عرض مشاركة واحدة
قديم 01-08-2019, 03:35 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
ثناء حاج صالح
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمةالأكاديميّة للابداع والعطاء
سوريا
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


ثناء حاج صالح غير متواجد حالياً


افتراضي رد: اللامنطق المضحك في الصورة الشعرية المدهشة /ثناء

ومن اللامنطق المضحك الذي يثير الدهشة في الصورة الشعرية الجميلة، ما جاء في وصف الأعشى في معلقته لمِشْيَة محبوبته هُريرة . تلك المِشية البطيئة، وأسبابها اللامنطقية العجيبة، والتي تطلَّبت من الأعشى عدة أبيات لوصفها، وهي الأبيات المؤشَّرة باللون الأحمر.
ودّعْ هريرة َ إنْ الركبَ مرتحلُ = وهلْ تطيقُ وداعاً أيها الرّجلُ؟
غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها= تَمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجي الوَحِل
كَأنّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا = مرّ السّحابة ِ، لا ريثٌ ولا عجلُ
تَسمَعُ للحَليِ وَسْوَاساً إذا انصَرَفَتْ= كمَا استَعَانَ برِيحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ
ليستْ كمنْ يكره الجيرانُ طلعتها = ولا تراها لسرّ الجارِ تختتلُ
يَكادُ يَصرَعُها، لَوْلا تَشَدّدُهَا = إذا تَقُومُ إلى جَارَاتِهَا الكَسَلُ
هِرْكَوْلَة ٌ، فُنُقٌ، دُرْمٌ مَرافِقُها= كأنّ أخمصَها بالشّوكِ منتعل

وقد بدأ الأعشى هذا الوصف بتشبيه هريرة وهي تمشي الهُوَينْا، أي: بتؤدة ورفق، بمشية الوَجِي الوَحِل.
والوَجي: هو من مشى حافياً ، أو من رَقَّتْ قدمُه، أو خُفُّه، من كثرة المشي، فأصبح يجد فيه مشقةً. فكيف إذا كان وَجِياً (وَحِلا) ً؟ أي : يمشي في الوحل؟
علينا أن نتخيل معاناة هذا المسكين، وهو يضع قدمَه في الوحل، فتغوص فيه وتعلق، ثم يأخذ بمحاولة سحبها، وانتزاعها من الوحل، في كل خطوة وعلى طول الطريق!
فبطء مشيته مماثلٌ لبطء مشية هريرة. كما يقول الأعشى الذي يعطينا مثالاً أوضح عن بطء مشيتها، وذلك عندما يسمح لنا بمراقبتها، وهي تمشي منصرفة من بيت جارتها فيقول:
كَأنّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا= مرُّ السّحابة ِ، لا ريثٌ ولا عجلُ
غير أننا نتصور مرور السحابة بطيئاً جداً! فكيف يصفه الأعشى بأنه بين التريث والعجلة ؟
ثم ألم تكن هريرة تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل ؟ فهل غيَّرت من سرعتها؟ أم نَسِيَ الأعشى ما كان يقول ؟
الجواب : لا هذا ولا ذاك . وإنما هنا تكمن النكتة.
فقد كان العرب قديما يميِّزون بين أنواع الغيوم، ويكثرون من أسمائها، إلى درجة تسمح لنا بإحصاء أكثر من بضعة وعشرين اسما للغيوم، تختلف بحسب حالة الغيمة وتوقيتها . وكانوا ينتبهون أيضاً إلى اختلاف سرعات مرور الغيوم في السماء . والقاعدة في ذلك عندهم أنه كلما ازدادت حمولة الغيمة كانت أبطأ في مرورها، والغيمة الجهام هي الأسرع على الإطلاق؛ لأنها خالية تماماً من الماء . أما السحابة فتكون ذات سرعة متوسطة ؛ لأنها غير مكتملة الحمولة.
وفكرة التشبيه هنا لا تقتصر على بيان التماثل بين سرعتي مِشية هريرة ومرور السحابة . بل المقصود أن يقال: إن مِشْيَة هُريرة على بُطئها ، إنما هي ليست في غاية البطء. أو ليست هي أقصى ما يمكن لهريرة أن تؤديه من الإبطاء في المشي . بل ثمَّة إمكانية أكبر من ذلك بكثير في هذا المجال .
ونفهم هذا من قول الأعشى :
يَكادُ يَصرَعُها، لَوْلا تَشَدّدُهَا = إذا تَقُومُ إلى جَارَاتِهَا الكَسَلُ
فهُريرة تمشي ببطء عظيم لأنها تتمتع بكسلٍ عظيم. وقد وصلت إلى درجة تكاد فيها تخِرُّ صريعةً من الكسل، إذا همَّت بالمشي إلى جاراتها تزورهن (يكاد يصرعها ، إذا تقوم إلى جاراتها، الكسل) لولا تشدُّدها؛ وتشدُّدها يعني أنها تأخذ نفسَها بالشِّدَّة والقسوة، كي تقاوم ذلك الكسل، فلا تسمح له بأن يصرعها، أو يطرحها أرضاً قتيلة، أو عاجزة عن الوقوف. (كما تعني لفظة الصَرْع).
ثم يقطع الأعشى تغزُّله ببطء مشيتها ذاهباً لأغراض شعرية أخرى، قبل أن يعود إلى ذلك مرة أخرى قائلا:
هِرْكَوْلَة ٌ، فُنُقٌ، دُرْمٌ مَرافِقُها= كأنّ أخمصَها بالشّوكِ منتعل
والهِركَوْلة: هي المرأة عظيمة الوركين مرتجة الأرداف في مشيتها. وهي حَسَنَة الجسم والخلق والمشية . والهَرْكَلة عموماً: هي المشي الحسَن.
وامرأة فُنُق أي : منعَّمة. وناقة فنق، أي: سمينة .
وكانت السُّمْنَة دليلاً على التنعُّم في المعيشة . فكونها هركولةً يدل على كونها فُنُقاً أو مُنَعَّمة. وكذلك عظام مرفقيها اللذان يغطيهما اللحم والشحم، وهذا هو معنى (دُرْم مرافقها) . وكل ذلك التنعم يجعلها سمينة، وينعكس على مِشيتها، فيجعلها بطيئةً، وهو سر جمال تلك المِشية في رأي الأعشى شاعر العصر الجاهلي، الذي يدفعه التغزُّل ببطء مِشية هريرة إلى تشبيهها ببطء مشية من انتعل الأشواك في أخمص قدمه. أي: جعلها كالنعل، وأخذ يمشي عليها. فكيف تتوقعون سرعته في المشي ؟
كأنّ أخمصها بالشّوكِ منتعل!
لا شك أن وضع من انتعل الأشواك في أخمص قدميه صعب جداً. ومعاناته كبيرة جداً. فكل خطوة يخطوها تتسبب له بألم لا يُحتَمَل، وتمنعه من التفكير بخطوةٍ تالية. وليس ثمة شيء أبغض إلى نفسه من المشي. وهذا ما يجعله أبطأ في مِشيته (إذا تمكن من المشي ) مما يمكننا تخيُّله.
لكن، لا يجب أن ننسى أن هذا غَزَلٌ يصف الجمال. وليس شعراً وجدانياً يصف معاناة المشي في الوحل بغير حذاء ، أو ألم انتعال الأشواك. وبالتالي فإن هذا الوصف يدخل في باب المبالغة المضحكة ، والتي يعيها الشاعر تماماً ويتعمدها بهدف تحقيق الإدهاش في صورٍ شعريةٍ جميلة. على الرغم من أن بُطء مِشية المرأة كان يُعَدُّ في العصر الجاهلي موضوعاً للغَزَل بوصفه صفةً جمالية.
والكلمة الأخيرة التي يمكننا قولها في هذا الموضوع :
الحمد لله أن ذائقة العرب الجمالية قد تطورت مع مرور العصور، ولم يتم توارث هذه الجزئية في تقييم الجمال كما كانت عليه ، وإلا لكانت وصلتْ إلينا اليوم ، ولكانت ثمة عرقلة للسير ستحدث في بعض الشوارع العربية المزدحمة ، فقط بسبب مرور بعض النساء (الهركولات ) الماشياتِ الهوَينا فيها!






  رد مع اقتباس
/