۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - الفينيق توفيق زيّاد يليق به الضوء* سلطان الزيادنة
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-11-2010, 10:42 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سلطان الزيادنة
عضو مؤسس
أكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع الأدبي والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية سلطان الزيادنة

افتراضي الفينيق توفيق زيّاد يليق به الضوء* سلطان الزيادنة



سلام الله

تعودنا أن نضع نصاً تحت الضوء
ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربةٍ فذّة
سنستميح روح توفيق زيّاد
لنضعه تحت الضوء
إذ به يليق الضوء



نبذة عن حياته:
----------------

- ولد توفيق أمين زيَّاد في مدينة الناصرة في السابع من أيار عام 1929 م .

- تعلم في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة ، وهناك بدأت تتبلور شخصيته السياسية وبرزت لديه موهبة الشعر ، ثم ذهب إلى موسكو ليدرس الأدب السوفييتي .

- شارك طيلة السنوات التي عاشها في حياة الفلسطينيين السياسية في إسرائيل، وناضل من أجل حقوق شعبه.
- رحل توفيق زياد نتيجة حادث طرق مروع وقع في الخامس من تموز من عام 1994 وهو في طريقه لاستقبال ياسر عرفات عائداً إلى أريحا بعد اتفاقيات اوسلو.
- ترجم من الأدب الروسي ومن أعمال الشاعر التركي ناظم حكم

أعماله وابحاثه :
-----------------

1. أشدّ على أياديكم ( مطبعة الاتحاد ، حيفا ، 1966م ) .
2. أدفنوا موتاكم وانهضوا ( دار العودة ، بيروت ، 1969م ) .
3. أغنيات الثورة والغضب ( بيروت ، 1969م ) .
4. أم درمان المنجل والسيف والنغم ( دار العودة ، بيروت ، 1970م ) .
5. شيوعيون ( دار العودة ، بيروت ، 1970م ) .
6. كلمات مقاتلة ( دار الجليل للطباعة والنشر ، عكا ، 1970م ) .
7. عمان في أيلول ( مطبعة الاتحاد ، حيفا ، 1971م ) .
8. تَهليلة الموت والشهادة (دار العودة ، بيروت ، 1972م ) .
9. سجناء الحرية وقصائد أخرى ممنوعة (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1973م).
10. الأعمال الشعرية الكاملة ( دار العودة ، بيروت ، 1971م ) . يشمل ثلاثة دواوين
- أشدّ على أياديكم .
- ادفنوا موتاكم وانهضوا .
- أغنيات الثورة والغضب .
11. الأعمال الشعرية الكاملة ( الأسوار، عكا، 1985م ) .
12. عن الأدب الشعبي الفلسطيني / دراسة ( دار العودة ، بيروت ، 1970م ) .
13. نصراوي في الساحة الحمراء / يوميات ( مطبعة النهضة ، الناصرة ، 1973م .
14. صور من الأدب الشعبي الفلسطيني / دراسة ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1974م ) .
15. حال الدنيا / حكايات فولكلورية ( دار الحرية ، الناصرة ، 1975م ).



دراسات
----------

توفيق زياد: وليس من قضية إلا قضية القصيدة نفسها
سيمون نصّار

لا أحد يعلم إلا الله مقدار الهول الذي قاساه الباقون من العرب على أرض الرعب، ساعة أغلق الستار على مأساة النكبة سنة 1948، تحت ضغط العواصف القاسية والمرعبة التي داست ترابهم الوطني وعبرت بيوتهم جميعها، وعلى هذا الأساس يمكن للمرء العربي وغيره أن يفهم مرحلة الشتات الداخلي التي تلت النكبة لبضعة أعوام تجنباً لوطأة الاحتلال الذي يدوس في طريقه كل وعي للجماهير العربية الفلسطينية، ويدمر كل حياة لها. حيث أجبرت الشخصية العربية الفلسطينية، ولم تكن تستطيع سوى ذلك، على أن تركن نزعة مقهورة الى صمت عميق لكن بوعي تتذرع به، كصدف المحار، لتحمي نفسها من بطش المحتل وتعسفه في التعامل معها. ويمكننا أن نقدر المهمة الكفاحية التي قام بها الفن الشعبي لهذه الأقلية العربية بكفاية واقتدار في مجابهة عذابات حياتهم والتصدي لها، إذا لاحظنا بدقة البداية الصعبة التي بدأ فيها المثقفون منهم مهماتهم في مجتمعاتهم القروية في مجملها. وهذا المجتمعات أخضعت لحصار سياسي واجتماعي وثقافي، وهددت من مخططات استيطانية لا ترحم أبداً، في وقت لم يبق لديها أي مفاصل ثقافية يمكن لها أن تشكل نواة لنوع جديد من الانعتاق العربي.

جرفت موجة النزوح الكبيرة سنة 1948 أجيال المثقفين والشعراء من عرب فلسطين مع من جرفت من أغلبية الشعب الفلسطيني الساحقة، وقذفت بهم خارج الوطن الأم فلسطين، ويقول الشاعر توفيق زياد في وصف هذه الظاهرة: "وسرب النسور هذا، الذي حملته العاصفة، خلف وراءه فراخاً طربي العود، بالكاد يستطيع الواحد منها أن يمسك حفنة ريح تحت جناحيه. وأكثر فراخ النسر هذه شهرة ما كان ليعلق شعره بغير ذاكرته هو، وأما اسمه فلم ير أسود على أبيض في الصحف أكثر من مرات لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة .." وعلى هذا الأساس، فقد اهتز جوهر المجتمع العربي الجديد الذي يواجه يومياً بآلة التسلط الصهيونية الى أعماقه.

"على مهلي
لأني لست كالكبريت
أضيء لمرة .. وأموت
ولكني..
كنيران المجوس: أضيء..
من مهدي
الى لحدي
ومن .. سلفي
الى .. نسلي
طويل كالمدى نفسي
وأتقن حرفة النمل
على مهلي
لأن وظيفة التاريخ..
أن يمشي كما نملي!!"

هكذا كانت وظيفة الشعراء الوطنيين مرتبطة ارتباطاً كلياً بنشاط العمل الوطني، الذي يمكن اعتباره بداية تململ الشخصية الفلسطينية ويقظتها من مرحلة الشتات الداخلي التي فرضت عليها.
ويأتي الشاعر الراحل توفيق زيادة على رأس هؤلاء الشعراء، ومنهم "حنا أبو حنا، حبيب قهوجي، عصام عباسي وجمال قعوار.."، الذين يمثلون جيل الرواد هناك وقد كان زياد بينهم الأكثر نشاطاً، وأسبقهم الى نظم الشعر في تلك الفترة، حيث نقرأ له قصيدتين هما "عبدان" و"مصر 1951" وقد نظمهما سنة 1951.

وفي هاتين القصيدتين نلمس محاولته في تفتح الذات العربية تحت نير الاحتلال على الآفاق القومية والأممية لتشهد نماذج من تمرد الشعوب الشرقية المستغلة، على ظالميها من الحكام والمستعمرين الأجانب وبعض الحكام والأنظمة العربية صنيعة الاستعمار، تعكس في القصيدة الأولى نضال شعب إيران ضد حكم الشاه. وسجل في القصيدة الثانية للشعب العربي في مصر حركته الوطنية قبيل ثورته في تموز/ يوليو 1952، وكأنه يحس الثورة دبيباً تهز الأرض تحت وقع خطاها. ويمكننا أيضاً، في هذه المرحلة المبكرة، أن نتلمس في شعر توفيق زياد بعض نوبات الشعر المقاوم من خلال روح المعارضة والاحتجاج التي تمثلها قصيدته "ضرائب"، وفيها يجسد بروح تهكمية لاذعة ظلم الاحتلال وعسفه في صوت فني أقرب الى الخفوت والهمس، مبرراً المفارقة الظالمة، ومجسداً أبعادها من خلال صورة أطفال اليهود الأغنياء، وصورة أطفال العرب الفقراء، ومن خلال المقابلة بين صور نساء أولئك المترفين، وصور نساء هؤلاء الفقراء المعوزين في صور مملوءة بالتفكير والتعبيرات الشعبية التي تثريها بدلالات خصبة موحية.

"وأطفالهم ..
ينمون داخل أقفاصهم كالدجاج
.. ونسوتنا البائسات عرايا
يلاقين من عيشهن البلايا
.. وأخبارهن "حكايا بكايا"
ونسوتهم كاسيات الدمقس
دمى للفراش
ولين المعاش"

وفي منتصف الخمسينات تنضم أصوات الشعراء الرواد لتجسد معاً صوت شخصية شعبهم الجماعية المستيقظة، أرادت به حماية ذاتها، والدفاع عن وجودها، وعن هويتها القومية، وقد أنطقها به سياسة الصهيونية القائمة على السكين والمذابح، ويأتي صوت زياد ضمن أصوات زملائه من الشعراء في هذه المرحلة عالياً ومدوياً يوزعه في مجموعة قصائد، منها ما هو قومي، يعرض فيه بعض جوانب الاستعمار الغربي للمنطقة، ومنها ما هو وطني خاص في سبيل الحفاظ على الهوية الفلسطينية، وإبراز ملامحها أمام مبارد العنصرية الصهيونية ، التي بقيت منذ قيام دولتها تنحت في لحم البقية الباقية من الفلسطينيين في أرض أجدادهم وآبائهم، محكومة بشعار "المزيد من الأراضي والأقل من العرب".

وقد تحدث عن هذه القضية، فيما بعد، الكاتب الفلسطيني نور الدين مصالحه في كتابه "أرض أكثر وعرب أقل" ، مراجعاً وموثقاً التصريحات الإسرائيلية في تلك الفترة التي كتبها زياد شعراً. في ذلك الوقت، كان من الطبيعي أن يتحسس الشاعر توفيق زياد جروح هذه الشخصية كعلامة فارقة، وليزيد مع رفاقه الشعراء في يقظتها على الواقع، وشد الانتباه إليه. ومن مظاهر جروح هذه الشخصية التي زاد دمها الساخن في يقظتها وتنبهها، ظاهرة اغتيال سلطات الاحتلال للكثيرين من الشبان العرب، وظاهرة نسف القرى العربية ومصادرة الأراضي الخاصة بالعرب، وبمقدار ما أدمت هذه الجروح جسم الشخصية الفلسطينية وقلبها، وبمقدار ما تعددت المذابح ضدها، زادت يقظتها، وعمقت وعيها على الوطن الذي ملأت الصهيونية ربوعه أطلالاً ومقابر، وبيوته بالقصص الحزينة المريرة "حتى تكاد إحداها تغرق السفينة" ولم يكن أحد يجهل، كما يقول توفيق زياد، سلسلة جرائم الاحتلال وقضاياها المتعددة، مثلما تجسدت مذبحة "كفر قاسم". ففي أول قصيدة حملت العنوان نفسه، فضح الشاعر هذه المذبحة التي رافقت العدوان الثلاثي على السويس سنة 1956، وكانت سلطات الاحتلال حاولت إخفاءها والتستر عليها فترة من الزمن، فيها أبرز صراخ المفجوع الذي لا يريد أن يصدق وقوع هذه المجزرة الفاجعة، وحشد كل عناصر المأساة، ورسم في المقطع الثاني منها زمان المجزرة ومكانها، وبعض مظاهر إعداد الجنود للمسرح، كأن بهم لوثة من جنون. "ثم استقدم الى نصه الضحايا الى الفخ المنصوب الذي يترصدهم حتى الموت، وحاول أن يتحدث عن المأساة، فعرض صور العمال العائدين بعد كدح النهار مثقلين بالكثير من الهموم الشخصية، ويحملون في صفو البسطاء وطيبتهم القليل من الطعام للصغار. يشغلهم بعض التفكير في أماني المستقبل الباسم. وقبل أن يفيقوا من هول مفاجأة رشقات الرصاص التي أحالت

"الضياء
بأعينهم
ظلمة
وفناء
...
ليحصد أجسامهم كالسنابل"
كان الموت قد مد ذراعه ليقصف خمسين روحاً منهم. ويبدو أن اشتعال المشاعر والتهابها لم يتيحا للشاعر أن يخمر التجربة الفنية في وجدانه، على الرغم من إخلاصه الذاتي للموقف والتعبير عنه، فتبين كأنه مهموم أكثر ما يكون بإعلان الجريمة وبالدعوة الى التكاتف والتوحد، وتعميق الإحساس بالمسؤولية الجماعية لدى الشعراء والناس. بقيت المعركة من اجل فلسطين والبقاء على أرضها أبرز معارك الشعراء، إذ إنهم تحملوا مع شعبهم أصناف الاضطهاد والعذاب اليومي، حتى تجسدت في وطنهم أيام اضطهاد يسوع المسيح وعذابه من قبل الجلاد نفسه، فاستحالت أرضهم غابة صلبان، نقرأ أحاسيسهم بالحصار فيها من خلال الشعر الكثير الذي قدموه. ويقدم الشاعر توفيق زياد، بتجربته النضالية الطويلة التي ولدت فيه عناداً صلداً صلادة الصخور التي في الجليل، نماذج شعرية يبدو فيها الداغية القوي، والمنظر الحكيم لصمود الشعب وإصراره ومقاومته. ففي حماسة مؤثرة كان يقول:

"كأننا عشرون مستحيل
في اللد، والرملة، والجليل
هنا.. على صدوركم
باقون كالجدار
وفي حلوقكم،
كقطعة الزجاج، كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار"

ولأنه يدرك غايات المحتل وآماله بتنظيف البلد من أهله وسكانه الأصليين، وإلحاقهم بالشعب الفلسطيني المشرد ليقطعوا الطريق على كل أمل بالعودة، فإن عناد الشاعر يأتي في مكانه الصحيح، فيحتمل جميع أصناف العذاب والتضييق والقهر في موقف من التحدي والإصرار يتصاعد فيه الى التظاهرات والى احتمال السجن، وأكثر من ذلك الى صناعة أجيال من الثوار والأطفال فبقاء الشاعر إنما هو وجود فاعل لشعب يخطط للبقاء والحياة في وطنه بوعي كامل وإصرار لا يلين، لأنه يعرف أن الأرض أرضه، ليس له على سواها أي ماض أو مستقبل.

"إنا هنا باقون
فلتشربوا البحرا ..
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار، كالخمير في العجين
.. هنا .. لنا ماض .. وحاضر.. ومستقبل
.. يا جذرنا الحي تشبث
واضربي في القاع يا أصول"

وهذا المقطع هو إصرار وتأكيد من الشاعر توفيق زياد على وجود شعبه الفاعل في أرضه، وتحت حكم الغصب مثلما في قصيدتين أخريين. ففي قصيدة "أهون ألف مرة" بجسد استحالة قدرة الحكام على أن يحرفوا شعبه عن طريقه النضالية، أو أن يميتوا فيه وميض فكرة، ويجعل ذلك سابع مستحيلات أسطورية يصنفها من خلال الحكايات الشعبية وقوة احتمالها، وهو لذلك يعمل في هدوء وعلى مهل.. يضع برودة الجليد في أعصابه، وإن كانت جهنم الحمراء في قلبه.
إنه يريد أن يظل عمله مضيئاً ومشعاً لا أن يقرقع، ويتجسم قلبه الكبير في قصيدة "نيران المجوس" حيث يرتقي في نضاله وصموده الى مرتبة القديسين الثوار، فلا ييأس ولا يمل .. بل يشد من ظلمة الحياة حوله خيط ضوء دقيقاً ينسج منه حياة المستقبل في دأب النمل ومثابرته، وهو مطمئن الى النهاية، لأنه واثق بحتمية العدل التاريخي، فيخوض معركته بنفس طويل وجلد من دون أن يفقد صبره، ويعينه على ذلك تسلحه بفهم القوانين الموضوعية التي تحدد، هي وليس أي شيء عابر، وجهة التطور التلقائي للتاريخ:

على مهلي
لأني لست كالكبريت
أضيء لمرة .. وأموت
..لأن وظيفة التاريخ..
أن يمشي كما نملي!!
طغاة الأرض حضرنا نهايتهم
سنجزيهم بما أبقوا
نطيل حبالهم، لا كي نطيل حياتهم
لكن..
لتكفيهم
لينشنقوا ..!!
هذا العناد والتحدي المتفاني في حب الوطن، رضعه زياد من ثدي أمه، "ففي ثدييها سر دمارهم". وقد أرضعته الأم الفلسطينية أبناءها ليتواصل كفاحهم ونضالهم من أجل الأرض والوطن.
زادت معركة البقاء والصمود التي خاضها شعراء فلسطين ببسالة في يقظة شعبهم، ومعها بدأت شمس هذه اليقظة تسطع وعياً في نفس الشخصية الفلسطينية، فهب توفيق زياد كمن بلغ سن الرشد على الإحساس العميق باليتم، ليعيد الى أمه وجودها وكيانها الحقيقيين، فيناديها من أعماق بئر المأساة والأحزان ليذوب في جروحها كي يداري هذه الجروح في همة الفتى الناقم العنيد، وفي تفاني راع عربي في الجليل وطهره.

أجيبيني ..
أنادي جرحك المملوء ملحاً، يا فلسطيني
أناديه وأصرخ:
ذوبيني فيه .. صبيني
أنا ابنك خلفتني ها هنا المأساة،
عنقاً تحت سكين
أعيش على حفيف الشوق..
في غابات زيتوني
.. وآكل حائط الفولاذ
أشرب ريح تشرين
وأدمى وجه مغتصبي..
بشعر كالسكاكين
وإن كسر الردى ظهري،
وضعت مكانه صوانة،
من صخر حطين !!..
فلسطينية شبابتي،
عبأتها، أنفاسي الخضرا وموالي
عمود الخيمة السوداء، في الصحرا
وضجة دبكتي،
شوق التراب لأهله،
في الضفة الأخرى

وبتصاعد الوعي الجماعي بالهوية الأصلية للشخصية الفلسطينية، تستكمل النظرة في أبعاد الموقف، ويضحى لزاماً على الشعراء داخل أسوار الاحتلال أن يمدوا أنظارهم نحو خارج هذه الأسوار بحثاً عن النصف الثاني للبرتقالة الفلسطينية التي شقها سكين الاحتلال بلا رحمة وبلا ضمير، ومن دون أدنى شعور بالإنسانية. وإذا كان شعراء الأسر غنوا للبقاء والعودة معاً، ففي أواسط الستينات كانت الشخصية الفلسطينية تستكمل مقوماتها الذاتية في المنفى، وكان لهذه الحركة صدى بعيد الأثر في عرب الأسر. ولعل توفيق زياد اجتاز خطوة أبعد من على جسر العودة لملاقاة النصف الثاني من الأهل واستكمال ملامح الهوية الناقصة.
ففي "رجوعيات" يبني جسر عودته للأحبة، حين يقول:

أحبائي برمش العين،
أفرش درب عودتكم،
برمش العين
وأحضن جرحكم،
وألم شوك الدرب،
بالكفين
ومن لحمي..
سأبني جسر عودتكم،
على الشطين!!..

ويبني توفيق زياد الجسر، ويصلب نفسه على الطرف الآخر وينتظر، ويرقب هبة الريح التي تأتي من الشرق:

لعل على جناح جناحها
يأتي لنا خبر
لعله ذات يوم يهتف النهر:
تنفس..أهلك الغياب
يا مصلوب .. قد عبروا!!
إن الهوية الفلسطينية عند توفيق زياد لا تستكمل جميع ملامحها ما دام الشعب تائهاً في منافيه، ومتشبثاً بأرضه، وغريباً عن وطنه وفيه.. وقدرة توفيق زياد على تصوير إحساسه العميق بالموقف نادرة المثال، وهو بارع جداً في استخلاص لب الخبرة الفنية الشعبية، دائماً، وفي استخدام روحها الأصيل باستمرار ليرفع بهما مادة أبنيته الفنية، بعينه في ذلك عمق إحساس الفنان في داخله، وتفاني الرجل، وصدق الإنسان، ولولاهما لما صلب نفسه يرقب هبة الروح الشرقية، ينتظر عبور أهله الغياب ليلتئم نصف البرتقالة، فيعود نبض الحياة فيها من جديد، وقد بلغ إحساس الشخصية المستيقظة بهويتها الفلسطينية أن راح توفيق زياد يهجس بيوم العودة الذي جاء ناقصاً قبل أعوام، ويعيش يوم اللقاء المنتظر الجزء المنفي من شعبه. ففي قصيدة "أشد على أياديكم" بروح يحدث أهله عن صموده الجبار:

أنا ما هنت في وطني
ولا صغرت أكتافي
وقفت بوجه ظلامي
يتيماً، عارياً،
حافي
حملت دمي على كفي
وما نكست أعلامي
وصنت العشب فوق قبور أسلافي
هكذا، على أرض المحنة ينطق توفيق زياد وزملاؤه من شعراء المقاومة بلسان شعبهم المصلوب، وهم يتقدمونه الموقوف على الصليب، إيماناً منهم بأن إعدام شعب بكامله هو كلام نبوي ينبئ بقيامته.

ومن ملامح الهوية الفلسطينية التي أهتم شعراء المقاومة اهتماماً مقصوداً بإبرازها، التراث الشعبي الفلسطيني، بصفته، كما في كل شعب، يمثل أصالة الشعب وموروثه ومعدنه الحقيقي. ولم يكن اهتمامهم بهذا التراث في مجمله مجرد عمل فني جمالي يوسمون به شعرهم، وإن كان ذلك بعض غاياتهم، وإنما الغاية الأهم في عملهم كانت غاية وطنية غرفوا لأجلها من هذا التراث سلاحاً قوياً في معركة الحفاظ على الشخصية الفلسطينية، فاستلوا كثيراً من عروق هذا التراث ونصوصه التي حبكوا بها قصائدهم باستعمالهم ألفاظاً وتعبيرات شعبية كاملة، أكان في مضمونها أم في روحها وأوزانها. وقصيدة "سرحان والماسورة" واحدة من التجارب التي أجراها توفيق زياد ونسجها على نغم الحكايات الشعبية الشعرية، وفيها يحكى حكاية سرحان العلي من عرب الصقر المنتشرين في غور بيسان. وقد نسف ماسورة بترول العراق- حيفا أيام ثورة 1936 الشعبية.

ويظهر توفيق زياد في هذه القصيدة من خلال ما يسقطه من صفات على بطلها، في شخصية الرجل الخشن القريب من التوحش، كأنه من خلال بطله هذا أحد الشعراء الصعاليك. وإذا كان توفيق زياد بطل كثير من قصائده في خدمة وطنه، ممثلاً روح الصعاليك العامة في خدمة مجتمعهم، فإنه يخلع بردة البطولة في هذه القصيدة على سرحان العلي بطل الحكاية، بعد أن تخلى عن دور المتقاعس الذي لا يبالي بغير شؤون حياته الخاصة، فأصبح من أبطال الثورة الشعبية.

ويبدأ الشاعر قصيدته على غرار بعض الأساليب السينمائية من نقطة في أواخر أحداث القصة، فيبدو لنا البطل يغذ السير الجاد في طريقه على مشارف الأفق. في ليلة كليلة الشنفرى، ثم يعود الشاعر بعد ذلك الى سرحان السابق، نموذج المتقاعس عن العمل الوطني الذي أثاره ظلم الانتداب – الاستعمار البريطاني حيث كان يطغي على البلاد والعباد، فيبين كيف انفجرت من أحشاء هذا الظلم ساعة الهداية أو ميلاد البطل، التي قادت من خلال العنف والقسوة الى النهاية في صورة مأساة أمجاد بطولية، أفرخت أثرها ووقعها في شكل أفراح شعبية تزخر ببهجة الفخر والاعتزاز ويجيد الشاعر ، على عادته في تجاربه المعمقة، إجارة واضحة في أجزاء القصيدة، فيبدو العمل القصصي في قصيدته بتصاعد في اتساق وتكامل كما يبدو الشاعر أيضاً خبيراً بالنفس البشرية، وذا كفاية في استيطانها وسير أغوارها، كاشفاً عمقها الوجداني، وقادراً على تجسيد مكتشفاته فيها معتمداً على خياله الخصب، فيرسمها بالكلمات على شكل أصحابها وفي تصرفاتهم، ومن خلال تفكيرهم بدقة وصدق، يصف بطل القصيدة – القصة في طريقه الى الماسورة، ثم يصف ليلة الشنفرى وسرحان --- كالقط يرى الإبرة في الليل الكثيف.

"إنه يعرف هذي الأرض كالكف.. كما
يعرفها كلب الأثر
كانت الدنيا مطر
..كتلة صامتة كان يسير
وبعينيه سكاكين، وشر مستطير
كتلة تنحت نحتاً دربها، بين الصخور
شرها كالذئب.. للصيد الكبير

ويعكس الشاعر ما يرعى في نفس البطل من وساوس الإنسان وهواجسه التي تزيد في يقظته وحماسته:

"إيه يا سرحان..أسرع!!
إن لليل عيوناً، ربما تقرأ أعماق الضمير
وترى ما في الصدور
إيه يا سرحان..أسرع
ولتكن رجلك، فوق الدرب، منديل حرير
لم لا يخلق للإنسان، أحياناً، جناح
كي يطير..؟!
ويترك الشاعر بطل قصيدته عل الطريق، ليعرض صورته القديمة – عندما لم يكن يفهم – بدوياً ساذجاً غفلاً، لا يرى في أشد الأوقات ضيقاً غير مصالحه. ويبرز الشاعر في بطله هنا عنصر الرجل الخام من خلال الواقعية الشعبية التي يجسدها على لسانه وألسنة مخاطبيه، فتأتي صورة صادقة مقتبسة من ساحة وسط البلد، أو من ديوانها، لتصور نموذج الجهل الطيب في الإنسان البسيط، فتتعمق نفوس أمثاله في يسر وإقناع:

" هز كتفيه: أنا..؟؟ يا ناس خلوني بعيداً عن
حكايات الوطن
عندما قالوا سرحان .. يا سرحان ..
هيا للجبال
هز كتفيه:
أنا..؟؟ ما دام جلدي سالماً
مالي وما للآخرين
لعنة الله..
على شكلك..
يا كتلة طين..!!
إن أقصى حالات الشعور بالأنانية الفردية والتقاعس عن خدمة الوطن، أجاد الشاعر تجسيدها في هذا الحوار الدافق بالحيوية والمشع بالحرارة صدقاً وواقعاً، وهو ما يزيد في إحساس الانبهار عندماتأتي ساعة الهداية، التي "رأت يوماً، نجوم الظهر عيناه"، ومن بعدها "عاش سرحان العلي مطارداً عاماً ونصفاً، وثائراً "ما درى حي مقره"، وارتفع سعر رأسه الى ألف جنيه، للذي يقتله، أو يكشف سره، وتلتمع في ذهن الثائر فكرة نسف ماسورة البترول .. فيفكر

آه.. يا سرحان .. لو..لو يتفجر
.. آه يا ماسورة البترول.. يا بنت الحرام..انتظري!

ويقف بنا الشاعر الى ما قبل انفجار الماسورة ببضع ثوان، ليطلعنا على ما نشرته الصحف. وفي الحلقة الرابعة والأخيرة من القصة الشعرية حيث ترثي البطل أمه، تحيل الأم هذا الموقف على عرس شعبي تمتزج فيه العروق من الفرح بعروق من الأسى والحزن، وتأتي فرصة توفيق زياد ليفرغ على لسان أم البطل صناديق من بضاعة التراث الشعبي:

وزعوا الحلوى وأكياس الملبس للكبير والصغير
بالهنا كل الهنا يا هنية
..
شيعوا لبني عمومته..يجيئوا مثل أسراب النسور
خبروهم أنه لما أتاني عينه جمر وشر مستطير
ناوليني فرشنا الأبيض يا أماه فالأمر خطير
بعت إسورة الزفاف وبعت خاتمي الأخير
.. عاد من غاراته يرتاح في حضني الوتير
.. خبروهم أنه إن جاء ثانية أبع ثوبي الأخير
بالهنا يا أمه زفي الى أحضانه أحلى صبية
بالهنا يا /ه بيعي ثيابك واشتري له بندقية

وكما قصيدة "سرحان والماسورة" كتب الشاعر قصائد مماثلة وخلاقة، وقر فيها الكثير من الروح الدرامية وعناصرها المؤثرة. ففي قصيدة "خائف يا قمر" يكاد عنوانها يلخص مأساتها حين يصبح ضوء القمر الوديع الجميل الذي طالما جلب مشاعر الهدوء والطمأنينة الى النفوس مثاراً للخوف والقلق فمنذ مطلع قصيدته يقول:

أنا خائف يا قمر!!
من الليل .. منك.. ومن ضوئك المنكسر

بحيث يكررها الشاعر تكراراً موفقاً، مما يحمل روح المأساة، فيضفي على القصيدة جواً من التوقع الرهيب لا يلبث أن يتحقق بعودة أخيه الكبير مضرجاً بدمائه، يلقيه الجنود في وجه أمه ملفوفاً في شرشف أبيض تلونه بقع من دمائه:

خذوه ..قتلناه..عند الحدود
..بدون بكاء ..بدون بكاء
لخص توفيق زياد في شعره سيلاً من الشخصيات الشعبية التي تلتقي في الإنسان الفلسطيني: الكاتب، الشاعر، السياسي، المناضل. وإذا كان ليس من السهل أن نفصل في الواقع بين هذه الشخصيات لتلاحمها تلاحماً طبيعياً، وتكوينها شخصية بملامحها الكثيرة، فقد أنصب الحديث عنه في هذه العجالة على شخصية الشاعر فيه، ونضاله من أجل هذه الشخصية بالكلمة أترى عناصر الحياة وأكثرها قابلية للخلود. وقد نستطيع القول إننا، في خارج فلسطين، قد عرفنا شعر توفيق زياد كله أو جله، وإننا نحاول الاجتهاد والنظر فيه، لكن أحداً في الخارج لا يستطيع ادعاء معرفة الجوانب الأخرى من توفيق زياد / السيل من الشخصيات، ولعل بعض عارفيه ومعايشيه من مواطنيه يتصدى لإغناء موسوعة الشخصيات الفلسطينية بالإحاطة بسيل الشخصيات التي تلتقي في هذا الشاعر الكبير وتخلده.

وقد يكون الشاعر توفيق زياد أقوى هذه الشخصيات روافد، وأكثرها خلوداً وثراء، وبهذا يأتي على رأس شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة، الذين طبقت شهرتهم آفاق الإنسانية بما جسدوه من الالتزام الواعي بقيمة الكلمة وفنيتها في معركة النضال في وطنهم، وبإدراك مسؤوليتها من دون أي استخفاف أو استهانة تشوب قدسية دورها، أو تهز أثر فعلها في تشجيع الأمل والحث على المقاومة، والتشوق الى تحقيق الآمال الوطنية. ربما لم يذكروا كلمة "فدائي" في قصائدهم، لكنهم يعنونها حتماً من خلال إيمانهم بتجربة الموت ، البعث التي تتسلط عليهم جميعاً، لأن من دون النضال والمقاومة والفداء والموت لن تغير أحوال وطنهم ولن يرفع الظلم عنه. لذلك فإننا نراهم، باستماتتهم في المقاومة وباستعدادهم لكل التضحيات مع الوعي العميق والتفاؤل الثوري، يملأون كثيراً من قصائدهم بهذا الموت/الحياة الأجمل، وعودة الأحباب المنفيين. وكما يرون في موتهم حياة لشعبهم، يرون في محنة شعبهم وعذابه خلاص الأمة وإحياء فلسطين بإعادة بنائها من جديد بروحها العربية الأصيلة، وبحضارتها الإنسانية العميقة. ولئن لم تبرز الدعوة الى تقويض كيان الدولة الصهيونية الساخرة في شعر هؤلاء الشعراء بحكم الأوضاع التي يعيشونها، فإننا نستطيع أن نتلمس هذه الدعوة متضمنة في شعرهم، في شكل رفضهم مضمون هذه الدولة وأسسها القائمة على العنصرية والطائفية والقهر والاغتصاب والاستيطان. فالشاعر عندما يناضل ضد هذه المقومات، التي تكون في مجموعها الدولة الصهيونية، فهو يحارب، بحق، حقيقتها الأساسية التي تميزها وبنيت عليها، ولا يمكن أن تستمر من دونها، ولا معنى لاستمرارها بفقد هذه المقومات. أما ما يمكن أن يحدث بعد ذلك، فليس من شأن الشاعر أن يقوم بحصر جزئياته وتفصيلاته لأن ذلك من شأن السياسيين.

بهذا الالتزام القائم على الوعي العميق والمسؤول تجاه القضية، تكونت لدى توفيق زياد ولأعوام كثيرة رؤية ثورية صافية وثابتة لأبعاد معركته ورسالته، ولم يكن ممكناً أن تهتز بتأثير أي طارئ مهما يكن ثقيلاً، وهو الذي يقول في مواجهة هزيمة حزيران / يونيو 1967، وما آلت إليه:

يا بلادي! أمس لم نطف على حفنة ماء
ولذا لن نغرق الساعة في حفنة ماء
من هنا مروا الى الشرق غماماً أسودا
.. من هنا، سوف يعودون، وإن طال العدى
..
لا تقولوا لي انتصرنا!!..
إن هذا النصر شر من هزيمة
نحن لا ننظر للسح، ولكنا
نرى عمق الجريمة

وهو الذي يقول أيضاً:

أي شيء
يقتل الإصرار
في شعب مكافح؟
أي حرب
قدرت يوماً، على
سرقة أوطان الشعوب؟
وطني..!! مهما نسوا
مر عليه
ألف فاتح
ثم ذابوا..
مثلما
الثلج يذوب..!!
وهو القائل أيضاً:

إن من يسلب حقاً بالقتال
كيف يحمي حقه يوماً – إذا الميزان مال؟!
ثم..ماذا بعد؟ لا أدري، ولكن
..كل ما أدريه أن الحق لا يفنى،
ولا يقوى عليه غاصبون
وعلى أرضي هذي، لم يعمر فاتحون!!..

إن ما حدث اليوم بسبب ضعف الأمة وتهافتها في هذا الزمن الرديء، هو عرض من أعراض الزمان كي يعتدل التاريخ ويأخذ سمته ومجراه المستقيم. وفي طريق عودته من أريحا، حيث تدهم توفيق زياد السياسي رائحة الدولة الفلسطينية، مات الفارس وهو --- شطر القدس، ويهجس بالوصول إليها، وخلد منه توفيق زياد / الشاعر – فهل مات فارس الجليل؟ ومتى يقوم ؟ إنه حقاً قام..




المعنى والمغزى في قصص "حال الدنيا" لتوفيق زياد
----------------------------------------------------
عادل الاسطة

يثير الدارس، وهو يقرأ مجموعة "حال الدنيا" )1975( لتوفيق زياد، السؤال التالي: هل كان الكاتب يرمي الى أبعد مما يقوله المعنى؟
لنعد، ابتداءً، الى كتابه "صور من الأدب الشعبي"، ولنر الأسباب التي دفعته الى الاهتمام بهذا الادب، يقر زياد صراحة انه قام بجمع هذا اللون من الأدب خوفاً عليه من الضياع، عدا انه يمثل قمة من القمم الأدبية. وقد قام زياد باعادة صياغته بلغة عربية سليمة فصيحة ما أمكن. وان لم تكن قصص "حال الدنيا" كلها جمعاً من أفواه الناس، في القرى وفي المدن، فهناك قصص تبدو من تأليف زياد نفسه، مثل قصة "النملة الملحدة"، هذه التي لا تخلو من رمز شفيف يفصح عن نفسه بنفسه. انها ذات مغزى واضح هو ما يكشف عنه بعدها الرمزي الذي ارتبط بزمن كتابة القصة وما كانت عليه الاوضاع في حينه، وربما لا يفهمها جيداً الا من عاش تلك اللحظة الزمنية، او من عاد الى الاوضاع السياسية السائدة في حينه، وقرأ القصة مقترنة بها. وأرى ان قارئاً يعيش الآن، ولم يع جيداً ما كانت عليه الاوضاع ما بين 1945 1990 لن يفهم القصة كما يفهمها شخص كان يعيش في تلك المرحلة وشاهداً عليها.
واذا ما عاد المرء الى نقد زياد، وهو قليل، يلحظ انه ما كان من الادباء الذين يميلون الى استخدام الدال الواحد للتعبير عن مدلولات متعددة، فهو مثلاً تناول اشعار محمود درويش، وكتب عن دال القمر فيها. ولما كان درويش يستخدم هذا الدال لمدلولات مختلفة لم يدركها زياد جيداً، طلب منه - أي طلب زياد من درويش- الا يظلم القمر ويحمله اكثر مما يحتمل، ولم يستسغ المدلولات غير القاموسية لهذه المفردة.
واذا ما عاد المرء ايضاً الى المدرسة الادبية التي صبغت كتابات زياد وأثرت عليها، وهي الواقعية الاشتراكية، ادرك ان الوضوح وعدم التعقيد سمة اساسية من سمات أدب زياد، شعراً ونثراً، وان مدلول داله لا يتعدى، غالباً، ما يقوله الدال، وان لاحظ المرء ان ثمة رمزاً شفيفاً، احياناً، يبدو من خلال بعض نصوصه، كما في قصة "النملة الملحدة". ولا يعني هذا ان زياداً لم يكن يعرف المجاز والاستعارة وضروب البلاغة الاخرى. انه يعرفها بالتأكيد، ولكنه لم يكن يميل الى الغموض، وحتى تشبيهاته واستعاراته، في اشعاره، كانت تفصح عن نفسها بنفسها.
ولا ينفي ما سبق ان تقرأ نصوص زياد، من كتاب آخرين، في زمن آخر، قراءات يذهب اصحابها الى ان القصة او القصيدة لا تخلو من مغزى، ولا يعقل ان يرمي زياد فقط الى ما يقوله المعنى. ويمكن ان نأخذ بهذا انطلاقاً من مقولات نظرية التلقي التي ترى ان العلاقة غدت بين النص والقارئ، لا بين المؤلف والنص.. هنا طبعاً يمكن ان يبحث القارئ عن المغزى في النصوص، ويمكن ان يؤولها تأويلات كثيرة، فعنوان ما، مثل "كيف اصبح الحمار شيخاً للعسكر" يمكن ان تدرج تحته المدلولات/ التأويلات التالية:
- كيف اصبح الاستاذ (س) عميداً للكلية (ص)؟
- كيف أصبح الرئيس (ق) رئيس الدولة (ك)؟
- كيف اصبح رئيس الجامعة (ع) رئيساً لها؟
- كيف اصبح الملك (ن) ملكاً للمملكة (ل)؟
- كيف اصبح (ج) عميداً للبحث العلمي في الجامعة (ح)؟
وهكذا دواليك.
هنا يصبح دال العنوان ودال القصة ضرباً من الثورية، اذا قصد القارئ ذلك. ثمة معنى قريب غير مقصود، وثمة معنى بعيد مقصود، ويعتمد الامر في النهاية على اطراف اخرى غير النص نفسه، يعتمد على كاتب النص، وعلى قارئه، وعلى من يتكلم به وعلى سامعه وما فهمه منه. الدال ثابت والمدلول متحرك، يقول البنيويون وقصة زياد هي نفسها، يوم كتبها ويوم نقرأها الآن. واذا كانت العلاقة، زمن كتابتها، بين زياد ونصه، فانه الآن غدا في عالم آخر ولم يبق الا نصه وقارئه، والاخير يتغير بمرور الزمان، وربما فهم القصة كما يقول ظاهرها وربما فهمها من باب التورية. ولو كان زياد على قيد الحياة لسألناه عن قصده من وراء كتابة القصة في حينه، وعنده سيكون الخبر اليقين. ربما يفصح عن قصده وربما يقول لنا بيت المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر القوم جراها ويختصم
ولكننا نتساءل: اذا كان زياد يرمي ابعد مما تقول القصة "كيف اصبح الحمار شيخاً للعسكر" فمن هو الحمار؟ هل هو الحاكم العربي الذي جاء الى سدة الحكم عبر الدبابة والمؤامرة والخداع؟
لقد هاجم زياد حكاماً عرباً كثيرين وذكرهم بأسمائهم، عدا انه لم يعش في العالم العربي حتى يكتب قصة ذات مغزى، ذات دلالة رمزية، كما فعل وهو يكتب عن دولة اسرائيل التي كان يقيم فيها، وهو ما بدا في قصة "النملة الملحدة"، فهل المقصود بالحمار دولة اسرائيل؟
وهنا يمكن ان نفيد مما تقوله المناهج النقدية، ثمة مناهج تركز على الوصف في اثناء تناول نص أدبي، مثل البنيوية، وثمة مناهج اخرى يبحث اصحابها عما وراء الكلمات، لانهم يرون ان النص قابل للتفسير وللتأويل، مثل التفكيكية والتأويلية، فهل علينا ان نلزم ناقداً ما بمنهج واحد؟
ولو افترضنا اننا قرأنا نقدين لقصة واحدة، لناقدين مختلفين، احدهما يصف ظاهر النص، وثانيهما يؤول النص ويبحث عن مراميه. هل نقول النقد الاول ليس نقداً والثاني هو النقد ولكن ماذا لو أوّل النص غير ناقد.. تأويلات مختلفة، ولم يكتفيا بما يقوله ظاهر النص؟.. ترى أي التأويلات نقبل وايها نرفض، وهناك نظريات نقدية ترى ان قراءة نص واحد من قارئين مختلفين تؤدي الى قراءتين مختلفتين، بل انها تذهب الى ما هو ابعد من ذلك، وترى ان قراءة نص واحد من قارئ واحد في زمنين مختلفين تؤدي الى قراءتين مختلفتين.
ثم ماذا لو اختلف موقف صاحب النص بعد كتابته؟ لو كان رمى زمن كتابة النص الى قصد ما، ثم غدا هذا القصد يسبب له مشاكل وتخلى عنه، وقال انني لم أرم الى كذا وكذا، ولم يكن، من قبل، اوضح مرماه. هناك ادباء كثيرون كانوا، ذات نهار، يؤمنون بفكر ما ويكتبون انطلاقاً منه، ثم تخلوا عن افكارهم. وستسبب قراءة نصوصهم، اعتماداً على فكرهم السابق، لهم العديد من الاشكالات. ألا نرى ان أدباءً كثيرين تخلوا عن نصوصهم الأولى؟
وليس هناك من شك في ان مسؤولية الدارس هي توضيح هذا كله وتفسيره وتقديمه للقارئ، ولكن ماذا بشأن كاتب لم يقل الكثير حول نصوصه؟
اعترف اميل حبيبي، بأيام قليلة قبل موته، بأنه حين كتب "المتشائل" كان يكتب عن نفسه. ترى هل كان اميل سيعترف بهذا، حين انجز نصه في العام 4791، لا شك انه لو فعل لاثار حوله ضجة كبيرة ونقاشاً يدخل، يومها، في باب المحرمات، لأن السؤال الخطير الذي كان سيثار هو: هل كان لاميل حبيبي صلة بالمخابرات الاسرائيلية؟




توفيــق زيـــاد حارس الأبراج الطينية
--------------------------------------
جعفــــر حســـــن/ناقد من البحرين

قنديل الذاكرة
عند الكلام عن توفيق زياد، لابد أن نرجع بالذاكرة قليلا لنتلمس ما يمكن أن يعنيه توفيق زياد بالنسبة للحالة الشعرية داخل الأرض المحتلة، وما يعنيه بالنسبة للنضال الوطني الفلسطيني بين عرب 48، ولتحديد الملامح الأولية لهذا الأدب نشير إلى أنه لا يمثل «بكاء ولا نواحا ولا يأسا ولكنه إشراق ثوري دائم وأمل يستثير الإعجاب(../..) يتأثر الشعر العربي في الأرض المحتلة بسرعة مذهلة وبتكيف كامل مع الأحداث السياسية العربية ويعتبرها إكمالا لموضوعه وجزا من مهماته.»(1)
ولعلنا نقسم النضال الفلسطيني منذ الكارثة الساحقة بقيام الكيان الصهيوني عام 48، وحركة الهجر الإجبارية التي فرضتها العصابات الصهيونية، وسياسة تدمير القرى التاريخية، والسطو على المنازل ومصادرتها وتدمير بيوت المقاومين، فانقسام عرب فلسطين إلى عرب الداخل وعرب المهجر بتنوعاته، ونشأت حركة المخيمات سواء في الشتات أم في الداخل الفلسطيني التابع للدول العربية(مصر، سوريا، الأردن).
يقف الكثير من مؤرخي أدب المقاومة الذي انبثق بسرعة مذهلة في فلسطين المحتلة، على عام النكسة، والتي انكشفت فيها الأنظمة العربية المهلهلة أمام تنظيم عسكري ابرز تفوقه الإداري فخسر العرب ما تبقى من فلسطين التاريخية(الضفة الغربية وقطاع غزة) بعد حرب حزيران 67 ومن ثم نسوا حدودها، ولعل الأمر لا يخلو من تأمل في أن تتوافق الهزيمة العربية مع انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني بما كان قائما آنذاك من منظمات فلسطينية وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تشكل فتح الثقل الأكبر فيها من حيث التكوين، وتطور أدب المقاومة في فلسطين بشكل لافت، ذلك الأدب الذي كان يلعب دور المواجهة دائما مع المحتل الغاصب.
والهجرة بالنسبة للذاكرة الفلسطينية لم تتوقف عند ترك فلسطين وإن ظلت هي الحلم المنشود، فهناك حركة النزوح من الأردن والتي ركزت فيها المنظمات الفلسطينية على لبنان بعد أحداث أيلول الأسود، كما تلتها حركة النزوح بعد الخروج من بيروت 82م نحو تونس والسودان واليمن، ومن ثم خلق التوجه نحو التركيز على العمل في داخل الأرض المحتلة وهو العمل الذي مهد لحركة مضادة للهجرة بالعودة إلى الداخل، وإن كانت قليلة العدد بعد اتفاقات السلام.
شتات لداخل مفتوح وخارج مغلق
ولعل تأملا في الوضع الفلسطيني، وعلاقة الإنسان العربية بمسألتين تشكلان خصوصية بالنسبة للإبداع الشعري فيهما، فمن جهة يشكل المخيم في الشتات(سوريا، الأردن، لبنان) بؤرة ثورية حملت معها الرفض وحنين العودة للوطن السليب، مما خلق صورا متعددة عند شعراء الشتات تتعلق بصورة الوطن والأماكن التي يتخلق الحنين إليها والإصرار على النضال من اجل العودة كحق ثابت للفلسطيني، وإذكاء الحلم الذاهب صوب فلسطين، فالمخيم مفتوح في المتخيل على الأرض الموعودة، وتتهيأ النفس نحو الحركة إليها حتى لو بالعمل الفدائي، على الرغم من حصار الأنظمة العربية لهذا المخيم بطرق مرئية ولا مرئية، لذلك كانت القصائد المكتوبة في مثل تلك الأجواء تميل نحو التشكل الدرامي الباكي.
.وفي هذا الصدد تشير سلمى خضراء الجيوسي بقولها: «والفجيعة أو مكان الفجيعة لا يتم بهذا المعنى أيضا لشعراء المقاومة داخل الأرض المحتلة. إن شعر المقاومة يختلف عن شعر النكبة ـ انه يواجه عدوا غريبا، جسما خارج جسد الأمة، كيانا هجينا حاضرا محدد المعالم والملامح. انه عدونا أمام العالم. فالتحدي قدر، والعداوة الشرسة المشاكسة أمر مشروع. إنهم ، إي شعراء المقاومة، لا نحن، ورثة ابراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود، أما نحن خارج الأرض المحتلة ، فصراعنا انسكب في أعماقنالان عدونا الأول، كما اكتشفنا باكرا، كان قابعا في ذواتنا ـ انك لا قدر على التحدي إزاء الأخر، إزاء أعدائك الغاصبين القساة، منك إزاء نفسك. إزاء نفسك تتبدل نغمة صوتك، وإذ تبدأ بإدانة ذاتك، فغن صوتك يتوهج بالحزن أيضا، وبالفجيعة. والبطولة في شعرك تتلون هي نفسها بلون الفجيعة ومهما حلقت في شعر فجناحك القوي كسير وتنكفئ، لا بد، راجعا. لاجئا من نفسك على نفسك، ترفضها، ترفض اهلك وأشقاءك وتتحداهم لأنهم لم يتحدوا الزمن، ثم يخنقك صوت الفجيعة.»(2)
كما كان المخيم أرضا في الداخل يرى قاطنه الفلسطيني بلادا على مرمى حجر مالا يستطيع الوصول إليه فيشتعل الحنين إلى الأمكنة القديمة، وتقوم المرارة بما يفتقده المخيم من وسائل حفظ كرامة الإنسان والأمن المستباح من قبل جيش يستمرئ قتل الأطفال، وبالتالي ظل المخيم في هذه الحالة محاصرا بالفعل في قلب الوطن. كذلك ظل جزء من عرب فلسطين في مدنهم، وحملوا الجنسية والهوية للدولة العبرية، لكنهم لم يتخلوا عن هويتهم الثقافية، ولا نضالهم السياسي منذ بدأ الوعي يتخلق لديهم بطبيعة الصراع، وبالتالي خرج الرفض الممتزج مع الحنين ليتشكل في النهاية هذا الغضب الخارجي الذي نشهده في قصائد توفيق زياد، والغضب بتمازج مع الوصف الخارجي أيضا لينفتحا على الحنين الهامس(3).
سيرة مكتملة أو تكاد
توفيق أمين زياد، شاعر وكاتب سياسي فلسطيني من مدينة الناصرة، ولد يوم السابع من أيار(مايو) عام 1932 وتوفي عام 1994م ، في حادث سير عندما كان عائدا ليلاقي ياسر عرفات، وقد توفي والده منذ الصغر فاضطر الاعتماد على نفسه في كل شي وحرص على إكمال تعليمه. سافر إلى الشام وتعلم مهنة التمريض لمدة ثلاث سنوات. كان حلمه أن يصبح طبيبا لكن الظروف السياسية والاقتصادية عرقلت برنامجه, أما والدته فقد اشتغلت في الأرض وفي البيت، وساهمت في العمل مع زوجها. كانت تنهض في الفجر وتعجن عشرات الأرغفة لبيعها في الدكان، لذلك أحب توفيق زياد أغنية سيد درويش التي تقول: «الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية». شغل منصب رئاسة بلدية الناصرة حتى وفاته ، كما كان عضوا في الكنيسيت الإسرائيلي لعدّة دورات انتخابية عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح.
لعب توفيق زياد دورا مهما في إضراب أحداث يوم الأرض في 30 مارس 1975م، وقد استهدف بالاغتيال من قبل العدو إلا انه نجا بأعجوبة، لتوفيق زياد العديد من الأعمال الأدبية ، كما قام بترجمة عدد من الأعمال من الأدب الروسي ومن أعمال الشاعر التركي ناظم حكمت.
أعماله الشعرية:











أعماله الأخرى:




أمام البرج
يبدو أن الشاعر مهما كانت شاعريته يعيش في عصر يتواصل فيه مع شعراء من أمثاله، وهو يمتح من تراث هم في نهاية المطاف ورثته الحقيقيون كما شكل ابراهيم طوقان ومن سبقهم من الشعراء الذين ارسوا تقاليد الشعرية المقاومة، وعبروا بما استطاعوا عن التزامهم بقضايا شعبهم، فهم في سدة المواجهة، تلك التي تعبر عن التطلع الإنساني نحو الحرية والإصرار على ثلاثية أرفض أقاوم، انتصر، على الرغم التصدعات التي تحدث.
فنجد أن توفيق زياد ينتمي إلى ذات المدرسة التي ينتمي إليها كل من سميح القاسم، ومحمود درويش وسالم جبران(5) على أنهم جميعا قد انطلقوا من تجربتهم النضالية في أوساط الجماهير العربية في فلسطين المحتلة، وانتمى بعضهم إلى التيار اليساري، ولكن في النهاية غادروا تلك المواقع لانكشاف الوضع الصراعي على مستوى الوجود، وبالتالي كان الخيار الأخر هو الانحياز نحو الجماهير العريضة، وربما لذلك تبدو الخطابية واضحة في قصائدهم وتظل مستمرة إلى حدود قريبة عند سميح القاسم، وظلت كذلك حتى النهاية عند توفيق زياد، ولكن محمود درويش يغادر الخطابية ويوغل في الفنية، ولكنه كان يعود إليها بين فينة وأخرى، ويشتغل على الموضوعات التي تلامس سخونتها جماهير محبي شعره. وبطبيعة الحال ينتمي الكل لشعراء المقاومة سواء على المستوى العربي أم العالمي.
المكان بين التحقق والغياب
يبدو أن المكان يشكل هاجسا في التجربة الشعرية الفلسطينية، هذا المكان المتمثل في أسماء المدن والقرى والبلدات، وما يمثله المخيم، والسجن، الزقاق الشارع.. الخ، باعتباره ذا علاقة بالذات التي تنبني من خلال حميمية البيت الذي تكبر دوائره إلى الأماكن المختلفة، وفقدان البيت يؤدي إلى اختلال في الذات بشكل كارثي يعبر عن حجم المأساة، ولكن المكان في الشعرية العربية الفلسطينية لا يقتصر على فلسطين بل يمتد إلى دول وقارات العالم، وذلك ما يمثل تلك النزعة الإنسانية في الشعر الفلسطيني، فبالرغم من حدة الصراع بين الفلسطينيين وغاصبي أراضيهم، لا نجد نزعة شوفينية في شعرهم، بل نرى أن هناك نزعة إنسانية مفتوحة على الآفاق الرحبة لكل البشر، وتتفاعل الشعرية مع الأحداث والأماكن المختلفة كما تظهر في دواوين توفيق زياد فيكتب عن موسكو ويشير إلى بغداد، سيبيريا واوكرانيا وليننغراد، والسودان وأم درمان.. الخ.
وفي دراسة لنمر ابراهيم موسى يرصد فيها تكرارات ذكر الأمكنة في الشعر الفلسطيني فيقول: «توفيق زياد أورد ذكر البلدان الأجنبية 88 مرة والبلدان العربية 77 مرة، الخيمة والمنفى 5 مرات، فلسطين 47 القارات 6 مرات وهي من أقل المرات ذكرا في حال ورودها بين مجموعة مدروسة من الشعراء الفلسطينيين، مع العلم بأن القارات لم تذكر لدى كل الشعراء الفلسطينيين» ونحن نورد تلك الإحصائية لنشير إلى عدم اكتمال مشروع بعضهم الشعري إذ لا يزال بعضهم منتجا للشعر وبالتالي أن الاستقصاء يقف في حدود زمنية محددة، ولكنه ربما يكون أكثر صدقا بالنسبة لتوفيق زياد على اعتبار أنه قد أتم قوله الأخير بالموت(6).
كما يبدو السجن مكانا غير مستقصى في الدراسة، وكذلك الأماكن المتخيلة التي تقوم في الصورة الشعرية فيشير عز الدين المناصرة إلى «رغم أن المكان حيز له كيان شبه مكتمل من وجهة نظر سكانه، وله حدود فعلية وحدود مجازية متصورة إلا أن، الحدود يمكن أن تخترق. فالكيانية المجازية لا تتطابق بالضرورة مع الكيانية الفعلية. لأن المكان ـ الأمكنة تنتقل معنا وفينا خارج حدودها. المكان فضاء مغلق رغم انه مفتوح وهو فضاء مفتوح رغم أنه مغلق»(7).
ازدواجية السجن
توفيق زياد وسميح القاسم قد جربوا سجنا مزدوجا معنويا وماديا فعليا في الوطن، ففي الأولى كان السجن حالة من الغربة تنمو نتيجة للوضع المعادي، ذلك الوضع الاستيطاني الذي يريد اقتلاع الفلسطيني من الجذور، عبر محو تراثه وتدمير تاريخه وما يدل عليه، لذلك تدعي دولة الاحتلال بأن الأغاني التراثية الفلسطينية تنتمي لها، وبالتالي تدمير الحصيلة التراثية من ذاكرة جيل لهدم ثقافة المجتمع تمهيدا للقضاء النهائي عليه، وكذلك حاولت نسبة الأكلات الشعبية في المنطقة لتاريخها كما حدث مع الحمص وغيرها، مع أن الأمر يبدو مضحكا ولكنه في الحقيقة يشكل تهديدا للهوية، وبالتالي يعتبر أمرا غاية في الخطورة.
وقد عانوا سجنا حقيقيا فد دخلوه كل بتهم مختلفة تحت نير الاحتلال في الداخل كما تظهر في قصائدهم(راجع قصيد جوانتنامو لسميح القاسم) وإن كان العنوان يشير إلى السجن الأمريكي الأشهر في كوبا الشيوعية، وهي من المفارقات الطريفة في العالم(سجن رأسمالي في دولة شيوعية!)، إلا أن سميح القاسم يصدر من تجربته في سجون الاحتلال ويمكن تلمس ذلك من طبيعة البيئة والمعاناة، وقصيدة(من وراء القضبان لتوفيق زياد)(8) وقصيدة «سمر في السجن»(9) حيث وقع القصيدتان بتذييل يحمل اسم المكان(سجن الرملة).
مظاهر في القصيدة
وفي السجن تصادر حرية الإنسان، ويحاول السجان كسر إرادته ومحوها، فينهض مقاوما عبر استرجاع تراثه الذي يتجاوز حدود فلسطين العربية إلى بحرها العربي الكبير، وهو على يقين من أن دولة الكيان لا تستطيع أن تمحوه لوجوده خارج أفق سيطرتها الفعلية، مكتوبا وحاضرا باعتباره تراثا حيا في الثقافة العربية، فيستدعي السير الشعبية والأمثال والكلمات الدارجة التي تحفل بها ذاكرة الشعب مستعديا روح المقاومة.
«أتذكر.. إني أتذكر../ لما كنا في أحشاء الظلمة نسمر
وربابة «إبراهيم» تعمر/ تحكي.. عن «عبس».. عن «عنتر»../ عن عبلة.. عن سالفها الأسمر/ عن «جساس»../ و«أبو زيد»../ و«دياب»../ وعن التغريبة.. والأحباب الغياب../ وعن «البطلين..كأنهما جبلين»../ وعن السيف المصقول../ «أبي الحدين»/ وعن العشاق.. عن الحب الأخضر.»(10)
على الرغم مما يبدو من خارجية دخول سيرة عنترة بن شداد، وحرب البسوس، وتغريبة بني هلال وغيرها في شعر توفيق زياد إلا أن وظيفتها الفنية هنا ليس بناء القصيدة، وإنما الاحتفاظ بالهوية متماسكة بانتمائها لبحرها الثقافي الذي لا ينضب، ويمكننا الإشارة إلى ذلك الاشتغال المستمر على التراث الشعبي عنده فيصدر قصيدة(يا جمال) بـ «بعض مقاطع من القصائد التالية هي في الأصل أغان شعبية متناقلة جيلا عن جيل، في منطقة الجليل، وقد قمت بنقلها من العربية الدارجة إلى لغة «تموت الحمارة..»» إشارة إلى الفصحى(11).
ويمكننا ملاحظة بساطة التركيب اللغوي، واشتغال اللغة في مستوى يقترب من التداولي، وهو أمر يثير مسألة الموقف من الشعر الملتزم الذي يحاول بواقعية التواصل مع الجماهير إلى درجة فجة بعض الأحيان، فتجد الاشتغال على الصورة الفنية في داخل القصيدة لا يذهب بعيدا، فهي لا تنمو نموا عضويا عموديا في القصيدة، وإنما تتدرج أفقيا، ونجدها تنتهي في كثير من الأحيان عند نهاية الشطرة التي تتميز بالقصر العام، وتعتمد على تراكيب قليلة العدد في اللغة، وهي مسألة لا تحدد عمق وسطحية القصيدة، ولكنها تشير إلى فنيتها ومدى خروجها على المألوف، لذا يظهر الاعتماد على التشبيه، فلنسمعه في قصيدة(عن النبيذ واللهب) حيث يقول:
«أردت أن أراك/ اليوم يا شاغلتي ، أردت أن أراك/ فقطفت وردة كأنها عقيق/ وقفت عند منحنى الطريق/ وعندما طلعت كالصباح»(12)
وهو اتجاه معروف في شعر التفعيلة، وتميل قصائده على رواية حكاية ما، وتلك الحكاية تدل على اكتمال بنية القصيدة فنيا، وهي النقطة التي يحس عندها المتلقي بنهاية القصيدة واكتمال الحكاية في داخلها في ذات الوقت، وبالتالي نجد أن قصائده ترتكز على إبراز المضمون حتى وإن كان على حساب الشكل الفني فلنستمع اليه في قصيدة(حكاية تطول) حيث يقول:
«أحس أنها حكاية تطول/ ورحلة على جناح بلبل جميل/ التقط النجوم../ أشكها قلادة، لعنقك الصغير/ وفي المساء../ وحينما تنطفئ السماء../ وتحضن الوسادة البيضاء رأسك الغرير/ تنام في سلام../ قلادتي..تنام في سلام/ مع اليمام/ في صدرك المفتح الحرير/ أحس أنها حكاية تطول/ ورحلة على جناح بلبل جميل/ لا تسألي عرفت كيف ، لا تعقدي الأمور/ عيناك تحكيان تمليان ما أقول.»(13)
وإن تميز بتسخير الإيقاع الذي يغري أذن المتلقي المتعود على الإيقاع البارز في الشعر والمتناسب مع الاشتغال على الحفظ والترديد وبالتالي تحث المتلقي السماعي على الإنصات، على الرغم من تنوع القافية(اللام(5) مرات، والميم(4) مرات، وكل من الراء والهمزة تكررت مرتين)، ولذلك يتم تكرار الكلمات والمقاطع(حكاية تطول(3) مرات)، بينما ينتقل في الخاتمة إلى(تحكيان) وهو جناس ناقص مع(حكاية)، وكل من(السماء وتنام وسلام) تكررت مرتين في القصيدة، وفي ذلك تناغم شكلي، يساعد على التوصيل، وتبرز صفة التكرار لتبدو ذات علاقة بالقصيدة الكلاسيكية، ولعل ذلك مرده إلى تلك العلاقة بالخطابية التي تتوجه للجمهور كما سبق أن اشرنا.
بين السدم
وهنا نحاول التكلم عن ظاهرة عادة ما نراها، وتتمثل في لجوء شاعر العمود إلى تكرار قراءة البيت أثناء الإلقاء الخارجي للقصيدة، سواء أكان ذلك بعد التصفيق أو لإحداث الأثر المتوقع في المتلقي أثناء الإلقاء، ولكن تكرار المفردات والتراكيب داخل قصيدة التفعيلة تجعل الشاعر يهرب من الحاجة لتكرار المقول الخارجي في الإلقاء مادامت القصيدة تكرر داخلها ما يريد لتعطي الأثر المطلوب، وذلك ما نجده هنا في قصيدة لا تتجاوز ستة عشر شطرة، ولعلها من الناحية الفنية تسعى إلى ما بات يعرف بالتوتر «فالقصيدة الغنائية تعتمد على الاستعارة التي بدورها تتصف بالغموض مما ينشأ عنه «توتر» ينتظم أجزاء القصيدة بأكملها حتى يصبح هذا التوتر هو في النهاية، عمود التوازن في الكل المتكامل العضوي»(14).
الناي والشجرة
ويساعد ذلك التوجه الخطابي بروز تلك النبرة العالية للإلقاء، كما يفعل سميح القاسم بصوته العريض. وعلى الرغم من أن توفيق زياد لا يمتلك تلك القدرات الصوتية التي يمتلكها سميح القاسم، كما سمعت صوته بعد رحيله مسجلا على الانترنت، إلا انه يرتكز في كتابته على النبر والقافية والجناس الناقص.. الخ من البديع.
وفي ظاهرة ملفتة يمكننا الوقوف على تلك العلاقة بين الشعر المقاوم والغناء، فنجد أن المقاومة ذاتها عندما أنشأت فرقها الفنية التي تنتمي وتلتزم بقضايا شعبها، لم تجد أمامها إلا ذلك الشعر المقاوم لتغنيه، وهو أي الشعر المقاوم أعطى ذلك الشعر مساحة متفردة للانتشار، على الرغم من انه يصد ضمن بيئة معادية تماما، ويصعب وصوله بحكم آلة التوزيع العرجاء في الوطن العربي.
وبالنسبة لتوفيق زياد فقد لحنت وغنت بعض قصائده وانتشرت في أرجاء المعارضة العربية في عموم الوطن العربي كما اضن، وقد غنت قصائده أكثر من فرقة موسيقية، ولعل اشرها ما غناه مارسيل خليفة(أناديكم اشد على أياديكم) في لبنان، والتي غناها أيضا شيخ إمام في مصر، وغنتها فرقة فلسطينية أيضا، كما علمت أن الفنان جابر اليمني قد غني قصيدته(عمان في أيلول).
أمام الصخرة
رحل توفيق زياد فجأة، لكن ديوانه ظل علامة بارزة في الشعر المقاوم على المستويين العربي والعالمي، وعلى الرغم من أن أكثر من دفع ثمنا باهظا هم فلاحوا القرى الفلسطينية ومازالوا يفعلون، ونتيجة لكون أولئك الفلاحين يتحصلون على تعليم قليل نسبيا، ولعل ذلك هو الذي قلل من عدد الشعراء الذين ظهروا من القرى، كما نأخذ في الاعتبار أن دولة الاحتلال قد محت الكثير منها، ولم تعد إلا أطيافا في الذاكرة، ولعل معظم وأهم شعراء المقاومة هم الذين ظهروا من المدن الفلسطينية العريقة.
نشير إلى ظاهرة ابتدأت في شعر توفيق زياد، وكما يبدو عدد لا بأس به من القصائد القصيرة، التي نرى أنها قد مهدت الطريق نحو كتابة قصيدة اللمحة بشكل مبكر نسبيا على طريقة قصائد الهايكو اليابانية في الشعر العربي، وهو ذات الاتجاه على ما يبدو الذي صارت تسير عليه قصيدة النثر.
ولعل ظاهرة أخرى تكمن في التكرار الداخلي للمقاطع والكلمات التي يمكن حفظها بسهولة وتردادها بين الجمهور، والتي سبق أن اشرنا إليها في الدراسة، هو ما عولت عليه القصيدة المقاومة للوصول إلى القطاع الأوسع للجماهير، كما أن إدراك بنية الغناء العربي الذي يقوم على تكرار المقطع مرتين على الأقل في الغناء المنفرد، وحتى غناء الكورس، كما يبدو الأمر واضحا في البناء الفني للأغنية، وبالنظر إلى تكرار بعض المقاطع في التراث الغنائي الشعبي، وهو تكرار يشكل لازمة بنيوية للغناء العربي. ووروده في القصيدة المقاومة ربما ساعد على تحولها إلى أغان بدأت تنتشر علنا بعد أن كانت تتداول سرا، نتيجة منعها من قبل السلطات، وذلك ناتج عن سقوط أو تراخي طرق المراقبة القديمة، وانفتاح الفضاء واشتعال الانترنت، ولعلنا إذ تجاوز العالم محنته المالية نقبل على ثورة أخرى جدية في الاتصالات ربما تسمح للأدب بالانتشار الأوسع بين الناس.









  رد مع اقتباس
/