۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - موْتٌ يَشْتهيهِ الرّثاءُ / زياد السعودي
عرض مشاركة واحدة
قديم 29-05-2018, 06:14 PM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: موْتٌ يَشْتهيهِ الرّثاءُ / زياد السعودي

على الكامل وزنا يكمُل الإبداع في مواساة المداعبة التي تواسي المتألِّم بلفت انتباهه إلى آلامه .
وكأن الشاعر يقول لقسيم روحه : تألم تألم أكثر . والأفضل لك أن تموت ألما. فلم يبق من ألم أمامك سوى ألم الموت .
أفكر بهذا الأسلوب الغريب من المداعبة وبطريقة تأثيره في نفس المتألِّم .
وأعتقد أن الاستجابة ستكون ابتسامة واسعة وليس المزيد من التألم . لماذا ؟
لأن مثل هذه المواساة قد تأتي ردا على اشتكاء مسبق من المـتألم .
فالجواب المفحم هو : هذا هو قدرك . وعليك أن تقبل به . وليس ثمَّ أمامك سوى الألم. فما أنت فاعل ؟ قم مت . أو اقبل بقدرك ولا تهتم !
وهذا استقراء عاجل للنص

قُم مُتْ
الى قسيمها سلطان الزيادنة مع عدم حفظ الألقاب


أول إشارة إلى المداعبة جاءت مع عبارة ( مع عدم حفظ الألقاب ) تهيئة لمزاج القارئ كي يلتقط الإشارة فيقرأ بمزاج المداعبة .
عجنتكَ في صَحْنِ الأسى البَلْواءُ
خَبَزَتْكَ في تنّورِها الأنْواءُ

أنت معجون في صحن الأسى. ومخبوز في تنور (الأنواء / الرياح الشديدة / العطايا)
إشارة ثانية إلى المداعبة ، لكنها تعبِّر عن عمق معاناة المخاطَب . فهو معجون بالأسى . غيىر أن التفاصيل تفيد بأنه معجون في (صحن ) الأسى , مما يجبر القارئ على تخيل عملية العجن في الصحن وهو يبتسم .
وهو مخبوز في التنور .
ولا أعرف لمَ اختار الشاعر مفردة "الأنواء" ليحدد لنا طبيعة التنور . والأنواء: تعني الرياح أو العطايا .
فأما الرياح الشديدة كناية عن التقلبات واللاستقرار فلا تتناسب مع عملية الخبز في التنور التي تقتضي التصاق المعجون بجداره التصاقا يناقض وظيفة الرياح الشديدة .
وأما العطايا فلا مجال لذكرها مع ذكر البلواء التي عجنته في صحن الأسى عجنا .
وسعيرُ لا جَدوى سَقاكَ أوارَهُ
وتمنَّعَتْ عَنْ وَصْلِكَ التأساءُ

السعير يسقي بأواره سقيا - بعد أن توجب علينا قطع مشهد العجن والخبز- نقبل بصورة جديدة تقوم فيها اللاجدوى بسقاية هي في حقيقتها حرق .
والسقيا تكون للظامئ ، والظامئ يستقي سعير اللاجدوى . فيا لها من سقيا!

تمشي غُفاريا،أليلا، مُجْهدا
مُتصارِمًا يغتالُكَ الإعْياءُ

أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- حاضر في مشية من مشى فردا ألِيلا مجهدا . والأليل هو صوت المتألِّم هنا .
أما المتصارم فهو الذي يقاطع ويفارق من حوله .
سين السُّؤالِ قَدِ اصطفتْكَ مُبكِّرًا
فتغوَّلَت في روحِكَ البرداءُ
جيمُ الجوابِ تضرّمَتْ لَمْ تنطفئْ
نارُ السَّموم تؤُرّها الرَّمْضاءُ

والسين والجيم: كنايتان عن التحقيق مع المخاطب تحقيقاً جنائيا أو مخابراتيا . فهو متَّهم في مرحلة مبكرة من عمره . وهو غير قادر على التنصل من الأجوبة التي تتضرم . فبين "برداء الروح" الناجمة عن سين السؤال، و"نار السموم" الناجمة عن جيم الجواب ستكون النتيجة الحكم على المتهم بالنفي خارج البلاد .
وأسى المنافي قد سَقاكَ مِنَ النوى
وتعثّرَتْ في ظلّكَ الأضْواءُ

وللمنافي أساها الذي يسقيه أيضا ومرة أخرى ولكن "من النوى/ البعد".
وفي المنافي تتعثر الأضواء بظله . فهو إذن في حالة من التعتيم لا تدركه فيها الأضواء .
قد شابَ قلبُكَ قبلَ راسِكَ يا فتى
مذ أثقلتكَ بعبئِها الأعْباءُ
أنت الطّريدُ عليْكَ قد جَثَمَ العنا
واسْتَفْحَلَتْ في دَرْبِكَ البأساءُ
غَيَّضْتَ دمعكَ في غَرابيبِ الونى
حتى اشْتكَتْ من كأدِكَ الكأداءُ

"اشتكت من كأدك الكأداء" تكرر حرف الكاف أربع مرات، وتكررت الهمزة ثلاث مرات ، وكلاهما من الأحرف عسيرة النطق ( الشديدة) لطبيعة مخرجيهما محكمي الإغلاق . فشعرنا فقط من خلال جرس الألفاظ بصعوبة وعسر معاناة المخاطب . وهو الذي شاب قلبه قبل رأسه وهو "المثقل" بالأعباء وهو الطريد الذي " جثم " العنا عليه فزاده ثقلا بجثومه ، لأن للجثوم ثقلاً أيضا .

موتًا كثيرًا قد سُقيتَ مِنَ الرّدى
ومحت ظِلالَ كيانِكَ الظّلماءُ

" موتا كثيرا " الموت واحد ولا شك . ولكن تعدد الموت مرارا كناية عن تعدد التعرض له . ولو استخدم الشاعر لفظة أخرى غير " سقيت " لأصاب المعنى في صميمه . خاصة مع تكرار لفظة السقي سابقا .
أما محو الظلال بالظلماء فهو جميل جدا .
قد أهْلَكْتْكَ لواعجٌ لا تنتهي
وتمنَّعَتْ عَنْ لحدِكَ البَطْحاءُ

" وتمنعت عن لحدك البطحاء " فوق كل ما مر بك . وبعد هلاكك باللواعج التي لا تنتهي . أفلا تجد لك لحدا ؟ !
ما كنت إبْنًا للحياةِ لأنّها
قد غيّبتكَ بجُبِّها الأرْزاءُ

لو كانت الحياة تراه ابنا لها لما غيَّبته في جب الأرزاء / المصائب . فهذا دليل مقنع يقدمه الشاعر للمخاطَب ليقنعه بأنه لا مكان له أصلا في هذه الحياة سوى في الجب . فهومغيَّب مغيَّب. فلم لا يموت إذن ؟

قُم مُتْ فمَوْتكَ مُذْ وُلِدْتَ مؤجَّلٌ
فَلعلَّ مَوْتكَ يَشْتهيهِ رِثاءُ


باختصار . عليك أن تموت ! ولعله يكون لموتك فائدة إذا اشتهى شاعر أن يرثيك .

خطاب حاد جارح مؤلم في الصميم . من حيث هو مداعبة ومواساة ومشاركة وجدانية تدل على عمق إحساس الشاعر وشدة تعاطفه مع من يخاطبه .
ونحن أفدنا دهشة ومتعة الفكرة النادرة المبدعة وطرافتها . وأفدنا الاستمتاع بتميز الأسلوب وروعة الحنان القاسي والتعاطف المؤلم .
وتحيتي لهكذا إبداع
دمتم شاعرنا الرائع المبدع الأستاذ زياد السعودي






  رد مع اقتباس
/