۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - الفينيق توفيق زيّاد يليق به الضوء* سلطان الزيادنة
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-11-2010, 03:39 PM رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
سلطان الزيادنة
عضو مؤسس
أكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع الأدبي والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية سلطان الزيادنة

افتراضي رد: الفينيق توفيق زيّاد يليق به الضوء* سلطان الزيادنة

توفيق زيّاد شاعرُ المسحوقين

ريتا عودة- شاعرة وقاصة فلسطينيّة


" لا حاجة بكَ للموت على الصليب فقد وُلدتَ مصلوبا "
سيوران
أجيبيني ..

أنادي جرحَكِ المملوء ملحا, يا فلسطين ِ
أناديهِ وأصرُخُ
ذوِّبيني فيه ..صُبِّيني
أنا ابنكِ: خلَّفتني ها هنا المأساة,
عُنقا تحتَ سكيِّن
أعيشُ على حفيف الشوق..
في غابات زيتوني
وأكتبُ للصعاليك القصائد سكّرا مرّا,
وأكتب للمساكين
وأغمس ريشتي, في قلبِ قلبي,
في شراييني
وآكلُ حائطَ الفولاذ
أشربُ ريحَ تشرين
وأدمي وجهَ مغتصبي ..
2
بشعر ٍ كالسكاكين
وإن كَسَرَ الردى ظهري,
وضعتُ مكانه صُوَّانةً,
من صخر حطين ِ !!..
(السكر المرّ- رجوعيات)


هذا هو توفيق زياد,الشاعر الإنسان, الذي غمس ريشته في محبرة القضية ليسطِّر هموم شعبه, ليوقظ الوعي الجماعي, ليحثهم على دفن أوجاعهم والنهوض بهمم منتصبة.
من قلب الشعب نبت شاعر المقاومة , المناضل الملتزم توفيق زياد , يحمل أحمالهم ويحلم أحلامهم :

أحبّ لو استطعتُ بلحظة
أن أقلبَ الدنيا لكم : رأسا على عقبِ
...
وأجعل أفقر الفقراء يأكل في
صحون الماس والذهبِ
ويمشي في سراويل
الحرير الحرّ والقصبِ
وأهدم كوخه ...أبني له
قصرا على السُحُبِ
(أحبّ ولكن, ص99) 3

أخذ زيّاد يظهر بعد النكبة بقليل, لكنّه لم ينشر في عقد الخمسينات سوى عدد طفيف من القصائد. أمّا فورته الرياديّة فتأجلت حتّى سنة 1965 , إذ بدأت الكتابة الأدبية في الأرض المحتلة بالتبدل النوعي والكمي على السواء.
فصار زياد الرائد الأوّل والأكبر للشعر الفلسطيني بتحديث تقنياته وأساليبه تحديثا لا نكوص عنه ابتداء من أواخر الستينات, إذ أخذ الايقاع الثقافي ذو التوجه المقاوم يخرج من الطور القديم ( الخطابية الحماسيّة والعاطفيّة البدائيّة , اللتين هيمنتا على الشعر الفلسطيني إثرَ النكبة مباشرة) ويدخل في طور جديد كلّ الجدّة إلاّ وهو الغنائيّة الفجائعيّة ذات النزعة الرامية إلى تخريج الألم الشفيف والتفاؤل المعتدل في الوقت نفسه.
استطاع زياد أن يحيل الكارثة إلى أغنية هيفاء متفائلة, يستتب فيها حزن معتدل شفاف . وبذلك, أسهم في التمهيد للجيل الصاعد الذي بلغ أوجه مع محمود درويش الذي تأثر من منحاه العام دون أن يستعير منه ولو كلمة واحدة .
حين نضج جيل سميح القاسم ومحمود درويش وسالم جبران ونايف سليم وفواز عيد وراشد حسين إثر مناوشة حزيران, كان الشعر الفلسطيني قد دخل في طور الحداثة الفنيّة التي تأخر الشعراء الفلسطينيون عن البلوغ اليها بشكل لافت للانتباه. فقد تبلورت في أواسط الخمسينات ولا سيما في العراق ولبنان, ولكن حركة الشعر الفلسطيني لم تُنجز حداثتها الخاصة إلاّ بعد عشر سنوات أو أكثر بقليل.*
________________
*توفيق زياد" شاعر الشعب والقضيّة", عز الدين المناصرة,ديوان توفيق زياد, دار العودة, بيروت. 4

ابتدأت المرحلة الجديدة في الشعر الفلسطيني إثر مناوشة حزيران, أمّا السنوات الأربع أو الخمس السابقة لتلك المناوشة فهي برهة الانتقال نحو الطور الجديد. *
يعتبر زيّاد من الرواد الأربعة الأوائل ( فواز عيد , محمود درويش, سميح القاسم ) الذين نقلوا الشعر الفلسطيني برمته من طور إلى طور آخر له هُوية جديدة لعلها تكون السبب الذي جعل شعر المقاومة الفلسطينيّة يحتلّ المكانة الأولى في العالم العربي كلّه. ولا ريب أنّ هذه النقلة النوعيّة قد تمّت تحت تأثير بعض الشعراء غير الفلسطينيين وبخاصة بدر شاكر السيّاب الذي أثرّ في شعر سميح وفواز عيد.*

________________________
*توفيق زياد" شاعر الشعب والقضيّة", عز الدين المناصرة,ديوان توفيق زياد, دار العودة, بيروت.
5

من السمات البارزة للقصيدة الجديدة:
*اختفاء النزعة الحماسية التحريضية. هجر الصوت الخطابي, المتوتر المتشنج. هجر الأسلوب النثري واللغة المباشرة.
• الإعتماد على مبدأ الايحاء الرامز أو الإيماء التأشيري والتلويحي الذي هو مبدأ الحداثة العالمية برمتها.

انتقل شعر زياد من الطور القديم التقليدي, قصيدة عمودية مبنية على نهج تقليدي مباشر يميل اسلوبها الجهوري , التقريري, الى التحريض ووصف الوقائع التاريخية او الأحداث التي تجري في الواقع الى الطور الحداثي الذي يعبّر بالتلميح لا بالتصريح . وقد ابتدأ في أواسط عقد الستينات وتبلور الى حد كبير سنة 1967 التي تعتبر نهاية لمرحلة شعريّة قديمة وبداية لمرحلة جديدة واستمر هذا الطور حتى الزمن الراهن.*
استطاعت القصيدة الجديدة البلوغ الى وعي الانسان والانتشار في العالم العربي كله والأوساط الثقافية في الكثير من البلدان الأجنبية.


________________
• جريدة الأسبوع الأدبي, عدد885, دمشق.
6


الشاعر الملتزم

اتسمت بدايات زياد بالإلتزام بالمضمون التزاما كاملا, فاهتم بالمناسبات الثورية والأحداث المحلية والقومية والعالمية الكثيرة والشخصيات. لذلك, فهو شاعر حزبي ملتزم بالواقعية الاشتراكية.
وفرّ لنا الخامة الثورية الشعرية لكنه لم يُقدّم في بداياته, في الخمسينات, شعرا نقيا فقد جاء المضمون على حساب المستوى الفني/ المسحة الفنيّة الجمالية فقد نزل الى الجماهير ليكون رسولها:

وسوى الشعب الكادح
والناس البسطاء العاديين
وأيديهم –
لست أقدّسُ شيّا
(الكلمات)
**
يا شعبي يا عود الندّ
يا أغلى من روحي عندي
( يا شعبي)

والجماهير تحتاج الى الوضوح والحماس الايجابي.

7
التزم زياد التزاما خارجيا بالقافية التقليديةالتي تشبه التصويرالفوتوغرافي للواقع, فأعلن عن هُويته قبل أن يُقدِّم لنا شعرا ماركسيا حقيقيا.
التصق بالجماهير وتغنى معها في أرض الواقع دون أن يأخذ بيدها لتغييره.
لكنّه فضح الفقر , الجوع , الاضطهاد والاحتلال.
انبثق من الشعب فجاء شعره صادقا. حمل القصيدة في قلبه وكرّس كلماته للأرض والإنسان الفلسطيني مؤمنا أنَ الرفض والتمرد هما درب الحرية, وبذلك بثّ روح المقاومة ودعى للوحدة الوطنية بعيدا عن الانتماءات الطائفية وسياسة التفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني على اختلاف الطوائف والتوجهات الفكرية بهدف بثّ العداوة الدينية والسياسيّة. جعل من شعره مرآة صادقة لآمال الشعب وهمومه.
قدّم لنا الكثير في معركته ضدّ الرجعية المحلية والقومية والعالمية,
ويعتبر شعره من الصف الثاني من شعراء المقاومة في العالم. وزياد هو اكثر شعراء الأرض المحتلة صلابة من حيث النهاية المُشرقة لقصيدته.
جاءت لغته الشعرية لغة الغضب والثورة لا لغة الشكوى والأنين, فقليلا ما تجده يشكو وهذه من خصائصه التي أخذها عن مدرسة الواقعية الاشتراكية. يخلو شعره من النزعة الشوفينيّة. إنّه لا يكره اليهودي ولكنه يكره الصهيوني العسكري الذي شرّد أهله وحلّ محلهم. إنّه يكره البرجوازية سواء أكانت يهوديّة ام عربية ويكره السلطة العسكرية اليمينية. *
(في قصيدة ايخمان: يخاطب الشعب اليهودي وينبهه إلى خطر السلطة اليمينية )

_________________
*توفيق زياد" شاعر الشعب والقضيّة", عز الدين المناصرة,ديوان توفيق زياد, دار العودة, بيروت.

8
نلاحظ في شعر زيّاد اربع مستويات*:
1. الوصف الخارجي للأحداث (قصيدة عثمان)
2. الغضب الخارجي ( قصيدة رجوعيات: بأسناني سأحمي كلّ شبر من ثرى وطني, بأسناني, ولن أرضى بديلا عنه, لو عُلِّقتُ من شريان شرياني)
3. الحنين والغضب الداخلي( قصيدة نيران المجوس)
4. الهمس( قصيدة حكاية تطول)

ليس لهذا التصنيف حدود واضحة, إذ يختلط أحيانا شعر الغضب الخارجي بالداخلي بالحلم بالحنين.



_________________
*توفيق زياد" شاعر الشعب والقضيّة", عز الدين المناصرة,ديوان توفيق زياد, دار العودة, بيروت.

9
الوصف الخارجي للأحداث

شعر خطابي يعتمد على الوصف الخارجي والسرد الظاهري وتقع تحت هذا النموذج جميع قصائد مجموعته الماركسية.

إنني أذكر عثمان صديقي
مرّة في غرفتي في قلب موسكو
حول كأسين من الفودكا التقينا
وتحدثنا عن السودان وعن مصر..
وكوبا والجزائر
وعن السد الذي يروي الصداقة
وعن الثورة والفن وروّاد الفضاء
( من قصيدة عثمان)

هنا نلاحظ التقريرية المباشرة المبنية على السرد الظاهري للأحداث.
فجاء المضمون على حساب الصور الشعرية اللافتة , الايحاء , الرمز,
وهي عناصر تضمن المسحة الفنيّة الجمالية للقصيدة وتحثّ القارئ على التأمل .

تغنّى زياد بالأحداث الثورية العالمية:


10

مثخنة الجراح
كانت تقاتل السفاح
عزلاء إلاّ من ارادة
أمضى من السلاح
الكتل السوداء ..ذات الأذرع التي
أطلعتْ الصباح
كم عاملا هوى هنا
في دمه غريق
تشقّ صدره
فصائل القوزاق ..والرقيق
( من قصيدة: كراسنايا بريسنايا)

كراسنايا بريسنايا أو حي " النهر الأحمر" هو حي صناعي عريق في موسكو, وكان النبض الحي لموسكو في ثورة 1905 حيث التهبت فيه حرب المتاريس . في تلك الثورة والانتفاضات الشعبية الأخرى.

وغنّى للبروليتاريا كشعراء المقاومة في العالم يدعوهم للاتحاد لأن الهدف واحد وهو القضاء على الرجعية وتحقيق السلام العادل والحريّة:

إخوتي في الكفاح
...
الذي لصّ خبزكم لصّ خبزي
11
نحن الاثنان للطغاة ضحية
دربنا واحد فهاتوا الأيادي
يا رفاق المعارك الطبقية
نحو دنيا جديدة وسلام
وقضاء على القوى الرجعية
( من قصيدة: إلى عمال " آتا" المضربين)

**
وها هو يؤكد انتماءه لطبقة العمال ويعلن مرّة تلو المرة أن الهدف واحد وهو مقاومة المعتدين:
معكم أنا ..
يا اخوتي العمال في موسكو انا معكم ..
لدهر الداهرين.
...
معكم ..مع الشعب الذي صان السلام امام طيش المعتدين
وحمى ابتسامات الشعوب,
من الطغاة الطامعين
...
بيني وبينكم اواصر طبقة,
أبقى من الفولاذ ..والصخر المكين
( من قصيدة: الى عمال موسكو)

12
ولم يتخلى عن الأحداث الثورية القومية كثورة السودان وعدوان حزيران على أمته العربية, وهو يصف عمق الألم:

وعلينا كان , أن نشربه
حتّى الزجاجْ
كأسنا المرْ المحنى
ونحسَّ العارَ , حتّى العظم منّا


لكنه لا يغفل عن النهاية المشرقة حيث يدعو للنهوض من المأساة , كمن ينهض عن صليبه, ليولد من جديد :

فادفنوا موتاكم وانتصبوا
فغدٌ – لو طار-
لن يفلت منّا
نحن..ما ضعنا..ولكنْ
من..
جديدٍ
قد..
سُبكْنا
( من قصيدة: ادفنوا امواتكم وانهضوا, آذار 1968)

13


وها هو يدعو لنفض اليأس في قصيدة " كلمات عن العدوان" :

يا بلادي ! أمس لم نطفُ على حفنة ماءْ
ولذا لن نغرق الساعة في حفنة ماء

ويشتدّ عنفوان مواجهة غطرسة الاحتلال في صرخته:

أيّ أمّ أورثتكم, يا تُرى,
نصفَ القنال؟!..
أيّ أم ٍ أورثتكم ضفَّةَ الأردنِّ,
سيناءَ, وهاتيكَ الجبال؟


ويعود للتبشير بالخلاص المبني على حتمية التاريخ في قلب ميزان الظلم:

إنّ من يسلب حقا بالقتال
كيف يحمي حقّه يوما- إذا الميزان مال؟!..


وعن طريق نفي بعض الاتهامات عن الذات , يكيل الاتهامات ذاتها على الآخر ليفضح سياستهم , بأسلوب تقريري يخلو من اللمسات الجمالية, وكأنّ الوقت وقت مواجهة,حتى عن طريق الكلمات, لا وقت كتابة قصائد جميلة:

14
نحن لا نأكل لحم الآخرين
نحن لا نذبحُ أطفالا, ولا نصرع ناسا آمنين
نحن لا ننهب بيتا, أو جَنى حقل ٍ,
ولا نطفي عيون
نحن لا نسرق آثارا قديمة
نحن لا نعرف ما طعم الجريمة
نحن لا نحرق أسفارا, ولا نكسر أقلاما,
ولا نبتزَّ ضعفَ الآخرين
فارفعوا أيديكم عن شعبنا


ويختتم قصيدة "كلمات عن العدوان" ببث روح التفاؤل رغم أنف الوجع:

كبوةٌ هذي وكم
يحدث أن يكبو الهُمام
إنّها للخلف كانت .. خطوةً ..
من أجل عَشْر ٍ للأمام !!..



15

الغضب الخارجي



تميزه حرارته وصدقه ولكنّه يعتمد أيضا على الوصف الخارجي.
ها هو يعلن في قصيدة " بأسناني عن استعداده للدفاع عن الأرض التي لا بديل لها حتّى لو كان الثمن النزف مصلوبا:

بأسناني
سأحمي كلّ شبر من ثرى وطني,
بأسناني
ولن أرضى بديلا عنه
لو عُلّقتُ
من شريان شرياني

( من قصيدة: بأسناني, رجوعيات )

في هذا المقطع من قصيدة بأسناني:

أنا باقٍ
ولن تقوى عليّ
جميع صلباني
16

نلاحظ اللمسة الجمالية في القصيدة حيث لجأ زياد إلى الايحاء عن طريق توظيف الموروث الديني , صلب السيد المسيح , للاشارة الى مقاومة كل عمليات الاضطهاد المتمثلة بالصلب.


وها هو صوت المقاومة يتحدّى كل أنواع الاضطهاد بصوت تقريري
يؤرقه مضمون الرسالة أكثر من جمالياتها:

فاقتلوني – أتحدّى
واصلبوني – أتحدّى
وانهبوا كسرةَ خبزي- أتحدّى
واهدموا بيتي وخلّوه حطاما – أتحدّى
وكلوني واشربوني- أتحدّى
( من قصيدة: أتحدّى)

لكن لا تخلو القصيدة من لمسات جمالية كما في المقطع:

وأنا النهر الذي يجري ويجري
جارفا كلّ الطغاة

حيث شبّه الطغاة بالحصى في طريق النهر, ولا بد للنهر أن يتغلب على الحصى لأنّ هذي هي حتمية القُوى الطبيعيّة , كما أن حتمية التاريخ تقتضي بانتصار الحق على الظلم : " لا حقّ يموت" (من قصيدة: شئ عابر).
17
وها هو الغضب الخارجي يتفجر في قصيدة "فلتسمع الدنيا":



فلتسمع فلتسمع .. كلّ الدنيا
سنجوع ونعرى
قطعا نتقطّع
ونسفّ ترابك
يا أرضا تتوجع
ونموت.. ولكن
..
لن نركع
للقوة.. للفانتوم ..للمدفع
لن نخضع
لن يخضع منّا
حتّى
طفل يرضع


18


الحنين والغضب الداخلي


هنا يمتزج الحنين بالغضب دون تكلف , وهو أفضل نماذج شعر زياد . في قصيدة " أناديكم" يحدّث أهله في الشتات عن صموده الجبار:

أنا ما هنتُ في وطني
ولا صغّّرْتُ أكتافي
وقفتُ بوجه ظُلاّمي
يتيمًا , عاريًا , حافي
حملتُ دمي على كفي
وما نكَّسْتُ أعلامي
وصُنتُ العشبَ فوقَ قبور أسلافي
(من قصيدة: أناديكم)


ويتضح الحنين والغضب الداخلي في قصيدة "نيران المجوس":

على مهلي
أشدّ الضوء خيطا ريّقا
من ظلمة الليلِ
وأرعى مشتل الأحلام
19
عند منابع السيلِ
وأمسح دمع أحبابي
بمنديل من الغل
ولكنّي.. كنيران المجوس أضيء
من مهدي إلى لحدي
ومن سلفي إلى نسلي

في هذه القصيدة يتجسد قلبه الكبير حيث يرتقي في نضاله وصموده الى مرتبة القديسين الثوار , فلا ييأس ولا يملّ, بل يشد من ظُلمة الحياة حوله خيط ضوء دقيقا ينسج منه حياة المستقبل في دأب النمل ومثابرته وهو مطمئن الى النهاية, لأنّه واثق بحتمية العدل التاريخي, فيخوض معركته بنَفَس طويل وجَلَد من دون أن يفقد صبره, ويُعينه على ذلك تسلحه بفهم القوانين الموضوعيّة التي تحدد و هي وليس أي شئ عابر, وجهة التطور التلقائي للتاريخ*:

على مهلي
لأنّي لستُ كالكبريت
أضيء لمرّة ..وأموت
...

_____________________
سيمون نصار" مجلة الدراسات الفلسطينية", 49, شتاء 2002
20

لأنّ وظيفة التاريخ
أن يمشي كما نُملي

هنا يظهر العناد والتحدي المتفاني في حبّ الوطن.


21
الهمس

هذا نموذج للشعر الرومنتيكي الهامس. موسيقاه خافتة هادئة:

أحسُّ أنّها حكاية تطولْ
ورحلة على جناح بلبل جميل
التقط النجوم
أشكّلها قلادة لعنقكِ الصغير
وفي المساء
وحينما تنطفىء السماء
وتحضن الوسادة البيضاء رأسك الغرير
تنام في سلام , مع اليمام
في صدرك المفتَّح الحرير

( من قصيدة: حكاية تطول )


نلاحظ انتقاء المفردات العادية البسيطة التي تعكس طبقة الناس العاديين الذين يعلن دوما زياد انتماءه لهم. وهو يعلن عن عوزه الماديّ , فالقلادة التي سيهديها لحبيبته ليست من الجواهر إنمّا من النجوم, وهو يؤكد على أنّ أحلام عامّة الشعب تقع ضمن مساحات الخيال. أمّا هديتها الحقيقيّة فهي "قصيدة" يصوغها من "النجوم" , أي من عالم الخيال الخصب.
22

يختلط أحيانا شعر الغضب الخارجي بالغضب الداخلي بالحلم بالحنين , وهذا هو اتجاه قصائد توفيق الجديدة ويمكن أن نضع تحت هذا النموذج العام الأخير عند زياد , قصائده الممتازة مثل*:
أحبّ ولكن , ضرائب, رجوعيات, هنا باقون, على جذع زيتونة , نيران المجوس و كلمات صغيرة.
أمّا قصائده:
( هنا باقون, رجوعيات, نيران المجوس, على جذع زيتونة, السكر المرّ )
فهي من قصائده المتميزة شديدة القرب من الحداثة لكونها قد نجت من فخ التجريد والغموض والتكلف , كما في قصيدة: " على جذع زيتونة " ,
حيث يقول:

سأحفر كل ما تحكي لي الشمس
ويهمسه لي القمر
وما ترويه قُبّرةٌ
على البئر التي
عشاقها هجروا



_______________________
*توفيق زياد" شاعر الشعب والقضيّة", عز الدين المناصرة,ديوان توفيق زياد, دار العودة, بيروت.

23

هنا صورة شعرية مميزّة , إذ أنّه أخذ جزء من كلّ(البئر) ليُسقط عليه مأساة النزوح. ويُسقط وجع النكبة على القُبرّة , فكأنّ الطيور تشعر بالمأساة وتحكي عنها أكثر من البشر, وفي ذات الوقت يلمّح إلى رحيل الحبّ مع الذين رحلوا . أما من لم يرحل , فبدأ بالحفاظ على ملامح هويته بحفرها / تثبيتها في ذاكرة المكان: زيتونة في ساحة الدار.


24

التراث الشعبي



يعتبر التراث الشعبي الفلسطيني من ملامح الهوية الفلسطينية التي اهتم شعراء المقاومة اهتماما مقصودا بابرازها, بصفته يمثل أصالة الشعب وموروثه ومعدنه الحقيقي. لم يكن اهتمامهم بهذا التراث في مجمله مجرد عمل فني جمالي يوسمون به شعرهم, وإن كان ذلك بعض غاياتهم, إنّما الغاية الأهم في عملهم كانت غاية وطنية غرفوا لأجلها من هذا التراث سلاحا قويا في معركة الحفاظ على الشخصية الفلسطينية فاستلوا كثيرا من عروق هذا التراث ونصوصه التي حبكوا بها قصائدهم باستعمالهم ألفاظا وتعبيرات شعبية كاملة, أكان في مضمونها أم في روحها وأوزانها*.
زد على ذلك, فان ايمان زياد بالجماهير جعله يستخدم لغتهم ,
لغة الشعب , بما فيها من بساطة عميقة ورموز كبيرة تحملها القصص والأمثال الشعبية. تبدو الروح الشعبية العامة في شعره بوضوح متمثلة في:
1. استخدام الأمثال
2. استخدام الألفاظ والأساليب الشعبية
3. استخدام الصورة والقصة الشعبية
4. استخدام أسلوب الأغاني الشعبية


___________________
* سيمون نصار" مجلة الدراسات الفلسطينية ",49, شتاء 2002
25


1.استخدام الأمثال


المثل: "أذُن من طين وأذُن من عجين"
توظيف المثل في القصيدة:

فارفعوا ايديكم عن شعبنا
لا تُطعموا النار حطب
كيف تحيون على ظهر سفينة
وتُعادون محيطا من لهَبْ
فارفعوا أيديكم عن شعبنا
أيا أيّها الصُمُّ الذين
ملأوا آذانهم قُطنا وطين
( من قصيدة: "كلمات عن العدوان")


الشاعر الذي أعلن انتماءه لعامة الشعب والناس البسطاء الطيبين, لا يتعالى عليهم بتعابير غامضة ومفردات مستعصية , إنما يغرف من قاموسهم اللغويّ , ليؤكد على انتمائه اليهم وعلى أنّه يكتب لهم فتأتي رموزه بسيطة عميقة, سهلة غير ممتنعة , تتكئ على أمثال شعبية مستعملة ومفهومة,كما في" ملأوا آذانهم قطنا وطين" التي تفيد في التمادي بالتظاهر بالصمم وعدم الاكتراث لصرخات الآخر الموجوع.

26

هدفه الأوحد فضح المآسي من خلال نغمة غاضبة, لا تتذمر ولا تئن, بل تبث روح التفاؤل مؤمنا بالمثل القائل: بدل أن تلعن الظلام, أشعل شعلة.



المثل: "واوي بلع منجل"
الرمز: الواوي الذي بلع المنجل, كيفما يتحرك يؤدي لجرح وتدمير نفسه من الداخل لأنّ المنجل يقضي عليه من الداخل مع كلّ حركة.
يمكن تشبيه الواوي بالمحتل/ المغتصب , والاحتلال بالمنجل الذي سيؤدي في النهاية لدماره .
توظيف المثل في القصيدة:
" عن جدّنا الأوّلْ,
قد جاءَ في الأمثالْ:
واوي..
بلعْ..
منجلْ !!
كل ما تجلبه الريحُ
ستذروه العواصفْ
والذي يغتصب الغيرَ



27
يعيشُ ..
العمرَ,
خائفْ ..!!"
( من قصيدة: "أمثال")


المثل: "يعمل من الحبَّة قُبَّة"
المعنى: يُضخّم الأمر.
توظيف المثل في القصيدة:
" لكي أذكُر
سأبقى قائما أحفر
جميع فصول مأساتي
وكلَّ مراحل النكبة
من الحبّة
إلى القُبَّة
على زيتونةٍ
في ساحةِ
الدارِ ..!! "
( من قصيدة: "على جذع زيتونة")

توظيف المثل في القصيدة: نلاحظ ابتكار توظيف آخر للمثل الأصلي, بمعنى :
سأحفر كل تفاصيل النكبة من الألف للياء على جذع زيتونة , كأنها وشم لهويتي الفلسطينية , لأنّها ذاكرة ليست للنسيان.
28

ومن الأمثال الأخرى :

المثل: "حفّار قبره بيده " الذي تمّ توظيفه في القصيدة في البيت التالي:
" كنتُ كالحفار قبري " .
وكذلك: " ملحة في عين اللي ما يصَلِّي على النبي " الذي تمّ توظيفه في القصيدة في البيت التالي:" هذي يد العمال للعمال ملحا في عيون الكارهين".
والأمثلة على توظيف الأمثال الشعبية كثيرة.



29
2.استخدام الألفاظ والأساليب الشعبية

الألفاظ الشعبيّة:
حين يغرف من قلب الناس مفرداته يصل قلبهم بعفوية ويؤثر فيهم كما في المفردات التالية:

*" أبوس "

أناديكم
أشدّ على أياديكم ..
أبوسْ الأرض تحت نعالكم
وأقول: أفديكم
(من قصيدة: "أشدّ على أياديكم" - رجوعيات)

أبوس- مفردة عاميّة تعني: أُقبِّل.
وهو إذ يستعمل اللغة العامية للشعب, يصل لشريحة أكبر من الناس بما فيهم الناس العاديين غير المثقفين , كأنّه يؤكد أن هدفه الأساسي من كتابة القصيدة هي مضمون القصيدة.


*" رمش "

أحبائي .. برمش العين,
30
أفرش دربَ عودتكم,
برمش العين
( من قصيدة: " جسر العودة " – رجوعيات)

رمش- مفردة عاميّة تعني: هُدب العين.


*" أم الجدائل "

أصَبْتني الذكرُ الأوائلْ
لهواك يا أمّ الجدائلْ
( من قصيدة: " أم الجدايل")


الجدائل – مفردة عامية تعني: الضفائر


*" محلولة الشَعْر" , " منعوفا "

وحقّ شَعْرَك .. يا محلولة الشعر ِ
كأنَّهُ الليل منعوفا على الفجر
( من قصيدة: "متى نلتقي" )

محلولة الشعر - مفردة عامية تعني: مُسدلة الشَعر
منعوفا - مفردة عامية تعني: منثورا

31
*" دَوالي"

والدوالي عرَّشتْ,
واخضرَّ منها ألف سلم
(من قصيدة: "قبل أن يجيئوا" - ست كلمات)

دَوالي- مفردة عاميّة تعني: كَرْمَة العنب



• " تفرش ُ"

تنأى, وتفرشُ لي الوعودَ
فديتُها ظبيا مماطل
( من قصيدة: " أم الجدائل")

تفرشُ – مفردة عامية تعني: تبسطُ , تنثرُ الوعود.



• " فوتي"

مررتُ صبحا أحيي شجرة التوت
فلم أجد من يقول اليوم لي: فوتي
ولم أجد ثم الا طائرا يبكي
فجمد الوجد اقدامي على الشوك
( من قصيدة: " تهليلة ")
32

فوتي – مفردة عامية تعني: أُدخُلي .


• " شُباكي"

ماذا تقولُ الريحُ
يا شُبَّاكيَ المفتوحْ
عن وطني الذي
تركته مفتَّحَ الجروح؟
(من قصيدة: شبّاكي وأنا")

شُبّاك: مفردة عاميّة تعني: نافذة .





• " ظُلاّمي "

وقفتُ بوجهِ ظُلاَّمي
يتيما, عاريًا , حافي
( من قصيدة: " أناديكم" )


ظُلاَّم: مفردة عاميّة تعني: ظالمون

33
• " فِرَاش "
ونساؤهم ..دُمى للفِراش(من قصيدة: ضرائب)
فِراش: مفردة عاميّة تعني: سرير

هذا , وهنالك الكثير من الأمثلة على استخدام الألفاظ الشعبية.


34
الأساليب الشعبيّة:

• أسلوب القَسَم : " وحقّ السماء "
نلاحظ استعمال أسلوب القسم مع ابتكار مفردات جديدة مثلا:

- "وحقّ شَعْرَك"ِ
وحقّ شَعْرَك .. يا محلولة الشعر ِ
كأنَّهُ الليل منعوفا على الفجر
( من قصيدة: "متى نلتقي" )


- "وحقّ الضوء"

لا وحقّ الضوء
من هذا التراب الحرّ لن نفقد ذرّة !!..


* أسلوب الاستعطاف والاعتراف: " لكن هَبيني مُذنبا "

تنأى, وتفرشُ لي الوعودَ
فديتُها ظبيا مماطل
عندي لها شوقٌ يشبُّ
وعندها شوقٌ مماثل


35
لكن هَبيني مُذنبا
فالصفحُ يُحمدُ في الشمائل
أولستُ مثل بقية العشاق ِ
مجنونا .. وعاقل؟؟..
( من قصيدة: " أم الجدائل")

• أسلوب الدعاء: "إنْشِلْهُ يا ربّ من كلّ ضِيقْ.."
(خائف يا قمر)
• أسلوب الحكاية والصدى: " صاحَ في أعماقه, عوّاد يا عوّاد إنَّ الأفقَ ماطر.."
• أسلوب الحَكَايا الشعبية: " فلتشربوا البحرا "
إنّا هنا باقون
فلتشربوا البحرا...
نحرسُ ظلّ التين ِ والزيتون
(من قصيدة: " هنا باقون")



36


3. استخدام الصورة والقصة الشعبية



• خذ مثلا تلك الصورة المأخوذة من تغريبة بني هلال:

تحكي عن عبس عن عنتر
عن عبلة عن سالفها الأسمر
عن جسَّاسْ
وأبو زيد ودياب
وعن التغريبة والأحباب الغياب
وعن البطلين كأنّهما جبلين
وعن السيف المصقول أبي الحدّين
وعن العشاق عن الحبّ الأخضر


• وكذلك صورة المنديل المخرّق وهي صورة ريفية.
• وصف الفتاة بأنّها " نعنعة البلدة " .


وقصيدة: " سرحان والماسورة " نسجها على نغم الحكايات الشعبية الشعرية, وفيها يخلع زياد على سرحان العلي بطل الحكاية , بردة البطولة, بعد أن تخلى عن دور المتقاعس الذي لا يبالي بغير شؤون
37
حياته الخاصة فأصبح من أبطال الثورة الشعبية.وأبرز في بطله عنصر الرجل الخام من خلال الواقعيّة الشعبيّة التي جسدها على لسانه وألسنة مخاطبيه.في الحلقة الرابعة والأخيرة من القصة الشعرية, حيث ترثي البطل أمّه, تُحيل الأم هذا الموقف على عرس شعبي , حيث يُفرغ زيّاد على لسان الأم صناديق من بضاعة التراث الشعبي.




38
5.استخدام أسلوب الأغاني الشعبية


في قصيدة : " أنا وشُباكي " يكرر:
ماذا تقول الريح يا شباكيّ المفتوح
وهذا التكرار يُشبه تكرار اللازمة في الأغنية.

وفي قصيدة: " خائف يا قمر" يكرر الشاعر الممقطع:

أنا خائف يا قمر
من الليل..منك ..ومن ضوئك المنكسر..

تكرارا مُوَفقا, فيصبح ضوء القمر الذي طالما جلب مشاعر الهدوء والطمأنينة الى النفوس مثارا للخوف والقلق. فيحمل هذا المقطع روح الماساة , ويُضفي على القصيدة جوا من التوقّع الرهيب, لا يلبث أن يتحقق بعودة أخيه الكبير مضرجا بدمائه, ويلقيه الجنود في وجه امه ملفوفا في شرشف ابيض تلونه بقع من دمائه:
خذوه..قتلناه ..عند الحدود
بدون بكاء ..بدون بكاء
ويوفر الشاعر الكثير من الروح الدرامية وعناصرها المؤثرة في هذه القصيدة كما في قصيدة: " سرحان والماسورة".


39
نلاحظ توظيف اسلوب التكرار المشابه لتكرار اللازمة في الأغنية
في اكثر من قصيدة لزياد, منها: "ماياكوفسكي" , "أهون ألف مرّة" , وهنالك تكرار لبعض العبارات كما في: "فلتسمع الدنيا" وغيرها مما يفيد التأكيد , ويبني الموسيقى الداخلية للقصيدة.


القصيدتان : " أغنية زفاف " و " تهليلة " , هما في الأساس أغنيتان شعبيتان. الأولى أشهر من أن تُعرف, يقتبس من أغنية الزفاف الشعبيّة مطلعها وبعض الأبيات مثلا:

بالهنا كل الهنا يا هنيَّة
زوِّجوا الفارس أحلى صبيّة

أو:
حالف سيفي انا لا أعيره


ويتلاعب ببقية الأبيات حسب مزاجه الشعري, فمثلا:
(شيّعوا لولاد عموا يجولوا) أصبحت:

شيعوا يأتي شباب القبيلة
فوق خيل ضامرات أصيلة

40
أما القصيدة الثانية فهي إحدى تهاليل المرأة الفلسطينية لأطفالها:

يا حادي العيس لو يوما تلاقيهم
خبرهمو انني ما زلت أبكيهم
وقل لهم ان عين العشق ما نامت
راحت ليالي الهنا .. يا ليتها دامت
( مقطع من قصيدة:" تهليلة" )

وهذه قصيدة من أغنية شعبيّة:

إنزلي يا مطرة
إنزلي ع الشجرة
يبس الزرع ومات الضرع
والأعين جفّت
فانزلي يا مطرة
واطلعي يا قمرة
اطلعي ع الشجرة
من جناحيّ قُبّرة





41
من خصائص قصائد زياد:


1.النهايات المشرقة
2.الموروث الديني
3.توظيف المكان
4.توظيف الزمان



42

1. النهايات المُشْرقة


لعل توفيق زياد هو اكثر شعراء الأرض المحتلة صلابة من حيث النهاية المشرقة لقصيدته *, فقليلا ما نجده يشكو , باستثناء قصيدته " ضرائب" المليئة بالاضطهاد ومع هذا فنهايتها مشرقة وان كانت مصطنعة:

( ويمتلئ الأفق بالأغنيات..وترتاح أفئدة الأمهات....)

ولو قرأت جميع قصائد زياد لوجدتها تنتهي بنهاية سعيدة . لعلها من خصائصه التي أخذها عن مدرسة الواقعية الاشتراكية.
هذه بعض نهايات قصائده:

- يدنا ثابتة ..ثابتة
ويد الظالم,
مهما ثبتت
مرتجفةْ !!
( مقطع من قصيدة: "مليون شمس في دمي" )



_________________
*توفيق زياد" شاعر الشعب والقضيّة", عز الدين المناصرة,ديوان توفيق زياد, دار العودة, بيروت.

43

- وطني ..!! – مهما نسوا –
مرَّ عليه
ألف فاتحْ
ثم ذابوا ..
مثلما
الثلج
يذوبْ ..!!
( من قصيدة : " ثلج على المناطق المحتلة" )



- إلعبوا بالنار ما شئتمْ
فلا ..
حق..
يموتْ ..!!
( من قصيدة: " شئ عابر" )



بعض النهايات الأخرى:

- سواعدكم تحقق أجمل الأحلام تصنع أعجب العجبِ.
- سيعود .. رغم النار والأغلال خفّاق البنود

44
- إنّا باقون على العهد
- لن تقذف السلاحْ .. لكنّها تبدّل الخنادق!!!
- في قلبي الأخضر بالآمال
- تحيا تركيا ناظم ...تسقط تركيا عدنان
- وبما سفكتم من دم الشعب البرئ ستؤخذون
- وتبيد المستعمرين وتبني .. فوق أجداثهم طريقا للغد
- احفظوه واحفظوا خضرته
- إنّها للخلف كانت خطوة ... من أجل عشر للأمام



45

2. الموروث الديني


توظيف الموروث الديني يُثري الصورة الشعرية ويدفع المتلقي أن يتمهل ليتأمل.
تتكرر صورة الصلب بشكل ملحوظ في قصائد زياد :

وهو يتنقل من الصَلْب الجماعي:

على الصلبان منسية
بلادي زهرة الدنيا, وعود الندّ
عروس في زمان السلم مسبية
( من قصيدة: " مساكين " )

أو:

علّقونا أمّة كاملة فوق الصليب
علّقونا فوقه
حتّى ..
نتوب
( من قصيدة: " أمّة فوق الصليب ")


46

إلى الصَلْب الذاتي:

أنا باقٍ,
ولن تقوى عليّ
جميعُ صلباني
( من قصيدة: " بأسناني" )



أو الفَرْدي:

لعله ذات يوم يهتف النهرُ:
تنفَّس ..أهلُكَ الغُيَّابُ
يا مصلوبُ, قد عبروا !!..
( من قصيدة: " المصلوب" - رجوعيات )





إلى صلب التجربة الكتابية:

يا من سفكتم لي دمي
وأخذتم ضوء عيني, وصلبتم قلمي
واغتصبتم حقّ شعب آمن لم يُجرمِ
( من قصيدة: " كلمات عن العدوان " )

47
يستدعي زيّاد صورة السيد المسيح المصلوب أحيانا للتشديد على العذاب, والتأكيد أن الخلاص آتٍ , وأحيانا أخرى للاشارة إلى رفض ذُلّ الصَلبْ من خلال المقاومة .



أمّا في قصيدة: " جسر العودة " ,
فكأن الشاعر يصلب ذاته فوق جسر العودة, محتملا كل أنواع العذاب, مستدعيا بذلك صورة مُرَكبّة للسيد المسيح :

أحبائي ..برمش العين
أفرش درب عودتكم
برمش العين
وأحضن جرحكم
وألمّ شوك الدرب
بالكفين
ومن لحمي

ليمهد عودة الأهل من الشتات .




48
في قصيدة: " الكلمات " فهنالك عبارة:
( غير الخبز اليومي
أنا لا أملك شيّا)

وفي قصيدة: " الذي أملك " يوّظف ذات العبارة في سياق آخر:
( أنا لا أملك حتّى خبز يومي
وأنا بالكاد أشبعْ )



تعتبر عبارة " الخبز اليومي" تناص مع الصلاة الربانيّة التي علّمها السيد المسيح لتلاميذه: (خبزنا كفافنا أعطنا اليوم).
في الصلاة الربانية تفيد العبارة الاكتفاء بالحاجيات الأساسية والرضى, أما في قصيدة زيّاد فهي تشير إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها الشاعر, إلا وهي طبقة الكادحين , الذين لا يملكون أحيانا أكثر من خبز يومهم, وكثيرا ما لا يمتلكونه. لكن , في القصيدة كما في الصلاة
الربانية , هنالك شعور بالرضى والاكتفاء , فلا نلمس أي شعور بالتذمر أو الحقد الطبقي عندما يصرّح في أيّ من قصائده عن امتلاك القليل.

في قصيدة " هنا باقون " وردتْ العبارة:
(إنّا هنا باقون ... نزرع الأفكارَ, كالخمير في العجين).

49
لهذه العبارة اسقاط على الموروث الديني في العبارة التالية: ( " يُشبه ملكوت السماوات خميرةَ أخذتها امرأة ٌ وخبأتها في ثلاثةِ أكيال دقيق حتّى اختمرَ الجميع " – متّى : 13:33) , مع توظيف العبارة بذات المضمون الذي يدلّ على التغيير الايجابي / النهوض بعد فترة زمنيّة .

وفي قصيدة: " أهون ألف مرّة " :


أهون ألف مرّة
أن تُدخلوا الفيل بثقب إبرة
.... من أن تُميتوا باضطهادكم وميض فكرة
وتحرفونا عن طريقنا الذي اخترناه
قيد شعرة


هنالك إسقاط على العبارة:

(" إنّ مرورَ جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنيّ إلى ملكوت
الله " متّى19:24)

من الموروث الدينيّ مع توظيف العبارة في مضمون مختلف.


50
لكن, يمكن الافتراض أن زيّاد وظفّ هذه العبارات من الاستخدام اليومي لها من قِبَل عامة الشعب , لأنّها عبارات مألوفة , أما توظيف صورة الصلب فلأنها تتكرر كموتيف في أغلب قصائده, فانها تكتسب
أهمية خاصة, ويمكن نسبها إلى الطابع الديني لمدينة الناصرة حيث نشأ زيّاد , إذ تعتبر الناصرة , مدينة السيد يسوع المسيح الناصريّ, الذي تحمّل آلالام الصلب ليأتي بالخلاص للإنسان , ولعل كون الذين صلبوا السيد المسيح وصلبوا الشعب الفلسطيني هم ذاتهم, دفع زيّاد لتوظيف هذا الرمز بشكل ملحوظ.

51

3.توظيف المكان


شكَّلتْ الثقافة الفلسطينية في الداخل وسيلة هامة لحماية الهوية الوطنية من عوامل التشويه أو الاندثار. فالهوية الوطنية لفلسطيني الداخل هي المنقذ من الاغتراب في بلاد هم أصحابها.*
شكلت المدن الفلسطينية قبل النكبة مركز القيادة السياسية الفكرية والثقافية . جرفت مأساة النكبة سنة 1948أجيالا من المثقفين والشعراء خارج الوطن الأم .
هذا الواقع أحدثَ خلخلة كبيرة في جوهر المجتمع الفلسطيني الباقي حيث بقي ريفيا في غالبيته الساحقة وأُخضِعَ لحصار سياسي اجتماعي وثقافي, فبدأت المعاناة من مرحلة شتات داخلي استمرت بضعة أعوام. يقول الشاعر توفيق زياد في ذلك*:

وسرب النسور هذا
الذي حملته العاصفة,
خلّفَ وراءه فراخا طريي العود,
بالكاد يستطيع الواحد منها أن يُمسك حفنة ريح تحت جناحيه


_________________
*" الآداب " اللبنانيّة , الملف الخاص بالأدب العربي في اسرائيل, أنطوان شلحت.

52
هكذا كانت الحاجة ماسة للتأكيد على الهوية الوطنية ووقايتها من خلال الشعر الثوري. فكانت وظيفة الشعراء الوطنيين مرتبطة ارتباطا كليا بنشاط العمل الوطني الذي يمكن اعتباره بداية تململ الشخصية الفلسطينية ويقظتها من مرحلة الشتات الداخلي التي فُرضت عليها. ويأتي الشاعر توفيق زياد على رأس هؤلاء الذين يمثلون جيل الرواد هناك , وهو الأكثر نشاطا , والأسبق الى نظم الشعر في تلك الفترة .*
نظم زياد قصيدتي: " عبدان" و " مصر" سنة 1951 , وفيهما نلمس محاولته في تفتح الذات العربية تحت نير الاحتلال على الآفاق القومية والأممية لتشهد نماذج من تمرد الشعوب الشرقية المستغلة على ظالميها من الحكام والمستعمرين الأجانب وبعض الحكام والأنظمة العربية صنيعة الاستعمار.*
في القصيدة الأولى نضال شعب ايران ضد حكم الشاه, حين أممّ شعب ايران نفطه:

أيظل خير الشعب ملك عدوه
وقف عليه الزيت والآبار..؟؟
لا!! هكذا هتفت حناجر أمّة
فأجابها التاريخ: لا ..لا..عار.

_______________
* سيمون نصار" مجلة الدراسات الفلسطينية ",49, شتاء 2002

53
ليكن لهذا الشعب خير بلاده
وليسحق الشاه والاستعمار
فتقحّمي لجج الصراع بساعد
العزم ينفث فيه والاصرار
وتقحّمي فالحق يؤخذ عنوةً
والنصر يعصر خمرة الثوّار
( مقطع من قصيدة: " عبدان")



وفي الثانية سجلّ للشعب العربي في مصر حركته الوطنية قبيل ثورته في تموز / يوليو 1952 , وكأنّه يحس الثورة دبيبا تهزّ الأرض تحت وقع خطاها:


نهبوا خيراتك ما رحموا
وبعصر دمائك كم نعموا
جيب المستعمر متخمة
وبجسمه يلتف الدسم
والباشا اقصره امتلأت
والبيك يحف به الحشم


54
والتاج تزينه دررٌ
من كدح زنودك تنتظم
واليوم .. لتقطع أيديهم !!
وليسحق .. هامتهم ..قدم!!
( مقطع من قصيدة: " مصر 1951")


يمكننا أيضا , في هذه المرحلة المبكرة, أن نتلمس في شعر زياد بعض نوبات الشعر المقاوم من خلال روح المعارضة والاحتجاج التي تمثلها قصيدته " ضرائب " وفيها يجسّد بروح تهكميّة لاذعة ظلم الاحتلال وتعسفه في صوت فني أقرب الى الخفوت والهمس مبررا المفارقة الظالمة ومجسدا أبعادها من خلال صورة أطفال اليهود الأغنياء , وصورة أطفال العرب الفقراء , ومن خلال المقابلة بين صور نساء أولئك المترفين, وصور نساء هؤلاء الفقراء المعوزين في صور مملوءة بالتفكير والتعبيرات الشعبية التي تثيرها بدلالات خصبة مُوحية:


ضرائب من كلّ لونٍ وجنسِ
تلصُّ من الجيبِ آخر فلس
وتترك أطفالنا جائعين
يهيمون بين المزابل.. يلتقطون


55
نفايات ما يأكل المترفون
وأطفالهم: كالعرائس شُمْس
....ينمون داخل أقفاصهم كالدجاج
ولكن أقفاصهم من دجاج
وتبرٍ , وعاج
ونسوتنا البائسات عرايا
يلاقين من عيشهن البلايا
عجائز جسما.. وسنّا صبايا
وأخبارهن "حكايا بكايا"
ونِسْوتُهم كاسياتُ الدِّمقْس
دُمىً للفِراش,
ولين المعاش
( من قصيدة: " ضرائب" )

في منتصف الخمسينات تنضم أصوات الشعراء الرواد لتجسد صوت شخصية شعبهم الجماعية المستيقظة, أرادت به حماية ذاتها والدفاع عن وجودها وعن هويتها القومية.يأتي صوت زياد عاليا ومدوّيا في مجموعة قصائد منها ما هو قومي يعرض فيه بعض جوانب الاستعمار الغربي للمنطقة, ومنها ما هو وطني خاص في سبيل الحفاظ على الهويّة الفلسطينية,
وابراز ملامحها أمام سياسة الصهيونية العنصرية التي بقيت تنحت في لحم البقية الباقية من الفلسطينين في أرض أجدادهم محكومة بشعار: " المزيد من

56
الأراضي والأقل من العرب", فتمثلت باغتيال سلطات الاحتلال للكثير من الشبان العرب, وظاهرة نسف القرى العربية ومصادرة الأراضي الخاصة بالعرب , ممّا زاد من يقظة الشخصية الفلسطينية وعمّق وعيها على
الوطن. * وقد أكدت حركة الأرض على الهوية العربية الفلسطينية لعرب 48.

في قصيدة: "كفر قاسم" , فضح زيّاد المذبحة التي رافقت العدوان الثلاثي على السويس سنة 1956, فابرز صراخ المفجوع الذي لا يريد أن يُصدّق وقوع هذه المجزرة الفاجعة, وحشد كل عناصر المأساة ورسم في المقطع الثاني منها زمان المجزرة ومكانها وبعض مظاهر إعداد الجنود المسرح"كأن بهم لوثة من جنون".*
ثمّ استقدم الى نصّه الضحايا الى الفخ المنصوب الذي يترصدهم حتى الموت, وحاول أن يتحدث عن المأساة, فعرض صور العمال العائدين بعد كدح النهار مُثقلين بالكثير من الهموم الشخصية, ويحملون في صفو البسطاء وطيبتهم القليل من الطعام للصغار, ويشغلهم بعض التفكير في أماني المستقبل الباسم.
وقبل أن يفيقوا من هول مفاجأة رشقات الرصاص التي أحالت " الضياء, بأعينهم ,ظلمة, وفناء ..., ليحصد أجسامهم كالسنابل" كان الموت قد مدّ ذراعه ليقصف خمسين روحا منهم.*
_______________
* سيمون نصار" مجلة الدراسات الفلسطينية ",49, شتاء 2002
57

يبدو أنّ اشتعال المشاعر والتهابها لم يُتيحا للشاعر أن يُخمّر التجربة الفنيّة في وجدانه, على الرغم من اخلاصه الذاتي للموقف والتعبير عنه, فتبين كأنّه مهموم أكثر ما يكون باعلان الجريمة وبالدعوة الى التكاثف والتوحد وتعميق الاحساس بالمسؤولية االجماعية لدى الشعراء والناس.*
بقيت المعركة من أجل فلسطين والبقاء على أرضها أبرز معارك الشعراء, إذ أنّهم تحملوا مع شعبهم أصناف الإضطهاد , الحصار والعذاب اليومي تحت ظل الحكم العسكري. يُقدّم زيّاد نماذج شعريّة يبدو فيها الداعية القوي والمُنظِّر الحكيم لصمود الشعب وإصراره ومقاومته. *
ويتم بناء "الذاكرة الوطنية" من خلال تعيين الأمكنة من قُرى / مدن/ وديان/ مساجد/ أديرة وغيرها:*


كأنّنا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
هنا ..على صدوركم, باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج, كالصبّار
وفي عيونكم, زوبعة من نار

_______________
* سيمون نصار" مجلة الدراسات الفلسطينية ",49, شتاء 2002
**" الآداب " اللبنانيّة , الملف الخاص بالأدب العربي في اسرائيل, أنطوان شلحت.
58
لا يمكن لأحد أن يشك بمصداقية القصيدة, لأنّ فعل البقاء قائم وحاضر. في الداخل عرب ما يزالون أحياء, يتمسكون بالتراب ويقاومون الغزاة المحتلين, يتحدونهم ويصرون على أنّهم فلسطينيون.*
يتضاعف موقف التحدي والاصرار على البقاء الى التظاهرات والى احتمال السجن . فبقاء الشاعر إنما هو وجود فاعل لشعب يخطط للبقاء والحياة في وطنه بوعي كامل وإصرار لا يلين لأنّه يعرف انّ الأرض أرضه ليس له على سواها أي ماض أو مستقبل**.

إنّا هنا باقون
فلتشربوا البحرا
نحرس ظلّ التين والزيتون
ونزرع الأفكارَ, كالخمير في العجين
هنا.. لنا ماض, وحاضر..ومستقبل..
يا جذرنا الحيّ تشبث
واضربي في القاع يا أصول




_______________________
*" الآداب " اللبنانيّة , الملف الخاص بالأدب العربي في اسرائيل, أنطوان شلحت.
** سيمون نصار" مجلة الدراسات الفلسطينية ",49, شتاء 2002


59
هذا المقطع هو اصرار وتأكيد من الشاعر على وجود شعبه الفاعل في أرضه وتحت حكم الغاصب مثلما في قصيدتين أخريين: " أهون ألف مرّة"
و " نيران المجوس" .*
لعل أصدق أحاسيسه البروليتارية وثورته ضد النازية الصهيونية هي قصيدته "هنا باقون" المليئة:

بالكدح :
هنا على صدركم باقون كالجدار
ننظف الصحون في الحانات
ونملأ الكؤوس للسادات
ونمسح البلاط في المطابخ السوداء

والرفض:
نجوع نعرى نتحدى ننشد الأشعار
ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات

والتشبث:
إنّا هنا باقون
فلتشربوا البحرا

_______________
* سيمون نصار" مجلة الدراسات الفلسطينية ",49, شتاء 2002
60
والالتحام:
يا جذرنا الحيّ تشبث
واضربي في القاع يا أصولْ


في قصيدة: " أهون ألف مرّة " يجسّد استحالة قُدرة الحكام على أن يحرفوا شعبه عن طريقه النضالية, أو أن يُميتوا فيه وميض فكرة, ويجعل
ذلك سابع مستحيلات أسطورية يُصنفها من خلال الحكايات الشعبية, ويستعير لها جبروت الروح الشعبيّة وقوّة احتمالها:

أهونْ ألف مرّة!
أن تُطفئوا الشمسَ, وأن..
تحبسوا الرياحْ
أنْ تشربوا البحر, وأن ..
تُنطقوا التمساح
أهونْ ألف مرّة..
من أن تُميتوا, باضطهادكم,
وميض فكره
وتحرفونا, عن طريقنا الذي اخترناه
قيد شعره!!
( مقطع من قصيدة: " أهون ألف مرّة " )

61
وهو لذلك يعمل في هدوء وعلى مهل يضع برودة الجليد في أعصابه, وإن كان قلبه متقدا. إنّه يريد أن يظلّ عمله مضيئا ومشعا لا أن يُفرقع فجأة كالكبريت وينتهي:


على مهلي
لأني لست كالكبريتْ
أضيء لمرّةٍ ..وأموت
ولكني..
كنيران المجوس: أضيء..
من
مهدي
إلى
لحدي!
ومن...
سلفي
إلى..
نسلي!
طويل كالمدى نَفَي
وأتقن حرفة النمل
على مهلي!
62

لأنّه يؤمن بحتمية الناريخ, أن الخلاص لا بدّ آت , لكنه كما الخمير في العجين, يحتاج وقتا:


لأنّ وظيفة التاريخ..
أن يمشي كما نُملي!!
( مقطع من قصيدة: " نيران المجوس " )


يتصاعد الوعي الجماعي بالهوية الأصلية للشخصية الفلسطينية, ويُضحي لزاما على الشعراء داخل اسوار الاحتلال أن يمدوا انظارهم نحو خارج هذه الأسوار بحثا عن النصف الثاني للبرتقالة الفلسطينيّة التي شقّها سكين الاحتلال. لعلّ زياد اجتاز خطوة أبعد من على جسر العودة لملاقاة النصف الثاني من الأهل واستكمال ملامح الهوية الناقصة, ففي " جسر العودة – رجوعيات " يبني جسر عودته للأحبة ويصلب نفسه على الطرف الآخر وينتظر عبور أهله الغياب ليلتئم نصف البرتقالة, فيعود نبض الحياة من جديد.
وهكذا نرى أنّ ادراك أهمية المكان يعادل التأكيد على الوجود , أما الوعي التاريخي(البحث , الذاكرة) فيزوّد المجتمعات الحديثة بالدلالة الوجودية الكيانية فيسهم في بلورة الهوية القومية- أو تفكيكها وتغييرها.*

_________________
*" الآداب " اللبنانيّة , الملف الخاص بالأدب العربي في اسرائيل, أنطوان شلحت.
63

4.توظيف الزمان


قال زيّاد: " شعرنا الثوري هو امتداد لشعر السلف الثوري لأنّ معركتنا امتداد لمعركتهم: ذات الخندق( المحبة للأرض والشعب), ذات العدو( الاستعمار) ذات الهدف( التحرر الوطني والاجتماعي) , ذات السلاح:
( الكلمة الجريئة), مع اختلاف الظرف التاريخي*.

يشكل الماضي بالنسبة للفلسطيني مركز لرفض الحاضر ومتكأ للكشف عن مفهوم المستقبل, على صعيد الرؤيا, الحلم. يرفض الفلسطيني التماشي مع الحاضر فهو ليس بحاضر مرغوب بمقدار ما هو ( حاضرٌ حتّى اشعار آخر)- مقطوع عن الماضي , متجه نحو المستقبل.*
في حالة حداثة الأدب الفلسطيني نلاحظ عنصر بناء الذاكرة الوطنية وعنصر بناء المكان عبر السيرة الذاتية أو تصعيدها لمستوى الأثر الأدبي عادة. بهذين العنصريين يبني المبدع الفلسطيني ذاكرة وطنية حكائية تجمع شتات الشعب الفلسطيني في أرجاء المعمورة كافة, فيعطي ذاته حقّ تأطير هويته من خلال أحلام الفلسطيني وهواجسه ومفهومه لمستقبله.*




_________
*" الآداب " اللبنانيّة , الملف الخاص بالأدب العربي في اسرائيل, أنطوان شلحت.

64

خاتمة

يأتي زيّاد على رأس شعراء المقاومة في فلسطين الذين طبقت شهرتهم آفاق الإنسانيّة بما جسدوه من الإلتزام الواعي بقيمة الكلمة وفنيتها في معركة النضال في وطنهم, وبادراك مسؤوليتها من دون أي استخفاف أو استهانة تشوب قدسيّة دورها أو تهزّ أثر فعلها في تشجيع الأمل والحثّ على المقاومة والتشوّق إلى تحقيق الآمال الوطنية.
بهذا الإلتزام القائم على الوعي العميق والمسؤول تجاه القضية الفلسطينيّة , تكونت لدى زيّاد ولأعوام كثيرة رؤية ثورية صافية وثابتة لأبعاد رسالته , وهو الذي قال في قصيدة " الذي أملك ":



أنا انسان بسيط
لم أضع يوما على كتفيّ مدفع
...أنا لا أملك إلا
...ريشة ترسم أحلامي,
وقنينة حبر
أنا لا أملك حتّى خبز يومي
وأنا بالكاد أشبعْ



65
إنما أملك إيماني الذي
لا يتزعزع
وهوى..
يكتسح الكونَ
لشعبٍ
يتوجَّعْ


____________________




66
مصادر الدراسة:

*" الآداب " اللبنانيّة , الملف الخاص بالأدب العربي في اسرائيل,
أنطوان شلحت.

*توفيق زياد" شاعر الشعب والقضيّة", عز الدين المناصرة,ديوان
توفيق زياد, دار العودة, بيروت.

*جريدة الأسبوع الأدبي, عدد885, دمشق.

* ديوان توفيق زيّاد, دار العودة, بيروت.

*سيمون نصار" مجلة الدراسات الفلسطينية", 49, شتاء 2002






  رد مع اقتباس
/