عرض مشاركة واحدة
قديم 11-08-2021, 12:57 AM رقم المشاركة : 67
معلومات العضو
جهاد بدران
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
تحمل صولجان القصة القصيرة أيار 2018
فائزة بالمركز الثاني
مسابقة الخاطرة 2020
فلسطين

الصورة الرمزية جهاد بدران

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


جهاد بدران غير متواجد حالياً


افتراضي رد: سلسلة ضوء الشاعرة جهاد بدران على نصوص فينيقية

النّص : حينَ يَصْرخُ الصَمْتْ
النّاص : عمر مصلح
القراءة : جهاد بدران

..................

النّص :

صَمْتُها.. أَدْهَشَ كُلَ الفَنْانين، المستائين مِنْ سُلُوكِ الأُسْتاذ، حينَ مَزَّقَ لَوحَتَها.. إلا أَنَّ الدَهْشَةَ تَفَتَتَتْ عِنْدَما اسْتَقْبَلَتْهُمْ بابتِسامةٍ حزينةٍ، وَخَلْفَها صُورَتُهُ المُعَلَّقَة على الجِدارْ..
مُوَشَحَةٌ بِشَريطٍ أَسْوَدْ.


القراءة :


جعل الكاتب من الصمت وكأنه حالة خام، لا تفاعل ولا انصهار مع ما يحركه من ردة فعل تستفزه وتغيّر معالمه، لكنه يصل لمرحلة ينكث عنه غبار هذا الخمول الخام، ويتحرر من قواعده الأصلية ليكون باتجاه معاكس لمعناه، من صمت إلى صرخة، وهذا بحد ذاته استنطاق مذهل وبارع من خلال هذه العملية في تغيير مدار الصمت وتحريره من قواعده الثابتة، ليكون في مدار الصرخة، وهذا لا يحدث إطلاقًا مع تغيير معالم الصمت إلا عند حدوث حدث كان أكبر وقعًا من حدود هذا الصمت الخام، لينزلق في مدارج التحرر من هذا القيد، لحركة تغيير من شأنها تغيير مكامن الصمت لولادة جديدة تعيد المفاهيم الحركية لنقطة انطلاق جديدة في تحويل الخام لعنصر فعال..
وهنا كان العنوان مرحلة تحولية من رقعة الحدث الأولى لبقعة حدث يتفاعل وينصهر لمعالم الواقع، وإن كان التفاعل لغير صالحه..
خاصة عندما دخلت كلمة/حين/ على العنوان لتحيله لزمن متحرك، فهي تحل في ثوب ظرف الزمان الغير محدود..مما تثير عوامل الزمن بتحريكه وفق الحدث من خلال الصمت وهو يتحول لشرنقة صرخة تؤول الزمن وفق المدى المتصاعد من قوة هذه الصرخة لمداها البعيد..
وبالرغم من أن الصمت يحمل دلالات عدة إلا أن له قدرة زمنية محددة في فاعليته وقدرته على الثبات، بالرغم من أنه يحمل في طياته الحكمة وقليل فاعله، لتفكك شيفرته صرخة مدوية، تكون في ثوب التضاد مع الصمت، بقول الكاتب/حينَ يَصْرخُ الصَمْتْ/ فكيف يتوافق الصراخ مع الصمت، وكيف يتحوّل ويتحرّر من قيوده؟ وهذا التضاد منبع لجمالية اللغة وبلاغتها، حيث يلبس النص ثوب الحسن والدهشة..
هذا التحول سيتضح مداه من خلال النص المكثف بالعمق..
فقد بدأ الكاتب نصه، بكلمة /صمتها/مع ترك مسافة بينها وبين الدهشة التي كانت ظاهرة من خلال السياق من اتجاه كل الفنانين، ليقول لنا الكاتب أن وراء هذا الصمت حكاية، وحدث ما لازم الصمت والذي لم يأتي من فراغ، وليترك للمتلقي التدبر والتأمل وفرض استنتاجات وتأويلات لسبب هذا الصمت، وتحليل فكري يُشغل الذهن في السبر والبحث في عناقيد وضفائر هذا النص المدهش، ليصل المتلقي لسبب دهشة الفنانين.. بقوله:

/صَمْتُها.. أَدْهَشَ كُلَ الفَنْانين، المستائين مِنْ سُلُوكِ الأُسْتاذ، حينَ مَزَّقَ لَوحَتَها../

فالدهشة لم تكن لمجرد معرفتهم بسلوك الأستاذ حين مزّق لوحتها، لكن الدهشة كانت من ردة الفعل المصاحبة لها، إذ اعتلى الصمت عرش سلوكها، بعد أن تعرضت لعملية الاستفزاز هذه. والتي تعكس سلوك غير طبيعي، خاصة أنها تعرضت لتمزيق لوحتها بعد أن تعبت في تكوينها بأبعادها الخيالية وأبعاد الألوان والإتقان فيها، ومهما كان تعبها في رسم اللوحة، التمزيق لم يعني لوحة بحد ذاتها، مقابل تمزيق مزدوج بين اللوحة ونفسيتها التي هي أشدّ وقعًا بالتأثير من مجرد تمزيق لوحة ما، ليكون التمزيق للفتاة كمشاعر وككيان مستقل، ليمسّ أعماقها قبل لوحتها..
فالحديث هنا، يأخذنا لأعماق المشاعر حين تتعرض لانتهاك حرمتها وتمزيقها خاصة من إنسان عزيز على النفس ويحمل فيها طاقات احترام وتقدير، ليكون كسر النفس أول درجات التعرض للإهانة.. فالنفس الشاعرة تتأثر بانكسارها أشد من انكسار الأشياء المادية، لأن التعامل مع الروح تمثل الحياة وانطلاقة لأبواب الأمل والسعادة، فعند انكسارها تتهشم المشاعر ويستبد الألم فيها..
لكن هنا تعالت شيفرة الصمت، لتكون بدرجة الحكمة والتروي مقابل عملية استفزازية كانت محض صرخة، إلا أن الصمت ما زال بين هذه السطور في وقار لم تتم عملية التضاد بعد، ربما مع جريان الأحداث سيتم تفعيله بالصرخة، وسننتظر ونحن نلاحق النص بين مفاصله..

فالصمت هنا كان في غاية الحكمة، وحسن التصرف والقدرة على تمالك الذات من أي انفعال داخلي من الممكن أن تندم عليه لاحقًا، لذلك الصمت في كثير من الاحيان، يأتي مع التفكر والتدبر في صيغة السلوك واستخراجه.. وهنا قد جاء برفقة الدهشة من كل الفنانين، خاصة مع تمزيق اللوحة ومن المفروض عدم السكوت على هذا التصرف السيء باستراج انفعالات تعبر عن مدى الضيق والقهر،*** وهذا ما جعل الدهشة محطة ذهول من جميع الفنانين بصمتها الغير طبيعي..
والسؤال هنا، لماذا هذا الصمت المباغت للجميع رغم وجود عملية استفزازية؟

إلا أَنَّ الدَهْشَةَ تَفَتَتَتْ عِنْدَما اسْتَقْبَلَتْهُمْ بابتِسامةٍ حزينةٍ،/

والجواب، ربما يكون في عملية تحطيم لمعالم شخصية الأستاذ من الداخل النفسي للفتاة، ومن قلبها، ومن مشاعرها، وبذلك قد تخلصت من عوامل الاستفزاز بخروجه من ذاتها الشاعرة..
والدليل، أن الدهشة/ تفتّتت/والتفتت هو عملية تصغير للشيء من حجمه الكبير، فيصغر معه كل العوامل المصاحبة له، والقصد تلك الدهشة التي صغرت معالمها لتتحول/ لابتسامة حزينة/ وهنا نرى التضاد مجتمعة ما بين الابتسامة والحزن، مما أكسب النص بلاغة ومتانة في عملية السبك واستحضار دوافع الجمال والحس الجمالي للتعابير.. فالابتسامة كانت عامل مثير جدا في تحويل قِبلة الدهشة لعنصر الذوبان وتصغير لحجمها المتعالي، وذلك أن الابتسامة هي مرحلة خروج من ضيق دائرة الواقع الضيق بتقلباته، لواسع الفرح والأمل وتجديد طاقة تفتت درجات الحزن والألم.. ففي الابتسامة تكمن راحة النفس وتحوّل الكيان النفسي لطاقة شحن إيجابية تمحو معها درجات الأسى مهما بلغت، وتمنح النفس الطمأنينة والاستقرار، وهي تعتبر علاج روحي للفرد نفسه وللآخر حين نستقبله بابتسامة تحيله للاطمئنان والسكينة.
وهنا يحضرني حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام حين يدربنا ويعلمنا على أبعاد وتأثير هذه الابتسامة التي علينا أن نطلقها في وجه الآخر كي يسود الأمان والراحة والسكينة والتحابب والمودة والبشاشة بينهما، حيث يقول:

***«تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ»***رواه الترمذي، وصححه الألباني***(سنن الترمذي؛ برقم: [1956]).

وإما كون الابتسامة حزينة، على شفاه الفتاة،*** لأنها محض ولادة ما زالت جديدة، أي بمعنى أن الحدث ما زال في أوجه ولم تمر عليه فترة من الزمن للنسيان، وبالرغم من ذلك، إلا أن الفتاة تملك شخصية قوية جدا التي تمالكت بها نفسها مع مثل هذا الحدث المؤلم، لأن مثل هذا الحدث يأخذ فترة زمنية معينة لمرحلة الخروج من الأزمة للوصول لقاعدة نسيان هذا الوجع..

/وَخَلْفَها صُورَتُهُ المُعَلَّقَة على الجِدارْ..
مُوَشَحَةٌ بِشَريطٍ أَسْوَدْ./
والذي يؤكد عملية قوة الفتاة بمشاعرها وقدرتها على التصدي للألم، هو ذلك الشريط الأسود المعلق على صورة الأستاذ، كناية عن خروجه من قلبها ومن حياتها بموته معنويًا، مما جعل من هذا الموت ابتسامة أخرجتها رويدًا رويدًا من دائرة الحزن والألم...
وأما رمز الصورة المعلقة على الجدار ث، كناية عن إعلان لنفسها ولغيرها موته من حياتها، ليبقى ذكرى لمن أراد معرفة درجات ألمها ومعاناتها بموته للأبد من حياتها، ليكون عرضة للجميع وعبرة لمن لا يعتبر...
فليس كل صورة عليها شريط أسود، تدل على موت الشخص بشكل حقيقي، إنما يكون رمز موته من الأعماق وخروجه من حياة الأشخاص الذين تأثروا من ظلمه وإساءته..
في هذا النص البارع، المحكم بإتقان، والذي عالج وطرح قضايا مهمة جدا في مهارة فنّ التعامل مع الآخر، وكيفية علاج الأزمة والخروج منها بالإرادة وقتل الظلم في النفس المتألمة..
الأستاذ هنا كان محور سلوكي غير منضبط، لا يتقن مهارة التعامل مع الغير، بالرغم من أنه من المفروض أن يكون مرآة للأخلاق وقدوة حسنة للطلاب قبل أن يكون مدرّسًا لأية مادة تعليمية، خاصة أنه معلم فنون، والذي من المفروض أن يعكس رهافة الحس والمشاعر الرقيقة، وهذا يتطلب مهارة عالية وعملية تدريب مسبقة ليكون مهيئًا للوقوف أمام هذه المسؤولية والتي يتخرج منها أعداد لا تحصى من الطلاب، فالمعلم القدوة، هو المعلم الذي يتمتع بشخصية إدارية للسلوك والمنهاج، فالسلوك هو باب الدخول لعالم الطالب والتأثير عليه إما إيجابًا وإما سلبًا، وهذا ما ينقصنا في واقع ممتلئ بالفساد وغياب الأخلاق، لأن المعلم اليوم يكرّس همّه بإنهاء المقرر المطلوب منه، ليكون في عجلة من أمره بإنهاء مهامّه، وقد داس على قواعد السلوك الحسن وانتزع من نفسه الأخلاق الحميدة التي هي كل أساس لتوصيل المادة بطرق يذوّتها للمتعلم بطرق محببة وسهلة الهضم..
مجتمعاتنا ينقصها عملية التأهيل لأخلاقيات المهنة بل لأخلاقياتنا بكل شيء، حتى يستقيم الواقع وتستقيم قواعد الحياة الآمنة بأريحية وانضباط...
والملاحظ في هذه القصة أيضًا، أن سلوك الطالبة كان عكس سلوك المعلم، بتبادل الأدوار، حيث انعكس الانضباط وضبط المشاعر بشخصيتها، بعكس تصرف الأستاذ الذي تصرف بهمجية غير لائقة بدوره كمعلم مسؤول عن أجيال كاملة.. وهنا ينتج الخلل في أداء الدور الفاعل لصاحب المهنة، وهذا يعكس أن هناك أجيالًا تتصف بالوعي والنضوج أكثر من معلمها المادة والأخلاق، وهذا التبادل يسبب فجوة فظيعة في عملية التدريب للمهن المختلفة، لخلل يسبب تحطيم أجيال كاملة، إذا ما كانت تتصف بكامل الوعي والإدراك لمتغيرات الواقع والشخصيات..
فعندما لا يتقن كل صاحب مهنة دوره الصحيح، يعكس على المجتمع كله خلل في الأداء، ليفتح للفساد أجنحته في كل الأجيال..
كنا مع نص فاخر بليغ، عميق الدلالة، يحمل التأويلات المختلفة، مما يدل على عبقرية الكاتب في تحويل قِبلة الحرف لمشروع اجتماعي أخلاقي، يطرح فيه قضايا اجتماعية مهمة رغم قصر النص بكلماته المدهشة..
براعة الكاتب تكمن في توزيع مهام الكلمات لتكون كل واحدة قضية بحد ذاتها، هي غاية في الأهمية مع عصر تتدهور فيه كل مقومات الصلاح..
الفنان الكبير والشاعر الراقي والناقد العظيم
أ.عمر مصلح
دام مداد قلمكم وهو يرسم للأبجدية مقومات الإبداع بحرفية وإتقان، وهذا هو ديدنكم في كل مجال تغوصون فيه وتخلقون من الحروف الضياء..
حرفكم عكس فكركم الواعي وخيالكم الواسع وقدرتكم على إحياء قضايا اجتماعية مهمة هي أساس الحياة الآمنة.. من خلال براعتكم في نسيج إبداعي مذهل..
دمتم ودام الفكر الخلاق والقلم السيال لمفاتن الكلام
رعاكم الله لنوره ورضاه
.
.
.
جهاد بدران
فلسطينية






  رد مع اقتباس
/