۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - الفينيق علي احمد باكثير يليق به الضوء* سلطان الزيادنة
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-09-2012, 09:25 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
سلطان الزيادنة
عضو مؤسس
أكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع الأدبي والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية سلطان الزيادنة

افتراضي

جماليات البناء الفني في مسرحيات باكثير السياسية

د. عبدالحميد سيف الحسامي

يحتلُّ المسرح أهميَّة كبيرة بين الفنون الإبداعيَّة، ومن خِلاله تمكَّن المبدِعون من تصوير الحياة وما يصطرعُ فيها من أفكارٍ، وما يدورُ فيها من أحداثٍ، وقد كان المبدِع علي أحمد باكثير من أكثر المبدِعين العرب إخْلاصًا للفن والقضيَّة، تميَّز بالجرأة المخلصة، والرؤية الثاقبة، والاحتِراف الإبداعي الخلاق، فاكتملتْ مُؤهِّلات الرِّيادة الإبداعيَّة والعَطاء الإيجابي المثمِر، وكانت المسرحيَّات السياسيَّة القصيرة شتلةً من شتلات إبداعه، لها فرادتها المتمثِّلة في القُدرة على مُواكبة الحدَث ورصدِه من الناحية المضمونيَّة، كما لها ميزة الاختزال والتكثيف بحكم المساحة النصيَّة الموجزة التي تحتَوِيها؛ أي: إنَّ قصرَها قد اقتضاه عاملا الزمن والمساحة النصيَّة المحدودة؛ ولذلك كانت هذه المسرحيَّات قمينة بالدراسة العلميَّة المتأمِّلة، وتأتي هذه الدِّراسة لتكون أوَّل دراسة للمسرحيَّات القصيرة، وتأمل أنْ تفتح كُوًى لدراسة تلك المسرحيَّات في تكامُلها، وتعدد زَوايا النظر إليها؛ حيث إنَّ هذه الدِّراسة ستقتصرُ على دِراسة عددٍ من جماليَّات البناء الفني وضِمن عيِّنة محدودة من المسرحيَّات؛ هي: "أضغاث أحلام"، "اهدمي بغداد"، "سأبقى في البيت الأبيض"، "السكرتير الأمين"، "السوق السوداء"، "في بلاد العم سام"، "في سبيل إسرائيل"، "ليلة 15 مايو معجزة إسرائيل"، "نشيد المارسليز".
وحسبُها أنْ تُثِير الأسئلةَ أمامَ الدَّارسين والمهتمِّين بأعمال باكثير.
وتجهدُ هذه الدراسة في تحقيق هدفٍ أساسٍ يتمحوَرُ في تناول جماليَّات البناء الفني في تواشُجها مع البنية المضمونيَّة، وقُدرتها على تحقيق الرؤية الإبداعيَّة للمبدع، وستقومُ على التحليل النصي والمحاورة الودود لنصوص المسرحيَّات؛ لاستكشاف تلك الجماليات.
وهناك دراساتٌ تناولت المسرح السياسي لباكثير أبرَزُها "أدب باكثير المسرحي، الجزء الأول المسرح السياسي"؛ أحمد السعدني، وتناول فيها ثماني مسرحيَّات طويلة، لكن دراستنا تتعلَّق بالمسرحيَّات السياسيَّة القصيرة فحسب، وهو ما لَم يسبقُ إليه دراسةٌ من قبل - على حدِّ علمي.
ولا شكَّ في أنَّ هذه المسرحيَّات فيها من الثَّراء الدلالي ما يجعل الباحث يُعاني صُعوبةً في الانتقاء أو التكثيف، لكنَّنا سنُحاول ذلك قدْر الممكن، وقبل أنْ أُغادر هذه المقدمة يستوجبُ عليَّ أنْ أسدي شكرًا جزيلاً للأستاذ الدكتور (محمد أبو بكر حميد) الذي كان له فضلٌ غامر في تدبير المادَّة العلميَّة وتوجيه البحث لتناول المسرحيَّات السياسيَّة.

جماليات البناء الفني:
"إنَّ رُؤية الفنان المرتبِطة بفِكره وموقفه يُقدِّمها الفنان من خِلال أعماله، ونحن من خِلال أدواته التي يستعملُها نستطيع أنْ نستشفَّ رؤيته ونحكُم عليها؛ ذلك لأنَّ الفنَّ تعبيرٌ في المقام الأوَّل بعد أنْ يتجاوز مرحلة إعادة الخلق"[1].

وقد تعدَّدت الأدوات الفنيَّة التي يُوظِّفها باكثير في مسرحيَّاته السياسيَّة، ومن تلك الأدوات الجمالية التي يتوسَّل بها للتعبير عن رُؤاه ومَواقفه الفكريَّة والسياسيَّة في مسرحيَّاته ما يأتي:
أولاً: تقنية الحلم:
يلجَأُ الأديب "إلى الحلمِ في محاولةٍ تعويضيَّة لما يصعُب تحقيقه في الواقع، ولتحقيق تناوُل رمزي يهدفُ إلى تحفيز وعي الناس وتفكيرهم بالحاجة بأهميَّة التغيير الاجتماعي"[2].

"وعلى الرغم من أنَّه لا يمكن أنْ نعيش التجربة والممارسة بالحلم، فإنَّنا يمكن أنْ نجعل منه مدخلاً للارتباط بالواقع المعيش لغةً وذاتًا ومجتمعًا، ولا معنى للحلم إنْ لم يكن منشبكًا بالتجربة والممارسة"[3].
وتسعى المسرحيَّة من خِلال تقنية الحلم أو الرؤيا المناميَّة إلى سبر أغوار الشخصيَّة بوصْف الحلم منطقة مُتمرِّدة على الرقابة الواعية في نظر المحلِّلين النفسانيين، كما تعدُّ الأحلام لديهم مِسبارًا لقراءة النوازع الكامنة في أعماق اللاوعي؛ حيث تبوحُ الشخصيَّات في أحلامها المناميَّة بما لم تتمكَّن من البوح به في الواقع الموضوعي.
ونجدُ في مسرحيَّة "أضغاب أحلام"[4] توظيفًا بارعًا لتقنية الحلم أو الرؤيا المناميَّة؛ إذ تتَّخذ المسرحيَّة حجرةَ نوم (المستر شرشل) مسرحًا لها، وفي منتصف ليلة من الليالي حيث تفزع ابنته الصغيرة (ماري) من نومها (تصيحُ على سريرها):
أدركوني! أدركوني! أمي.. أبي.
وكانت هذه الصيحة بداية للمسرحيَّة، فقد أخَذ الوالدان باستقصاء أسباب الفزع، فقالت الصغيرة:
لقد رأيت رؤيا مفزعة.
الأب: لا ينبغي لمثلك أنْ تخشى الرُّؤى والأحلام.
الأم: ماذا يا عزيزتي؟
البنت: (تمسح العرق عن جبينها، وتتنهَّد) إنها رُؤيا فظيعة.
الأب: بنت، الدماغ العابثُ اللاهي تجيءُ بها أباطيل الخيال، كما يقول شكسبير.
البنت: كلا يا أبي... لقد رأيت صَرعَى هيروشيما وهم يتعلَّقون بك، كلٌّ منهم يريدُ أنْ ينتقم منك!
الأب: ماذا أوصلك إلى ذلك البلد البعيد؟ لقد صدق شكسبير إذ يقول عن الحلم: "أرقُّ من صافي الهواء، وأشد ذبذبة من الريح التي بينا نراها في الشامل تُداعب الثلج الجميل إذ بها ترتدُّ مغضبة فتلثم في الجنوب فرائد الطل النثير".

إنَّ النصَّ يعتمدُ على الرؤيا المناميَّة سبيلاً لكشْف قضيَّةٍ خطيرة، فكانت سبيلاً لتصوير جِناية (شرشل) ودوره الآثِم فيما أصابَ هيروشيما، وبَيان كيفية أنَّ انتِقام الضحايا قد تحقَّق إن لم يكن في الواقع ففي الحلم.
لو رأيت يا أبي تلك الصورة المشوَّهة كما رأيتها لامتلأ قلبك رعبًا، لقد رأيت كلَّ واحدٍ منهم يوقع بك مثل ما أصابه من جرَّاء القنبلة الذريَّة، فهذا يُشوِّه وجهك تشويهًا فظيعًا، وهذا يسلخ جلدَك كما تُسلَخ البقرة، وآخَر يحفر في عينيك... آه، يا للفظاعة! (تغطي وجهها وتنتحبُ).
ونلحظ أنَّ المسرحيَّة تتَّجه نحوَ تصعيد الصِّراع بنوعٍ من التدرُّج، وهذا التدرُّج - كما يرى باكثير - من شُروط جودة الحوار، إلى جوار معرفة الكاتب بشخصيَّاته[5]، فالكاتب يسيرُ بالحوار مُتدرِّجًا بما يكفل متابعة القارئ دون الإحساس بأيِّ فَجوات، فضلاً عن امتِلاكه خبرة ودراية بدور الشخصيَّات، فهو يُجسِّد دور (شرشل) ويرسمه من خلال الحوار بكلِّ تفاصيله الفكريَّة والنفسيَّة، وقدَّمه بوعيٍ تامٍّ بموقفه في الحرب العالميَّة الثانية، فيكشف بالحوار هسهسة مشاعره، ونبضات فكره.. لحظات الانكسار أمام هتلر، والاهتزاز أمام الرؤيا، وومضات الضمير، وغلبة الجحود والصلف.
وتأتي مرحلةٌ جديدة من مراحل توظيف تقنية الحلم، فلم يقتصرِ الأمر على البنت الصغيرة، بل امتدَّت شرارة الحلم لتُشعِل النار في منطقةٍ أخرى هي أعماق (شرشل) نفسه، ويُعالج كابوسًا مخيفًا؛ إذ يدخُل في تفاصيل حلم ممتدٍّ يُقابل فيه شبحًا مرعبًا تجلَّى له في صورة (هتلر)، ويدورُ بينهما حوارٌ طويل تجلَّى فيه شرشل مستكينًا أمام هتلر يبكي ويتوسَّل:
"يرى شرشل في منامه كأنَّه وُضع في زنزانة، وبينما هو يُفكِّر فيما صار إليه حالُه من الذل والشقاء إذا بوحشٍ مخيف يظهر له... فلمَّا تأمَّله إذا به وجه هتلر".
ويُمثِّل (شرشل) - في حلمه - أمام المحكمة ليتعرَّض لمحاكمةٍ طويلةٍ أمام المدَّعِي العام في محكمة "نورمبرج" ويتكشَّف للقارئ من خِلال الحلم علاقة (شرشل) بالصَّهاينة، كما توضح المرافعة التُّهم المنسوبة إليه من قِبَل المدَّعِي العام الإنجليزي، وحينما يفزع من نومِه وهو يتصبَّب عرقًا، أخَذ يُردِّد: "أضغاث أحلام، لقد دَعاني (يهوذا).. كلا، لست أنا (ونستون شرشل) أنا رجل الإمبراطوريَّة الخالد.. أنا صِهيَوْني.
فالمرافعة تُؤكِّد التُّهمة، ويقومُ هو بالاعتراف، والاعتراف سيِّد الأدلة، ويقول:
كيف لي بالنوم الآن؟ إنَّني أخشى النوم، ويلك يا يهوذا! لا.. لا.. ويلك يا ونستون، نعم ويلك يا ونستون، أهذا ما يُسمُّونه عذاب الضمير؟ أخشى أنْ يصدق ما يقولون، كلا، لا بُدَّ أنْ أبحث عن سِرِّ هذا الكابوس المزعج".
إنَّه يعترفُ بأنَّه يهوذا خائن المسيح، يعترف ويستدركُ بما يُوحي بمدَى التذبذُب النفسي الذي يُعانيه، ومدى عَذاب الضمير الذي يفورُ في أعماقه.
إنَّ لجوء باكثير في هذه المسرحية إلى توظيف تقنية الحلم كشَف لنا عن حَجم المعاناة والقلق النفسي الذي يكتنفُ الشخصيَّة، وحقَّقت هذه التقنية قدرًا كبيرًا من الدَّهشة الفنيَّة، وعلى المستوى الدلالي نقَلت لنا عالمًا يسودُه التوتُّر الداخلي على الرغم من الاستقواء الظاهري، كما أنَّ الحلم جعَل شرشل يُعاين جزءًا من المصير المفترض أنْ يعيشه، وبذلك ينتصرُ من خِلاله للقيم الإيجابيَّة في الحياة، ويسهم الفن المسرحي لدى باكثير في معالجة القَضايا الكبرى في واقعنا، وينهض بمسؤوليَّةٍ جسيمة في تشكيل الوعي.
... إنَّ المثير للدَّهشة في هذا الحلم أنَّ شرشل في لحظتي الحلم - حلم ابنته وحلمه هو - أخَذ يبحث عن سِرِّ تلك الكوابيس، وقد عزا الحلم في المرَّة الأولى لكتابٍ كان موضوعًا على المنضدة عن هيروشيما، ولا شَكَّ في أنَّ لهذا الكتاب دلالته الرمزيَّة، يقول: "سأبين لك الآن سبب هذا الحلم" (يفتش في الكتب الموضوعة على المنضدة بقُرب السرير فيرفع من بينها كتابًا جديدًا عن هيروشيما) هذا هو السر.. هذا هو الضمير الذي تُؤمنين به.
وفي اللحظة الثانية من الحلم أخَذ يُقلِّب الأوراق في مكتبه، ثم استخرج جريدةً يوميَّة فينظُر ويبتسم: هاأنذا كشفت السر.. هذه مقالة برنارد شو عن مجرمي الحرب الألمان الذين شُنقوا أخيرًا.. ويلٌ لهذا الكاتب الأيرلندي اللعين! إنَّ أيرلندا لا يأتينا منها خيرٌ أبدًا... (ويرجع إلى سريره لينام) لا وجود للضمير.. إنَّ هذا صدى هذه المقالة اللعينة، وهكذا نلمسُ الصراع بين الأنا الأعلى والهو، الأنا الأعلى الذي يُمثِّل الضمير والرقيب على تصرُّفات الشخصيَّة، والهو الذي ينزعُ إلى إشباع رغبات الانتقام والهوى...
إنَّ البحث عن سِرِّ رُؤيا المناميَّة قد ارتبط بنزعة نكرانٍ لحقيقة الضمير، ومحاولة التهرُّب من المسؤوليَّة بَيْدَ أنَّ الكتاب والمقالة يعدَّان رمزين مهمَّيْن في سِياق إنتاج الدلالة العامَّة للمسرحيَّة؛ فهما نتاجُ الضمير الإنساني، وشاهِدَا عدلٍ على غِياب الضمير لدى (شرشل) وأضرابه ممَّن اقترفوا الجرائم في حقِّ الإنسانيَّة.
كما أنَّ اشتراك ابنته في الرؤيا يشيرُ إلى عُمق المأساة التي تسبَّب فيها شرشل حتى أضحَتْ همًّا يُؤرِّق الصِّغار قبلَ الكبار، فضلاً عن أنَّ رؤيا الطفلة كانت بوَّابة لاستثارة قلَق أبيها من تلك الصور التي رأتها ابنته في رُؤياها، وكانت مقدمة فنيَّة مثيرة فتَحتْ سلسلةً من التَّداعيات، وسوَّغت الانتقال بالمسرحيَّة من طورٍ إلى آخَر.
ثانيًا: المفارقة:
تتعدَّد تعريفات المفارقة وآراء النُّقَّاد فيها، فتُعرف بأنها: "بنية جمالية هدفها إحداث أبلغ الأثر، تعتمدُ على الانقلاب في الدَّلالة، وإحداث هوَّة بين المظهر والحقيقة، أو بين التوقُّع والحدث، أو بين ما يُقال وما يُنتظر قوله[6].
يقول د. سي. ميويك: إنَّ المفارقة الحقَّة تبدأ بتأمُّل مصير العالم بمعناه الواسع[7]، وقد توصَّل فريدريك شليكل إلى القول: "بأنَّ المفارقة تقوم على إدراك حقيقة أنَّ العالم في جوهره ينطَوِي على تضاد، وأنْ ليس غير موقف النقيضين ما يقوى على إدراك كليَّته المتضاربة[8].
"تظهر المفارقة اللفظية في أبسط تعريفاتها على أنها شكلٌ من أشكال القول، يُساق فيه معنى ظاهر في حين يُقصد معنًى خفيٌّ أو يُخالف غالبًا ذلك المعنى الظاهر"[9].
"يحاول صانع المفارقة أنْ يقدم لمتلقِّيه فهمًا خاصًّا للأشياء التي يتعامَلُ معها؛ أي: إنَّه يحاول بناء نسق ثقافي يُهَيمِنُ فيه على متعلقات المفارقة: لغة وحركة وشخوصًا وصورًا متشكِّلة بوصفها مفردات أساسيَّة تصوغ فلسفته الذاتيَّة"[10].
وقد تجلَّت المفارقة في بنية المسرحيَّات السياسيَّة في مظاهر مختلفة؛ منها ما يتعلَّق بالعَنْوَنة، ومنها ما يتعلَّق بالمضمون العام للمسرحيَّة، ومنها ما يتَّصل بمواقف الشخصيَّات... ومن ضِمن المسرحيَّات التي وظَّفت المفارقة على مستوى العنوان مسرحيَّة "السكرتير الأمين[11]؛ إذ إنَّ المسرحيَّة تُجسِّد موقف سكرتير الأمم المتحدة (المسيو تريجفي لي) الذي يفترض أنْ يقوم بدوره بصفته مسؤولاً أمميًّا يحرص على مصالح كلِّ الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، وينبغي له أنْ يكون على قدرٍ كبير من المسؤوليَّة التي تتناغم وحجم منصبه الذي يشغله، بيد أنَّ المسرحيَّة تكشفُ عبر مشاهدها سُقوط هذا السكرتير في وحل الخيانة، حينما يستقبل الصِّهيَوْني (شرتوك) في غرفةٍ خاصَّة في بيته ليُساومه على المبلغ المطلوب لضَمان موقفه من الصهاينة، يقول (شرتوك):
هذا لطفٌ كبير منك، وإنِّي باسمي وباسم الوكالة اليهوديَّة وباسم المجمع الصَّهيَوْني العام أُقدِّم لك أخلصَ آيات الشكر والامتنان.
السكرتير: (يتنحنح) لعلك يا سيدي جئتني بشيء معك!
شرتوك: لا تعجل يا سيدي، فلم نتحدَّث فيما جئت من أجله بعدُ.
السكرتير: معذرة يا سيدي، حقًّا، ليس من اللياقة ولا الكياسة أنْ أبدأك بهذا، ولكن يشفع لي أنَّنا في هذه الحجرة (مشيرًا إلى الخزانة) انظُر! إنَّني قد أنتظر، ولكن هذه الملعونة لا تنتظر!
شرتوك: أعتقدُ أنها مدينة لنا بنصيبٍ كبير ممَّا تحتويه؛ وأنها لذلك تَثِقُ بنا أكثر ممَّا تَثِقُ بغيرنا، وأرجو ألا يكون صاحبها أقل ثقة بنا منها!
السكرتير: تأكَّد يا سيدي أنَّ ثقتي بك لا حَدَّ لها، أمَّا هذا فيُؤسفني أنَّك أطريتها أكثر ممَّا ينبغي، فهي لا تثقُ أبدًا إلا بالراتب الشهري الذي تضمنه سبع وخمسون دولة، أمَّا ما وراء ذلك فلا تَثِق منه إلا بما قد دخل إليها فعلاً، فهل لك يا سيدي أن تطمئنها أولاً؟
شرتوك: قبل أن نتحدث؟
السكرتير: لِمَ لا؟ سيكون لدينا بعد ذلك متَّسع من الوقت للحديث.. إنِّي قد فرغت لك نفسي كل الليلة وحدك.
شرتوك: حسنًا، يخرج ربطة من الأوراق ويسلمها له...".
إنَّ هذا الحوار يكشفُ بجلاءٍ مستوى التفكير لدَى السكرتير، ويرصد بتفوُّهاته الملامح النفسيَّة والطبائع الأخلاقيَّة التي تسمُه، فهو يَذُوب في المادَّة ويسقط في شرك الصِّهيَوْنية حتى إنَّه لَيعترفُ قائلاً:
واقلَّة حيلتاه! ماذا أستطيعُ أن أصنع ليرضى عنِّي هذا الشعب الحبيب؟
لقد صنعت كلَّ شيء في سبيلكم حتى ليُخيَّل إليَّ أحيانًا أنِّي لست سكرتير الأمم المتحدة، وإنما أنا سكرتير الوكالة اليهودية أو سكرتير الجمعيَّة الصِّهيَوْنية العامَّة، والله لولا خوفي علي مصلحة قضيَّتكم لجهرت بهذا الرأي على رُؤوس الأشهاد، وعلى رغم أنوف العرب، وإنْ كانت نقودهم تصلُ إلى يدي كلَّ شهر"، "أنا لا أقيم وزنًا إلا للمال".
إنَّ المفارقة تكمُن في موقف شخصيَّة السكرتير، فهو أمينٌ على كلِّ الدول بمقتضى موقعه، بَيْدَ أنه يظهر بوصفه أداة طيِّعة في يد أجهزة الصِّهيَوْنيَّة العالميَّة.
إنَّ قراءة العنوان في سِياق علاقته بالنصِّ يكشفُ عن مدى المفارقة بين التسمية وطبيعة الموقف.
وتتجلَّى المفارقة على مستوى الشخصية في مسرحية "سأبقى في البيت الأبيض"[12]، وهي تتضافر مع المسرحية السابقة في دلالتها على دور الأجهزة الصِّهيَوْنيَّة في استقطاب الشخصيَّات العالمية والمؤثِّرة في السياسة الدوليَّة لخِدمة مصالحها، لكنَّ هذه المسرحيَّة تتناول ذلك من خِلال شخصيَّة (تروفول) الرئيس الأمريكي الذي يدورُ بينه وبين بنيامين (الشخصية الصِّهيَوْنيَّة) حوار طويل يؤكِّد مدى تشبُّثه بالبيت الأبيض مهما كان الثمن، يقول بنيامين:
ليس لأحدٍ أن يبقى رئيسًا مدى الحياة.
فما بال فرنكلين روزفلت قد انتُخب ثلاث مرات؟ ولو لم يأخُذه الموت من طريقي لانتُخِب مرَّة رابعة، فخامسة، فسادسة.
ليس كل الرؤساء مثل روزفلت.
ماذا في روزفلت.. ذلك العاجز المشلول.
ذلك الشلل كان سرَّ قوته.
يبدو لي أنَّك على حقٍّ يا بنيامين، فما كان له من ميزة سوى ذلك، ليت شعري أمَا من سبيل لإصابتي بالشلل؟!
فكأنَّ بنيامين يرى أنَّ شلل روزفلت هو الذي كان يدفع الأمريكيين إلى التعاطُف معه؛ ومن ثَمَّ أعادوا انتخابه مرارًا، فالشلل إذًا سرُّ قوَّته - كما يرى - وفي رؤيته غضٌّ من شأن روزفلت، وتهوينٌ من قوَّته وقيامها على سماتٍ شخصيَّة فيه، وتروفل تبعًا لذلك يوافقه، ويتمنَّى لو وجد سبيلاً لإصابته بالشلل حتى يبقى رئيسًا في البيت الأبيض، وحينما أُصيب تروفل بشللٍ مُؤقَّت في ذراعه، وجاءه الطبيب قال:
نعم يا سيدي الرئيس، اطمئنَّ يا سيدي، سأعطيك علاجًا يزيلُ هذا الشلل كله خلال يومين.
كلا.. لا تزل هذا الشلل، أريد أنْ أبقى هكذا مشلولاً، لقد اطمأنَّ قلبي الآن سأبقى في البيت الأبيض مدى الحياة.
إنَّ المفارقة تجعَلُنا نقفُ على مستوى التفكير والتعبير لدى زُعَماء أمريكا، وكيف تغدو الإصابة بالشلل أمنية من خِلالها يتمُّ البقاء في البيت الأبيض، بل يغدو الشلل سرًّا من أسرار القوَّة، إنَّ شلل الرئيس الأمريكي مُعادل موضوعي لشلل القرار الأمريكي عُمومًا شلل في الإرادة والقرار المستقل، فالولاء للصِّهيَوْنيَّة العالمية ضرورةٌ تُقدَّم على كلِّ أولويَّات السياسة الأمريكيَّة، لقد كان لدى الرئيس الأمريكي (ترومان) موعد مع مجلس الوزراء لمناقشة أمور الدولة، بَيْدَ أنَّ (بنيامين) يَدعوه لحضور حفلةٍ في الجمعيَّة الصِّهيَوْنيَّة فقد إجابة تلك الدعوة على موعد مجلس الوزراء، يقول: (بنيامين):
الحفلة لبحث مسألة هامة ومستعجلة يتوقَّف عليها مصير الشعب اليهودي بأسْره، كما يتوقَّف عليها مصيرك في الانتخابات القادمة".
فالنَّجاح في الانتخابات القادمة لا يتوقَّف على مدى التصويت الشعبي الحقيقي، بل إنَّه يتحقَّق من خلال التبعيَّة الكاملة للُّوبي الصِّهيَوْني.
كما نجدُ مفارقةً أخرى في النصِّ إذ يتبرَّم الرئيس ترومان من دُخول أحد أعضاء مجلس الشيوخ لديه، بينما يفتح صدره وكلَّ جوارحه في الإنصات واستِقبال الصَّهاينة والقضاء معهم وقتًا طويلاً.
"ماذا تنتظر.. اذهب فقد مضى ربع ساعتك.. لقد أخذت من وقتي دهرًا".
ومن المسرحيَّات المبنيَّة على المفارقة مسرحيَّة "نشيد المارسيليز"[13]، فهي من عنوانها تشيرُ إلى نشيد فرنسا، رمز التحرُّر والعدل والمساواة، بَيْدَ أنَّ الإمعان في تفاصيل المسرحيَّة يكشفُ عن المفارقة المهولة؛ حيث إنَّ المسرحيَّة تقوم على فكرة دعوة أحد النُّوَّاب لزميله للمبارزة بسبب قِيامه بلطمه أمام الناس في المجلس النيابي، وحينما علم وزير المستعمرات بذلك فكَّر وقدَّر في مخرجٍ يَقِي هيبة فرنسا من السقوط أمام أبناء المستعمرات؛ فكلَّف جنديين أحدهما مغربي والآخَر هند صيني، على أنْ يدعيا باسمي النائبين (مارماريه) و(دي موتان)، ومَن قتل منهما فعلى سميِّه أنْ يتوارى عن مسرح الحياة في باريس... واعتقد أنَّ في ذاك مخرجًا مناسبًا، بَيْدَ أنَّ الجنديين أفشلا هذا المخطَّط حينما صاحَا في الميدان:
"في وسعكم أيها الفرنسيون الجبناء أنْ تقبضوا عليَّ وعلى أخي وزميلي هذا وتخمدوا أنفاسنا إذا شِئتم، ولكنَّكم لن تستطيعوا أنْ تخمدوا نيران الثورة التي تتأجَّج في صدور المغاربة والفيتناميين وغيرهم ممَّن تدعونهم عبيدًا وهم الأحرار وأنتم العبيد".
حينها لم يجد الوزير بُدًّا من أنْ يأمر النائبين:
هيا تقدَّما إلى الميدان وأنقذا سمعه فرنسا.
هتافات: يحيا أبناء فرنسا البواسل، تحيا فرنسا الباسلة، وحينها يُعطي الوزير إشارة البدء.
يغمض المتبارزان عيونهما ويطلقان في الهواء يترنحان ويسقطان مغشيًّا عليهما.
الوزير: أيها السادة، ترحَّموا على النائبين الفرنسيين الباسلين (مارماريه) و(دي موتان)، لقد سقطا شهيدين في ساحة الشرف، ولتحي فرنسا (يترنَّم الجميع بنشيد المارسليز).
إنَّ هذه المسرحية تقومُ على المفارقة من عدَّة نَواحٍ: الناحية الأولى تتمثَّل في مَدى الجبن الذي يتمتَّع به الفرنسيون في اللحظة التي يتظاهرون فيها بالشجاعة والإقدام، فحينما نزل النائبان إلى الميدان خرَّا مغشيًا عليهما، والناحية الثانية - وهي الأهمُّ - أنَّ فرنسا رائدة الحريَّة والعدل والمساواة تتجلَّى من خِلال المسرحيَّة بصورةٍ عكسيَّة؛ إذ تستعبدُ الشعوب وتُفرِّق بين البشر، بل تُقدم جنود المستعمرات للموت في سبيل الحِفاظ على ماء وجه فرنسا؛ لكيلا يراق أمام الناس، في مشهدٍ بئيس يُبرهِنُ على مدى الهوَّة السحيقة بين الشعارات المرفوعة والواقع العملي، والعجيب أنَّ الجميع يُردِّد نشيد المارسيليز في مشهدٍ مفارق وساخر في اللحظة التي يسقُط فيها النائبان.
ومن المسرحيَّات التي بُنِيت على المفارقة مسرحيَّة "السوق السوداء"[14]، وهي تدورُ في جوهرها حول العلاقة بين المستعمِر الفرنسي وأبناء المستعمَرات، تتمَحْوَرُ حول استِدعاء رئيس لجنة الإسعاف التونسية (مختار) ومحاكمته بتُهمة الاتِّجار بالحبوب، وتزوير أوراق رسميَّة، وابتزاز بعض الأموال التي جمعها من الأهالي باسم لجنة الإسعاف.. ولمن يكن مختار سوى رئيسٍ للجنة خيريَّة لإغاثة المنكوبين، وفي الواقع كان المستعمِرون الفرنسيُّون هم الذين يخزنون الحبوب ويبيعونها في السوق السوداء بأسعارٍ مضاعفة... بَيْدَ أنَّ المحكمة حكَمتْ على مختار بغَرامة قَدْرها مليونا فرنك وعشر سنوات سجن مع الأعمال الشاقة، وكان (الكعاك) رئيس الوزارة يهتفُ: تحيا فرنسا العادلة، تعيش أمُّ الحريَّات...
ويمكن أنْ نضيف إلى المسرحيَّات المبنيَّة على المفارقة مسرحيَّة "في سبيل إسرائيل"[15] التي تدورُ في قاعة المحكمة بلندن؛ حيث تنعقد المحكمة لمحاكمة المتَّهم الذي هتف بسُقوط بريطانيا، لكنَّ المرافعة تكشف عن أنَّ هتافه كان بسُقوط بريطانيا؛ لأنها سحَبتْ جنودها من القنال، بل إنَّ (اللورد دايمري) يقول:
يا حضرات المستشارين، لو أنَّ المتَّهم هتف بحياة بريطانيا وسقوط إسرائيل لكان في رأيي يستحقُّ عقوبة الإعدام".
وتختم المسرحية بالحكم على الشاهد بالإعدام شنقًا بتهمة الخيانة، وهل هناك مفارقةٌ أبلغ من هذه المفارقة؟ بل هل هناك أسلوب أقدر على التعبير عن هذه السياسة البريطانية المتحيزة للصهاينة حتى على حساب نفسها من هذا التعبير؟
إنَّ باكثير يقوم بتوظيف المفارقة لتجسيد الواقع الكائن ومحاكمة نقائصه، وتسجيل كلِّ مظاهر الانحِراف فيه لأنَّ المفارقة قادرةٌ على الإدهاش الفني من ناحية، وتضمرُ قدرًا من السخرية اللاذعة التي تنهض بأداء الدلالة من خلال المشهد العكسي.
ونجد أنَّ المفارقة جسَّدت طبيعة علاقة الدول - التي تدَّعي التحضُّر والتقدُّم - بالشعوب الأخرى، وشخصت علاقة الغرب "أمريكا - بريطانيا" بالصَّهايِنة.
ثالثًا: المشهد الغرائبي:
إنَّ التأمُّل في المسرحيَّات السياسيَّة القصيرة يُبرز مدى نُزوعها نحو الواقعيَّة والالتزام بتجسيد قضايا المجتمع، ويمكن تصنيفها ضِمن المسرح الواقعي، بَيْدَ أنَّ باكثير لا يتعامَلُ مع مسرحيَّاته تعامُل الراصد المسجِّل للحادثة التاريخيَّة الحريص على إيصال الفكرة الداعية لمبدأ أو قيمة مُعيَّنة دون العناية البليغة بفنيَّتها، فنحن نجدُ لديه وعيًا نقديًّا بمهمَّة المسرحي؛ إذ يقول: "هل يصلح أنْ يكون الكاتب المسرحي داعيةً لفكرة خاصَّة؟ وهل يمكن لمثْل هذا الكاتب المسرحي الذي يستوحي موضوعاته من حماسته المتوقِّدة لهذه الفكرة أنْ ينتج مسرحيات تُعتَبر أعمالاً فنيَّة؟ ويجيب عن هذا السؤال ويخلص إلى أنَّ "على هذا الكاتب أنْ يجعل الداعية فيه خادمًا للفنَّان المسرحي فيه لا سيِّدًا له، وإلا فليتَّخذ أداةً أخرى غير الكتابة المسرحيَّة؛ كالخطابة أو الصحافة"[16].
وحينما نقرأ المسرحيَّات السياسيَّة نجد أنها مخصبة بجماليَّات فنيَّة تضمَنُ لها قدرتها على الإثارة واستهواء القارئ وإيقاعه في شرك فِتنتها المغرية وإغرائها الفاتن، ومن المشاهد الغرائبيَّة التي وردت في مسرحيَّاته ذلك المشهد الذي ورَد في مسرحيَّة "أضغاث أحلام".
شرشل يرتعدُ ويصيحُ بعد أنْ نطق رئيس الجلسة بالحكم: كيف تحكمون عليَّ بالشَّنق قبل أنْ أُدافع عن نفسي؟
يتعالَى الضَّحِكُ هُنَيهة ثم ينقطعُ فجأةً؛ إذ ظهر من سقف القاعة شبحٌ نوراني يهبطُ رويدًا رويدًا حتى يقفَ قريبًا من المنصَّة.
أحد القسيسين (ينهضُ وينادي): هذا السيد المسيح قوموا لسيدكم المسيح.
ينهض الحضور جميعًا ويقفون صامتين وكأنَّ على رؤوسهم الطير.
الشبح بصوتٍ هادئ رزين.. "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرَّة.. اجلسوا بارك الله فيكم (يجلسون).
شرشل: يصيحُ مشيرًا إلى الشبح: هذا مفتي فلسطين! هذا الذي يستحقُّ الشنق.
(الحاضرون يصيحون في وجهه): اسكت اسكت، ويلك! هذا السيد المسيح.
شرشل (صائحًا بأعلى صوته): كلا، أليست لكم أعين تُبصر؟! انظروا إلى وجهه هذا مفتى فلسطين، هذا عدوُّ اليهود وعدوُّ بريطانيا اللَّدود.
الشبح (يتهيَّأ للكلام فيسكت الجميع) أجلْ يا يهوذا، أنا حامي فلسطين، ما عاديت اليهود، وإنما اليهود هم الذين عادوني؛ لأنِّي أحمي فلسطين، وما عاديت بريطانيا، وإنما بريطانيا هي التي عادَتْني؛ لأنِّي نصرت شعبي، شعب فلسطين...".
إنَّ هذا المشهد الغرائبي تمكَّن من كسر رتابة المسار الحواري في المسرحيَّة، وحقَّق عددًا من الوظائف الفنيَّة أبرزها: تمكين المسرحيَّة من النموِّ والانتقال إلى مرحلةٍ جديدة من مراحل الصراع داخل النص، وإضافة شخصيَّة جديدة غيَّرت مسار المرافعة ضد (شرشل)، لقد كادت المسرحيَّة تستنفدُ طاقتها في الدلالة بإعلان الحكم على تشرشل، لكنَّ المشهد الجديد بعَناصره الفنيَّة فتَح كُوًى جديدة في مَسار السرد، كما أنَّ هذا المشهد قد حقَّق إدهاشًا تجسَّد في تعدُّد وجهات النظر في تفسير حقيقته، فهو السيد المسيح في نظر القسيس، وهو مُفتي فلسطين في نظر شرشل، وهذا التعدد حقَّق الإدهاش ومكَّن الدلالة من النماء؛ فهو المسيح في حقيقته، وهو المفتي في مظهره؛ وبذلك فإنَّ المسرحيَّة تستدرج الدلالة لتأكيد وحدة القضيَّة لدى الإسلام والمسيحيَّة، لقد كشف الشبح النوراني عن هويَّته:
"لقد صدق يهوذا.. إنَّ مفتي فلسطين هو أحد أبنائي البررة، وقد قضى زهرة شبابه في الجهاد لحماية وطني الأرض المقدَّسة من الدنس الصِّهيَوْني؛ ولهذا ظهرتُ لكم في صُورته تكريمًا له...".
وبذلك تُؤكِّد المسيحيَّة الحقَّة براءتها من تشرشل وكلِّ مَن هم في حكمه؛ إذ تلصق به صفة الخيانة حين يدعوه السيد المسيح بـ"يهوذا"، ويُعزِّز هذه الدلالة أنْ كان التصريح على لسان المسيح نفسه وأمام المحكمة التي أقرَّ فيها تكريمه لمفتي فلسطين الرامز لكلِّ المدافعين عن قداسة الأرض المقدسة، ويطلب السيد المسيح من المحكمة إطلاق سراح (شرشل) قائلاً:
أطلقوا سراح هذا المذنب؛ لعله يكفر بالذهب يومًا، ويؤمن بالله، إنَّ خير عقاب لمثله أنْ يُترَك حيًّا؛ لعله يحسُّ يومًا بتأنيب الضمير!".
وهكذا نلمَسُ مقدار الثَّراء الدلالي والرمزي الذي حقَّقه توظيف هذا المشهد الغرائبي الذي تمكَّن من خلاله من استدعاء شخصيَّة المسيح من الذاكرة التاريخيَّة لتمثل شاخصة بهيئتها أمام المحكمة لتكون شاهدًا على الحاضر المعيش.
وهناك مشهد غرائبي آخَر تَمَّ التوسُّل به في مسرحيَّة "معجزة إسرائيل"[17].
تدخُل جولدا ميرسون تحمل الطفل وقد كُسي ثوبًا عليه شارة إسرائيل، والطفل يضطرب كأنما يحاول التملُّص من يدها.
جواتيمالا: (تهتف) سلامٌ على المسيح المنتظر (يدنو منه ليقبله)، أهذا ابني من صلبي! لا شكَّ عندي في ذلك.
الطفل: (يلطمه لطمة قويَّة)، لا أقام الله صلبك، إليك عنِّي يا داعر!
جواتيمالا: (يتقهقر عنه) أسمعته يا مونسينور كيف نطق، إنَّه لطمني تدليلاً لي لأنِّي أبوه الحقيقي!
المندوب: يرسم علامة الصليب؟
العم سام: أنا أوَّل مَن اعترف به قبل الإنس والجن (يدنو منه ليُقبِّله).
الطفل: (يفقأ بإبهامه إحدى عينيه، لا تلمسني أيها الخنزير القذر).
إنَّ الطفل الذي قدَّمته راشيل على أنَّه مولودها؛ ليُباركها العم سام والمندوب السامي وجواتيمالا كان مُحيِّرًا لهم، حتى إنَّ الدب الأحمر فسَّر قُدرته على الكلام بقوله: ربما ركب في جهاز فوتوغرافي سري من صُنع أحد العلماء الأمان الذي استولى عليه جنبول".
بَيْدَ أنَّ الطفل يقول للمندوب:
أيها الأب الصالح، إنِّي لست ابن هذه اليهوديَّة العاهرة".
راشيل: (تصيح) احمله يا جولا، أبعِدْه من هنا.
المندوب: دعينا ويلك نسمعه.
الطفل: ولست مسيح اليهود الكاذب، ولست طفلاً صغيرًا يتكلَّم في المهد...
جواتيمالا: لقد بدأ الطفل يخرف.
الدب الحمر: اسكُت ويلك... دعه يتمُّ حديثه.. لقد أوشك سرُّ المعجزة أن ينكشف!
الطفل: ولدت منذ ثلاثين سنة من أبٍ عربي مسلم وأمٍّ عربيَّة مسيحيَّة فاختطفني...
جونبول مقاطعًا: أتُصدِّقون مثل هذا المحال؟ أين ذهبت عقولكم؟!
الدب الأحمر: اسكت.. اسكت...
الطفل: فاختطفني جونبول هذا بعدما قتل أبوي ثم قمطني فمنع جسمي من النمو فبقيت كما ترَوْن.. وجاء بهذه العاهرة ففتَح لها الماخور في هذه الأرض المقدَّسة أرض آبائي وأجدادي (يجهش باكيًا).
إنَّ هذا المشهد حافلٌ بالإثارة، يمزج فيه الفنان باكثير الخيالَ بالواقع، والصريحَ بالرمزي، والرُّؤية المؤدلجة بالمهارة الفنيَّة الحاذقة، لقد جعل هذا المشهد الغَرائبي المتلقِّي يعيشُ حالة من الترقب لإدراك حقيقة الطفل الذي يتكلَّم في المهد، ومثلما التبست في صُورة الشَّبح النوراني هيئة المسيح بالمفتي التبست هنا صُورة الطفل الموعود بصورة المسيح الذي تكلَّم في المهد.
وأثار هذا المشهد الغرائبي شهيَّة المتلقي لإدراك سرِّ الطفل، وجعَلَه يترقَّب لإدراك حقيقة الطفل الذي يتكلَّم ويقوم بتصرفات مختلفة؛ لطم جواتيمالا، وفقأ عين سام، وتكلم في المهد، إنَّه الطفل الرجل والرجل الطفل، لكنَّ الطفل يكشفُ عن عمليَّة التقميط التي قام بها المندوب، وهي تعبير رمزي عن اغتيال المشروع العربي الإسلامي للاستقلال، في فلسطين، وهي التي عاقت نموَّه، ولم يكتفِ المندوب بعمليَّة التقميط، بل أراد نسبة الطفل لراشيل ليكون هو المولود المزعوم.
لقد نجحَ الكاتب في إضفاء الالتباس والتداخُل في صورة الطفل، كما نجَح في فكِّ ذلك الالتباس بمهارةٍ فائقة، وكشَف عن حقيقته على لسانه كما كشَف عن حقيقة الشبح النوراني على لسانه أيضًا وجعَل كلاًّ منهما يظهرُ الحقيقة التي يرومُ الكاتب أنْ يبرزها في سياق مسرحيَّته، إنَّ المسرحيَّة تكشفُ عن ولادة إسرائيل في "ليلة 15 مايو"[18]، وقد نُشرت المسرحية في 13/6/1948م؛ أي: في فترة زمنيَّة وجيزة لا تتجاوز ثمانية وعشرين يومًا من إعلان دولة الكيان الصِّهيَوْني؛ ممَّا يعني مواكبة الكاتب للحدَث وقدرته على تجسيده في سياق فني ودلالي مُكثَّف ومتميز.
ونشير إلى أنَّ فكرة الطفل المقمط قد برزت وتبلورت ذواتها في مسرحيَّة "ليلة 15 مايو" التي نُشِرت في يوم 30/5/1948م؛ أي: قبل نشر مسرحيَّة معجزة إسرائيل بثلاثة عشر يومًا، بَيْدَ أنَّ باكثير لم يحرز نجاحًا في توظيفه كما أحرزه في مسرحية "معجزة إسرائيل"؛ إذ أفلت الرمز من يديه، وأسلم الحوار للحقيقة الواقعيَّة عاريًا من الترميز، وكأنَّ مسرحيَّة "معجزة إسرائيل" كانت استِدراكًا لما فاته في مسرحيَّة "ليلة 15 مايو"، وحِرصًا منه على استثمار الطاقة الدلاليَّة للرمز.
ويمكن الإشارة إلى أنَّ الطفل قد توسَّل للمندوب بألا يسلمه لراشيل ولا للدب الأحمر ولا للعم سام ولا لجنبول، قائلاً:
إيَّاك أنْ تسلمني لهذا الخائن المنافق، سلِّمني لأحد أعمامي، أتوسَّل إليك.
ويتنبَّأ الكاتب بنهاية إسرائيل بقوله على لسان المندوب:
إنِّي أشمُّ رائحة العذاب، بنجوريون يلهث من الحقد: لن ينزل العذاب إلا على أعداء إسرائيل، على مكة وروما، نحن شعب الله المختار، سيحمينا إله إسرائيل ويهلككم أجمعين، يسمع أزيز الطائرات ثم دوي القنابل.
راشيل: (تفيقُ من غيبوبتها): ما هذا يا جولدا؟ ما هذا يا بنجوريون؟
احملوني إلى المخبأ.. احملوا مجد إسرائيل (يحملان راشيل وابنها إلى المخبأ ويخرجان بهما).
رابعًا: التناص:
تحفل مسرحيَّات على أحمد باكثير بوفرة النصوص التي قام باستدعائها وتذويبها في مسرحيَّاته، وقد تنوَّعت تنوُّعًا كبيرًا بين نصوص مقدَّسة قرآنيَّة وإنجيليَّة، وبين نصوص أدبيَّة مسرحيَّة وشعريَّة وأمثال، وغير ذلك كما سنُبيِّن في إشارات سريعة:
التناص مع القُرآن: ومن ذلك ما ورد في عنوان مسرحية أضغاث أحلام فهو تناص مع قوله - تعالى - في سورة يوسف: ﴿ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ﴾ [يوسف: 44].
وورد في الحوار الذي دار في الأمم المتحدة بخصوص إعلان دولة الكيان الصِّهيَوْني، على لسان تركيا:
"هذا الاتِّفاق لا يمكن أنْ يقوم؛ لأنَّه وقع على باطل صريح أملَتْه الغباوة من أحد الجانبين والخديعة من الجانب الآخَر، وسيصلي الغبي بنار صاحبه وشيكًا فيندم ولات ساعة مندم"[19].
فالتناص مع القرآن في قوله: وسيصلى الغبي بنار صاحبه، فهو تناص مع قوله تعالى: ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾[المسد: 3].
ومن التناص مع القُرآن ما ورد في مسرحيَّة "اهدمي بغداد"[20] التي تمحورت حول معاهدة بورتسموث ومظاهرة العراقيين ضدها، يقول قائد المتظاهرين: إنَّ الإنجليز عدوُّكم الأوَّل مهما تنوَّعت أساليبهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار، ويقول صالح جبر مخاطبًا نوري السعيد: ويلك! أتريد أنْ تكون مثل الشيطان إذ قال للإنسان: اكفر، وفي هذا تناص مع قوله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحشر: 16].
وفي مسرحيَّة "سأبقى في البيت الأبيض" يقول على لسان بنيامين ردًّا على الرئيس الأمريكي حين قال:
لعنةُ الله على هتلر؛ أراد إبادة اليهود ولكن اللعين أخفق.
بنيامين (يتغيَّر وجهه) يؤسفني يا سيدي أنْ أجد في لحن قولك ما يشعر بأنَّك تود لو نجح"[21]، وهذا يتناص مع قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30].
ومن التناص مع التراث المسيحي: قول الشبح الذي هبط بصورة السيد المسيح يقول: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرَّة"، وهي مقولة دالَّة، ولا سيَّما في مسرحيَّة "أضغاث أحلام" التي تناولت الإشارة لأهوال الحرب العالميَّة الثانية، والفظائع التي تمخَّضت عنها، فهي تذكير بحقيقة المسيحيَّة، وأنها سلام ومحبَّة؛ ممَّا يتعالق تعالقًا ضديًّا مع مضمون المسرحيَّة.
التناص مع التاريخ:
إنَّ التاريخ عند باكثير "معرض للنقد، وهو ليس حريصًا على الصِّدق التاريخي في أعماله بقدْر حِرصه على الصدق، وهذا هو المطلوب من الفنَّان وليس حِرصه على التاريخ إلا بالقدر الذي يتيحُ له استخدام التاريخ استخدامًا دراميًّا"[22].
ومن التناص مع التاريخ الإسلامي يقتنصُ الكاتب في مسرحية "أنا أبو بصير"[23]، تلك اللحظة التاريخية في السيرة النبويَّة عقب صُلح الحديبية؛ إذ خرج أبو بصير وأبو جندل لمهاجمة القرشيين حينما ردَّهما الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - التِزامًا ببنود الصلح... وحاوَل باكثير إسقاط الشاهد التاريخي على الحادثة المعاصرة المتعلِّقة بمهاجمة البريطانيين".
والتاريخ عند باكثير منبعٌ يأخُذ منه، ولكنَّه قابلٌ للنَّقد"[24].
ومن توظيف الشعر قوله[25]: للناس فيما يعشقون مذاهب، وهو عجز بيت لأبي فراس الحمداني من قصيدة مطلعها:
أَبِيتُ كَأَنِّي لِلصَّبَابَةِ صَاحِبُ
وَلِلنَّوْمِ مُذْ بَانَ الخَلِيطُ مُجَانِبُ

يقول:
وَمِنْ مَذْهَبِي حُبُّ الدِّيَارِ لأَهْلِهَا
وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ

كما نجد تناصًّا مع مسرحيَّة شكسبير[26]: "يقول شرشل لابنته بعد أنْ قصَّت رؤياها:
الأب (يضحك) هيروشيما! ما الذي أوصلك إلى ذلك البلد البعيد؟ لقد صدق شكسبير إذ يقول عن الحلم: أرقُّ من صافي الهواء، وأشد ذبذبة من الريح التي بينا نراها في الشمال تداعب الثلج الجميل إذا بها ترتدُّ مغضبة فتلثم في الجنوب فرائد الطل"، وقبل ذلك يقول عن الرؤيا نفسها:
بنت الدماغ العابث اللاهي تجيءُ بها أباطيل الخيال" كما يقول شكسبير.
ونلحظ أنَّ الكاتب لا يقحم النص على سياق مسرحيَّته، بل يأتي به في اللحظة المناسبة ليُحقِّق دلالة كأنَّ السياق كان ينتظرها، وتتلاءم مع الشخصيَّة بشكلٍ دقيق.
كما يتناصُّ مع السينما العالميَّة في أحد حواراته؛ إذ يذكر (شرشل) في الحوار بين (تريفول) و(بنيامين)[27]:
إنَّ الناس يَعبُدونه هناك كما يَعبُدون شبيهًا له في المنظر والشكل يرَوْنه في الأفلام الأمريكيَّة.
مَن هو؟
الممثل الهزلي (هاردي).
هاردي؟ (يندفع في قهقهةٍ عصبيَّة) هاردي.
نعم؛ إنَّهم يضحكون عليه كما تضحك عليه الآن...
لقد خشي أنْ يقرنوه إلى (شرشل) فتكتمل الصورة الساخرة للممثِّلين الهزليين (لوريل وهاردي)، يقول:
أخشى أنْ يقرنوني إلى (شرشل).. لا أريد أنْ أكون لوريل.
إنَّ لجوء الكاتب إلى التناصِّ ليس لجوءًا اعتسافيًّا، بل تقتضيه دلالة السياق، ويكشفُ عن ثَراءٍ ثقافي لدَى الكاتب، ثراء في الثقافة التراثيَّة، وثَراء في الثقافة المعاصرة سياسيَّة وفنيَّة، وخبرة عميقة بثقافة شخصيَّاته؛ لأنَّه لا يكتب لنا نصًّا شعريًّا، بل يكتب نصًّا مسرحيًّا يتقمَّص شخصيَّاته، ويتناغم مع ثقافتها، وذلك ليس يسيرًا إلا على فنان مثقَّف، ومثقَّف فنان.

سادسًا: تنويع الحوار:
"يُعتبر الحوار من أهمِّ عناصر التأليف المسرحي؛ فهو الذي يُوضِّح الفكرة الأساسيَّة ويقيم بُرهانها، ويجلو الشخصيَّات، ويُفصح عنها، ويحمل عِبء الصِّراع الصاعد حتى النهاية، وهذه المهمَّة يجب أنْ يضطلع بها الحوار وحده، ولا يعتمد في شيء من ذلك على الشروح والتعليمات التي يضعها الكاتب بين الأقواس، فهذه إنما توضع لمساعدة المخرج على فهم ما يريد الكاتب ممَّا هو مستكنٌّ داخل الحوار، لا ممَّا هو خارجه"[28].
ومن خِلال النص السابق نجد أنَّ باكثير يمتلك وعيًا عميقًا بصَنعته؛ فهو يعرفُ متى يجعل الحوار خارجيًّا ومتى يجعله حوارًا نفسيًّا داخليًّا بما يكفل إيصال الفكرة وتحقيق الإثارة، يقول في مسرحية "معجزة إسرائيل"[29] عن حادثة ميلاد (راشيل) وأنَّ مولودها سيكون معجزة:
الدب الأحمر: آمنوا به إنْ شئتم، أمَّا أنا فلست خرافيًّا مثلكم.
بنجوريون: لقد شهدت المعجزة بعينك.
الدب الأحمر: سيكشفُ الفحص العلمي سرَّ ذلك عمَّا قريب.
فالحوار الخارجي يكشف عن الهوية الأيدلوجيَّة للشخصيَّة، ورؤيتها للحياة وتفسيرها للظواهر، فالاتحاد السوفيتي - المرموز له بالدب الأحمر - ينطلق في رؤيته للحياة من الرؤية الماديَّة؛ فيجحد الغيبيات، والحوار هنا يكشفُ عن هذا البعد؛ حيث يرى أنَّ الفحص العلمي - ولا شيء سواه - سيكشف سرَّ ذلك.
ولو تعقَّبنا الحوار الخارجي لوجدنا الشَّواهد ماثلةً في الدلالة على دقَّة توظيفه، لكنَّنا سنقف عند ظاهرتين من ظواهر الحوار الخارجي تكادان تُؤكِّدان حُضورهما في كثيرٍ من المسرحيَّات السياسيَّة هما: الحذف وأسلوب المرافعة، وسنقف عندهما بشيءٍ من التفصيل كما يأتي:
الحذف:
من الشواهد الدالَّة على الحذف ما ورد في مسرحيَّة "السكرتير الأمين"[30]، فقد ورد الحذف مِرارًا؛ مثل قول زوجة السكرتير تحدثه عن الصِّهيَوْني (موسيه شرتوك):
بل أخشى أنْ يكون همزة وصل؛ فإني أعرف هؤلاء اليهود...
فالحذف في النصِّ يُجسِّد حالة الحذر والتوجُّس من التحدُّث عن اليهود، ليس لدى سكرتير الأمم المتحدة بل لدى زوجته أيضًا، فالحذف يقولُ ما لا يقوله الكلام.. فلك أنْ تحمل الحوار ما تريد من الدلالات السلبيَّة عن اليهود، إنَّ الدلالة منفتحةٌ على آماد التأويل بسبب هذا الحذف، كما يستدعي هذا الحذف تعقيب السكرتير:
هس.. اخفِضي صوتك، آه لو علموا أنَّ زوجتي تحمل هذه الروح اللاساميَّة لقُضِي على مركزي ومستقبلي!
وحينما كان السكرتير مختليًا بشرتوك في حجرة خاصَّة تحرَّكت الستائر، فطَمأَنه السكرتير بأنَّ الحركة بسبب القطَّة كيتي، لكن (شرتوك) يقول:
ظننت أن...
السكرتير: كلا.. هذه حجرتي الخاصة.
فالحذف في نصِّ شرتوك يُشخِّص حالة العرب الصِّهيَوْني، ويُجسِّد مَدَى سريَّة الموضوع وخُطورته، فهنا في هذه الحجرة تتمُّ عمليَّة خيانة كبرى من قبل السكرتير، وتتمُّ عملية مساومة على موقف خطير للغاية.
وفي مسرحيَّة "أضغاث أحلام"[31] تقول البنت حاكية رؤياها المرعبة:
كلا، لا أنام الليلة وحدي أبدًا.
الأم: اطمئنِّي يا ماري... سأنام معك.
الأب: لكن..
الأم: نَمْ وحدك الليلة، أخائفٌ أنت؟!
فالحذف يقتنصُ لمحةً شاردة في نفسيَّة (شرشل) لتأثُّره بالصور المرعبة التي رأتها ابنته (ماري) على الرغم من تظاهره بالاستقواء ولا مبالاته بالرؤيا ما يشفُّ عن مَدَى هزيمته من أعماقه، وهكذا نجدُ أنَّ الحذف سمةٌ من سمات الحوار الخارجي يضطلعُ بإثراء دلالة النصِّ ويقول كثيرًا ممَّا لا يُقال.
أسلوب المرافعة:
من الأساليب التي يتَّسم بها الحوار لدى باكثير أسلوب المرافعة؛ إذ يلجأ - أحيانًا - إلى عقد جلسة محاكمة تتمُّ خلالها المرافعة في قضيَّةٍ ما، وهذا الأسلوب الحواري ورد في المسرحيَّات: "أضغاث أحلام"[32]، و"في سبيل إسرائيل"[33]، و"في بلاد العم سام"[34]، و"السوق السوداء"[35]، ويُعَدُّ أسلوبًا ناجحًا في تناول الموضوعات ذات العلاقات الشائكة التي تتعدَّد فيها وجهات النظَر، ويقتضي حسمها وجود جهة مستقلة يكون من شأنها النُّطق بالحكم.
لقد صوَّرت مسرحيَّة "أضغاث أحلام" جناية (شرشل) ودوره في الحرب العالمية الثانية وظُلمه للألمان، وكانت مسرحيَّة "في سبيل إسرائيل" مُتضمنة مدى المفارقة التي وقَع فيها النظام البريطاني في استماتَتِه في الدِّفاع عن إٍسرائيل ولو على حِساب المصالح البريطانيَّة، حتى إنَّ المرافعة تصلُ إلى حدِّ استصدار حُكم ضد الشاهد الذي شهد بما قاله المتَّهم الذي هتَف بموت بريطانيا؛ لأنها سحَبت جنودها من القنال ولم تعدْ تدافع عن إسرائيل، وتتناول مسرحيَّة "في بلاد العم سام" التهم الموجَّهة لـ(ترومان) من قِبَلِ المستر (هربرت برونل) في خِطابٍ ألقاه أمام الرأي العام من باب الدعاية الانتخابيَّة، مفادها: أنَّ الحكومة السابقة حُكومة ترومان كانت تسمَحُ بتسرُّب الشيوعيين والجواسيس إلى المناصب الخطيرة في الدولة. وتتناول مسرحيَّة "السوق السوداء" محاكمة أحد أبناء تونس (مختار) من قِبَلِ النظام الفرنسي بتُهمة الاتِّجار بالحبوب، وأخْذ الأموال من الأهالي باسم لجنة الإسعاف التونسيَّة؛ لإغاثة المنكوبين بالمجاعة وتحت لافتة العمل الخيري، في الوقت الذي كان المستعمِرون الفرنسيُّون هم مَن يحتكرُ الحبوب ويبيعها في السوق السوداء بأسعارٍ مُضاعَفة.
ولا شَكَّ في أنَّ أسلوب المرافعة يُعَدُّ أسلوبًا ناجحًا في تجسيد مثلِ هذه القضايا، كما أنَّه يُسهِم في توتُّر حدَّة الصراع في المسرحيَّة، ويجعل المتلقي على قدرٍ كبير من التركيز والاحتشاد لما سينجم عنه الحوار والترافع بين الأطراف المتباينة، فمن وظائف الحوار تطوير الحبكة... وتصوير الشخصيَّات في عواطفها وأفكارها والإمتاع الجمالي"[36].

الحوار الداخلي:
برز الحوار الداخلي في مسرحيَّات باكثير السياسيَّة في كثيرٍ من المواضيع، أبرزها في مسرحيَّة "نشيد المارسيليز"[37].
مارماريه: (يقف أمام المِرآة وحدَه).. قد تكون هذه تضحية قاسية.. لكن مَن يدري لعلَّه يقتلني في المبارزة فيستولي على مرغريت.. فهذا أهون الشرَّيْن على كلِّ حال.. مسكينة مرغريت.. إنها تحبني".
الوزير: عجبًا لي! كيف لا أعرف (مدام مارماريه) إلى اليوم، لقد ذهبت أيامك يا دون جوان!
الوزير (يتنفَّس الصعداء ويتمطَّى): رجعت أيامك يا دون جوان.. إنها الجمال كله يتبختر في فستان...
وفي مسرحيَّة "سأبقى في البيت الأبيض"[38] كثُرت المقاطع التي تُمثِّل النَّجوى الداخليَّة لدى الشخصيَّات؛ مثل قول (تروفول):
(يرفع رأسه عن المكتب) لقد كادت روحي تزهَقُ من هذه المقابلات والحفلات والجلسات.. أليس لها آخِر؟
وبعد أنْ يستدعي الحاجب يقول له:
إنِّي لا أريد أنْ أُقابل أحدًا الآن، (يُحدِّث نفسه): هؤلاء الجشعون، لقد أصبح مصيري تحت رحمتهم.. هؤلاء الدُّخَلاء المتحكمون الذين يصدرون أوامرهم إلينا من نيويورك.. لقد صدق من سماها جيو يورك.. كلا، لا أدعهم يتكاثرون في هذه البلاد، لتبتلعهم فلسطين، ولتأكلهم وحوش العرب... خمسة أشهر.. الانتخابات.. البيت الأبيض.. لا.. لا.. سأبقى في البيت الأبيض (يعود فيهوي برأسه على المكتب).
وتستمرُّ هذه المقاطع المونولوجيَّة تُصوِّر الحالة النفسيَّة لتروفول:
تروفول (يحدث نفسه): حائيم ليفي.. ليفي حائيم.. كوهين إيزاك.. إيزاك كوهين.. ليفي إيزاك.. إيزاك ليفي حائيم كوهين.. كوهين حائيم.. بنيامين إيزاك إيزاك بنيامين.. أوَّه! كم ينتج من ضرب هذه الأسماء بعضها في بعض! لعنة الله عليك يا هتلر..
إنَّ الشخصيَّة تُفصح من خلال الحوار الداخلي عن تمزق عنيف.. فما يضمره عكس ما يظهر؛ يُضمر بغضًا لليهود وحِقدًا عليهم ورغبةً في التخلُّص منهم، لكنَّه يُظهر الحفاوة والحِرص والتضحية من أجلهم، ويُسهِمُ الحوار الداخلي في الكشف عن المضمر النفسي ليبرز الصِّراع العميق في الشخصيَّة والتناقُض في الموقف، وبذلك تظهر لنا أهميَّة الحوار الداخلي الذي لولاه لما تمكَّن القارئ من الوقوف على مِثل هذا التناقُض.
ونلحَظُ في النصِّ وفرة الشخصيَّات اليهوديَّة، بل إنَّ باكثير يستحضرُ تاريخ اليهود ويُقدِّم الشخصية اليهوديَّة في رؤاها وطريقة تفكيرها؛ "وهذا يعني أنَّ باكثير كان في ذهنه حضورٌ دائم للتاريخ اليهودي وهو ينتج عمله، بما في هذا الحضور من تجارب وجدانية وتجارب مادية مارَسْناها مع اليهود، وبما أسفر عنه هذا الحضور وهذه التجارب من رسم أبعاد الشخصية اليهودية"[39].
ويقدم ذلك في أسلوب إبداعي يتخيَّر فيه القالب الفني الأنسب لحمل الدلالات المناسبة في تناغُم بين الرُّؤى الفكريَّة والقوالب الجماليَّة.

الخاتمة
ممَّا سبق نستنتجُ الآتي:
إنَّ المسرحيَّات السياسيَّة مُفعَمة بالرؤى الفكريَّة والمواقف السياسيَّة التي يُعبِّر عنها باكثير، وهي في معظمها تتعلَّق بفلسطين، ثم بعلاقة العرب جميعًا مع القوى الكبرى المهيمِنة في العالم.
إنَّ باكثير لم يقمْ بالتسجيل الواقعي للأحداث السياسيَّة، بل تمكَّن من المزج بين المحافظة على جوهر الموضوع، وحمله في قالب فني جميل يثيرُ القارئ ويجلب اهتمامه ويُؤثِّر فيه.
إنَّ باكثير تمكَّن من توظيف عدد من الجماليَّات الفنيَّة التي من شأنها الارتقاء بالعمل الفني المسرحي لديه؛ أبرزها: الحلم والتناص والمفارقة وتعدُّد أنماط الحوار، وفي الحوار نجح في تسخير أسلوبَيِ الحذف والمرافعة، وتمكَّن من خلالهما من تقديم مخصبات جديدة لمسرحيَّاته، كما تمكَّن من توظيف الحوار الداخلي ليتوسَّل به في استنباط المشاعر الدفينة في أعماق شخصيَّاته.
إنَّ المسرحيَّات السياسيَّة تتميَّز بحكم مساحتها النصيَّة بالتكثيف الرؤيوي والفني؛ ممَّا يجعلها قمينة بتخصيص دراساتٍ واسعة وعميقة في زَواياها المختلفة، نأمل أنْ يتحقق مستقبلاً.

والله الموفِّق.
المصادر والمراجع:
1- "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي، مكتبة الطليعة أسيوط، 1980م.

2- "جماليات التحليل الثقافي، الشعر الجاهلي أنموذجًا"؛ يوسف عليمات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2004م.

3- "حداثة السؤال"؛ محمد بنيس، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1985م.

4- "الحداثة في الشعر اليمني المعاصر"؛ عبدالحميد الحسامي، وزارة الثقافة، صنعاء، ط1، 2004م.

5- "سأبقى في البيت الأبيض"، الإخوان المسلمون، 16/10/1946م.

6- "السكرتير الأمين"، الإخوان المسلمون، 26/10/1946م.

7- "السوق السوداء"، الإخوان المسلمون، 28/3/1948م.

8- "السوق السوداء"، الإخوان المسلمون، 28/3/1948م - 5.

9- "في بلاد العم سام"، الدعوة، 8 ربيع الآخر، 1373هـ.

10- "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية"؛ علي أحمد باكثير، مكتبة مصر، ط3، 1985م.

11- "في سبيل إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، 5.

12- "ليلة 15مايو"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، 5.

13- "مدارات نقدية: في إشكالية النقد والحداثة والإبداع"؛ فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية بغداد، ط1، 1990م.

14- "معجزة إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، 5.

15- "المفارقة في النص الروائي: نجيب محفوظ أنموذجًا"؛ حسن عماد، المجلس الأعلى للثقافة ط1، القاهرة، 2005م.

16- "المفارقة وصفاتها"؛ دي سيء ميويك، ترجمة: د. عبدالواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي، مجدي وهبة، مكتبة لبنان، بيروت، 1974م.

17- "نشيد المارسليز"، الإخوان المسلمون، 8/6/1948م - 5.

18- "النص المسرحي، الكلمة والفعل"؛ فرحان بلبل، 2003م، اتحاد الكتاب العرب دمشق، ط1.

من أبحاث (مؤتمر علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية)، المنعقد بالقاهرة في 18 – 21 جمادى الآخرة 1431هـ، 1 - 4يونيه (حزيران) 2010م

[1] "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي، مكتبة الطليعة أسيوط، 1980م، ص303.

[2] "مدارات نقدية: في إشكالية النقد والحداثة والإبداع"؛ فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط1، 1990م، ص317.

[3] "حداثة السؤال"؛ محمد بنيس، الدار البيضاء، ط1، ص23.

[4] "أضغاث أحلام"، الإخوان المسلمون؛ 30/11/1946م، ص5.

[5] "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية"، ص69.

[6] انظر: "الحداثة في الشعر اليمني المعاصر"؛ عبدالحميد الحسامي، وزارة الثقافة صنعاء، 2004م، ص112.

[7] "المفارقة وصفاتها"، ص34.

[8] "المفارقة وصفاتها"، ص34.

[9] "المفارقة في النص الروائي: نجيب محفوظ أنموذجًا"؛ حسن عماد، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة 2005م، عن: "النص بين النظرية والتطبيق"، ص139.

[10] "جماليات التحليل الثقافي"، ص277.

[11] "السكرتير الأمين"، الإخوان المسلمين"؛ 7/3/1948م، ص5.

[12] "سأبقى في البيت الأبيض"، الإخوان المسلمون، 26/10/1946م، ص5.

[13] "نشيد المارسيليز"، الإخوان المسلمون، 8/6/1947م، ص5.

[14] "السوق السوداء"، الإخوان المسلمون، 28/3/1948م، ص5.

[15] "في سبيل إسرائيل"، الدعوة، الثلاثاء 11 صفر 1373م، ص11.

[16] "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية"؛ علي أحمد باكثير، مكتبة مصر، ط3، 1985م، ص36.

[17] "معجزة إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، ص5.

[18] "ليلة 15 مايو"، الإخوان المسلمون، 30/5/1948م، ص5.

[19] "في سبيل إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، ص5.

[20] "اهدمي بغداد"، الإخوان المسلمون، 29/2/1948م، ص5.

[21] "السكرتير الأمين"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، ص5.

[22] "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي، 1980م، ص305.

[23] "أنا أبو بصير"، الإخوان المسلمون، 16/10/1946م، ص5.

[24] "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي، ص307.

[25] "في سبيل إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 23/6/1948م، ص5.

[26] "أضغاث أحلام"، الإخوان المسلمون، 30/11/1946م، ص5.

[27] "سأبقى في البيت الأبيض"، الإخوان المسلمون، 26/10/1948م، ص5.

[28] "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية"، ص69.

[29] "معجزة إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، ص5.

[30] "السكرتير الأمين"، الإخوان المسلمون، 7/3/1948م، ص5.

[31] "أضغاث أحلام"، الإخوان المسلمون، 30/11/1946م، ص5.

[32] "أضغاث أحلام"، الإخوان المسلمون، 30/11/1946م، ص5.

[33] "في سبيل إسرائيل"، الدعوة الثلاثاء 11 صفر 1372م - ص11.

[34] "في بلاد العم سام"، الدعوة، 8 ربيع الآخر، 1373هـ.

[35] "السوق السوداء"، الإخوان المسلمون، 28/3/1948م، ص5.

[36] "النص المسرحي، الكلمة والفعل"؛ فرحان بلبل، 2003م اتحاد الكتاب العرب دمشق ط1، ص111 (بتصرف).

[37] "نشيد المارسليز"، الإخوان المسلمون، 8، 6، 1948م، ص5.

[38] "سأبقى في البيت الأبيض"، الإخوان المسلمون، 26/10/1946م - 5.

[39] "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي؛ د.أحمد السعدني، مكتبة الطليعة، أسيوط، 1980م، ص221.
۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩


المحرِّكات الفكرية في رواية (ليلة النهر) لعلي أحمد باكثير
مجلة الرواية
د. غسان اسماعيل عبد الخالق/ الأردن(بمناسبة مرور مئة عام على ميلاد علي أحمد باكثير)


مقدّمة :
إذا كان هناك من يسند ريادة الشعر العربي المرسل لعلي أحمد باكثير(1)، فإن ثمة امكانية كبيرة لتنصيبه رائداً لما يمكن تسميته (الرواية الفكرية)، استنادا إلى قراءة معمّقة في روايته (ليلة النهر) التي اشتملت على العديد من المحرّكات الفكرية والنقدية الفاعلة مثل: الحكاية الأسطورية، مدرسة فرويد في التحليل النفسي، نظرية كوليردج بخصوص الوهم والخيال في الشعر.
والحق أن أيّما قارىء متعمق في (ليلة النهر) التي كتبت وأصدرت في مستهل العقد الرابع من القرن العشرين، لا يملك إلا أن يشعر بدهشة كبيرة لسببين رئيسين: أما الأول فيتمثل في اتجاه علي أحمد باكثير لحشد كل هذه المحركات الفكرية معا في رواية واحدة، وأما الثاني فيتمثل في اتجاه علي أحمد باكثير لتفعيل هذه المحركات الفكرية من خلال رواية تتمحور حول حياة فنان معاصر لا تخلو سيرته من احتكاكات مباشرة مع حياة الليل واللهو والمجون، كما لا تخلو تجربته العاطفية من لقاءات غرامية يمكن أن تتعارض مع الوجهة الأخلاقية والدينية والتاريخية المحافظة التي ألزم باكثير نفسه بها في كل ما كتب، إلى الحد الذي جعله – كما يقول ناشر كتبه سعيد جودة السحّار في تذييل الرواية - ( هدفاً لحملات ظالمة أحيانا، ولإهمال متعمد أحيانا أخرى، من بعض من كانوا يتحكمون في النقد في الصحف والمجلات في تلك الأيام، أيام غياب الحرية، وتحكم الماركسيين في أقدار الكتّاب، فقد وجهت [إليه] تهمة أنه " يؤمن بالغيبيات" وأنه "غير تقدمي" كأنما الايمان بالله والتمسك بالقيم الروحية يحطان من قدر الكاتب ويزريان بأدبه)!(2) فما هي قصة (ليلة النهر)؟
ملخَّص(ليلة النهر):
تتلخص قصة (ليلة النهر) في أن فؤاد حلمي يفقد أباه وهو لما يزل طفلاً صغيراً، فيرعاه وأمه خاله الشيخ عبد الله البرقاوي، ويسكنهما بيتا متواضعا في حي المنيل، حيث يتعرف إلى إحسان ضياء الدين التي فقدت أباها أيضا وسكنت مع أمها في بيت خالها محمود ضياء الدين، وتلوح مخايل النبوغ الدراسي والغنائي على فؤاد منذ الصغر ومعها مخايل الحب المتبادل بينه وبين إحسان، في ظل والدتيهما اللتين تباركان هذا الحب وتخططان لتتويجه بالزاوج، لولا أن خال إحسان ينقل إلى الصعيد فتنتقل هي وأمها معه، فيما يتابع فؤاد مسيرته الدراسية والغنائية الظافرة حتى يتعرف إلى مراد سعيد، الموسيقار والمثقف الكبير والمجرّب، فيتعهده بالتدريب والتثقيف إلى الحد الذي يفقد معه اهتمامه بالدراسة ويتعثر فيها، فيغضب خاله وتحزن أمه، ويهيم فؤاد على وجهه في إحدى الليالي فيلمّ بناد ليلي يعج بالسكارى والمعربدين المعجبين براقصة شابة تشبه حبيبته إحسان، و يتوهم أنها هي ويخوض لأجلها عراكا، ثم يترصد حركاتها حتى تضطر لجرّه إلى المخفر فيتبين له أنها ليست حبيبته إحسان التي لا تلبث أن تعود مع أمها وخالها، فتعود بعودتها قصة الحب القديم وتتطور إلى ما يشبه الخطبة، لولا أن بطالة فؤاد تقف حائلا دون اتمام هذا الارتباط، فيضطر أستاذه ومعلمه مراد سعيد للتكفير عن خطيئته بأن يوظفه مترجما في صحيفة مسائية. ومع ذلك فإن علاقته التي حفلت في هذه الأثناء بالعديد من اللقاءات الغرامية الملتهبة تتحطم فجأة على صخرة تمسك خال إحسان بتزويجها لأحد أبناء الباشوات، لتأخذ هذه العلاقة بعد ذلك وجهة درامية متصاعدة حتى النهاية.
لقد اشتملت لقاءات الحبيبين على ظاهرة غريبة أثارت خوف فؤاد وارتعاده، إذ ما أن حاول أن يصدح بأول أغانيه وهو يجلس قبالة حبيبته في القارب النيلي، حتى طرق سمعه صوت شاعر وهو يتلو قصيدة كأنها قدّت على اللحن قدّا، وقد تكرر سماعه لهذا الهاتف القادم من البيت المهجور الذي طالما مرّ به مسرعا خشية أن يتعثر بالطَّيف الذي يسكنه كما سمع الناس يقولون ويرددون، حتى اضطر لإخبار أستاذه ولإخبار حبيبته التي سرعان ما خطبت لغيره وفارقته إلى بيت زوجها، فوجد نفسه مطالبا بإثبات ذاته فنيا، وانطلق في عالم الشعر والتلحين والغناء، حتى أصبح فنانا كبيرا وشاعرا شهيرا، لكنه مع ذلك معذّب بطيف الشاعر الذي انفلت من عقال قبره بعد مئات السنين كي يخفف بقول الشعر ما يرزح فوق صدره من هموم جرّاء إقدام حبيبته على الزواج من غيره، وهو معذّب أيضا بطيف إحسان التي بدا أنها فارقته إلى الأبد. وقريبا مما شاهدناه يحدث في الأفلام السينمائية الغنائية المصرية التي اضطلع بدور البطولة فيها فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وآخرون، يتدهور زواج إحسان بابن الباشا جراء إقدام الأخير على قتل الراقصة التي تشبه إحسان، ويقضي فؤاد نحبه جرّاء إصابته بالتهاب رئوي حاد في اليوم نفسه الذي كانت فيه إحسان على أهبة الذهاب إلى دار الأوبرا كي تستمع إلى رائعته التي حققت نجاحا كبيرا، وتسقط إحسان صريعة انهيار عصبي حاد سرعان ما يدفع بها إلى البيت المهجور لتلتقي بأسماء حبيبة الطَّيف الشاعر التي خرجت من قبرها بحثا عن المغفرة، ثم تلتقيان بطيفي الاثنين: الشاعر والمغني، فيعفوان عنهما.. لكن إحسان تطمح فوق ذلك إلى أن تحتضن حبيبها فؤاد، فيؤكد لها صعوبة ذلك.. فتصرخ وتصرخ حتى تستيقظ وتجد نفسها في المصحة العقلية!!

المحرك الأول: الطيف الهاتف
تمثل أسطورة الطّيف الهاتف المحرّك الأول في (ليلة النهر) وهي أسطورة تمور بها قصص العشاق في الموروث السردي العربي، بصياغات وألفاظ وتفاصيل متعددة ومتباينة. وسوف أكتفي بإيراد صيغتين لهذه الأسطورة – على سبيل المثال لا الحصر- إظهارا لمدى إفادة علي أحمد باكثير من الموروث السردي الأسطوري العربي(3) وتأكيدا لقدرته على تمويه هذه الإفادة.
*(حدّث أبو حمزة الكناني فقال: كان فتى من بني عذرة، وكانت له امرأة منهم، وكان شديد الحب لها، وكانت له مثل ذلك. فبينما هو ذات يوم ينظر وجهها إذ بكى، فنظرت إلى وجهه وبكت.
قالت: ما الذي أبكاك؟
قال: بالله، أتصدقينني إن صدقتك؟
قالت: نعم
قال لها: ذكرت حسنك وجمالك وشدة حبي، فقلت: "أموت فتتزوج زوجا غيري"!
فقالت: بالله.. بالله.. إن ذلك الذي أبكاك؟
فقال: نعم
قالت: وأنا ذكرت حسنك وجمالك وشدة حبي لك فقلت: "أموت فيتزوج امرأة غيري"!
قال: فإن النساء حرام عليّ بعدك.
قالت: فإن الرجال حرام عليّ بعدك.
فلبثا ما شاء الله، ثم إن الرجل توفي. فجزعت المرأة عليه جزعا شديدا. فخاف أهلها على عقلها أن يذهل، فأجمعوا رأيهم على أن يزوجوها- وهي كارهة- لعلها تتسلى عنه. فلما كانت الليلة التي تهدى فيها إلى بيت زوجها- وقد نام أهل البيت والماشطة تهيء شعرها – نامت نومة يسيرة، فرأت زوجها المتوفى داخلا عليها الباب، وهو يقول: "خنت يا فلانة عهدي، والله لا هنيت العيش بعدي"! فانتبهت مرعوبة وخرجت هاربة على وجهها، وطلبها أهلها فلم يقعوا لها على خبر).
*(حدث جبلة بن الأسود فقال: خرجت في طلب إبل لي ضلّت، فسرت أطوف وأطلب الجادة فلا أجدها، فبينما أنا كذلك إذ سمعت صوتا حسنا بعيدا وبكاء شديدا فشجاني، وما زلت أقرب إليه حتى هبطت واديا فإذا راع قد ضم غنماً له إلى شجرة وهو ينشد ويترنم:
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسهـا إذا ما انقـضت أحدوثة لو تعـيدها

فدنوت منه فقال: من الرجل؟ فقلت: منقطع يستجير بك، فنزع شملته وبسطها تحتي ثم أتاني بتمر وزبد ولبن وخبز ومال إلى فرسي فربطه وسقاه وعلفه. فلما أكلت توضأت وصليت واتكأت، وإني لبين النائم واليقظان إذ سمعته يحدّث امرأة حتى الصبح ثم ودَّعته وسارت، فلما كانت الليلة التالية أبطأت عليه فقلق وبكى وقال: هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني بالأمس؟ فقلت: لقد رأيتها، فقال: تلك ابنة عمي وأعز الناس علي وإني لها محب وعاشق وهي أيضا محبة وعاشقة لي، وقد منعني أبوها من تزويجها لي لفقري وفاقتي فصرت راعيا بسببها ثم أنشأ يقول:
ما بال ميـــة ؟ لا تأتي كعادتهــــا أعاقها طرب أم صدّهـا شُغُلُ
نفسـي فـداؤك، قـد أحللـت بي سقمـا تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل

ثم انطلق وغاب عني ساعة وأتى بشيء فطرحه بين يدي فإذا هي الجارية قد قتلها الأسد وشوّه خلقتها ثم قال: إني أعلم أن المنية قد حضرت لا محالة، فإذا مت فخذ عباءتي فكفِّني بها وضم ما تبقى من جسد ابنة عمي معي وادفنّا في قبر واحد، فغسّلته وكفّنته في عباءته وصلّيت عليه ودفنت ما تبقى من جسد ابنة عمه معه، وبت تلك الليلة باكيا حزينا.. فلما كان الفجر قمت وشددت فرسي فإذا بصوت هاتف يقول:

كنا على ظهرها والدهر يجمعنا والشمل مجتمع والدار والوطن!
فمزق الـدهر بالتفريق ألفتنـا وصار يجمعنا في بطنها الكفن!

هاتان الصيغتان اللتان أوردتهما (بتصرف)، تمثلان غيضاً من فيض قصص الحب المفجوع عند العرب. ولا ريب في أن علي أحمد باكثير قد تمثّلهما كما تمثّل غيرهما مما يعج به الموروث، فضلا عما مارت به كتب القدماء من أخبار تؤكد أن لكل شاعر رئيّا أي شيطانا يقول الشعر على لسانه(4)، إلى الحد الذي دفع بابن شهيد إلى انشاء رسالة أسند فيها أدوار البطولة لهؤلاء الشياطين. وقد وظف علي أحمد باكثير هذه الثقافة الشعرية في روايته فتوصل من خلال فؤاد حلمي إلى أن الشاعر الذي هتف بتلك الأبيات الرائعة التي ساوقت لحنه بعد أن تقصّى أخباره وسأل عجائز الحي وشيوخه المعمرين حتى جمع أخبارا وأساطير كثيرة عنـه (عاش في زمن قديم لا يعرفه على وجه التحديد، وأنه أحب ابنة عمه ونظم في حبها القصائد ولما زوجت من غيره يئس من حياته فقتل نفسه؛ قيل ذبح نفسه بسكين وقيل خنق نفسه بحبل علقه في سقف بيته وقيل رمى بنفسه من أعلى بيته فغرق في اليم فصار "عفريته" أي روحه يهيم إلى اليوم حول تلك الخرابة التي كانت بيته. وقد ضاعت قصائده فلم يحفظ منها شيء)(5).
ولا يفوت علي أحمد باكثير، أن يموِّه هذا الاستخلاص بظلال من الشك والقلق والخوف، لأن هذا التظليل أوقع في نفس القارئ من التسليم بصحة ما سمعه فؤاد حلمي وما رآه، ولذلك فإنه لا يتردد في إجراء هذا الحوار المحتدم بين فؤاد حلمي وأستاذه مراد السعيد:
(انطلق فؤاد إلى بيت مراد السعيد وهو يردد الأبيات في سرِّه كي لا ينساها في الطريق فما كاد يقبل عليه حتى قال له: اكتب يا أستاذ..اكتب!
- ماذا أكتب؟
- سمعت الصوت مرة ثانية ودونك أبياتا جديدة...
- كلا لا تقل هذا الآن، لقد سمعت الصوت آتيا من قبل الخرابة فلم يبق لدي الآن شك في أنه صوت صاحبها الشاعر، وهذه القصيدة والتي قبلها من شعره.
- بل هما من شعرك، وما سماعك الصوت كأنه آت من قبل الخرابة إلا من أثر الوهم الذي قام في نفسك.
- لك يا أستاذي أن تثبت ما تشاء وتنفي ما تشاء. أما أنا فلا أستطيع أن أعد ما سمعته بأذنيّ هاتين وهما باطلا لأثبت لنفسي القدرة على قول الشعر)(6).

المحرك الثاني: نظرية كوليردج

في سياق محاولته تجسيد الفارق الدقيق بين الوهم والخيال في الشعر، كما نظَّر لهما كوليردج، يضرب إليوت المثال التالي: ولد صغير يبحث في تجمع صخري داخل مياه البحر فيرى شقائق النعمان لأول مرة. إن مثل هذه التجربة غير العادية ربما تظل نائمة في عقله عشرين عاما ثم تظهر وقد تحولت إلى محتوى شعري مفعم بانفعال خيالي عظيم. ويتابع قائلا: إن هنالك كثيرا من الذكريات تميز بن الخيال والوهم بحيث أنك إذا أردت أن تميز بينهما على طريقة كوليردج وجب عليك أن تميز الفرق بين الذاكرة في الخيال والذاكرة في الوهم. ولا يمكن أن تقول بأن واحدة فيهما تذيب وتنشر وتبدد الذكريات من أجل أن تقوم بعملية الابداع بينما الأخرى تتعامل مع الثوابت والمحدودات(7).
وفي سياق محاولة أخرى لتحديد الفارق الدقيق بين الوهم والخيال في الشعر، كما نظَّر لهما كوليردج، يؤكد الدكتور مصطفى ناصيف ...أن الفكر يستعمل كلا من قوة الوهم وقوة الخيال في الحالة الطبيعية في آن واحد، لكنه لا يلبث أن يستدرك قائلا: لا بد للخيال من مرحلة الوهم، لأن الخيال هو القوة الموحّدة المركّبة فيما أن الوهم هو القدرة على الحشد والجمع. إن الوهم يمثل مغناطيسا قادرا على استدعاء مجموعة من الصور المتباينة التي ينتظمها شبه ما، لكنها حتى حينما تتجمع تظل متفرقة. أما الأجزاء في الخيال فإنها تكيِّف بعضها بعضا. وباختصار فإن كوليردج يعد كلا من الوهم والخيال وسيلة لإدراك الحقيقة، إلا أن الشاعر الحقيقي لا يلبث أن يدرك أن الوهم يتطلب أن يجمع الشاعر جزئيات الحقيقة المدركة ويلفق منها كلاّ يشبه ما يكتبه تلميذ عن كيفية قضائه عطلته الصيفية، أما الخيال فإنه يبني لنا صورا بتأثير قوة الإدراك النافذ باتجاه صور جديدة تماما، استنادا إلى توظيف التجارب الماضية وليس استنادا إلى التجارب في حد ذاتها(8).
لقد حوّل علي أحمد باكثير رواية (ليلة النهر) إلى مختبر تجريبي لنظرية كوليردج في الشعر! لا نقول ذلك من باب الحدس أو الاستنتاج بل من باب القطع والتأكيد، فقد صرّح بهذا الاختبار ثلاث مرات في ثلاث صفحات متتالية من خلال الحوارات التي أقامها بين فؤاد حلمي وأستاذه مراد سعيد..
- أترى هذا الذي يحدث لي حلما من الأحلام؟
- لا ليس حلما ولكنه شبيه به، إن هذا الذي وقع لك ليذكرني بما وقع لكوليردج الشاعر الانجليزي إذ نظم في منامه قصيدة من أروع قصائده، هي قصيدته "كوبلاي خان"
- كوبلاي خان...؟
- نعم سأبحث لك عنها غدا لنقرأها معا)(9).
كان هذا ما دار من حوار بين الفنان الشاعر وبين استاذه بعد ان استمع إلى صوت الهاتف وهو يردد قصيدته الأولى معه على أنغام لحنه الأول، وقد استكمل الاثنان الحوار على النحو التالي:
( لما ذهب "فؤاد حلمي" إلى بيت مراد بعد العصر ناقشه في أمر الصوت من جديد فأخذ مراد يشرح له النظرية بإسهاب وتبسيط ويضرب له مختلف الأمثلة وقام إلى مكتبته وأراه قصيدة كوليردج وقرأها عليه وشرح له معانيها. ثم قال له إن قصيدتك لا تعدو أن تكون كهذه. فراجعه فؤاد قائلا: " إن كوليردج هذا شاعر معروف قد قال الشعر من قبل وقاله من بعد فأمره يختلف عن أمري")(10).
إن انشغال علي أحمد باكثير بهذا المختبر الشعري لم يدفع به إلى اسباغ صفة الشعر على فؤاد حلمي إلى جانب صفة الموسيقى فحسب ، بل إنه أمعن في هذا الإسباغ حد الإقدام على تضمين الرواية قصائد شعرية مطولة، حرصا منه على تأثيث الرواية بمضمون شعري حقيقي ومقنع، فها هو طيف الشاعر يهتف:
يعز على الواشي طوافي بدارهـا وما ضره لو غض ناظره عنـي؟
أقبِّل من جدرانها فهل اشتكــتْ إليه الأذى يوما فينصفهـا منـي؟
و لو سئلت عما تحس إذا التقـتْ بثغري لبـاحت بالغرام ولـم تكن
قطعتم حبال الوصل بيني وبينـها فلا تحسدوني من وقوفٍ على ركن(11)

وها هي إحسان تستمع إلى أغنية "نجـوى النيـل" التي تبث عبر المذياع للفنـان الكبيـر فؤاد حلمي:
كنت ترعى مهدي وليدا وتنهـا ل علـى وجنتـيَّ بالقبــلات
تمسح الدمع إن بكيت وتغـري بفمـي زمــرة من البسمـات
وتوليتني صبيـا على شطِّــ ك ألـهو مـع الصغار لداتـي
نتبارى على صعـيدك وثبـا كفراش في الروض منطلقـات
نشتهي أن تضمنا بين حضنيك ونخشى موجـاتك المغرقــات
كـم دعـانا لذاك أنك سمـحٌ فنهـانا عـن ذاك أنك عـاتِ!(12)

المحرك الثالث: نظرية فرويد

مما يسترعي نظر الناقد المدقق في (ليلة النهر) اتجاه علي أحمد باكثير إلى توظيف مدرسة التحليل النفسي الفرويدية، إلى الحد الذي يمكننا القول معه بأن هذا التوظيف قد كاد يحجب توظيفه مقولات كوليردج بل قد يكون حجبه فعلا، على الرغم من المرجعية الجنسية الطاغية التي تثوي في صلب المقولات الفرويدية. إذ أن سيجموند فرويد يرى أن هناك صراعات عقلية قارة تعصف بالإنسان وتجعله موزعا بين الدافع اللاواعي نحو اللذة الجنسية وبين الدافع الذي يحاول الوعي أن يتكيف معه(13). ولم يفت علي أحمد باكثير أن يستثمر الجانب المتعلق بالأحلام في المقولة الفرويدية فوظفه أيضا دون تردد، وإن كان مزج في هذا الجانب بين مفهوم الحلم عند الامام ابن سيرين ومفهوم الحلم عند فرويد.
ولنتأمل في الكيفية التي عرض وفقها علي أحمد باكثير لمفهوم العقل الباطن والعقل الواعي من خلال هذا الحوار بين فؤاد حلمي وأستاذه مراد السعيد بعد أن سمع الأول صوت الهاتف للمرة الأولى:
(- سبحان الله. ما هذا الكلام؟ أقول لك إنني سمعتها من هاتف لم أره وتقول لي أني شاعر!
- هذا الهاتف الذي سمعته إنما هو صوتك أنت!
- صوتي أنا؟
- نعم، صوت عقلك الباطن وقد استيقظ في ساعة من ساعات النشوة العارمة – حين استرخى عقلك الواعي وفقد سيطرته عليه- فانطلق يسمعك هذه الأبيات التي كانت مختمرة من قبل في أطواء نفسك مستكنة فيها....
- إن صح ما تقول فبم تعلّل وعيي للأبيات؟ أوعيتها أيضا بعقلي الباطن؟
- كلا، بل بعقلك الواعي حين استيقظ. أليس أحدنا يذكر في يقظته الحلم الذي رآه في منامه؟)(14)
وقد عاد لزيادة مفهوم العقل الباطن والعقل الواعي إيضاحا من خلال هذا الحوار الذي احتدم بين فؤاد وأستاذه مراد:
( - لماذا لا أسمع الصوت إلا في ذلك الموقع خاصة؟
- لأن للملابسات الزمانية والمكانية أثرا لا ينكر في تنبيه العقل الباطن. كما أن لحالتك النفسية وأنت منفرد ليلا في ذلك الموقع من النهر، يسبح بك الزورق حيال الخرابة التي كثرت عنها الأساطير المثيرة، أثرها الكبير)(15)

ومع أن مصداقية مدرسة التحليل النفسي قد تراجعت كثيرا في أوساط الطب النفسي لكنها ازدهرت في أوساط الأدب والنقد الأدبي، إلا أن علي أحمد باكثير لا يتردد في النظر إلى مقولة العقل الباطن والعقل الظاهر على أنها حقيقة علمية مؤكدة رغم عجزها عن تعريف ماهية الروح:
( - هذا الصوت الذي سمعته بإزاء الخرابة في النهر لا يقدر العلم ان يفسره إلا بنحو ما شرحته لك من قبل، فهو عاجز عن إثبات أن روح الميت قد تنطق بكلام يسمعه الحي. ولكن عجزه عن اثبات هذه الحقيقة لا يعني قدرته على نفيها إلا عند المغرورين بهذا العقل البشري المحدود.
- أتؤمن الآن أن الصوت الذي سمعته هو صوت الشاعر صاحب الخرابة.
- ليس عندي ما يمنع من صحة هذا. إن الوجود مملوء بالأسرار التي يجهلها الإنسان كل الجهل.
- فما الذي جعلك تصر قبلا على تفسير الحادث بالعقل الباطن؟
- إنما آثرت أن أفسره هذا التفسير العلمي لألقي في روعك أنك شاعر لعل هذه العقيدة أن أن تنطق لسانك يوما ما بالشعر)(16).
يؤكد الإمام ابن سيرين أنه لما رأى العلوم تتنوع أنواعا ما بين نافع في الدنيا دون الدين أو نافع في الدين دون الدنيا، فقد استخار الله في جمع جانب من علم الرؤيا الذي ينفع دينيا. والرؤيا الصحيحة عند الإمام ابن سيرين هي منبئة عن حقائق الأعمال منبّهة على عواقب الأمور، إذ أن منها الآمرات والزاجرات ومنها المبشِّرات والمنْذرات(17).
ويؤكد سيجموند فرويد أيضا أن الحلم موضوع رئيس في حقل التحليل النفسي، على الرغم من أن الاتجاه إلى دراسة الأحلام قد كان يعد مضيعة للوقت، كون الأحلام تقف على الطرف النقيض من العلم، وهو ما أدى إلى وصم المشتغلين في حقل الأحلام بالميل إلى التصوف والروحانيات(18).
وعلى نحو امتزج معه الحلم من منظور ابن سيرين والحلم من منظور سيجموند فرويد، نرى علي أحمد باكثير ينشىء هذا الحلم:
( في تلك الليلة رأى فؤاد فيما يرى النائم كأن رجلا طويل القامة نحيف الجسم يلوح على وجهه الألم والبؤس قد اقبل عليه يقول له: أما تعرفني يا فؤاد؟ فيقول له فؤاد: لا..فمن أنت؟
- أنا صديقك الشاعر صاحب الخرابة وإني في حاجة إلى عونك فلا تهجرني.
- أأنت الذي أسمعني صوته في النهر؟
- نعم فلا تغير عقيدتك فيّ.
- لماذا لم تسمعني صوتك وقد ترددت كثيرا على منزلك وترنمت هناك باللحن الجديد الذي وضعته في ذكراك؟ أيجب علي أن أركب الزورق لتسمعني؟
- كلا ولكنك لم تأتني في الساعة الموقوتة. ألا تذكر يا فؤاد ليلة مررت وحدك بالشارع فلما سمعت حسي ولّيت مني فرارا. أتذكر كم كانت الساعة إذ ذاك؟
- إحدى عشرة...
- في تلك الساعة يبدأ طوافي يا فؤاد... لا.. لا تخشى مني سوءا فإني رجل طيب لا أضر أحدا.. وإني بحاجة إلى عونك وصداقتك فلا تهجرني.
وانتبه فؤاد من نومه وقلبه يخفق والعرق يتصبب من جسمه فقص على أمه رؤياه)(19).

والطريف أن علي أحمد باكثير لا يجعل من فؤاد حلمي هدفا للأحلام فقط، بل يشرك معه في هذه الأحلام أستاذه مراد بفارق أن أحلام الأستاذ مراد تمثل حالة من الإنذار المبكر المفيد:
( وآوى مراد إلى سريره لينام ولكنه لم يكد يغفو حتى انتبه مذعورا من كابوس مزعج رأى فيه كأن رجلا يشير بيديه إلى جسر عباس ويصيح بأعلى صوته "أدرك صاحبك! أدرك صاحبك!" فهب من مرقده فزعا وارتدى ثيابه عجلا وصاح بخادمه أن ينتظره حتى يرجع، وخرج مهرولا وهو يسوي المعطف على صدره وانطلق صوب الروضة فطوى الشارع في دقائق ثم ركض ذات اليمين حتى دنا من جسر عباس فطامن من سيره عندما لمح في نور القمر شخصا واقفا على الحاجز الأيمن من الجسر.)(20)

عود على بدء

بعد أن توقفنا بإزاء هذه المحرّكات الفكرية الفاعلة في رواية (ليلة النهر)، فإن من الضروري التنبيه إلى أن هذه المحركات ينتظمها جميعا منطلق واحد رئيس مهيمن هو الإيمان المطلق بأن ثمة روحا خالدة يصعب حصرها أو وصفها أو تعيينها، وأن هذه الروح تنتمي إلى عالم ما وراء الطبيعة والحس ، وأن هذه الروح هي سر إلهي بحت. ولتأكيد هذا المنطلق فقد اعتنى علي أحمد باكثير بأن يستهل روايته بقوله تعالى: (ويسألونك عن الرّوح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، كعادته في جُلِّ أعماله. لكنه ومن باب الحرص على أن لا تنفلت عملية التلقي من عالم الواقع، فإنه لا يدخر وسعا لتقييد هذا التلقي بمقدمة خلط فيها الواقع بالخيال حينما قال في (مقدّمة) روايته بأنه قد استقى حوادثها وأخبارها من كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة (بالموسيقار المصري العظيم المرحوم الأستاذ فؤاد حلمي)، وأن معظمها قد تلقاه من معلمه وصديقه الأستاذ مراد سعيد الذي أعاره مذكرات التلميذ النجيب. والحق أن هذا التقديم قد اضطلع بدور إيهامي وتخييلي كبير، خلافا لما ذهب إليه بعض الدارسين الذين وإن أقروا بأن هذا التقديم من شأنه أن يجنب الرواية التأويلات المغلوطة والتفسيرات المشوشة، إلا أنهم قطعوا في الوقت نفسه بأنه (يحرم القارىء متعة الاستكشاف ويلزمه برؤية قبلية تصادر حق التفسير الخاص به ناهيك عن تقييد حريته في إعادة إنتاج النص وفق رؤيته الخاصة)(21). ولا أدري إذا كان هؤلاء الدارسون قد تنبهوا إلى حقيقة أن (الموسيقار المصري العظيم المرحوم الأستاذ فؤاد حلمي) لم يمت فعلا في مستهل العقد الرابع من القرن العشرين، لان ما هو متوفر لدينا من معلومات بخصوص هذا الموسيقار(22) يشير إلى أنه ولد في عام 1922 وأنه توفي في عام 2007!! أما مراد سعيد فهو على الأرجح ما أراد علي أحمد باكثير أن يكونه أو هو القناع الذي مارس علي أحمد باكثير من خلفه دوره في التنظير. ومما يرجح لدينا هذا الظن أوجه الشبه الكبيرة بين منحنى الحياة الشخصية لعلي أحمد باكثير ومنحنى الحياة الشخصية لمراد سعيد، وتحديدا فجيعة باكثير بموت زوجته الشابة في عام 1932 وفجيعة مراد سعيد بموت زوجته الشابة التي (سعد بها حينا من الدهر غير أن المنيّة لم تمهلها فاختطفتها منه وهي أتم ما تكون جمالا ونضرة وهو أشد ما يكون شغفا بها وهياما)(23).


هوامش البحث:
1- انظر على سبيل المثال: باكثير رائد الشعر المرسل، محمد عباس محمد عرابي، http://www.ibtesama.com.
2- رواية(ليلة النهر)، علي أحمد باكثير، مكتبة مصر،القاهرة،ص 186.
3- انظر: منزلة وراء الحب- قصص قصيرة من العهد الأموي والعباسي، د.محمود عبدالرحيم صالح، دار الينابيع، ط1، عمان، 1997،ص 33-42.
4- انظر: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، أبو القاسم حسين محمد بن الراغب الاصبهاني، منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت، 2/360. تاريخ النقد الأدبي عند العرب، د.احسان عباس، دار الشروق،عمان، ط1 المنقحة،1983، ص 14-23، ص381-384.
5- رواية (ليلة النهر)، ص 94.
6- رواية (ليلة النهر)، ص 90-91.
7- فائدة الشعر وفائدة النقد، ت.س.اليوت، ترجمة: د.يوسف عوض، دار القلم، ط1، بيروت، 1982، ص 81.
8- الصورة الأدبية، د.مصطفى ناصف، دار الأندلس، ط2، 1981، ص 28-29.
9- رواية (ليلة النهر)، ص 85.
10-رواية (ليلة النهر)، ص 10.
11-رواية (ليلة النهر)، ص 124.
12-رواية (ليلة النهر)، ص 173.
13- انظر بتوسع: المعجم الفلسفي المختصر، توفيق سلّوم، دار التقدم، ط1، موسكو، 1986، ص 333-334.
14- رواية (ليلة النهر)، ص 85.
15- رواية (ليلة النهر)، ص 91.
16- رواية (ليلة النهر)، ص 97.
17- تفسير الأحلام، ابن سيرين، دار الفكر العربي، ط1، بيروت، 2000، ص 11،7 .
18- نظرية الأحلام، سيجموند فرويد، ترجمة:جورج طرابيشي، دار الطليعة، ط1،1980، ص 6.
19- رواية (ليلة النهر)، ص 98-99.
20- رواية (ليلة النهر)، ص 128.
21- الخطاب المقدّماتي في الرواية اليمنية، محمد يحيى الحصماني، نادي القصة اليمنية-10 اغسطس 2008،http://www.elmaqah.net
22- منتدى مقامات شرقية، محمد جبر، 24/7/2008،http://www.mqmats.net
23- رواية (ليلة النهر)، ص 27.
۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩

مع باكثير في موارده الفكرية والمنهجية

الثائر الأحمر نموذجًا


إن القيمة الموضوعية لأي نص مهما كانت صورته ومرجعيته إنما تتأتى من جانبين:
الأول: الأفكار التي يتضمنها هذا النص، فكلما كانت الأفكار كثيرةً ومتنوعة، ساعدت في تحسين صورة النص، وعكست حجم الاطلاع الفكري والعلمي لصاحبه.
الثاني: توظيف هذه الأفكار في إطار منهجي جامع؛ بحيث يتسلسل صاحب النص وفق منهجيته المتبعة في تحقيق مقاصده وأغراضه من إنشاء نصه، وكلما كانت المنهجية بأبعادها النصية محكمة، كان النص آخذًا بتلابيب القارئ، بحيث يجعله أسيرًا لأسلوبه، مقيدًا بسلاسل أفكاره، وفارق كبير بين نص مفكك الروابط، ونص أفكاره مترابطة وسياقه متداخل محكم.
ولعلنا في مقامنا هذا - ليس عن شك - نلمس القيمة الموضوعية للنص الذي بين أيدينا، فقد استطاع باكثير أن يفرض على القارئ لنصه هذا أسلوبَه، وجعله متفاعلاً معه في سياقه بحيث لا يود مفارقته، ولا أخفي على قارئ هذه السطور حجم التأثر الذي أحسست به وأنا أقرأ هذه الرواية، فقد بلغ بي هذا الإحساس إلى درجة التصور والتخيل أني أعيش تلكم الأحداث والوقائع، وكأني أحد شخوصها وأطرافها؛ وما ذلك إلا بسبب الإحكام والإتقان الذي لمسته في صياغة هذا النص، ولست بطبيعة الحال بصدد أن أقف ناقدًا أو محللاً لنص باكثير من حيث قيمته الأدبية، إلا أني سأقف محاولاً تفكيك هذا النص؛ لمعرفة جذوره الفكرية والمنهجية بصورة تعكس منهج التلقي عند الكاتب.
ويمكن الوقوف على أبعاد أربعة تجلت في رواية باكثير:
الأول: البعد القرآني:
يتجلى هذا البعد في رواية باكثير في إطارين.
الأول: تأكيده على منهج الحوار، وهو أحد الأساليب القرآنية التي استخدمها القرآن في تحقيق مقاصده؛ إذ إن إقامة الحجة تقتضي التنزل مع الخصوم وفقًا لمنهجية التسليم الابتدائي؛ كما هو معلوم عند أهل الجدل، دون أن يقتضي ذلك الرضا بما يقوله الخصم أو يقرره، ولك أن تتأمل الآية الآتية؛ لتعرف أن هذا الأسلوب أصيل في كتاب الله، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].

لقد كان تأثر باكثير بهذه المنهجية القرآنية واضحًا وظاهرًا؛ إذ يظهر ذلك من خلال غلبة أسلوب الحوارات على روايته هذه، ولا شك أن استخدام هذا الأسلوب يحقق جملةً من الأغراض والأهداف لا يمكن تحقيقها في منهج سواه، وأبرزها[1]:
تقديم الأدلة والبراهين على كون المنهج حقًّا.
الوقوف على حجج الخصوم، وهذا يساعد على جعل الحجة أقوى من كونها منفردة.
تيسير الإقناع والقبول بالحجج والأدلة.
ترتيب الحجج الإقناعية داخل النص.

لقد كان باكثير موفقًا في اتباعه هذه المنهجية، من أجل تحقيق مقاصد الرواية، ولعلك تتفق معي أننا بحاجة إلى الوقوف على نص ضمني للرواية، يظهر من خلاله أثر هذا المنهج؛ يقول - رحمه الله - وهو يصف موقف أبي البقاء أحد شخوص الرواية المؤثرين:
"ولم يكد أبو البقاء يخرج إلى أتباعه المستضعفين من مختلف الأصناف؛ ليزورهم ويتفقَّد نقاباتهم، وليبشرهم بالعهد الجديد الذي يوشك أن يدفع عنهم الحيف، ويبسط لهم الرخاء والعدل، حتى هاله ما رأى وسمع من آثار انبعاث فتنة الكرماني من جديد، وأن أبا البقاء لجالس يومًا بين أصحابه في حي من الأحياء الفقيرة في بغداد، وهو يعظهم في هذه الفتنة، إذ تصدى له نفر من أهل الحي، فشكوا إليه سوء حالهم، وسألوه: ما حُكم الله في ذلك؟ وكان أحدهم فقيرًا ذا عيال، والثاني فلاحًا، والثالث عاملاً من العمال، فأخذ يجيبهم واحدًا بعد واحد، فكان مما قاله للأول: إن الله قد فرض له حق الفقير، وهو أن يكون له ولمن يعولهم بيت صالح يأوون إليه بمتاعه وماعونه، وطعام طيب من أوسط ما يطعم الناس في غير أشر ولا بطرٍ، وكسوة للصيف، وأخرى للشتاء من أوسط ما يلبس الناس، بلا زهو ولا خُيلاء، وفضل نفقة للعيد يوسع بها على زوجه وعياله، ويصرف له ذلك من الزكاة ما وفت به، وإلا أخذ له ذلك من فضول أموال الأغنياء، فما الزكاة المفروضة إلا الحد الأدنى لما يؤخذ من مال الغني ليرد على الفقير، وهذه تؤخذ في وقتها المعلوم من نصابها المعلوم، ولو لم يوجد مَن يستحقها، فتودع حينئذ في بيت المال، أما الفضول فتُفرض عند الحاجة على قدر الحاجة، وقال للثاني: إن لك من ريع الأرض التي تعمل فيها ما يكافئ عملك لو استأجرتها من المالك، فعمِلت فيها لحسابك، ولمالكها القابع في داره من ريعها ما لا يزيد على أُجرة مثلها لو أجَّرها لك أو لغيرك، فإن لم يفِ ذلك بنفقتك ونفقة عيالك، كنت حينئذ مسكينًا، فتعطيك الدولة قدر ما ينقصك، حتى يكون عندك البيت الصالح، والطعام الطيب، وكسوة الصيف، والشتاء ونفقة العيد، وقال الثالث - وكان يعمل في إحدى معاصر الزيت: إن لك من ثمرة العمل ما يكافئ جهدك لو أن المعصرة كانت ملكًا لك، ولصاحبها ما يساوي أجر معصرته لو أجَّرها لغيره، وله فوق ذلك ما يكافئ جهده في حسن التدبير لها، والإشراف عليها، على أن يحط من ذلك كله ما يستهلك من آلة العمل ويتلف، فإن لم يقم هذا بكفايتك وكفاية مَن تعولهم، فلك على الدولة حق المسكين، فاقتنعوا جميعًا بأن فيما أفتاهم به غاية العدل، ولكنهم قالوا له: أين هذا يا أبا البقاء مما نحن فيه؟ فقال لهم: ذاك ما شرح الله صدر خليفتكم الجديد لإصلاحه من الفساد، فانتظروا ولن يطول انتظاركم - إن شاء الله - وقام أبو البقاء من مجلسه وقد وقر في نفسه أن الأمر جد، وأن القرامطة قد نفثوا سمومهم في الناس، وأن الناس معذورون في الاستجابة لهم، وأنه إذا كان هذا حالهم في قلب الدولة، فكيف حالهم في أجزائها وأطرافها؟".
وأما في الإطار الثاني، فنجد أن باكثير اقتبس بعض الآيات القرآنية بين يدي أسفاره الأربعة في محاولة منه - فيما يظهر - أن يربط بينه وبين أغراض روايته، وهنا يعرض تساؤل في غاية من الأهمية: هل كان الاستدلال بالآيات وفق منهج الاستظهار أو منهج الافتقار؟ والفارق بينهما أن الأول يحاول من خلاله صاحبه توظيف الآيات القرآنية لمصلحة نصه؛ مما يجعل كلامه حاكمًا على النص القرآني، وبذلك يفقد النص القرآني بُعده المطلق الذي قصده شارعه، أما منهج الافتقار، فإن المستدل به يجعله منطلقًا - بحكم كونه نصًّا مطلقًا - ينزله على نصه النسبي؛ وبذلك تكون البداية من القرآن بخلاف سابقه، ولا يمنع في هذا السياق أن نقرر أن القرآن بحاجة إلى قراءة بشرية اجتهادية، نستطيع من خلالها أن ننزل القرآن على الواقع بغية إصلاحه وتقويمه، فيكون القرآن فاعلاً ومؤثرًا في الحياة البشرية، وهذا هو المقصد من إنزاله، وبالمقابل يحتاج الواقع النسبي إلى الاسترشاد بالوحي، وبناءً على ذلك يحق لنا أن نرسم بالقول مقررين أن باكثير كان مستدلاًّ بهذه الآيات، وفقًا لمنهج الافتقار لا الاستظهار، وهاك برهان ذلك.

الآية الأولى في روايته هي قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، ومقتضى الآية كما يقول أهل التفسير: إن الله إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة، ويستأصلها بالعذاب - أمر مُترفيها أمرًا كونيًّا قدريًّا، ففسَقوا فيها، واشتد طغيانهم، فحقَّت عليهم كلمة العذاب التي لا مردَّ لها، فكان مصيرها الهلاك والتدمير، ولو تأمَّلنا نص باكثير هذا في سفره الأول، يمكننا معرفة الصورة البشعة التي كانت عليها بعض شخوص الرواية، الذين كان لهم أبرز الأثر في إفساد المجتمع، ولك أن تتصور وتتخيل ما شئت بعدما تقرأ النص الآتي الذي يصف حال كل مجتمع يسود فيه أمثال هؤلاء: "كان الحسين الحطيم - فيما يروي حمدان عن أبيه - يملك خمس ضياع متفرقة في تلك الناحية، يفصل بين بعضها وبعض ضياع صغيرة لغيره من صغار المُلاك والمزارعين، كان جدهم يعمل في أرضه بنفسه، ويستغلها لحسابه، فجعل الحطيم يستخدم ماله وجاهه عند السلطان في الإحاطة بأولئك الملاك الصغار، والتضييق عليهم بمختلف الوسائل وشتى الطرق، فحينًا يدفع الأشقياء إلى إتلاف القنوات التي تسقي تلك المزارع، وحينًا يغري اللصوص ليسطوا على ثمارها ليلاً، أو يفسدوا زرعها، أو يشعلوا النار في سنابلها قبيل الحصاد، وحينًا يرشو عامل القرية؛ ليوعز إلى جُباته الغلاظ أن يفرضوا على أولئك المساكين خراجًا أكبر مما تحتمله أرضهم، ويشتطوا في مطالبتهم بذلك؛ حتى يرهقوا كواهلهم، ويضطروهم إلى الاستدانة؛ إما من يهودي القرية بالربا، أو من أحد تجارها، على أن يستولي التاجر على غلات أرضهم أو ثمارها بالأسعار التي يقترحونها، فما لبث الملاك أن رهنوا أملاكهم، ثم ما لبثت الرهون أن أُغلقت، فيتقدم سماسرة الحطيم لشرائها واحدًا بعد واحد بأثمان مبخوسة، فما هي إلا أعوام معدودة حتى اتصلت ضياع الحطيم بعضها ببعض، وصارت تلك الناحية كلها ملكًا خالصًا له، وما ينس حمدان من الأشياء، فلن ينسى أن والده كان أحد أولئك الملاك الصغار الذين سقطت أملاكهم في يد ذلك المالك الكبير، ولو بَقِيت لوالده ضيعته الصغيرة، لورِثها عنه، فاستطاع أن يعيش فيها عيشة طيبة هو وأهله وعياله، ويتمتعوا بثمرات عملهم وكدِّهم، ولم يثبت للحطيم في ميدان الصراع على امتلاك أراضي تلك المنطقة، وانتزاعها من أيدي أهلها الصغار، إلا مالك كبير آخر هو أبو الهيصم ابن أبي السباع من وجهاء تلك القرية، ماله مثل مال الحطيم، وجاهه ونفوذه ومطامعه، وقد سلك مثل السبل التي سلكها منافسه، وتم له من الاستيلاء على أملاك جيرانه الضعفاء، قريب مما تم للحطيم، وهكذا أصبح هذان المالكان سيدَي القرية، يتنازعان النفوذ فيها لدى ذوي السلطان من عامل القرية إلى والي الكوفة إلى الوزراء ورجال البلاط في عاصمة الخلافة".

في مقدمة السفر الثاني جاء قوله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175 - 176].

والآيتان مثل ضرَبه الله لمن عرض عليه الهدى، فأبى أن يقبله وترَكه، والصورة نفسها تناسبت ما بين استدلال باكثير بالآيتين، وبين صورة عبدان إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية، وخلاصتها أن عبدان "كان قد قضى عامين في واسط؛ حيث استقر به المقام عقب فراره من قريته متنكرًا في زي طلاب العلم، فاشتغل بطلب العلم محمولاً عليه في أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن لذَّ له ذلك، فلازم شيوخ العلم بها، وجد واجتهد في الدرس والمطالعة، يساعده في ذلك فرط ذكائه وتوقُّد ذهنه، وصفاء قريحته، فما تم له عامان حتى ظهر نبوغه وتقدُّمه على الأقران في كل ما اشتغل به من فروع العلم، ولا سيما في الفقه"، إلا أن فِقهه وعِلمه لم ينفعه؛ لسوء طويَّته، وفساد نيَّته، وخُبث مقاصده؛ حيث وقع في حبال الرجل الكرماني الذي كان داعيةً لمذهبه الفاسد، فكان عبدان صورة من صور الآيات التي استدل بها باكثير.

لقد أثبت باكثير من خلال مقدمات أسفاره، وما تضمنتها من أحداث ووقائع - حُسن توظيفه للآيات القرآنية؛ حيث عبرت عن قدرته في الغوص في معاني الآيات، وهذا يثبت بطبيعة الحال عِظَم الأثر الذي تركه القرآن في نفسيته، ويؤكد - بما لا مجال للشك فيه - أن الرجل كان يعيش مع القرآن، ويتفاعل معه، ويتأثَّر بنصوصه، وهو أمر لا يتأتَّى لأي إنسان ما لم يكن القرآن مرجعه وموئله، ينهل منه، ويتروَّى بمَعينه، والقرآن يعطي الإنسان بقدر اهتمامه به وعنايته له.
الثاني: البعد الفقهي:
لقد أثبت باكثير في ثنايا روايته عُمق اطلاعه على كثير من الأحكام الشرعية بصورة تظهر تنشئته العلمية في ظلال علوم الشريعة، وقد استطاع توظيف هذه الأحكام في تحقيق مقاصده وأغراضه الروائية، وهو أسلوب يعتبر - في ظني - سائغًا بل مبدعًا، بحكم محاولته تصوير هذه الأحكام في إطار حواري روائي، يخرجها من صورها المجردة التي اعتادت كتب الفقه إظهارها إلى الدرجة التي تصيب طالب العلم بشيء من المَلل إن لم يتجاوزها إلى صور أخرى، ولعل من المفيد أن نُنبه في هذا السياق إلى أن العلوم الشرعية بحاجة إلى وسائل متعددة، يتسنَّى لأربابها من خلالها نشْرها وتبليغها وتعليمها للناس، وتكاد تكون هذه الصورة التي يعرضها باكثير إحدى صورها؛ سواء كانت في إطار قصده أو عدمه، قال باكثير واصفًا شخصية عبدان ومظهرًا اهتمامه الفقهي والشرعي: "وإنه ليقرأ اليوم في باب الزكاة، أو باب المزارعة والمساقاة، أو باب الأجير، أو باب الجعالة، أو غير ذلك من الأبواب التي تبحث في معايش الناس ومعاملاتهم، وترشد إلى تنظيمها على وجه يكفل العدل والخير لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم، وقطْع دابر الظلم عنهم".

إن النص المتقدم يظهر باكثير من خلاله بعدًا آخر غير البعد الذي اعتاد عليه طلبة العلم والفقه في دراستهم للأحكام الشرعية العملية؛ حيث بيان الأحكام الشرعية والفتاوى لما يحدث للناس من قضايا، إنه ينبه في نصه هذا إلى الأثر الذي يحدثه طلب العلم والفقه في المجتمع الإسلامي، حيث يكونان وسيلةً من وسائل الإصلاح المجتمعي، ولا شك أن هذا يمثل انعكاسًا للمنهجية القرآنية التي تأثر بها باكثير، لا يمكن أن تتأتى لغيره ممن غاص في بطون الكتب الفقهية بعيدًا عن مرجعيتها القرآنية الكلية، لقد أدرك باكثير - فيما يظهر لي - أن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى التوءَمة بين الجانب العلمي والجانب الأخلاقي والسلوكي، وهذا لا يمكن إلا بأن يجمع المرء بين التعليم والتزكية، كما جمع بينهما القرآن مبينًا وظيفة الأنبياء والرسل؛ قال تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151].

فالآية تظهر هي ومثيلاتها مدى أهمية التزكية والتربية إلى درجة جعلها مقصدًا من مقاصد القرآن العليا، فهل كان فقهاؤنا معبرين عن هذا المقصد، مستحضرين له تعليمًا وتأليفًا؟!

ثالثًا: البعد التاريخي:
لقد كان الزمن الذي جعله باكثير ظرفًا لروايته هو زمن الدولة العباسية التي مرت بمراحل متعددة قوة وضعفًا، تأثيرًا وتأثرًا، وحدة وتفرُّقًا، ولا أستطيع الجزم في بيان العلة وراء اختيار ذلكم الظرف الزمني؛ لجعله محضنًا لأحداث روايته، إلا أنه يبدو لي في إطار التكهن المباح أن باكثير أراد باختيار ظرفه الزمني هذا أن يبرز مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، أحاط بها الغموض؛ بحيث لم تكن محل اهتمام المؤرخين على وجه التفصيل والبيان، كغيرها من المراحل التاريخية، ومرجع ذلك - فيما يظهر- صعوبة الوقوف على معارف ومعلومات كافية للغوص في ثنايا تلكم المرحلة توصيفًا وتحليلاً، وقد أشار إليها الطبري إشارات عابرة في تاريخه، بخلاف مثيلتها في الفكر والمنهج والمعتقد - أعني دولة القرامطة في البحرين - حيث بيَّنت كتب التاريخ شأنهم وحوادثهم ووقائعهم المشينة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يظهر أن باكثير التمس جانبًا من جوانب المماثلة في هذه المرحلة التي تتناسب مع ما عايَشه من مراحل عصره في القرن العشرين؛ حيث تتشابه وتتقارب الرؤى والأفكار والمقاصد والأغراض، وهذا ليس من فراغ، وإنما مرجعه إدراكه لأهمية قراءة التاريخ، والخروج منه بالدروس والعِظات، مؤكدًا مرة أخرى تأثره بالمنهجية القرآنية، التي اتخذت من تاريخ الأمم سبيلاً لتحقيق العبر، إنه يشير - رحمه الله - إلى أهمية استغلال التاريخ وربْطه بالأفكار؛ ليتسنى لحمَلَة المنهج تقريبه للناس من خلال أمثلة واقعية، وليثبت لهم أن حوادث التاريخ، وإن كانت ليست متطابقة صورة، إلا أنها متقاربة فكرًا ومنهجًا، وليبين أهمية البحث في التاريخ عن وصفات علاجية تمثل وسائل معينة على تجاوز أدواء الحاضر ومشاكله، مع التنبيه على عدم كونه الوصفة الوحيدة، وإنما شأنها أن تكون وسيلة من الوسائل ومنهجًا من المناهج.

لقد أظهرت رواية الثائر الأحمر هذه حجم العمق الفكري التاريخي، الذي امتلكه باكثير، من خلال غوصه في كتب التاريخ وتوظيفها في كتاباته ومؤلفاته المتعددة، وأرسل رسالةً من خلالها لأمته الغافلة، مبينًا حجم الخلل الذي أصابها بسبب بعدها عن تاريخها وأمجادها، ولا يغيب عن ذهن القارئ أن الاهتمام بالتاريخ لا يكون من جهة التباكي على أمجاد الماضي، وتذكر صفحاته المضيئة دون النظر إلى مقتضيات الحاضر، إنما هو من جهة تلمس الدروس والعظات، لقد حاول باكثير من خلال أحداث روايته، وسرد وقائعها، أن يبين أهمية النظر السُّنني الذي ينبغي أن يتبع في دراستنا لمراحل التاريخ، لقد أظهر حقيقة الصراع بين الحق والباطل في إطار سنة التدافع التي أكد عليها القرآن، إننا نلمس من خلال هذا النص حجم قوة الباطل في مواجهة الحق؛ حيث اجتمع على محاربته عدة جهات اختلفت صورها، لكن توحدت مقاصدها، إنها دفع الحق ومنهجه، وتسويد الباطل وأهله، ظهر ذلك في الرواية من خلال القرامطة بقيادة حمدان وعبدان، وغيرهما في الكوفة وغيرها، والزنج وثورتهم في البصرة، ومحاولات التجار الفجرة الذين كانوا يمارسون أعمالاً مخالفة؛ من أجل تحقيق مصلحتهم الشخصية، من خلال التقرب إلى السلطان بشتى الوسائل الممنوعة والمحظورة شرعًا، إلا أنه في ثنايا هذه الصورة السوداء يظهر الأمل، ويظهر النور في صورة رجلين يمثلان رمزًا لحملة دعوة الحق ومنهجه، الأول منهما: مثال العالم الرباني الذي جعل علمه في خدمة الدين الحق والدفاع عنه ضد أعدائه بشتى صورهم، تمثَّل في شخصية أبي البقاء البغدادي، والثاني: مثال الحاكم العادل الذي سلطه الله على الظالمين، واسترداد حقوق المظلومين، مثله الخليفة الموفق، لقد أدرك باكثير أن هذا المنهج لا يكون إلا بعلم نافع، وعمل صالح، وسلطان حاكم، وأرسل رسالةً إلى الجميع مضمونها أن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن.

لقد أحسن باكثير ووفق كثيرًا في توصيفه لفرقة القرامطة؛ بحيث أظهرها بصورة غاية في البشاعة والشناعة، وليس ذلك عن مبالغة، بل كان توصيفًا من واقعهم وعقيدتهم ومنهجهم المنحرف، ولو قدر للمرء أن يقرأ عنهم في كتاب من كتب التاريخ، فلن يصل في آخر الأمر إلى الصورة التي انتهى إليها باكثير في توصيفه عنهم، وهذا دليل من أدلة الإحكام والإتقان، الأمر الذي ينبهنا إلى قضية تكاد تكون مغيبة أو قريبًا منها، وهي ما من فرقة من الفرق المنحرفة في تاريخ الإسلام، إلا وكان لها مآرب اجتماعية في صورها، إلا أنها في حقيقتها سياسية دينية مبطنة، والغرض منها الطعن في هذا الدين وحملته وعلمائه.

الرابع: البعد الواقعي:
على الرغم من الغوص في أحداث تاريخية بعيدة في الزمن عن عصره، فإن باكثير لم يغفل عن استحضار واقعه، ذلكم الواقع الذي كان حافلاً بكثير من المفاصل الفكرية والعلمية والمنهجية، وبكثير من المواقف الموافقة والمخالفة، لقد أدرك تأخُّر أمته، وتقدُّم غيرها من الأمم، وكان في خِضَم ذلك يرى كثيرًا من أقرانه ممن أحسن مهنة الكتابة الأدبية يشرِّق أو يغرِّب، منتحلاً هذا الفكر أو ذاك - إلا من رحم الله - إنه وعلى الرغم من ذلك، أبى باكثير إلا أن يحتفظ بإسلاميته، التي اعتز بها، وجعلها المرجع لما رقمه من كتابات ومؤلفات، وقد انبرى في روايته الماتعة هذه؛ ليشكل خط الدفاع الأول ضد الأفكار الوافدة، وينبه على أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وقد لمسنا من خلال هذه الرواية أنه اتبع منهجًا يختلف عن منهج غيره من دعاة الإسلام، الذين كانت نبرة الدفاع عن الإسلام ودفع الشبهات تملك عليهم فكرهم ووقتهم، إلا أن باكثير - فيما يظهر لي - اتَّبع منهجية مغايرة، لقد أدرك أن الانشغال بالدفاع والرد على الشبهات، يُضعف موقف الراد؛ لذلك أحسن التعبير عن منهجه، من خلال تعرية الأفكار وتوصيفها بما فيها من عورات واختلالات، ولا يغيب عن ذهن القارئ أن مراحل عصره الزمنية كانت تشهد صراعًا فكريًّا وإستراتيجيًا بين دولتين عُظميين: إحداهما تسوٍّق منهجها الاشتراكي الشيوعي، والثانية تعرض منهجها الرأسمالي الليبرالي، وما أكثر من انساق وراء الدعاية الشرقية والغربية لانتحال الفكرين والمنهجين على حساب دين الإسلام ودعوته، من خلال ذلك كله استطاع باكثير أن يعرض لنا هذين الفكرين بأسوأ صورة؛ حيث غاص في مآلات وعواقب تُبنى إحداها على كثير من الأصعدة، وانظر إلى صورة الرأسمالي البغيضة التي تجعل إنسانًا فردًا، لم يكن له أدنى جهد في جمع المال وتحصيله، كيف أنه يمتلك أموالاً طائلة وأراضي شاسعة، ليس من كسب حلال، وإنما هي ثمرة الظلم والاستبداد، وأكل أموال الناس بالباطل، وكل عام يمر تزداد ثروته وتتضخم، أما غيره فيزداد فقرًا على فقر، تلكم الصورة التي تتشدق بها دول الغرب، وتجنِّد كل وسائلها الإعلامية من أجل تحسينها، وتحاول أن توظف دعايتها من أجل تصدير فكرها إلى العالم الإسلامي، وفي المقابل نرى صورة الاستبداد الطبقي الذي يبدأ بالدفاع عن حقوق الفقراء والمساكين من العمال والفلاحين، ويزين لهم ثورته ضد الاستبداد الرأسمالي، حتى إذا حقَّق مراده منها، كشَّر عن أنيابه، وأظهر خُبثه ونَتنه، فازداد ظلمًا وتجبرًا، وهل يتناسى الناس الملايين الذين قضوا بسبب آلته وطغيانه وجبروته في دولته أو في غيرها، إن علينا أن نؤكد على أن الصراع الفكري بين الشرق والغرب كان صراعًا على الوسائل والمصالح، وإن كان في صورة صراع فكري، إلا أنهما كان يمثلان وجهين لعملة واحدة، هي المادية العلمانية، وهل يمكن أن نغفل - ونحن في إطار التوصيف الفكري - عن تلكم الوسيلة الرئيسة التي اتخذها أرباب الفكرين؛ لتحقيق أغراضهم في إفساد المجتمعات؟ إنها المرأة، لقد اتخذوها سبيلاً لقضاء شهواتهم، والوصول إلى مآربهم، فادعوا حرية المرأة، والدفاع عن حقوقها، ودعوتهم في حقيقتها إنما تصب في حرية الوصول إلى المرأة، في خِضَم ذلك كله يستعرض لنا باكثير هذين المنهجين في صورة تعبيرية باهرة في أسلوبها، بشعة في مضمونها، لا أظن أن أحدًا ممن لا يزال يحتفظ بفطرته السليمة يستمرئها، أو يتقبلها بخلاف من انطمست فطرته وجِبلَّته، وانظر إلى معسكر الفريقين المختلفين في ظاهرهما، كيف يكون همهم الاستغراق في الشهوات مع النساء وشرب الخمر وغيرها؟

وهي حال لم تختلف في الحاضر عن السابق، فإن ابن الحطيم، وأبا الهيصم، والكرماني، وعبدان، وحمدان قرمط، والولاة الفجرة كلهم ومن معهم، تكررت بشخوص غيرها، لكنها بقلوب وعقول فارغة إلا من أهوائها وشهواتها، لكن باكثير في مثل هذا البحر المتموج بالأحداث والوقائع، لم ينس بعدُ انقباض صدرونا أن يشرحها بمواقف أولي الأمر من العلماء والأمراء الأتقياء في الذود عن حِمى الإسلام أرضًا ومنهجًا، واستمع إليه وهو يقص علينا خبر أبي البقاء والمعتضد، فيقول: "وكان أبو البقاء البغدادي مقصًى عن العاصمة إذ ذاك بأمر الخليفة المعتمد؛ لميله إلى المعتضد ولي عهد المسلمين حينذاك، كما كان المعتضد مشغولاً بدسائس عمه المعتمد عن الالتفات لغيرها، فكان الجو مواتيًا لعبدان كل المواتاة، كما كان مواتيًا لحمدان أيضًا فيما يقوم به من النشاط الهائل بالسواد، ولم تتغير الحال عليهما إلا حينما توفي المعتمد، وبويع بالخلافة للمعتضد، ذلك أنه ما كاد المعتضد يتربع على كرسي بني العباس؛ حتى انتعشت الخلافة ودبَّت في أوصالها روح جديدة، شعر بها أولياؤها وخصومها على السواء، فما نسي الناس أنه ذلك البطل المغوار الذي خاض ميادين القتال منذ طر شاربه، واشترك مع أبيه الموفق العظيم في صراع ذلك الطاغية الخطير، طاغية الزنج، حتى قضيَا على فتنته العظمى، فأنقذا الخلافة من خطر ماحق، وكان أبو البقاء يحبه، ويتمنى على الله أن يجلسه على كرسي الخلافة يومًا ما، ليحقق في عهده كل ما رسمه من مناهج العدل، وطرائق الإصلاح، ولم يذكر أبو البقاء أنه فرح يومًا ما فرِح يوم أعيد من منفاه بدير العاقول، فهرع إلى مجلس المعتضد؛ ليقول له: السلام عليكم يا أمير المؤمنين، فتلقاه المعتضد بمزيد الحفاوة والتكريم، وأقبل عليه، وأدنى مجلسه، وأخلى له وجهه، ومن دونه الوزراء والكبراء وأصحاب الرياسات، ينظرون ويتعجبون، قال لأبي البقاء فيما قاله: "إن بابي لا يغلق دونك بليل أو نهار، وإني أعاهد الله ربي لا تدعوني إلى خطة فيها رضى الله ورسوله وخير الناس، إلا نفذتها لك ما استطعت"، فشكره أبو البقاء، وقال له: (حسبي وحسب الناس منك هذا، وإني لأرجو الله أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة)، ثم روى الحديث بتمامه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنده، ولم يلبث أن تسامع أهل العاصمة بما دار في مجلس أمير المؤمنين بينه وبين أبي البقاء، فاستبشر عامة الناس من الفقراء والمساكين خيرًا، وقوي رجاء المظلومين من الأجراء والفعلة والصناع والأكرة أن يرفع عنهم الجور الواقع بهم وبذراريهم، وتوجَّس الأغنياء وأرباب الضياع الواسعة وكبار التجار شرًّا، فأمسوا خائفين يترقبون، ولم يكد أبو البقاء يخرج إلى أتباعه المستضعفين من مختلف الأصناف؛ ليزورهم ويتفقَّد نقاباتهم، وليبشرهم بالعهد الجديد الذي يوشك أن يدفع عنهم الحيف، ويبسط لهم الرخاء والعدل، حتى هاله ما رأى وسمع من آثار انبعاث فتنة الكرماني من جديد، وقام أبو البقاء من مجلسه وقد وقر في نفسه أن الأمر جد، وأن القرامطة قد نفثوا سمومهم في الناس، وأن الناس معذورون في الاستجابة لهم، وأنه إذا كان هذا حالهم في قلب الدولة، فكيف حالهم في أجزائها وأطرافها؟ واتصل بالخليفة المعتضد، فقص عليه ما رأى وما سمع، وقال له: "إن الدين في خطر، وإن الدولة في خطر، فإن كان لا يعنيك أن تحمي دين الله، فاحم ملكك وملك آبائك".

إن الذي يقرأ رواية (الثائر الأحمر) لباكثير، لا يشك مطلقًا في إسلامية فكره وقلمه، ويدرك أنه يرسم من خلال كتاباته منهجًا وسبيلاً يدعو من خلاله إلى الإسلام، ويقدم بذلك تعبيرًا صادقًا عن تحمُّل مسؤولية هذا الدين، وجعْله الهمَّ الأول؛ ليكون نموذجًا لكل مسلم يغار على دينه وأمته، فرحم الله باكثير، وجعل ما كتب، وسطر في ميزان حسناته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩
لقاء في بيروت مع الشاعر الحضرمي علي احمد باكثير

حديث أجراه :ابراهيم عبده الخوري
مجلة الجمهور 25/7/1968م -بيروت

- الجأ الى الاسطورة والتاريخ لاعالج من خلاله مشاكل عصرنا الحاضر .
- لا اؤمن بالفصل بين العاطفة والعقل حين نتحدث عن الاعمال الادبية.
- الشعر الحر سيستمر وجوده لانه يؤدي حاجة الى الانطلاق الشعري غير المحدود لايؤديها غيره.
- في التاريخ العربي الاسلامي مواقف عظيمة سيعيها الجيل الحاضر حين تصور في صورة درامية مؤثرة .
في حضرموت برز شعراء امدوا الخزانة الفكرية العربية بنتاجات متنوعة الابواب وفي مقدمتهم الشاعر علي احمد باكثير الذي يعيش حاليا في القاهرة . وقال الشاعر وهو يافع في حضرموت ومازال يغوص في بحوره حتى وضع قصائد عديدة في الوطنيات والعاطفيات لم يضمها ديوان حتى الان . وبعدما لمع نجمه في دولة القريض , انغمس في الفن المسرحي فكتب اول مسرحية شعرية في الحجاز تحت عنوان (همام) ونشرها بالقاهرة عام 1934م . ثم شرع يقذف بالمسرحية تلو الاخرى حتى بلغ عدد مسرحياته ستين مسرحية نشرت معظمها ومثلت في مصر , ومن بينها سر الحاكم بامر الله – مسمار جحا – سر شهرزاد – قطط وفئران – حبل الغسيل – مضحك الخليفة – فاوست الجديد – مأساة اوديب – هاروت وماروت , وقد ركز مسرحياته على مواضيع عميقة المعاني وانغمس الاستاذ باكثير في الفن الروائي , فعالج الرواية بتؤده , فوضع خمس روايات هي (سلامة القس) , (وا اسلاماه) , (ليلة النهر) , (الثائر الاحمر) , (سيرة شجاع) . كما وضع ملحمة نثرية عن عمر بن الخطاب في 19 جزء .
واثناء زيارته الاخيرة الى بيروت كان لي لقاء مع الشاعر الحضرمي في منزل المجاهد العربي الاستاذ محمد علي الطاهر وكان لقاء ادبيا ناعما .

س/ اعتنيت كثيرا بالمسرحية , ونلاحظ ان بعض مسرحياتك مأخوذة من باطن التاريخ العربي الغابر , فهل من سبب ؟

لان في التاريخ العربي الاسلامي مواقف عظيمة رائعة ينبغي ان يعيها الجيل العربي الحاضر حين تصور في صورة درامية مؤثرة . وشكسبير كتب الكثير من المسرحيات التاريخية التي استلم فيها تاريخ بلاده . والمعروف ان التاريخ يربط حاضر الامة بماضيها . ولا حياة لامة مبتورة الصلة بماضيها .

س/ ونلاحظ ايضا ان للاسطورة دورا في اعمالك ؟

هذه حقيقة واقعة . والاسطورة عندي اهم من التاريخ , لانها اقدم من التاريخ واشد امتلاء بالتراث القومي والشعبي من التاريخ . ولهذا الجأ الى الاسطورة كثيرا لاعالج من خلالها مشاكل عصرنا الحاضر .

س/ اية مشاكل تعني ؟

مشكلة السلام وعصر الفضاء في (هاروت وماروت) ومشكلة الطموح الانساني والقلق النفسي لدى الانسان المعاصر في (فاوست الجديده) , ومشكلة القضاء والقدر من وجهة النظر الاسلامية في (مأساة اوديب) .

س/ معنى كلامك هنا ان الانسان العربي يشارك العالم في قلقه النفسي ؟

هذه القضية . انا لااؤمن بالفصل بين العاطفة والعقل حين نتحدث عن الاعمال الادبية . فالعمل الادبي بالضرورة مزيج منهما معا , ولا يستطيع الاديب ذاته ان يتحكم في مقدار العاطفة او العقل في ادبه .

س/ من المؤسف استاذ باكثير ان معظم الاعمال الشعرية التي قيلت في قضية فلسطين قد ارتكزت على العاطفة !!

من الطبيعي جدا ان ترتكز هذه الاعمال الشعرية على العاطفة , لان أولئك الشعراء يصفون الجراح الغائرة التي في قلوبهم . ولا مكان حينئذ للعقل الا في جانب قليل . والرسالة التي يحملها أولئك الشعراء الى العربية هي ان يعمقوا احساس الامة بالمأساة , ويذكروها بانها قضية حياة او موت , قضية مصير , ولا يطلب منهم ان يحللوا ابعاد القضية واسبابها وكيف السبيل الى حلها .

س/ من الذي عليه ان يستند الى العقل والمنطق دون العاطفة ؟

المفكرون والكتاب السياسيون هم الذين عليهم ان يلتزموا العقل والمنطق فيما يكتبون عن هذه القضية وغيرها . ولكل طائفة مجالها وواجبها .

س/ يقال انك اول من كتب الشعر الحر , ثم انقطعت عنه فلماذا ؟

كتبت باديء ذي بدء في المجال المسرحي , وكتبت ترجمة لـ (روميو و جوليت) بالشعر الحر , ثم الفت مسرحية (اخناتون ونفرتيتي) ومسرحية (الوطن الاكبر) , وكان ذلك بين عامي 1936 و 1941م , وانقطعت عن الشعر حين صرت اكتب مسرحياتي النثرية .

س/ هل ترى ان الشعر الحر الذي طغى موجته على العالم العربي سيستمر وجوده ام سيضمحل ؟

اعتقد ان هذا الضرب من الشعر سيستمر وجوده لانه يؤدي حاجة الى الانطلاق الشعري غير المحدود لايؤديها غيره . ومادمت انا مؤمن بالحاجة الى وجوده فلاشك انني مؤمن بان وجوده سيستمر جنبا الى جنب مع الشعر الكلاسيكي .

س/ ولكن هناك معركة بين انصار الشعر الكلاسيكي وانصار الشعر الحر !!

هذه المعركة طبيعية لانها تقوم دائما بين كل جديد وكل قديم , وانا ارى ان هذه المعركة لن تسفر عن انتصار احد الفريقين على الآخر , لانهما يتعاركان في ميدانين مختلفين , لكل منهما ميدان وحتما ستنتهي هذه المعركة ويعيش النوعان من الشعر جنبا الى جنب في تعاون وسلام .

س/ يقال ان الشعر الحر مقتبس عن الغرب ؟

هذا صحيح لانه حدث لي انا نفسي , فلولا اطلاعي على الشعر المرسل عند شكسبير وغيره لما خطر لي ان اقوم بهذه التجربة في الشعر العربي ولكن ليس معنى ذلك انه تقليد اعمى للشعر الغربي دون حاجة حقيقية اليه في شعرنا العربي .

س/ وباعتباره شعرا جديدا, فهل هو مؤهل لان يعبر عن خلجات الامة العربية في المستقبل ؟

نعم لا اشك انه مؤهل لهذا الغرض في المستقبل , بل ان ما كتب منه قد استطاع ان يثبت وجوده في قدرته على التعبير عن تلك الخلجات .

وأردت ان احرج الشاعر علي احمد باكثير فقلت له:

س/ منذ مدة وانت منقطع عن قرض الشعر , فهل هذا من باب الكسل , ام ان المعين قد جف ؟

فقال ضاحكا :

انا اعترف لك بان ينابيع الشعر الفياضة قد جفت عندي ولم تعد كما كانت في عهد الشباب , وذلك عندي امر طبيعي لان الشعر في رأي هو لغة الشباب الاولى . ومعظم الشعراء العالميين اما ماتوا وهم شبان مثل كيتس وشيلي , او قالوا احسن شعرهم وهم شبان مثل وردزورث , وخاصة اذا كان للشاعر وهو يودع عهد الشباب وسيلة اخرى للتعبير عن نفسه غير الشعر , مثل القصة والمسرحية , اذ يكون هذا النوع الاخير من التعبير اوفق لمزاجه واقدر على استيعاب المجالات التي اتسعت امامه كلما نضج ذهنه وترامت آفاق رؤيته

۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩


بشهادة السياب وموريه.. باكثير رائد للشعر الحر

بقلم : محمد القصبي


حين يأتي الحديث علي نازك الملائكة أو بدر شاكر السياب تقفز الي الذهن مباشرة مسألة ريادة شعر التفعيلة ..حيث ينشطر الكثير من النقاد ما بين مؤيد لفكرة ريادة نازك لهذا النوع من القصيد ..بينما يبدي فريق آخر حماسا أشد للسياب باعتبار أنه الأسبق في هذا الشأن..الا أن ثمة أسماء أخري في الحقيقة يمكن أن تدخل مجال الجدل متكئة علي أسباب منطقية .. من هؤلاء الأديب الكبير علي أحمد باكثير الذي مضت ذكري رحيله الأربعون ..بل والذكري المئوية لميلاده دون أي محاولة جادة لتسليط الضوء علي دوره في اثراء الحركتين الشعرية والمسرحية خلال القرن العشرين ..خاصة أنه لايعدم بين النقاد ومؤرخي الحركة الأدبية العربية من يري أنه الرائد الأول لقصيدة التفعيلة..!لماذا هو؟ولد علي بن أحمد بن محمد باكثير الكندي في 21ديسمبر عام 1910 بأندونيسيا، لأبوين يمنيين من منطقة حضرموت..وتوفي بالقاهرة في العاشر من نوفمبر عام 1969.. وما بين الميلاد والرحيل رحلة متخمة بالعطاء المثيرفي كثير من الأحيان للجدل .. حين بلغ باكثير العاشرة من عمره سافر به والده إلي حضرموت لينشأ هناك نشأة عربية إسلامية مع إخوته لأبيه.. وهناك بدأ في تلقي تعليمه في مدرسة النهضة العلمية ودرس علوم العربية والشريعة علي يد شيوخ أجلاء منهم عمه الشاعر القاضي محمد بن محمد باكثير ..وظهرت مواهب باكثير مبكراً فنظم الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وتولي التدريس في مدرسة النهضة العلمية وتولي إداراتها وهو دون العشرين من عمره ..وصل باكثير إلي مصر عام1934 م، حيث حصل علي ليسانس الآداب قسم اللغة الانجليزية من جامعة الملك فؤاد عام 1939، وقد ترجم عام 1936أثناء دراسته في الجامعة مسرحية روميو وجولييت لشكسبير بالشعر المرسل، وبعدها بعامين ألف مسرحيته اخناتون ونفرتيتي بالشعر الحر..لذلك يراه كثير من النقاد الأحق بأن يوصف بأنه رائد هذا النوع من القصيد.. ووراء اتجاهه للشعر الحر قصة لاتخلو من الجاذبية ..حيث يقال إن أستاذه البريطاني الذي كان يدرس له الأدب الانجليزي في جامعة الملك فؤاد " جامعة القاهرة حاليا " كان يردد علي مسامع طلابه المصريين والعرب في فخر ان اللغة الإنجليزية اختصت بالبراعة في الشعر المرسل وان الفرنسيين حاولوا محاكاته في لغتهم فكان نجاحهم محدوداً، وأن اللغة العربية لا يمكن أن ينجح فيها هذا اللون من الشعر،الا أن الطالب علي أحمد باكثير رد عليه قائلا: أما أنه لا وجود له في أدبنا العربي فهذا صحيح، لأن لكل أمة تقاليدها الفنية، وكان من تقاليد الشعر العربي التزام القافية، ولكن ليس ما يحول دون إيجاده في اللغة العربية، فهي لغة طيعة تتسع لكل شكل من أشكال الأدب والشعر" .فنهره أستاذه وقال له: - كلام فارغ. واشتعلت في دواخل باكثير روح التحدي فعاد الي النسخة الإنجليزية من مسرحية " روميو وجولييت " لشكسبير ..حيث تخير منها مشهداً فعالجه بالشعر المرسل ثم ترجم المسرحية كلها.. وهذه القصة رواها باكثير نفسه خلال حوار اذاعي أجراه معه الشاعر والاعلامي الكبير فاروق شوشة في برنامج فن وفكر بالتليفزيون الكويتي عام 1969م والذي أعيد نشره في مجلة " اليمن الجديد "ويقول بعض الراصدين للحركة الأدبية في هذه الفترة ومنهم الدكتور عبده بدوي في كتابه" علي أحمد باكثير شاعراً غنائياً " ان باكثير وجد أن هذا اللون من الشعر يصلح أكثر للشعر المسرحي أو المسرح الشعري، فكان اكتشافه لسر البناء بالتفعيلة بمعني أن تكون وحدة نغمية تتلاحق بتدفق دون نظرة إلي الحيز الذي تشغله .. ومن ثم فقد خضعت له تفعيلة المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعولن) أثناء الترجمة.. ويستند بعض الباحثين العرب للتأكيد علي ريادة باكثير للشعر الحر الي شهادتين مهمتين للغاية ..تلك التي وردت في كتاب س .موريه " حركات التجديد في موسيقي الشعر الحديث" ترجمة سعد مصلوح..وأخري جاءت علي لسان بدر شاكر السياب ..فموريه يري أن قصيدة باكثير التي نشرها في مجلة الرسالة عام 1945م بعنوان " نموذج من الشعر المرسل الحر " تعد إحدي تجربتين مهمتين لا يمكن إغفالهما، لأنهما دفعتا الشعر الحر خطوة إلي الأمام.. ويقول الشاعر أحمد فضل شبلول في مقال له بمجلة رابطة أدباء الشام التي تصدر من لندن ان القصيدة التي يقصدها س . موريه هي قصيدة " يا فرنسا اسمعي " المنشورة في 25 يونيو عام 1945م بمجلة الرسالة. شهادة السيابأما السياب فقد صرح قائلا : " إذا تحرينا الواقع وجدنا أن الأستاذ علي أحمد باكثير هو أول من كتب علي طريقة الشعر الحر في ترجمته لرواية شكسبير " روميو وجولييت بعد أن ظلت تنتظر النشر عشر سنوات "والمدهش أن باكثير نفسه أسند فضل الريادة لغيره ..حين قال خلال لقائه التليفزيوني بفاروق شوشة " هناك محاولات من جميل الزهاوي الشاعر العراقي اقتصر فيها علي إرسال البيت من القافية، فالأبيات كما هي في الشعر العربي القديم، إلا أنه أطلقها من القافية وسماها بالشعر المرسل، ثم جاء بعد ذلك الأستاذ محمد فريد أبو حديد ونظم نظماً مختلفاً عن هذا لأنه أرسل البيت من القافية وزاد علي ذلك بأن اعتبر البيت الشطر بيتاً . لأنه انصرف عن الشعر> فلماذا لم يثبت باكثير في الذاكرة العربية كرائد للشعر الحر أو علي الأقل أحد رواده الأوائل ؟لأنه انصرف عن الشعر ..وانشغل في كتابة المسرحية النثرية .. حيث كان يري في النثر اللغة الأمثل للمسرحية مهما كان موضوعها شعرياً..!وبالتالي لم يثابر في تطوير ما بدأه..!
علي أية حال.. في ديسمبر من العام المقبل تهل الذكري المئوية لميلاد علي أحمد باكثير..أي مازال أمامنا أكثر من عام لنفكر وندبر كيف نحتفي بهذا الأديب الكبير الذي خلف وراءه بصمة قوية علي مسيرة الأدب العربي الحديث .. وأشد ما أخشاه أن يفاجئنا يوم الحادي والعشرين من ديسمبر 2010 دون أن نكون قدأعددنا شيئا للاحتفال بمئوية الرجل ..وليس مستبعدا أن يمر ذاك اليوم دون أن نتذكره..!

۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩



باكثير وتاريخ الشعر والشعراء في حضرموت
الدكتور محمد أبو بكر حميد



** قد يعجب القارئ العربي ـ أن يكون لأديب العربية الكبير الشاعر علي أحمد باكثير، الذي أمضى حياته خالصة للإبداع الفني، كتاب في الدراسة الأدبية، ولكن من الحق أن نقول أن أديبنا قد بدأ حياته، في حضرموت، شاعراً وباحثاً أدبياً، ولقضية باكثير مع البحث الأدبي قصة لا يعلمها إلا قلة من الناس.
وقد كان من حظي أن حصلت على كتاب مخطوط بقلمه؛ بعنوان "شعراء حضرموت" ويبدو أن هذا الكتاب من عدة أجزاء في كراريس مدرسية، ولكن ما حصلت عليه كانوا ثلاثة أجزاء، فيها ترجمة لما يقرب من أربعين شاعراً، ولعل هذا الكتاب هو أقدم صورة للنثر الأدبي عند باكثير.
** وقد افتتحه بإهداء نفهم منه أن هذا أول كتاب عن "شعراء حضرموت" ثم بمقدمة تحدث فيها ـ إجمالاً ـ عن الحياة الأدبية، في حضرموت، منذ أقدم العصور، وبأن حضرموت في عصورها الأولى، قد أعطت للأدب العربي شعراء من الطراز الأول، يجيء في مقدمتهم أمرؤ القيس الكندي، ثم جاءت فترة هبط فيها الشعر الحضرمي إلى درك من الانحطاط، ضاع ـ في أثنائها ـ الجانب الجليل منه، ولم ينبغ ـ في خلال تلك العصور ـ إلا القلائل؛ مثل الشاعر العبقري أحمد بن عقبة الزيادي، والشاعر الكبير عبد الصمد باكثير، والشاعر المطبوع أحمد بن أبي بكر باذيب الشبامي، وغيرهم.
وتحت عنوان "الشعر الفصيح والشعر العامي" يتحدث علي أحمد باكثير عن أسباب ازدهار الشعر العامي، وانحطاط الشعر الفصيح في هذه الفترة؛ ذلك لأن العلماء، في حضرموت، قد حاربوا الشعر الفصيح، وعدوه ـ في كثير من الأحوال ـ مروقاً عن الدين، وجعلوا تعاطيه من المعاصي، ولما لم تكن هناك جسور بين هؤلاء العلماء وبين شعراء العامية ـ فقد انطلقوا يشدون على سجياتهم، وبكل ما يمور في نفوسهم، وتجيش به قلوبهم، ولم يكن العلماء ينظرون إلى شعر العامية نظرة جدية.
ومن هنا يطرح باكثير رأياً فنياً وتاريخياً هاماً؛ يقول فيه إن شعراء العامية، في حضرموت، أضعاف شعراء الفصيح، وإن الشعر العامي أغنى من الشعر الفصيح بمراحل، ولو لم تنجب حضرموت إلا أمثال " ابن زامل " و " أبو ريا " و" عبد الحق " لكفاها ذلك فخراً، وقد بلغ شعرهم مبلغاً كبيراً من الرقي الفني، وطرقوا الكثير من الأبواب المعروفة في الشعر العربي، وقد بلغ تفوقهم في ارتجال الروائع ـ بشكل " لا يوجد في شعر أمة أخرى " كما نص على ذلك باكثير.
وتحت عنوان " الشعراء المتقدمون والشعراء المتأخرون " يذكر بأنه يعني بالمتقدمين: أولئك الشعراء الذين قضوا نحبهم، قبل طلوع فجر الرابع الهجري، وبالمتأخرين: خلافهم، ويصعد تاريخ من ظفر به من المتقدمين إلى القرن التاسع الهجري، وقد ازدهر الشعر الحضرمي، في القرن الرابع عشر الهجري، على أيدي أدباء وشعراء؛ مثل أبي بكر بن شهاب، وعبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، وعلي بن حمد الحبشي، ومحمد بن هاشم ابن يحيى، وكثير من نجوم الحياة الأدبية، في هذه الفترة.
وتحت عنوان " المتأخرون " ـ يذكر بأنه يقصد بهم شعراء القرن الرابع عشر الهجري ، ويدخل فيهم المعاصرون ، ثم يشرح منهجه الأدبي في الحديث عن هؤلاء الشعراء ، و عن الصعوبات التي
واجهته في جمع هذه التراجم، وطريقته في انتقاء أشعارهم.
وتحت عنوان " نظرة إجمالية في شعرهم " يتحدث عن أحكامه الفنية على شعرهم، ويأسف بأن هذا الشعر لا يزال يسير في دروب الشعر القديم، ويترسم مواقع أقدام فحوله، ويبكي على الأطلال، ويتغزل في سعد، وزينب، ولعلى، والرباب، وسلك بعضهم مسلك أبي العتاهية في التزهيد في الدار الفانية، لكنه يذكر، بفخر، بعض الشعراء الذين ـ قفزوا بالشعر العربي، في حضرموت، قفزة راقية، حين اتصلوا ويتصلون بالفنون الأدبية الحديثة.
** المهم أننا نفهم، من هذه المقدمة، أن علي أحمد باكثير كان على عزم أن يكتب عن شعراء حضرموت، في عصورهم القديمة والحديثة، ونفهم ـ أيضاً ـ أنه قد كتب بالفعل عن الأقدمين، لكنه ـ في عبارة غامضة ـ يذكر بأن ما كتبه عن الأقدمين كان في أوراق " احتجبت " عنه، ولذلك اكتفى بالمحدثين، وبأربعة من الأقدمين، وقد ذكرناهم، وهذا كله يؤكد بأن باكثير أول من كتب عن " شعراء حضرموت " ولكن لماذا لم ينشر باكثير هذا الكتاب الفريد في موضوعه ؟
ومن الصعب ـ الآن ـ الإجابة على هذا السؤال، ولكن ظهور كتاب " تاريخ الشعراء الحضرميين " في خمسة أجزاء للأستاذ عبد الله السقاف ربما كان له علاقة في دفع باكثير إلى الإحجام عن نشر كتابه، إضافة إلى الأجزاء التي " احتجبت " عنه (!!) ولكلمة " الاحتجاب " قصة يعرفها الكثير من المقربين إلى باكثير وقتها.
** وبعد: فإذا كان كتاب السقاف قد قدم جهداً رائعاً وتاريخياً عن شعراء حضرموت ـ فإن كتاب باكثير ـ الأسبق منه ـ يقدم الجهد الأروع: لأنه يجمع بين النظرة الفنية والقيمة التاريخية معاً.
وحتى تتكامل الصورة ـ فإننا سنعمل على إعداد كتاب باكثير للنشر، ولكن هذا وحده لا يكفي؛ فشعراء حضرموت بحاجة إلى جهود، وبحاجة إلى أن يوضعوا في ميزان نقدي أكثر معاصرة.

۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩





قالوا عن باكثير:

الدكتور نجيب الكيلاني :"وأرى أن باكثير مدرسة متميزة في معظم إنتاجه المسرحي تحمل الطابع الإسلامي، وهي مدرسة لم تأخذ حقها بعد من التحليل والدراسة."

الدكتور: مصري عبد الحميد حنورة :باكثير المبدع بين السلفية والمعاصرة،والواقع أن هذا الشاعر كما قدمنا ارتبط بالسلف الصالح من حيث المعاني والقوالب، وقد جدد في المعاني كما جدد في القوالب التي صب فيها خبراته، أما الأهداف فقد كانت دائماً جديدة ....
ومن هنا يمكن القول بأن علي أحمد باكثير، وإن ارتبط بالسلفية في بعض معانيه وقوالبه، إلا أن أهدافه كانت دائماً متجددة ومعاصرة.
...........
بإيجاز يمكن القول أن مسألة السلفية والمعاصرة ليست مما كان يشغل باكثير، لأنه تجاوزها بفهمه الواعي للعملية الإبداعية، فالإبداع تجديد، وهو ارتكاز على محاور أرس معالمها الأسلاف ومن ثم فقد كان الإبداع من منظور باكثير هو الجمع بين السلفية والمعصرة بحيث يصل في النهاية إلى شاطئ الأصالة، أي "إلى شاطئ الإبداع"
هل يمكن القول بعد ذلك أن باكثير كان شاعراً مسرحياً؟ نعم كان، وهل كان شاعراً سلفياً؟ أيضاً كان، وهل كان شاعراً مجدداً؟ بلا ريب كان، وكاتب رواية؟ نعم هو كذلك، وهل اعتمد على التراث؟ نعم وإلى حد بعيد.
هل يمكن بعد ذلك القول بأن ما أبدعه كان أصيلا؟ أجل نقولها دون تردد، وهو ما يدعونا إلى الإيجاز بالقول بأنه كان، وسيظل إلى أن يشاء الله، ظاهرة إبداعية متفردة، فهل يا ترى يجد باكثير من يرى في استكناه أسرار هذه الظاهرة الإبداعية عملاً له قيمته؟ لعل وعسى.

عبدالله الطنطاوي :

وهكذا نخلص إلى أن الرائد الأول للشعر الحر هو علي أحمد باكثير، لأنه أول من استخدم التفعيلة في البيت، واكتشف البحور الصافية وميزها من غيرها من البحور المزدوجة التفعيلة، كما اهتدى إلى صلاحية بعض البحور للنظم المسرحي دون بعض.

رفعت سلام :

ويبدو أن هذه المسرحية الشعرية الوحيدة في إنتاج باكثير المتراكم (مسرحية إخناتون ونفرتيتي) هي إنجازه التاريخي من وجهين أساسيين: الأول أنها الريادة الأولى في المسرح الشعري العربي في تطوره الجديد، بشكلها الشعري الجديد الذي حققته، والذي كا متجاوزاً للمناخ الثقافي الذي صدرت خلاله. والثاني أنها العمل المسرحي الشعري الأول الذي تحقق فيه –نسبياً بناء الشخصيات الداخلي.

بدر شاكر السياب :

وإذا تحرينا الواقع وجدنا أن علي أحمد باكثير هو أول من كتب على طريقة الشعر الحر في ترجمته لرواية شكسبير روميو وجولييت التي صدرت في كانون الثاني عام 1947م بعد أن ظلت تنتظر النشر عشر سنوات، كما يقول المترجم.


الدكتور نذير العظمة:

باكثير ... الرائد
لقد ألقى النقاد ضوءاً كافياً على إسهامات العراق وما يزال كثير من الدارسين يعتقد خطأ أن ظاهرة الشعر الحر هي من إنجاز المدرسة العراقية وحدها وهو بعض الحقيقة لا الحقيقة كلها، إلا أن ريادة هذا النوع الشعري ليست لنازك الملائكة ولا لبدر شاكر السياب كما يعترف هو نفسه في واحدة من مراسلاته لمجلة الآداب البيروتية 1954م، بل لعلي أحمد باكثير وهو شاعر مسرحي من حضرموت من الجزيرة العربية.



سيد قطب :

وأنا أحد الذين كانوا يزعمون لأنفسهم أنهم ممن يهتمون بقضية فلسطين ويتبعون خطواتها، ويهتفون بها هتاف المتحمسين لها، وقد تضمن ديواني الأول من أكثر من عشر سنوات تحية لأبطال فلسطين ... أنا الذي زعمت لنفسي يوم نظمت هذه القصيدة، وأيام تتبعت قضية فلسطين في مراحلها المختلفة أنني ممن يعرفون هذه القضية، أشهد أن رواية: شيلوك الجديد قد أطلعتني على أنني كنت واهماً فيما زعمت، مغالياً في حقيقة اهتمامي بهذه القضية المقدسة، فلقد كشف لي الأستاذ باكثير عن حقيقة وضع القضية، وحقيقة العوامل التي تتصارع فيها، بما لم يكشفه لي كل ما وصل إلي يدي عنها خلال خمسة عشر عاماً أو تزيد.







مراثٍ في باكثير:



محمد بن أحمد الشاطري:

هوى القمر المطل من الجنوبِ=على الدنيـا وآذن بالغـروبِ

علـي نجـلٍ لأحمـد باكثيـرٍ=أصيب وكان خير فتى مصيبِ
بسيـون الطويلـة نـشـأوه=فكان لها النجيب ابن النجيـبِ
وها هي في مكان القلب منهـا=تأبنـه فتـشـرق بالنحـيـبِ
وإن غمر الكنانـة منـه مـدٌ=فإن المد ليـس مـن الغريـبِ
فقد نادى الفقيد ببيـت شعـرٍ=وكـان لبيتـه أدنـى مجيـبِ
"ولو ثقفت يومـاً حضرميـاً=لجاءك آية" العجـب العجيـبِ
ومن إنتاجه فـي ربـع قـرنٍ=بلاد العرب في خصبٍ خصيبِ
فقل للشـرق والإسـلام عنـه=قفا فلنبكِ من ذكـرى حبيـبِ
ثقافتـه العميـقـة أورثـتـه=يقينـاً بالخلـود وبالغـيـوبِ
فلو كشف الغطا ما ازداد قـطٌ=يقيناً عن يقيـن "التلسكـوبِ"
ترى أدب الأديب عليه تاجـاً=يزين جماله حسـب الحسيـبِ
وجاء مهذباً من صنـع جيـلٍ=أخص صفاتـه نقـد العيـوبِ
فلم يك بالعميل ولا الشعوبـي=ولم يك بالهزيل ولا المعيـبِ
هو الأدب الذي خدم المبـادي=وجاهد قصد تحرير الشعـوبِ
بأقـلام إذا قـذفـت أتتـنـا=بأعظم من صواريخ الحـروبِ
فهذي فعلها فـي الجسـم بـادٍ=وتلكم في العقول وفي القلـوبِ
وكم من صفحةٍ كتبـت يـداه=بنـارِ فهـي تنـذر باللهيـبِ
فتقرأهـا العروبـة باعتـزازٍ=ويخشاها العـدو بتـل أبيـبِ
ليرحمـك الإلـه أبـا كثيـرٍ=فأنت حقيقـة البطـل الأديـبِ

۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩


رعد أمان
باكثير


سمح الشعرُ حينما ضـنَّ عصـرُ=وهفا القلـبُ بعدمـا هـبَّ فكـرُ

واستفاقت أطيـافُ مـن شردتـه=غائـلاتُ الزمـانِ إذ ران دهـرُ
فمضـى تاركـاً بـلاداً وأهـلاً=يقطع السُّبْلَ جائبـاً وهـو غِـرُّ
الفيافـي تمتـد فـي ناظـريـه=وقفـارٌ مثـل الأمانـيِّ غُـبـرُ
زاده فـي مسـيـره ذكـريـاتٌ=هي في روحـه الرقيقـة جمـرُ
من ربى (حضرموت) أسرى شقياً=لؤه اليـأسُ والضنـى مسبطـرُ
أين (سيئـون) و(المكـلا) ووادي=(دوعنٍ) أينها (شبـامٌ) و(شِحـرُ)
و(تريـمٌ) كأنهـا مـن بـهـاءٍ=تتزيـا و(الغيـلُ) سعـدٌ وبشـرُ
ورأى بارقـاً يـشـعُ خـجـولاً=من كُـوىً خالهـا الشقـيُّ تفـرُّ
(عـدنٌ) هـذه تناديـه .. ماكـا=ن سواها رجاءَه .. هـل يمـرُّ؟
فـإذا بالجـوَّاب يُلقـي رحـالاً=أوهنته من بعدمـا انهـدَّ ظهـرُ
إنمـا الظافـرُ الـذي إن أماتـت=هُ الخطوبُ العظامُ أحيـاه صبـرُ
***
وكمن ضجَّ هاتـفٌ فـي حنايـا=هُ بأمـر الرحيـلِ منهـا يُسـرُّ
أعرض الشاعرُ الشريدُ يحـثُّ ال=خطو أين (الحجاز) بل أين (فِهرُ)
كلما جـاز موهنـاً ألـف قفـرٍ=مـن بعيـدٍ بـدا لعينيـه قـفـرُ
وإذا بالحجـاز بـعـد زمــانٍ=تتجلـى لــه هــوىً يفـتـرُّ
ريحهاالمسكُ فاح في كل صقـعٍ=تربها من ندىً طيـوبٌ وعطـرُ
هو حينٌ قضـاه فيهـا يصفـي=الروحَ، والروح ليس يكفيه وفـرُ
غازلته المنى فهبَّ إلى (مصـرَ)=وكانـت أمُّ الأمانـيِّ (مـصـرُ)
وإذا بالأديـب والشاعـر الـفـذِّ=هنـا فـي أكنافـهـا يستـقـرُّ
(باكثيرٌ) في مصرَ أعطى كثيـراً=وقليلٌ عليـك يـا مصـرُ كّثـرُ
أيها اليعربي من (حضرموت) ال=مجدِ قد سار في المدى لك ذكـرُ
أنا ما جئتُ أنشـد اليـوم شعـراً=لا وربي .. فأنـت كلـك شعـرُ
إنمـا جئـتُ كـي أراك عيانـاً=شاعراً عزَّ في الورى لـه نِظـرُ

۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩

سعيد محمد دحي
همام في بلاد الأحقاف

السندبـاد عـن بـلاده بعيـدْ
يعيـش فـي فردوسـه سعيـدْ
قـد طفحـت يـداه بالـذهـبْ
لكـنـه يـشـده الحـنـيـن
لبـؤرة السـهـاد والأنـيـن
لأرضــــه الـقـفــراء
لـلـطـوبـة الـغـبــراء
لنخلـة تمـوت كــل يــوم
تصـرع فـي عنـادٍ موتهـا
تـشـمـخ فـــي إبـــاءْ
*****
والـنـاس فــي الأحـقـافْ
هياكـل يقتاتـهـا السّـغـبْ
عـيـونـهـم صــفــراء
رؤوسهم جماجمٌ يسكنها الخواءْ
عـمــائــمٌ تــســـودْ
وجــبّـــة تـــــرودْ
تـفـتـح كـــل يـــوم
ستيـن صـنـدوق خـرافـة
الـسـنـدبــاد عـــــادْ
يـا فرحـة النجـوم والقمـرْ
وخفقـة الـرمـال والحـجـرْ
بـلاده لا تـعـرف الربـيـعْ
تكتحـل العـيـون بالمـطـرْ
قـطـراتـهـا يــاقــوتْ
وسـيـلـهــا نـــــدرْ
*****
همام في بلاده يمزق الأكفـانْ
ويحـرق التابـوت والأوهـامْ
هـمـام رائـــد جـديــدْ
يبـشّـــر بــالأمـــلْ
لـيـكـنـس الأحــــزانْ
****
همام في بلاده يصارع الأخطارْ
فنبتـت فـي رأسـه حقيـقـةْ
:فقالهـا صريـحـة طليـقـة
يـا سادتـي يـا أخـوتـي
آمـالــكــم كـبــيــرة
قلوبكـم تنـبـض بالحـيـاة
لكـنـكـم وا حـسـرتــاه
أحـقـادكــم كـثــيــرة
أرواحــكــم شــريــرة
تمشـون حاسـري الـرؤوسْ
تشدكم أقدامكـم إلـى الـوراءْ.
همام في بلاده يصارع الأخطارْ
يـسـمـع كـــل يـــومْ
صـــفـــارةالإنـــذارْ
تهولـه خـطـورة الطـريـقْ
فيمسـك السكـان والفـرامـلْ
ويــوقــف الـمـسـيـرْ
*****
السندبـاد عــاد للأسـفـارْ
لكنـه علـى مـدى قـريـبْ
يـرقـب مـــن بـعـيـدْ
وا أسفـا عليـك يـا هـمـامْ
وقفت في منتصـف الطريـقْ

*****
أوديب يستيقـظ مـن غفوتـه
أوديب قد كفّـر عـن غلطتـه
لــن يـشـرب الـرذيـلـة
لــن يحتـسـي الـهــوانْ
أوديب في بلادنا مفتح العينيـنْ

*****
الــهــرم الـمـقـلــوبْ
تعـود فيـه نبضـة الحـيـاة
فانـتـصـبـت قـامـتــه
كـالـمــارد الـجـبــارْ
ينزع عـن قرصانـه النهـارْ
يــمــزق الأكــفـــانْ
ويـكـنــس الأحــــزانْ
يصـنـع مـــن جـديــدْ
حـضــارة الإنــســانْ

۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩


حسن بن عبدالرحمن بن عبيدالله
آية الفن

حنّ للغربة فانسـاب بهـا وهـو صغيـرْ

وفؤادٌ لم يـزل يهـوي بـه شـوقٌ كبيـرْ

وأزاهيـر مـن الآدابِ نــورٌ وعبـيـرْ
*****
عاش كالكوكب في الآفاقِ من بـرجٍ لبـرجِ

في طلاب الأمل المنشـود مـن فـجٍ لفـجِ

كلمـا عـادت أمانيـه بـه عـاد يرجـي
*****
قصرت من خطوهِ الريـحُ فـأولاه الخيـالا

حائماً في فلـواتِ العيـشِ يرتـادُ الكمـالا

وهـو بالنيـلِ كالنبـراسِ نـورٌ يـتـلالا
*****
قلـتُ للشاطـئ والنيـلُ يغنيـه بهـمـسِ

يا تراه ليس يـدري بالـذي نابـك أمـسِ

أفما يشجيه أن يمشي على أشيـاء خـرسِ ؟
*****
أيها النهر لقد ضاعت علـى الشاطـئ درّه

طالما أضفت على صفحته بالشعر نضـره

وأقامت فـي بهـاءِ العلـمِ للأعيـن قُـرّه
*****
أيـن منـا آيـة الفـنِ العلـي الباكثـيـرْ

ذلك المعدود فرداً وهو فـي النـاسِ كثيـرْ

كلُّ أرضٍ مثَلٌ مـن شعـره فيهـا يسيـرْ
*****
قد فقدناك علـى ضـوء تباشيـر الصبـاحْ

بعد ليـلٍ دامـسٍ خضـتَ دجـاه بالكفـاحْ

أشِر الدهرُ فلـم تبرحـه إلا وهـو صـاحْ
*****
أنت لم تجنِ مـن الدنيـا قطافـاً لجهـادكْ

فهو ذخرٌ لك عنـد الله فـي يـوم معـادِكْ

حيث ما مـن صـادقٍ إيمانُـه إلا هنالـكْ
*****
عالم الخلدِ الذي شدتَ به في الأرضِ شعـرا

قد حواك اليوم من طول ركوب الصبر ظهرا

فاهنأ اليوم بمن شدتَ بهم في الأرضِ ذكـرا
*****
أنت أحببتَ رسولَ اللهِ مـن فجـرِ شبابِـكْ

وتعشّقـتَ بـه سـرّ كمـالٍ مـن كمالِـكْ

كيف لا يأتي شفيعاً لك فـي يـومِ مآلِـكْ ؟
*****
إن تكن مِتَّ غريبـاً فلقـد عشـتَ غريبـا

كلما يمّمتَ أرضاً لـم تجـد فيهـا ضريبـا

ما صحبتَ العيشَ إلا شعلـةً تفنـى لهيبـا
*****
لكِ يا مصرُ مـن الأحقـافِ آيـاتُ الـودادِ

ضاقت الأقطـارُ إلاكِ علـى أهـلِ السـدادِ

فاكفلي منّا فتىً خرّ صريعـاً فـي الجهـادِ

۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩


شعر: حسن عبدالله القرشي

راهب الفن


قف على الدرب زهواً وابتسامـا=إنـه عـرس شهيـد يتسـامـى
يحطـم القيـد إذا القيـد عـتـا=ويرد الموت مهزومـاً مضامـا
راهـبٌ للفـن علـوي الـرؤى=لـم يكـن يخفـر للفـن ذمامـا
عاشـق للخلـد قـد سـار إلـى=موكب الخلـد محبـاً مستهامـا
ملـك قـد عبـر الأرض فلـم=يلـق فيهـا لجناحيـه مـرامـا
وانطوى كيف انطوى عن عالـمٍ=لم يـزل فيـه صـداه يترامـى
لم تزل ازهاره تهـدي الشـذى=لم تزل أضواؤه تجلـو القتامـا
وشجاه مـن مـرارات الجـوى=ما يريب الحر فاستحلى الأوامـا
لم يعد في الكـون مـا يؤنسـه=بعـد أن عـاد يبابـاً وحطامـا
ليس يحيا بين جـدران الأسـى=زارع الحلم ومصبـاح اليتامـى
***


يا عريق الجرح كم صغت من ال=ـجرحِ للغادين غـاراً ووسامـا
بـورك الفكـر الـذي حملتـه=بين جنبيـك عطـاءً وضرامـا
بوركت أعمالك الكبـرى التـي=كم جلت ذكرى وكم أورت عراما
يـا (علـيٌ) والأمانـي خدعـةٌ=والسعيد الجد من عاف الزحامـا
يهـزم الآلام مهمـا عـربـدت=من يراها في الدنى حتماً لزامـا
قد تساوينا علـى هـذا الثـرى=في مدى الغربة شيخـاً وغلامـا
من يعش ألفاً وإن طـال الثـوى=لعبة الموت كمن قد عاش عامـا
غيـر أن الخلـد للذكـر وهـل=مثل طيب الذكر يستهوي العظاما
***


يـا فلسطيـن تـوارى عاشـقٌ=طالمـا غنـاك وجـداً وهيامـا
جرحـك القدسـي كـم قبّـلـه=باكياً لم يخش في الحـب ملامـا
فنـه كـان علـى الباغـي يـداً=تصرع البغي وتجتاح الظلامـا
واليراع الصلـب فـي قبضتـه=صار ما كان وثـأراً وانتقامـا
كـان فـذاَ عربـيـاً شامـخـاً=ما حنى يوماً عن الـذروة هامـا
باسمـاً والخطـبُ داجٍ حـولـه=زاهداً والناس يغشـون الحطامـا
فاذكريـه كـم شهيـدٍ فـكـره=ينفض الرمس ويستحيي العظاما
***


أيها الحب الـذي عـاش علـى=شرفة الشمس وبالأمجـاد هامـا
أيها الـروح الـذي كـان سنـا=عبقريـاً وصـفـاءً وسـلامـا
واعتناقـاً للـمـروءات فـمـن=فيضه الدافق نستسقـي الغمامـا
عش بـدار الخلـد فالـدار هنـا=لم تعـد إلا جحيمـاً وخصامـا
واصحب الأملاك فالنـاس كمـا=أبصرت عيناك ما زالوا سوامـا
لم يعـد يسعـد فـي دنياهمـو=نابغٌ فأقرأ على الأرض السلامـا




۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩ ۩


د. محمد عبده غانم

دمعة على باكثير



أعلمت بالنبأ الخطير يطغى علـى ثبـج الأثيـر ؟
ويقـول قـد أودى الـردى بعلـي أحمـد باكثيـر
أذهلت مثلـي للمصـاب ووقعـه العاتـي العسيـر
ارأيت كيف الخطب يكبـر حيـن يذهـب بالكبيـر
ويرد اقباس الحيـاة إلـى الغياهـب فـي القبـور
وإلى جمود الصامتين مـع الحجـارة فـي الحفيـر
فكأنهـا مـا كانـت النبـع المفـجـر للشـعـور
***
لم يمض منـذ رأيتـه إلا اليسيـر مـن الشهـور
فـي داره فـي ضفـة النيـل المصفـق بالنميـر
وهو الكثير فليس ينسـى الـود للماضـي الأثيـر
أيام كان العيش في شرخ الصبـا الغـض النضيـر
أيام تجمعنـا بـه (عـدنٌ) علـى الأمـل المنيـر
ايام كـان يزورنـا فـي حلقـة النـادي النضيـر
فيهـز أعمـاق النـدي بشعـره العـذب المثـيـر
ويجيبـه الإنشـاد فـي وهـج شجـي مستطـيـر
لحناً تردده الشبيبـة فـي العشـي وفـي البكـور
قد فاض بالألق الندي على الثرى وعلى الصخـور
***
للحضرمي مع النبـوغ مواقـف الشـرف الشهيـر
من عهد (دمّون) البعيد وشـأوه السامـي الخطيـر
ايام قـاد الشعـر قيثـار امـرئ القيـس الأميـر
أيـام (دارة جلجـل) والغيـد فـي شـط الغديـر
أيـام وافـاه النعـي بمـا دهــى رب العشـيـر
أيـام أطلـق كأسـه وارتـد عـن نهـج الفجـور
أيام أقسم أن يلاقـي المـوت مـن أجـل المصيـر
***
مجـد توارثـه البنـون يجـود بالغـدق الغفـيـر
فإذا علي في ربـى (حقُّـات) يهتـف فـي حبـور
لـي بعـد بالضليـل جـدي أســوة للمستنـيـر
وإذا (بهمّـام) بشـط النـيـل ينـعـم بالخـريـر
وإذا به يستاف مـن خضـر الربـى ألـق العبيـر
وإذا بنسـل الخالديـن يشـع بالفـيـض الوفـيـر
وإذا يراع الملهمين على الصحائـف فـي صريـر
وإذا (بإسلامـاه) تدعـو المسلميـن إلـى النفـيـر
للذود عن قـدس العروبـة والدفـاع عـن الثغـور
وإذا (بمسمار) الحمـاة يُـدق فـي نعـش المغيـر
وإذا بصهيـون تــدان بربـهـا رب الـشـرور
ب(إله إسرائيـل) حيـن يقـول بالعـرق الحقيـر
***
أنى لفضل الباكثير على العرويـة مـن نضيـر ؟
كم وقفة له فـي رحـاب الفـن والفكـر الهصـور
تدعـو إلـى نبـذ التوافـه والسفاسـف والقشـور
وتعالج الداء الخبيـث وقـد توغـل فـي الجـذور
(شيلوك) (شعب الله) و(الفرعون) تـدوي بالنكيـر
و(السر) و(القصران) تعكس للنهى عبـث القصـور
و(القس) تروي كيف قاضي الحب يقضي في الأمور
و(الجلفـدان) تحـذر المغـرور عاقبـة الغـرور
و(الحبل) ينشر في (الغسيل) تفاهة الـرأي الفطيـر
وتطيـح بالحسـد الحقيـر وبالسفـاه وبالقصـور
ولكم وكم من موقـفٍ جـلاه فـي الأدب الجسـور
يغني المشاعـر بالتجـارب والتجـارب بالشعـور
***
إن غاب عنـا الباكثيـر فذكـره مـلء الصـدور
وحديثـه يجلـو الحقيقـة للكبـيـر وللصغـيـر
فـي عالميـن مـن الروائـع للسميـع وللبصيـر
تدوي على خشب المسارح أو تجلجل في السطـور
أدباً أعيد لحضرموت بـه النبـوغ إلـى الظهـور
وأعيد للأحقاف ما قـد كـان مـن فيـض غزيـر
ولأمها اليمن السعيـدة مـا تألـق مـن عصـور







باكثير في مكتبتنا عمون:


1.رواية سلامة القس

تحميـــل


2.عودة المشتاق


تحميــــــــل


3.الثائر الأحمر


تحميــــــــل


4.اخناتون ونفرتيتي-مسرحية شعرية


تحميــــــــل


5.أبو دلامة


تحميـــــل


6.التوراة الضائعة -مسرحية بثلاثة فصول


تحميــل


7.مسرحية إبراهيم باشا ومسرحيتان أخريان


تحميــــل


8.ملهاة الدنيا فوضى


تحميـــل


9.مسرحية الدودة والثعبان


تحميـــل


10.السلسة والغفران


تحميــــل


11.همام في بلاد الأحقاف


تحميــــــل


12.وا إسلاماه


تحميـــل


13.هكذا لقي الله عمر


تحميـــل


14.من فوق سبع سماوات


تحميـــــــل


15.هاروت وماروت

تحميـــــــل


16.مسرحية سر شهرزاد

تحميـــــــل


17.الفرعون الموعود


تحميـــــــل


18.سر الحاكم بأمرالله أو لغز التاريخ


تحميـــــــل


19.مسرحية الدكتور حازم


تحميـــــــل


20.حرب البسوس

تحميـــــــل


21.مسرحية دار ابن لقمان


تحميـــــــل



22.ملهاة إمبراطورية في المزاد


تحميـــــــل


23.مسرحية جلفدان هانم


تحميـــــــل



24.مسمار جحا-مسرحية فكاهية


تحميـــــــل



25. مسرحية قضية أهل الربع

تحميـــل


26.قطط وفئران-مسرحية فكاهية إجتماعية

تحميـــل



27.مسرحية مأساة زينب


تحميـــل



28.كتاب فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية


تحميـــل



29.قصر الهودج-مسرحية غنائية


تحميـــل


30.فاوست الجديد



تحميــــل


31.شيلوك الجديد


تحميـــــل



32.عودة الفردوس


تحميـــــــــل


33.سيرة شجاع


تحميــــــل



34.الفلاح الفصيح

تحميـــــل


35.روميو وجولييت -ترجمة شعرية لمسرحية شكسيبر


تحميــــل


36.أوزيريس


تحميــــــــــل


37.مسرحية حبل الغسيل


تحميـــل


38.ملهاة شعب الله المختار


تحميـــل


39.أوبريت الشيماء شادية الإسلام


تحميـــل


40.يوميات علي أحمد باكثير -الجزء الأول


تحميــــل


41.يوميات علي أحمد باكثير -الجزء الثاني


تحميــــل


42.المختار من الشعر الحديث


تحميــــل


43.ديوان أزهار الربى في أشعار الصبا



تحميــــل


44.رواية ليلة النهر


تحميــــــــل


45.الوطن الأكبر


تحميـــــــــل








  رد مع اقتباس
/