المشاركة الأصلية كتبت بواسطة المختار محمد الدرعي
جلس على الصخرة الكبيرة , وسط حقل أبيه الشاسع , يرعى و يحرس بقراته … يتأمّل المساحات حوله المزركشة بشتى أنواع الخضار , من الفلفل و الطماطم , إلى الجزر و البقدونس , تحاذيه زيتونة رمانية كبيرة تحاكي الزمن , إنها الزيتونة التي عرفت جيل حنبعل و شبيون الأصغر , ثم شبيون الأكبر , و عاشت رحى الحروب البونيقية الثلاثة التي دارت بين قرطاج و روما , و تداولت على جني ثمارها الأجيال , جيل بعد جيل حتى آلت إلى عائلته في العصر الحديث .. كان الشاب اليافع يتأمل في واقعه .. يردد نفس التساؤلات التي تعود على ترديدها كلما انفرد بنفسه في الحقل , لقد أتعبني روتين الحرث و الزراعة , و رعي البهائم , فجل أصدقائي هاجروا إلى المدن و استقروا بها بعد أن حصلوا على وظائف , أحدهم عاد الأسبوع الماضي إلى القرية مرتديا الملابس الفاخرة ,ذات العلامات التجارية العالمية , إلى متى سأبقى أنا هنا في حقل أبي صديقا للبهائم ؟إلى متى سيستمر وضعي على هذه الحال ؟ زملائي ارتقوا بأنفسهم , صاروا يتفسحون في شوارع العاصمة , يجلسون في أرقى المقاهي , يترشفون (الكابتشينو و الإكسبريس )و أنا مازلت أجالس كانون جدتي العتيق ,و أترشف الشاي المرّ.. عليّ أن أرتقي بنفسي كفاني من البردعة و الحمار , صديقي فرج غادر القرية السنة الماضية فقط أصبح الآن يملك سيارة , كنا كثيرا ما نلتقي صدفة في الطريق و أنا على ظهر حماري , فيوقف سيارته ليبادلني التحية , أعرف أنه لم يفعل ذلك من باب التواضع , و إنما يفعل ذلك من باب التفاخر , و التباهي بسيارته أمام حماري البائس و بردعته .. بعد أخذ و رد قرر الشاب السفر ليلتحق بصديقه فرج ,حتما سيساعده على ايجاد الشغل المناسب ...تسلل ذات فجر دون علم عائلته ,و سار بضعة أميال مشيا على أقدامه , حتى وصل إلى الطريق الرئيسية , حيث امتطى الحافلة المتجهة نحو العاصمة , حاملا معه بطانية و وسادة للنوم مع دجاجة , سيقدمها هدية لصديقه فرج بالعاصمة على طريقة كرم أهل البادية . طوال الرحلة كان الشاب يحدّق عبر نوافذ الحافلة في الحقول الخضراء الممتدة على طول الطريق , و كأنه يقول لها وداعا أيتها البراري ,بعد قليل ستطأ أقدامي مواطن التقدم و التحضّر , حتما سأتحصل على رخصة القيادة ,وستكون لي سيارة ,و سأطلق لمزمّارها العنان في أول عودة لي للقرية . ما هي إلاّ سويعات حتى أرست بهم الحافلة بمحطتها الأخيرة , معلنة وصولها للعاصمة , نزل الشاب حاملا على ظهره سرة كبيرة من القماش و بيده دجاجة تخفق جناحيها بين و الفينة و الأخرى , ثم تقاقي وكأنها باضت للتو , و ورقة صغيرة مكتوبا عليها عنوان صديقه فرج , تقدم من إحدى سيارات التاكسي و أمده بالورقة راجيا منه أن يوصله للعنوان المطلوب , تأمّلها السائق ثم أومأ برأسه أن أركب .. ركب الشاب و بدأت السيارة تجوب شوارع العاصمة , كان يتأمل بنايات شاهقة , لافتات , إشهارية , حسنوات كاسيات عاريات , و أشياء أخرى جعلته يفتح فاه من شدة الإعجاب . بعد جولة من المشاهد التي لم يرها قط في حياته من قبل , توقف السائق و أشار عليه بأن هذا الباب هو باب المنزل المقصود , ترجل الشاب , تقدم بخطى خجلة , طرق الباب بلطف مرة , ثم ثانية , ثم ثالثة , فلم يفتح له أحد , عندها استل من بين جنبيه ( الدبوس) الهراوة القصيرة التي لا تفارقه , و هوى على الباب بضربة مدوية توفظ الموتى في القبور , سمع على إثرها صديقه بالداخل يصيح : من هذا الذي يريد أن يكسر الباب .. فتح فرج الباب فتفاجأ بوجود صديقه فعانقه بحرارة و بكل لطف و ابتسامة عريضة قال له : كان عليك أن تضغط على هذا : زر الناقوس هنا بالحائط بدل أن تضرب الباب بعصاك . دخل الشاب وهو يتفحص الأرجاء , لا حظ أن المنزل بدا على عكس ما كان يتوقع إنه بيت صغير متكون من غرفتين لا غير , و ردد في داخله أهذا القصر الذي طالما مدحه فرج في جلساته مع الأصدقاء أثناء زياراته للقرية ؟...جلسا الصديقان و تجاذبا أطراف الحديث , طمأن خلاله فرج صديقه الشاب بأنه سيتكفل بإيجاد الشغل مع الراتب الشهري المناسب له خلال الأيام القادمة .. في الأثناء قام الشاب بزيارة لصديقه مسعود , الذي كان يزور القرية بين الفينة و الأخرى ,متباهيا بلابسه الفاخرة فوجده في خناق مع أحد باعة المواد الغذائية ,جراء عدم سداد الديون المتراكمة عليه , كما اكتشف بمرور الوقت أن السيارة التي يقودها صديقه فرج , هي على ملك أحد الأثرياء الذي يعمل عنده فرج كحارس . و ظلت المفاجآت الصادمة تتوالى , حتى اليوم الموعود يوم دعاه صديقه فرج ليتسلم عمله الجديد , ففرح فرحا شديدا , و بادر منذ الصباح الباكر بالقيام برتيب هندامه , و اصطحبه فرج حتى وصلا لبناية بيضاء ممتدة , أخذت من الشارع مساحة شاسعة , إنها مدرسة إبتدائية !! سأل الشاب نفسه :ترى ما نوعية هذا العمل ؟ هل سأكون سكريتير المدير الخاص ؟ أم مراقبا عاما للمدرسة و التلاميذ ؟ , فجأة انعرج فرج و دخل في إحدى الممرات الذي أوصلاهما إلى مكتب المدير , حيث رحبا بهما ترحيبا حارا , خاصة أنه صديق قديم لفرج , بعد محادثات دامت أكثر من نصف الساعة تعرف خلالها المدير على الشاب و مؤهلاته العلمية غادر على إثرها فرج المكان ليترك زميله صحبة المدير ..عرف المدير أن الشاب لا يصلح أن يكون سوى عامل نظافة بالمدرسة ,لكن إكراما و احتراما له و لزميله فرج قال له : سوف تكون مديرا للنظافة بمدرستنا , و اتفقا على أن يبدأ العمل في اليوم التالي .. عاد الشاب إلى بيت صديقه متمنيا أن يُطوى له الزمن , ففي الغد سيكون مديرا , قال مخاطبا فرج حين دخل للبيت : الحمد لله صرت مديرا للنظافة , لكن لم نتفق بعد على الراتب , لا أعرف كم ؟؟ لم يرد عليه فرج لأنه على علم كونه سيكون راتبه زهيدا ,و بات مدير النظافة ليلته متقلبا , حتى انبلج الصبح فرتب هندامه و قصد المدرسة , استقبله مديرها و بدأ يشرح له طبيعة عمله , قال له : أنت السؤول الأول و الأخير على نظافة المدرسة ,ثم أدخله إلى غرفة يوجد بداخلها كل المستلزمات الخاصة بالعمل ,ثم أشار عليه بالبدء في كنس الساحة , فتفاجأ الشاب بادئ الأمر , لقد كان يعتقد أنه سيكون مديرا على مجموعة من عمال النظافة, لكنه أقنع نفسه بالقبول و التريث , فقد يكون المستقبل أفضل .. بعد أن أنهى الشاب كنس ساحة المدرسة , ناداه المدير و أمره بتنظيف دورات المياه , فصدم ! لكنه كالعادة أقنع نفسه بالصبر و التريث , و قصد دورات المياه , و ما إن وطأت أقدامه أبوابها حتى لاحظ قدمها و كثرة كتابات التلاميذ عليها بالطباشير الملون ,عبارة : (أي لوف يو - i love you) ) , جدار محاذي كتب عليه : رجاء ممنوع البول هنا , جدار آخر كتب عليه :ممنوع وضع الفضلات , بعد ذلك اعترضته رائحة , فتوقف !! لترجع به الذاكرة إلى قريته ,حين كان يشتمّ رائحة الإكليل و الزعتر , و الأزهار البرية بمجرد فتحه للنافذة أو الباب ..ظل برهة من الزمن يفكر و يسأل نفسه : هل يعقل أن أترك أرض أبي ,و جدي و أتنصّل من جذوري ,و كل تلك الخيرات و آت هنا لنظافة ( التواليت ) و استنشاق روائح الغائط ؟ و بسرعة المجنون , رمى المكنسة , الممسحة , دلو الماء , و كل سوائل تنظيف الأرضيات , و البلاط ,ثم صاح مناديا مدير المدرسة : يا مدير !! يا مدير !!! يا (.....) الأرض و البهائم أشرف لي ألف مرة من وظيفتكم ,خذ هذه أدوات نظافتكم !!السلام عليكم , سأعود إلى الحقل الآن قبل الغد ... حيث الأرض و البهائم , الأرض و البهائم , الأرض و البهائم ...و غاب في الزحام .
|