۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-04-2018, 10:56 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
افتراضي رد: روايتي الساخرة ( فردة حذائي الضائعة)

النزوح إلى الرَّقة

تشرين الثاني /نوفمبر 2012 الساعة الخامسة فجرا

-علينا أن نغادر المساكن قبل بدء الغارة الصباحية ، يعني قبل الساعة السادسة فجرا. قال زوجي .
-أسمعُ صوت الطائرات من البعيد . أسمع صوتا ، قد تبتدئ الغارة مع خروجنا ،فنكون صيداً سهلاً . (قلت)
-لا . ليس ثمة صوت بعد. أنت عندما تسمعين من بعيد صوت غسالة الملابس وهي تدور ، تقولين هذا صوت الطائرات . هيا أسرعي
-لعلك محق (قلت لنفسي ) وتابعت:- هل أغلقتَ جرةَ الغاز جيدا ؟ هل وضعتَ الحقائبَ في السيارة ؟
-أغلقتُ النوافذَ وأبوابَ الشرفاتِ وجرةَ الغاز. أغلقتُ كلَّ شيء. ووضعتُ كلَّ شيء في السيارة أيضا ، فقط البسي وانزلي بسرعة فالأولاد وحدهم تحت, و،سأنزل بهاتين الحقيبتين، ثم سأصعد لأفصل التيار الكهربائي. وأضعُ الأقفال الثقيلة على الباب الخارجي للشقة . الحمد لله أننا ركَّبْنا هذا الباب المعدني الثقيل قبل أسبوع ، فهو على الأقل يساعد في حماية الشقة من السرقة. وإن كان لا يساعد في حمايتها من القصف. قال زوجي تلك الجملة ونزل على الدرج.
-والآن بقينا وحدَنا , وحانت لحظاتُ الوداع . صعبٌ عليَّ أن أنظر في عيون الأشياء وأن أرى عَتَبَها وخيبتها ثم أقول وداعاً، وصعبٌ عليَّ أن أسمع أصواتَ نشيجها واستجدائها الخفيةَ .والأسهل من كل ذلك عليَّ ألاَّ أودعها، وألاَّ أسمح لها بالتحرُّش بي.
سقط شيءٌ ما في المطبخ .. مددتُ برأسي من باب غرفة النوم وأنا أرتدي معطفي ، فلم أرَ شيئا. مشيتُ ،قطعتُ الممرَّ إلى المطبخ. ما الذي سقط ؟ لعبةُ الرَّشاش (سلاح) ابني الصغير الذي وضعَه على حافَّة الطاولة، بعد أن رفض أبوه السماحَ له بحمله ،لأنه قد يستفزُّ جيشَ النظام على الحواجز،وإن كان مجرد لعبة . فالمرء لا يكاد يتنبَّأ بما قد يستفزهم . سقط الرشاش على مجموعة الأواني التي رفض زوجي أيضاً مرافقتَها لنا ، فتكوَّمتْ على بعضها تندُبُ حظَّها وتُقَرْقِعُ . وهو يقول:
-لن نحتاج شيئا من كلِّ هذا . أسبوعٌ واحدٌ أو شهرٌ واحدٌ ثم نعود . لم يبقَ مكانٌ في السيارة . إلا لجلوسنا، وبصعوبة .
عدتُ ووقفتُ أمام المرآة ، لأضعَ حجابي. أين وضعتُ الدبابيس ؟ أين وضعتُها؟ (رفعتُ صوتي وأنا أتعمَّد تعنيفَ الأشياء ):
-من أخفى الدبابيسَ فليُخرِجْها بسرعة. هيَّا ، فإخفاؤها لن يفيدَ شيئاً سوى في تأخيرنا حتى تبدأَ الغارة.
صندوقَ الحُليِّ المزيفةِ ! أيها الخشبيُّ المتسرِّعُ دائماً !هل أخفيتَها أنت ؟ تعال لأفتِّشَك ! لَم تموءُ هكذا كالقطط ؟ ولمَ تُدَلِّي ليَ السلاسلَ والأقراطَ اللامعةَ على جدرانك ؟ أساليبُك المائعةُ في التحايل والإغراء لن تَنْطَلي عليَّ. فتاريخ رفاهية الحُليِّ لم يتَّفق يوماً مع معاناة النزوح . ومتى كانت النازحات يحرِصْن على لبس الحليّ؟ أُغرُبْ عن وجهي. واعتبر نفسك مفصولاً عن العمل حتى إشعارٍ آخر.
-زجاجاتِ العطرِ الفارغةَ! تراجعي إلى الخلف كي أنظر ماذا تخفين ، أما أنتِ أيتها الزجاجةُ المغرورةُ نصفُ الممتلئةِ فأوقفي تقدُّمَك الاستعراضي قبل أن تَصِلي نحو الحافَّة فتسقطي وتنكسرَ رقبتُك !
-أيها السريرُ ، أيها السريرُ ، أسمعُك .فكفَّ عن التَّذَمُّر من فوضى الملابس التي سأتركُها فوقك. الآن أصبحتَ تعشقُ الترتيب ؟ لطالما تركتُك شَعِثاً وخرجتُ إلى دوامي في المدرسة فلم تعترض! لا تجهَشْ بالبكاء! هل أصبح خاطرُك من الحرير ؟ ....
-حسنٌ حسنٌ ، أعي وعيَك أيتها الوسادةُ ، ( وشعرتُ فجأةً بالشفقة على الأشياءِ المسكينةِ المستكينةِ المسالمةِ المستسلمةِ لِتَبَجُّحي ،فندمتُ ،حتى كدتُ أبكي، وهو ما كنتُ أخشاه ، لكنني تمكَّنتُ من ربط جَأْشي، وتابعتُ) ولكن ،ولكن أيتها الوسادةُ الحبيبة ، يمكنُك أن تعتبري هذا الوضع َكلَّه مؤازرةً لنا منكِ ومن السيِّد المحترَم السرير، وهو كذلك مشاركةٌ منكما في الثورة. فكّري بهذا .
-وأنت كذلك أيتها السيدةُ الفاضلة خزانة (خانم ) ، لم تقفين هكذا وأبوابُك المفتوحةُ على وَشَك الارتجاف؟ هل تستعجلين الشعور بالوحشة ؟ دعيني أخرج أولا ثم افعلي أو اشعري بما شئت. ويمكنك على سبيل المثال، أن تتسَلَّي في غيابي بمحاولة إغلاق أبوابِك بنفسك، وأرجو لك النجاح.
-(ألبوماتِ) الصورِ ابقَيْ مكانَك ! ولا تقفزي لحضني ، أنت ترين كم أنا صارمة وقاسية مع الأشياء،فاتَّعِظي من تجارب غيرك، ووفِّري على نفسك التوبيخَ .وأرجوك أن تكفّي لحظةً عن التوسُّل ؟ لأنني لن أفتحَك مهما فعلتِ .لقد انصدع رأسي من كلِّ هذه الدوامة.
أشياءَ غرفةِ النومِ كفِّي عن الدوران ، ألعابَ الأولادِ في كلِّ مكانٍ كفِّي عن التراكض والتبعثر فإنني أصطدم بك حيثما تحركت قدماي. أشياءَ غرفةِ الضيوفِ الثائرةَ ، أيتها المقاعدُ والأرائكُ والمناضدُ والسجَّادُ والستائرُ ، والأواني، كفى !
أستودع الله المكان والزمان وما لم يكن في الحُسبان .
وأخيراً وأخيراً ، أيُّها البابُ! قف مكانَك هادئاً ولا تعترض خروجي. وإن كنتَ رجلاً حقاً فلا تسمح لدخيلٍ أو لصٍ بتجاوز حدودك في غيابنا.
الساعة الخامسة والنصف ، سننطلق. لقد سبقنا الطائراتِ وسبقنا الصواريخَ في هروبنا. فيا ربِّ استرها معنا واعمِ عنَّا أبصارَ القنَّاصين على طريق المطار، يا ربِّ اضربْ على أبصارهم وأسماعهم ونوِّمْهم نومةَ أهل الكهف، فلا يستيقظون إلا بعد فوات الأوان .والأفضل يا ربِّ ألا يستيقظوا بعدَنا أبدا .
مررنا بالسيارة في شوارع المساكن الفارغة فما لمحنا أحدا. مررنا أمام باب مدرسة ( الشهيدة سناء محيدلي) التي أصبحت ثُكْنَةً للجيش الحرّ ، ورأينا أكياسَ الرمل على سطحها وعَلَمَ الثورة يرفرفُ فوقها وكأنَّه يعلنُ بَدْءَ عهدٍ جديد ، غير أن العَلَم كان حائرا في اتجاه رفرفته ، أعلامُ آخرِ زمنْ ! أَعَلَمٌ ولا يجيدُ الرفرفة ؟! وما به يرفرف وكأنه قد مسّه شيطانٌ منافق مذَبذَب لا هو معارضٌ ولا هو مؤيِّد؟!
التفتُّ إلى الجانب المقابل إلى اليسار، حيث يمتدَّ سياجُ الحديقة المتطاولة على طول الشارع ، لأستطلع أمر الجهة التي تأتي منها الرياح، فرأيتُ أغصانَ الأشجار فوق السياج تتمايل بعنفٍ باتجاه الشرق. فاستنتجتُ أن ريحاً قادمةً من الغرب تضرب البلاد ؟ فازداد استغرابي من العلَم الذي لم يضبط رفرفتَه مع الريح الغربية.
وصلنا لعند محَل ( الكومجي ) فوقفْنا لدقائق لينفخ زوجي العجلات أكثر مما هي منفوخة، وحانت مني التفاتةٌ إلى الخلف واليمين، فرأيتُ جانباً من الحديقة المعْترِضَة التي تمتدُّ على عرض الساحة ، وهالني أن الأشجار تتحرك وتميل بأغصانها ميلاً حاداً نحو الغرب. ومع استنتاجي أن ريحاً أخرى قد هبَّت هذه المرة من الشرق لتعصف أيضاً بالبلاد ، عَذَرت علَم الثورة المرفرفَ في فقدانه قرار اتجاه الرفرفة .
نظرت إلى الرصيف العريض الذي يمتد أمام سياج الحديقة المعترضة فلم أجد سياج الحديقة المعدني . أين يمكن أن يذهب السياج يا ترى ؟ من خطفَه ؟ من سرقَه ؟ من اقتلعَه من أرضه؟ سأقبلُ كلَّ جوابٍ إلا أن يُقالَ لي : "لقد هاجرَ إلى خارج البلاد".
وصلنا إلى مدخل المساكن الذي ينبغي لي الآن أن أسميَه مخرجاً،وما لكلِّ مدخلٍ مخرجُ . فمررنا بقرب الدبابتين اللتين استولى عليهما الجيش الحر غنيمةً من جيش النظام منذ شهر , واللهِ عِشْنا وشُفْنا ،هل هذه هي الدبابات التي اقتُطِع ثمنُها من قوت الشعب، على أمل أن نبني جيشاً موازياً في قوَّته لجيش إسرائيل ؟ هل كانت الخطةُ حقاً أن تُستَخدَمَ هذه الدباباتُ لتحرير الجولان، وهي ذاهبةٌ في طريقها لتحرير القدس ؟ تريَّثوا فالظلمُ حرام ، لعلَّها ضلَّتْ طريقَها يا جماعة ! لعلَّها ضلَّت طريقها فوصلت إلى (مساكن هنانو) بالضلال ؟ كما ضلَّت من قبلها الطائراتُ الحربيةُ والصواريخُ التي كانت موجهةً إلى (تل أبيب).
هذه أوَّل مرة في حياتي أتشرَّف فيها برؤية الدباباتِ وجهاُ لوجه ،جاء الأهالي لاستقبالها في المساكن منذ اليوم الأول لتشريفها لنا ، أما أنا فلم أجئ.لأنني كرهت رؤيتَها بعد أن انتشرتْ قصةُ جارنا الكُرديّ في الحيّ . جارنا الكردي وقف في برج إحدى هاتين الدبابتين يوم دخولهما إلى المساكن ، والتقَط بجهازه المحمول – كما فعل الكثير من الناس - أخطرَ صورة في حياته . التقطَ الصورةَ التي ستودي بحياته وتشرِّدُ أطفاله. ومِن اسوداد حظِّه أنه لم يكن يلبَس يومَها (بيجامته) السوداء التي اعتاد لبسها من قبل ،بل كان يلبس (البيجاما) ذات الألوان العسكرية، ولعلَّه كان مضطراً لارتدائها، إذ فكَّر أن اللون الأسود لا يليق باستقبال وفد الدبابات الزائر ،ولكن "كانت باطلةً ومُحَوّلةً يوم اشترى تلك (البيجاما) ، الله يقصفُ عُمْرَ من اقترح أن تُستَعمَلَ ألوانُ اللباس العسكريّ في لباس المدنيين"، (كما قالت أم ياسر التي تعرفونها ) .
جارنا الكردي عامل البناء الفقير الذي قطعت الثورةُ رزقَه، ثم عنقَه على التوالي ، لم يكن عنصراً في العصابات المسلحة كما اتهمَه عناصرُ جيش النظام، وهم يتفحّصون الصور في جهازه . هو إنسان بريءٌ جداً وبسيطٌ جداً، أراد أن يتفاخر أمام أطفاله وأحبائه ، فصعد إلى برج الدبابة وابتسم ابتسامة عريضة جداً ،وثمَّة من حيّاه من عناصر الجيش الحر الحاضر في مراسم استقبال الدبابتين ، ورمى إليه ببندقيته ليتصوَّرَ معها، احتفاء من الجيش الحر بابتسامته العريضة جداً والتي جاءت في زمنٍ عزَّت فيه الابتساماتُ العريضةُ جداً . ولم يكذِّب جارُنا الكرديُّ لحظتَها الخبرَ ،ورفعَ البندقيةَ إلى الأعلى بإحدى يديه ، بينما أدَّى إشارة النصر بأصابع اليد الأخرى . وأما سبب البريق الذي لمعَ في عينيه لحظةَ التُقِطَتْ له الصورةُ ، فأغلبُ الظنَّ أنه قد تذكر جدَّه الكرديَّ صلاحَ الدين الأيوبيَّ، الذي حرر القدسَ دونما أن يرى الدباباتِ أو يسمعَ بذكرها . فلما تذكر جارُنا الكرديُّ جدَّه صلاحَ الدين الأيوبيَّ الكرديَّ شعرَ بالفخر فلمعَت عيناه بذيَّاك البريق الذي أذهل المحللين في سجون النظام فيما بعد ، واعتبروه دليلاً على شعور جارِنا بالفخر بإنجازاتِ العصاباتِ المسلَّحة التي ينتمي إليها ،كما قالوا.
لماذا نَسِيَ مسحَ تلك الصورة من جهازه قبل ذهابه إلى مناطق النظام في الجهة الغربية من المدينة في ذلك اليوم ؟ تساءلَ الناس بعد ذلك، وهم يلومون براءتَه المنتهكة .
عنده ثلاث بنات. أكبرهن طفلة في العاشرة من عمرها . وزوجتُه حاملٌ بالصبي. وقد نزحت عائلتُه البائسة من المساكن قبل نزوحنا منها بأسبوع، بعد أن جاء خبرٌ مؤكَّدٌ بأن النظام قد رمى بجثته العارية من البيجاما المدنية ذات الألوان العسكرية، وعليها آثار التعذيب حتى الموت، مع غيرها من الجثث، في مجرى نهر (قُوَيْق) الذي ينبع من تركيا، ويخترق مدينة حلب. وهو النهر الذي سمَّاه الثوار ( نهر الشهداء) لكثرة ما طفا على سطح مائه من جثث شهداء سجون النظام المقتولين تحت التعذيب.
انعطفَ زوجي بالسيارة وخرجنا من المساكن . ونحن نسير الآن في طريق المطار باتجاه الشرق. والقنَّاص المحتمل سيراقب الطريق من جهة الغرب بعد أن يستيقظ، ويتناول طعام فطوره، ويشرب قهوته الحلوة في جوِّ رائق، لا يعكِّر صفوَه سوى مرورنا على طريق المطار (مطار النَيْرَب ) وكأنه طريقه هو أو طريق الذي خلَّفوه . رأينا في الأعلى اللافتة التي كتبت عليها إدارة المرور " الطريق مراقب (بالرادار) " .
-(بالرادار) أليس كذلك ؟؟ اللهم اجعله (راداراً) يا حفيظٌ يا رقيب !
كانت أنفاسنا محتبسة خوفاً من مفاجآت الطريق ، وكنا نعيد ونردِّد توصياتِنا لولدينا للمرة الألف ، كيف يجب عليهما أن يتصرفا عندما تستوقفنا الحواجز ، ما الذي يُسمَح لهما بقوله، وما الذي لا يسمح لهما بقوله .
-والخطأ في الكلام كارثة. وإياكما والتجهُّمَ والعبوسَ والمعاندةَ والتمتمةَ والازورارَ والاضطرابَ والبكاءَ والضحِكَ والصراخَ والهمسَ وإعطاءَ أيِّ انطباعٍ إيجابياً كان أو سلبياً . مفهوم ؟ ....،.
إبننا الصغير في السنة الثانية عشرة من عمره. والكبير في الرابعة عشرة. ليسا صغيرين . ولا بد أنهما قد فهما وحفظا كل كلمة قلناها. ولكن قد نكون نحن من أخطأ في تقرير بعد التوصيات . فيقع الذنْبُ في رقابنا إن حدث مكروهٌ -لا قدَّر الله - فقد شاع خبرٌ أن بعض عناصر جيش النظام قد رشّوا ( الفعل رشَّ يرشً بالرشاش فهو راشّ والمفعول مرشوش) لسبب ما ، جميع أفراد عائلة نازحة من حلب إلى الرقة بسيارتهم الخاصة. يا رب سلِّم سلِّم.
خرجنا عن طريق المطار وزالَ خطر القنَّاصين . وها نحن نتلقى أول إشارة بالتوقف عند أول حاجز للجيش الحر. سُمْعَةُ الجيش الحرِّ ما تزال معطَّرة بعطر الياسمين الشامي ، وأخلاقُهم الثوريةُ المُبكِّرةُ ما تزال ثوريةً مبكرة ، ووجوهُهم ما تزال بالخير مبشِّرة .فواجبنا الخوفُ عليهم لا منهم ،والاطمئنانُ إليهم لا بهم .
أمامَنا على الحاجز تقف سيارتان شاحنتان فقط ، كلتاهما للنازحين، ثلاثةٌ من الجنود اليافعين يقتربون من سيارتنا ويتفرَّسون في وجوهنا، ويبتسمون ببراءة الأطفال ، أحدُهم يناهز ابني الكبيرَ في عُمُره ويشبِه أحدَ أصدقائه.لا يكاد المرء يصدِّق بأنهم سيساهمون في تغيير التاريخ .
ثم يترجَّل زوجي ليقفَ إلى جانبهم وهم يفتشون الحقائب، ولكنهم لا يريدون تفتيشها. نظروا في هُوِيّاتنا وأوراقِ السيّارة ، وقالوا:" رافقتكم السلامة "ببراءة الأطفال نفسها .وكانت تلك هي- للأسف- العبارة نفسها التي كتبتْها إدارةُ المرور الممثلةُ للنظام الحاكم على اللافتة العريضة في أعلى الطريق .
الحاجز الثاني كان على بعد أقل من كيلومتر واحد ، لم يستوقفنا أحدٌ ، بل تقصَّدوا غضَّ البصر عنا. ولا شك أن من يستطيع غضَّ بصره سيمارس أروع الفضائل في مثل هذه الأوقات .
تابعنا الطريق, حتى وصلنا إلى مدخل بلدة (الباب) في ريف حلب الشرقي, ولي في هذه المدينة ذكرياتٌ وذكريات ولَوْعاتٌ وكُرُبات ، فقد درَّست في ثانويتها مادة علم الأحياء لمدة أربع سنوات، قبل أن أنتقل للتدريس في المساكن منذ أربعة أعوام . وأعرفها وأعرف بناتها ومعلماتها وبيوتها وأسواقها وكراجها وسائقي مواصلاتها ، وتعرفت على مكاتبها العقارية أيضا يوم ذهبت بعد المدرسة أفتِّش عن بيت صغير لأمٍ مطلَّقةٍ وطفلين ، وأنا أسحب ولديَّ بكلتا يدَي ، وأحدهما يشكو ألم بطنه ويتقيَّأ على ملابسه ...
ويسرُّني أن أعود إليها ولو عابرة سبيل، على الرغم من أنها لم تسعفني بذلك البيت، في تلك الذكرى المرة، فما بيننا من ذكريات لذيذة حلوة أخرى تشفع لها وترفع شأنها.رغم أنف الشامتين.
الطريق إلى الرَّقة لا يمر عادة ببلدة الباب ، ولكن كان على الطريق أن ينحرف ليمر بها اليوم، إن لم يكن من أجل خاطري ، فلأن الطريق النظامي غير المنحرف قد أُغلِقَ في وجه المارِّين وأصبح ميدانَ اشتباكات. وفي النتيجة نحمد الله على أننا سنجد مكانا ننزح إليه .
ما تزال محافظةُ الرَّقة مدينتُها وريفُها حتى الآن المكانَ الأكثرَ أمناً في سوريا . لأنها لم تنخرط فعلياً في مجريات الثورة بعد ، لأن نظامَها العشائريَّ مازال يتمتع بأُذُنٍ من طينٍ وأذنٍ من عجين ، وهو يقف في الوسط رافضاً الاستجابة لا للجيش الحر ولا لجيش النظام . على أن النظام الحاكم نفسه يعد الرَّقة بين المدن المؤيِّدة له . صحيحٌ أن بعض المظاهرات المعارضة قد قامت في المدينة منذ بضعة أشهر،ولكنها خمدت الآن. وصحيحٌ أن الناس قد حاولوا مراراً إسقاطَ التمثالِ الخالدِ للرئيس الخالد في ساحة المدينة، فردِّت عليهم الشرطةُ ردّاً عنيفاً وسقطَ بعض الشهداء على أقدام التمثال.ولكن رؤساءَ العشائر قد تدخَّلوا تدخلا عشائريا لفلفَ الموضوع .
رنَّ هاتف زوجي ، هذا زميله في المدرسة الأستاذ عمر . يطمئنُّ علينا، وهو الذي دعانا للنزوح لعند أهله في الرَّقة ، وكان قد نزح هو مع أسرته الصغيرة قبلنا بشهر، كان يسكن في المساكن أيضا ، زوجته تعمل ربةَ أسرة فقط ، ولديهما أربعة أولاد، وهي حامل بالخامس كالعادة. الأستاذ عمر يعمل معلماً في الجزء الأول من النهار، وبائعَ خضارٍ متجولٍ بسيارته الشاحنة الصغيرة ( سوزوكي) في الجزء الثاني من النهار، والجزء الأول من الليل أيضاً. ولذلك فهو في شوقٍ دائم لأطفاله، لا يكاد يطفئه إلا إنجابُ مزيد من الأطفال .
- طَمْئنِّي ، أين وصلتم؟
-ما نزال في مدينة الباب ، وهنا يوجد حاجز للجيش الحرّ ، وأمامَنا رتلٌ طويلٌ من السيارات .كلُّها خاضعة للتفتيش . وقد نحتاج ساعتين للخروج من هذا الحاجز
-طيب ، الله ييسر لكم ، عندما تصلون إلى مدخل مدينة الرَّقة أخبرني ، لكي أرشدَكم إلى الطريق ، كي تصلوا دون عناء . والكلُّ سيكونون هناك في استقبالكم.
-إن شاء الله ، يعطيك العافية ، ربنا يكرمك يا عمر . إدعُ لنا ، وسلِّم على الأهل .
خرجنا من الحاجز بصعوبة بعد أكثر من ساعتين ، وانطلقنا من جديد . الساعة الآن حوالي التاسعة صباحا . دخلنا في جزء الطريق النظامي غير المنحرف والذي يسيطر عليه جيش النظام المنحرف.
- هنا لا يوجد اشتباكات ، لكنها الحواجز فقط ، وأمامنا حاجزان مهمّان وكبيران : الأول في بلدة (مَسْكَنَة) . والثاني عند مدخل مدينة الرَّقة . أما بقية الحواجز فليست مهمَة . (قال زوجي)
-يعني هل نستطيع أن نتنفس الصعداء الآن ؟
- نعم تنفّسوا ، لكن لا تأخذوا راحتَكم كثيرا في التنفس . وقبل أن نصل إلى حاجز (مَسْكَنَة) ستقودين أنت السيّارة ( قال زوجي هذا وأدار جهاز التسجيل على أغاني محمد منير)
- عجيب ! لماذا تريدني أن أقود أنا قبل الوصول لحاجز مسكنة ؟
- هذا أفضل عند حواجز جيش النظام .
- تقصد أنه أبْعَدُ للشُبُهات ؟
_ نعم.
-حسنا ، لكن ما رأيك الآن أن نستمع للقرآن بدلا من الاستماع للأغاني .
- لكن أنتِ تحبين الاستماع إلى محمد منير .
- الاستماع للقرآن الآن يهدِّئ أعصابنا التالفة.
- إذن ،سنستمع لسامي يوسف. الاستماع للقرآن يثير الشُبُهات.
-ولكننا لسنا على الحاجز الآن. فكيف ستُثار الشُبُهات ؟
-.........
السفر في الطريق من حلب إلى الرَّقة في جزء كبير منه أشبه بالمرور في الصحراء ، من ينظرْ من نوافذ السيارة يشاهدْ البادية السورية الجدباء . ويرى بعض الخيام التي نصبها الغجر والذين يسميهم الناس في سوريا بـ ( القرباط) ، خيامهم مبعثرة على جانبي الطريق ، ويمكننا رؤية مفروشاتها ، لديهم برادات كبيرة ومولِّدات كهربائية ، وتلفزيونات ، وصحون استقبال للمحطات الفضائية أيضاً، وغسيلهم منشورٌ على نسيج جدران الخيام من الخارج . ولديهم خزَّانات ماءٍ حمراء ضخمة . أوانيهم مبعثرة حول الخيام . وهناك الكثير من الأطفال الذكور يتراكضون حفاة عراة على التراب ، وأمهاتهم ذوات الثياب المزركشة بالألوان يتبادلن الأحاديث ؟
- أولادهم قليلو الأدب ! (قال ابني الصغير)
-هههههههه ، ضحكنا جميعاً . (منذ متى لم نضحك ؟ )
-هل هم سعداء بحياتهم ؟ (سأل ابني الكبير مستنكراً ) وتابع : كيف يقضون الشتاء في مثل هذه الخيام الرقيقة ؟ هل يسقط المطر على رؤوسهم ؟ هل يبردون ؟ هل يجوعون ؟ هل يموت مرضاهم دون علاج ؟
- لا لا لا . كل حاجاتهم مؤمنة . وليسوا فقراء. لكن هذه هي طريقة حياتهم التي يحبونها ويختارونها بأنفسهم ولا يقبلون بغيرها . (قال زوجي)
لا أدري لماذا شعرت بأنني سأتمنى يوما ما خيمة كخيمتهم . ولن أجدها .شعورٌ غامضٌ يشبه قراءة المستقبل جعلني أطلب من زوجي أن يَضُمَّ إلى قائمة أولوياتنا شراءَ خيمة . لكنه نظرَ إلي، وكأنه يقول: أنا لن أحتاجها، فتكلمي عن نفسك فقط . وقال : " إن شاء الله ".
تابعنا المسير ونحن الآن في مدخل مدينة الرَّقة . وبعد أن تجاوزنا حاجزها اتصل زوجي بزميله عمر .
-الحمد لله على السلامة ، أصبحتم الآن في أمان من القصف والصواريخ والبراميل .
-الله يسلمك يا رب .
-كيف كان مروركم على حواجز النظام ؟ هل أزعجكم أحد ؟
-لا والله ، وقفنا على حاجز مسكنة ما يقارب نصف ساعة ، كان هناك رتل طويل من السيارات أمامنا ولكنهم كانوا سريعين في التفتيش . ومرّت الأمور بسهولة ، والحمد لله.
-الحمد لله ، وحاجز الرَّقة ؟
-حاجز الرَّقة ، كان الأسرع من كل ما سبقَه ، وكان الجيش النظامي هنا أكثر لطفاً واحتراماً .
-نعم ، صحيح ، الوضع هنا مختلف تماما عما هو عليه الأمر في حلب ، والنظام هنا حريصٌ على أن يكسب تأييد الناس بأية وسيلة . لذلك ستجد الكثير من اللطف هنا. الآن سأظلُّ معك على الخطّ وسأرشدك إلى الطريق بالتدريج .
كان زوجي منشغلا بقيادة السيارة وفق إرشادات صديقه . وكنت منشغلة بالدهشة مما أراه من حال الإهمال في هذه الشوارع التي نمر بها في مدينة الرَّقة ؟ أتيت إلى الرَّقة منذ أكثر من خمس عشرة سنة عندما أقامت كلية العلوم في جامعة حلب معسكرا (بيولوجياً) في الرَّقة لدراسة وتحليل مياه (بحيرة الأسد) .و ما زلت أذكر كيف خرجنا في جولة صغيرة في الشوارع الترابية ذات الحصى الخشنة القريبة من دار المعلمين حيث أقمنا ، فتعثرتُ وانقلعَ نعلُ حذائي بسبب وعورة الطريق، واضطررتُ للسير برجل حافيةٍ على التراب ، وهذا سيذكرِّكم طبعا بفردة حذائي الضائعة في حلب ، ولكن شتّان مابين الحالتين ، فهناك ضاعت فردة حذائي بسبب الخوف من البراميل ، أما هنا فقد انخلع نعلها بسبب إهمال تعبيد الشوارع . أرأيتم الفرق ؟ رحمك الله يا سيدي عمرَ بن الخطاب ورضي عنك، عندما خفتَ من تعثُّر الشاة العراقية وقلتَ : "لو أن شاة عثرت في أرض العراق لخفتُ أن يسألني الله عنها يوم القيامة لمَ لم تمهد لها الطريق يا عمر؟"
الحمد لله أنني لست شاةً ، وأنَّ عثرتي كانت في أرض الرَّقة وليس في أرض العراق، وأنني تعثَّرت في عهد الرئيس الخالد وليس في زمن عمر ، وإلا لخفتُ أن يحاسبَ الله عمرا -رضي الله عنه- بسببي، وإنني قد أحببت ذلك لغيره. فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه.
دخلنا في سلسلة من الشوارع الضيقة الترابية، ولون ترابها أحمر، مما يدل على أصلها الزراعي، في منطقة شعبية ليست ببعيدة عن دار المعلمين.
وأوقف زوجي السيارة في منتصف أحد الشوارع، أمام باب خشبي كبير مفتوح على مصراعيه ، وقد انسدلت في مدخله ستارة جلدية رمادية سميكة ، لتحجب من في الداخل عن أنظار من في الخارج. نزل زوجي من السيارة وقرع جرس الباب. وقال : انزلوا .
وظهر زميله عمر في بداية الشارع مقبلا نحونا، فيما انزاحت الستارة وخرج أهل الدار يستقبلوننا ، ولم أعرف أحدا ممن قبَّلتُ وعانقتُ من النساء سوى زوجة عمر الحامل .
دخلنا الدار فإذا نحن في فناء كبير مفروش بالحصى الناعمة ، وتتصدره في صدر الدار غرفتان كبيرتان لهما بابان معدنيان مغلقان يستند إليهما جزء من صفِّ الوسائد الملونة، التي أحاطت ببساطٍ صوفيٍ بدويٍ كبيرٍ جداً مفروشٍ على الحصى في الفناء . ويحيط بالفناء جدرانٌ قصيرةٌ لم يكتمل بناؤها، وتوقف عند ارتفاع متر واحد تقريباً . أما ما يحاذي الستارةَ الجلديةَ خلف باب الدار ، فغرفةٌ صغيرةٌ من اليمين ، وهيكلُ درجٍ لم يكتمل بناؤه من اليسار . وتحت هيكل الدرج حمَّامٌ صغيرٌ مع ( تواليت). لقد كان واضحاً أن هذه الدار ما تزال في قيد البناء -كما أوضحتْ لنا أم عمر فيما بعد - وهي غير جاهزة للسكن بعد، وحالها كحال الدار الأخرى التي سنسكن فيها نحن . لكن أم عمر فكرت بأن تصلح من شأن هذه الدار إلى الحدِّ الذي يسمح باستقبال بعض النازحين من المدن الأخرى فيها . وقد فعلت خيرا . فبعد أن كانت قيمة إيجار البيوت في مدينة الرَّقة تتراوح ما بين ثلاثة ألاف إلى خمسة آلاف ليرة سورية قبل الثورة ،بلغت قيمة الإيجار بعد الثورة ما بين ثلاثين ألف وخمسين ألف ليرة سورية . وليست المشكلة في هذا الرقم الخيالي الذي لا يستطيع رب الأسرة النازح الموظف السوري دفعَه، لأنه يفوق راتبَه الشهريَّ مرتين أو أكثر ، فقد حلَّ الناس هذه المشكلةَ باشتراك عدة عائلاتٍ في العيش في بيتٍ واحدٍ، يتقاسمون غرفَه، ويتقاسمون دفعَ إيجاره. بل المشكلة في أن البيوت القابلة للإيجار قد نفدت تماما . فضلا عن أن كلِّ بيتٍ مأهولٍ أصلا في الرَّقة أصبح يستقبل عائلة واحدة أو أكثر، من الأقرباء الذين نزحوا من حلب وحماة وحمص ودرعا وغيرها من المدن الثائرة .
وفي بيت أم عمر كانت هناك ثلاث عائلات استقبلتهم أم عمر قبلنا. وهم ليسوا جميعا أقرباءها . ونحن وعائلة الدكتور خليل مجرد أصدقاء لبعض أبنائها. أما الأسرتان الأخريان فهما عائلة عمر ابنها وعائلة شقيق زوجته . وكلنا ضيوف عندها وتحت رعايتها. وهي لا تأخذ قرشاً واحداً من أي نازح تستقبله عندها، مع أنها تؤمن له كل احتياجاته من أدوات المنزل ، فيما عدا الطعام . و هي تفعل كل ذلك صدقة وفي سبيل الله . والشرط هنا أن لا يتكلم أحد خارج هذه الدار كلمة واحدة ضد النظام . خوفاً من عواقب الأمور على المتكلم ومن يواليه . أما داخل الدار فلا رقيبَ على الألسن ، ومن كان لديه غليلٌ فليشفِ غليلَه بما لذَّ وطابَ من فواكه السخرية بالنظام وفضائحه .كما يفعل يومياً الدكتور خليل وزوجتُه، في السهرة التي يجتمع فيها الصغير والكبير .
كنت متحمسة لسماع تلك الآراء ولكنني أردت أولا رؤية البيت الذي سننتقل إليه.وقلت لنفسي: على الأقل يستطيع المرء أن يسترخي ويستمتع بنعمة الأمان والإحساس بعدم وجود تهديد بالقصف في كل لحظة، غير أن الأستاذ عمر وزوجته كانا قد أصرَّا على أن نتناول طعام الغداء بعد أن قضت زوجة عمر عدة ساعات في تحضيره، وهي حامل .
وبعد الغداء انتقلنا بالسيارة وبصحبتنا الأستاذ عمر إلى البيت. وهو لا يبعد كثيرا عن بيت أم عمر . غير أنه أكبر منه مساحة . فتح عمر الباب على مصراعيه ودخلنا بالسيارة إلى الداخل ؟ فبدا فناء البيت الشاسع أشبه بشارع صغير ، كانت ثمة أكوام من القرميد واللبن ، وأكوام من الحصى وأخرى من مسحوق الحصى الأبيض ( النحاتة )، وأكياس الإسمنت وحِزَمٌ من قضبان الحديد، وما زال خرطوم الماء ممدودا بين الحجارة ،بعد أن استعمله عمال البناء في موضع الجَبْلة . وكان ثمة نباتات عشبية وشوكية يابسة تملأ المساحاتِ التي لم تخطُ فيها أقدامُ عمال البناء . ولكنه على اتساعه لم يكن يتضمن سوى غرفتين اثنتين وبينهما مطبخٌ وحمام فقط . فتحنا الغرفتين وكل منهما أكبر من الأخرى . ففوجئنا بوجود الفرش والأغطية والوسائد والحصر (البلاستيكية) والمكنسة والمسّاحة وموقد الغاز ، كل ذلك هيأته لنا أم عمر قبل حضورنا، جمعته من أقربائها وجيرانها ومعارفها .
بكيت . ولم أبكِ لأن أم عمر قد شحذت كل هذا لنا وباسمنا شخصياً ، فأصبح لنا (بسم الله ، ما شاء الله) قصة تروى لكل من تتوقع منه أم عمر التبرع لنا بمكنسةٍ أو حصير، أو تترجى منه أم عمر الشفقةَ علينا من البرد والمساهمةَ بتدفئتنا بوسادةٍ أو لحاف . بل لأن هذه المرأة فاجأتني بمستوى إنسانيتها حتى ربطت لساني عن الكلام ربطاً . ولم أجد ما يعبر عن امتناني لإحساسها الكريم وامتناني لإحساس من تبرعوا، واطّلاعي ولأول مرة في حياتي على حقيقة شعور المتسوَّلين العاجزين المحتاجين حقاً، عندما يُعطَوْن ما يحتاجون ، سوى أن أبكي .
-لا تنسوا . نحن جميعا معتادون يومياً على قضاء السهرة عندنا في بيت أم عمر، حيث أسكن أنا . تبدأ السهرة بعد الساعة الثامنة، وتنتهي عند الساعة الواحدة ليلا. والبسوا ثياباً سميكةً فالبرد في الليل قارس في الرَّقة. لا تتأخروا علينا . وستجدين يا آنسة رفقةً تسلّيكِ من النساء ، ستسرّين بهن. وخاصة زوجة الدكتور خليل, سيسرك سماعُ آرائها كثيرا.
قال ذلك الأستاذ عمر فأعادني إلى حيث أقف ، وفي اللحظة التي همَّ فيها بالمغادرة، وقع نظري على ما يشبه سُلَّما عالياً جداً، يعلوه مقعدٌ محاطٌ بسياج، وكأنه برج مراقبة ،كما في المطارات الحربية ، خلف الجدار الفاصل بيننا وبين الدار المجاورة لنا . فسألته:
_ أستاذ عمر ! ما هذا ؟ وأشرت إلى برج المراقبة ذاك.
فنظرَ إلى حيث أشرت ، ولم يتكلم ، و عاد أدراجه حتى اقترب منا وقال بصوت خفيض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد :
-هنا جيرانكم خلف الجدار ، كتيبة حفظ الأمن والنظام في الرَّقة . لا تخافوا ! لا شغلَ لهم بكم . فالأمن في الرَّقة مستتب. وكل شيء عال . لكن إذا رأيتم الجنود يحملون سلاحا، ويتجولون على سطوح بنائهم، فلا تخشوا شيئا . وقد يصعدون ويجلسون على الجدار الفاصل بينكم ، لا تهتموا . وربما يضطرون للنزول إلى هنا , لا مشكلة . لا تخشوا شيئا. إطمئنّوا .
ونظرنا جميعنا في وجوه بعضنا بذهول وارتباك وقلق وامتعاض . وصمتنا . وليتنا لم نصمت ....






  رد مع اقتباس
/