى الوَسنانْ
صوتُكَ السهرانْ
في حنيني العميق
صوتك الأبديّ الذي لا يَنَامْ
فهو يبقَى معي سهرانْ
وأُحسّ صداهُ الملوّنَ يملأ كل طريقْ
بالشَّذَى بندى الألوانْ
صوتُكَ المجهولْ
أنا أدركتُ - يا فرحتا - سرّهُ المَعْسُولْ
أنا أدركتُهُ أنا وَحْدي وصمْتُ الزَّمَانْ




في جبال الشمال




عُدْ بنا يا قطار ْ
فالظلام رهيبٌ هنا والسكونُ ثقيلْ
عُدْ بنا فالمدَى شاسعٌ والطريقُ طويل
والليالي قِصارْ
عدْ بنا فالرياحُ تنوحُ وراءَ الظلالْ
وعُواءُ الذئابِ وراءَ الجبالْ
كصراخِ الأسى في قلوبِ البشرْ
عُدْ بنا فعلى المنحدَرْ
شَبحٌ مكفهرٌّ حزينْ
تركتْ قَدَماهُ على كلِّ فجرٍ أثرْ
كلُّ فجرٍ تقضّى هنا بالأسى والحنين
شَبحُ الغربةِ القاتلهْ
في جبال الشّمالِ الحزينْ
شبحُ الوَحدةِ القاتلهْ
في الشمالِ الحزينْ
عد بنا قد سئمنا الطَّوَافْ
في سُفُوحِ الجبال وعُدْنا نخافْ
أن تطولَ ليالي الغيابْ
ويغطي عُوَاءُ الذئابْ
صوتنا ويعزُّ علينا الإيابْ
عُدْ بنا للجنوبْ
فهناكَ وراءَ الجبالِ قلوبْ
عدْ بنا للذينَ تركناهُم في الضبابْ
كلُّ كفٍّ تلوِّحُ في لهفةٍ واكتئابْ
كل كفٍّ فؤاد
عدْ بنا يا قطارُ, سئمنا الطَّوَافَ وطالَ البعادْ
وهنالكَ همسٌ عميقْ
لاثغٌ خلفَ كلِّ طريق
في شعابِ الجبالِ الضِّخامْ
ووراءَ الغمامْ
في ارتعاشِ الصَّنَوْبرِ, في القريةِ الشاحبهْ,
في عُوَاءِ ابن آوى, وفي الأنجمِ الغاربهْ,
في المراعي هنالكَ صوتٌ شَرُودْ
هامسٌ أن نعودْ
فهناكَ بيوتٌ أُخَر
ومراعٍ أخرْ
وقلوبٌ أخرْ
وهناكَ عيونٌ أبَت أن تنامْ
وأكفٌّ تضمُّ الدُّجَى في اضطرامْ
وشفاهٌ ترددُ أسماءنا في الظلامْ
وقلوبٌ تُصيخُ لأقدامنا في وُجومْ
وتنادي النجومْ
في أسًى وسكونْ:
"ومتى يا نجومُ سيذكرنا الهاربونْ?"
"ومتى يَرْجعونْ?"
لحظةً, سنعودْ
لن يرانا الدُّجَى ها هنا, سنعودْ
سنعودُ, سنطوي الجبالْ
ورُكَامَ التلالْ
لن ترانا ليالي الشمالْ
ها هنا من جديدْ
لن يحسَّ الفضاءُ المديد
نارَ آهاتِنا في المساءِ الرهيبْ
في سكونِ المساءِ الرهيبْ



عُدْ بنا يا قطارَ الشمالْ
فهناكَ وراءَ الجبالْ
الوجوهُ الرقاقُ التي حجَبَتها الليالْ
عُدْ بنا, عُد إلى الأذرُعِ الحانيهْ
في ظلالِ النخيلْ
حيثُ أيامُنا الماضيهْ
في انتظارٍ طويلْ
وقفتْ في انتظار
تتحرى رجوعَ القطارْ
لتسير مع السائرينْ
حيثُ أيامُنا تسألُ العابرينْ
واحدًا, واحدًا, في حنينْ
"ومتى عودةُ الهاربينْ?"



لنعُدْ فهناكَ نشيد قديمْ
حولَنا هامسٌ بالرُّجوعْ
ما أحبَّ الرجوعْ
بعد هذا الطوَاف الأليمْ
في جديبِ الشِّعابْ
حيث تَعْوي الذئاب
لنعدْ, فالدُّجَى بارد كالجليدْ
وهنالكَ خلفَ الفضاءِ البعيدْ
أذرعٌ دافئهْ
لنعدْ فالجبالُ تكشِّرُ عن ليلها المظلمِ
وهنالكَ خلفَ الدُّجَى المبهَمِ
صوتُ أحبابنا, في الظلامِ السحيقْ
نابضًا بالحنينِ العميقْ
صوتُهم مُثقلاً بالعتابْ
صوتُهم ردّدته الشِّعابْ
صوتُهُم في سكون المكانْ
دائرٌ كالزمانْ
لنعُدْ قبلَ أن يقضيَ الأفعوانْ
بفراقٍ طويلٍ, طويلْ
عن ظلالِ النخيلْ
عن أعزائنا خلفَ صمتِ القفارْ
عدْ بنا يا قطارْ
فالليالي قصار
وهنالكَ أحبابُنا في أسًى وانتظارْ




سخرية الرماد




لو رجعنا غدا وأراد الزمان
أن يرانا كما كنّا
والتقينا فهل ينبض الميّتان
خلف ألواح صدرينا



لو رجعنا غدا ورآنا القمر
بعد غيبتنا الكبرى
ورأى كيف نمنح ما قد غبر
ومضى فرصة أخرى



لو رجعنا غدا ورأتنا النجوم
نجمع الذكر الذابله
نستعيد الهوى ونظلّ نحوم
حول أحلامنا الراحله




لو رآنا الطريق نشقّ السكون
بتعابيرنا الجامده
ويخادعنا ما طوته المنون
من رغائبنا الخامده



ونزيل رماد شهور طوال
عن هوى لفّه المستحيل
فوق أشلائه ذكريات ثقال
من دموعي وحزني الطويل



سترانا النجوم نسير معا
يخدع الليل مرآنا
خلف أهدابنا شغف مدّعى
ساتر سرّ ما كانا



وسيسخر من شبحينا القمر
وهو يرقب كيف نسير
كيف ننشر ما قد طواه القدر
واحتواه سكون المصير



وهناك نرى جثث الأشواق
في خمود طويل عميق
ويخادعنا لونها البرّاق
فتؤمّل أن تستفيق



ونرى ركب أيّامنا الماضيه
لم يزل لاهث الأنفاس
فنمدّ له الأذرع الذاويه
علّه يوقظ الإحساس



ويرانا الدّجى راكعين على
تربة المرقد الجافيه
نلمس الجثث المرسلات إلى
الأفق أعينها الخابيه



ويرانا الدّجى فجأة في عياء
في أسى غامق شارد
واقفين نحسّ اصطدام الرجاء
بثرى الواقع البارد



ويمرّ على جبهتينا المساء
باردا مثل لوح جليد
وتعود كواكبه البيضاء
أعينا طفحت بالوعيد



ويشيّعنا القمر الهادىء
ببرود مثير غريب
ويلاحقنا وجهه الهازىء
حيث سرنا بصمت مريب



ونحسّ أخيرا بأنّ القضاء
قد طوى حبّنا الآفلا
وبقينا حيارى هنا غرباء
نذرع العمر القاحلا



وهنالك سوف يغنّي الرّماد
وسيسخر حتى القمر
من أسانا ومن أمل لا يعاد
كان يوما لنا واندثر



كبرياء




لا تسلني عن سرّ أدمعي الحرّى فبعض الأسرار يأبى الوضوحا
بعضها يؤثرالحياة وراء الحسّ لغزا وإن يكن مجروحا
بعضها إن كشفته يستحل حّبا مهانا يموت موتا حزينا
بعضها بعضها تكّبر أن يكشف عما وراءه أو يبينا
ومئات الأسرار تكمن في دمعة حزن تلوح في مقلتين
ومئات الألغاز في سكتة تهتزّ خلف انطباقة الشفتين
وعيون وراء أهدابها أشباح يأس في حيرة وانكسار
تؤثر الظلّ والظلام ارتياعا من ضياء يبوح بالأسرار
وقلوب تضمّ أشلاءها فوق جراح وأدمع وذهول
تؤثر الموت كبرياء ولا تنطق بالسرّ بالرجاء الخجول
وشفاه تموت ظمآى ولا تسأل أين الرحيق ؟ أين الكأس ؟
ونفوس تحسّ أعمق إحساس وتبدو كأنها لا تحس
وأكفّ تودّ لو مزّقت لو قتلت لو تمرّدت في جنون
لو رأتها الحياة قالت : هدوء وادع في براءة وسكون
لو رأتها ماذا ترى ؟ كلّ شيء مغرق خلف داكنات السّتور
ألف ستر وألف ظلّ من الكبت عميق وألف قيد ونير
لا تسلني لا تجرح السرّ في نفسي ولا تمح كبرياء سكوتي
لو تكلمت كان في كلّ لفظ قبر حلم وفجر جرح مميت
لو تكلمت كيف ترتعش الأشعار حزنا .وترتمي في عياء
لو كشفت السرّ العميق فماذا يتبقى مني سوى الأشلاء ؟
لو تكلمت رعشة في حياتي وكياني تلحّ أن أتكلم
وسكوتي العميق يكتم أنفاسي وقلبي يكاد أن يتحطّم
لو تكلمت لو سكتّ نداءان عميقان كالحياة استعارا
تتلاقى عليهما كلّ أسراري فأبقى شعرا وحبّا ونارا
وتظلّ الحياة تخلق من وجهي قناعا صلدا يفيض رياءا
جامدا باردا أصمّا ويخفي بعض شيء سّميته كبرياء




ليلة ممطرة




الآن يا نجمي تغيب ,ولم يحن وقت الأفول ؟
الآن والليل الجميل يريق ضوءك في الحقول ؟
والزهر , تحت الليل , نشوان بمشرقك ؟
والنهر , والشطآن تضحك تحت أشجار النخيل
الآن تغرب ؟ يا لمأساة الجمال الذابل
يا نجمي المأسور في كفّ الضباب الشامل
يا فيلسوف الليل , يا سرّ الوجود الذاهل
عبثا أناشيدي إلى أضواء نجم آفل
عبثا سهرت الليل ارنو والتفجّع غالي
أتزوّد النظر الأخير إلى ضياك الشاحب
وأصوغ ألحان الرثاء على صباك الذاهب
وأحوك من دمعي الضياء لكلّ نجم غارب
رحماك يا نجمي الجميل متى نهاية ليلتي ؟
ومتى ستنقشع الغيوم وتستريح كآبتي ؟
قد شاق قلبي أن أحسّ الصمت تحت خميلتي
وتجوب عيناي الفضاء وفي يدي قيثارتي
ما زلت أنتظر السكون وليس غير صدى المطر
والريح في سمع المساء تئنّ ما بين الشجر
لا طير يمرح في الحقول ولا أريج ولا زهر
لا شىء غير صراخ رعد هاتف بأسى البشر
ومن الظلام تصاعدت آهات قمريّ الغصون
ذهبت بمكمنه الرّياح وعزّه المأوى الحنون
حيران , مرتعش الجناح , مجرح تحت الدجون
رحماك يا ربّ العواصف , حسبنا المطر الهتون
أين الفضاء الحلو , أين الصحو ؟ أين سنا النجوم ؟
من جمّع المطر الكئيب , وبثّ في الليل الغيوم ؟
يا ريح رفقا بي ورفقا بالعرائش والكروم
رفقا بقمري المروج فقد أمضّته الهموم
قد كان في قلبي أمان يا رياح فخنتها
قد كان في هذا المساء مفاتن فمحوتها
قد كان في المرج الجميل عرائش أذبلتها
قد كان في ثبج السماء كواكب أطفأتها
وبقيت , في الليل الكئيب , أصيخ للمطر الكئيب
وعلى فمي اللحن الغريب , يصوغه قلبي الغريب
وتلوح لي خلل النوافذ ظلمة الليل الرهيب
عبثا أغذّي موقدي فالآن ينطفىء اللهيب
قد حطّم الإعصار نافذتيّ وانطفأ الضياء
والآن لا أضواء حولي غير إبراق السماء
يا ضجّة الإعصار في الآفاق , يا مطر المساء
الآن ألتمس الرقاد إلى غد فإلى اللقاء



مرّ القطار




الليل ممتدّ السكون إلى المدى
لا شيء يقطعه سوى صوت بليد
لحمامة حيرى وكلب ينبح النجم البعيد ,
والساعة البلهاء تلتهم الغدا
وهناك في بعض الجهات
مرّ القطار
عجلاته غزلت رجاء بتّ انتظر النهار
من أجله.. مرّ القطار
وخبا بعيدا في السكون
خلف التلال النائيات
لم يبق في نفسي سوى رجع وهون
وأنا أحدّق في النجوم الحالمات
أتخيل العربات والصفّ الطويل
من ساهرين ومتعبين
أتخيل الليل الثقيل
في أعين سئمت وجوه الراكبين
في ضوء مصباح القطار الباهت
سئمت مراقبة الظلام الصامت
أتصوّر الضجر المرير
في أنفس ملّت وأتعبها الصفير
هي والحقائب في انتظار
هي والحقائب تحت أكداس الغبار
تغفو دقائق ثم يوقظها القطار
ويطلّ بعض الراكبين
متثائبا , نعسان , في كسل يحدّق في القفار
ويعود ينظر في وجوه الآخرين
في أوجه الغرباء يجمعهم قطار
ويكاد يغفو ثم يسمع في شرود
صوتا يغمغم في برود
"هذي العقارب لا تسير !
كم مرّ من هذا المساء ؟ متى الوصول ؟ "
وتدقّ ساعته ثلاثا في ذهول
وهنا يقاطعه الصفير
ويلوح مصباح الخفير
ويلوح ضوء محطة عبر المساء
إذ ذاك يتئد القطار المجهد
...وفتى هنالك في انطواء
يأبى الرقاد ولم يزل يتنهد
سهران يرتقب النجوم
في مقاتيه برودة خطّ الوجوم
أطرافها ..في وجهه لون غريب
ألقت عليه حرارة الأحلام آثار احمرار
شفتاه في شبه افترار
عن شبه حلم يفرش الليل الجديب
بحفيف أجنحة خفّيات اللحون
عيناه فس شبه انطباق
وكأنّها تخشى فرار أشعة خلف الجفون
أو أن ترى شيئا مقيتا لا يطاق
هذا الفتى الضجر الحزين
عبثا يحاول أن يرى في الآخرين
شيئا سوى اللغز القديم
والقصّة الكبرى التي سئم الوجود
أبطالها وفصولها ومضى يراقب في برود
تكرارها البالي السقيم
هذا الفتى..
وتمرّ أقدام الخفير
ويطلّ وجه عابس خلف الزجاج ,
وجه الخفير !
ويهزّ في يده السراج
فيرى الوجوه المتعبه
والنائمين وهم جلوس في القطار
والأعين المترقبه
في كلّ جفن صرخة باسم النهار ,
وتضيع أقدام الخفير الساهد
خلف الظلام الراكد
وبقيت وحدي أسأل الليل الشرود
عن شاعري متى يعود ؟
ومتى يجيء به القطار ؟
أتراه مرّ به الخفير
ورآه لم يعبأ به ..كالآخرين
ومضى يسير
هو والسراج ويفحصان الراكبين
وأنا هنا ما زلت أرقب في انتظار
وأودّ لو جاء القطار..
وأودّ لو جاء القطار..



عندما انبعث الماضي




أمس في الليل وكانت صور الأسرار شتّى
تتصبّى حاضري الغافي وكان الأمس ميتا
خلتني كفنّته ذات مساء
وتحصّنت بدعوى كبريائي
سمعت روحي في إغفاءة الظلمة صوتا
لم يكن حلما خرافيّ الستور
بعثته رغبة خلف شعوري
كان شيئا , كان في صمت الدجى صوتك أنتا
صوت ماضيّ الذي مات وما خلّف شيّا
غير أشتات احتقار باهت
رسبت في قعر قلبي الصامت
غير أشتات ادّكارات لحبّ كان حيّا
منذ أعوام..وقد فات ومرّا
منذ أعوام..وصار الآن ذكرا
لفّها الماضي وواراها التراب الأبدّيا
ذلك الصوت الذي مرّ على سمعي أمس
كان حلما ذائبا في عبراتي
كان حبّا تائها في أمنياتي
ثم حطمّت على ذكراه قيثارتي وكأسي
عندما ضّيعته تحت الضباب
تعثّرت بأشلاء شبابي
وتهاويت على جثّة أحلامي وانسي
ومضى عامان ممطوطان مرّا في شحوب
كان عمري خربة يصبغها لون الغروب
مدت الذكرى ذراعيها إليّا
لونهايخلق من رعبي دنيا
ويثير الوتر الميّت في قلبي الكئيب
وانقضى عامان ملعونان من أعوام حبي
مزّقت روحي أظفارهما , روحي وقلبي
لم تدع شراعا من رجاء
أبدا لم تبق إلا كبريائي
وأباديد ادّكارات لها قسوة ذئب
أمسي الراسب في أعماق حسّي
عرفت فيها صدى الصوت الذي غمغم قربي
إنه الأمس إذن عاد ليحيا من جديد
إنه عاد إذن يطرق أبواب شرودي
أسفا يا شبحي عد للتراب
لم تعد تملك أن تطرق بابي
لم يعد يربطنا إلا ركام من حدود
هوّة أعمق من ذنبك ! ماذا ؟
غير ذكرى عبرت يوما ومرّت بوجودي ؟
إنه عاد إذن يطرق أبواب شرودي
أسفا يا شبحي عد للتراب
لم تعد تملك أن تطرق بابي
لم يعد يربطنا إلا ركام من حدود
هوّة أعمق من ذنبك ! ماذا ؟
قد تبّقى لك عندي غير هذا ؟
غير ذكرى عبرت يوما ومرّت بوجودي ؟




سياط وأصداء





كان على أرض الشارع المبللة جسد حصان , وكانت السياط ترتفع ثم تهوي فلا تسقط إلا على جرح"




ما زلت أذكر كلّ شىء من صباحي الضائع
الراقد الدامي المجرّح فوق أرض الشارع
وصدى السياط المرهقات على الجبين الضارع
يا ثورة الإحساس في نفسي علام تمزقّي
ألمي على الجسد الممزّق بعض ضعفي الأحمق
وغدا سأدفن ما تبقّى من حناني المرهق
يا ليتني عمياء لا أدري بما تجني الشرور
صّماء لا أصغي إلى وقع السياط على الظهور
يا ليت قلبي كان صخرا لا يعذّبه الشعور
يا ليتني , ماذا تفيدك , يا حياتي , ليتني؟
أحلامك النضرات باتت في قنوط محزن
لن يسمع القدر المدّمر فاصرخي أو أذعني
يا نار عاطفتي الرقيقة , يا غريبة في البشر
وقع السياط على الظهور أشدّ من وقع القدر
والحسّ في هذا الوجود جريمة لا تغتفر
لن تقتلي الشيطان في الإنسان أو تحيي الملاك
وغدا ستطويك الليالي في دياجير الهلاك
وغدا سيأسرك التراب فلا شعور ولا حراك
ما كان أثقل عبء أحلامي وآلامي وأقسى !
فامشي بنا نحو الفناء لعلّنا ننسى وننسى
وليسدل الستر المقدّس ,حسبنا غّما ويأسا



نهاية السلم




مرّت أيام منطفئات
لم نلتق لم يجمعنا حتى طيف سراب
وأنا وحدي, أقتات بوقع خطى الظلمات
خلف زجاج النافذة الفظّة, خلف الباب
وأنا وحدي..
مرّت أيام
باردة تزحف ساحبة ضجري المرتاب
وأنا أصغي وأعد دقائقها القلقات
هل مرّ بنا زمن ؟ أم خضنا اللازمنا ؟
مرّت أيام
أيام تثقلها أشواقي. أين أنا ؟
ما زلت أحدّق في السلّم
والسلّم يبدأ لكن أين نهايته ؟
يبدأ في قلبي حيث التيه وظلمته
يبدّأ..أين الباب المبهم ؟
باب السلّم ؟



مرّت أيام
لم نلتق , أنت هناك وراء مدى الأحلام
في أفق حفّبه المجهول
وأنا أمشي, وأرى , وأنام
أستنفد أيامي وأجرّ غدي المعسول
فيفرّإلى الماضي المفقود
أيامي تأكلها الآهات متى ستعود ؟



مرّت أيام لم تتذكر أن هناك
في زاوية من قلبك حبا مهجورا
عضّت في قدميه الأشواك
حبا يتضرّع مذعورا
هبه النورا



عد.. بعض لقاء
يمنحنا أجنحة نجتاز الليل بها
فهناك فضاء
خلف الغابات الملتفّات, هناك بحور
لا حدّ لها ترغي وتمور
أمواج من زبد الأحلام تقلبّها
أيد من نور




عد, أم سيموت,
صوتي في سمعك خلف المنعرج الممقوت
وأظلّ أنا شاردة في قلب النسيان
لا شيء سوى الصمت الممدود
فوق الأحزان
لا شيء سوى رجع نعسان
يهمس في سمعي ليس يعود
لا ليس يعود




إلى وردة بيضاء



كنز البرودة والرحيق وخبأ اللين العطر
يا من عصرت من الثلوج من الحليب من القمر
يا ضوء خدّ من حرير أبيض ملء النظر
بيضاء يا ملقى فراشات الربيع المنتظر
الشمس ودّت لو سقيت ضياءها منحا أخر
والفجر تابعك الأمين يريق ظلّك في النهر
يا ملتقى حبّ السّواقي والقنابر والشجر
واحسرتاه على البشر
مرّوا بكنزك سائلين
مسكينة ما تملكين ؟
بيضاء : نحن أنا وأنت سنكتم السرّ المثير
سرّي وسرّك لن نبوح به إلى الركب الضرير
ماذا ملكنا ؟ لا ضياع ولا عبيد ولا قصور
لا شيء إلا رعشة القمر المرّنح في الغدير
وغناء أنسام المساء المخمليّات المرور
وصداقة العصفور والفجر الملوّن والعبير
ومودّة الشمس الحنون وقبلة المطر الغزير
ووساد أعشاب وثير
وارحمتا للسائلين
وسؤالهم : ما تملكين ؟



لنكن أصدقاء




لنكن أصدقاء
في متاهات هذا الوجود الكئيب
حيث يمشي الدمار ويحيا الفناء
في زوايا الليالي البطاء
حيث صوت الضحايا الرهيب
هازئا بالرجاء
لنكن أصدقاء
فعيون القضاء
جامدات الحدق
ترمق البشر المتعبين
في دروب الأسى والأنين
تحت سوط الزمان النزق
لنكن أصدقاء ,
ألأكفّ التي عرفت كيف تجبي الدماء
وتحزّ رقاب الخلّيين والأبرياء
ستحسّ اختلاج الشعور
كلّما لامست إصبعا أو يدا
والعيون التي طالما حدّقت في غرور
ترمق الموكب الأسودا
موكب الرازحين العبيد
هذه الأعين الفارغات
ستحسّ الحياة
ويعود الجمود البليد
خلفها ألف عرق جديد
والقلوب التي سمعت في انتعاش
صرخات الجياع العطاش
ستذوب لتسقي صدى الظامئين
كأسة ولتكن ملئت بالأنين
لنكن أصدقاء
نحن والحائرون
نحن والعزّل المتعبون
والذين يقال لهم "مجرمون"
نحن والأشقياء
نحن والثملون بخمر الرخاء
والذين ينامون في القفر تحت السماء
نحن والتائهون بلا مأوى
نحن والصارخون بلا جدوى
نحن والأسرى
نحن والأمم الأخرى
في بحار الثلوج
في بلاد الزنوّج
في الصحارى وفي كلّ أرض تضمّ البشر
كلّ أرض أصاخت لآلامنا
كلّ أرض تلقّت توابيت أحلامنا
ووعت صرخات الضجر
من ضحايا القدر
لنكن أصدقاء
إن صوتا وراء الدماء
في عروق الذين تساقوا كؤوس العداء
في عروق الذين يظلّون كالثملين
يطعنون الإخاء
يطعنون أعزّاءهم باسمين
في عروق المحبّين..والهاربين
من أحبّائهم , من نداء الحنين
في جميع العروق
إنّ صوتا وراء جميع العروق
هامسا في قرارة كلّ فؤاد خفوق
يجمع الأخوة النافرين
ويشدّ قلوب الشقّيين والضاحكين
ذلك الصوت , صوت الإخاء
فلنكن أصدقاء
في بعيد الديار
ووراء البحار
في الصحارى , وفي القطب , في المدن الآمنه
في القرى الساكنه
أصدقاء بشر
أصدقاء ينادون أين المفر ؟
ويصيحون في نبرة ذابله
ويموتون في وحدة قاتله
أصدقاء جياع , حفاة , عراه
لفظتهم شفاه الحياه
إنهم أشقياء
فلنكن أصدقاء
من بعيد
صوت عصف الرياح الشديد
ناقلا ألف صوت مديد
من صراخ الضحايا وراء الحدود
في بقاع الوجود
ألضحايا , ضحايا العراك
وضحايا القيود
وصدى "هياواثا " هناك
مثقلا بأنين الجياع
بأسى المصطلين لظى الحمّى
بالذين يموتون دون وداع
دون أن يعرفوا أما
دونما آباء
دونما أصدقاء



ذكريات



كان ليل , كانت الأنجم لغزا لا يحلّ
كان في روحي شيء صاغه الصمت المملّ
كان في حسّي تخدير ووعي مضمحلّ
كان في الليل جمود لا يطاق
كانت الظلمة أسرارها تراق
كنت وحدي لم يكن يتبع خطوي غير ظلي
أنا وحدي , أنا والليل الشتائيّ..وظلي



لم أكن أحلم لكن كان في عينيّ شيء
لم أكن أبسم لكن كان في روحي ضوء
لم أكن أبكي لكن كان في نفسي نوء
مرّ بي تذكار شيء لا يحدّ
بعض شيء ما له قبل وبعد
ربّما كان خيالا صاغه فكري وليلي
وتلفتّ ولكن لم أقابل غير ظلّي



كان صمت راكد حولي كصمت الأبديّة
ماتت الأطيار أو نامت بأعشاش خفيّة
لم يكن ينطق حتى الرغبات الآدميّة
غير صوت رنّ في سمعي وذابا
لحظة لم أدر حتى أين غابا
آه لو أدركت من ألقاه في الصمت المملّ
أتراني لم أكن أمشي أنا وحدي وظلي ؟
كانت الظلمة تمتدّ إلى الأفق الغريب
كلّ شيء وغرق فيها كقلبي , كشحوبي
ظلمة ممتدّة كالوهم كالموت الرهيب
غير ضوء خاطف مرّ بجفني
لحظة لم تدر ماذا كان ,عيني
كان ضوءا لونه لون خيال مضمحلّ
مرّ بي لمحا وأبقاني أنا وحدي وظلّي



كان في الجوّ الشتائيّ ارتعاش وجمود
جمد الظلّ من البرد وغشّاه الركود
ليلة يرتجف في أجوائها حتى الجليد
غير دفء طاف من قلبي الوجيع
فزت فيه من شتائي بربيع
وإذا في عمق قلبي فرحة الفجر المطلّ
غير أني كنت في الليل أنا وحدي وظلّي



كان في روحي فراغ جائع كاللاّنهايه
كان ظلي صامتا لا لحن لا رجع حكايه
باهتا يتبع مسرى خطواتي دون غايه
غير كأس عبرت حين صرخت
قطرة واحدة ثم ارتويت
أتراه كان أكذوبة إحساسي المضلّ
أو ما كنت أنا وحدي مع الليل وظلّي ؟



كان قلبي متعبا يسكنه حزن فظيع
رقصت فيه وشدّته إلى الجرح دموع
صور في قعره يصبغ مرآها النجيع
كان , لكنّ يدا مرّت عليه
حملت بعض تحاياها إليه
باركت آلامه السوداء كانت يد طفل
أيّ طفل ؟ لم يكن في الليل غيري غير ظلّي



ثلج ونار



تسأل ماذا أقصد ؟ لا , دعني , لا تسأل
لا تطرق بوّابة هذا الركن المقفل
اتركني يحجب أسراري ستر مسدل
إنّ وراء الستار ورودا قد تذبل
إن أنا كاشفتك , إن عرّيت رؤى حبّي
وزوايا حافلة باللهفة في قلبي
فستغضب مني , سوف تثور على ذنبي
وسينبت تأنيبك أشواكا في دربي
هل يقبل ثلج عتابك قلبي الملتهب ؟
أترى أتقبّل ؟ لا أغضب ؟ لا اضطراب ؟
لا ! بل سأثور عليك..سيأكلني الغضب
وإذا أنا ثرت عليك وعكّرت الأجواء
فستغضب أنت وتنهض في صمت وجفاء
وستذهب يا آدم لا تسأل عن حوّاء
وإذا ما أنت ذهبت وأبقيت الشوقا
عصفورا عطشانا لا يحلم أن يسقى
وإذا ما أنت ذهبت..فماذا يتبقّى ؟
لا , لا تسأل..دعني صامتة منطويه
أترك أخباري وأناشيدي حيث هي
اتركني أسئلة وردودا منزويه
يا آدم لا تسأل.. حوّاؤك مطويّه
في زاوية من قلبك حيرى منسّيه
ذلك ما شاءته أقدار مقضيّه
آدم مثل الثلج , وحوّاء ناريّه
يا آدم لا تسأل.. حوّاؤك مطويّه
في زاوية من قلبك حيرى منسّيه
ذلك ما شاءته أقدار مقضيّه
آدم مثل الثلج , وحوّاء ناريّه



على وقع المطر




أمطري , لا ترحمي طيفي في عمق الظلام
أمطري صبّي عليّ السيل , يا روح الغمام
لا تبالي أن تعيديني على الأرض حطام
وأحيليني , إذا شئت , جليدا أو رخام
اتركي ريح المساء الممطر الداجي تجنّ
ودعي الأطيار , تحت المطر القاسي , تئنّ
أغرقي الأشجار بالماء ولا يحزنك غصن
زمجري , دوّي , فلن أشكو , لن يأتيك لحن
أمطري فوقي , كما شئت , على وجهي الحزين
لا تبالي جسدي الراعش , في كفّ الدجون
أمطري , سيلي على وجهي , أو غشّي عيوني
بللي ما شئت كّفيّ وشعري وجبيني
أغرقي , في ظلمة الليل , القبور الباليه
وألطمي , ما شئت أبواب القصر العاليه
أمطري , في الجبل النائي , وفوق الهاويه
أطفئي النيران , لا تبقي لحيّ باقيه
آه ما أرهبك الان , وقد ساد السكون
غير صوت الرّيح , في الأعماق , تدوي في جنون
لم تزل تهمي , من الأمطار , في الأرض , عيون
لم يزل قلبي حزينا , تحت أمواج الدجون
أيّها الأمطار , قد ناداك قلبي البشريّ
ذلك المغرق في الأشواق , ذاك الشاعريّ
إغسليه , أم ترى الحزن حماه الأبديّ
إنه , مثلك يا أمطار , دفّاق نقيّ
ابدا يسمع , تحت الليل , وقع القطرات
ساهما يحلم بالماضي وألغاز الممات
يسأل الأمطار : ما أنت ؟ وما سرّ الحياة ؟
وأنا , فيم وجودي ؟ فيم دمعي وشكاتي ؟
أيها الأمطار ما ماضيك ؟ من أين نبعت ؟
أابنة البحر أم السحب أم الأجواء أنت ؟
أم ترى أدمع الموتى الحزانى قد عصرت ؟
أم دموعي أنت يا أمطار في شدوي وصمتي ؟
ما أنا ؟ ما أنت يا أمطار ؟ ما ذاك الخضمّ ؟
أهو الواقع ما أسمع ؟ أم صوتك حلم ؟
أيّ شيء حولنا ؟ ليل وإعصار وغيم
ورعود وبروق وفضاء مدلهمّ
أسفا لست سوى حلم على الأرض قصير
تدفن الأحزان أيّامي ويلهو بي شعوري
لست إلا ذرة في لجّة الدهر المغير
وغدا يجرفني التيّار , والصمت مصيري
وغدا تدفعني الأرض سحابا للفضاء
ويذيب المطر الدفّاق دمعي ودمائي
ما أنا إلا بقايا مطر ,ملء السماء
ترجع الريح إلى الأرض به , ذات مساء
أمطري , دوّي , اغلبي ضجّة أحزاني ويأسي
أغرقيني , فلقد أغرقت في الآلام نفسي
إملأي كأسي أمطارا فقد أفرغت كأسي
واحجبي عني دجى أمسي فقد أبغضت أمسي





صوتيات الملائكة
ـــــــــــــــــــــــــــــــ



الليلُ يسألُ من أنا






دعوة الى الاحلام






حب الكلمات






الأجراس السوداء






شجرة القمر



http://www.youtube.com/watch?v=CEEnJ...eature=related

نازك الملائكة في مكتبتنا عمون:

1.البحر يغيّر ألوانه

تحميــــــــــل

2.ديوان نازك الملائكة -المجلد الأول

تحميـــــــــل

3.ديوان نازك الملائكة -المجلد الثاني

تحميـــــــــل

4.مختارات من شعر نازك الملائكة

تحميـــــــــــل


5.قضايا الشعر المعاصر

تحميــــــــــــل






إعداد
ـــــــــــــــــــــــــ
زياد السعودي
سلطان الزيادنة





الساعة الآن 02:01 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط