(الذاكرة الدمشقية ـ نجلاء وسوف / رقم الايداع : ن.و/ 08 / 2016) - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ 📜 ▆ 📜 دار العنقاء 📜 ▆ 📜 ▂ > 🔰 سجلات الايداع>>>

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-12-2016, 01:15 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني

الصورة الرمزية المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني

افتراضي (الذاكرة الدمشقية ـ نجلاء وسوف / رقم الايداع : ن.و/ 08 / 2016)


باحة الروح (خولة)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذاك البيت الدمشقي ...
كيف الحسون كان يجسُّ تغريده في الصدى ..
و البحرة توحد صفوف بتلات الزنبق والقرنفل
وتغسل النظر الملتهب ببردِها ونداها المتراشق .
كيف الأمكنة كانت تتوسع كلما ازدحمت بالمحبة..
وشجرة التوت العالية تتعطف وتسقط طيباتها ...
كلما نسمة هزّت شموخها ...
والمصطبة التي تعودتْ رشقها بالماء كل عصرٍ وانهمارنا في حضنها لتلُف سوالفنا المسائية ...
أظنها آخر حدود للحلم
كيف السقوف الخشبية تغريك حدّ الهمس للذات ..
كيف الياسمين يحشر صفاءه بكل شيء
في كل شيء تراه سيد السلام
آآآآه يافجر الشام
كيف الصحو على رائحة الجوري و رائحة خبز التنور الآتية من حارات الحي..والدهشات التي تنمو كاللبلاب مع كل نظرة من إيماءة من عيني الجدة وتأنيبات الخال .فهذا الوجع قمة الفرح حين الذاكرة تستنهض عوالم هذه الأشياء
ألف كيفٍ تمتطي صهوة الجمال
ألف لوٍ تعتلي قارعة التمني
كل شيءٍ يمكن تعميره وتنشقه في لحظة الذكرى
إلّا الياسمين المتجذر في أعماقي
يكبر ويكبر ولا يعبق إلا بالشام . ..
هل أنت مخطوبة يا خولة ..
-طبعا .
-لكني لا أرى في عينيك الحب يحكي ..هل تركته في الفراش نائماً متلحفاً, ينوح أم يهذي، يغسل المآاقي أم يكحلُ الحلم .
-اتركي خطيبك لأخطبك ..
وكانت نظرة وكانت الخطيئة حين قبلت خولة وكانت الدمعة وفتيل العشق اشتعل والقدر نفخ الزفير....
أيا خولة ما أروانا الحب
ولا سحر عينيك تمخض الشروق
ولا التفاح أزهر على هدبك
ولا الروح ياخولة عادت
بعد الموت


الهديل والورد وصهيل الشام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في كل زفرةٍ شكوى...
تُرجع أدراج الوقت للصفحة الخالدة في كراسة الزمن.
كيف الكلمات تعبق بريح الماضي ...
تحمل في حقيبتها
طرحة ياسمين ورسومات طفولية .
كيف كان للفجر حكاية سرمدية مع الحب.
كيف كان صياح الديك يعجز عن إيقاظنا في اللحظة التي كنا نترجى ولوجها، ليُمسك نظرنا بقرص الشمس لتلعب شقاوتنا حتى في لحظات تجلي الكون للخالق ...
لنختلق أيُّ كذبة تدعنا نصعد لسطح الدار ونوقظ أحلام الجيران .
كيف كان بائع الفلافل القريب يصحو مع هديل الحمام, صوت همهماته مازالت عالقة على وتر مسمعي ،بين كل خطوةٍ وخطوةٍ ((يارب لطفك يارب )) عبارته المسافرة في كل فجر لطرق باب الفرج ...ابتسامته الشفيفة التي لا تفارق نظره رغم عجز سنّه عن اجتلاب الفرح ولو للحظة...
كل شيء كان يدعو للصحو قبل ارتماس الغفوة في متعة الحلم.
كل شيءٍ كان يُعلن الفجر رغم البعد الزمني إلّا أنها أكثر الذكريات اقتراباً من طغيان الوحدة.
حبذا لو أصحو على طقطقة الجدة وهي تتوضأ لأداء فريضة الفجر ومن ثمَّ تذهب لتجول بين ورودها ...تتفحصها من الجذر حتى الأوراق ...تربت بيديها على تويجات إحداها ...تقتص الأصفر منها ...تحادثها وكأنها ملكة ووصيفاتها حولها يتجمعنَّ بغية إرضاءها .
كل شيء كان يتكوم في وجه الجدِّ البهي وصوته الشجي ...عندما كنت أُطّوقُ ذاتي برغبة الإصغاء وهو يتلو من آيات الذكر الحكيم بطريقة مجودة ويُجيدُ في توصيل الهدأة للقلب المنصت لكل همسة .
يااااه...
مازلت أتفيأ في ظل دعائه وأُمسك بسَكينَةِ وعَظهِ.
أُزيحُ الغطاء عن وجهي لأسترق شيئاً من نور وجهه ...تنصت جميع حواسي وهو يكرر قراءة "الصمدية" وكأنه يَحفرها في ذاكرتنا ليدوم حسّه كنايٍ يفتح ويرتق الجرح في آنٍ واحد...
كيف أنتهي من فجر الشام والصحو مازال في أوله...
كيف أغوص في الحلم وهناك ألف سبب يدعونا للتيقظ...
لي عندك ياشام لحظة وجودي...
بيت جدي
عقيق الحكايا ومرجان ذكرى
اسمحي لي يا شام
أن أعيد ترتيب حروفي المبعثرة كلما الدمع اقتحم
النجوى.
اسمحي لي أن أغفو عند مياسم الزهر وعنق الغوطة وحضن بردى
وأن أدخر الملح لإبحاري بك ياشام


هامش الحكاية يدور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كل شيءٍ نما بسرعة والأمس مازال عالقاً بين شقوق الباب الخشبي ،ننتظر من يفتحه من الخارج ليتدفق ويصبح حقيقة جاهزة ..
في عالم الطفولة تصير التفاصيل قضية ، اللعب مع سحاب السماء أهون من جمع عددين .
القفز عن سطح الدار أسلم من الخروج من الباب..
الكذبة البيضاء المُنجية من توبيخ الكبار خيراً من نصيحة ترهق عيون الصغار ...
كل شيء كان متعة في ذاك البيت الذي مازلتُ أذكر فيه زفاف ابن الجيران وصراخنا حينما حُرمنا من الذهاب للزفاف ...
كيف ستعبرنا المشاهد والعراضة وقراءة المولد دون أن يكون لنا فيها حصة ولو حتى بالنظر ..
وماذا عن صُرر الملبس وزبدية ((الإيمع)) البوظة, لا نلفظ هذه الكلمة إلا اذا استرجعتُ وعيِّ الطفولي أو أنها تسمية شامية .
كيف للطفولة أن تتكرر إذا ما اصطدنا منها الذكريات.
والأمس الذي أفلتنا منه لحظات الشعور بالسعادة .
هل يعود يوم الزفاف ومناهدة الجدِّ لنا حين أرهقناه بعنادنا
هل تعود حكايته وتسليته لحينما ينتهى وقت الزفاف ..
أعيته شقاوتنا فأقنعناه أن نصعد ونجلس على سور الحائط العريض الذي يُطل على بيت الجيران وبهذا نستطيع المشاهدة ،قبِلَ شرط أن نصمت ولكي يشتري صمتنا أعطى لكل واحدٍ منا(( ليرة ورق)) كان لونها ترابي ...
فوق الغنج ازددنا فرحاً ،الكل صعد وأخذ مكانه وأمسك بليرته ووضع يده على خده متأملاً مشاهدة الفيلم الشامي باعتبار أننا خارج الزفاف ومتفرجين فقط فاعتبرناه فيلماً ..
إلا أنا لم أصدق أني جلست حتى وقعت مني الليرة ...
ساعة صعود وساعة هبوط وساعة بحث حتى انتهى الفيلم لم أشاهده ولم أجد الليرة لشدة الظلام ..
بالأمس فقط وعدتُ نفسي أن أبحثُ مجدداً ..
أيعقل بأننا أصبحنا في الخمسين ومازلنا أطفالاً ونحلم أيضاً...
هل من أحلام.....
هل يرجع الزمن بنا لنهيكل أجساداً أخرى للأحلام ,سنحشوها بقشور الجوز وبجلنار الرمان سنؤطرها بخيوط القنّب .
هل يرجع الزمن لنملأ كؤوس العقل بقطرات التوت ودمع الحمام
أوااه ياشام...
متى يرجع الزمان..؟؟!!


الياسمين ينوح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للحلم تنهيدة ليلٍ يزفرها كلما أشاخته تلك الملاءة المرمية على أعقاب الوقت وتدور بنا شرائع المكان ترمينا في دهشة المواقف وعلى صفحات الصمت يدوّي صفير الزمن ويُرهق السطور بالومضات المؤلمة ...
بالأمس كانت الفرحة تعمُّ البيت والبشرى تفيضُ دمعاً على وجنتيّ الجدة والتفاتتها نحو أصص الورد كلما غرّد طير أو مرَّ طيف وكأنه يأتي لعينيها ويطرفها قاصداً إيذائها وجرح خاطرها ...
مالذي يكون أكثر حناناً في زمن عرّش الياسمين على جسده ونام بفراشه الزنبق وبتلات الجوري ..
وذاك العيار الناريّ الذي تحدى الممنوع والرجاء لحظة التعبير عن خلاء اللحظة من قيد القسر والقوة ...
أن تكمل الخدمة وأنت مازلت أنت.. أمرٌ يستحق الترخيص له أمرٌ يشعرك بالانتشاء بعد ممارسة التحدي...
هي طلقتين لأقنع الوتر بالسمع مجدداً ..
طلقتين لا غير وأطرح من ذاتي الرعب المخبأ في ثناياها ..طلقتين وأعود لأنام بحضن الشمس
طلقتين و أقيم الفرح ومن ثم يأتون أهل الحي ويملأ الخبر كل حارات الجوار ...
الفكرة ترهق الجدة ..تتوسل لولدها المتصلب بموقفه وللأطفال وقفة مع المفاجأة نظراتهم تترجى الخال ،براءتهم تزيده تمسكاً بالضغط على الزناد ..
والجدة تولول لألا يرش الرصاص ويُفزع عصافير شجرة التوت ...
لا تخافي على الطيور فهي حرة ...
-يرعبني الرصاص ...
-بالأمس أسعدك تشرين في حربه والمزيد من الصواريخ لم يهزَّ عنفوانك ...
كانت ضحكتك كالشمس تشرق منتصرة على دجى الطغيان والآن رصاصتين لا يحتملها سكونك ..
-لا تفعلها أرجوك ..
-سأفعلها ...
شيئاً من المغامرة كان هذا الفصل المسرحي ..
أُطلق الرصاص ..
صفق الأطفال ..
الجدة غرقت بالدموع
-احسبيها لعبة الأطفال في العيد ،لم البكاء؟
فوق البكاء لبسها الصمت أو أن المصيبة ابتلعت لسانها
زادتنا دهشة تلك الجدة وبكاؤها استعمر الحيرة .
أقبلنا لنرى ماالذي اعتراها ..لكنها بألمٍ فرّقت علينا وجعها وبنظرةِ عتابٍ حنونة رمقتنا ثم أشارت بيدها وعينيها تجاه أصص الورد وشجرة الياسمين ...
-ويحك , انظر ماذا فعلتْ ..
تناثر ورق الورد ..سقط الياسمين ...
ياااااااه ياجدة ، ماذا تقولين الآن ؟!!
كم من بكاء سوف يعمّدك طهره
كم من ويلاتٍ سوف تعيد تكفين الأجل ...
ياااااااه ياجدة ..
أتبكين الورود والياسمين ..؟!!
ترى هل كنت على يقينٍ من وقتها .
أأنفقت في حينها دموعك ...
أم مازلت للآن تبكين
*******


بردى ...حبيب الغوطتين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الذكريات المعبئة في صندوق الذاكرة لا يُشيخها الزمن بل يزيد من جمالها حين تُفردُ حرائرها الملفوفة لتُحفظَ في الركن الساكن من تيارات النسيان ومواجع الدهر .
حين كل شيء يصبح عجينة بين الأصابع ..
نشعل المواجع بقليل من فحم الصبر ونرتد عن إحراق الوداع لحظة انكسار ..
ياربوع الذاكرة ...
كيف تشربين الماء والشام جراحها تنزف القروح ..
لا تغفلي لحظة فتح باب الكروم ونسائم أشجار اللوز تسري لتوقظ ما غفل عن أهداب الزمن وعلى جبين الدهشة يأخذك عبير التفاح ...
يامالك الملك ...
أغثني من كوثر الجمال دمعة لأروي بها حقل اللؤلؤ ..
أسرع في خطوك يا خال ...
لن تؤذي مساكب النعنع ولن يغفو الجوري حين تحفر وتربت أحضان مغيبها ...
ياخال هذي الشام والذكريات تنعر لبي بحربة توق وأهواك يا حبيب لو كنت في شام ذكرياتي ..
أتعلم ماذا يعني أن أختصر فيك الشام هذا يعني أني أرحل إليك مع كل شهيق وأخرج منك لأعود عبق ياسمين أشمُ رائحتها وعروش الكرمة وأوراق التوت ويااالا الذاكرة كم فيها بقاعٍ فارغة لتفاح العشق وضفاف لم يتفقدها بردى من كثر ظلال مشمش حسنها ....
يااااااه ياشام أحبك لو تبقين في وجه حبيبي عشق أحياه...
من يغلق الباب ..
دعوه كما كان على آخره مفتوح دعوه أيضاً خشبياً لا تغيروا ملامحه ..
بصمات الجدّ تغري الحياة وصل اللقاء والعودة، يعيد الحطام ،هيكل يكسوه تراب الحب ..
بالأمس فقط غرّد الليل على صدر بردى كان الناي حممم آهاات يُطلقها العازف من حنجرة متأوهة ..
والنسيم يلعب على مصطبة الشوق هي تلك رجاء ..
تحفر في أذن الغرور مطبّاً للجمال ..
والسمر يرقد على حوافي القمر يمشط لجينه بابتسامة طيبة والتهاني ترقب النظرات تستعطف لحظة القبول من يناديها لتكون حصته ...
يااااه يا زمن أين لقفت بروائع الشام..
مَن حظيّ بشرف نُدفها تتساقط على الأكتاف كبرياء..
هنا العبير يمرُّ كل صباح يفتح للورود باب ذاكرة لا تنطفئ وهنا أبو زهير كلما مرّ يُلاطف الطفلة ويشاكس غنجها الورديّ يمدُّ يده وينتشل من جيبه فنجان قهوة يُركنه في جيبه مخصوص لطفلة تغرق في تجاويف شام ويقول .
ها ما رأيك؟ أتسقي حديقة جدتك بهذا الفنجان؟
في كل مرة يفاجؤه جوابي الكبير حين أقول ياااااه (سأمضي يا عمو العمر كله وأنا أذهب وآآتي لأسقي الورود)
كبرتُ أنا ولم يكبر فنجانك ...
ثم يضحك ويأتي بعد عام ويُعيد الطلب ...
كل شيء يقع من عينيك ألبسه يا شام
كل شيءٍ يزيد عنك يكفيني يا شام
وأنت يا حبيب الغوطتين يا بردى العاشق هل لي منك
وضوء أود الاعتمار ....



زفاف صفاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وللشام حكاية أخرى ..
عندما الندى أول الفاعلين بعض الجمال والسائلين في الشارع حمى الرحمن لهم مذاقات ذاكرة لا ينتهي وصل الحلم من وصل الصباح حين تدعوك الطيور لمهرجان الضوء قبل الوضوء, تحية لروح الورد تحية لجناح الحمام هذا الذي ترك ريشة في حفرة في حائط في بيت الشام ..
هذا الذي يكتب الوفاء وصية كلما عانق عتابه الموت ..
يقرأ الأمانة على المسامع النائمة في غيهب الوداع ..
ستكوني يا شام التاريخ القادم ..
ألست جنة الله على الأرض إذاً ماذا تخشين؟!! وفروع بردى سبعة ..
الطفلة المدللة الغنوجُ حبيبة الجدة شام ..
كبُرت ومازالت طفولتها رزينة مشوّقة تحمل في عينيها بريق امرأة سيأتي بها الزمن ..
-إني لأجد في هذه الطفلة سرّ عجيب تهاتفني نفسي بأنها ليستْ طفلة هي أطول من تفكيري وأعمق من حضوري وأكبر من زمني أناديها يأتيني منها القبول قبل قلبها ...
أضحك فتسرق السرّ ..
تُفسّرُ الهذيان ..
هي ليستْ طفلة كما يجب ..
بل أنا طفلتها عندما تعلقتُ بها لهذا الحد ..
-هل ستصحبينها للزفاف معك..؟!!
-طبعاً هي أمانة الفرح وعهد الشمس لي وأينما ذهبتُ ستكون معي
-لكن ستبقين أسبوع في الزفاف ربما تضجر الصغيرة .
-قلتُ هي عهد الشمس للحياة وسأذهب بها ..
أخشى أن تمرض الحياة من غير ضوئها
-حسناً انتبهي لها جداً .لا تدعيها تغفل عن عينيك
-بقلبي قبل عينيّ..
الزفاف الشامي ليس كلمة ..
ليس زمناً وينتهي ولا لحظات تعبرُ بزغرودة وانتهى الأمر فإن لم يكن محفوراً بعودٍ من جمر ليكون الحنين حارقاً مؤلماً حين نعيش تفاصيل الذكرى لا يكون هذا الزفاف ..
إن لم تصل الدموع لرأس بردى لا يكون زفاف ..
إن لم يكن الفرح شاهق يعاند قاسيون لا يكون الزفاف..
وكيف يُؤرخ ألم الفراق بعد انتهاء الزفاف إن لم يطفُّ كل شيء عن عادته ..
سبع أيام كانت الكرسيّ تنتظر ثوب العروس والعم أبو العبد يروح ويجيء ويجلب قطع الخشب من منشرته الملاصقة لبيته ليصنع لها درجتان أو أكثر بواحدة لتصعد منصة السعادة ..يريدُ لابنته أن تكون أول خطوة للصعود متينة لا يهزها الخوف ولا يهتز تحت قدمها الندم ..
ما زلتُ ألحظُ ذاك الألم والحزن وأجفان عينيه الملونتان بأحمر الحزن ومع كل هذا لم تفارقه تلك الابتسامة كلما أتته ابنته بكأس التمر الهندي البارد حتى تمنيتُ للحظة أن أكون تلك القطرات التي تحيط الكأس مشكلة هذا الضباب الخفيف حتى أدخل جوفه الحارق وأعلن له الصقيع لا لشيء فقط لأنه لم يكن عندي ثقة بأن الشراب البارد سيطفئ حمم فراقه لابنته قفلتُ ربما كنتُ أكثر جليداً في هذه اللحظات لأني كنتُ أدرك محبته لي ولهفته حين العين طاحت بها سيارة من حديد ..
-تعالي هنا ...قلتُ لك لا تتحركي ..
ألا تشاهدين المكان مزدحم واليوم ستُزف العروس ..
فاليوم أكثر ازدحاماً من الأيام الماضية ..
-حسناً جدتي شام لن أبرح المكان بقربك سأكون ...
ساعة وساعتين وثلاث وأنا أسند رأسي على وسادة ..
كلما تحركتُ قليلاً كانت الأمانة ناقوساً يدقُ لسان الجدة
وأعودُ مكللة بعقدة من حاجبها الحنون ...
البيت يعجُّ بالفرح والمأكولات الغريبة تحتل القسم الأكبر من المطبخ والرائحة تأتي من دون رقيب لتدخل مملكة الشمّ ..
يا إلهي كيف لي أن أهرب للمطبخ قليلاً أو لمخدع الصبايا لأرى كيف يحتفلون ..
لا مجال للهروب ..
القناعة كانت زاد عمري.
رضيتُ وصمتُ ...
ولم أجد غير طفلين يلعبان ويتقاذفان فيما بينهما لعبة لسيارة صغيرة بحجم قبضة الكف يقذفان بها للأرض ولفوق ولجنب وعلى طريقتهما يفرحان وشام تسمع الضجيج ..
يعلو صراخها عليهما لكنهما أكثر عناداً كانا..
-تعالي جدتي لندخل للداخل ولنرى العروس كيف يزينوها ..
-بل لنبقى هنا في الداخل زحمة ولا أطيق ..
شددتُ الوسادة من تحت رأسي وتمردتُ قليلاً بحركات لم تصل للجدة وأعلنتُ في ذاتي الجلوس وبعدها الهروب خطوة خطوة ...
-الأولادُ مازالوا يلعبون ..ويتقاذفون السيارة , والجدة غرقت في كبوة ومن ثم وجدتها فرصة للهروب قليلاً لمخدع الصبايا , وما هي إلا زحفٌ على ركبتيّ وعلى رؤوس أصابع يديّ وعندما نهضتُ والخوف يملؤني لئلا تراني الجدة وتعيدني لقربها ..وفي مخيلتي لو أسرعت الخطوة لهربتُ بأمان ,وما هي إلا قذفة واحدة للسيارة من أيدي الأطفال حتى أطاحت بعيني اليسرى وكأنها قناصة وأصابتها بدقة ..
وعلى صوتي وأنا أصرخ راحت تقول شام
-(ياااااويلي ...راحت عين الصغيرة )
أتى العم أبو العبد مخنوقاً بالخجل ومتلهفاً حين حمل الطفلة بين يديه مزمجراً غاضباً من الأولاد ومسرعاً للطبيب.. وصراخ الجدة عرساً في عرس...

يااا أنت ياشام ..
كلك روح كالنسغ تسري في العروق
وأنت جنة جنة ..
إن لم تصل جذورك السماء فيكفي أن للأصالة فيك جذور...


أهزوجة وزفاف موت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم ماذا بعد الكربة وانتظار عود الربيع وجوقة الفرح العطشى لترانيم زفاف..
إشراقة جديدة وصباح كغيره وأجمل منه وكل يوم مصادفة مع أزقة الأحاديث وتقاسيم الباعة الجوالين ..رغم أن المحلات مليئة بالخضار والفاكهة إلا أن للخيار نكهة ألذُّ من بائع ((الطمبر))
كل بساطة تدعوك لإقامة حكاية وتشييد ذكرى وكل الذكرى فرح إلا دموع الخال الساخنة على وجنتيه تقيم مملكة للسيد الحزن..
هي إيمان..الطفلة الأخيرة كانت أو ربما كانت لو بقيت ..عجيب هذا الزمن المتجلد في ثنايا القلب وذاك العطف المزهر في خبايا العمر برعم أمل
إيمان لم تكن سوى طير سهى من عين جنة ثم عاد إليها بعد صحوة
إيمان أكبر من الوقت حتى يُلاكُ لحمها الطري ويقسو بجلده على حاضرها حتى يصير ماضياً..
إيمان حديث الحزن وفاتحة زفاف
إيمان سورة في كتاب الحياة تعلّم السؤال كيف يجود بالمعنى ..وكيف يتاجر بالوجع حتى يصير رخيصاً لا قيمة له أمام الصمود
-كم خروفاً سأضحي به لك ..حين أعود بك متعافية
كم حفلة ستعيد الرقص حين أرى جفنيك يُدركان فرحي ربما لا أدري لكني أدري بأني سأفعل الكثير ..
ياااشام حقيقة الحب بأنه فيك يموج لولا بحر محبتك لما الهيام وجد شاطئ ليستكين عندك..
أيام وليالي مضت وتعاقبت والخال يروح ويجيء ويحمل الهدايا ما إن تفوه طبيب بوعد نجاح العملية ..
والزفاف مؤجل إلى حين و"العُمَرُ" راضٍ يُقبّلُ جبين شقيقه ويقول زفافي سلامتها..
ماهي إلا أيام مضتْ وإيمان سَلِمتْ والزفاف في رحابِ الوقت يتهيأ..
رغم أن إيمان تتعافى وأيدي الحمام ترقاها إلا أن الخال الوالد تعانقه قطرات الخوف كل حين .
أشرق الضوء من جديد ..
هزتْ شجرة التوت خصرها, الكلّ حضر واليوم زفاف..
-يا إلهي الساعة السابعة والوقت مبكر لمَ كل هذه الضجة ..
بدأ الجيران يتوافدون الجميع سيساعد في الطهي وتجهيز الطعام وترتيب الأماكن..
في البداية غذاء يجمع الأحبة والمعازيم كما جرت العادة ..
مضتْ الساعاتْ , وأقبل المساء, صار البيت مجرة ضوء الأطفال يعمون المكان يجدون دهاليز ممغضة الضوء ليلعبون ويختبئون عن بعضهم ..
أيُّ حديقة ليلية تعبق بعطور فريدة الوصف ...
ساحر وباهر وساحر الزفاف الدمشقي
في الخارج أصوات الرجال تعمُّ الشارع ولا أجمل من العراضة الشامية وحمل العريس على الأكتاف ورقصة المحترف بالسيف والترس أمام العراضة و في غمرة الانهمار وأصداء المكان أتى هاتفاً زعزعَ وتر الفرح وانكمش نبض المساء والعروس على كرسيها يذوب منها الحسن وبين راحتيها يحتك جمر الصبر ليعلن الاشتعال
ما هي إلا دقائق وعاد الخال يحمل بين كفيه طائر لتوّه لفظ تغريدة حلم ...
يحمل الإيمان
ملفوفة بنعيمٍ أبيض مزينة بالورود مكللة بريحان الوداع..
إيمان نعاها الفراق ..أعادها لعين الجنة حيث سهت من عينيها سهواً ..
تبدلت ملامح الفرح
لبس المشهد عزلة , سكونٌ أرّقَ الحظ لكن لااا
كان الخال أشدُّ من جبلٍ شدَّ لجام الليل ..امتطى صهوة المستحيل
في زاوية وضع إيمان ومُزقةً من قلبه المكتوي وذهب ليرقص على ألمٍ ونصف فرح,,
صارت الدموع تحكي جميلهُ ، استمر الفرح .أتت العروس بيت الجد والخال الكبير البحر يمدُّ أعضاؤه المائجة ليزرع على كل الشفاه ابتسامة فرح..
هكذا أنت يا شام لا يليق بك الوهم غير أصوات الحق والحقيقة لا يعنينا ..
نحن لا نكترث لأصداء الفراغ فالشام لنا
أهزوجة وزفاف ودم ودموع....




سلة العيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يذهب يوم ويجيء آخر والشام تذخر بقناديل الليل ..
تماماً ككل الأيام..
عيد كل الساعات وقفة فرح وانتظار وأنت يا بيت الشام كنتَ مقياساً أرنو به مسافات القرابة والأصدقاء والزوار قبل انتهاء الصوم يبدأ الحزن بلغة الفرح والفرح بداية حزن والحزن أوله ابتسامة والمعادلة وداع ولقاء ...
هل تعرف "المعمول" حين أصابع النارنج ترقه وتحشوه عشرةُ المحبة..
هل أمسكت برغيف العيد المنتفخ وبقع الاحتراق اللذيذ تغريك بالتهام المزيد..
هل عندك جدة تُدير من الكلام والترحيب وجبة استقبال ..فور لقائك بها تُشعرك بتخمة عجيبة, كأنك أمام زمنٍ وعصرٍ من أصابعها تأكل السحر ..
ومن مثل أبو زهير سلة جعبته المليئة بحبات الدراق الكبيرة ومن يصادف في طريقه يناوله دراقة حتى يصل بيته أو يبقى بعضها أو لا...
والمذهل به روحه الجميلة التي تضجُ حياة من أول الحي حتى آخره ..
للآن تقبع بي حسرة الوقوف أمام ذاك الحي دون أن أصل إلى آخره ربما وصلت ذات مرة إلا أني لم أقتنع بالنهاية ...
وهذه المرة تحديداً تلك الطفلة غنوجة البيت مجدداً أحبّتْ أن تكون طفلة ..حين تمسكت بالخال ورجته أن يصطحبها مع بقية الأطفال للملاهي ..
-لكنك يا بنت لا ترغبين باللعبُ, كلامك كان هذا ..
-والله يا خال أخاف عندما أصير في الخمسين أن أحنّ لقلابة الزمن وأركب بها عجوز وأصير أضحوكة طفلٍ صغير قبل الكبير ..
أطباق الفاكهة والحلويات كانت أقلّ إغراءاً من الذهاب لمدينة الألعاب..
أيُّ عجائب تلك المدينة تسكنها كل أطفال العالم حسبتهم متجمعين في بقعة منتهية مجرد ما تعلو بك القلابة للأعلى ..
الرجاء تحب أرجوحة ذات المقعدين والسمر يريد الأرجوحة الدائرية والطفلة الكبيرة تقف أمام الحلم الفظيع وتسأل نفسها بمباغتة عقلية ...
-هل إذا ركبتُ القلّابة ألامس السماء وأقفزُ لظهر الغيوم
هل أمسك نجمة ياااه وبالمرة أنام في حضن القمر ..ترى هل هو نفسه قمر العشاق أم هذا قمر الأحلام..
لمَ سيبقى حلم ...
الآن الآن...أريد ركوب القلابة ..منظرها الشاهق يُريب لكن بهذا الكمّ من الأطفال شيء يدعي للطمأنينة ..
ركبنا وكنت محاذية لليمين أمسك بطرف الشبك وبدأتْ تعلو قليلاً قليلاً ..صرتُ أطول من الخال متر ومترين وصار يصغر كلما علوتْ ، صار المكان أصغر والقلابة تعلو والرعب اغتصب الأمان وبدأ لساني بالصراخ والدمع يترجى العالم السفلي بالنزول ..//كم غنيٌّ الله وفقراء نحن//
أريد النزول وإلا أرمي نفسي من الأعلى ..والأطفال من حولي يضحكون والخال يشير لي بالهدوء ..قليلاً ثم بدأت تهبط وصار البكاء أكثر حين القلب بدأ بالتحرك من مكانه والنزول أصعب من الصعود وانتهت القصة بكثير من الخوف ونظرات العتب واللوم من الخال تصدر على شكل وعد ..عندما نصير في المنزل سيكون العقاب مميزاً ربما لا..ومجرد نظرة شعرتها ليس أكثر ..
وصاحب القلابة يضحك ويسخر مني ويقول أليس كل هؤلاء الأطفال مثلك من منهم صرخ وبكى ..
كان كثير القول والسخرية إلى أن طفح صبري ورحت صارخة به ..عندما قال لم لم كل هذا الخوف ..
يا إلهي أنا لا أخااااف بل خفتُ لأني لست طفلة ..
----------------


العروس شام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتعود مع كل مطلع سحر وتغتسل الامنيات من صنبور البحرة تتوضأ الحكايات بعنبر الورد وياااا أصوات الشام وزفير الحمام وأشياء وأشياء كثيرة في الشباك الأخضر..
المعدة خاوية من كل شيء سوى فكرة الامتلاء ورائحة أصناف الطعام المنثورة في الهواء ..وكأن الطعام نوع من أنواع الورد.. رائحة لا يمكن الاستغناء عنها أيدي لا تشبهها أيدي نكهة الفول تقرأ المدينة رائحة التنور تخرق الغطاء لتدخل آمنة قصر اشتهائها...
والفكرة كيف يا أمي سأرى النساء في الحفلة يرقصون ..؟!! كيف سأرى الحسن لأقيتُ نهمي من فتنتهن ..
كالزنبق كل واحدة تنافس الأخرى ..
كلهم جميلات وأنا كلي جراح أهوى النظر ..كيف سأرى ..كيف سأتحول لأنثى وأتخلل مكان الحفلة ..لم للنساء هو فقط ..ماذا أفعل لأرى فقط فقط لأرى وأستغيث وأملأ الصيام بقرص قمر فاتن يا أمي...
-ويحك... منذ متى نلبس الغواية ..من
منذ متى تقرأ أمامي اشتهائك ..
أتعلمين يا شام ..الخجل فيك مؤجل الحكايات في دنٍ تتخمر حتى يروق الوقت لتصبح خمر ثملاً ..تنور الجدة يتسع ليحرق الخطيئة ولكن الرماد باقي يؤسس لاندلاع حكاية اخرى ...
على بعد شجيرة تختفي مريم ..
يصحو في القلب سؤال استفهام..
أين الخيال الذي كان يرافق تغريد الكنار وياسمين الفجر
أين ابنة الشفق وهي تملأ شقوق الذاكرة بطينٍ مالح..
من لوّث طهر العيون بجرم البعد والغربة ...هنا كانت
تصحو ..تلملمُ ما خلّفه الزوار من فوضى وكؤوس مصطفة حول عنق البحرة ..
هنا كانت تُلمّعُ أوان الموعد وتغلي على نار انتظار نعناع صبر ..وتقووول لنجلس هنا وننتعش برائحة الأرض بعد الغسل ..لنأكل هنا حلم الليل الذي تقددّ في سهادنا ..تعالي يا طفلتي نختم وثاق السهر ببصمة نجمة
تعالي حيث الياسمين المجنون
لنجلس تحته ويمطر علينا روح الحياة
هذا المجنون أنثى يجنُّ حين الليل فارسه وأنا أعشقه أكثر حين يهطل على رأسي حين يتحرشُّ بي فلا رجلاً وجدته في دنيا الوقت ولا رجلاً يصبُّ لي رؤية في الحلم إذاً ليكن الياسمين رجلاً أسافر إليه كلما تبعثر خيالي..
وأنااا يا أمي سأدخل اليوم مسكن النساء بفكرة لا تخطر في بال أحد ..سأتزود وأروي فضولي سأسرح بين سيقان الغرام ومن العيون ستكون البداية ..اليوم سأمتعُ نظري الكفيف بكحل الحسن ..
-إن فعلتها سأغضب منك ..
-هههههههه مني ليس عليّ
العروس تدخل غرفتها لتبدل وترتدي الأجمل كل خمس دقائق لها المشروع ذاته والنسوة حولها بأبهى الحُللْ وأتمُّ خلق وأزهى الألوان يرتدن والمكان حديقة فوق الورد المجللة أسوار البيت ازداد بهجة وطرباً بإيقاع أحذيتهن ويالا الهول على الخال المسكين الذي ارتدى جلباباً أسود وغطى وجهه بنقاباً وآاثر الدخول لمكان النسوة لو لم يدخل كان الجنون سيضرب رأسه ويصبح مختلّاً فيما بعد ..
اقتحم وسلّمَ بالإشارة وأخذ مكاناً بين النسوة ونظارته السوداء لن يُسقطها هول ما رأى بل ظلّ متماسكاً يشوي صبره على موقد احتراق ...والرقص والضحك والمشاكسات النسائية والمناسبة مباركة زفاف تلك وكل شيء يُفرح مؤكد فعله..
والخال يذوب ويلتهم والجمر يحرقه ....
الجميع ينظرونه لا ولم يخطر في بال أحد تلك المرأة المتجللة بالسواد ..لم لا تفُكَّ عنها وتهزُّ خصرها قليلاً ...
-مسكينة ربما هي حزينة ..عاجزة ..أو أنها مسنة ..اتركوها لا أحد يزعجها ..
بالفعل لن ولم يزعجها أحد وانتهى وقت المباركة حين صحون البوظة أتت والكل يريد أن يسعف قيظ حرّه من مفعول الرقص والحركة ..والخال منذ وقت والجمر أحرقه لم يبقِ منه سوى أيدي من حديد وبقوة أزاح النقاب ليأكل نصيبه من البوظة وما إن تجلّى وجهه الأسمر وأبرقت أسنان الالتهام حتى دبَّ الرعب في المكان وتعالت الأصوات وانتشرت الفوضى والصخب والصراخ والويلات والحسرات والخال يمسك بملعقة ويأكل نصيبه وماذا لو كل زوج عرف بأن رجلاً كان في مجمع النساء ..الجميع حتماً مطلقات وأنت يا خال هل ستتزوج الخطيئة ..هل تربت وتمسح دمعة كل مكسورة ..
-أنا لم اخطئ فقط نظرت وتنفست
ومن مال الشام تزودت ....


ضمير الوقت نائم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن الذاكرة حين يبتسم الوقت لرمضان والفصلُ صيفاً لا مزاحاً مع الحرّ واللقاء أنشودة الساعات.. المواعيد زهور المآذن ..
في دمشق التوحيد يُعشقُ...صوت الحق يلوي الأضلاع حين ينتشر في ساحة الصدر..
والطير المجنون يثمل ويقعُ عند عتبة البيت الكبير ويركض الأطفال ولهم في كل شيء حصة لكن الطير يرفرف قبل وصولهم بخطوة ويحلق من جديد..
ومن جديد يشتعل تنور الذاكرة فيه من الجمر ما يكفي لخبز ثلاثين رغيف انتظار..
-اليوم صيام إلى أين ستذهب والحرّ شديد يُحرق الدرب كيف رأسك ..وبالكاد تنقل خطاك ..
- لا عليك يا حجة لأني صائم.. أحب لو أعيدُ لحظة الشباب وأذهب لأشتري السوس البارد وأقراص القطائف وأمرُّ بالكرم أقطف بعض العنب ...أتريدينه زيني أم بلدي //
-طيب ماذا سأقول لك ..انتبه لنفسك فقط
فرات هذه الجدة لا يعرف الجفاف ..لسان النصيحة يُديرُ عنفة السكون وسبحتها تصل للصين كل يوم مرتين ولا يُفرطها التعب ..
الوقت طويل والعطش جفَّ نداه صار ملحاً في الجوف يحرقُ..
-اصمتوا يا أولاد وتعلموا كيف الصبر يكون ورددوا ورائي القرآن.. أتعلمون سينير قلوبكم وسترزقون وسيكون الأمان حليفكم وستعمر بلادنا وستكبرون والياسمين برفقتكم ألا ترون حتى الياسمين صائماً هذا اليوم..
النصف الأول من اليوم مضى بتسلية حكايات الجدة لنا والنصف الثاني سيمضي ما بين شجرة التوت والمصطبة وأرض الدار الممتدة من غرب إلى شرق...
-ممكن سؤال...
-متى سنأكل ..؟!!
-أترين هذا الحائط يا ابنتي بقي ربعه مُضاءاً بالشمس ومتى غابتْ عنه بالكامل سنأكل..
هكذا قالت أمي ومضت ..
ثمة كنوز في ذاك المطبخ العاجيّ حيث أصوات النساء يتجمعن حول أعمالهن كل واحدة تنهي ما ترتبَ عليها والكارثة الأكبر في تلك الأبخرة التي أضاعت كل الاتجاهات وغير أنوفنا لا تعرف لها مستقراً .أيُّ عزاءٍ هذا الذي يُرثينا قبل الممات..
يا إلهي ..الحمد لله حلّ المساء والجامع القريب من الدار بدأ صوت المؤذن يعلو بتلاوة القرآن ..وانتهت النسوة من تحضير الإفطار ..الجدة أخذت تتوضأ لصلاة المغرب ..الجدُّ سيكون في طريقه الآن للدار إلّا أنه تأخر بعض الوقت ربما لأن سلة العنب ثقيلة على يده الحنونة ولكنها ستكون خير رحمة لإطفاء قيظ هذا النهار الملتهب..
حسناً الجميع تجمع حول المائدة والمدفع سيضرب ..ثوانٍ ويؤذن المؤذن والجدّ لم يصل بعد ...
الرحمة منك يا رب ..
-سنأكل ..ربما أعجبه أن يبقى في الكرم مع عنبه الطيب
أعطت الجدة الإذن أخيراً على الأقل لنشرب ..
ضرب المدفع وقُرع الباب بآنٍ واحد..
عندما فتح أحدهم الباب.. كانت الصدمة الأكثر هولاً عندما رأينا الجارة متلهفة ذعراً وكل حواسها تصرخ بقوة . وبأقل من دقيقة حولتْ المكان من سكون لرعب والجميع هبَّ من مكانه وكؤوس الماء المصطفة مازالت مليئة والياسمين راح يسقط سلاماً ليشي بالأمان ..والجارة بالعتبة تشير بيدها للخارج وتقول يا حجة يا حجة الحاج أبو ....
-قولي فوراً ما به
-رأيته هناك ..
-ماذا به .. هل حصل له شيء ..؟!!
-لا شيء لا شيء
لكنه تائه عن المنزل ...أضاع الصواب
--
يا شام لو جعلنا أجسادنا قناديل
وزفيرنا أوكسجين
ودمنا زيتاً كي لا يطفأ فتيل روحك
لفعلنا.......


نبض هارب من الأنين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مازلتُ أجول في تفاصيلك يا شام..
أتنفس أوراق التوت المثقبة وأرضى بتساقطها المعجّل على الشارع العالق بين الورد وأبواب الحارة ، هناك سيرة تتفتح كلما الليل ضمَّ يديه على ثغر النهار ..ثمة حنان لا يجيده سوى الليل ..وبيت الخال الذي تفتحت أكمامه قبل الفجر ..الذي هطل منه الودُّ أشعة متوهجة أذابت خجل الوقت المتأخر حين طبيباً ربط أجزاء الوجع بحكمه وقال أسرعوا .. النفس الأخير في قيلولة إذا الضحى انكب على صدغه ..ثقوا تماماً ستنتهي الحكاية ..
جنتّ أساطير الأمومة.. لعب الظنُّ من الشرق للغرب والمرض الفتّاك لا يعرف الرحمة ..
-ويلٌ لي كيف وبهذا الوقت المتأخر سأطالك ياشام ..
-ماذنب صبية العشرين. منك ياداء ..ألأنها أمٌ لبرعمة ومازالت تناغي وليدتها ..أكثيرٌ عليها أن تجرب الفرح ..
لا ااايجدي الكلام والإيلام ..فلتسرع يابني قبل أن يصحو الصباح ..ونفقد نجوى القلب..
ما هي إلا دقائق وكان كل شيء يتجهز للرحيل ..
إليك يا موت ..أم إليك ياحياة ..
هكذا الشرشفُ نطقَ حين لم يكن للكفن تخمينٌ بين أسباب المستحيل البعيد ..
آآآآآآه يا دموع ..كانت ينقص المسافة إليك يا شام هذه الدموع .. ألا يكفي "آب" ولهيبه ..وفوق الجحيم ضبابٌ خيّمَ على جسد السيارة ..وأنت يا سائق لم لا تسرع ..ألا تدري بمصابنا..
-على رسلك يا خالة ..أية سرعة زائدة نتدهور جميعاً ..
ألا ترين الضباب..غريبٌ هذا الوقت والله غريب ..ضبابٌ في آب ..
قبل أن يلتقط النفس الأخير أنفاسه ..كانت الأصابع تطرق باب الخال..
وبحنانٍ وافر الأمان وبعيونٍ مشرقة رغم الظلام رغم الشعور المكتظ بالوجع الأسود ..
سيكون الخير ..لم الخوف..؟؟ غريب هذا الخال ..ويمازح ويضحك ويملأ الجرعة بمسكن لطيفٍ..
ما هي إلا ساعة أو أكثر بدقيقتين حتى هيأ للحياة فراشاً من نور ..
على جنح الأمل طار بنا ..على سرير الحقيقة ..ابتسم ملاكاً
حين وضع يده في جيبه مطمئناً ..كل الحكاية بأنك صبية الغنج أنت ..تشاكسين الموت وهو يهرب منك ..
على الوسادة ..ترك كتاب مفتوح ..
اقرأيه يا بنت .. واكتبيني ذات يوم
طيبك من لبنان
ياااااااه ..وهل انتهت الحكاية ..وخلقت من جديد ..فلنسرع ياخال قبل أن يقولوا ثمة نسيان في جوفها ..أسرع يا خال ودعك من الغزل الآن ..
ويحك يا خال ...ارتفع حاجب الشام ...وحارس الباب سيقتفي
ذنبك..
أصحيحٌ يا شام ..بأنك شفاء المجروحين
أصحيحٌ بأنك لا تخذلين الغريب
ياااااه شام ..كم يحتاجك السؤال ومازال...
------------------


خالد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على متن السؤال ..أبحر شرود المعنى وهل لي سوى ارتداء ثوب الشوق حين تغزوني لهفات التفاح..وتدخل الأدعية قلبي المكتوي على لقيا الشام ..
ثمة موعداً آخر يرسمه الحنين في لبِّ الخوخ وزقاق الجيران..
ماذا أقول ووجه هذا الشاب يعتزل الوجع ..يغادر الفراغ ..يودع أنين الغرابة ويبدأ نهاره بالصلاة ..
ليس ضرورياً أن يكون مفتاح اللسان صوت يسمع ..يمكن أن يكون أبكماً ومع الإشارة ينضج السبب ..
هناك خلف منزل الود موعداً آخر مع الحكاية ..هناك على الطريق ثمة مكان رحل الزمن وانتهى الوقت وبقي في الذاكرة يستحم بقطرات ندمي ..كيف لم تغزلني المسافة على دروبه ..كيف بقي حسرة تندبها أصابعي كلما قلت //كيف// ،غيرُ جذوع شجرة التين والتوت لم يلقى طيفي خيالات أخرى
من هنا مرّ بائع الآيس كريم ..على دراجته يحمل براد ألفة والأطفال يصحون كلما وصل صوته مع نسيم الصباح ..من الفراش إلى محطة الوقوف ..وخشخشة النقود تملأ جيوبهم ..قمة السعادة في هرم من الآيس كريم.. مفتاح الصباح ضحكات أطفال ..مرّ الزمن وطوى الفرح وكان آخره ..لا فرح بعده ..
وقرب البحرة وبرغم الندى الذي يلاطف أعناق "الخبيزة" إلا أن بخار فنجان قهوة أشدُّ وصولاً لأذهان القلب ..لانحناءات الخاطر ...
-أتريدين المزيد يا ابنتي ..
- لا أظن أنني سأكتفي ..دعيني أثملُ وأمتلئ ..لا أظن المشهد باقي ..
هي نظرة رنوتني بها ومضت لكنها أدمتْ سكوني ..لم أقصد الخراب بها ..لم أقصد الحسد ..ولكن الفرح والشعور به محدود الوقت ..قصير القامة ...يااااااه يا خالة
ليت الركام كان جسدي وافتديتُ دارك بجسدي ولا يهتزُّ ورق وردك ..إنه الحسبان وحساسيةُ متمرسة في فنون العذاب ..أعرف وأدرك بأنني في زمن صفّ الذكريات ..
-أين الأولاد ..
-في الخارج تصيدوا بائع الايس كريم وتراهم الآن يؤنسوه بفكاهاتم..
-أين "خالد" ليس معهم .
-ربما يخاتلهم ويختبئ عن نواظرهم ..
مرّ الوقت وخالد في أزمة السؤال ..أينه ..تأخر.. غير موجود ..غريب..ليس من عادته الاختفاء ..
اقترب الظهر والمزاج تعكر وفورة الخالة تطفح من عينيها ..
من بعيد وصل صوت "خالد"
أشرقت الوجوه ..ابتعد الكدر ..فُرجتْ الصدور وقلب الجدة اطمئن ..وما إن وقعت العيون عليه حتى علا الصراخ من جديد ..
"خالد" يسيحُ منه الأحمر من رأسه لقدميه ..
لكنه يبتسم ..وفي يده سلة التوت الأحمر ..
"خالد" أحب أن يستبق الموعد ويضرج الوقت بالأحمر
"خالد" علمنا كيف الأحمر يصفع قبل التلون ..
وااااه يا خالة وتلومينني...
---------


باب في الذاكرة مغلق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفتحي يا أكمام الذاكرة وانسابي في حقول الفول وأقراص الشمس ..اخطفي من الأشعة خيوط الضوء لألبسك الحقيقة برداء ذهبيّ..
ما أبهى هذا اليوم والشروق يغرس أصابعه في عيون المدى ..
والعشق وصال القلب بالذاكرة ..
هي ذي فاتن تقترب من رأس العين ..تغسل أرجل النهار بانتظار المساء وتمدُّ يدها لحقيبتها ..
تكتحل الآن و تزوّدُ الأحمر على شفتيها ..وتسرح شعرها الأسود ..
جميلة رغم أظافر الشيب اقتحم أربعين عودها ..لكن الميسم يطفح بالعبير وينثره على ضوضاء المساء ..

-بقي القليل وتذهب للقاء فلذة كبدها بعدما الزمن عمّدها بماء الفراق وكتب لها البعد عن حبيبة قلبها "ريمة" وما كان في الأمر حيلة غير بيت الجدة واللجوء لخال البيت ..كان شقيق الروح لفاتن ..
-تروي يا أختاه ..الشوق سيأكلك قبل الموعد
-ولم النبضُ ولم القلبُ إن لم يكن "لريمة "..
ياااريمةُ ...آتية لغرس الحب على يديك ..آتية يا ابنتي انتظريني ..
جلس الظل على ركبة المساء والخال مبتهج لصنيع عقله ويديه ..لقد أجاد رصف الحجارة وبناء أول أساس للتواصل ..
أرجوك أسرع ..أخشى أن يصادفني شقيقي "يوسف" هنا وفي زيارة غير موعودة يأتيك...
-هههه ..وتخشينه وهو صديقي أكثر من كونه شقيقك
-لاااعليك....فكي عن جبينك هذا القلق وابتهجي وريمةُ تنتظر بعد المساء هاتفي ..
هي لحظة أو اثنتين ..برهة فقط وكانت "فاتن" ترخي على رأسها الغطاء وعلى أصابع الوقت ينبض وتينها ..والخوف يبقى معضلة تفتكُ بأشرعة الخطوات ..قليلاً وطُرقَ الباب ..
والقلب انتفض من أضلاع "فاتن" وجنَّ حين أتاها صوت شقيقها ..
"يوسف" صديق المكان ..قلب البيت ..عرزال الصنوبرة ..حكاية المواعيد ..والصديق القريب للطفل قبل الكبير..
دُهشَ الخال وصعقت الجدة ..
اندهشت الفاتنة وصُبَّ العرقُ منها ارتباكاً ..
وبسرعة أشارَ الخالُ لها لغرفة لتختبئ بها ..
لكنه النسيان ترك صفعة قوية على جبين الخال . ..حين قال ..ويحي كنت قد قلت له اللبارحة أن يمر ويصلح الباب ..لكنه فاجأني بسرعة استجابته
المصطبة المكتظة بالأطفال وأصحاب البيت ..أراعتهم المفاجأة بعد استبعاد مجيء "يوسف" في هذه اللحظة ..وعندما فتح له الباب ..ابتلعت الوجوه التحية وتلعثم الجميع عندما لم ينسى "يوسف" حمل منشاره لينشر باب الغرفة الخشبي والذي وراءه تختبئ "فاتن" ..
يا ويح هذه المصادفة والخال يرجوه أن يؤجل هذا ليوم غدٍ
و"يوسف" ..ما بالك يا رجل وهل أنا غريب فلتذهب أنت وأنا أكمل ما جئت إليه ..
-يا رجل ليس الآن
-بل الآن وإن لم تدعنِ سأجلس مع والدتك، وأشرب الشاي تحت الياسمينة ..
وما العمل الآن و"فاتن" مختبئة والموعد مع "ريمة" سيفوت والعمل يا يوسف الآن ..
-أيُّ عمل
-تعال ..تعال ..هناك باب لأم صبري الجارة يلزمه تثبيت من مسامير عنادك ..تعال ثبته لأجلي وارجع لبابنا وأكون قد رجعت لأملئ وقتي بطرافتك ..تعال ولا تقل لاااا..

يا شام ...
بين زفرةِ ثراك
وشهيقُ النسيم
يشربُ الوئام تنهيدُ النمير...


خزائن الفجر والمساء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجذع يئنُ والفصل شتاء والدرب أعماه الضباب ..صقيع كانون لا يرحم العود إن اشتعل بل يمدُّ سلطان جليده ليطال بصيص نارٍ تتقد في مجمر مدفأة ..
هنا هيأوا الجدُّ ليغسلوه من آخر لحظة في الحياة ..وهنا صوته متروكٌ في أحضان الكرسي الذي كان مرافقاً له طيلة أيام عجزه ..في كل ركعة وسجدة ومع كل وقت ..هذا الكرسيّ حفظ التعويذة والبسملة ..صار يندهُ لنا كلما المؤذن أذن للصلاة ..وعلى جذع الشجرة المفصّل على قدّ قبضة إبريق الوضوء ..تُرك الإبريق ليئن وجع الفراق ...
كيف سيقع الإبريق مراراً كلما الجدُّ شدَّ قامته ليعلقه ..أيمكن أن تفعلها نسمة صيفٍ أم شجرة التوت سيحفُّ ورقها وتسقط الإبريق..
وبما أن للطفولة أعذارها بحكم أن ما زال الكثير من الوقت أمام البراعم لتتفتح تلابيب أدمغتها ...
-حزينةٌ على فراقك جدي ..
هي لحظات مرتْ بسرعة الطيف عندما ودعتك وآخر كلمة قلتها ...لا تنتظري العطلة تعالي قبلها ..
بين الكلمة والوعد نظرة تأكيد ..حركة غنجٍ كعنقود تشرين متدلية على أكتافه وقبلة على رأسه وكانت الأخيرة ..
وماذا بعد الثرى ..وأيام العزاء ..هل من لقاء
هذا ما راودني في لحظة براءة ..أو أن الموت آخر حدوده الغياب لبضع وقت أو أن يكون الموت في غرفة معتمة ومن ثم أوجه غريبة مرعبة وصراخ وبكاء ولكن وقت يمضي ويعود الميت من غيابه...هكذا أخذني السؤال لعالمه المفتوح..
وغمرني الأمل رغم بكاء أمي وجدتي وكل من كان يأتي ..
ثمة شبهٌ بين الموت والحياة والمولود والعرس في الشام ..
تلك الحضرة والمولد وقراءة القرآن ..عقود من بقاء .
رحل الجدُّ مع ابتسامة للقاء
وعمَّ المكان الناس وعلااا صوت القرآن والسبحات والقهوة وأجواء العزاء ..
ولكن الفرح أشرق في آخر يوم للعزاء
ربما الجدُّ آتٍ اليوم ..لا لا بل أكيد هو آتٍ وغيابه لم يطول كما زعموا ..
عند المساء وبعدما أتوا الشيوخ وقرأ القرآن والتفوا ضمن حول بعضهم ..كانت أشياء لا تستوعبها ذاكرتي فقط لمَ..ومتى يعود جدي ..
قليلاً وأتت صواني الحلويات وزبادي المهلبية ..كما الزفاف ..مزينة بالفستق الحلبي والكريمة وحبات الفواكه المجففة ..
يااااه يا جدي ..بأي زفة أنت آآآتٍ..

ويحي أنا من جنوني فيك يا شام
أخذني الهذيان
لأنضج الميت من لحده بعد ثلاثون عام ...





شيخ العنب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن ثم تعود الحكايات من إيقاع المعاناة لتملأ جوف الغيوم ببخار الصراخ ويأتي الصباح محمّلاً بعناقيد السؤال ..
-من سيذهب للبستان ويقطف الخضار ..
-ومن غيرُ الجدِّ تراه يفعل ..
أووه.. دائماً هو من يتحمّل أعباء الحرّ وقيظ النهار ودائماً هو والبهجة روحان تسكنان محياه ..
وهل ستذهب وحيداً في هذه المرة أيضاً وماذا لو ارتفع ضغطك وتهت مجدداً ..
وعلتْ ضحكته حتى أنها أيقظت "أحلام" من بين دمياتها وأتت مسرعة لتلعب في حديقة دارنا ..
والجدة تضرب بكفيها الفراغ وتعود لتقول مجدداً ..يا حاج لا تذهب وحيداً والله أخشى عليك ..فلتمرّ بجارنا "أبا فايز" ولتصحبه معك ..
-أتخشين عليّ إذاً ..الآن تأكدت من حبك يا امرأة بعد سبعي عاماً تأكدت كثيراً..
-لا لا..ليس حب ولكن الوقت صيام ولا نريد انتظارك كما المرة الماضية والرعب كان زاد فطورنا ..لا تذهب وكفى ..
-سأذهب ولن أعود ..وسأمرّ بجاري "أبا فائز" أسلم عليه وأمضي .
تلعثم الدرب وغير خطوة مرتبكة لم يمنح للعكاز شيئاً ..
كانت همّةُ الجدِ أقوى من حكم سنهُ ..كل شيءٍ بالابتسامة يسير ..
لوقع عكازه على الأرض موسيقى تستميل عنق الحسون ليلتقط حبات النغم من بين أقدام شيخٍ هرم وطقطقة عكازٍ متين ..بين العكاز والأرض وأقدام جدي مثلث تشكيلك يا ذاكرتي
هنا وفي آخر الدرب لقيا الأحبة ..وهنا الحاج أبو "فائز" يمسك بالجد ويدعوه للإفطار عنده لهذا اليوم ..
وبعد محاولات إقناع وافق الجدُّ ورجع أدراجه للمنزل وما زال مبتهجاً والجدة أكثر منه إشراقاً ..
هو الحب الدفين بل أنه الحب الكبير الذي لا يشيخ ..
ما سرُّ التقاء الأحبة في لحظة مهاجرة ومن يقيس المسافة بين سطرٍ وفراق ..
الخطوات فلذات كبد الأرض ..حتى عند الموت تعود الخطوات لرحم الأرض ..
يااااه يا أبا "فائز"..سآتيك اليوم وبعد الإفطار ستسمعني كثيراً .. قلبي مملوءٌ بالشكوى ..وأنت صديقي سأقرأ أمامك أوجاعي
سنتعلل ونبتهج ونذكر مشاكسات الشبوبية..
قليلاً وسأكون جاهزاً ..سأقرأ في القرآن يا حجة قليلاً قبل أن أذهب ...
مضى الوقت مرسوماً بلون الحنين لموعد الإفطار مع شيخ الذكريات..
هل أتيتك مبكراً ..
-يا ألف أهلا بك يا حاج...فرحتي بك أجمل اليوم .وتشاركني فطوري..
سأصعد للسطح قليلاً وأرى الخزان إن امتلأ ..كما تعلم الماء قليلة ..
-إصعد ..قبل أن يحين آذان المغرب
بسم الله وما شاء الله وبه نستعين ..

أذن المغرب ولم ينزل الحاج أبا فائز وانتهى الآذان وكل من في البيت كان ينتظر ويا لَ بؤس الحال ..
بعد نفاذ الصبر ..صعدوا ليلقوا الحاج أبو "فائز" متعثر ربما صعود مفاجئ للضغط وعلى إثره ارتمى وقد نزف رأسه الأحمر ..
وكان فطوراً ..وكان فراقاً ..وكانت ابتسامة عليك يا صُدف ..
هذه أنت يا شام ..
لا تُنضجك غير عناقيد الصبر
ولقيا الأنام..


على الزند يورق الورد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم توالت النظرات حول خصر البحرة ومعول الشوق يحصد من كل ثغرٍ وصدغ قبلةَ حب ..
يمرُّ الزمن دون أن يرحم ذاك الصنبور الذي يعيد حكاية العطش ..ثمة عطش لحنينٍ ما.. هو أقوى من عطش الماء للماء ..هو الأقوى حين يستغيث القلب والكبد لفلذة ربما لن تحتل في الأضلاع مكاناً ..ربما أنها غير معلنة في ذاكرة القدر ويلزمها أشواطاً من مسيرة الضوء ..هذا الورد يحمل كل يومٍ برعماً ..
لِمَ..؟!! هذا الرحاب يعقره المستحيل وفوضى الوقت .
من سيرث قبل الرحيل ابتسامة العيون ويكتحل بقامة الزهور قبل أن تصير يا بيت جدي برجاً ولن يطالك نظري ..
ليتك يا بيت جدي أركنوك في مساحاتي البيداء لبقيتْ روحي بك خضراء ..لكنت نسغاً تغذي هيفاء حبي لك ..
والآن وبعدما أمسى البيت خاوياً من طفولتهم وصاروا ذكرى ..من ترى سيعيد للبيت خصوبة الفرح ويورق على زندي هذا يا ولدي ..
- كله بأمر الله يا أمي ..تأملي الخير وكللي أيامي بدعاؤك ..
- ومن سيحبو لفراشي و يشدُّ المنديل عن رأسي كلما يديّ لاعبته وعينيّ قبلته قبل فمي.. ياعمرُ متى أرى براعمك .. لأشدُّ ظهري وأتكأ على عود الأمل بعد فراق طويل ..هذا الصمت أحرق قلبي وقلبي تعود على تقليب الأطفال في مهد أضلاعي ..متى..؟!! قبل أن أموت أحب لو أرى البيت يعاود الرقص على صوت طفلٍ ومواء قطة بالقرب منه ترنوه...
-ألم أقول لك يا أمي كله بحكمته تعالى..
ألم أقل بأن للغد قصة مرجوة ..قد تركتها أمنية على يديك قبل أن يصل زفيري للوسادة وحصرتُ في القهر كل حبة تراب تيممتْ بها نظراتي ..
ألم أقل يا أمي ..أول الغيث "سماح" رأيتها على بحرٍ من غيمٍ تطفو ..تناديني بفمٍ من لؤلؤ ووجهاً من نور ..
بشراكِ يا أمي ..والسلام على أغصان الأمل يورق
أُبيٌّ يرنو لقاء عينيَّ قبل أن تختمين تجويد الآيات ..
وفي الهُمام سيرة الحياة لعينيك تحبو ..قبل أن يذوب فيك الحنان ويكوي الجفاف بقاع صبرك ..لك يا أمي وريث الغيث يغدق فيك روحاً....

كنت يا شام شابةً في وجهك أرى زهوي
ما زلت يا شام شابةً...
في وجهك أدفن عجزي...


بعضٌ مني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم ماذا بعد أن التهم منا الزمن روعة الألفة وبراءة الصحبة والقربة... ومن يعوّض جناح الشوق المكسور ويرمم تلك الابتسامة المبنية على وعود النصف الآخر من زمنٍ آتٍ آآآت ..
لم تكن تلك نسمات الفجر ولم يكن ذاك المساء هو الذي عُجن في معجن الود ..
بين الغياب والبعد ذكرى تستريح في زهرية ..تورق من جديد سلاماً للشام .. وأنت كنت عبير الصباح.. عنبر الوقت على مدار الذكريات ..
بيدي فتحت أبواب الحلم وعرّشتك ليلي الذي أحب ..ثم
في عينيك فانوس وحشتي إن لم توقده أنت أسرعت قبل أن يُطفأ وبغنجٍ أعيد تكوين الحكاية ..
وأذهبُ وأغيبُ لأعود وأرى بأن فانوسي شُحَ زيته ..وماذا تفعلُ نجواك في بعدي .. ألم تسأل شقوق الجدار عن أسرارك المختبئة فيها وصفوف الورد الشاهدة على أرقك ..ألم تسألك موسيقى الصباح والمنشفة وطرف المرآة المكسور عن عينيّ المحيطة حولك.. تحصي حتى المليمتر مابين وقوفك أمام المغسلة وغصن التوت المتدلي فوق رأسك وكلما رفعت يديك كان الغصن يقبّلُها وتتوعد بقصهِ وتنسى وتعيدها رواية في يوم غد..
أنا لا أنسى أني وليدة المكان وطفلة تؤرخ في حبرها سيرة الدهشات ..
أنا لا أنسى صدرك الذي يغوي أنثى الحسون وهي تنهال على كفيك دخيلةً لتنتشي بوسامة ..
لااااا أريد زمناً خلى بك ..لا تصلح الحكايا حين تمخر عجلات قلبك ويسرع بك الهروب من عينيّ ..
أول اللؤى آخر المنى ..
وقميصك ما ورثتُ أبيضه لكن الدمع الأسود رسم خريطة مولدي وموتي وشفاه صبري الأحمر على قميصك مازال ..
وأنت مازلت متسمراً عن ضمي ..تسأل الوقت من أكون ..ثمة شبه بيني وبين جلدك ..ثمة سرٍّ تفتحت صُدفهِ ..ثمة برعم تفتح هنا وعبق هناك ..ثمة وجهٍ في وجهي أنت شقيقه ..ثمة سؤال
-ويحي يا خال حسبتكِ أم الورد يا حبيبتي ..
-ويحي أنا يا خال ..الشوق خذلني وتكلم بلغتي وساح الأحمر وفي قميصك أدفنُ عزائي
دع الكحل يسيح أكثر ..
دع الدمع يغسل الشوق فيصير أجمل..
أنت قلب والحجر لا يليق بمن روحه بحر ..وعلى شاطئ أترابه يمدُّ الخير..

يااشام نكبر ونشيخ وصدرك
قاموسٌ يجمع الحنين
والحب فيك بردى لا
تجفُّ روابيه ....
----------

فاصلة ثم سكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهذا الوقت ثغرٌ لا يشُلَّ لسانه من كان عاجزاً عن النطق وهنا الفرح مساكب خضراء تمرُّ عليها نظرات السنونو تاركة في سماءها فراغاً لوقتٍ ستعوده ،حتى لو اغبر جناحها بغبار الغريب..
يا "أنس" اليوم زفافك وعلى الأكتاف ستحمل وأمامك عراضة وسيوف وأتراس ومن خلف الأبواب الزغاريد والبراعم من بين القامات تزهر الفرح وأنت حزين ..؟!!
من ريش اليمام نرسم الفجر ونزرع في الشفق لؤلؤ الحلم ثم نعود لعروش الياسمين نعقد جلسات السمر ..نعيد ترجمة ما تركناه بين فواصل النهار وتأخذنا ضحكة لتكون ملاذنا الأخير في ليل لا ينتهي غير في غفوة ويعود ...
ويا "أنس" مالذي يجعلك حزين ..ألست الفنان الذي يمسك الخشبة ويحفر فيها حروف السؤال ..ألستَ المبدع حين تجعل البحر على سفينة السحاب يسبح وألم تكن "أنس" الذي يصنع للذوق مسكناً ويهندس ديكور الحلم بفحم صبره ..
ألم تزرع في قلب عروسك شتلة الهواء حين مرت يوماً لتسألك عن عنوان تاجر القماش وكان جارك وصرت رقيب خطواتها منذ ذلك الحين ..ألم تصطاد من أسفل عينيها نظرة هاربة إليك .. وأسست للقاء مصادفتها عند جارك التاجر وتكفل جارك بالسؤال وبطريقة أكثر من أدبية أتاك بالموافقة ..
ألم يجنُّ جزئك اليائس وتيقظ من شفقة العابرين ..
هو الحب والعشق ..والنظرة الأولى محراب اليقين ..
يا "أنس" فُكَّ عنك الهمّ وامسح وجهك بالذكر وعطر فمك بالصلاة على النبي ..وتهيأ فاليوم زفافك ..وعلى هذه الورقة ارسم لليوم الأول فرحة لا تموت ..كل الأفراح حروف في الذاكرة إلا فرحك لوحة ناطقة ..
-وعلى الورقة كتب "أنس" كيف أنادي عروسي وأنا أبكم والمشكلة بأنها راضية وأشفق عليها أكثر من علتي التي كدتُ أنساها أمام أنثى شامية //
-لا يا أنس ..يكفي أن تهزَّ غصن الياسمين حين تريد أن تناديها وهي تجيبك // أليس اسمها ياسمين//

ياااشام ...
كل اللغات من رحمك تمخضت
وللياسمين لغة
تذيب الحجر ويهدهد لسان الغريب..
------------------



رسومات في الخيال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهناك طفلة تحاكي الأمكنة بلسان البداهة تغمر الأسئلة بروعة دهشاتها وكلما لامسها الهواء تتحول لصدى تنتشر روعةً في الفراغ ...طفلة هذا البيت الطفلة السحر والوجه الآخر للشمس زادها الوهج ألقاً فاكتست الغرور ثوباً وعلى دلع الرؤى تغذت وأينعت ..
ما أقساك أنت يا "سلوى" تسخرين من ساق وقدم وتوزعين ابتساماتك الخبيثة للجدران ومفاصل الأبواب ..تتباهين بالعين الخضراء وهي خضراء لكنها ترى الأشياء صفراء ..لا ينبت التواضع من بذور المتكبرين ..ولا يصلح ليكون قناعاً في حضرة الوضوح..
بالأمس سرقنا من الشمس أشعة وصنعنا لك جدائل ذهب وكنت الأبهى حين يُفرد شال سحرك ..كنت الضوء حين يغفو نور النهار في بئر العتمة وكنت الضياء المزروع في مخ الجمال وحديث البنات عن قدّك وخصر شروقك ...
ما أقساك "ياسلوى" تصبغين الجوري الأبيض بأحمر "الشاب الظريف" وتقولي مابه الورد يكذب جارنا أبو محمود حين قال أن الجوري أحمر ..
وتعرج الشفاه نحو مملكة الغيم تسألها كأس ندى وأن تعصر رأفتها وتسقي أفواه الرياض ..ويهبُّ الصبر من مياسم الريحان مكتوي اللعاب ..واقفاً على أيدي الجدة المفتوحة الدعاء ليل نهار ...
وما أقساك يا "سلوى" تحفرين في نفسك الدغل لتدفنين فيها غيظ نواياك ...ولا تكفُّ عينيك عن اقتراف نظرة دونية كلما مال جسد الزنبق عن خصر قدره ..ما ذنبُ الزنبق يا سلوى أنه يميل ..عاهته أنه جميل لكنه يميل ...
وفي زاوية على الشرفة بعدما اقتنيتِ من تماسيح النفاق بعض دمعها جئت لتفرغيها في كبدِ أمك ..تحتاجين الشفقة..؟!! والهيمنة ذراعك الأيمن والكيد موقد جمر جاهز للاشتعال..ولم تحسبِ للشرِّ وقتاً إن اجتاحك غدره ..لم تحسبِ يا"سلوى"
أكثري واحفري واملأي في نظرك التكبّر وازرعي اللؤم في أحضان الحب ووزعي على حصيرة الود غطرسة روحك ..
وحين تدق أسلاك التوتر وتشتعل النار ويدبُّ الصراخ وتمس النار جذعك وتسأل فيك الطرف الأجمل من أين ستلتهم فيه البداية وحين تطيحك أرضاً والقلب يركع في العتبة مذعوراً ..هل يا ترى سيصحو من وهمِ البطولة أم أنه سيغرق في بركة الحقيقة خجلاً ..
أسألك "ياسلوى" ...
الزنبق يميل ..
إنما ماذا عن الجوري حين زفرةُ همٍ تقصفه ..

إنا فيك يا شام نكبرُ
إن تنفسنا الأريج ولم نكتفي
اعذري الشغف أنه وليدٌ
في أحضانك يحبو...
----------------


أبجدية الإحساس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هاك الحسن وتلك العينين وذاك الجسد وكفُّ مريم على الجدران يستريح ..والرغيف الذي نضجَ منذ وقت أشبعنا بخاره مفردات الاستعجال ..
في شحوب وجه "فدوى" كثير من أسئلة تفتح أفواهها لتشرب الدهشة
وهنا "فدوى" بنت الحارة ونرجسة الفؤاد .. أستاذة تجيد الحرف وغناؤه وتعلمه لأطفال الحارة ..
في الزاوية تدفن وجعاً أكبر من قامة الزنبق الممشوق على شباك النافذة ..وفي لبِّ قلبها تخفي الكثير من دهشات الأطفال وفضولهم المشدوه نحو خصرها ...
-يحاكون أنفسهم وببراءة يسألون بعضهم ..ترى لم بطن أستاذتنا يكبر فيردُ طفلاً سيخرج من طفولته بعد دهشة ويقول //عجيب مع أنها عزباء //
كيف يخوض الجنين مسرحية لنغرق في تراجيديا ولادة.. بدون زفاف ومشهد أبيض ..
من غرس في العمق شتلة ياسمين بريئة وعلى حبلٍ علّقَ توقعات هاربة من أفلاك القبيلة
ماذنب الياسمين أن يسحق ويشنق وهو في رحم التراب يحاول أن يشهق الحب قبل أن يفتح عينيه للحياة وأيُّ حياة ستلقاها يا جنين "فدوى".. وها نحن ننتظر ولادة الخراب مع أننا محزونون في النهاية على مصير لن تهربي منه يا فدوى
-سنعيد سيرة العذراء في أذهاننا كما يبدو أن الأنثى محض اتهام ومرصد لعيون من يشتهي اللعب على حدِّ السيف وهذه المرة لن يكون الرقص على إيقاع التروس والسيوف والعراضة ..هذه المرة سيكون حفل الوجع في مجمع الدوالي وأشجار التفاح والمشمش والكلاب الداشرة..هذه المرة سيتقدم الأخ من عقد قران الشرف ويطعن بمديةٍ من نار رحم شقيقته..
يا ويحك يا زمن ..كيف كنت ومازلت حتى الورد يجيد الحب والحجر يصير طيناً إذا الحب عليه أمطر ..
-من أين لك هذا يا "فدوى"
وصمت الخيل وكان جامحاً وهرب الكلب بعدما أبرقت جذوة الجمر في عينيّ سعيد شقيق فدوى وسقطت أوراق الخريف بعدما حفّ صبرها وثار الغبار من رحم تشرين...
-دافعي عن نفسك وقولي من أين لك هذا يا فدوى
-ومرةً أخرى صمتت ..أيكون العقل الباطني والشرود في قصة العذراء عبرةٌ كبيرة لالتزام الصمت ..
-لآخر مرة أسألك من أين لك هذا ومن هو.........
- بعد الهو تيقظت فدوى من فوضى الشرود وقالت ..
كيف أدافع عن نفسي وهل أنا متهمة ///
هي طعنةٌ واحدة وصرخة موجعة ..أرجعت السنونو المغادر لعزاء الجمال ..كان على السنونو أن يشهد رثاء التفاح وعنب تشرين..
هي طعنة وفدوى صارت نصفين وكتلة سوداء كبيرة اندلقت من رحمها ..
كانت وهماً لم يكن جنيناً
لم تكن شتلة ياسمين ....

أنت أنتِ يا شام
في قلبك النفائس تجول
في رأسك الأفكار تحوم.. ويطووول البال
يسبح في سهلك ألف سؤال
منك ينبتُ العزّ وفيك يُدفنُ المحتال وفيك يُدفن المقهور وفيك المظلوم ..وأنت الراااايات وأشرعة السلاام
وبخور الوفاء
يا أبدية الغناء والياسمين والكبرياء....
يااشام.....


كنا إخوة ماالذي جرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي يومٍ آخر ازدحمت الكثير من الأسئلة في الخاطر وبنظرة تأملية لكل تفصيلٍ وممر وحفرة ..تدفقت الدموع لتغسل هذه الأمكنة ..لتملأ جوف المصطبة بملحٍ ملتهب الفراق ..كيف ستزول هذه الأمسيات وتذوب فيها الذكريات وإلى أين المسير يا صباح الياسمين وشجرة التوت في حفيف ورقها أترك هذياني ..وفوضى أحاسيسي المتنقلة من تراب الحديقة لسقف البيت الخشبي ويحتال علي الوقت ليلفني
إلى أين يا يمام الفجر ستأخذك النسمات وهل من حنين أوسع من صدر هذا البيت وهل من غادة تغني الصباح على طريقة شامية كهذا البيت ...
تخيل أن تكتسي المشهد لبضع وقت.. أن تصحوَ على نافورة البحرة وعبق النارنج وعبير الياسمين ..تخيل أن تتناول وجبة الإفطار قبل أن تجلس إلى المائدة.. قرب عيون الزنبق والقرنفل وتغاريد الحساسين والكناري ..
تخيل أن تصحوَ والروح تتفتح شهيتها للأمل أكثر.. تتعلق بصمت أجلّ حين تلاطفك فراشة ترقص تحت ظلِّ الشباك قرب ضوء متخلل من بين أغصان شجرة التوت ..
تخيل أن تصحو فجأة ليصيرَ هذا المشهد حكاية في الذاكرة
وصفحةً في الخلود تتمسك بمخالبها لتبقى إرثاً للحواس ..
إلى أين يا ديار الشوق والعزة والكرم ..
وإلى أين يا "هشام" تمضي ..دعك من المشاكسات واعقل ياولد ..
-هلّا صمتَ وتركتني ألحق بهذه الصبية ..
-ويحك ألا ترى أمها معها ومنذ متى نلحق بزهور حارتنا ..
كل ما فيك يا شام يجعل الساق على كعب الظنون يعلو. وفي ريعان عمرك تطول بتلات الشوق و يصحو النورس من غفوة الملح ليدفع شراع الهوى ..
وهذا القلب يعجُّ بنداء النبض ويسكب من وريده شروق شابٍ مزهو بنفسه وبعينيه ..
إنما ما بها هذه الصبية لا تعرني اهتماماً ...
جفَّ حلقي وأنا أهمس وراءها وأتبع ظلها وأمها كل قليل تلتفت عليّ وأشيح وجهي لأقنعها بأنني بريءٌ من فعلتي وتتابع مع ابنتها الدرب وأتابع بخطايَ اللحاق بهما ..
كم جميلة هذه الصبية ..موزونة خطواتها ..خفيفة المشي تكاد قدميها لا تلمس الأرض ..ومن أسفل ثوبها يلمع كعب قدمها ..أوووو كم ذكرتني بأمي هذه الصبية ..أذكر ذات وقت قالت لي أمي عندما أريد تزويجك يا "هشام" أول شيئاً سأفعله سأرى أسفل قدم خطيبتك لأتأكد من نظافتها ..
ليتك يا أمي معي لترين ما أراه الآن ..ليتك ترين هذه الصبية كم تركت بها الشام عبيراً لا حدود له...
سأتابع وسألحق بهما للنهاية وسأصل لعنوان البيت واليوم اليوم سأفتح الحديث مع أمي وأدلها على هذه الصبية وستقبلني من جبيني على اختياري ..ألا يكفي كعبها البراق........
وأدبها وحشمتها واتزان خطواتها ..ألا يكفي بأنني التزمت الأدب وكنتُ حريصاً وتنازلتُ هذه المرة عن البسبسات والمشاكسات وكنتُ غيوراً على صبية ستعنيني ..ستعنيني متأكد....
لحظاتٌ مضت ووقتاً قصيراً مرَّ وأنا أتبعهما حتى صرتُ بحارتي وجانب منزلي ..

يااااا إلهي أيعقل أن تكون هذه الصبية جارتنا وبنفس الحارة ولا أدري ولا أمي تدري ..
ويحي أنا أم ويحك يا أمي الغافلة عن هذا الجمال ...
ويحك أنت يا ولد ..بئس الولد ..وبئس الرجل ...
لم ألحق لألتقط أنفاسي حين السيدة خلعت حذاءها ورفعت المنديل عن وجهها وراحت ترمي بحذاءها على وجهي ...
ويحي وألف ويحاً ..
كانت أمي ..كانت أختي ..ولكنني كنت غيوراً وكانت حقاً تعني لي ..

يااااه ياشام ....
وتجيدين شوط المشاعر بأقدام الثقة
وتحفرين في المنتهى بحراً لأشرعة ستعود من الأفووول
كبيرةٌ أنت يا شام
والشوق لك جنان....


وكانت ذاكرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهنا سيحط السفر حقيبة الهجر.. جاء وقت خلاء المكان وهدم خصر البيت بفأس الحقيقة ..والحقيقة هو الحلم الذي تبرج حتى كاد يلامس قبة الغيوم ..
هذا البيت سيكون ملمحاً لذاكرة خالدة ستحييه السطور وتغمره اللحظات المتفحمة في كبد التراب ..
يا بيت الطفولة ..وغنج البراءة وصبابة الندى ..يا عيون الهيثم الذي يرصد تعثر خطايَ المعطوبة ..أتراه ينتظر افتراسي أم يحرس عفويتي الطفولية ..لكن في عينيه انتظار يحكي لي العذاب واللوعة ..
-إلى أين ياخال الهجران ..
ضروري أن يتنهي هذا المكان ياخال ..
-ضروري جداً ياصغيرتي.. يجب أن نستبدل سقوفه الخشبية بسقوف حديدية ..وضروري أن تتحول البحرة لشلال وأحواض الورد العشوائية الفوضوية العطر،، لأصص من لون واحد وترتيب من نوع آخر ...
-والجدة وقلبها وعينيها ..هل وضعتم هذا على سلّمُ العد وتجهزتم لمفاجآات وجعها وهل جهزّتم لليمام النوافذ والأعشاش ...إلى أين الرحيل والوقت لم يكمل اغتساله بندى الخريف ,,دعوا هذا البيت يسطر آخر الهوى هناك قرب الصنوبرة قرب تنور الود الذي فتح شهية الصباحات وجمع لقاءآات الفجر وتغريد الطيور ..
كيف سيصير هذا البيت رماداً بعد حين ومن سيجبلُ الحنين كل عيد ويسقي الأفواه زمزم البركة ...
كلكم ستقتلون الفرح وتنعوه ولن يحبل الوقت بمهجٍ تنشد التعب والشوق كل ليلة ..والقادم لن يكون جميلاً ..
هكذا نعب غرابٌ ومضى ..جارنا العدنان لم يصوّب طلقته بإحكام غدر به النسيم وأفلتَ الغراب وهرب ..ذاك الذي كان يوسوس كشيطان في دماغ الخال ..
كان له نصيباً وافراً من المال حين وافقت كل الأطراف على هدم الجمال ..وكانت الفكرة الجديدة أكثر جمالاً في هندستها ..مبنى عالي وتلفه الشوارع وتقابله المآذن وأبراج الحمام ..مبنى يعانق من قاسيون جبينه ومن الغيوم ذيول نداها ..
مبنى لو صحوت فجراً تصافح منه الشمس وتدعوها لرشف القهوة ولو تمسيتَ في غروبه لتوضأت بعبير الغوطة كلما النسمة هربت من معصم المشمش...
مبنى استلقى جسده في سرير رغبتي كنت أخشى الدخول في غمار نشوته ..لا أريد لذاكرتي أن تبدل الجمال الأول ولا أن تكتسي فخامة القصور .كان يكفي رائحة التراب والحشائش التي تسوّر البحرة وكان يكفي صوت الجارة "أم عبده" حين كانت تطل برأسها لتضع صينية مربى المشمش على شرفة نافذتها الصغيرة لتجففها الشمس يااااه للحظة تخال بأن لا أحد يمكن أن يراها دون غطاء ..تكتفي بطرف الستارة وتغطي القليل من شعرها وتأتي النسمة وتزيل الستارة وأضحك من بعيد ..تتصيد ضحكتي وتملؤني سحراً من وجهها الأبيض ...
كان يكفي شروق الشمس وشروق "أم "عبده" ..كان لا بد من تغطية الشرق بقرارٍ أعمى ...
ويحك يا وقت ..كنت انتظرني قليلاً لأرى المبنى العالي وأفنان الذوق وحسن التفصيل ..
الجسد المستلقي بذاكرتي لم أنعم به لم أتخلل أنفاسه بقي جسد خالي من صهيل شوقي
إنما الفرق يا وقت بين البيت القديم والجديد ..عندما رحلت وقت هدمه لفظتني الدمعة من أحداقها الحنونة ابتسامة ترتق الحلم بوعد أمل ..واليوم ألفظ الدموع من المآاقي كبريت على رمادك يا بيت ذاكرتي ....



وحين تغني الطفولة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على موج الهيام أمتطي شهوة الملح وأسافر في خليج القلب لأمتع نظري بسحب أيلول ..ألبس مع تشرين عباءة التفاح ..
أجري معك أيها الوقت لأنهض من بقاع الذاكرة قبل أن يلتهمني نابك أيها النسيان وأسرع وأضرب المسافة بنعل الجنون ...
ما رأيك ..ألست أنا الشاعرة.. وحين تغرق في ضباب الوحدة أعرف كيف أعيدك لصفاء المرج وغنج البحرة وركبة التنور حين الوهج يهطل من تحت قبعة الجمر..
-تعالي يا بنت واقرأي لي أجمل ما تهمسين ..
-بل أجمل ما أشعر يا خال ..
-مالذي يقوله شجر المشمش للتفاح ..
-يقول أنا في ضيافة الود ومحفل الكروم والشراع يسحبُ قامتي لأطول ..وكلما مال وحفَّ ورق غصني أحني رأسي لأقبل لحية شيخي التفاح وأطلب السماح ..
-يااااارائعة يا أنت ..من أي الأفلاك أتيت ..وماالذي يقوله النهر للناي ..
-وأما النهر ينتشي ويتدفق كلما الناي غرّد على هديره ..
على سريره المائي تهبُّ فتاوة العشق ويسري في جوفه الحرمان ..قليلاً ويعود ليترقرق كالوجد في عيون الناي ..
-يا بنت قلت شيئاً كبيراً..وماذا عن العشق والهوى ..أتجيدين الكلام فيه..
-ومال العشق عند بوابة القلب وهفا وانتشر الصدى في أرجاء الشوق وإني لأراه من عينيك يعتصر لهفة المسحور وفي قلبك آلاف الحروف ..تود لو تعيدها لسيرتها العذراء و ترافق الجنون لمفرق الانتظار حيث هناك تشهد لك البيبان وأعضاء الحارة وورق النارنج وخلخال وردة الحسن والدلال ..
-يا بنت ...اصمتي ..
-وإني لأرى كيف يقفز من قفصك عبيرها وتمسك ببنانك اللؤلؤ المتساقط توقاً ولوعة ...وإني أسوق لك العذاب حين أنبشُ من تراب الفراق قصص العذاب وأعلم أني الطفلة الشاهدة على براءة عاشق ووردة على الجدران تكلبتْ بأظافرها شوقاً وحباً..
-اصمتي وكفى وارحلي من هنا ...
-انتظري قبل أن تذهبي قولي فيَّ شطراً يعيدني من تأويلاتك الطفولية ..
-العشق ليس خرافة يا خال والشطر لا ينزل من كوكب القمر ..وأنا الآن غرقت في بحر الزمن ..
ستون عاماً ولست طفلة العاشرة أنا ..أحمل في الصميم غاباات من جحيم الأملاح ..أُرخي عن كاهل الذكرى أنينُ وحشرجة الليل وأصطفي من الرؤى نظرة تقيني حمم الآتي ..
أخشي يا خال من موسيقا الموت وأناشيد الرئاء وأخشى أن يصير الأفق أزرق كما البحر والسماء ..
أخشى أن ألتفت يوماً وأراك كما الغرباء
ذاك العمُّ يوماً كان الغطاء ..خلدته ..مجدته ..أحببته
وراح للملجأ يسأل هل من جدار ..وراح يقبض في يمينه دراهم انتفاع ..
ضاقت أنفاسي يا خال يوماً ورحت لتربة الحديقة وأمسكت بعود وقع من شجرة التين ..ورجعت بالذاكرة لمقعد الدراسة وتذكرت ندى صديقتي وحكاية مفجعة روتها لي ذات فرصة وتذكرت بيت شعرٍ لا أدري لمَ لا يذهب من بالي ..
أمسكت يا خالي العود وحفرت الشعر على لسان الشجر...
((إذا جار الزمان عليك يوماً فلا تلجأ لعمٍ أو لخال // فكم من عمٍ عمَّ البلاءُ منه وكمْ من خالٍ من الضمير خالْ))
وكان العقابُ شديداً وكان الشعر وقتها خراباً حفرته بيديّ ..
.
ماذا أفعل يا شام وأنا ابنة المشمش
وبإصبع القرنفل أحفر الفرح
أهزُّ بساط اللغة فيحلق غبار الحكايات من ذهب
أقفلُ لساني فيزأر الصوت من الحدقاات يا شاام


عرافة السمّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم جاء الوقت لترحل أيام الخوالي أو لنفارق مائدة الودُّ ..العنب يُذبح على صدغ التراب والدهشة تأكل الصميم في كل زفرة وتنهيدة.. والوجع يكتب أساطير قهره ..هل سيأتي الزمن بوجه آخر وملامح تكون أكثر طيبة أكثر صدقاً .هل سنكتفي من شرب الملل وكتابة الحروف الموجعة ..هل سنعري الشفق من عباءة الغسق ونغسل أصداءه من نشيج الأمل ..هذا الأمل المضحك إلى أين وصل بنا الانتظار له وكم من سيرة تمَّ تأجيلها ليمُنَّ علينا بفرح حقيقي وهذا ما أشكُ به لحظة وجود حقيقية ومتنفس يقبع عند نافذة الشروق ..
ذاك الشروق حكاية كان من حكايا الجدة قبل النوم ..وعدٌ من حرير الكلام ..وأفولاً لمدى ضيق الأماني ..
-ارتدي ملاءتك وأسرعي يا امرأة ..
دخلتْ في غيابك العرافة وعند العتبة فتحت منديلها ورمت عليه الحصى ..تنتظر قدومك لها متلهفة ..عوَدَتكِ أن تشربين من كأس الخداع قطرات وهم ..
وأن توصدي بابك في كل من لا يرتاح له قلبك أو أنت فعلاً صرت تهذي ..
وبسرعة البرق الخاطف هبّتْ المرأة من مكانها والجدة تناديها لكي لا تصغي لهكذا خرافات وأن تترك كل ما للشيطان به يد ..والعرافات ُأشقاءُ الشياطين هم زفير النار ..
دون جدوى ..كان صوت الجدة كمن يلاعب أفراس الهواء ليرتد لها صداها خاوياً من استجابة ابنتها لها ..
ودقائق مضت وكانت المرأة في بيتها وراحت تجلس أمام العرافة وتفتح كل حواسها لاصطياد الحروف البارعة السكب في قالب الطيبة ..كم من عقولٍ لا تجيد شمّ الذكاء ولا يجدي بصرها أكثر من وهمٍ يقبع أمامها ...
-من جديد ترمي العرافة الحظ وتقول للمرأة اضمري ما بداخلك وعندما أذكره لك تشيرين لي برأسك ..وكالمعتاد بالتنجيم ..غدرٌ وعذاب وغيرة وحسد ورجلك عاشقٌ يا امرأة ...ويلاااااااه وهناك أمرٌ أكبر ..أم زوجك تسحرك ..
لا عليك سأعطيك القليل من بودرة..إنما ثمنها غالي جداً
-لا عليك مهما كان ثمنها أعطيك من النقود مقابل ألا أرى وجهها في منزلي ...
هذه البودرة سوف تقيك شرَّ تلك اللعينة فقط عندما تأتيك حُرّيهم في كأس الماء واسقيها وسيصرف عنك وبائها ..
وهذا ما حدث حين أتتها والدة زوجها ..وفي يدها حقيبة مليئة بالهدايا وفي جيبها أكياس ورقٍ صغيرة نجهلُ ما بداخلها وعلى وجهها ابتسامة ودٍ لا تفارق محياها وسجادة صلاتها وسبحتها في يمينها يلازمانها أينما ذهبت وكشوق الأرض للغيوم لسانها الممطر حلاوة ..
كل أركان البيت ترقص وتبتهج حين تلك الحاجة تربت على الأمكنة بحنوٍ وحبٍ ..وللمطبخ من بركاتها نصيباً حين كانت تحشر أنفاسها في طهي "المقلوبة" على طريقتها البدائية اللذيذة المذاق ..وتمدُّ يدها للكيس الورقي الصغير وتخرج منه رشة قليلة وترشها فوق الطعام وتعيد كيسها لجيبها (هو سرها وحقها وأمرٌ مفصل على طريقة فهمها)
وما إن رأتها زوجة ابنها تدخل وتخرج وتصل لغاية طهي الطعام وترش على الطعام شيئاً حتى تبادر لذهنها السم وجن جنونها في ذاتها حين راحت عند البحرة تهذي مع نفسها وتقول ..آهااا الآن عرفت وأدركت كلام العرافة وصدقتْ حين قالت عنها لعينة يا إلهي تريد التخلص مني ،إنما لن أتناول من هذا الطعام قبل أن تجترع كأس الماء والمفعول الذي وصفته لي العرافة من أجل أن تكره منزلي ولا تعود إلينا مرة أخرى...
جهُزَ الغذاء ورائحته الشهية كادت أن تثقب أنف ابنها وأولاده إلا زوجته كانت قد صبّت لحماتها كأس الماء وأجبرتها على شربه بأنها طَعَمتهُ بماء الزهر ليفتح شهيتها للطعام ومن وراء الماء الزهر مفعول العرافة سيحكي ..
-ما سرُ طعم المقلوبة اليوم فيها طعم غريب ولذيذ جداً.. وعندما انتهت الحاجة من شرب كأس الماء
- أجابت ولدها ألا تدري يا بنيّ لا أغادر منزلي دون سجادتي وسبحتي وكيس البهارات لا أستطيع تناول الطعام دون البهارات التي أشكلها بيدي وأطحنها ...
-أواااااه ..وصرخت الزوجة
يا حسرتي مالذي تقولينه ..وصمت الجميع
وابتسمت الحاجة ..لا عليك
ربي عليٌّ قدير وحكيمٌ عظيم ..هو من ساقني اليوم لأموت عند ولدي ...
.
.
يا شام ..تلك الحكمة من ثغر اللوز تتقطر
وهذا الحب على شفتيّ الشوق يتجمهر
وأنا خثرة أسدُّ وريد الكأس كي لا يطفحُ
يا شام لا تُقيليني من أوجاعك وجراحك
فكلي شراعٌ.. متى كسرتني
تُراني إليك أُبحرُ ...


شهادة موثقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم ماذا عن شريط الأفراح وصبايا اللؤلؤ وصباحات بيت العم أبو العبد الذي تملؤه قدود الفاكهة من كل الألوان ..ماذا عن أعوام الزمن التي مرت من خرم إبرة دون الشعور بضيقٍ يعترض أو يطبق على أنفاس من يسرع ليقبل أيدي البركة ويكتب في كل يوم على واجهة اليوم "الأمل نهاية الحروف" أيوجد أجمل من أن تكون النهاية أملاً ..
كم مرة علينا أن نكتب آثار خطواتنا ونحفر في الصميم ربيع كل المواسم ..
بيت العم أبو العبد رغم طول مساحته إلا أنه يبدو صغيراً حينما يعجُّ بالناس وخصوصاً إن كان زفافاً ذاك الزفاف الذي لا تنتهي سيرته بيوم أو يومين إنما سبع ليالي والحبل يمكن أن يطول لو ما شبعَ جلدُ الطبلة من جلدِ الأكف لها ...
"وحسان" ولدُ البيت المدلل وشاب المدرسة الحاذق وفتى الحارة الشهم ..يتزين به البيت قمرٌ بين مساكب الورود ينير ويفرد فضة الروح على قزحية فرح أبيه به ...
حسان الذي لا يعرف الدراسة إلا وسط زحام الأهل والأقارب ولا يحفظ مقرراته إلا وأصوات الأطفال تملأ جيوب ذاكرته ...
وما يجمّلُ الأفراح تلك الفوضى التي تدور بين أقدام الأطفال وفي عيونهم تلمعُ مشاكساتهم البريئة ...وتلك "هند" بين ذراعيّ أمها تنثني ..طفلة تذيب في صمتها حلاوة السكر ..
بعينين واسعتين ترصد كل الأطفال من حولها ..تؤسس لنفسها مكاناً أرقى من اللعب والاختفاء وراء الجدران والجريُّ لتسابق الفراشات ..."هند" تقرأ ما يكتبه حسان المستلقي على بطنه وظهره للأعلى ..ذراعه الأيسر مثنيٌّ يحمل صدغه واليد الأخرى تعمل بأمر القلم ,,, ورقٌ طويل وعريض ومحبرة أمامه وهو يكتب ويكتب وكلُّ من في المجلس يلتفت لبراعته واجتهاده حتى أنه استرق نظر الناس إليه أكثر من صبية التفاح المصمودة على الكرسيّ المطعم بالصدف ..هذا الكرسيّ قلما أحد يجلس عليه إلا إذا كانت عروسة مثل عروس اليوم ..
-حسان يا حسان لمَ لا تدخل إلى الغرفة وتقرأ وتكتب بهدوء ..ألا ترى الأطفال من حولك يذهبون ويجيئون ويمرون من أمامك وأنت تتذمر ..
- تعلمين يا أمي إنها متعتي ...أن أتذمر وأصرخ وأهدأ هذه متعتي ..أن أقرأ البهجة في وجوه الموجودين متعتي الكبرى ...
والطفلة "هند" شيئاً ما يدغدغ عينيها ولا يشغلها غير هذا الشاب وكأنها تنتظر فرصة لتقتنص أمراً في بالها ...وفي غمرة الموسيقى وأهازيج النساء ورش العروسة بالورد ورش الأطفال بحبات الملبس والشوكولا..ثمة فوضى شملت المكان وأحد الأطفال رمى بحجارة صوب الشاب "حسان" وهبَّ حسان من مكانه متوعداً للطفل بصعقه وراح يجري والطفلة "هند" استغلت الفرصة ومن فورها صوب الورق ذهبت ..
أحنت ظهرها لتقرأ ...لكن علامات الملل ظهرت على وجهها فلم تفلح وكأن الحروف ليست عربية لطفلة مازالت في الثالثة عمرها ..أمسكت بالقلم وحاولت أن تكتب شيئاً ما ..أيضاً لم تفلح فملأ قلبها الغيظ عندما صارت يدها ترتجف ولم تسطع رسم أي حرف ..نهضت لتمضي فلفت نظرها المحبرة ولونها المائي الأزرق وكأنها ستتحول لرسامة وهي تدير برأسها نحو الشمال واليمين تريد أن تتخيل اللوحة من أين ستبدأ بتلوينها ..أخذت تغط إصبعها وتضغطها على الورق فراحت تبتسم ..أعجبتها الفكرة ولاختصار الوقت قبل أن يأتي حسان من مهمة الصفع ..تناولت المحبرة وسكبت كل ما فيها على الورق وياويحك يا "حسان" لا تريد أن تدخل الغرفة وتقفل على ذاتك وتنتهي من مشروع تخرجك ..ويحك يا حسان لقد تم رسم تخريجك بريشة فنان ...
.
يا شاام ..
يا أم الحكايا وذروة الوامق غراماً
يا بنت الدمعة وسواقي الملح
يا نسائم النسرين و أساطير الهديل
يا سؤالي الممتد لأكثر من هيفاء الشوق ....


سبيُّ الأمل
ـــــــــــــــــــــــــــ

وأسأل كل يوم وليلة متى العودة لأحضان الرصيف وبثينة العشق مجدداً وبسمة الجميلة ونور القمر إيمان وفاطمة يا سبحان من رسمها بأجمل صورة ..يا سبحان من خصها بميزات الربيع وزرع في محياها ابتسامة تكاد تكون دعوة لاستراحة الشائك بكومات أوجاع ..
كل الأسئلة تضجُّ على مائدة الإفطار وفي عيون الجارة "أم هيثم" ثمة أشياء تدور وتسبح ولا تلقى لها مقراً ..لم يعد يرويها إرواء الحقل وحصد السنابل ولم تعد تكفيها أسطح المشمش المجفف ..ففي عينيها ثمة تمرد أكبر من الروتين وأقوى من طبيعة شخصيتها الريفية ..
-سأشتري اليوم بقرة ..
-أجابها زوجها ..وماذا نفعل بالبقرة وعندنا واحدة ..
-لا بل أريد أخرى ..وأخرى وأخرى ..
قبل مضي اليوم كانت البقرة في الحظيرة وارتسمت الضحكة العريضة على وجه الجارة وبدأت بالتفكير خطوة خطوة كيف سستصير الفكرة ثروة .
بثينة وإيمان وقمر وفاطمة سيكون لكم الحصة الأكبر حين كل واحدة تعرف عملها وتتقنه ..
بالأمس كان المكان خاوياً إلا من غراس صغيرة وبعض شجيرات زيتون واليوم صار المكان يعجُّ بأشجار اللوز والكرم المقابل للخالة "أم هيثم" تحول لحظيرة من البقر ..بالأمس بدأ المشروع ببقرة واليوم صار مئتان وخمسون بقرة ..كبر الحلم بعدما تزوجت فاطمة وأثمر الحلم بعدما تزوجت بثينة وصار للمشروع معمل وصار الإنتاج يلعب ويثمر ويربح في جيوب الخالة وتحول الشقاء للراحة وهذا العقل النسائي الريفي قد بدأ بتصدير الانتاج وبعد القليل من الوقت وضع أول حجر أساس لمعمل الألبان وصارت الخالة "أم هيثم" كالزنبق يعلو رأسها كلما عبقت في رأسها فكرة جديدة ..وأيُّ فكرة تقيك شرَّ ما حذا به الزمن وأين الحظيرة الآن وبقايا الحكاية ..وأين البقرات ..أتدرين يا جارة قال مقهور وهو يلملم جزئه الأيمن المبتور بأنه رأى قطيعاً يهرب بعضه يُذبح وبعضه يُخطف والبعض يُسبى أتدرين يا جارة
حين تعودين لذاك المكان ..ستجدين الروث تحمل في أرحامها عجولاً وفحولاً....

أنت أنت يا شام
ريشةٌ يهزها النسيم فيحمر شفقها
ورأفة في وجه كل مضيم


قطارٌ في قبضة الوقت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقبل أن يغادر القطار سكة الانتظار وتغرب الشمس عن حوافي الأمل هناك خريفٌ ينده بلسانٍ خجلٍ ..يقامر على رجلٍ لم يكمل وجبته من قدرٍ مستعجل وبعدما تنفس أول شهيقٍ من كأس الحلم ..شيئاً ما اهتز في داخله لكي يهبُّ من مكانه ويسرع لحتفه ..
هنا وبعيداً عنك يا شام تأرجحت الحقيقة على خيوط من ضوء واقشعر جلد النسيم من صراخ الغروب والأمس الذي كان مستحماً من درن الملل واليأس .. تراهُ كان يتوضأ ليدخل ثرى النهاية ..أم كان يتهيأ لأبدية أكثر دفئاً أكثر أماناً ..
آآه يا وقت ..ما أقساك ..وهل أنت حملاً لكفكفة دموع زمن بأكمله وهل أنت كفيلاً لأن تسدَّ أفواه البراعم ..البرعم الذي لا يعي شيئاً عن طبيعة الحياة بعد ...
لماذا يا وقت تستعجل فتح الرسالة وقصم ظهر المسافة ألم ينحروا لك جمل الصبر ..ألم يطعمو عينيك مرجان القمر ..وما زلت مصرّ على فكرة بتر ساعد هذا البيت ..
هذا الذي صار في يومٍ أسود والغروب على سرير القمر يتثاءبُ..عندما ذهب ذات غروب "أبو محمود" ليفتح صنبور الماء وليحول الماء لشتائل النعنع ..كانت عينيه تغطان في وادي كرى ..كثر التعب على وجهه واكتظت ملامحه بالشقاء امتلأت جيوب نظراته بالشرود وصار الدوار يخاتل قدميه وكأنه في نومه يمشي ..ما به الدرب يطول والكرم ما زال بعيداً ما بها المسافة تشمخُ أمامه وكأنَ بها تارٌ تحققه من خطواته...وأنفاسه تبحر بين موج الصحو وضباب الأفق وخاطره يعبُّ بأفكار تذهب وتجيء والمسافة ما زالت للكرم طويلة
..
ذهنه المليء والمشغول بفكرة الغد وتسطير قائمة الأعمال وترتيل واجب اليوم وسقاية الكرم كل يوم ..أعمت عينيه عن سكة الموت وتسمّرَ في منتصف المسافة يرنو لأي اتجاه سوف يمضي ..في لحظةٍ ما وكأنه افتقد ذاكرته أو صوت القطار القادم لم يمنحه فرصة للتفكير أنه في خطر محدق والطرف الآخر بفوضى السيارات وتكاثف في رؤاه ضباب كل تلك الأشياء والتصقت قدماه على حديد السكة ويا "أبومحمود" جاءه الصوت ولم يكن يدري إلى أين سيلتفت
لحظة العماء ولحظة الصحو اجتمعتا في ثانية ولكن القطار وصفيره كانا أسرع من يقظة "أبو محمود" ..
يا شام ....
وحين اكتحل القطار
بسكة المسافة
كان الشوق يمخر
وعجلات القلب تطير
ارتطم الظن قبل الوصول
وساح الأحمر ..ياشام


دموع على صدغ الطريق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكيف سيخلع الأمس ملاءته ويزحف من جيوبه عسجد القصص وحنكة الأصدقاء وود الرفاق وزقزقة الحنين ..كيف سيسقط ورق أيلول دون كرسيين وكأس ماء لعشر أصدقاء ..أينك أيها الرجل الذي تعرش على كوخه الصغير وقال ( الآن أشعر بالسعادة ..اليوم فقط سأنام مرتاحاً ..اليوم فقط انتهيت من وضع آخر حجرٍ لهذا البيت..اليوم فقط سأشرب نخب شهيقي الحر) أينك أيها الرجل ..
من سيرش تويج "الشاب الظريف" والقرنفل الأحمر وشجرة التفاح ..
والحوض الذي ينقصه الكثير من التراب وعلى الوعد باقٍ يغلق ثغره لحين ..من سيحفر في وسط الحديقة البحرة المقيمة في الخيال حتى اللحظة ..أتخيلها متراشقٌ ندى قطراتها ..وعلى أطرافها أصص الورد ونافورة يصعد ويهبط مائها ..وعلى سطح الماء أزرار وبعض ورق من الياسمين والجوري ..كنت قد حملت المشهد الشامي ورسمت سحره في بقعة ورأس جبل ..
للآن تجول اللّو في منعطفات ذاك الوقت ...
لو أبقيتُ ماء الإبريق يغلي أكثر وهدرته وأعدتُ تسخينه مراراً ليمضي الوقت ويفلُّ غرابه ...ويأتي يوماً جديداً بصحبة أمل علّه أسعد//
لو تعثر جارنا عن دراجته حين كان يلتفت لورائه ويضاحك أطفال الحي ببراعة قيادته ومخاتلة المطبات والقفز عنها بوثبة عالية ..ماذا لو أنه وقع يا ليته وقع وجرح قليلاً ولم يُكسر النور لحظة الغروب ...
لو لم يكن في ذاك النهار غروباً وجاء الليل بمخالبه الغسقية وغرزها في بؤبؤ الوقت ..كان انتهى الأمر ورقدنا تحت أمنية رؤية الغد بفرح ..
لو غرقت شتائل النعناع بالماء لحظة انحلال صنبور ماء الحديقة لتغير مسار المساء وهرب الوقت وتغير مخطط تلك الليلة الحمقاء ...
لو تدرين يا شام ماذا يعني البعد عنك وكيف ننثر الخاطر ورود ذكرى في صحبة الأصدقاء وكيف نزرع في مهجنا أسرار اللقيا ونرتب مع بردى رحلة ومع قاسيون حفلة ولا ننسى "سوق الحميدية" وسبيله والحرّ الذي استدعى وقوف الناس مطولاً أمام ماؤه المتدفق من عين تعطي ولا تبخل ..ولا يمكن رحيل الأمكنة من مقعد القلب والعيون وكل الهوى الذي أمسى قبة الخلود ..إنما يا شام نبتعد لنحصد ما هرب من شوقنا لك نبتعد لنملأ لك السلال توقاً ومن ثم نعود غانمين بالود ..وذاك الرجل على جمرٍ يتقلب وما زال مصرّاً للخروج ..شيئاً ما يشده للخروج من منزله ..شيئاً ما يأمره بالهروب من نظرات زوجته وأبنائه ..شيئاً ما يجعله ينهر سؤال ابنته ويسخط بوجهها و يقول لها لاااااا أريد قهوة اليوم لا أريد...
لو وقع إبريق الماء المغلي من رأسي لأسفلي وأحرقني وانشغل أبي بي ...ولم يخرج لعملٍ ليس ضروري كان ..
لمَّ الغروب ذيول الضوء وفي حقيبته المسائية أقفل عليه وجاء الليل بأول نجمة كانت تبرق على بعد أمتار وكأنها سقطت من سرب النجوم أو أضلت طريقها أو أنها من الأرض تصعد // كان الأمر مثيراً لنجمة بين الأرض والسماء ..لم أقف مطولاً أحاكي نفسي بأمر النجمة التي أدخلتني في عالم الملكوت لقد شدّني وأراعني منظر أكثر غرابة في ذاك الوقت وهو بعض نساء الحي يتسارعن والدموع مكتظة على وجوههن وأصوات الويلات ملأت الحي وبين النظرة للنجمة والنظرة للحي ثوانٍ قليلة ..ما لبثت حتى امتلأ الحي بالرجال والنساء وبعض الأطفال الذين وجدوا ذاك التجمع فرصة ليعودوا للعب بعدما الليل هبط والأصوات تتعالى أكثر وعندما اقتربت من طرف الحي رأيت سيارة مكشوفة من الخلف وساقان متدليتان وقميصٌ عليه كل الألوان إلا الأحمر، وفي جيوب بذلته آخر نفق للضوء يلمُّ أصقاع العصر ويمضي وغير بقايا غروب لا يوجد ..وبعض دموع على صدغ الرجل الممدد على ظهر السيارة... لم يبق على مركب الشوق والحياة سوى ملح الفراق ...
لو ضاعت في عينيه الاتجاهات ولم يسلك درب الهاوية
هل كان سيسلمُ يا شام
أم أنك تنتظرين رحلة في غمار الليل
أم أنك تهوين رائحة الصفصاف وإكليل الجبل


سكرةُ الشوق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتعود الحافلة من مرقد طريقها وتعود فطنة العنب ودهاء التفاح ودهشة الخال ويعود الضياع من عيون المسافات التائهة ويتبختر طاووس الشوق عند مفرق العشق ..وهل من عشاق فيك يا شام غير قاسيون والهامة ..وهل العشاق يجيدون لغة الحب كما يُجيدها بردى لحبيبته الغوطة أم ترى كل من وطأ أرضك اكتسح شتلة من مساكب دهشاتك ...كما صار في في شاب الفرات حين أتمَّ دراسته الجامعية وكان أستاذاً في اللغة العربية // كما الفرات كان وسيماً وفي وجهه مبسمٌ لا يعرف الذبول حتى في أوج الألم وكل الصعاب أمام خطاه تزول وتصير عجينة ممزوجة بالأمل والحكمة ...
"شاهر" يجول أمام بيته الكائن في حيّ من أحياء دمشق ..تعود أن يذهب ويجيء مراراً قبل أن يحين موعد المدرسة ومن خلفه من الأعلى نافذة كلما رفع رأسه وجد من يتصيدُ وجوده ويراقب خطواته // بلبل الشوق بدأ يغرد في متحفه الساكن ثم بدأ يرسم في داخله زقاقاً من عشق وكان يأوي إليه كلما الليل استوى في عينيه ويحادث نفسه ويدندن على قلبه بأوتار أصابعه ويرحل فكره للنافذة مراراً ويبتسم في نجواه ويبوح مرةً أخرى لفنجان قهوته بأسرار قلبه ..
ويأتي الصباح معموراً بعصب الشام ..تلك الياسمينة وهذه النارنجة وهناك الهواء الناعم وهنا الريحان والمنتور والزنبق والخبيزة والنظلة ووووووو... مستحيل أن ينتهي العدّ بنظرة شاملة لا بدَّ من قرنٌ من الزمن أمام الورد وضجيج البيت الدمشقي المفزع الرهيب في تكوينه وتنسيقه // وكأنه بالفطرة يُخلق مصمم ومنسق ضمن أطر مرسومة بتفنن وإتقان والبحرة التي تتوسطه قانون كل البيوت حتى أن كادت كل البيوت تشبه بعضها ...
هكذا ينتشي "شاهر" كلما أصبح بيومٍ جديد وإنما اليوم أبهى وأجمل وأعطر وخصوصاً بأن للمرآة الحصة الأكبر حين عاشق يدب في أرجائه العشق دونما استئذان ...
النافذة موصدة وخلفها من ينتظر و"ليلى" كما أسماها "شاهر" في نفسه ..كان يتناثر عطرها ولا يشبه العطور ولا أنثى فاح عبقها بهذا الكمُّ من الشعور بالسحر ..
أكثر من شهرين والحال هكذا و"ليلى وشاهر" على الوقت متفقان // دون كلام ولا اكتمال نظرة ..يذهب ويجيء ويرفع رأسه قليلاً يتصيد العطر الهابط من سحابة الشوق وتلتقط نظرته المختارة من فيلق رنوات ...
طال الأمر وكاد الصبر ينفذُ والعادات لا تسمح بالأخذ والرد وكلام رجل لأنثى وخصوصاً في الشارع ولا سبيل لرؤية وجهها ومن وراء منديل ترميه على وجهها يتصيد أنوثة قد تكون وهماً ولكن قلبه انتفض وغير هذا لم يشغله ..
يومٌ آخر من الصبر وعزم لخطبة الصبية ولأنه ابن الفرات وشابٌ يشقُّ مستقبله بعيداً عن أهله فلجأ لجارته التي أجرته منزلٍ بالقرب من منزلها والتي كانت بمثابة أمٍ له ..أسرَّ لها وأشار لها على بيت الصبية وبالرغم من أنها استنكرت وجود صبية بذاك البيت إلا أنها توكلت على الله في ذاك اليوم ..
ومجدداً عاد "شاهر" من نفس المكان وراح ينظر واليوم لم يرى ليلى قلبه ..والجارة ما زالت تغطّ في سبات القهوة وحتى اللحظة لم تعود لشاهر بيقين القبول ..وهو ينتظر قرابة بيتها ..وحينما أتت ومن بعيد راح يدرس تفاصيل وجهها وعندما اقتربت وبرأسه سألها بالإشارة ..ولكنها كانت بحاجة لأن تسأله وتلومه أكثر ..
-ويحك ..أعاشقُ رجلاً يا معتوه
مع أني كنت متأكدة من خلو البيت من صبية إلا أنه للحظة تبادر لذهني أن تكون أحد قريباتها أو أحداً من عائلة الجارة أحدٌ مقيم عندها فصدقت روايتك ومضيت ..وحين قالوا لي لا يوجد بنات للخطبة وغير الرجل أبو سامر لا أحد يسكن تلك الغرفة المطلة على الشارع ..هو ذاك الخال صاحب المشاكسات التي لا تنتهي من خزانة أفكاره ....
يا شام رويدك
السكر في قعر القصب يجثو
والملح فيك غابات والوجع يحبو
وأنا بدونك هشيمٌ
وبقربك صفصافٌ يصبو ...


وتدلى الوجع عناقيداً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عصيٌّ هو الدمع وقت الصدمة ،والفراق حجمه كبير ...مثلما بدأ الزمن بها سيبدأ أيضاً بنهايتها ولكن بطعم المرارُ الأقسى وبشاهدة الحياة الأكثر ألماً وبواقعٍ نعى ودفن وجودنا وما زلنا أحياء ..مدفونين في لحودٍ مكشوفة... نتنفس زفير الدخان ونعلّق على شظايا القهر عودة الأمل الذي كان غرسة في رحاب مفتوح الأفق ...
ويلٌ لكل نَفسٍ كان شهيقاً أم زفيراً إن خلا من ذكرك يا جدة ..ويلٌ لكل وقتٍ مرَّ دون تقبيل خيوط سجادة صلاتك وجسد سبحتك الذي ما زال يلبس ثوب التقوى في عقولنا ..لا يمكن لوضوءك أن يجففه هذا الزمن القاحل ولا يمكن لتنور خبزك أن يُردم حتى لو صار للقصر لسان وعيونٌ ترنو المسافات ..
هنا يا جدة أجمعُ ما تبقى من هذيان الشروق ذات زمن.. وأجمعُ كل ما تبرج في ذاكرتي وأشمُّ شعرك المقصوص ذات إلحاحٍ مني ولأني أنا.. لم تكسرِ خاطر براءتي وأمسكتِ المشط من جديد وجعلتني أبني من عينيك للمستحيل أول خطوة ..
هكذا تناغم سلُّمُ الأيام مع حضرة الشام ..الشام التي وزعت قلبها ندفاً من مزن الحب ،والجدة التي فتحت بيتها لكل قريب وصديق وبعيد ..والجدة التي كانت منبعاً لزيت وجودنا ..
أهلكها الوقت والتهم الزمن منها صبرها وحان لقاء التراب بعد عاصفة ليست بقليلة من مواسم وأوقات ..
أتعلمون كيف ينضج العمر..؟!!
حين يكون زهره أصيلاً كفرسٍ عربي ..حين يجود بأفضل الثمر هكذا ينضج العمر ..
والجدة التي اعتصرت في أذهاننا نعمة الشكر مازال صداها يهتزُّ في صيوان الوقت ..رغم أنها مستلقية على فراش الفراق ورغم عجزُ حواسها عن تصدير أيُّ إشارة ورغم توقف عقرب عصبها ورغم استحالة كل من تجمع حولها عن فهم ما تتمتم به وكأنها تترك وصيتها بلغة غادتها ..
هنا الجميع ملتفٌّ حولها يغادرون أنفسهم من بؤبؤ نظراتها ويمسحون دمع "العُمرُ" بريش مواساتهم والجدة تلفظُ شيئاً أرق من لغة الورد وأقسى من عنجهية الحجر وتقاوم اللحظات الأخيرة... وكأني بنفسها الميتة أشعر كيف تستدعي صبوتها وكيف تذكر وقت الحصاد وكيف ترش بذار الخيار وكيف تهزُّ شجرة التوت وكيف تطعم الكناري وكيف تحضن "عمرُ" ونجله على صدرها ...من هنا أتتها القوة لترفع يدها وتنادي "همام" شوقها ..
-تمتمت كثيراً وهي تمسك بيده ..تمتمت أكثر حين شعرت بدفء أصابعه ..هدأت عندما سرت حروفها في همام الروح
استقرَ أنينها ..شهقت الروح مجدداً ...
زفرها الموت على أحضان "العُمر"
صاح الكرم
ذُبُح العنب ..........






عدد النصوص : (30)

المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
أكاديمية الفينيق للأدب العربي

الذاكرة الدمشقية ـ نجلاء وسوف
المادة محمية بموجب حقوق المؤلف عضو تجمع أكاديميّة الفينيق لحماية الحقوق الابداعية
رقم الايداع : ن.و/ 08 / 2016
تاريخ الايداع : 5 - 12 - 2016















  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:31 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط