خرائط
 

‏‫خرائط

يصفف أقلامه و أوراقه الشفافة ، يبسطها على المنضدة وبقربه كوب القهوة الساخن ، متدثرا بمعطفه السميك تاركا قلبي لجليد الأسئلة .

يجيد رسم خرائطه ، يخلق الحيوات من المنحنيات والخطوط المستقيمة ، في أصابعه إكسير اللون ، أراني في مساحاته المرسومة هنا وهناك ، صحارى و غابات ، جبال و وديان ، تلال وسفوح ، سماوات ..و مسطحات مائية .

يَصر قلمه على الورق الصقيل ، المنيع ، الشفاف و المعتم ، وكل أوراقه حية لها أعين و آذان و أفئدة ..

أنا الميتة الوحيدة ، المتصحرة القلب ، العطشى لقطرة ماء نقية .

هذه المرة مللت من مراقبته ، ألقيت سؤالي :

" ألا تمل رسم الخرائط ؟"

تعلق شفتاه نصف ابتسامة ، تعز كلماته و تبقى عيناه الجادتان على طُرق الخرائط الطويلة .

قمت من مكاني / موتي ، العطش يشتد بي رغم البرد ، أسكب لي من الصنبور الباهت ماء باهتا ، تختطفني نظرة من المرآة الأقرب ، أقترب منها ، أقترب أكثر ، أشعر -كما يقول لي - أن لوني يبهت.

قلت له مرة :

" لم يبهت لوني أبدا ، لكن عينيك اعتادت مزج الألوان وظلالها ، فاكتظت بالزهو "

صمت ..

عاودت رمي غيظي :

" وليس لأنك تبرع في رسم الخرائط ، تتهمني بتضييع الدرب "

هز رأسه بالنفي :

" ما من أحد يبرع في رسم الخرائط ، أنني فقط أحاول أن أتقن مسك البوصلة "

نفخت في الهواء ، كان نفخي باهتا .

لوني يبهت فعلا ، المرايا لا تكذب ، ربما تكذب أعيننا ، أو تخلط الاشتهاءات و الأمنيات بصدق الصور ، ربما تخدعنا ذرات زيف على وجهها الصقيل .. لكنها لا تكذب أبدا .

تغضبني الصورة ، أرمي المرآة بكوب الماء ، تنكسر المرآة و ينكسر قلبي .

أتركه و خرائطَه ، أجرّ وحدتي و خوفي ، أعتصم في غرفتي ، أغلق بابي و هاتفي ، تحاصرني صورتي و الأسئلة و رغابي الجُرد .

أستلقي على الأرض ، السقف يحجب بوح السماء ، البلاط يستحيل لطين ، لا أكترث ، لم أعد أكترث ، لقد تهت فعلا وضاع الطريق .

يطرق بابي طرقا حنونا ، يدخل ، أشيح بوجهي ، أقول له :

" لا تضغط علي ، لن تستلبني .. لا تعجبني هذه الخرائط أبدا "

يتجه إلى الشرفة يشرعها لهواء نقي ، يردد:

" لك الخيار طبعا ، ولكن افتحي النوافذ "

يخرج من الغرفة ، أغمض عيني لأغيب في حضرة ذكرى لذيذة.

كنت في الرابعة ، و كنت أعرف أن أمي تخرج كل صباح من بيتنا سيرا إلى الجمعية القريبة ، تؤمن احتياجات المعيشة اليومية ثم تعود محملة بالأكياس و لا تنسى حلواي المفضلة ، حين كانت تخرج من الباب ، كنت أضع كرسيا تحت قدمي لأرتفع فأراها من النافذة ، أتسلى بإحصاء خطواتها إلى أن تذوب في رحابة الطريق، تلك السنة اشتد الغبار ، وكان لابد أن يأخذها أبي في رحلة علاج خارج هذا الجو المربك لرئتها الوحيدة ، فصار الصبح مملا دون رحلة التأمل الجميل عبر النافذة ..

طلبت من الخادمة أن تأخذني لشراء الحلوى ، أخي ، جدتي ، كلهم سوفوني لوقت لاحق لم يأت .

فقررت أمرا !

فتحت باب بيت حصالتي الصغيرة ، و انتعلت حذائي اللامع ، وتسللت إلى الطريق الذي تسلكه أمي ، حتى صار البيت خلفي تماما .

سرت ، و لم أجد الجمعية ، وبدأت أفقد طريق العودة أيضا ، وقفت في مكاني في ذلك الضحى الجهم ، تحجم عني السيارات ، و تتلصص علي القطط الشاردة ، تصاعد طعم ملح غريب في فمي ، وبدأت تغيم الصور .

انعطفت جهتي سيارة ما ، لا أذكر وجه السائق و لا لحن صوته ، فقط أتذكر أني ركبت في المقعد الخلفي ، وتشاغلت بالنظر إلى سجادة حمراء كانت تنام تحت رجلي ، ولما رفعت رأسي ، كنتُ عند باب منزلنا تماما .

يوقظني الآن صوته ، يقرأ :

" بك عرفتك ..و أنت دللتني عليك "

من يفتح لي مغاليق الخرائط ؟و ينتشلني من رحلة التيه ؟

أقوم من ضجيج الذكرى ، أزحف ببطء إليه ، تتناسل خطوطه و ألوانه ، يحرر ابتسامة كاملة ، يقول لي :

" تبدين معافاة مشرقة "

أتأمل الخرائط ، أسمعها تناديني ، أقرؤها أربعين صباحا ، أمسك قلما لأخط الخط الأول .

رد: خرائط
 

رد: خرائط
 

رد: خرائط
 

رد: خرائط
 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمود مليكة http://www.fonxe.net/vb/images/FH_Ab...s/viewpost.gif
المبدعة القديرة تسنيم :

و للوجدان و الشعور خرائط و متاهات تتضاءل أمامها تعقيدات الخرائط المجسّدة المرسومة .

قصّ متميز راوح بين هذه الخرائط و تلك و أرجّح أنه نجح في تحقيق المصالحة و الانسجام بين المادي و المعنوي بعد وحشة و نفور .

بوركت تسنيم و سلمت .



الأديب المكرم
محمود مليكة

كل الشكر على القراءة الملمة لروح النص .
تقديري للعبور السخي .

رد: خرائط
 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة روضة الفارسي http://www.fonxe.net/vb/images/FH_Ab...s/viewpost.gif

اللله ولجت بنا في عالم الوجدان وخرائطها بقصة متقتنة جميلة بارعة

كم اشتقنا لقصك تسنيم أثبت هذا الجمال مع تمنياتي لك بالألق والخير دائما

تحياااااتي

روضة



العزيزة روضة
يتجمل المكان بحضورك
دمت في الخير و التوفيق
خالص شكري ومحبتي .

رد: خرائط
 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أمين خير الدين http://www.fonxe.net/vb/images/FH_Ab...s/viewpost.gif




أديبنا المكرم
أمين خير الدين
حضور أعتز به و أثمنه
كل الشكر والتقدير.

رد: خرائط
 

بانتظار حضرتك
أ عوض بديوي المكرم
وكل الشكر و التقدير

رد: خرائط
 

قصة قصيرة بكل ما تحمل الكلمة من عمق وفنية وسردية محكمة
هذا جانب
ثم الفكرة جد عميقة تبدأ من العنوان ا الحامل الوطن في جوفه وكل تداعيات ما يحدث
الخريطة *** الخريطة هي ورقة الوطن
والعدد أربعين في ضربة الختام ) القفلة = توظيفه جد ذكي وعميق وله في حسابات الزمان حمولة

سيدتي أخرجتنا بهذا النص الذي يستحق الواجهة بحق من صمت المدينة
محبتي وتقديري

رد: خرائط
 

العزيزة فاطمة الزهراء

سخية بحضورك ، و بقراءاتك الـ تصل لروح النص ..لتسكب فيه بعضا من شذاك
شكري و امتناني.

رد: خرائط
 

رد: خرائط
 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمود قباجة http://www.fonxe.net/vb/images/FH_Ab...s/viewpost.gif
راق لنا النص بما فيه من جمال اللغة و روعة الاسلوب


تقديري




شكرا لجميل الحضور
و خالص التقدير.

رد: خرائط
 

رد: خرائط
 

قصة وجدانية
فيها من عمق النقاء وسمو الصفاء
خريطة سرد مشوقة كانت مسافرة في الروعة
حتى حدود مدائن البوح
لك كل الود والتقدير

رد: خرائط
 

قصة جميلة.
لغة مشرفة.
سرد سلس و مشوق
مودتي

رد: خرائط
 

أستاذ أحمد ناصح المكرم
و شكري لحضوركم ..
خالص التقدير .

رد: خرائط
 

الأستاذ المكرم
أحمد الشيخ

و لحضرتك الشكر و التقدير .

رد: خرائط
 

الأستاذ المكرم
عبد الرحيم التدلاوي
حضوركم يكسب النص الثقة .

خالص التقدير .

رد: خرائط
 

سلام الله
انتم اهل لادامة دورة الابداع باطرافها
النص / الناص / المتلقي
شكرا لانكم حققتموها بتواصلكم مع منجزكم
ليواصل منجزكم طريقه نحو ضوء يليق به
ودنا

رد: خرائط
 

نقصّر ..
فشكرا لبيتي الفينيق .

رد: خرائط