۩ أكاديمية الفينيق ۩ - عرض مشاركة واحدة - أرواح مستعملة
الموضوع: أرواح مستعملة
عرض مشاركة واحدة
قديم 27-12-2013, 07:00 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الشرادي محمد
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية الشرادي محمد

افتراضي أرواح مستعملة

- حبنا الكبير ارتباط وثيق بين روحين...و الروح مهما حلقت بعيدا لابد أن تعود إلى توأمها.
كانت الكلمات تخرج من بين شفتيه الشاحبتين كطيور مهيضة الجناح سرعان ما تساقط على صدره،و هو ممدد على الفراش. وضعت سبابتها على ثغره المتعب.كلامه يفقدها السيطرة على شؤون عينيها.أحس بالوهن يهيمن على كامل جسده. برودة غريبة تصعد من مخمص قدميه ، و عند كل مفصل تحدث ألما حادا. لحظات وجع قاسية حفرت في أعماقها أخاديد ألم لن تنمحي أبدا. تأملها بعيون سقيمة. رسم على شفتيه بسمة متعبة. ضغط على يدها بقوة. شهق شهقة حارة، ثم أغمض مقلتيه إلى الأبد. فارقها و هو في ميعة شبابه. لم يتعد عقده الثاني إلا بثلاث سنوات. جلست في شرفة بيتها الجميل تحت ضوء القمر الذي يحمم بنوره جسدها الماسي،و بأنامل ضوئه يداعب جدائلها الناعمة. جلست كقديسة حزينة تردد تراتيل ذكرياتها المؤلمة ، و تعيد شريط اللحظات الأخيرة من حياة زوجها. رغم مرور أكثر من ستة أعوام ، لم تنس شيئا من تفاصيل ذلك الحوار الذي دار بينهما قبل وفاته بقليل:
- الجسد تراب يحن إلى ترابه ، أما الروح فجوهر خالد تغادر الجسد ، و تعود إلى باريها.
- كلا يا حبيبتي. الروح تذهب من جسد إلى آخر، لتبدأ رحلة جديدة.
تحت التأثير الفائق للدهشة من كلامه ردت بقلق:
- الله قادر على خلق ما لا يحصى من الأرواح، فلماذا يحتاج الناس للعيش بأرواح مستعملة؟ّ
أمسك بيدها بكل ما تبقى لديه من قوة. و رفع وجهه المتعب نحوها:
- أعلم أن الموت قد أنشبت براثنها في جسدي.لكني أومن بقوة أن المنية لن تبعدني عنك إلا مؤقتا. أعدك أن روحي ستعود إليك في ثوب جديد...انتظريها... !
تنهدت تنهيدة حارة لفحت خديها الأسيلين. مسحت عينيها المخضلتين بالدموع، وهي تردد:
- إنني أصدق كلامك. لكن روحك ستبدأ صغيرة في جسد صغير. كم سنة سأنتظر يا عائد؟

الأحد 20يوليوز العاشرة صباحا.

أراحت جسدها على كرسي وثير،تحت ظلة بألوان قزح.وضع النادل أمامها فنجان شاي،و كوب ماء. انتصب أمامها بوجهه الوضيء.رفعت قبعتها الوردية لترى صاحب الظل الذي يزاحم الظلال الأخرى على جسدها. وضع يده على قلبه،كأنه تلقى سهم حب أطلقه كيوبيد من قوس شفتها العليا المنحوتة بشكل لا يضاهى.وضع
زهرة أضاليا بيضاء في كأس الماء.من دون استئذان جلس أمامها.ندت من ثغره البديع الشكل كلمات عذبة:
هل يمكنني الجلوس؟ يراودني شعور بأنني أعرفك حق المعرفة!

الأحد 20يوليوز الثانية عشرة زوالا

تقف بكامل ملابسها تحت رشاش الماء البارد.لتطفئ الحرائق التي أشعلها في جسدها،و تلطف من غليان أعصابها.ما عاشته اليوم لقطة من الماضي السحيق أعادها مخرج مجهول بالعرض البطيء.نفس المكان و الزمان...نفس المشروبات و الزهرة...أقل وسامة منه، لكن روحه المرحة...ذوقه النبيل...حركاته المثيرة كانت استنساخا دقيقا للمرحوم.

الأحد 27 يوليوز

انفتح باب شقته الشاطئية على دنيا ساحرة.تسمرت في مكانها ترزح تحت التأثير الشديد للمفاجأة القوية. لا شيء غريب عنها في هذا الفضاء البهيج: أزهار الأضاليا البيضاء...طائر الكناري الأصفر...عناوين الكتب في خزانته...راحت تركز النظر بحثا عن شيء يخالف عالم زوجها، لم يقع نظرها إلا على ما يضارعه في أدق تفاصيله. أحست بالألفة.لكنها لم تستطع أن تمنع قلبها من الخفقان بقوة، و هي تردد كلامه:
- بعض الأرواح تتكيف مع أجسادها الجديدة، و بعضها يحافظ على ذاكرته. فيسعى لاستنساخ حياته السابقة في كثير من تفاصيلها. ناداها باسمها كما كان يفعل زوجها.أحست بأقدامها تغوص في الأرض.إن لم تهرول خارج البيت سينصهر جسمها الطري كتمثال ثلج اكتسحت الحرارة أوصاله.
الاثنين 28 يوليوز
كان ضوء المصباح ينعكس على ذراعيها الرشيقتين، و قلبها مضمخ بعبق حب لا يمكن نسيانه، تعمل دائما على استعادة طقوسه الشاعرية التي تهيمن على كيانها برمته.
سمعت الجرس يرن. خفق قلبها.فتحت الباب بسرعة. وجدته أمامها بكامل أناقته.غرس في شعرها البهيم زهرة أضاليا.ارتعشت (هكذا كان يفعل زوجها دائما)ابتسم، و قال:
- لن تبقيني على الباب طبعا؟
هزه جسدها المشع هزا عنيفا.ندت من بين شفتيه كلمات من دون إرادته:
- يا له من جسد شفيف ينساب كجدول ماء رقراق! امنحني يا رب القدرة على تحمل روعته.
ضمها بين ذراعيه المشتعلتين. و ضع رأسه على صدرها الصافن كجواد عربي أصيل.طفرت من عينيه دموع ساخنة.تدحرجت كحبات لؤلؤ على أديم صدرها الصقيل.أحست بمزلاج قلبها ينفتح من تلقاء نفسه،و بأجراس نبضها تصدح بنبوءة زوجها الراحل:
- مهما تاهت روحي،ستعود إليك، و هي أكثر كمالا.ستعود لتذرف الدمع على صدرك المترع بالحنان.

بعينين غارقتين في الدموع، و ضعت الرواية بجانبها. تأملت سريرها الموحش. بات باردا، بعد أن هجرته أنفاس زوجها، التي كانت تدفئه. إلى متى ستظل تطارد في ثنايا القصص و الأساطير الأمل في عودة زوجها. لم يعِدها بشيء، مضى في صمت. لكن الأبطال الذين قرأت رواياتهم كلهم عادوا. حتى الذين لم يقطعوا وعدا بذلك.
أرسلت تنهيدة حرى، وهمست:
- إلى متى سأنتظر؟
- ماذا أنتظر؟






  رد مع اقتباس
/