حسَــناً ،
كان لا بدّ من اتصالٍ هاتفيٍّ / روحيٍّ مع أمي ، أستمدُّ زوادةً من جرأةٍ / صبرٍ ، وأمي ....
أذكرُ أنه في أحد أيام الشتاء الثلجية ، وحين توقفَ الثلجُ عن الهطول ، وتخلصَ من عباءة البرد قليلاً ، خرجَ الجميعُ للعب بالثلج ، وكنتُ في الرابعة من عمري ، ما زلتُ أذكرُ ذلك المنظر ، وأرتعدُ حنيناً / ضحكاً كالبكاء ، حين كانت أمي تقفُ بجوار الجدار ، وكنتُ أعصرُ بين يديَّ كتلةً من الثلج ، ولأنني ( لعين ) من صغري ، فقد سحبتُ الماء من الثلج بفمي ، وحين غدتْ كالحجر ، لم أجد هدفاً أكبر ولا أروع من خاصرة أمي ، وأذكرُ أنها سقطت على الثلج تتألم ، وحين ركضتُ باتجاهها ، تعثرتُ فسقطتُ ، وكدتُ أغوص في الثلج ، وكانت يدٌ تمتدُّ نحوي كالقَـدر ، تنتشلني وتضمني إلى صدرٍ أدفأَ من الموقد .
... هل تعرفون ( فتة الحليب ) ؟؟
حسَـناً ، إنها حليبُ الغنم الطازج ، مغلياً ، ويفـتُّ فيه خبز القمح البلدي ، ويعجنُ بالسمن البلدي .
كانت حلوياتي المفضلة ، وأقسمُ أنني لا زلتُ أجد طعمها بين اسناني ، وما زلتُ ( أشرشر ) ماءً من فمي كلما تذكرتها ، أيقونة توم أندجيري .
كانت القريةُ بلا كهرباء في السبعينيات ، وكان الليل آسـِراً جداً ، حتى أنني أزعمُ أنّ كلَّ ما كتبتـُـهُ من قصائد ، كان مختزناً في الروح من تلك الليالي / المواسم / قطيع الغنم ، واشجار التين .
تباً للجالاكسي ، والسنيكرز ، وللكنافة ، ولتحيا الفتة بالحليب والسمن .
في الصيف الماضي سألني " رائد " ، صديقي المهاجر إلى أستراليا ، وكان ذلك قبل سفري بيومٍ ، في اليوم الثاني للعيد المنصرم ،
*حمودة ، هل زرتَ القرية خلال الإجازة ؟؟
**قلتُ : كلا .
*ولمَ ؟؟
** لأنَّ بيوت القرميد احتلتْ ملعب الكرة الترابي ، وبساتين التين ، ومرابع العصافير التي كانت تستظلُّ من وهج الظهيرة .
* حمودة ، اذهبْ إلى القرية الآن .
**أخذتُ معي ما تيسر من ماءٍ وليبتون وسُـكر ، وتوجهتُ إلى القرية قبل المغرب بساعة ، ويعلم الله أنني لم استطعْ أنْ أدلفَ إلى وسطها ، فتوقفتُ على تلةٍ تشرفُ عليها ، عند شجرةِ تينٍ يابسةٍ ، واشعلتُ ناراً من جمرِ حنيني / غضبي / عتبي عليها ، وشربتُ شاياً على الحطب ، واشعلتُ شيجارةً .
قلتُ لها : لا تنكري ، تغيرتِ كثيراً بعدي ؟
- وكبرتَ كثيراً بعدي ، كلانا خائنٌ يا أنت .
سرقتُ منظراً لحظة الغروب لم تمسسهُ الحجارة والقرميد ، وعدتُ أدراجي إلى المدينة .
كان عتاباً / لقاءً / حنيناً قصيراً كالفرح الذي يسكنني الآن .