۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - حكايتي ..!
الموضوع: حكايتي ..!
عرض مشاركة واحدة
قديم 24-08-2017, 09:49 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سيد يوسف مرسي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للعطاء
مصر
افتراضي حكايتي ..!




حكايتي
كنت أشجو بما كان مقرراً في الكتب المدرسية من أشعار وقصائد ، مغرما شغوفاً بالشعر. لم أكتب حينها شعرا. كنت أحفظ المُقَرَّر من قصائد وأشعار مقررة وأشجو بها فتولد عندي حب الأداء.
شغوف بما كان يُلْقى على مسامعي من أساتذتي من أبيات فيَرسخُ في رأسي ، فَأترنُّم بها؛ الأمر الذي جازَ بي إلى فضاء الكتابة وفيما بعد .... قرأت الكثير من كتب السِّير والروايات التي طالَما حَبَّذْتُ قراءتها وشغفتُ بها. إلا أنه حدَث في ذات يوم أنْ خطَّت يدي ما حسبته شعراً أو نظماً في لحظة لم أنسَها. حينها كنت طالباً في الصف الأول الثانوي ،
و كانت الدراسة قد بدأت وانتظمت. وأقْبَلَ فَصْلُ الشِّتاء بِزمهريره فأردْتُ أن أشتري شيئاً من صوفٍ يقيني برده القارص عندما أخرج في الصباح مبكراً أثناء توجهي إلى المدرسة، وَقررت الشّراء ...!
جَعَلْتُ أتجول بين محلات بيع الملابس الجاهزة ، وتوقفت عند إحداها ، ونظرت للمعروض من الملابس الصوفية عند واجهة المحل الزجاجية وأنا أقَلِّبُ بصري وأتفقد الأسعار المكتوبة على الملابس علني أجد ما يناسبني في السِّعر والذوق الذي أرتضيه
كانت هناك فتاه تراقبني وتقاربني في العمر أو تزيد قليلاً ، تقف على الباب تختلس بعض النظرات، وتدعوني للدخول وهي ترحب وتطلق بشاشتها على الوجه وترسم ابتسامة نضرة على الشفاه. الفتاة متوسطة الطول لا تضع على رأسها غطاء ، سافرة الوجه تترك شعرها منسابا على كتفها منبسطاً مدلى على الظهر والصدر كأنه ذَيل مهرة خمرية اللون ملفوفة القوام مترابطة، وَلا بأس بملامحها وتقاطيع وجهها.
راحَت الفتاه تدفع بيّ دفعاً للدخول بغية الشراء . فما كدت أضع قدمي عند باب المحل حتى خِلْتُ أنْ تفرقت مفاصلي وتناثرت عن بعضها، وانتابتني رعشة مثل الرعد وأحسست أن العرق بدأ يتصبب مني واللسان في فمي التجم وتلعثم. وجدتها تسألني، لكن الحياء عقَد لِساني عن الإجابَة؛ إذْ أنظر إليها ولا أجيب بشيء. ماذا تريد ؟ إن طلبكَ موجود. أشرْت بيدي إلى ناحية رَفّ صُفَّتْ فيه بعض الأصواف، وإذا بالأصواف تروق لي. كان المحل خاوياً من الزبائن وإذا بِشعور يتملكني وكأنَّ قلبي أصبح له جناحين مثل حمامة؛ كَفُؤادٍ انطلق في الفضاء من قفصه ويَخْفُق. كدت أطير من الفرح أو يغشى عليّ لولا أنها أدركتني وأحضرت لي مقعداً. ودَعتْني للجلوس وارتقت سلماً خشبياً به عِدَّة درجات، وأتت بِكَمٍّ مِنَ (البل وفرات ) الصوفية المتعددة الألوان. وبدأت تفرد ما جاءت به أمامي وهي تمدح وتثني فيما عرضَتْ ، في حين أن ابتسامتها لم تفارقها ولا بشاشة وجهها. رحت أتحسس بيدي ملمس الأقمشة المعروضة وأقارن بين هذا وذاك من حيث اللون والمقاس مُدَّعيا المعرفة ، والحقيقة أن شعور العاطفة نحوها تملكَني إلى حَدّ الغياب عن الوجود. والحديث لم ينقطع بيني وبينها فقد خرج الحديث عن الشراء والبيع فسألتها عن اسمها فقالت: عواطف. سألتها: من أين ؟ قالت : وهي تبتسم ، من حارة النحاسين، سألْتُها : أَعامِلة بأجر أم صاحبة المحل ؟ قالت أنا ابنة صاحب المحل ، أطلقتُ ابتسامتي قائلاً : أحسن ناس. بادرتني بدورها بنفس الأسئلة ، فأجبت وكتمت مالم أود اخبارها به. لم أخبرها بكل شيء فقد أخفيت عنها جُل أمري . الحق يُقال أنَّها المرة الأولى في حياتي التي أتحدث فيها مع أنثى، وهي المرة الأولي التي أحس فيها بشعور غير الشعور ، فكانت كلما نظرت إليها تسبل أجفان عينيها فتسرق الوعي مني وتغيب جوارحي فيها وتزداد دقات قلبي فَأستبدل وجهها بوجه أخر ،وأنا أحس بشعور لم أحس به من قبل، فما الذي كان يحدث لي ؟
كنت أظْهِرُ التماسك والترابط أمامها بالرغم من الدوامة التي كانت تلفني ، وكأن حديثها معي لم يؤثر مثقال ذرة فجعلتُ أدفع بصري بعيداً عنها فيصدمني سقف المحل فأحَوِّل رأسي للمعروض من الملابس في المحل حتى أعطي انطباعاً بأنني لم أتأثر بها وأنني رجل صلبٌ جَلِدٌ.
طال الأمر بيننا وأمتد وقد حان الوقت الانصراف، وخشيتُ أن يعود أبيها فيراني في تلك الصورة ، فأعطيت موافقتي على بعض ما جاءت به وأنا أُظْهِرُ الخجل منها والأدب حتى لا تدرك أنها أثرت بحديثها في جوارحي؛لقد وضَعَتْ ما اشتريتُهُ في كيس، ومدت يدها وهي تطلق ابتسامتها في وجهي وتدعوني للعودة للشراء مرة أخرى. حدث عند خروجي أن أحْسَست أن في قدمي قَيْدٌ من حديد يَحول دون أنطلاقي بعيداً عنها، فألْزَمْتُ مفاصلي وأوصالي الترابط والتماسك عنْوَةً ووضعت قدمي خارج المحل يحْدوني الشوق للعودة مرة أخرى رغْبة مِنّي في التواصل.
@@@@@


رجعت حيث أسكن حجرتي الطلابية التي أستأجرتُها في وقت الدراسة، حيث أن المدرسة تقع في المحافظة التي تبعد عنا خمسة وعشرون كيلو متراً. لَم يكن في قريتنا أو القرى المُجاوِرة مدرسة ثانوية.
وكان حين وصلتُها أنّي وصَلتُ جسداً بلا عقل ولا وِجدان. ألقيت ما في يدي على البساط الذي على الأرض، وَلم ألْقِ على زملائي الذين يقطنون معي السلام أو التحية . جلست غارقاٌ في بحري هائماً في سُكْري. لم أسمعهم حين كانوا يسألوني ولم أرهم حين كانوا يضحكون . بكم اشتريت ؟ ومن أين أتيت ؟
لقد أخذني ، آخذ ..! وغرقت في بحري ...!
أهذا هو الحب الذي رُوِيَ عنه ؟
وكيف لي أن أعرف وليس لي تجارب كالآخرين ، إذ لم أذق طعمه مثلما ذاقه غيري. لقد كبلتني الدنيا بالقيود؛ فالتقَمْت العناء لقمة سَيّدٍ في وجود أبي، ورجل البيت في رحيل أبي ، أسعى على سبع إناث غير أمي ؛ فذبت في الدنيا ذوبان الماء في اللبن والعود ما زال رخواً ليناً لم يستقم بعد ...! فقد حملت عبئَ الحياة على كاهلي مُبَكِّراً في حين كان الوقت مِنّي هارِبا ..! قد يعرفه غيري. جوارحي عمياءً صماء لا تتكلم ولا ترى ، تغط في أميتها الذاتية، فقد منعتني الحياة عن الكثير وأقامت في وجهي السدود فلا أسامر أحداً من الشباب أو أسمع شيئاً مما يقال. كنت كالراهب في صومعته، معبدي في الحقول وتسبيحي خلف العجول. يحكي الناس عن الحب والغرام فأذهب بفطرتي وأتخيل لون بشرته وطعمه، فَأمنح نفسي فرصة أتقابل فيها مع فتاه وأتحدث معها ، فلا عجب ..! إنها الأمية المحمودة فلا وقت عندي لذلك ، فلو أني سمعت شاباً يتكلم عن الحب والعواطف لاعتلتني الدهشة والعجب ، كأن الذي يحكى عنه أمامي أسطورة من الأساطير أو خيال من خيال يفوق إدراكي المحدود.
توفي أبي عليه رحمة الله وأسكنه فسيح جناته ومضت بعد ذلك عدة شهور مرضت فيها أمي مرضاً شديداً كاد يودي بحياتها بعد جهد وعناء مع أطباء المخ والأعصاب والباطن
وحَدَثَ أن دَبَّ الشفاء والعافية في جسدها ؛ فكانت أول ما نطقت به هو أنْ طَلَبَتْ مني ( الزواج )....!
أتزوج...! رفضت في بداية الأمر مُعارِضاً إيَّاها، لكن وجدت أمي مُصِرَّة مُصِرَّة على الأمر وكانت مُلِحَّة في رغبتها بقسوة، حَتَّى أن بعضاً من الأقارب جَعَل يؤازرها مع كثيرٍ من الأهل والجيران الذين رأوا في زواجي الخير والصواب بحجَّة أن أخواتي سوف يتركْن البيت عاجلاً أو أجلاً، كل واحدة ستذهب إلى بيت زوجها فَسأحتاج إذ ذاك لمن تقوم على رعايتي ورعاية البيت ورعاية أمي . وكانت حجة الأمر الرئيسية هي أن ترى أمي لي خَلَفاً وذُرِيَّة قبل أن يأتيها القدر وتموت ،،، ولداً ...! يا ولدي، صَبِيٌّ يحمل اسمك ويفتح البيت.
كانت معارضتي شديدة في بداية الأمر لكن سُرعان ما خفَّتْ حِدَّتها ورقَّتْ أمام طموح أمي ورغبتها في زواجي ؛ فخطبت إليّ ابنة أختها التي كانت تكبرني بسبعة أعوام وكأني بها كانت تعد العدة هي وأختها مُدَبِّرَة الأمر في الخفاء من وراء عِلمي حَتَّى أدْركهُ بعد انقضاء الطَّلب وتنفيذ الأمر، أفَضلٌ في هذا ،،،!
أصبحَ التلميذ رجلاً؛ إذْ ما زلت في الصف الأول الثانوي وزملائي لا يعلمون عني شيئاً إلا إذا أخبر عني بعض من يعرفني من أهل قريتي أو أقربائي، الأمر الذي حَرَمَني عَيش مرحلة المراهقة؛ لم تكن لي تجارب مثل باقي الشباب في سِنّي ، كنت أنا الأمي عن الهوى والعشق فلما جاءني ما جاءني خرجت من العمى وأصبحت بصيراً.
لقد جلست في مركبي وأبحرت أجدف في خضم يَمّ تائه أخشى الغرق وأطلب النجاة أنظر إلي البَرّ بعين الكرب ولا أرى نهاية ، أمسكت قلمي حينها من تحت وسادتي وكراسي الذي يجاورني ؛وأسندت ظهري للجدار الذي يلازم فراشي وتركت ما حولي غارق والقلم يكتب أول حروف الشعر والغرام وكأنه ينشد تراتيل الهوى و يصيح كما تصيح جوارحي .... عواطف
وكتب القلم .!


بقلمي // سيد يوسف مرسي






قالوا :
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
فإن الخير فيها دخيل
  رد مع اقتباس
/