۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - الأسد
الموضوع: الأسد
عرض مشاركة واحدة
قديم 18-09-2018, 09:14 PM رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
طارق المأمون محمد
فريق العمل
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
السودان

الصورة الرمزية طارق المأمون محمد

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

طارق المأمون محمد متواجد حالياً


افتراضي رد: الأسد

لم تثن الحروب التي كان سببها التنافس على حكم "دارفور" و"كردفان" ما بين "الداجو" و "الفونج" و"التنجر" و "عرب الغديات" "سلطان الفاشر" من تتبع أخبار "الغريب" الذي بدأ في بسط نفوذه بماله و بفرص العمل التي انخرط فيها عدد كبير من الشباب و الشيوخ و بما كان يفعله هو و "حاكم" من إعمار للمنطقة , فقد كان الصراع محتدما على أشده على حكم هذا الإقليم المترع بالخيرات , و كان قبل أن تصله شكوى "الشرتاي سرور" من تطاول آل "حاكم" عليهم و عدم انصياعهم لحكمه و استقوائهم بالغريب الذي لا يعرف له أصل قريب يرجع إليه نسبه يمكنهم الوثوق به و الرجوع إليه حال أخطأ أو تعدى , أرسل في طلب معرفة خبر هذا "الغريب" و ماذا يريد و بث العيون التي تأتي بخبره أولا بأول , بل و حاولت أن تعرف سر قدومه الى هذه المنطقة ومن أين هو...
و رغم تضارب المرويات التي وصلت الى السلطان حول الغريب فقد أجمعت كلها على ثلاثة أشياء أولها أنه من بلاد تبعد مسيرة أشهر بالخيل السريعة إن أُمِن الموتُ عطشا و من مدينة أسمها "بنزرت", تفصلها عن ديار السلطان غابات و صحاري و أنهر و أن هذه البلاد اسمها "تونس" و يطلقون عليها أحيانا "أفريقية" تقع خلف بحر كبير و الحقيقة الثانية أن حكام تلك المنطقة و الذين يسمون "الدايات" -مفردها "الداي" - منشغلون بصراعات و حروب داخليه و أن هذه الصراعات لم تهدأ على مر تاريخ طويل و أنهم في حالة حرب و تناوش مع العثمانيين المسلمين و تناوش فيما بينهم وتناوش مع طامعين كفار من وراء البحر المالح ... اجتمعت هذه المرويات لتؤكد الحقيقة المهمة الثالثة أن هذا الغريب لا خوف منه...
لكن لغز مجيئه من تلك البلاد البعيدة الى بلاد السلطان لم يزل يدفع الريبة في قلب السلطان و الذي كان لا يزال يعاني من اضطربات تتهدد ممكلته في أطرافها الشرقية , و إنه إن أمن من كونه عينا و معينا لأهله الأبعدين فلا يوجد ما يمنع أن يكون عينا و يدا لأعدائه الأقربين لذلك ألصق به من يراقبه كظله... و قد سعى مرات ليست بالقليلة كما يروى الى قتله خلال فترة وجوده المتطاول في المنطقة حتى بعد زواجه من "النقو" , و يتهمه كثيرون بأن له يدا في اختفائه المفاجئ و الذي لم يعد بعده أبدا فمن قائل أنه قتله عبر سم دسه له في طعامه عبر أحد أتباعه الذين كانوا يعملون في مناجمه ولكن السم ظهر أثره بعد حين و أنه وقع ميتا متأثرا بسمه في غابة قريبة و افترسته السباع أو أكلته دابة الأرض , و من قائل أنه اختطفه عند خروجه الى مناجمه عائدا إثر تفقده لسير العمل في أحد الحفائر بعد أن كمن له في تلك الغابة أيضا و الأقاويل كثيرة من هذا القبيل...لكنها كلها تؤكد خوف السلطان منه ...خاصة بعد زواجه من ابنة "حاكم"..
و لما أن جاء "سرور" مشتكيا من ذهاب نفوذه الذي أستمده من نصرة جده أي جد السلطان بعد تلك المعركة الكبيرة قبل زمن ليس بالقريب و لا بالبعيد فإن رد السلطان له كان بأن نهاية "التونسي" قريبة و أن عليه أن يصبر و يتريث و أن يكتم هذا الأمر حتى لا يفسد خطته فهو ليس بحاجة لأن يثير المنطقة ضد سلطانه بعد أن ظهرت أفضال "التونسي" على الناس و زاد خيره بينهم .
لكن السلطان استقبل "التونسي" و "حاكم" استقبالا حسنا و أقام لهما مأدبة كبيرة دعا لها أعيان المنطقة و قبل منهما هداياهما , و فطن الأثنان لمخاوف السلطان فأعلنا له على الملأ دعمهما للسلطنة في حربه العادلة ضد خصومه المعتدين بالمال و أن ربع الذهب المستخرج حق معلوم دائم للسلطان و دولته فاعتبر السلطان هذا إعلان خضوع و اتفاق إذعان لحكمه مما زاده اطمئنانا ولكنه لم يقض على مخاوفه بصورة نهائية.
و قبل رجوعهما أسر السلطان "لحاكم" بأنه سيرسل وفدا يصلح بينه و بين "سرور" و أن عليه أن يقبل بحكم وساطتهم , فاستعلمه عن هذا الوفد فأخبره بأسمائهم فقصدهم "حاكم" بهدايا خاصة رققت القلوب و أتمت المطلوب.
وانفرد السلطان بالتونسي أثناء المأدبة المقامة على شرفهما فسأله مستحلفا له بالله أن يصدقه القول ويخبره عن سر قدومه الى منطقتهم من دون المناطق المشهورة بذهبها و فضتها.
فقال له التونسي و المعازف و الأبواق و الدفوف تمنع القريبين من سماع الحوار الذي يدور بينهما.: سأصدقك القول يا سيدي السلطان المفدى إن الذي جاء بي إليكم ليس الذهب ولا النقود و لا الثروة و النفوذ و لم أفعل شيئا يوجب فراري من أهلي فلم أخرج من بلدي خائفا و لا متسولا فقد كنت غنيا ذا منعة و مال ونفوذ ورثته كابرا عن كابر ...و لكني خرجت أبتغي الثأر ممن قتل والدي رحمه الله وهو يعيش بينكم في بلادكم هذه,
عدل السلطان من جلسته بعد أن كان متكئا و بدت سيماء الجدية على وجهه , و قد لاحظ الجميع ذلك مما جعل صوت المزامير و الدفوف ينخفض و حديث الناس تحول من صاخب عالي الى هامس خاشع.. و قد لاحظ "التونسي" ذلك أيضا و كذلك "حاكم" الذي كان يترجم ما بين "السلطان" و "التونسي" لكن الأخير استمر في حديثه في نبرة متحدية قصدها : وهو ملك عظيم في دياركم هذه فما كان لحقير أو ضعيف أن تمتد يده على والدي العظيم المقام ...
اجتهد "حاكم" أن يخفف من نبرة التحدي في ترجمته لجلالة السلطان الذي بدأ الفضول و الإهتمام يزداد عنده كثيرا حتى أن ذلك بدا على جبينه الذي ازداد تقطبا وقال بصوت عال سكتت له المعازف نهائيا: لا يوجد في بلادي هذه ملك بعد اللهِ مَلكِ الدنيا كلِّها غيري ..لابد أن من نقل إليك خبر موته قصد بلاد السلطان "هاشم " فهي تحاددنا ... أو أنه قصدني فلا ملك غيري هنا يقتل و يحيي , و لئن قتل والدك بأمري لألحقتك به قبل أن تصلني..هوووي يا "التونسي" اعدل كلامك ..
لكز "حاكم" "التونسي" الذي استمر كأن لم يقل شيئا أغضب ملكا عظيما يتهدده بالقتل , قال "التونسي"..: "أنا مهران البنزرتي" سليل أسرة عريقة في بلادنا تتاجر في الأسود و السباع من نمور و فهود و ذئاب و ضباع و ثعالب و غيرها و نتعفف عن صيد الغزلان و الوعول و الطيور إلا ما جرح منها كالصقور و النسور, ورثنا ذلك من جدودنا فنحن على آثارهم سائرون , ثم نأخذها و نبيعها في بلادنا في سوق عظيم يقام للسباع يسمى "سوق أهراس" , نركب لذلك المغامرات و الصعاب فإن بها مكسبا طيبا و سمعة عظيمة و شرفا بين أهلنا ... رباني أبي على ذلك كما ربى أبي أبوه.. و نعلم عن غاباتكم هذه و غابات غير غاباتكم الكثير مما تعلمونه أنتم و لا تعلمونه ...
ثم أخرج من داخل عباءته و رقة كبيرة وفرشها أمام السلطان بعد أن بسطها من طيتها : أنظر يا سيدي هذه "الفاشر" حيث نجلس نحن و هنا "أوري" حيث كان ملككم يقيم قبل أن تنتقلوا إلى الفاشر و تتخذونها عاصمة لكم و هذه "الأبيض" حيث خرج جدكم "أحمد المعقور " العظيم .. و حيث يجترئ عليكم "السلطان هاشم" سلطان "المسبعات "و هذا الأتساع الكبير يحتوي على غابات كثيرة تتكاثف حين تتجه جنوبا و شرقا حيث بلاد حكم "الفونج" الذين ينافسونكم على حكم هذه البلاد و هذه سنار عاصمتهم ...
لم تمنع هيبة السلطان و لا حرسه الحضور من الإلتفاف حول السلطان و صاحبيه ليروا ما سر تلك الأوراق الكبيرة ...و قد أثارهم الفضول و تملكتهم الدهشة مما رسم فيها و زاد عجبهم نبرة "مهران التونسي" الواثقة المتحدية التي تكاد تقول للسلطان أنا أعلم منك ببلادك ..
ثم أخرج ورقة أخرى كانت تحت الورقة الأولى : هذه بها تفاصيل الغابات و عرائن الأسود و مرابض السباع تصفها تفصيلا ...و في هذه الغابة – و أشار بيده الى سواد في مرسوم في ورقته - قتل ملكها والدي رحمه...
ضرب السلطان الأرض غاضبا و صائحا :قلت لك لا ملك غيري في هذه البلاد .. أنظر أيها الغريب إما أن تفصح عن قاتل أبيك أو اخرج من مجلسي هذا و انتظر حكمي ...
- هدئ من روعك يا مولاي فإن الذي قتل و الدي ليس من البشر فما كان لفارس أن يجرؤ على قتله مهما بلغت شجاعته و ليس من الجن فإن الجن يتهيب حامل القرآن و قد كان والدي يحفظ القرآن و يستظهره عن ظهر قلب و لقد روض والدي ملوكهم و أسلموا له قيادهم .. لكن من قتله ملك عظيم نتتبعه من عشرات السنوات إنه الأسد ذو العقصة السوداء في كتفه , ملك كل غابات أقليم السودان الداخلي نتتبعه منذ أن كان شبلا يافعا .. نتسقط أخباره كما تتسقط أخبار أعدائك العظام و جاءت لصيده الحملات إثر الحملات فقد كان منيعا في سربه , لا تصل إليه إلا بعد أن تقضي على أسود و سباع كثيرة , فإن الذئاب و الضباع و بقية أهل الغابة يظاهرونه الولاء في نموذج عجيب شد انتباه صيادينا و حق له ذلك , فقد استبسل في تأمين الغابات كلها من شر الصيادين و المغامرين أمثالنا و لقد أدهشنا حضوره و امتداد نفوذه فما من غابة ندخلها إلا ونجده بها متأهبا متحفزا لقتالنا و طردنا كأن هناك من يخبره بتحركنا من بلادنا و بوجهتنا قبل الوصول الى المنطقة , , وقد قتل هذا الملك والدي حينما واجهه كما يتواجه الفرسان الشجعان وجها لوجه ...
ضحك السلطان حتى كاد أن ينكفئ على قفاه بعد أن علم بأن هذا الملك ملك من السباع و ليس من البشر و لكنه أسرها في نفسه و اعتبرها نوع من عدم احترامه ذكر الملوك أمامه بهذه الجرأة و التحدي وقال له: نحن لا نقتل ملوك الحيوانات يا "تونسي" بل نكرمهم و نطعمهم و نحميهم , و لقد هيأنا فرقة من العسكر لا هم لها غير منع الصيادين و المغامرين من قتل الأسود و النمور و الحيّات العظيمة ,بيننا و بينهم تحالف و ميثاق لم ننقضه منذ مئات السنين و لم ينقضوه...و لولا أننا انشغلنا في سنواتنا الأخيرة بحروبنا مع الفونج الأقوياء وحلفائهم لما كنت في مجلسك هذا و لما مات أبوك بعضة أسد ..كما تزعم و لكنكم استمرأتم الدخول الى أراضينا في غياب جنودنا و عساكرنا وانشغالهم بالقتال.
تبسم "مهران" مجاملا مضيفه في ضحكته : إن مناطق الغابات تذخر بالصيادين المهرة من أهلها الذين يجيدون صيد الأسود .. و بعضهم كان يبيعها لنا و بعضهم نشتري منه عاج الأفيال الثمين و جلد الثعابين الضخمة و لحم الكركدن الأبيض الشرس الذي أظن أن نسله سينقطع عاجلا إن لم تقوموا بحمايته .
جلالة السلطان العظيم إن ثأري مع أسد واحد و ليس مع كل الأسود فأنا أعاهدك على حمايتها كما أحمي زوجتي و بناتي و سأتعاون مع عسسك و عساكرك في هذا إن أذنت لي بذلك.. ولكني نذرت نفسي على القضاء عليه و لئن رجعت الى قومي بدونه فسوف ينبذونني و يطردونني .. فأنا ابن "عليسة" العظيمة منذ أول الدنيا التي طوعت الجبال و البحار و ألانت حديدها و سليل "ديهيا الكاهنة" التي خضع لها البرو البحر في زمانها لن أخون كلمتي و مهجتي دون عهدي..
عظم الغريب في عيني "السلطان" و سرته نبرته و ثقته رغم أنها أخافته منه , قال له: ما كان لك أن تتفوه بمثل كلامك و أنت في حضرتي لولا اطمئنانك لعهدي وثقتك بأني لا أقتل ضيفي , و سنحمل قولك على هذا المحمل ... لكن من قال لك بأن أسدك ما زال حيا بين السباع..ربما مات كما تموت الأحياء كلها لتلتقي عند من لا يموت يوم الدينونة الكبرى , وربما مرض أو هزل فما لعظيم عظمة مع مرض و ربما اصطاده صياد غيرك فإن حواء ولادة و فوق كل ذي علم عليم فما أنت أول الفرسان ولا أنت آخرهم.
تغير وجه "التونسي مهران" و احمر حتى بانت الدماء في خديه و عينيه و قال: ما كان لأحد غيري أن يقتله و لن يموت أو أموت قبل أن أصل إليه طال الزمن أو قصر ثق بذلك أيها السلطان الجليل.. كذا يقول الكتاب و هكذا أخبرني أبي قبل أن يموت متأثرا بجراحه و إني لقاتله بإذن الله...
لم تقنع قصة الأسد السلطان كثيرا بقدر ما أثارت الشكوك في قلبه, فما علاقة الأسد بالتنجيم عن الذهب و كيف استطاع "مهران" رسم كل هذه الرسوم عن مملكته و معرفة أماكن الغابات و المدن , و لذلك أرسل من يراقبه و يَلزَمُه في حركاته و سكناته بالذات عندما يخرج خارج مناجمه, كما أنه استدعى "حاكم" في صباح ليلة الوليمة ليوجه له رسالة واضحة أن هذا الغريب تحت مسؤوليته المباشرة و أن "حاكم" و أهله أجمعين تحت تهديد جلالته المباشر إن شعر بريبة في أمره فهو في وضع لا يحتمل التسامح في الصغائر دعك من الكبائر, و أبان له جيدا أنه سيقبل بأن يكون "مهران" تحت حماية "حاكم" شريطة أن يؤمن له تلك المنطقة و أن يأتيه بأخبارها , و أنه سيعتمده "شرتايا" على أن يقبل بحكم الوساطة الذي سيأتيه للحكم بينه و بين الشرتاي "سرور".
كان كلام "التونسي" عن الأسد مثار استغراب "حاكم" فهذه المرة الأولى التي يفصح فيها عن قصته مع الأسد , و لقد أجابت هذه الرواية عن أسئلة كثيرة كانت تحوم في صدره حول نسيبه "مهران".. خروجه و اختفائه لأيام دون أن يعلم أحد بمكانه.. الغرباء الذين كانوا يأتون بين كل فترة و أخرى محملين بأنياب و جلود و رؤوس ثعابين و حيوانات مختلفة, ذلك الغريب الذي جيء محمولا به و مات و دفن تحت سفح الجبل ... ذلك الجرح الغائر في جنبه الذي تثور آلامه كل فترة من الزمن و بالذات في فصل المطر حتى تقعده عن الحركة.. كل هذه أسرار لم يبح بها له و لم تتكشف معالم حقيقتها غير يوم أن أخبر السلطان العظيم بسره.... ثم إن المسؤولية أصبحت كبيرة بتهديد السلطان له و السلطان في أيامه هذه أشرس من أسد جريح هاج من رائحة دم , و يبدو أن نفس الأسئلة التي كانت تدور قبلا في رأس السلطان بدأت تعمل في رأسه.. من هو و ماذا يريد و هل له علاقة بما يدور في المنطقة من كر و فر بين سلطان المسبعات وبين سلطان الفور خاصة و هو يقع بين منطقتين النفوذ فيها لسلطان الفاشر و القرب فيها لسلطان "الأبيض"...
و في طريق الرجعة و في ساعة راحة و مقيل طلب "حاكم" من "مهران التونسي" أن يذهب معه بعيدا عن القافلة التي جاء بها لزيارة السلطان ليريه شيئا يخبؤه في منطقة قريبة من موقع مقيل القافلة حتى إذا ابتعد بحيث لا يسمع أحد حديثهما طلب منه التوقف والنزول من حصانيهما و الجلوس و ريثما يخرج شيئا من الخُرْجِ و أمده بماء من قربة يحملها في حصانه ليشرب, فلما اطمأن إلى اطمئنانه و جلوسه ووضعه وكاء القربة في فمه أخرج خنجرا من جفيره وأتى من خلف "مهران" ووضع الخنجر في رقبته ممسكا برأسه تالا لها إلى الخلف : من أنت و ماذا تريد ...أصدقني و إلا و حياة أبوي الشريف لترجعن من هنا رأسا بلا قدمين...






  رد مع اقتباس
/