الموضوع: نبضات
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-10-2016, 05:07 PM رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي


ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

سافرت بعيدا كتلك الصخرة أو النيزك الذي يتحرك بسرعة الضوء في كون فسيح هادئ متماسك جدا، لا خلل فيه سوى في بقعة واحدة يسكنها البشر أو الحيوانات الناطقة. رغم جمال صورها و تناسق أطرافها إلا أنها تحمل فوق أكتافها عقولا متباعدة متنافرة و متعطشة للدماء ..
سمعت جارتنا فاطمة أو " الدرويشة" كما تناديها أمي و هي تبتسم في وجهها و تعانقها بحرارة عندما تصادفها في عتبة منزلنا القريب من منزلها و هي قادمة من العمل تجر رجليها بصعوبة، أصابعها حمراء متشققة بسبب مادة "الكلور". فهي تعمل كخادمة في البيوت، بعد وفاة زوجها محمود بسبب حروق خطيرة في كل جسده إثر انفلات غاز كثيف من قنينة الغاز الصغيرة التي كانت تدفئ حمامه الضيق و المليء بالثقوب في مساء شتوي قارس جدا، أراد أن يستريح من تعب العمل ذلك المساء، لكنه لم يكن يعلم بأنه سيرتاح نهائيا بطريقة ساخنة و ملتهبة. نقلوه إلى المستشفى لكنه توفي في الطريق..

- الجماجم المتسخة لا تصلح لشيء سوى للتسكع و الأكل..!!
تخرج منها تلك الكلمات بمرارة و انكسار، في حين كانت ملامح أمي تتعاطف معها و تتألم لحالها و هي تقول:
- هذا حال الكثير في عالمنا المعطوب، نطلب الله أن يصلح أحوالنا.
رغم كلامها الفضفاض إلا أنني كنت أعلم أنها تقصد ابنها الذي لا يطيب له الجلوس مع كوكبة من اللصوص إلا في مزبلة الحي المظلمة و المتوارية عن الأنظار لأنها تشعرهم بالآمان و تمدهم بالأكسجين المهدئ.
ودعا بعضهما و انصرفت كل واحدة لحالها، ببنما أنا ما زلت أرى في نفس المكان - كلما عدت من المدرسة- حزنا قاتما كسحب داكنة معلقة في مكان و قوف فاطمة، تنهمر كزخات عاصفة، لكن لا أحد يراها .. كل واحد مشغول بنفسه حتى فاطمة لم يعد أحد يتذكرها بعد وافاتها العام الفارط الذي زلزل الحي كله .. غريب هذا الشعور أنك تتألم لشخص للحظة و تنساه العمر كله و كأنه لم يكن..!!
موت فاطمة ترك أثرا كبيرا في نفسي رغم صغر سني حينها. جدتي سمعتها تقول لأمي و أنا أمر بالقرب من غرفتها:"
عندما عادت فاطمة من عملها تلك الليلة، داهمها النوم فجأة في سريرها كخرقة مترهلة، تسلل ابنها السكير خفية كلص ماكر إلى غرفتها التي كان بابها مفتوحا. سرق كل دريهماتها التي جنتها طيلة أيامها، حتى تلك التي كانت تنوي تزويج ابنها بها. خرج فرحا راكضا نحو عشه النتن. لكن عندما استيقظت فاطمة المسكينة من نومها باكرا لتذهب إلى العمل، حضرت الشاي الأخضر في " براد" الفضة كعادتها، سكبت قليلا من زيت الزيتون في صحن صغير من " البلاستيك" طبع في قاعه " صنع في الصين" لكن عندما لم تجد الخبز تذكرت النقود فجأة، وضعت يدها على رأسها ثم هرولت بسرعة نحو وسادتها التي نامت عليها، تفحصتها من الداخل فلم تجد فلسا واحدا. انسلت الوسادة من بين أناملها و سقطت أرضا بينما تلك العروق الهشة بداخل فاطمة و التي قاومت سنينا، انفجرت بداخلها و تجمدت كصخرة فوق سريرها".
من يومها و ابنها " سيمو" ، كما يردد أهل الحي، ظل معتكفا في زاوية من غرفته المبعثرة كأسنانه تماما، مقرفصا على ركبتيه ماسكا رأسه بيديه و كأنه يحاول أن ينزعه من مكانه.
المرآة المنكسرة أمامه كانت تعكس و جهه البئيس الذي يمزج بين لون الحزن و الرماد، تتخلله بقع سوداء و آثار جروح مختلفة الطول و العرض..
كلما حاول الوقوف كانت رجلاه ترتجفان. يزحف بيديه و رجليه نحو معطف أمه الملقى على سريرها، يلمسه بهدوء، يتأمل خيوطه المترهلة، يشمه بقوة و كأنه يبحث عن رائحة الجنة..
ـ لو وضعوا هذا المعطف في كفة و أنا في كفة أخرى لكان هذا المعطف الذي لا يساوي درهما أثقل مني بكثير..
يكلم نفسه بنبرة درامية و هو يعض لسانه و يغرس أظافره في وجهه كلما تذكر نفسه يجر وسادة أمه من تحت رأسها بهدوء تلك الليلة و التي كانت سببا في وفاتها.






  رد مع اقتباس
/