۩ أكاديمية الفينيق ۩

۩ أكاديمية الفينيق ۩ (http://www.fonxe.net/vb/index.php)
-   ☼ بيادر فينيقية ☼ (http://www.fonxe.net/vb/forumdisplay.php?f=31)
-   -   صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي (http://www.fonxe.net/vb/showthread.php?t=15181)

ريم العيساوي 04-01-2010 11:15 PM

صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
قصيدة أبي تمام

رقت حواشي الدهر فهي تمرمر وغدا الثرى في حليه يتكســـــر
نزلت مقدمة المصيف حميــــدة ويد الشتاء جديدة لا تكفـــــــــر
لولا الذي غرس الشتاء بكفــــه لاقى المصيف هشائما لا تثمــر
كم ليلة آسى البلاد بنفســـــــــه فيها ويوم وبله مثعنجـــــــــــــر
مطر يذوب الصحو منه وبعــده صحو يكاد من الغضارة يمطــــر
غيثان فالأنواء غيث ظاهــــــــر لك وجه، والصحو غيث مضمـر
وندى إذا ادهنت لمم الثــــــــرى خلت السحاب أتاه وهو معــــــذر
أربيعنا في تسع عشرة حجـــــة حقا لهنك للربيع الأزهــــــــــــــر
ما كانت الأيام تسلب بهجـــــــة لو أن حسن الروض كان يعمــــر
أولا ترى الأشياء إن هي غيرت سمجت وحسن الأرض حين تغيـر
يا صاحبي تقصيا نظريكمــــــــا تريا وجوه الأرض كيف تصــــور
تريا نهارا مشمسا قد شابـــــــه زهــــر الربا فكأنما هو مقمـــــــر
دنيـــــــا معاش للورى حتى إذا جــــــلي الربيع فإنما هي منظـــــر
أضحت تصوع بطونها لظهورها نـــــورا تكاد له القلوب تنـــــــــور
من كل زاهرة ترقرق بالنـــــدى فكأنهــــــا عين عليه تحـــــــــــدر
تبدو ويحجبها الجميم كأنهــــــا عــــذراء تبدو تارة وتخفـــــــــــــر
حتى غدت وهداتها ونجادهــــا فئتين في خلع الربيــــع تبختـــــــر
مصفرة محمرة فكأنها عصـــب تيمن في الوعا وتمضــــــــــــــــــر
من فاقع غض النبات كأنـــــــه در يشقق قبل ثم يزعفــــــــــــــــــر
أو ساطع في حمرة فكأن مــــا يدنو إليه من الهواء معصفــــــــــر

تأتي الطبيعة في شعر السابقين لأبي تمام عرضا في الوقفة على الأطلال ووصف رحلة الظعائن في الصحاري أو مغامرات الصيد أثناء الرحيل ، فالشعراء قبله كانوا يستعينون بالطبيعة للتعبير عن مشاعرهم ، لكن الطبيعة عند أبي تمام مقصودة احتلت مساحة كبيرة في شعره ، شغف بها وجعلها أداة فنية لرسم الإنسان والحياة .
إن هذه القصيدة مقدمة وصفية ضمن مدحية لأبي تمام في المعتصم تتضمن اثنين وثلاثين بيتا في الجزء الثاني من الديوان تحقيق الخطيب التبريزي ، جاءت على البحر الكامل وهو أكثر البحور استعمالا عند أبي تمام شاعر العصر العباسي الأول . بلغ في عصره ذروة الفن ونهض بدولة الشعر وأثار حوله جدلا ونقدا ما لم يحققه غيره من الشعراء .
والقصيدة – لوحة فنية متكاملة العناصر في وصف تبدل الطبيعة ركز فيها أبو تمام على جمال الربيع موظفا فيها كل الطاقات البديعية مما يعكس إحساسا مرهفا بسر الجمال .
ويمثل البيت الأول وحدة معنوية مستقلة صور فيها أبو تمام تبدل الزمن من الخشونة إلى النعومة وهو بيت بمثابة المقدمة الصغرى ومطلع يختزل معنى القصيدة .
ويصف الشاعر من البيت الثاني إلى البيت السابع فصل الشتاء ونعمته على الطبيعة وعلى البشر رامزا به إلى الممدوح وهذه الوحدة بمثابة المقدمة الكبرى التي يمهد بها الشاعر لوصف الربيع .
ومن البيت الثامن إلى البيت الواحد و العشرين يصف الشاعر جمال الربيع و يجسده في نبض الحياة واتحاد كل عناصرها وتضمنت هذه الوحدة عناصر المدح . ونلاحظ تقابليه بين الوحدتين تؤسسها لوحة الشتاء وقيمته المادية ولوحة الربيع وقيمته المعنوية .
تنفتح القصيدة بفعل رقت فعل في صيغة الماضي خرج من دلالته على الماضي ليكتسب دلالة الاستمرارية والصيرورة وعدم التقيد بزمن محدود كما اكتسب هذه الفعل طاقة إنجازيه متحركة غير ثابتة تصف تحول الدهر من حالة الخشونة إلى حالة اللين والنعومة وانفتاح القصيدة بهذا الشكل يشد السامع ويؤكد الشاعر استمرارية الرقة بانتقاله المفاجئ من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع .
فعل : مؤتمر أي تموج واكتسب لينا ونعومة
منذ اللحظة الأولى تفجر القصيدة معنى التحول في الزمن فالطبيعة تتبدل كليا كما تجسد صيغة فعل "تمرمر" فكرة التحول بشكل خفي إيحائي بتحويل الشاعر صيغة الفعل من تتمرمر إلى تمرمر فالتحويل الصرفي تحويل طبيعي .
إن الشاعر منذ مطلع القصيدة شخص الطبيعة ليبني العلاقة بينها وبين الإنسان وإضافة إلى ثنائية الطبيعة والإنسان تظهر ثنائية أخرى بين الزمان : الدهر والمكان (الأرض . الثرى) بناها الشاعر على علاقة تقابلية لكنها سرعان ما تختفي وتتحول إلى علاقة تكامل إذ أن الدهر والثرى يخضعان لفعل التحول ويشتركان في الرقة والحيوية في زمن قشيب خصب .
وكأن الشاعر يرى في منظر الربيع ربيع عصر الممدوح إذ الدهر يختال رقة والثرى يتثنى \زينة خلعها الربيع عليه وتكتمل الثنائية على المستوى اللغوي .
فالحواشي جمع مؤنث والثرى – مفرد مذكر وعلى مستوى صيغة الفعلين .
تمرمر = حركة متكسرة لا انقطاع فيها
تكسر = حركة متكسرة ومتقطعة
إلا أن الحركتين تتكاملان لتجسيد دفق الحياة الجديدة في رحم الزمن وتتكامل هذه الثانية على صعيد الدلالة الزمنية للفعل .

رق = فعل ماضي اكتمل – غدا : حركة غير مكتملة .
كما ساهمت البنية الصوتية في خلق عالم من التناغم والانسجام عن طريق الحروف المكررة في تمرمر ومعناه ارتج والمرمارة الجارية الناعمة الرجراجة والتمرمر والاهتزاز، جسم مرمار ومرمور ومرمر أي ناعم والمرمر ضرب من تقطيع ثياب النساء وتكسر الشيء لان وغض .
ويمنح التصريع داخل البيت المطلع شخنة إيقاعية ويهيئ جوا موسيقيا يشد السامع ويخلق مناخا مناسبا للإنشاد .
واحترام أبي تمام مبدأ تصريع المطالع دليل على انخراطه في سنة النقاد وولائه لسلطة التراث النقدي .
إن البيت الأول فيه تجسيد للمجردات وتشخيص للمحسوسات صور فيه الشاعر تبدل الزمن وتبدل الأرض ضمن رؤيا شعرية سمتها الجوهرية الاستمرار والحيوية حركة منسجة تنطلق من الماضي وتتدفق نحو الحاضر وتتواصل في المستقبل رؤيا توحد الأزمنة في زمن واحد هو زمن بها احتفاء مشحونا بالحياة والحركة .
وتتواصل الرؤيا التصويرية في البيت الثاني وتتأكد في إطار التواشج فالزمن زمانان لكنهما يندمجان في زمن واحد هو الدهر .
ومقدمة المصيف أي تباشير الربيع وإطلالته تمثل اللحظة الجديدة المتولدة عن اللحظة الماضية والشتاء لحظة ما تزال حاضرة جديدة في الطبيعة بمثابة النعمة التي لا تكفر ولا تجحد ويجسد الشاعر هذه اللحظة الماضية بتشخيص الشتاء وهو رمز للمدوح يده سخية مثل يد الشتاء فاللحظة الماضية بجدتها وخيرها تنصهر في اللحظة الحاضرة وتلتقيان في صفة النعمة = مقدمة المصيف : حميدة يد الشتاء : "لا تكفر"
وما يلفت الانتباه استعمال الشاعر فعل نزل الذي يوحي بمعنى الهبوط من السماء فكأن قدوم الربيع شبيه بقدوم المليك ولعل السجل اللغوي الذي استعمله الشاعر في البيت الثاني يحيل على المعجم الديني (حمد – شكر - كفر) سجل يضفي على قدوم الربيع شيئا من القداسة وكأنه اعتراف من الشاعر بإبداع الخالق وقدرته على خلق الخير والجمال وصل خفي بين الطبيعة ونعمها وإبداع الخالق .
وتتواصل ظاهرة الاحتفاء بالأصوات للتعبير عن فكرة الاستمرارية وذلك بتواصل فعلي "رقت" "ونزلت " وتكرار التنوين وحرف الدال وعن طريق الإيقاع الداخلي الممدود : حميدة – جديدة
إن قدوم الربيع محمود وصنيع الشتاء مشكور تواصل بين فصلين منسجمين ولعل الشاعر في تسمية الربيع بغير اسمه تعبير عن توحد الفصول وتواصلها وانصهار عناصر الطبيعة في وحدة الوجود .
ويتقابل البيت الثاني مع البيت الأول في مستوى الحركة
البيت الأول = 4 أفعال = رق – تمرمر – غدا – تكسر
البيت الثاني = 2 أفعال نزلت – تكفر
ويعمق الشاعر في البيت الثالث معنى الاستمرارية والحضور الكلي للزمن ويؤكد أن نعمة اللحظة الحاضرة وخصوبتها نتيجة لحظة ماضية سبقتها فولا الخيرات التي غرستها كف الشتاء لحل المصيف ولم يعد في الأرض غير الهشيم اليابس . لقد ألح الشاعر على الوشائج بين الفصول وجسد حضورها في بنية متناظرة مبلورا صورة التوازن في الكون . وبقدر ما كان الشاعر واضحا مع معجمه ، كان التركيب يحمل بؤرة الغموض إذ نتساءل عن اسم الموصول في البيت الثالث على من يعود فإذا به يلمح للمدوح ويشير إليه إيحاء ورمزا واستعمل الشاعر جناسا في الصدر : لولا – لاقى – وكذلك في التطابق بين الغرس والهشائم .
ويتواصل تشخيص الشتاء في البيت الرابع فبعد أن كان له يد صارت له أحاسيس فهو يواسي البلاد وهنا تتضح كناية الشاعر عن الممدوح وكأن الدفق الشعري يخفت نوعا ما فيبدو البيت نثريا لكن الشاعر يرتفع عن هذه النثرية بالإغراب اللغوي مثل استعماله مثعنجر : أي غزير مصوت ويطابق الشاعر بين الليل والنهار وبين : نفسه # ووبله وهنا يتدرج بالزمن وهو تأكيد على سنة الصيرورة الزمنية في الكون وإلغاء الحدود الفاصلة بين الأشياء في العالم المكونة في وحدة متماسكة هو جوهر الحياة تتداخل فيها الأشياء تداخلا منسجما فتبدو غامضة لأن المتناقضات تعود إلى أصل واحد .
البيت الخامس بيت أكثر الرواة في تصحيفه يصف مطر الربيع وطيب الوقت أي أن المطر إذا جاء تبينت منه أنه يقلع ولا يدوم إذا كان الصحو غصنا نديا مؤذنا بأن المطر سيعقبه بلور الشاعر صورة اللحظة الحاضرة بما هي توحيد للنقيضين المطر # الصحو . فالمطر بلغ حد الشفافية والصفاء بحيث يصبح مطرا يذوب منه الصحو ، والصحو الذي يأتي من بعده هو من الرقة والنعومة يكاد يمطر ، إنه التحام النقيضين في صورة مدهشة وانصهارهما في عنصر الشفافية ويحتفي الشاعر في هذا البيت بالإيقاع عن طريق الترجيع – مطر – يصحو – صحو – يمطر .
وهنا يجسد صورة رقراقة تؤكد جود الربيع رامزا بهذا إلى جود الممدوح ويتحول البديع إلى نوع من الترصيع غايته إبراز روعة الربيع وثرائه . لقد صور الشاعر عطاء الطبيعة في جلائها وتخفيها وهذه قدرة على النفاذ إلى عمق الوجود والتأمل في جوهرة .
في البيت السادس يفصل الشاعر بين العنصرين المتقابلين : الصحو # المطر. وبروزهما في صيغة التثنية لكن هذا الانفصال مؤقت إذ سرعان ما تبني العلاقة بينهما من جديد فيصبح الغيثان وجهين لحقيقة واحدة وتوحدهما تجسيد لرؤيا التحول والاستمرارية في حركة الزمن إنها عين أبي تمام كما عرفها بإيجاز الدكتور اليافي في تفسيره لكثرة تنافر الأضداد في شعره .
ويتحقق في البيت السابع التوحد بين الأرض (الثرى) والسماء (السحاب) وهذا التوحد يتحقق عن طريق الندى الذي ينزل من السماء ويستقر على الأرض ويكثف الشاعر الإغراب اللغوي مثل ادهن بالدهن . والدهن من المطر : قدر يبل وجه الأرض دهن المطر الأرض بلها بلا يسيرا والأدهان هي الأمطار اللينة واللمم : لمم الثرى نبته . ومعذر أي معتذر .
صور الشاعر الأرض في الصباح الباكر وتتبع صورة الندى الذي يسقط في الليل على نبات الأرض وإذا رأينا هذه القطرات بالنهار حسبناها قد مر عليها السحاب وترد عليها غدائر صورة دقيقة لأثر الخصوبة في الأرض ويعمد الشاعر إلى الصورة الإيهامية بفعل : خلت السحاب وهي حلقة من سلسلة من الصور المبنية على صيغ التقريب والتشبيه تتوزع عبر نسيج القصيدة انطلاقا من البيت (5) بفعل كاد .
البيت (7) بفعل خلت السحاب
البيت ( 12)- بكأنها هو مضمر
البيت (15) – فكأنها عين
البيت (16) كأنها عذراء
البيت (18) كأنها عصب
البيت (19) كأنها در
البيت (20) الهواء كأنه معصفر
تتجلى مضامين صيغة كأن جميعها حركية حسية تجسد تداخلا وتعددا وتحولا بين الأشياء ويطغى على خبر المبتدأ فيها الفعل المضارع الحركي . هذه الصيغ تتكثف في القسم الثاني من القصيدة بداية من البيت الخامس حين تبدأ العلاقة الفعلية والاندماج الكلي بين عناصر الطبيعة = قسم يتقابل مع الأبيات الأولى " (1-4) أبيات خالية من صيغ التشبيه ، وكأن الشاعر يعمد إلى التشبيهات الكاملة وهو إعادة سنة القدامى التي تقدم صيغ التشبيه على الاستعارة وفي هذا القسم الثري بالصور تتشكل عناصر اللوحة الفنية وتتقابل التشبيهات مع الاستعارات التي أخرجها أبو تمام من معناها البسيط وجعلها إنجازا جماليا من صميم التجربة الشعرية المحركة للعقل والموقظة للخيال .
وعند اكتمال العلاقة بين الزمن والطبيعة يأتي البيت الثامن ليؤرخ اللحظة الساحرة وهنا فقط يصرح الشاعر بكلمة ربيع بعد أن سماه كناية فتصبح اللحظة ناصعة ، ويكرر ذكر كلمة ربيع لأنه قبل هذا التاريخ لم يأت ربيع مثله في كثرة أمطاره ، وخيراته فالممدوح هو الربيع ازدهرت الحياة في عهده وكأن الشاعر يجمد حركة الزمن في الطبيعة والزمن الطبيعي يصبح زمنا تاريخيا يتحدد بذات المعتصم وتتأكد هذه الهوية في التحديد التاريخي الدقيق للزمن الآني بأنه من جهة الممدوح نقطة تاريخية من عهد الولاية .
وقوله "لهنك" هي كلمة تستعمل في القسم ، قال البصريون الهاء بدلا من الهمزة وقال الكوفيون المعنى لله إنك – عبارة تستعمل للتأكيد ويتضمن هذا البيت أول صيغة للتوكيد إلحاحا على تمجيد الربيع والاحتفاء به والصيغة الثانية هي إنما وكأن البيت في أسلوبه الإنشائي يختزل طاقة تأثيرية تتوج عملية التحولات السابقة وتصل إلى قرار يمكن للقصيدة من بعده أن تبدأ حركة جديدة بالانتقال من الحاضر (بيت8) إلى الماضي (بيت9) وفي البيت التاسع تسكن الحركة بالمقابل إلى عنفوانها سابقا وبعد حرارة الاحتفاء بجمال الربيع نرى الحدس بالانقطاع كما تساهم صيغة كأن المكررة في إضفاء معنى التفجع من ذلك فتبدو صور الطبيعة زائلة وجمال الأرض غير خالد وبهجة الأيام تسلب كما تساهم صيغ الأفعال المبنية للمجهول "يسلب" "يعقر" في إبراز قوة خفية تتحكم في الوجود كما نلاحظ عمق أبي تمام في نظرته للوجود ويحدث هذا انشراخا في رؤيا القصيدة التي كانت قد أكدت روعة التحول فإذا بالشاعر يكتشف مأساوية الحياة ومعنى الفناء معنى جديد لم يدركه سابقا وتضطرب حركة القصيدة في البيت العاشر ببروز معادلة منطقية طرفاها سبب ونتيجة عن طريق تمجيد التغير حين يطرأ على عناصر الوجود الأخرى وهذه المقارنة بين تغير الطبيعة وتغير الأشياء بمثابة التأملات في جوهر الوجود وإبراز معنى الحكمة فيه ولذلك ينزع الشاعر نحو الإطلاق وهو تمجيد للزمن له دلالته في قسم المدح إذا يرتبط بصورة الممدوح وهذا التأمل في حكمة الكون لم ينحصر في ذات الشاعر فقد دعا المتقبل ليشاركه في تأملاته فكلمة يا صاحبي دعوة إلى التواصل والنفاذ إلى سحر الوجود وكيف تتم تغييرات الطبيعة عبر الزمن وكيف تحقق اكتمالها إنها دعوة إلى مساهمة المتقبل في متعة الاكتشاف فالإقرار بإطلاقيتها والخروج بها من حدود الذات الفرد . فالصاحبان شاهدان على رحلة الشاعر الفكرية والنفاذ إلى جمال الكون بعدما كانا شاهدين في الشعر القديم على رحلة الشاعر الفكرية والنفاذ إلى جمال الكون بعدما كانا شاهدين على الشعر القديم على رحلة الشاعر وهنا نلاحظ تصرف أبي تمام في عناصر من التراث فالغرض من نداء الصاحبين جدد فيه أبو تمام جعله دعوة إلى مواكب الجمال والسحر واكتشاف أسراره الخفية التي لا تدركها إلا عين شاعرة . وهي دعوة للعيون أن تتعمق شاعريتها فتمجد صورا عديدة تتولد عن بعضها في حركة تحول دائم .
وفي البيت الثاني عشر تتواصل علاقة الاتحاد بين النقيضين : صورة النهار المشمس الذي يحول زهرا الربا إلى يوم مقمر أي خالط بياض الزهر والأنوار بياض النهار وغلب ضوء الشمس فيه فكأنه مقمر لا مشمس أي أن النهار يخضع لتحول جذري فهو ناصع الوضوح لكن وضوحه يلطف بزهر الربا الذي يجلل الأرض فالنهار بإشراقه وبروز الحدود المطلقة فيه تختفي نصاعته وتجلل بغلالة شفافة تذوب فيها الأشياء وتتداخل وتنتفي الحدود ولعل ذروة هذا التداخل أن تكون الصورة الشعرية نفسها تري نهارا زهر الربا تلغي الحدود بين المكان والزمان لأن زهر الربا في الواقع يشوب الأرض لا الزمن فالرؤيا الشعرية ألغت الفواصل .
في البيت الثالث عشر تدخل القصيدة مرة ثانية في لحظة انقطاع الرؤيا الاستمرارية فتوصف الدنيا بأنها قبل الربيع معاش للإنسان يطلب منها رزقه أما عند قدوم الربيع تصبح الطبيعة حضورا جماليا تنشط فيه حاسة الجمال عند الإنسان إلا أن الشاعر جسد معنى الانقطاع عبر التحول الذي هو الرؤيا الجوهرية المتحكمة في القصيدة عن طريق الاستمرار أو الانقطاع .
وهنا يؤسس الشاعر تقابلا بين المتعة الحسية والمتعة الروحية متعة تعلن الاعتراف بهبات الخالق على الإنسان .
في البيت الرابع عشر يتوحد الداخل بالخارج والذات بالموضوع والباطن بالظاهر في صورة مدهشة صورة لرحم الأرض يغطي أزاهير غضة تؤثر في القلوب بجمالها فتنور بدورها وتبتهج ويحدث التكامل في هذا البيت بين الطبيعة والإنسان وتبلغ القصيدة ذروة الوضوح لإجلاء التحولات العميقة وهو تجسيد لثراء الجمال في الربيع وإلحاح على التحام الإنسان بالطبيعة وفي الأبيات 15 – 16 – 17 يبدع الشاعر في تصوير علاقة الإنسان بالطبيعة فتبدو الأزاهير أحداقا مترقرقة بالدمع (صورة الندى) وفي صورة عذراء تبرز تارة وتختفي تارة أخرى فتغيب وهنا نرى ثنائية الحضور والغياب تضاف إلى الثنائيات السابقة هذا التوحد بين الحضور والغياب يخلق عالما ثريا بالغموض يغمر الطبيعة بسحره فيكثف الشاعر التداخل بين عناصر الوجود في اتحاد وهاد الطبيعة ونجادها فهي تختال لأن الربيع ألبسها حلة رائعة فتظهر تقابلية أخرى بين الأعلى والأسفل وتبدو صورة العذراء رمز الجمال الخالص وهي صورة نمطية في الشعر العربي
وفي البيت الثامن عشر يعمد الشاعر إلى الألوان فيرسم إيقاعا تتوحد فيه الألوان فالطبيعة تبدو مصفرة محمرة في اللحظة ذاتها والطبيعة في حالة تحول صورها الشاعر بالعصب جماعة من الخيل وهذه العصب وحدة واحدة لكنها تكتسب صفات متضادة فالشيء الواحد يصبح الأمر ونقيضه بين لحظة وأخرى : تتيمن أي ترفع رايات اليمن وهي صفراء تتمضر أي تحمل رايات حمر .
خيال الشاعر جعله يختار من معجم الحرب ويوحد الحاسة الجمالية ينقيضها وتكتسي الصورة معنى الشدة تتحقق عن طريق تداخل المتعة بالأخرى .
وفي البيت (19) بالطريقة نفسها يتوحد النبات بالحيوان فتبدو الأنوار بلونها الأصفر كالدر قبل التنوير في الماضي ثم ينشق فيخرج نوره الأصفر كالزغفران .
وتعمق الصورة التحول الأساسي في القصيدة ذلك أن النبات فاقع غض والدر يكون أبيض ثم يتحول أصفر بعد تشقيقه تماما كما تنشق الأرض لتتحول البذور الكامنة في أغلفتها إلى نبات منور مزهر فالرؤيا تنبع من التعدد والتداخل والاحتمالات والتحولات : وتأتي الصورة في البيت العشرين من صيغة أو الإبدالية فكان ما هو حاضر هو هذا وذاك لا كائن ثابت متميز يتمازج فيه الأحمر بالأصفر كأن الهواء الذي يمسه يغيره أو النور .
في الجزء الأِخير من القصيدة تشغل صيغ التقريب والإيهام الحيز الكبير وتحلل هذه الصيغ إلى صيغتين تأكيدتين للتعبير عن التمجيد والاحتفاء حقا لهنك الربيع الأزهر – فإنما هي منظر وكلتا الصيغتان ترتبطان بروعة اللحظة الحاضرة والمنظر القائم أي لحظة الثبات المؤكدة التي لا تتغير .
في البيت الواحد والعشرين تتمحور الثنائية الأساسية الربيع زمن المعتصم الإنسان والتواشج الذي بينهما عميق يحتل مركز القصيدة والعلاقة بينهما تلغي كل الحدود الفاصلة في التركيب الهيكلي للقصيدة وهنا خرجت المدحية من نمطيتها إلى بنية تواشجية تغرق فيها المكونات داخل الأخرى وتشع كل منها في اتجاه الأخرى .
ويعتبر هذا البيت تخلصا من الوصف إلى المدح إذ تبدأ حركة جديدة تؤسس ثنائية الله الوجود وثنائية المعتصم الرعية فالشاعر يقرر أن التحول الذي أخرج الطبيعة إلى وجودها الجديد هو من صنع خالق مبدع هو الذي يحول الأخضر إلى أصفر . من الجفاف إلى الخصوبة ومن الجور إلى العدل .
فالتحول دليل على القدرة الإلهية وهو تحول لا من شيء إلى شيء بل تحول في الشيء ذاته عن طريق نمو عنصر جديد فيه وبهذا الفهم يكون الأصفر هو الزهر الوليد الذي ينمو في الساق الخضراء أو الغصن الأخضر ، لقد تلمس الشاعر صنع الخالق في عملية الولادة تخضع لها الطبيعة .
وهنا تخرج الصورة من أحدية المعنى وتشرع للتعدد طلبا للفاعلية الشعرية وتعلن القصيدة في هذا المستوى أن خلق الربيع هو خلق المعتصم وقدرة الربيع على تحويل الطبيعة هي قدرته على تحويل البلاد إلى زمن خصب .
بهذه الصورة تكشف دراسة العلاقات بين الثنائيات التي تكون العلامات الأساسية في القصيدة كنه الفاعلية الشعرية وديناميكية حركتيها عند أبي تمام . وتستقي هذه الفاعلية من تصور الوجود بما هو شبكة من علاقات التشابه والتضاد .
وتمنح حركة التوحد بين الأضداد وتعدد طبيعة الواحد لرؤيا ابي تمام الشعرية خصائص من العمق والطرافة كانت جديدة على الشعرية العربية . والقصيدة كلها ثمرة متشكلة من بذرة الاستعارة عبر إدراك التشابه والتضاد بين الربيع والمعتصم وثمرة متشكلة من بذرة الطباق لأنها تكشف التضاد بين الربيع والمعتصم من حيث دلالة فاعلية كل منهما ومن بذرة الجناس هو أيضا تصور ثنائي يكشف التمايز ولأن القصيدة توحد الربيع بالمعتصم على صعيد اللغة وتميزها في اللحظة نفسها : وفي المذهب الكلامي ينبع من ربط ظاهرتين منفصلتين ربطا جدليا باكتناه مفهوم التحول ودلالاته .
وتكشف كل هذه العلاقات طبيعة الفكر الجدلي المعقد الذي خلق الرؤيا الشعرية عند أبي تمام ساهمت الثقافات في إثرائها وبسبب هذه الجدلية العميقة في تصور أبي تمام للوجود كانت رؤياه حداثة وإبداعا .
إن أبا تمام يضع الطبيعة في هذا الافتتاح الذي قدمه للمعتصم وضعا جديدا يختلف عما عهدناه لدى الشعراء السابقين .
إن القصيدة لوحة كاملة رسمها الشاعر للربيع وأوفى مقدمة جسمت فن أبي تمام في التصوير والتعبير اعتمادا على عناصر تركها السابقون ، فتخطى حجب الزمن ومزج الألوان والأضواء والظلال ولاءم بين الحركة والشكل وربط الطبيعة بالإنسان مما يدل على شاعرية فذة مرهفة إنها باقة من الشعر البديع يقدمها للمدوح ، هذه القصيدة تصور مذهب التجديد عند أبي تمام الذي استوعب الفلسفة والثقافة وعمق الفكر والبديع .
وهي حس رائع بجمال الحياة وريشة بارعة في التصوير ولوحة فريدة للربيع في الأدب العربي .

نفيسة التريكي 10-01-2010 05:33 PM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
والقصيدة – لوحة فنية متكاملة العناصر في وصف تبدل الطبيعة ركز فيها أبو تمام على جمال الربيع موظفا فيها كل الطاقات البديعية مما يعكس إحساسا مرهفا بسر الجمال .


عزيزتي ريم
هذا جهد جنيل يذكر فيشكر ويقدم تراثنا في حلة بهية
ولي عودة

بشرى بدر 12-01-2010 09:22 AM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
الشاعرة المكرمة ريم العيساوي

إيغال في جماليات الصورة عند أبي تمّام و عنصر الحركة

في التصوير عنده أقلّ ما أقول فيه قد أنصف الطائيّ و أبرز

عمق التجديد في شعره ..

كثير شكر لإثرائك الأدبيّ و الجمالي

مودّتي و الاحترام

سلطان الزيادنة 12-01-2010 10:32 AM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
رفد جليل وماتع
الوارفة ريم العيساوي
زادنا الله من علمك
كل الود

راضية الشهايبي 04-03-2010 12:01 PM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
تحية تليق بك ايتها العزيزة على هذا الحفر الفني

ريم العيساوي 12-09-2010 09:51 PM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
عزيزتي نفيسة بارك الله تفاعلك الجميل ، النص بلا قرّاء كالجسد بلا روح لمرورك إغناء للنص تقبلي باقة ياسمين تهديك سلامي.

ريم العيساوي 12-09-2010 09:53 PM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
عزيزتي بشرى لك بستان من الورد كل الشكر على تفاعلك الرافد مودتي وتقديري

ريم العيساوي 12-09-2010 09:55 PM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
الأستاذ سلطان هذا الحضور البهي يسقي دوحة الإبداع فتخصب مودتي وتقديري.

ريم العيساوي 12-09-2010 09:57 PM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
الأستاذ عدنان حماد تقبل باقة ياسمين تعطر حضورك دمت مشرقا مودتي وتقديري.

ريم العيساوي 12-09-2010 09:58 PM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
العزيزة راضية دام إشراقك معطرا هذا الفضاء محبتي الشاسعة.

زياد السعودي 13-09-2010 03:47 AM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
فائدة جمة
تقدمونها
من خلال منجزاتكم الميمونة

كل التقدير لكم

ريم العيساوي 16-09-2010 07:35 PM

رد: صور الطبيعة في شعر أبي تمام – ريم العيساوي
 
الأستاذ زياد زادك الله إشراقا ونعم الرافد أنت ، دمت حاضرا ببهائك الرائع مودتي وتقديري


الساعة الآن 01:50 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط