عرض مشاركة واحدة
قديم 25-10-2015, 06:28 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
الدكتورة عزة رجب
عضو أدكاديمية الفينيق
تحمل لقب عنقاء عام 2015
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
ليبيا

الصورة الرمزية الدكتورة عزة رجب

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


الدكتورة عزة رجب غير متواجد حالياً


افتراضي رد: من رســائل الحب والحــرب / عبير الورد


7

"سنعيشُ ســلامنا الخاص"




يُلقيني ظلي لأحضان عاصفة رملية تتيهأُ لمخاض الريح، هنالك يقبعُ سؤالي مُحتاراً في عيونٍ من ركام أسئلةٍ تتهيأ لملاقاتي، والزبدُ السائل من لعاب الإجابة يتلذذُ بحكمة الصمت، الغسيلُ الوسخُ الذي يحتفظ به بعضهم ضد بعضهم يمكنه أن يجتمعُ على حبل الود وتذهبُ حقوق الموتى للجحيم. طالما يستطيع النسيان وفق المسودات أن يجعلهم يتحررون من المبادئ على أوراق قابلة للاحتراق، ماذا تنتظر أكثر ؛ لتفهم حينها من هم؟.

إنها مبادئ وقتية تحكمها الساعات السويسرية الصنع، تسير وفق توقيت عالمي، وتمرير غير آدمي، لاينظر في أولويات إنساننا، وعليه ياعزيزي لاتستغرب إذا سمعت بي أنشيء جمعية للرفق بالإنسان، إسوة بتلك التي تنتشر للرفق بالحيوان.

ستقوم الريح ــ لا الرياح ــ القادمة من المتوسط، بعمل الواجب لتجفيف نخاع ذاكرتهم من رغوة الذنوب، وستُعفيهم من الملاحقة القانونية، وستتكفلُ مشدات المسودات الليونية باقتناص أجسادنا الهاربة من أرواحنا وتعيدهُا لنا برضا مُعمداً بطيب الخواطر، وبحجة أنه الوطن، سترتفع أصوات الدعوات بأن ننسى كل أوجاع الظهيرة، ومخاضات الليل، ووجوه من ماتوا، ومن دفعوا حياتهم ثمناً لأفراحنا، كي نصل لهذه اللحظة التاريخية من السلام، إنه، سلامٌ لايرى ياعزيزي، صنعوه ونسوا أن يضعوا له عينين تجعلنا نبصر بعضنا، تجاهلوا أنَّ عكازهم لايمكن أن يقود سوى عميانهم.

ونحن لسنا سوى شتلات انتظارٍ عمياء، مدَّت جذورها في يباس الطين، بعد سنوات الجفاف وطول الأمل، ظلتْ عطشى لغيوم حبلى تستمطر الغيث، ويأبى عليها النزول، تنشدهُ وئاماً روحياً داخلنا، وهدنة تصالحنا مع أنفسنا، وما أمطرتْ سماء الوطن سوى حجارةٍ تفننتْ أطراف الخصام في رميها علينا.

وجدتني ذات مساء أتجردُ من حزني، وأخرج من محراب عزلتي التي فرضتها على نفسي مُذ رحيل أمي، وبلا سيناتي وتسويفاتي أخترتُ بسرعة أنْ أرتدي فستاناً أبيض اللون، حين دعتني صديقتي لعقد قرانها، لم يكنْ يوماً للفرح لكنَّ بنغازي روحها تحتضر وتحتاجه مني، ليس هنالك أملٍ بأن ألقاها مبتسمة، أو أجد أحداً ــ في المجمع ــ يضحك ملء قلبه، فالحــزن استعمر أعماقنا، وارتجتْ له أنحائنا، والكل يخجل من الفرح في حضور دموع بنغازي الغالية، لعلنا شعرنا أنه لابد أن نفتح باب الفرح ونتركه موارباً، لتهبَّ نسائمه على أنحاء بيوتنا الباردة، التي جففها الرعب، وخضَّها الرهاب، وخلع لون بهجتها الإرهاب، فانتزع الدم من عروقها بلا رحمة، هي هكذا، وأنا هكذا، أفرح مثلها وإن كنتُ مجروحة، أُسعد غيري وإن كانت دمعتي لازالتْ ندية على خدي، أصالح العالم، وإن كان كله ضدي، بنغازي مدينة سلام، بيضاء القلب، لاتملك إلا أن تكون فيها إنساناً يعشق الحب، الحياة، الإنسانية.

تركتُ شعري حراً من مشابكه، أطلقتُ سراحه، المسكين طال به الصبر حتى جاوز كتفي، كحَلتُ عينيِّ بالأسود، اللائق بي وبحزني، وقلتُ لأحمر شفاهي : ألا سحقاً لكل الكلمات التي كتبتها على جدار غرفتي بك، تعاااالْ وأدِّ مهامك واختصاصك الأصيل، اكتبْ تاريخك على شفتيَّ المغرورقتين بطعم البن المرِّ، واجعل نداك طافحاً على حديثي اسمعني ضحكتي العميقة بطعم اللون فيك، فلن أقول سوى كلمات الهمس والحب، واليوم يومنا، سيخلق المُحبون سلامهم الخاص، ويبنون أعشاش الحياة غصباً، ولن يلتفتوا لنعيق الغربان التي حاصرتْ أنفاسنا، وخنقتْ فينا أرواحنا، اليوم ستطير ُيمامة من الفرح مع زوجها، وتسعد قلوباً رانها الأمل طوال سنين، أجَّلت مواعيده ولم تُحظ بلقاء أحبتها بعد، إنه الثأرٌ لسعادتنا الغائبة، ولأفراح أمهاتنا الثكالى، وآنساتنا اللاتي فقدنَ أحبائهن أثناء رد الاعتداء عن المدينة، إننا ياسيدي الفرح شعبٌ عاش طوال عقودٍ يروم منك التفاتةً حانيةً، وابتسامة ولو كانت مائلة، وفرحة يعتمرها قلب وطننا الجريح، إننا ياسيدي الفرح نعيش أيام القحط، وجفاف الطبع، وجفاء السريرة، وجفوة الكلمات، نريدك أن تبللنا بمطرك، أن تغمرنا بوجهك، أن تُغرقنا بطوفانك، أن تُلقينا لأحضانك المُحبة لروح الله دائماً، أن تبارك لنا هذا الخروج المحدود من الحزن، فنحن لم نرد شيئاً سوى الثورة على الظلم، والسعادة بالحرية، أما الأماكن والمفاتيح، فلم نقترب منها لتأخذنا بلعنة غيابك عن بلادنا.

ثم خرجتُ بسيارتي، أُسميها برنيس تيمناً ببنغازي، كانتْ عسلية اللون، كعينيِّ غير أنها مُدللة جداً، وكسولة في الخروج، والسير على الطرقات، أوصلتني مساء لبيت صديقتي الجميلة التي تألقت في ثوب زفافها الأبيض، لاقتني بحبٍ، مدت يدها لي، فوجدتني جالسة على كرسي قربها، أنظرُ لوجوه تحملقُ فينا، سأزرعها ابتسامات، وأبحثُ عن وجه فتاة حزينة فقدت خطيبها لأقول لها في نظرة عتاب ابتسمي، أبحثُ عن أمٍ فقأت عينيها من البكاء لأقول لها اطلقي سراح الحياة من قلبك، ورتبي لأعشاش اليمام، فقد آن الآوان ليخرج جسد الحزن من أرواحنا، وحان الوقت لتعيش المدينة بملح طيبتها، وماء حياتها، تعرفين ياسيدتي أنَّها مدينة لا تتوقف عند نبض أحدنا، وإنني والله لمثلك، لا أفرق عنك في حزنٍ، مُكللة بتاج الفقد، دون أبٍ يحميني ودون حضن أمٍ يأويني شر النائبات التي لن أخبرك عنها حين يُغرقني طوفانها العتيد، رممي ياسيدتي قدر ما تستطيعين كل الشروخ، التي صدَّعت جدار محبتنا ولم ترتقْ بعد ستار بيوتنا، قولي كل شيء عن الحب، عن السلام، لجارات الوصل، فنحن لن نعيش بأحقادٍ نعلم مُسبقاً أنها ستكون عناوين سواد تغرز أعلامها في روح المدينة، بسمونا، وبرقي إنساننا، ستعود مدينة البياض والملح، فاجعلي كفيك السخيتين تجودان بالدعاء لنا، بأن يجمعنا الرحمن على محبته، ويبعد بلادنا عن شر جناة الأرض، الذين يتوقون قبل آوان الرحيل رحيلنا.

وفي وجل ورعشة خوف تلمَّس كفي، كفَّ صديقتي منى التي كانتْ بنظراتها الساهمة ترقبُ الحضور، بنظرات مكسورة، إنَّ معالم الفقد أحدثت ندوباً على سيميائنا، الأعين الغائزة، والشفاه النافرة، والخدود المتهدلة، والابتسامات الممنوحة بتقسيطٍ مُريح، الأحاديث التي لابد أن يتخللها مذاق الفقد، أو الحرمان، أو الرجاء، آلمني أنها لم تضع شيئاً من حناء العروس، رفعتُ كفَّها لأنفي، في محاولة لفت نظر، ابتسمتُ وأنا أقول لها هامسة في عتاب "لِمَ لمْ تضعي حناء، ستحبطين زوجك، حين تلاقينه وهذا يومك أنت، كلنا نمنحه لك عن رضا ولن يغضب منك كائن من يكون"، وحين لم أحصل إلا على تنهيدة، ودمعة بدتْ لي محشورة في محجر عينيها الجميلتين، وقفتُ بلا تردد لأحدث والدتها التي قالت بكتفٍ مُتهدل، افعلي ما تريدين عبير، لن أرفض لك طلباً، تعرفين أن الفقد أكل أعمار الكثيرين، وصار من المُخجل وضع الحناء لأبنتي، مراعاة لمشاعر الناس وشدَّت على يدي في دعم منها، فوجدتني بعد حوالي نصف ساعة، أجلس مع "منى" في غرفتها، وأنبوب الحناء الذي أرسلت في طلبه جاهزاً ينقش حروف السعادة فوق معالم جلدها الطري، بلى خضبتها بالحناء رسوماً تتوشح بروح الحياة، وكانت سعيدة جدا، تحرر وجهها من العبوس، وتهللت معالمها من البشرى، قبلتني بعد انتهائي في امتنان، وخرجنا للحشد الذي عصفتْ به جرعة الأمل، واجتاحتْ أنوفه رائحة الحناء، وسلبت لبَّه بألوانه المُتدرجة، فيا سبحان الله الذي جعل الرحمة روحاً منه، سرعان ما علا للفرح صوت، و قطَّعتْ زغرودة جريئة أوصال السكون، ولوهلة كأنني رأيتُ روح الحزن الميت تخرج أخيرا من جثة المكان الهامدة.

سنعيش حياتنا، ونصنع سلامنا الخاص، الذي تجاهلته المسودات الليونية، وطمستْ بموجب ترضية حكامنا السياسيين حقوق إنساننا، وقهرت بناء على بنوده روح السلام فينا، فلم يأت إلا سطحياً على قدر المصالح، لا رتق ثوب الفراق، ولا رأب صدع الشقاق، ولا صنع لغةً أو طريقاً يفتح باباً للوفاق، ولاتسلل لقلوبنا التي كسرها الألم، وخنقها السواد بعبرات الفراق، كل همهم كسب ودِّ الأجندات وطلاب السلطة، الصالح والطالح منهم.

أما نحن ذلك الشعب المسالم، سنرمم قدر ما نستطيع الشروخ المفتوحة في قلوبنا، ونذرأ الكثير من الملح على جراحنا الفاغرة أفواهها من سعة تمزقها، سنطلب من كل فتى وفتاة أن ينجبوا لنا دستة أطفال، تعلو ضحكاتهم أرجاء الوطن، وتمتليء شوارعنا سعادة في وجودهم، وتزدهي حدائقنا الرمادية بألوان ورودهم، وتزدحم بطوابيرهم مدارسنا، سنكتب أيامنا للتاريخ، ولن نترك لحظة إلا واعتقلناها بأقلامنا الممنوحة لوطننا بكل حب ـ وسيعجز هؤلاء تماماً عن صناعة ابتسامة على شفاهنا، أو تعويضنا عمن جعلوه مُغيباً في سجوننا المظلمة، أو مقابرنا التي اتسعت رقعتها الجفرافية، بعدما سرقوا منا كل أسرار الحياة، لن يبقوا طويلاً، سيكونون رماداً في تاريخنا، فالشعوب باقية والمدن لاتموت.







الملكــات هُن الملكــات ....دائمــاً راقيات


(ويأتي الشتاء و أزداد اغتراباً على لحاء أشجاري!)



  رد مع اقتباس
/