عرض مشاركة واحدة
قديم 04-08-2011, 11:09 AM رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
سلام الباسل
عضو أكاديمية الفينيق
لأكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو تجمع أدباء الرسالة
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
عضو تحكيم مسابقات الأكاديمية
فلسطين

الصورة الرمزية سلام الباسل

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


سلام الباسل غير متواجد حالياً


افتراضي رد: الفينيق يوسف الخطيب يليق به الضوء * سلام الباسل*

الناي والرعد - الحركة الثانية والثالثة والرابعة





الحركة الثانية


كانت تعود في مخيلتي ─ بعد أن فرغنا أخيراً من تضبيط حاجز الخيمة الخارجي، ونزح المياه من داخلها ─ صورة منزلٍ حجري في العاصمة، توكّأتُ يوماً على حافة سوره الخارجي، ذي القضبان الحديدية الواطئة، ورحت أتأمل الحديقة، والشرفات، وستائر النوافذ، والتصميم الهندسي البديع لطوابقه الثلاثة وسطحه القرميدي ..

وقد سألت نفسي يومها من أين يأتي كل هذا الماء ليندفق من هذه الخراطيم على أرض الحديقة، بينما بقية أحياء العاصمة الأخرى ميتة من العطش .. متسخة تماماً من شُحِّ المطر.. فاطسة الأنفاس من الروائح الكريهة والحشرات والهوَامّ النـزقة في امتصاص دماء البشر، من قلة الماء؟! ..

أمِن أجل ذلك، إذن، تُمطر السماء الآن !؟ .. لتملأ هذه الخراطيم بالماء حتى لا تذبل أزاهير القصور ؟!.. ..
أجميل حقاً أَن تذبل الزهور اللطيفة، لمجرد أَن يشرب الفقراء، واللاجئون، والناس الوسخون، كِفايَتهم من الماء النقي؟! .. ثم من قال لهم أن يكونوا فقراء، ولاجئين، ووسخين .. بل لماذا لا يغتسلون أبداً بماء الكولونيا ─ بمنطق السِّت ماري أنطوانيت ─ إذا كان ينقصهم الماء ؟! ..

أذكر أن الغرض الذي ذهبتُ من أجله، يومَها، إلى عاصمتنا الجديدة، كان تحصيلَ إمضاءٍ معين على معاملة بطاقة التموين .. وهو التوقيع الذي لا توجد قوة أُخرى سواه يمكن أن تمنحني البطاقة حتى لو هبطت السماء على الأرض .. وأذكر أيضاً أن أوراق المعاملة كانت مرفقة بالمُغلَّف (المغلق حسب الأصول) وفي داخله الدنانير العشرة من ثمن صيغة المرحومة، وخطاب التوصية، وكل شيء .. ولا أعلم كم من الوقت بقيتُ مستنداً على سور ذلك المنزل الحجري ─ لأنَّ "الإمضاء" اللازم كان متغيباً عن دائرته لفترة ما قبل الظهر، ولم أجد ما هو أنسب لي من أن أُنفق الوقت في التفرّج على وجه المدينة الجديد ─ وهكذا بقيتُ مشدوداً إلى شرفات هذا المنزل/القصر، ونوافذه، وخراطيم الماء المتناشبة على أرض الحديقة الفسيحة من حوله إلى أن اقترب مني أحدهم من الشارع في بنطاله الخاكي المهتريء، وحذائه الثقيل، وبادرني على غير توقّع:
- أتبيعُني إياه؟ ..
- وماذا أبيعك ؟! ..(قلتها بتعجب واستخفاف) ..
- القصر ..

وإذ بدا له واضحاً أنني لم أستجب لروح الدعابة الساخرة، داخل قفص صدره الناحل العريان، ومن بين شفتيه الداكنتين تماماً كالطّحال، ولثّته المهترئة الزرقاء، اتكأ بدوره على السور الحديدي إلى جانبي، وقال بنكتة أخرى أقل سماجة من الأولى:

يستطيع (أخونا) في كل يوم أن يشتري سيارة من لون ربطة عنقه .. أو أن يبني منزلاً يتناسب مع قيطان كندرته ..

قلت له بعدم اكتراث: - نعم.. حال الدنيا ..
- من أين الأخ، بلا مؤاخذة؟ ..
- من مخيم العروب حالياً .. وسابقاً من بيسان ..

لقد بدا لي ضرورياً، من طريقة سؤاله، أن أشرح له سبب وجودي في العاصمة، لكي يستلم الشوط مني طبعاً، فيحدثني بدوره عن سبب قدومه إليها .. لذلك أَوجزت كثيراً في سرد حكايتي، إلى أن حدثته أخيراً عن "عطوفة الإمضاء الضروري"، فتكفل هو باختتام حكايتي من عنده:

- هذه الأُمه قلبها كافر يا رجل ..
ولم يكد ينتهي من تقرير هذه الحقيقة المطلقة لديه، حتى استلم الشوط مني ليشرع في سرد حكايته المملّة، الثقيلة فعلاً، حتى بأدق تفاصيلها التي تزخر بقاموس بأكمله من الشتائم الحادة كرؤوس السكاكين، إلى أن كاد أخيراً أن يبلغ ذروة الرواية، عندما تشاجر مع رب عمله "الخنيث" .. ─ هكذا ادعى بلسانه السليط، القاطع، كمقصّ الإسكافي ─ بسبب ذلك الأمر الشائن الذي طلبه منه فلم يستجب إليه .. وعند ذلك ظهر لنا شخص على مدخل المنزل.. القصر.. الفيلا.. لا أدري.. ثم أقبل باتجاهنا فاتحاً ذراعيه للهواء، ومن خلفه كلبان، أجنبيان، ممتلئان صحةً، وعافية، ونباحاً، من ذلك النوع الذي يظهر عادةً في الأفلام البوليسية:

- والله شرفتم وآنستم، حلَّت علينا البركة يا رَبع !! ..
فإزاء هذا الترحيب الحار، سرعان ما ألفيتُني، وصاحبي خفيف الظل، نبتعد عن سور المنزل بصورةٍ آليةٍ نشِطة، وأخذ كل منا سبيله، وإِن ظل هو مغصوصاً لبتر حكايته على هذا النحو المهين، فودعني وهو يشير في اتجاه المنزل:

- يتحدث كأنه هو صاحب القصر .. ابن الخدامه !! ..
ومن أمام ذلك المنزل في العاصمة ─ (وما زلنا ننزح الماء من داخل الخيمة) ─ عدت ثانية إلى دائرة "الامضاء الكُلِّي القدرة".. وعاودتني صورة ذلك الموظف الجلف الذي ما إن رأى المغلف المرفق بالمعاملة على حقيقته الهزيلة التي لا تزيد عن عشرة دنانير، حتى نهرني بقسوة .. وكأن إناءً ممتلئاً بالبذاءة قد أخذ يطفح من داخله:

- بهايم .. دواب .. حشرات !! ..
وإنني لأتذكّر الآن كم كان رائعاً وقتها لو أنني استطعت، ولو في الخيال، أن أمد يدي داخل بلعومه، وأستلّ منه كل هذه الرداءة السامه .. لكنني، عوضاً عن ذلك، وجدتني أخاطبه بجملة من الألقاب الفخرية المفخّمة التي من أقلّها ..∙ "أستاذ" :
- أستاذ .. من فضلك يا أستاذ .. من لُطفك وكَرَم أخلاقك.. ورائي في المخيم زوجة وثلاثة أطفال .. مجموعنا خمسة أفواه بلا كسرة خبز.. أليس لك أطفال..أتتصور طفلك جائعاً دون أن تفعل شيئاً يا أستاذ؟! ..
- تستطيع أن تخرس ..
- أُستاذ لو أنك تتكرم برفع المعاملة إلى عُطوفة الرئيس فقط .. لو تسمح لي بالدخول على عُطوفته لأشرح ....
- أي والله عال .. لم يبق إلا أن تدخل على صاحب العطوفة أيضاً ─ (ثم، وقد تناول الآن قطعة الدنانير العشرة في يده) ─ .. وهذا ما هذا؟! ..
- كلّ صيغةِ المرأة يا أستاذ ..

لكنه لم يكترث لإجابتي .. وبدا لي أنه يستمريء، بوضاعة نادرة، مخاطبته بلقب "الأستاذ" .. وإني لعلى يقين، لا أملك الدليل الحسّي عليه، بأن اسمه الوظيفيَّ عند صاحب العطوفة لا بد أن يكون الجحش .. أو الكلب .. أو ما هو على هذه الشاكلة من أسماء الحيوانات..

- نعم والله .. كل صيغة المرأة يا أُستاذ!! ..
ومع إحساسي الداخلي المتأزم بأنني قد أسأت هكذا إلى كل أستاذة الدنيا، فقد أجابني هذه المرة:
- أين تذهبون بكل هذه البطاقات .. كل فرد في العائلة يستخرج بطاقة عن عشرة انفار .. تجارة مربحة يا أولاد ال .. حلال !! ..
- أقسم لك من ناحيتي ....
- لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر!! ..
- لكنني أقسم لك بأنني لم أملك حتى الآن أية بطاقة في عمري .. ولم ....
- لا تجادلني .. كل أساليبكم مكشوفة..
- لا أنا، ولا أي فرد من أسرتي، وحَقِّ المصحف الشريف ..
- أعرفكم .. أعرفكم .. لا أحد يعرفكم مثلي ..
- ثم إنكم تستطيعون التحقيق في سجلاتكم إذا كنت ......
- انتظر هناك ..
كم هو عجيب حقاً أمر الانسان .. و من تُرى قال إن القلب البشري طيب في الأصل، و محب للخير، و ناصع كقطعة من الشمس؟! .. بينما القذارة الكامنة داخل هذا المخلوق تكفي وحدها لأن تُنَجِّس البحر!! ..

وحيث وقفت منتظراً هناك، فقد طَفَوتُ بلا إِرادة مني على سطحٍ مائجٍ بالغضب، والكآبة، والاحساس بالمذلة .. وسألت نفسي .. ما معنى أن تكون أقدار حياتنا مسطورة في هذه البطاقات الصغيرة !! .. وتقاذفتني الأفكار إلى حد التساؤل أيضاً: ماذا لو حصلت على بطاقة، وضاعت مني لأي سبب من الأسباب ؟! .. سُرقت احترقت .. طارت مع الريح .. فهل أضيع معها كإنسان؟!.. وهل تجوع أسرتي حتى الموت ؟! ..

قلت لنفسي مرةً: حبَّذا لو استطعت الذهاب بالعائلة إلى الشام، فربما وجدت عملاً شريفاً هناك.. ابن الشيخ حابس يعمل مُدرِّساً للإنكليزية في حمص ..

لكنهم حَصّنوا الحدود مؤخراً، وشددوا الاجراءات على تنقل اللاجئين .. ثم إن ابن الشيخ حابس وحيد بمفرده، وليس في رَقَبَتِه أربعة أنفار، حِمْلهم ثقيل يقصف الظهر..

وهناك .. انتظرت ثلاث ساعات على السطح المائج بالغضب، والكآبة، والاحساس بالمذلة والهوان .. إلى أن نَبَحَني من وراء مكتبه ..
- شرف يا بيك !! ..
- نعم أُستاذ !! ..
- هذه بطاقتك كما ترى، بخمسة أنفار: الجناب الفاصل .. مدام كوثر .. خالد.. آمنة.. محمود..
- شكراً .. شكراً ..

ولا أعلم حتى الآن لماذا شكرته، مع أن البطاقة أصبحت في يدي، وانتهى الأمر ..
- إذهب، وبِعها غداً .. وارجع لي مدّعياً بأن "البطاقة .. ضاعت .. يا.. "أستاذ"..
ثم لاحقني نباحه حتى بعد أن أصبحت خارج الباب:
- عسى أن أرى وجهك مرة ثانية في هذه الدائرة .. جَرّب وافعلها!! ..



الحركة الثالثة




كنا قد نزحنا الماء تماماً من داخل الخيمة، وإن تكن أرضها الطينية ماتزال طريّة تحت أقدامنا .. وغاب الأَطفال، حيث تكوّموا، في نوم ثقيل بعد عناء ليلة كافرة ..

وأما السماء فلم يرق لها أن تصدِّق، حتى هذه اللحظة، أن أرض المستحقين قد رويت إلى حد الغصّة، وأن خراطيم المياه المتناشية ستُلوِّن هذه الدنيا كلها ببراعم الزهور اللطيفة التي ستطلع علينا غداً في جنائن مخيم العروب!! ..

كلا .. لا أظن أن ثمة شيئاً في الطبيعة أجمل من جنينة صغيرة، تكون مفعمة باللون والشذى، وتشرب عليها فنجان قهوتك كل صباح .. لكن ذلك كان أيام بيسان .. وأما بعد ذلك فإن كل ما في الطبيعة قد فقد انسجامه، وتَناسُبَ أبعاده، ومبدأ الطمأنينة إليه، وربما أصبح كريهاً تماماً، ويخلو من أي جمال على الاطلاق !! ..

- لكنهم يسمون ذلك حقداً.. حقد الفقراء على الأغنياء.. أليس كذلك؟!..
ومرةً ثانية، قفزتْ إلى ذهني كلمات ذلك الوغد:
- "لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر"!!.. فتذكرت على الفور أنني لم أستلم مؤونة الشهر الحالي، وسينتهي موعد التوزيع بعد غد، والأَطفال جياع، وما عندنا ذرة طحين ..
- بعد غد ينتهي توزيع المؤن، عم حابس؟ ..
- بل غداً يا رجل .. ألم تأخذ المؤونة بعد؟! ..
- وأنت تعرف السبب .. انشغلت بموت المرحومة ودفنها..
- عليك أن تقوم بذلك اليوم .. إياك أن تفعلها وتنسى!! ..
- غير ممكن طبعاً ..

كان الرجل مؤمناً ..
ولكنه حين استعاد نفسه داخل بطانيته، وألقى على كتفه عُدَّة الإسعافِ المؤلفة من "الفأس والمجرفة"، فقد عاتب السماء بنبرة خافته تكاد لا تسمع:
- عفوك يا رب .. إنها حكمتك ..
وحيَّاني مودعاً، وتوارى في الضباب ..
وقهقه الرعد بغلاظة صارخة في جنوبِ غربيِّ السماء ..
بعد ساعة تقريباً، عندما استيقظ أصغر أطفالي "حُودة"، كان أول ما تلعثمت به شفتاه الصغيرتان:
- غِيف آما .. بِدّي غِيف كُول ..
لم يكن في الخيمة أَي رغيف، ولا حتى كسرة خبز يابسة .. ولا أنكر أنني مذنب بالنسبة لمحمود، أو أن أعذاري لن تكون مقبولة لديه على الأقل، فضممته إلى صدري مداعباً، في حين أيقظت آمنة لتقترض لنا رغيفين أو ثلاثة من خيمة الشيخ حابس .. وأَما خالد فقد استيقظ من تلقاء نفسه .. كان أشد مقاومة من محمود .. وإن لم يكن أقل جوعاً منه ..
- الله يرضى عليك يا خالد، لا تنس اليوم أن تذهب معي للمركز، لتساعدني في تحصيل الاعاشة ..
- حاضر يا أبي ..
وقمت من فوري إلى الجِراب المُتدلّي من سقف الخيمة لإحضار البطاقة منه، وجُستُ بيديَّ خلال أشيائه المنوعة، فلامستْ أصابعي المشط الكبير الذي كانت تستعمله كوثر، ومنديلاً لها، وقطعة مستعملة من الصابون، وعقداً خَرَزياً، وأشياء أخرى كثيرة لا توجد ضمنها ورقة واحدة.. البطاقة !! ..

لقد نفيتُ من ذهني كل احتمال سيء أول الأمر .. لكنني ألفيت نفسي أنتزع الجراب من موضعه بحركة عصبية مباغتة، ثم أُجيل النظر في داخله، ثم أُفرغ كل ما فيه دفعة واحدة على الأرض ..

- مستحيل .. غير ممكن .. هذا غير ممكن أبداً!! ..
وبادلني خالد نظرة حائرة مرتبكة ..
- البطاقة يا خالد؟! .. لماذا تُحدّق فيّ كالأبله!! ..
ولكن جديداً لم يطرأ على تعبير وجهه، وظل باهتاً كمن قد أصيب بذهولٍ شاملٍ.. وجاءني خلال ذلك أنين محمود للمرة الثانية ..
- غِيف آما .. بِدِّي غِيف كُول ..
و أشياءُ الجراب مبسوطة أمامي دون أي معنى, و داخلَ أضلعي نبض ثقيل وسريع، وخالد يوشك أن يبكي .. تتلأَلأ عيناه بقطرات الدموع .. يبكي فعلاً !! ..
عادت آمنة من خيمة الشيخ حابس و في إِحدى يديها خمسة أرغفة، و في اليد الأخرى صحن نحاسي، مليء إلى حافته بحبات الزيتون الأخضر المكبوس .. و على أََرض الخيمة العارية تحلّقنا حول مائدة الصباح ..

كان أَطفالي جياعاً، ولم أشأ أن أُعكِّر دمهم بشأن البطاقة، فأجَّلت البحث عنها إلى ما بعد وجبة الإفطار ..

ومن حيث قصدت أن أشرعَ في تناول الطعام، استقرتْ عيناي على الرغيف الخامس الزائد عن حاجتنا مدةً لا أتذكرها .. و عندما صادفتني أخيراً عينا آمنة، جائعتين، متوسلتين، تعجلتُ فاتحة الطعام :
- بسم الله الرحمن الرحيم ..
فامَّحى من على عينيها انتظار دهر طويل، و شرعت تأكل فوراً، أثناء ما تناول خالد لقمته الأولى بغصّة ثقيلة .. و أما محمود فقد أتى على مساحة كبيرة من رغيفه، خارجاً على تقليد البسملة، وراح يناوبني النظر نحو الرغيف الخامس .. إنما بدافع مختلف كل الاختلاف ..
- إنه رغيفك أنت يا كوثر .. فلماذا خرجت من بيننا؟! ..
و أَعادني صوت خالد من حافة الدوامة إلى غورها العميق:
- و البطاقة يا أبي؟! ..
- لا عليك يا ولدي .. سأجدها .. سأفتش عنها في كل مكان ..
في اللحظة نفسها، ارتفعت يد آمنة عن الصحن النحاسي الذي فرغ الآن إلى نصفه من حبات الزيتون، و أجالت عينيها الخائفتين في وجه خالد، ثم في وجهي، كأنما لتطرد من ذهنها خاطراً مفزعاً، وسألتني نصف باكية، كأني قد انتهيت مع خالد إلى قرارٍ ما، أثناء ما كانت هي خارج الخيمة لتجيء بالخبز و الزيتون من خيمة الشيخ حابس ..
- و هل تفعل ذلك يا أبي؟! ..
- أفعل ماذا يا آمنة؟ ..
- البطاقة؟! ..
- سأجدها يا ابنتي .. لا عليك أنت أيضاًً ..
- لكن ذلك حرام يا أبي !!.. حرام !!..
و لم أدر ما أقول .. لكنها سمعتني أُلجلج في ارتباكٍ خليطٍ بين الحضور و الشرود ..
- إنها الإعاشة يا آمنة.. ما هو الحرام؟!.. طبعاً يا بنيتي !! ..

و ندّت عنها صرخة حادة، مفاجئة، كادت أن تمزق حنجرتها .. و لم تستطع أن تعاود الكلام إلا بعد نوبة طويلة من البكاء:
- فتح القبور يا أبي!! .. و الله العظيم حرام!! ..
- و لكن ما حاجتنا ؟! ..........

نعم، كدت أسألها ما حاجتنا إلى فتح القبور .. لولا أَنني في لحظة واحدة، محتشدة، مدلهمة، صاعقة، أدركتُ كل شيء ..

شعرت بارتخاء يائس في كل أعضائي .. و لا أعلم لأيةِ فترة من الزمن بقيت غائباً عن كل ما حولي .. لكنني أَلقيت جبهتي المرهقة فوق يدي، فأذهلني أنها مغتسلة بالعرق، رغم لذعة الريح الصباحية الصافرة ببين الخيام ..

كنا نضع البطاقة دائماً ضمن أشياء الجراب، ولم نكن نغيّر موضعها أبداً، إلى جيب معطفي مثلاً، أو إلى ذلك الجيب الصغير في ثوب كوثر الريفي داخل عُبَّتها، إلا حين يقترب موعد التوزيع، فعند ذلك كان يتضاعف حرصنا عليها، و قد نتحقق من أنها ما تزال في حوزتنا عدةَ مرات كل يوم ..

لا أعلم معنىّ لذلك!! .. و قد انشغلتُ في الأسبوع الأخير بمرض كوثر، إلى درجةٍ نسيت معها أمر البطاقة .. لم أكن أعلم أنها في هذه المرة قد احتفظت بها داخل عُبِّها قبل كل هذه المدة من موعد التوزيع .. بل إنني لم أفطن إلى كل ذلك يوم الدفن .. ولم تكن آمنة، وهي التي اختنق قلبها بالحزن في مأتم أُمها، لتفطن بدورها إلى موضوع البطاقة، أو ربما لتدرك جيداً ما الذي يعنيه ان يحصل لاجيء على بطاقة تموين !! .. ثم ما الذي يعنيه أن يفقدها من بعد!!..

أحسبني الآن مضطراً لأن أفتح الحفرة .. ليس ثمة أي حل آخر .. ولا يمكن أن أدع اطفالي يموتون من الجوع ..
- لن تفتح قبر أمنا يا أبي .. أتوسل إليك ؟! ..
وأجبتها كاذباً:
- إطمئني يا حبيبتي .. لن أفعل ذلك ..
ومع الارتياح الطفيف الذي شمل تقاطيع الطفلة، عشت حرباً محتدمة داخل نفسي..
ومن حيث قصدت الموازنة، منطقياً، بين الحصول على البطاقة وعدم الحصول عليها، رأيتني معلماً في مدرسة حمصية في أعالي بلادنا الشامية، و أطفالي يأكلون حتى الشبع .. لكن "بلُّوطة" العَرُّوب، هنا - على مرمى حجرٍ كما يقولون ما بين القدس والخليل - وهي التي اخترت موقعها بنفسي في ظهر هذا العراء الجبلي، المشاع، لكي أُسَجِّي إلى جوارها جثة حبيبتي، مُلفّعةً بكل هدومها و حتى بأغلى ما استطاعت أن تحتفظ به من الثياب من أيام عرسها، كتعويضٍِ لروحها الطيبة عن كفنٍ ومأتمٍ لائقين، ستظل تشدني كوثاق حديدي يستحيل عليّ الإفلات منه إلى أي مَهْرَبٍ آخر، حتى في دنيا الخيال ..

فلمن، إذن، سنترك البلوطة إذا نحن شددنا رحال "اللجوء" إلى حمص، أو غيرها؟!.. ومَن تُرى، سيزور قبرك من بعدنا يا حبيبتي؟!..

ماذا أقول لآمنة ─ في حمص ─ إِنْ هي رغبت في أن تقرأ الفاتحة على قبر أمها ؟!

إن ابن الشيخ حابس الذي يعمل هناك لا رفيقة له تنام تحت بلوطةٍ هنا، وأحسب أن هذه القمة الحزينة، ستظل موطن ذكرياتي إلى آخر العمر..

ولكن .. البطاقة؟! ..
الحقُّ أنني كنت منقبضاً إلى حد الرعب من فكرة فتح الحفرة، ولا شكَّ أن شعوراً طاغياً بالإِثم قد اجتاحني عندما فكرت في حمل الفأس والمجرفة والصعود بهما إلى القمة .. ولكنني عدت إلى موازنتي إياها .. وعادت إلى ذاكرتي مرةً أخرى عبارة ذلك الكلب .. موظف بطاقات الغوث في العاصمة:

"لم تقل لي أين تذهبون بثمن السكر، والطحين، والحليب، والزفت الذي تبلعونه في أول كل شهر"؟! ..
كذلك عادت إلى ذاكرتي عبارته الوداعية الأخيرة:
"عسى أن أرى وجهك مرةً ثانيةً في هذه الدائرة" ..

وهنا لم تعد موازنتي قلقة أو مترددة، بل لقد كان من السخف أَصلاً أن أُقيم أية موازنة من هذا الـنوع.. بين جـوع أطفالـي، وإمكانية سـدّ رمقـهم بلقمة الخبز..

وفي الطريق إلى خيمة الشيخ حابس ─ لأستعير منه الفأس والمجرفة ─ لا أدري لماذا رأَيتني معلما في حمص !! ..




الحركة الرابعة


بدا لي المخيم من قرب البلوطة الشائخة في قمة الجبل، كمجموعة من شرانق الدود التي تستكنُّ الحياة داخلها فقط، وكلُّ ما حولها بارد لا حياة فيه..

السماء تبكي .. وجبهتي وقلبي هما أيضاً يذرفان الدموع .. والريح المتلاعبة التي فقدت أي اتجاه ثابت لها، هي الأخرى تعترضني أحياناً حتى لتوشك أن تردّني إلى الخلف، وأحياناً أخرى أشعر كأنها تدفعني صُعداً حتى لتكاد خطواتي لا تلامس الأرض، كمن يرى نفسه وهو يطير في الأحلام ..

وتحت البلوطة، أخيراً، جلست كي أستريح قليلاً من عناء الصعود .. إذا هكذا استطعت أن أقنع نفسي بأن فاصل استراحتي هذا ─ وليس ترددي ─ ما كان إلا لمجرد أنني كنت تعباً فقط !! .. وأخرجت عليه التبغ لأَلفَّ سيجارة ..

كانت يداي مبلولتين، فمررت بهما داخل البطانية حتى جفّتا تقريباً ..
ثم سلّيت نفسي قليلاً بمحاولة التأمل في متعة التدخين، في طراوة هذا الجو الشتائي وتحت سَحِّ المطر الذي تجنبته بعض الشيء تحت فروع الشجرة ..

قبر كوثر يواجهني تماماً، ربما على بعد خمسين قدماً، ولستُ مضطرباً .. بل لماذا أضطرب من حيث المبدأ ؟! ..

هذه سحابة دخان أنفثها من عُمق صدري، فتمتد على استقامة قصيرة، ثم تتلاشى في الريح، وأتنفس بعد ذلك، فيبدو نَفَسي ─ وقد تكوَّنت عليه ذرات البخار─ شبيهاً بنفثات دخان السيجارة .

كلا .. لست مضطرباً أبداً .. وإن هذه التسلية لتروقني تماماً .. فلأجربها كرةً أخرى ..
وأقنعتُ نفسي، إِلى درجة لا بأس بها بأن فتح حفرة القبر ليس من البشاعة أو الفداحة أو حتى الاكتراث إلى ذلك الحد الذي يمنعني من تكرار تسليتي التافهة هذه ..

وحتى بعد أن قذفت عَقِبَ السيجارة في الوحل، بقيت أنفث نَفَسي فيستحيل خيطاً أبيض، مديداً ، من البخار .. والحق أن أزمتي مع الحفرة أخذت تبدو لي، تدريجياً كأنها أزمة شاعرية مثالية، لا قيمة لها في واقع الأرض الدنيوي، ولا بين الناس ..

تذكرتُ حاجة أطفالي إلى المؤونة، وخشيت أن أَقضي سحاية نهاري متردداً تحت البلوطة، فيفوتني صرف البطاقة فيما قد تبقّى من نهاية موعدها الشهري المحدود، كقَدَر مُنزلٍ محتوم .. فعند هذا الهاجس الذي لسعني كأفعى، وجدتني أقفز عن سطح الأرض في هَبَّة واحدة.. وتهيأت لفتح الحفرة ..

نزعت البطانية عن كتفيّ، وعلقتها في نُتوءٍ بارز من جذع البلوطة، وأحسستُ بخطواتي الأولى نحو القبر كأنما قد تجاوبت أصداؤها في الشعاب البعيدة، غير أنني ─ بوعيٍ باردٍ تام ─ قمعت جَلَبتي الداخلية من جذورها، وأنكرت على نفسي ترددها الممل الجبان ..

كانت الريح على القمة أهدأ منها في ذلك السرداب الجبلي الذي زرعونا فيه، وكانت تواجهني على الأفق الشرقي عشرات القمم الهيّنة، التي تنتهي بعيداً، بذلك الفلع الحاد القائم على البحر الميت .. الذي ندعوه عادةً "بحيرة لوط" .. وتساءلت برهةً: لماذا بدَّلو اسم هذه البحيرة بالبحر الميت؟! ..

أفوق تلك التلول إِذن بذلت سدوم وعَمُورة بكارتيهما لأبيهما المخمور؟! ..
آه أيتها الأخيلة الشيطانية الخسيسة والمقدسة لديهم حتى الجحيم، أيُّ شيء لك في بلادنا غير الليل، والعفونة، وأساطير الرذيلة والجريمة التي تقشعر لهولها الأبدان؟! .. على حين لنا نحن القممُ، والمحاريثُ، ومواويلُ الحب التي تعانق صدر السماء ..

ولم تستغرقني هذه الخاطرة طويلاً .. ذلك أنني تقصّدتُ مثل هذه الخواطر والتداعيات، أو الهلوسات في حقيقة الأمر، كأقراص مسكنة، أو حتى مخدرةٍ أيضاً، لاحتمال ما أنا مُقبل عليه.. كما لو أنني سأقوم بعمليةٍ جراحية في سويداء القلب !! ..

لكنني اقتنعت أخيراً أنه ما من أي تداع، إِراديّ أو عفويّ، يمكن أن يصرفني عن ضربة الفأس الأُولى في قبر رفيقتي الراحلة ..

لا جدوى إذن .. فَلأُواجه كل ذلك كأيّما رجل حقيقيّ، ولأَكنْ في هذه اللحظة ─ بقسوة حازمة ─ واقفاً مع أطفالي الصغار الباقين على قيد الحياة، وليس مع ذكرياتي المولّية الهامدة دون حراك .. ولأهوِ بالفأس الآن على تراب القبر !! ..
هذه أول ضربة .. دون أن ينخلع لها قلبي كما كنت متوهماً قبل لحظات !! ..
ثم هذه هي الضربة الثانية .. بلا أي معنى خاص .. والثالثة .. والرابعة .. فالخامسة..
والأرض الطينية الرخوة تستجيب للرأس الحديدية النـزقة .. وهاأنذا ألقي الفأس حينا، لأَغرف بالمجرفة ما قد ضربته بالفأس .. ومن ثم أعود إِلى الفأس .. كي أعود إلى المجرفة .. وكُتل الطين تنعزق بلا نظام على حفاف القبر ..
- كم أعتذر إليك يا حبيبتي ..
وفم الفأس، الآن، ينغرز في أحد الأعواد الخشبية المتقاطعة فوق الجثة ..
- لأن أطفالكِ جياع يا توأم روحي ..
وأحد أثوابها يلتبس مع التراب الطيني، فأُشيح بوجهي جانباً، ولكنني أعود إلى عزق أطراف الحفرة، فأشعر أَن الأرض تغور تحت قدميّ، وأن تلال الطين ترتفع شاهقة، كجبال خرافية، على حفاف الحفرة ..
بل على جانبي الأُخدود !! ..

فالدنيا كلها أخذت تنحدر إلى أدنى .. تغوص إلى غَوْرٍ رهيب مجهول القرار ..
يداي تنبشان، الآن، عن مركز الأرض ..
قدماي تزلاّن فجأة عن حافة الهاوية .. فأغوص بلا قرار .. بلا قرار .. بلا قرار .. إلى أن يردني خَدْشٌ قوي في جبيني مرةً ثانية إلى ما فوق سطح العالم .. فهاأنذا ملقىً بوجهي إلى الأَرض .. ملقىً إلى جوارك يا حبيبتي، ولن أبرحَ هذا المكان أبداً .. أريد أن أموت فقط .. أن أظل معك بلا نهاية .. أن نستعيد معاً زفافنا، وليكن هذه المرة في حدائق السماء !! ..

كوثر .. ما الذي حلّ بنا يا حبيبتي .. أحقيقيّ أننا التقينا يوماً على درب النخيل في بيسان، وأنك أنت أنت، وأنا أنا، وهذا العالم هو نفسه العالم .. أحقيقيّ أنك متِّ، وأنني لم أمت، وأن روحاً واحداً قد أصبح اثنين ؟! ..

بل لماذا لم أمت معك في اللحظة ذاتها ؟! ..
سأظل أبكي هنا إلى جوارك حتى الموت !! ..
مالك يا كوثر .. ما لذي يمنعك الآن أن تبتسمي إليَّ .. أن تعودي لنا .. أن تعاتبيني بكلمة.. أن تطردي من جسدك قشعريرة الموت .. ألَن تسمعيني أبداً؟! ..

كوثر .. ما كانت يداي هاتان لتجيئا إليك في طلب البطاقة من قبرك المفرد ها هُنا في العراء.. ما كانتا إِلا لتضماك على درب النخيل في بيسان، وأمواجُ شعرك الرخيّة كغمرٍ من سنابل الجليل تستريح على كتفيّ.. ها نحن معاً على ضفة "المَشْرَع"، فاتركي قدميك العاجيتين لموجاته الصغار، وحدثيني عنك، وعني، وعن صورة طفل تلمحينها في الخيال.. أَتسألينني عن اسمه؟ .. عن اسمها؟ ..
- حُودة يسألني عنك كلَّ صباح..
- قل له سأعود مع الحُجّاج..
- قلت له ذلك..
- وقل لآمنة أن تزورني في كل عيد..
- وأنا أيضاً، وخالد، وحُودة..
- حُودة يبكي.. يصلني بكاؤه الآن..
- جائع.. ولا رغيف بين يديه..
- خذ البطاقة حالاً واذهب إلى المركز.. ضعها في جيبك، هكذا، واحرص ألا تضيع منك..
- وأنت يا كوثر ألا تعودين معي؟! .. سنعيد تعمير الدنيا بأسرها، وسنمنحها الحب والسعادة من جديد.. كوثر.. كوثر.. أريد أن أموت فقط.. أن أظلّ معك بلا نهاية.. فلماذا لا تجيبين.. وجهك ليس ميتاً، وهذه الزرقة المخضرّة التي فيه، أقسم أن الملائكة لا يمكن أن تختال في أجمل من فيروزها بين النجوم !!

كان المطر يوشك أن يتجمع في قعر الحفرة، فانتفضتُ واقفاً، وركزت الأعواد الخشبية المتقاطعة في مكانها، وبدأت أهدم جانبي الأخدود على حفرة المرحومة في قمة العَرُّوب..

وبعد أن سوِّيتُ التراب الطيني فوقها، أَقمت الحجر الشاهد عليها في مكانه..
وحين تناولت الفأس والمجرفة هامّاً أن أنصرف، لم يكن يرافقني أي شعور أعرفه من قبل.. بل كان نوع من البلاهة يترنح في خطواتي، ويرتخي في شفتيّ، ويتسع في جفوني..

وتحت فروع البلوطة، مرة ثانية، جلست أُدخن سيجارة أخرى، إذ لم أستطع أبداً أن أبرح موضع القبر فور الحصول على بطاقة الاعاشة!! ..

كانت هبّة قوية من الريح قد أسقطت البطانية من نتوئها المعلقة فيه، فنفضتُها من آثار الأرض، وقبعت داخلها خشية أن تلفح الريح صدري وأطرافي الناضحة بالعرَق.. ورغم أن نوعاً من الراحة قد أخذ يشملني ─ لأن البطاقة أصبحت في جيبي الآن ─ فإن حنيناً في قرارة نفسي كان يشدّني إلى أن أمكث مزيداً من الوقت إلى جوار كوثر.. إن العالم مجتمعاً قد استطاع أن يهزم رفيقتي الراحلة، ولشدّ ما يجرفني الحنين أن أشاطرها مرارة الهزيمة، ووحشة الاندحار!!..

- يا للنذالة.. وتترك أطفالك الثلاثة للأَزقة، أو لتجّار الخدم والصانعات!! ..
وحين أتيتُ على نهاية سيجارتي الثانية، كان دفء الشمس الفاتر، وضياؤُها الرمادي، ينكسران خلال الغيوم من نقطةٍ ما في منتصف السماء.. لعلها كانت الثانية عشرة، أو الواحدة ظهراً.. ومعنى ذلك أن أمامي أربع ساعات، أو خمساً على أكثر تعديل، قبل أن تفوتني آخر فرصة لتحصيل إعاشة الشهر الحالي.. لذلك تهيأت للعودة إلى المخيم، فخلَّصت نفسي من البطانية قليلاً، لأَن ما كان مطراً قبل لحظة قد أصبح الآن مجرد رذاذ هَيِّن..

ألقيتُ الفَأس والمجرفة على كتفي، وقبل أن أنطلق تأكدتُ من أن البطاقة موجودة في جيب سترتي..

- نعم، هذه هي..
وزدت على ذلك بأن سحبتها من جيبي، ليطمئن قلبي، ولكي أغتنم مزيداً من المتعة، والسكينة النفسية، من خلال مادتها المحسوسة بين يديّ .

كانت مبلولة بعض الشيء.. ولكنني حين فتحتها.. حين فرجتُ دفتيها بإبهام يدي اليمنى .. أحسستُ بالفأس والمجرفة تنـزلقان من على كتفي الأيسر، وغادرَتني البطانية وحدها لتستقر على الأرض، أثناء ما نقلت خطوتين أو ثلاثاً بدون أي اتجاه معلوم، محدّقاً في فراغ البطاقة في حالة ذهول تام.. أو كمن تشنّج فجاة بمفعول رُقية سحرية متمثلة في تلك الفوضى الغامقة المركبة من تحلّل الحبر الأسود، واندغامه بسطح الورقة الحمراء !! ..

يا للشناعة المجرمة !! ..
أية قوة رتَّبت ذلك كله.. لقد أتلف المطر آخر حرف منها مكتوبٍ بالحبر.. وحتى الخاتم الرسمي، وإمضاء الدنانير العشرة.. من يصدق أنهما كانا على هذه الوريقة الجرداء في أحد الأيام؟! .. لربما كان أحدٌ غيري يملك الشجاعة أن يواجه موظفي وكالة الغوث بمثل هذه الوريقة.. وأما أنا فأعترف بأنني أَجبن من ذلك، أو ربما أشدُّ حفاظاً على ماء وجهي من أن أُريقه بمزيد من التوسلات..

أعرفهم جميعاً، وأعرف طينة الزفت التي انجبلوا منها على مقاس حذاءٍ في أرجل أسيادهم الخواجات !!..
وسلكت قدمايَ الطريق التي تشاءان..
كان رأسي ممتلئاً فراغاً ومثقلاً بخُوائه من أي تفكير.. ولم تبصر عيناي شيئاً خلال أي شيء.. سوى أن خُطاي كانت خفيفة كمن قد تحول فجأة إلى شبح حقيقي.. وأخذت ضحكاتي تنفجر في القمة كصهيل حصان بريٍ مجنون.. وهنا أرخيت جناحَيْ بطاقتي على صهوة أول هبّة قوية من الريح.. واجتاحتني الرغبة في أن أَشرع بغناء مّوال مجهولٍ لا أعرف أي حرف من كلماته، ولكنني أريد أن أستلّه من أعمق أعماق رئتيّ، وألقي به إلى الريح، والمطر، والشمس المتعثرة بين الغيوم !! ..

أذكر أنني تساءلت بسرعة عمَّا أفعل بِقُوتِ أطفالي ─ فلقمة وكالة الغوث لم تفتني عن هذا الشهر وحسب، وإنما إلى الأبد ─ لكنني لم أستجب حتى لهذا الشاغل الأساسي الذي من أَجله فتحت حفرة كوثر.. بل واصلت السير كمن سيجد الجواب على جميع أسئلة الدنيا في نهاية الطريق..

ذلك ما حدث فعلاً..
كانت قدمايَ تتصرفان دون أَي تدخل من جانبي.. وبين الحين والحين كنت أعي حقيقة انقطاع الرذاذ، وتلاشي السحب الثقيلة السوداء إلى دخانية فاتحة.. وكان ثمة نوع من ارتخاء النهاية يشتمل نفسي بسلام عميق..

لا أعلم كم ابتعدت عن البلوطة، أو المخيم.. ودرتُ على محوري دورةً كاملة، لعلّي ألمح خيمة واحدة، فأسعدني أنني لم أُبصر أثراً لِتِلك الشرانق التي تحتوي حَيَواتنا البشرية في مخيم العرّوب !! ..

كان يكتنفني أفق جبلي ضيق..
وعوضاً عن خيام العَرُّوب، أبصرت منازل القرويين المعلّقة في السفوح، وأدخنة الشتاء تتصاعد من كُواها الصغيرة عبر ذلك النقاء الريفي المثير حتى الفرح وفَرْط البكاء..

قطيع من الماعز يتسلق سفحاً بعيداً من جهة الشرق.. ومن تأليف الطبيعة، وعزفها، وأوركستراها، بدا لي كأن راعي القطيع البعيد قد دخل في سجالٍ موسيقي مع السماء.. هو من خلال قصبة الناي الشجيِّ والمُلتّاع ما بين يديه وعلى شفتيه.. وهي من خلال قرعها العنيف على طبول الرعود في أعالي الغيوم.. حتى لقد خطر لي لوهلةٍ خاطفة كالبرق كأن هذه بذاتها هي سمفونية الخلق الأبدية التي تحكي مواجهة الإنسان لأعتى قوى الطغيان..
كذلك استوقفتني لوقتٍ لا أدريه لوحةُ هذا الريف الجبلي، الحزين والجميل معاً، كما رسمتها هنا أصابع الله منذ عهد جدنا الأول كنعان.. وقبل أن يخرجوا هاربين إلى سيناء بحفنة كاملة من ألوف من السنوات!!..

وفيما بين الصخور الرصاصية المترامية حولي، كانت هناك مساحات صغيرة من الأعشاب، تختلط فيها أقراص الفطر، وقرون الجَلَثُون، ومهرجان بأكمله من السواسن والأقاحي البرية وشقائق النَّعمان.. وقد جلست على واحدٍ من تلك الصخور لبعض الوقت.. وحين أسندت رأسي على راحتيَّ لأفكر في حاجة أطفالي إلى الخبز، انصرف كل تركيزي إلى خيط ضعيف من الماء كان ينـزُّ من قاعدة صخرة كبيرة مقابلة، وعاد بي ذلك الخيط إلى لعبة "النهر والبحر" التي كنا نلعبها أطفالاً أيام كنا في الناصرة، وقبل أن نعود إلى بيسان، وتساءلت بدهشة عما يمكن أن يعيب الأَطفال الكبار، مثلي، أَن يلاعبوا الصخر، والطين، والأعشاب، حتى آخر يوم لهم في الحياة ؟! ..

كم أحببنا جمالاتنا الفلسطينية تلك أيامَ كنا في سن الطفولة.. وكم بادلتنا هي الحب، عطاءً بعطاء..

مرة ثانية استدرتُ حولي لأرى أيَّ أثر لمخيم العَرُّوب، فأسعدني أيضاً أنني لم أره، وتمنيت ألا أراه أبداً ما قُدِّر لي أن أعيش، وأن أبتعد عنه بأطفالي إِلى دنيا مجهولة ليس فيها وكالة غوث، ولا لاجئون !! ..

ابن الشيخ حابس يعمل مدرّساً في حمص..
- لكن لا.. أقسم بروح من تسكن هذه الحفرة إلى جوار بلوطة العروب، ألا أَبرحها لغير تلك الدرب النخيلية على ضفاف "المشرع" في بيسان..

لذلك ضمّختني يدُ النسيم بعطر النماء الشتائي الفوّاح..
ولذلك أيضاً طرقت سمعي، في الخيال طبعاً، أجراس ذلك القطيع السارح على السفح المقابل، وكدت أجزم بأن الراعي قد أحس بدنيا السعادة التي أخذت تغمرني آنذاك في فجر تكوينها، فأرسل من نايه القصبي ذلك النغم المرافق لقصيدة إنشاء عالم جديد..

كانت فلول الغيوم تتدافع على متن الريح الجنوبية الغربية، لتتسع مكانها بحيرات الفيروز السماوية الصافية.. وتحسست ذراعي اليمنى فخيّل إِليّ أن كتلة صلبة من العضلات تكسوها.. وأدهشني كم كنت مخطئاً ليلة أمس عندما ظننت أن ظهري قد انحنى، وأن جسدي سينهار!! ..
- حقاً، لابد أنني مخلوق ذو قيمة مذهلة !! ..
وكان راعي السفح مايزال يمجِّد انتصاري الكبير بأنغام نايه المتجاوبة مع هزيم الرعد، عندما نهضت من على تلك الصخرة الرصاصية عائداً إلى المخيم.. وفي نيتي هذه المرة أن أعيد خلق العالم من جديد..






  رد مع اقتباس
/