عرض مشاركة واحدة
قديم 30-07-2020, 09:55 AM رقم المشاركة : 67
معلومات العضو
محمد خالد النبالي
الإدارة العليا
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
مقرر لجنة الشعر في رابطة الكتاب الاردنيين
عضو تجمع أدباء الرسالة
نائب رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل وسام الأكاديمية للابداع والعطاء
الاردن

الصورة الرمزية محمد خالد النبالي

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


محمد خالد النبالي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: رواية : " انتظـار فـوق رصيفٍ ليليٍّ "

(رواية انتظـار فـوق رصيفٍ ليليٍّ )
الفصل العاشر
السُّحـبُ تحـاصـر القمـر

هُنَاكَ تَحتَ شَجَـرَةِ الصَّفصَافِ كَانت يارَا تَقِفُ تَتأمَّلُ يوسُف وَهُوَ جَالِسٌ بجِوارِ جِذعِهَا يَنظُرُ إِلى القَمَرِ، لَم يكُن يوسُف يَعلَمُ أنهَا مكَثت وقتًا طَويلاً تُتابعُهُ في صَمْتٍ يَدفَعُهَا الشَّوقُ الجَارِفُ وَالحُبُّ العَظِيمُ،لَم يكُن يَعلَمُ أنَّ دَمعَةً لُؤلُؤيَّةً تَسَّاقَطُ مِن عَينَيهَا الجَمِيلَتَينِ وَهِيَ تُنصِتُ إِلى هَمْسِهِ الذِي أُولِعَت بهِ مِن يَومِ أن أُولِعَت بـهِ .

كَانت وَقفَةُ يارَا بهَذا المَسَاءِ وكَانت جِلْسَـةُ يوسُف في هذِهِ اللَّحظَاتِ تُؤكِّدَانِ أنَّ الحُبَّ المُوجعَ العَظيمَ أكثرهُ تأمُّلٌ وَأعظَمُهُ فِكرَةٌ حَزينَةٌ مِن ذِي إِرَادَةٍ أو صَاحبَةِ إِيمَانٍ رَاسِخٍ،وَإِنَّ العِشقَ لا يُعرَفُ قَدرُهُ ولا يُدرَكُ قَعرُهُ وَلا يُسبَرُ غَورُهُ إِلا مَعَ المِحنَةِ وَفي ظِلِّ الفِرَاقِ،في ظِلِّ فِرَاقٍ بالجَبرِ لا بالاختِيَارِ، وَإِنَّ الهَوَى يَهوِي برَبِّهِ فَإِذا بهِ وقَد تَدلَّى مِن شَاهِقٍ وَمِن قُلَلِ جبَالِ الثبَاتِ إِلى هُوَّةِ الصَّمْتِ البَاكِي وَالتَّفكُّرِ الشَّاكِي،وَمَن جَرَّبَ أحوَالَهُ عَرِفَ كَيفَ يكُونُ لَذعُهُ، وَإِلى أينَ يَصِيرُ وَجَعُهُ .
الْتَفَتَ يوسُف لِيَنظُرَ إِلى مَالِكِ هَذِهِ الأنفَاسِ التِي تَرِنُّ في هَذا اللَّيلِ رَنِينَ مِزمَارٍ مِن مَزَامِيرِ الحَسـرَةِ وَتَصـرُخُ صُـرَاخَ أربابِ البَلاءِ الدَّائِمِ الذِي لا يَزُولُ وَلا يَمَّحِي وَلا تَخِفُّ حِدَّتـُهُ وَلا تَجِفُّ عَبرَتـُهُ
.. الْتَفَتَ فَإِذا بـهِ وقَـد صُعِق ، أو حَـدَثَ بـهِ الخَـرقُ العَصِيُّ عَلَى الرَّتـْق،
وَيكَأنَّ قَلبَهُ قَـد جُـرِحَ بَل قَـد انشَق .
أيُّ شَيْءٍ هُوَ هَذا الْحُبّ ؟
أيُّ شَيْءٍ هَذا الَّذِي حَمَلَ ذلِكَ الشَّابّ الجَالِسَ يَتأمَّلُ القَمَرَ أن يَفزَعَ هَذِهِ الفَزعَـةَ وَإِن كَانَ فَـزَعُـهُ جَاءَ في هُدُوءٍ سَاكِنٍ حَالِمٍ ؟!
انتَفَضَ يوسُف وَوَجَدَ نفسَهُ وقد انتَصَبَ واقِفًا ثمَّ أسنَدَ ظَهرَهُ إِلى أصلِ الشَّجَـرَةِ وَرَاحَ يَنظُرُ مَـرَّةً إِلى عَينَى يارَا ثمَّ يُطرِقُ مَرَّةً ثمَّ يَعُودُ إِلى القَمَرِ الَّذِي جَاءَ مِن أجلِ أن يُخاطِبَهُ فَإِذا الأقدَارُ تَهبهُ القَمَرَ الحَقِيقِيَّ الحَقَّ الَّذِي مِن أجلِهِ تَـرَكَ الحَيَّ وَجَاءَ إِلى قَمَرِ السَّمَاءِ !
يــارا : كَيفَ حَالُكَ يا يوسُف ؟
قَالَتهَا في حَنَانٍ دافِقٍ بصَوتٍ كَأنهُ الحُزنُ قَامَ مُخاطِبًا حَقِيقَةَ هَذِهِ الدُّنيَا التِي اعتَادَ الإِنسَانُ علَى غَرَائِبهَا وَالعَجَائِبِ .
يـوسُف : يارَا !
نَطَقَ اسمَهَا بشِفَاهٍ تَرتَجِفُ وَنَبرَةٍ ضَعِيفَةٍ كَأنهَا صَوتُ المُحتَضِر .
يــارا : أمَا زِلْتَ تَحُنُّ إِلى الشَّجَرَةِ ؟
أرَادَ يوسُف أن يَنطِقَ غَيرَ أنهُ قد حِيلَ بَينَهُ وَبَينَ النُّطْقِ وَالجَوَابِ،فَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ ـ في حَرَكَةٍ لا إِرَادِيـَّةٍ
ـ علَى قَلبهِ أيقَنَت يارَا أنَّ حُـبَّهُ لَم يَـزَل بفُؤادِهِ لَم يَذهَب وَلَم يضعف .
يــارا : لا بأسَ عَلَيكَ !
قالَت ذلِكَ وكأنها خَشَعَت لِلعَاطِفَةِ بكُلِّ جُزءٍ مِن أجزَاءِ تكوينِهَا وَبكُلِّ خَلَجَةٍ مِن خَلَجَاتِ الشُّعُور .
يـوسُف : كَيفَ أنتِ يا يَا... !
وَكَأنهُ عَجَزَ عَن إِكمَالِ اسمِهَا إِذ يَنطِقُ،وَفَهِمَت يارَا أنهُ الحُبُّ وَكَيفَ يُصيِّرُ صَاحبَهُ عَاجِـزًا أو كَأنهُ .
يــارا : إِنمَّا جـِئتُ لأُبارِكَ لَكَ،وَسَألْتُ عَنكَ فَلمَّا حِرتُ في أمرِي قُلتُ لَعَلَّهُ عِندَ الشَّجَرَةِ ، وَهكَذا كَان !
يـوسُف : كَيفَ حَالُكِ يا يارَا !
يــارا : الحَمدُ للهِ،مَا يَعنِينِي هُوَ أنكَ بخَيرٍ وَأنكَ قَد نجَحتَ في مَشرُوعِكَ ... لَقَد كُنتُ أُتابعُ وَأُديمُ السُّؤالَ عَنكَ وَأدعُو لَكَ في كُلِّ صَلاةٍ .
يـوسُف : أنا أعلَمُ مَا بقَلبكِ يا يارَا وَسَأظَلُّ عَلَى ثقَةٍ مِن دَخيلَةِ نفسِكَ مَهمَا طَالَت الأيامُ،
وَسَأظَلُّ مُؤمِنًا بكِ إِلى يَومِ مَوتِي .
يــارا : أسألُ اللهَ أن يُطِيلَ عُمُرَكَ،وَأن يَرزُقَكَ كُلَّ مَا تحُبُّ،وَأن يَهبَكَ زوجَةً صَالِحةً بارَّةً تُعوِّضُ مَا رَأيتَ !
ثمَّ صَمَتَت وَكَأنهَا قَـد شَرِقَت بدَمعٍ مُستَتِرٍ لا يَبينُ !
سَادَ سُكُونٌ لِدقَائِقَ وَمَـلأ الأمكِنةَ ولَم يَـقـدِر يـُوسُف علَى رَدٍّ أو جَوابٍ وَظَلَّ مُوجِّهًا عَينَيهِ إِلَيهَا في وَدَاعَـةٍ ظَاهِـرَةٍ وَإِشفَاقٍ جَلِيٍّ ... ثمَّ نطَقَ قَائِلاً:
يـوسُف : أيُّ زوجَـةٍ يا يارَا ؟!، أأصَابكَ شَيْءٌ ؟!
يــارا : وَمَا الَّذِي قـد يُصِيبُنِي يا يوسُف وَأن أتَمنَّى لَكَ الخَيرَ ؟!
يـوسُف : إِنَّ الَّذِي يُفَارقُ نفسَـهُ يا يارَا مِن أجلِ أهلِهِ وَإِخـوتِهِ لا يَستَطِيعُ أن يَعُودَ إِلَيهَا ،
ولَقَد فَارَقتُ نفسِي يَومَ فَارَقتُ فَتَاةً تَقطُنُ بهذا الحَيِّ اسمُهَا ياااا ....
ثمَّ صَمَتَ مُطرقًا !
يــارا : إِنَّ الدُّنيَا لا تَتوقَّفُ بمِفَارقَةِ أحَدٍ مَهمَا كَانَ عَزيزًا،والأيامُ قَمِينةٌ بحِمْلِ صَاحِبهَا علَى النِّسيَانِ
وَإِن كَانَ ذكُورًا .
يـوسُف : لَن أُجيبَ علَى هَذا الكَلامِ يا يارَا فكَلامُكِ جَارحٌ !
يــارا : مَعَاذ اللهِ أن أتوجَّهَ إِلَيكَ بكَلِمَةٍ تُوسَمُ بمِا قُلْتَ يا يوسُف !
يـوسُف : وَمَعَاذ اللهِ أن أتَخيَّلَ لَحظَةً أُضَايقُكِ بهَا يا يارَا ، إِنَّ المَوتَ أهونُ مِن ذلِكَ، وَأنتِ عَلِيمَةٌ بسِرِّي !
يــارا : نعَم أنا أعلَمُ مَن أنتَ يا يوسُف وَسَأظَلُّ عَلِيمَةً بكَ ... سَأظَلُّ إِلى آخـرِ الدَّهرِ !
ثمَّ أخَذت تَخطُو في هُدُوءٍ نَحوَ الحَيِّ عَائِدَةً إِلى بَيتِهَا وَيوسُف يَتبَعُهَا بعَينِهِ وقَد بَلَغَ بهِ الشَّوقُ حتَّى لَكَأنَّ قَلبَهُ سَيَنخَلِعُ انـخِـلاعًا مِن بَينِ أضلاعِهِ ... وَإِذا بـهِ يَنظُـرُ إِلى السَّمَاءِ فـإِذا بالسُّحبِ وقَـد وَارَت القَمَرَ فَانعَكَسَ ذلِكَ علَى الأرضِ فَإِذا بالكآبةِ تَبعَثُ علَى الانقِبَاضِ فَسكَتَ يوسُفُ هُنَيهَةً ثمَّ عَادَ يَنظُـرُ إِلى القَمَرِ المُختَنِقِ مِن خَلْفِ الغَيْمِ ثمَ قَالَ بصَوتٍ هَادِىءٍ حَزينٍ كَأنـهُ البُـؤسُ صِـيغَ في عِبَارَةٍ مِن فَمِ إِنسَانٍ :
كُلُّ شَيْءٍ يَغيبُ يا يارَا ... غَيرَ أنَّ غيَابَكِ لا يُصيبُ دُنيَا خَاطِري مَا دُمتُ أحـيَـا ... مَا دُمْـتُ أحـيَا يا يـارَا !


* * * * * * * *






  رد مع اقتباس
/