العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > ☼ بيادر فينيقية ☼

☼ بيادر فينيقية ☼ دراسات ..تحليل نقد ..حوارات ..جلسات .. سؤال و إجابة ..على جناح الود

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-01-2016, 05:25 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
جهاد بدران
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
تحمل صولجان القصة القصيرة أيار 2018
فائزة بالمركز الثاني
مسابقة الخاطرة 2020
فلسطين

الصورة الرمزية جهاد بدران

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


جهاد بدران غير متواجد حالياً


افتراضي

النص : تـَسْقُـطُ الحَـيَـاة
النّاص : محمد خالد النبالي

النص :

سِفرُ المُسافر

يـَصْحُـو المَـوتُ , مَـوْتـِي فِي دِمَشْـق
نـَعِيبُ الأَجْـرَاسِ صَـاخِبٌ
يـَحُـومُ وَيـَرْقُصُ رَقْصَـةَ الأَحْـزَان
عَلَى رُفـَاتِ قَلْبِي
حَانَت سَـاعَةُ المَـوْتِ !
الضَّجِيجُ يـَمْـلأُ سَـاحَـاتِ عَقْلِي
حَفَّـارُ الـقُـبُورِ يـَنْهَشُ فِي تـَلاَفِيفِ بـِنْيَتِي
لَـم يـُتْـرَك مَكَـانـَاً فِي قَمِيصِ يـُوسُف
لَـم يـُصِبْـهُ التَّمَـزُّق !

مَـا زَالَت السِّهَـامُ تـُصَـوَّبُ فِي بـَشَاعَةٍ
إِلَى جَسَـدِ عِيسَى المَصْلُوبِ فـَوْقَ شَجَـرَةِ
الزَّمَانِ العَتِيقَـةِ وَبـَينَ عُـودَيـْنِ مِـنَ المِلْحِ
تـُسْخِنُ فِي أَجْـزَاءِ هَيْكَلِي مِطْرَقَةُ الأَعْـوَرِ الدَّجَّـال
تـَزْدَادُ مَـوَاطِنُ اسْتِعْمَـارِ الـبُـؤْسِ وَالشُّحُـوبِ
لِلْهَيْكَلِ المُقَـدَّسِ !
إِنـَّهَـا لَيْلَـةُ احْتِضَـارِ القَمَـر !!
اللِّسَـانُ رَافـَقَـهُ الجَفَافُ
رَغْبَةً فِي اغْتِيَالِ الهَمْسِ
وَخَلْفَ قـُضْبَانِ القَـدَر ؛
تـَقِفُ لَعْـنَـةُ السَّجَّـان

صَرَخْتُ بِهَا :
ارْحَلِي .....
أَنـْتِ اللَّعْنَةُ لاَ سِـوَاكِ
مَهْـزُومٌ أَنـَا عَلَى فـِرَاشِ الأَمَلِ الكَذُوب !
مِن أَجْلَكِ امْتَلأَتِ الآفـَاقُ
بِأَنـَّنِي نـَبِيُّ الجِـرَاح !
عَـقَـرُونـِي كَـفَـرَسٍ عَـرَبِيٍّ أَصِيـلٍ
دَارَت عَلَـيْـهِ الـدُّنـْيَـا .... ,
فَـإِذَا بـِالصَّهِيـلِ الشَّـامِخِ
وَقَـد صَـارَ بـَينَ أَجْـلاَفٍ مِـنَ الأَعَـاجِـمِ
لاَ يـَعْـرِفـُونَ قِيمَـةَ العَـرَبـِيِّ

أَنـَا الحَـرْفُ الَّذِي تـَجْـرِي حَـيَـاتـُهُ
فِي الدَّرْبِ المَجْهُـولِ مُنْذُ الأَزَل
تـَبَـدَّلَت عَلَى الحَـرْفِ أَقْـدَارُ الحَيَاةِ
صَـرْخـةٌ فِي قـَـبْــرِ المُحَـالِ الكَئِيبِ
الَّـذِي لَـم يـَكُـن قـَـبْــرَاً
وَلَـكِـنَّ الحَـيَـاةَ تـُرِيـد
مَـوْتٌ ... تـَحْتَ عَـينِ الشَّمْس !
مَصْلُوبٌ عَلَى جُـذُوعِ النَّخِيـلِ العَـتِيـقِ
بـِعَصْـرٍ يـُنَـادِي بـِآيـَاتِ هَــدْم
صُـوَرٌ وَمَشَـاهِـدٌ مَـرَّت عَلَى حَـرْفِي
مِطْـرَقـَةُ العَـرَّافـَةِ تـَدُقُّ بـَابِي فِي لَيْلَةِ مَـوْتِي
اذْهَبِي عَـنِّي !
مَهْـزُومٌ أَنـَا / مَهْـزُومٌ يـَا أَبـَتِ \ مَهْـزُومٌ مُـنْـذُ خُلِقْـتُ
لَم تـَرَ صَبَـاحَـاتِي كَـيْـفَ يـَسْتَـرِيحُ
السُّكُـونُ فِي صَـدْرِي / كَـيْفَ أُبـْحِـرُ ؟!
كَيْفَ ...؟!
لَن أُبـْحِـرَ ... ؛ ظَفِـرَ بـِىَ الوَجَعُ
وَأَنـَا بـَقِـيَّـةٌ مِـن رَمَـاد
لَقَـد بـَكَى .... وَجَـرَت الدُّمُـوعُ فِي رُبـُوعِ الشَّـام
أشبَاحٌ / أشباحْ بِفِعلِ أشباه الرِجالْ
مَتى تَهتَز شَوَاربِ العَربْ ..؟
أصْنَامٌ / أصْنامْ أنْتُمْ
بِلا مُؤَخْراتْ ..... !
المَوت يَنتَظرْ
الكَفَنُ يـَخْطُو نـَحْوِي فِي هُـدُوءٍ
فِي هَيْـئَةِ المَسْخِ المُنْتَظَرِ
الغِـرْبـَانُ السُّـودُ تـُحَلِّقُ فـَوْقَ رَأْسِي انـْتِظَارَاً
لِنَهْشِهِ حِينَ إِغْمَاضِ الأَجْفَانِ إِلَى الأَبـَد
جَحَافِلُ الظَّلاَمِ تَمْـلأُ الأَمَاكِنَ
وَكَأَنـَّهَا كَانَت تـَتَـرَبـَّصُ بِي فَهَجَمَت بـَغْتَـةً !!
الـنُّجُـومُ اخْتَفَت فَجْـأَةً !! هَـرِبـَت !! تـَخَلَّت عَنِّي
آهٍ يـَا وَجَعِي !!
كَيْفَ أَنـْتَ يـَا وَجْهِي وَقـَد صِـرْتَ أُنـْشُـودَةً لِلـرِّيح
نـَفْسِي غَـرِيبَـةٌ عَـنِّي
بـَل أَنـَا غَـرِيبٌ عَن نـَفْسِي
الـرِّيحُ تـَعْـوِي بِمَعْـزُوفـَةِ الاحْتِضَـارِ
وَصَخَبُ اللَّحْـنِ المُـرْعِبِ يـَضِجُّ مِـنْـهُ سَمْعِي
يـَصْحُـو مَـوْتِي ..!
حَانَ أَوَانُ احْتِضَارِ الذِّكْـرَيـَاتِ المُعَتَّـقَـةِ
شَبَحُ الرَّدَى يَمْشِي الهُـوَيـْنَى
حَفْلُ التَّـنَكُّـرِ لِتَنَـكُّرِي أَمَـامِي !!
وَفِي حَفْلٍ أُسْطُورِيٍّ لِكُلِّ أَصْحَابِ الدَّمِ العَرَبِيِّ
يَجِيءُ النُّصُبُ التِّذْكَارِيُّ
لِكَلْبٍ يـَتَعَفَّفُ الجُـثَث


القراءة :
ــــــــــــــــــــــــ

يـَصْحُـو المَـوتُ , مَـوْتـِي فِي دِمَشْـق
نـَعِيبُ الأَجْـرَاسِ صَـاخِبٌ
يـَحُـومُ وَيـَرْقُصُ رَقْصَـةَ الأَحْـزَان
عَلَى رُفـَاتِ قَلْبِي
""" تسقط الحياة...
عنوان مثير مدهش ..يمنحنا الوقوف مليا بين جوانبه ..تأملا وتفكيرا وعمقا...
(تسقط) ..فعل مضارع متناسل الفعل متين التواصل في الحدث... يستمر نزفه لما لا نهاية..
والسقوط هو عملية قضم للجذور التي تكسب الأشياء الثبات وتمنحها الشموخ..
والسقوط منح الشيء تغريبة عن القواعد والمتانة والصمود..وأنى الوقوف ثانية إلا بعد ترميم للقواعد من جديد...
فكيف وإن كان السقوط هي الحياة...
(الحياة)..عممت أبعادها ومقاصدها وجوانبها الكثيرة..الشاعر هنا لم يحدد معالم الحياة التي كانت آيلة للسقوط...بل جعلها شاملة لكل أصنافها...وهذا دليل على أن كل مناحي الحياة أصابها التلف واستبد بها المرض ..واستفحل بها العجز..لتصبح لوحة يرسمها فنان محترف متقن في مزج مفهومها وتلوينها ألوانا تعكس قوة البناء عند الشاعر...
لنتعرف على أدوات السقوط التي منحت الحياة الإنحناء نحو الأرض...
يبدأ الشاعر لوحته النفيسة بقوله:
( يـَصْحُـو المَـوتُ , مَـوْتـِي فِي دِمَشْـق
نـَعِيبُ الأَجْـرَاسِ صَـاخِبٌ
يـَحُـومُ وَيـَرْقُصُ رَقْصَـةَ الأَحْـزَان
عَلَى رُفـَاتِ قَلْبِي
حَانَت سَـاعَةُ المَـوْتِ !
الضَّجِيجُ يـَمْـلأُ سَـاحَـاتِ عَقْلِي
حَفَّـارُ الـقُـبُورِ يـَنْهَشُ فِي تـَلاَفِيفِ بـِنْيَتِي
لَـم يـُتْـرَك مَكَـانـَاً فِي قَمِيصِ يـُوسُف
لَـم يـُصِبْـهُ التَّمَـزُّق ! )..
يصحو الموت..موتي في دمشق...
يصحو ..هنا..كناية عن كثرة الموتى من موت اختلاف أنواع البشر...
وهنا يكمن الترابط بين سقوط الحياة وصحوة الموت لاختطاف البشر من دائرة الحياة..
وهذا تأكيد على عملية الإتقان عند الشاعر وقدرته في ربط حروفه بصيغ إبداعية جمالية النسج والرسم...أنسنة الموت جعلت الحدث في وهج الحقيقة وتركت في نفس المتلقي جذوة الوجع ..وسيطرت على المشاعر للتأثير في النفوس.. وهذا بحد ذاته نوع من أنواع الذكاء التعبيري ورصد المفردات وفق مشاعر الشاعر المؤثرة...
لننتقل لصورة جمالية بارعة الإتقان تجلد النفوس بقوة تأثيرها...وهي:
( نـَعِيبُ الأَجْـرَاسِ صَـاخِبٌ
يـَحُـومُ وَيـَرْقُصُ رَقْصَـةَ الأَحْـزَان
عَلَى رُفـَاتِ قَلْبِي)...
الأجراس تُدق لتراتيل العبادة والصلاة..والمثول لوقع هام روحاني جدا...
لكن أن يكون صوته نعيبا..وصاخبا..هذه إشارة لوقع حدث جلل..والنعيب يصحبه الوجع والبكاء والعويل..ويصفه الشاعر..أنه يحوم ويرقص رقصة الأحزان...
هنا قمة الإتقان في الوصف ورسم صورة الحزن القايمة في الحياة...حيث نعلم أن الجرس له بندول يتحرك يمنة ويسارا..ولكن الشاعر هنا جعل من الجرس يحوم..وهذا يتعدى اليمين واليسار..لأكثر من جهة..ويدل ذلك على مقدار القلق والوجع الذي ينتشر في المكان..أو الحياة...والأمرّ من ذلك أن ذلك كله كان يحوم على رفات قلبه... وهنا اكتمال الصورة الفظيعة التي تعكس الموت والحزن بدقة متناهية ...
يا سلام من منظار هذه الصورة المتقنة السبك القوية اللفظ المتينة البناء..رسمها الشاعر بملء مشاعره وحذقته وذكائه الأدبي المرموق...
جاءت متناسقة وفق صورة الحدث وسقوط الحياة....ويكمل لوحته البارعة بقوله:

(حَانَت سَـاعَةُ المَـوْتِ !
الضَّجِيجُ يـَمْـلأُ سَـاحَـاتِ عَقْلِي
حَفَّـارُ الـقُـبُورِ يـَنْهَشُ فِي تـَلاَفِيفِ بـِنْيَتِي
لَـم يـُتْـرَك مَكَـانـَاً فِي قَمِيصِ يـُوسُف
لَـم يـُصِبْـهُ التَّمَـزُّق ! )..
بعد تلك الأوصاف التي كان وقعها على وصف الجسد ساعة إحتضار...جاات الصورة هنا ملاصقة للصورة السابقة ومتابعة لحراك الفعل في وصف الموت...
حيث ساعة الموت حانت وضجيج الحياة يزعج العقل من أثره وقوته...
الضجيج هنا يعني الكثير ويفتح باب التأويل على مصراعيه..في استخراج كثرة معانيه ولربما انصبت في بوتقة واحدة وهي عدم السكون والراحة والهدوء..والخروج عن طابع الحياة الهانئة...
وهذا إسقاط على الفوضى العارمة المتواجدة في الذات وفي مناحي الحياة...وفوضى الذات لا تأتي إلا من المؤثرات الخارجية المتعددة..والتي تنصب في عمق النفس ليتفاقم الأمر وتتخبط السلوكيات لتصل لكل مناحي الحياة...
وهذا رسم فني بديع لصورة الحياة والصراع القائم بها والذي أودى بها للسقوط....
وأما حفار القبور وهو كناية عن قمة الوجع وعمق الألم...كان مناسبا في الوصف وكلمة ينهش في تلافيف بنيتي..
وكأنه يريد القول أن الجسد يستعد للقبور قبل موعدها..من طرقات حفار القبور..وهذا وصف مذهل في كيفية موت الجسد في الدنيا قبل انطلاقتة لتحت الثرى..
جزالة وقوة وبلاغة وإتقان لا يبنيه إلا محترف موهوب..كشاعرنا المبدع...
(لَـم يـُتْـرَك مَكَـانـَاً فِي قَمِيصِ يـُوسُف
لَـم يـُصِبْـهُ التَّمَـزُّق ! )..
هنا قمة الجمال في هذا التناص الذي قدمه الشاعر من وحي سورة يوسف...
قميص يوسف النبي عليه الصلاة والسلام..إنما يعني النبوة والرسالة والنقاء وعظيم التقديس والأثر...
فهو ليس مجرد قميص عادي..إنما رمز زلنبوة الشفافة والعبودية الكاملة لله تعالى...
وعملية تتابع الأنبياء ونسل النبوة وحمل رسالة السماء...
لكن أن يوظف الشاعر من قدسية القميص والرمز للعبادة ودين الله ورسالة السماء ..أن تتعرض كلها للتمزق..هنا تكمن الدهشة في التوظيف ورسم الواقع اليوم المرتبط بعملية السقوط وسبب من أسباب الإنهيار...
يجعل حفار القبور ..كناية عن قتل دين الله في النفوس..وموت الرسالة الربانية وبتر الأيدي التي تحملها ...لتأتي معبرة جدا في تمزيق هذا القميص.. الذي هو تمزيق الإيمان من النفوس...
وهذا التمزق الذي يمثل عبادة الله ودينه كان فاجعة للتمزق بكل مناحي الحياة..ليكتسب الفرد تلقائيا عملية نزع العقيدة من القلوب وتفشي التمزق في المجتمعات والأمة كلها..وأن يعم الفساد في كل شيء...تركنا عبادة الله والتزمنا عبادة العباد فأذلنا الله...

مَـا زَالَت السِّهَـامُ تـُصَـوَّبُ فِي بـَشَاعَةٍ
إِلَى جَسَـدِ عِيسَى المَصْلُوبِ فـَوْقَ شَجَـرَةِ
الزَّمَانِ العَتِيقَـةِ وَبـَينَ عُـودَيـْنِ مِـنَ المِلْحِ
تـُسْخِنُ فِي أَجْـزَاءِ هَيْكَلِي مِطْرَقَةُ الأَعْـوَرِ الدَّجَّـال
تـَزْدَادُ مَـوَاطِنُ اسْتِعْمَـارِ الـبُـؤْسِ وَالشُّحُـوبِ
لِلْهَيْكَلِ المُقَـدَّسِ !
إِنـَّهَـا لَيْلَـةُ احْتِضَـارِ القَمَـر !!
اللِّسَـانُ رَافـَقَـهُ الجَفَافُ
رَغْبَةً فِي اغْتِيَالِ الهَمْسِ
وَخَلْفَ قـُضْبَانِ القَـدَر ؛
تـَقِفُ لَعْـنَـةُ السَّجَّـان
...........
صور مذهلة وإيحاءات قل نظيرها..
والتلاعب في مساحة الخيال واقتناص جمال الفكرة..هو الذي دفع الغرس لنضوج الحرف وإظهار مفاتنه مبكرا جدا...
مما يدل على خصوبة القلم في تنوع الألوان فيه..حيث قال:
(مَـا زَالَت السِّهَـامُ تـُصَـوَّبُ فِي بـَشَاعَةٍ)
هنا عملية السهام.. من طبيعتها عند انطلاقتها الهدف وإصابته ..فإنها تخرق المكان وتحدث خللا ما أو تحطيمه نهائيا...لكن ان تصوب في بشاعة ..هنا كناية عن طرق الإجرام التي وصل إليها إنسان اليوم..والتلذذ في عمليات القتل لأهل بلده وأخوته...
ويزداد الوصف جمالا وإبداعا..والشاعر يصف تصويب سهامه..لجسد عيسى عليه السلام..
وهذه صورة فظيعة ..حين تصوب السهام لجسد الأبرياء ولدين الله..
وهذه دساتير أهل الظلم..وأهل الباطل..الذين يسحقون دين الله بمناصبهم وعتمة نفوسهم التي خلت من نور الله...وهذا ما يؤكد قول الشاعر:
( إِلَى جَسَـدِ عِيسَى المَصْلُوبِ فـَوْقَ شَجَـرَةِ
الزَّمَانِ العَتِيقَـةِ وَبـَينَ عُـودَيـْنِ مِـنَ المِلْحِ)
تناص حقق الدهشة وما يحمل من عمق في المعنى وقوة في التراكيب البليغة والأوصاف المتقنة ...
وصف الشاعر عملية صلب جسد عيسى عليه السلام ...بطريقة إبداعية غنية التشابيه والأوصاف..حيث وصف جسده مصلوب بين عودين من الملح..على شجرة الزمان العتيقة..وهذا كناية عن الظلم والطعن بالدين ..وانتهاك حرمة الإنسان والذي ابتدأ من الزمن العتيق ليومنا هذا ..بل ازداد التفنن في فظاعة وبشاعة لهذا الإنسان الذي حرمته أغلى وأعظم من حرمة الكعبة المكرمة...
لكن اليوم يخترقون كل قوانين السماء في كل الديانات لتحقيق مآربهم الدنيئة...
طعنوا بالدين واستمردوا ونسوا بأن الله لهم بالمرصاد...
(تُسْخِنُ فِي أَجْـزَاءِ هَيْكَلِي مِطْرَقَةُ الأَعْـوَرِ الدَّجَّـال
تـَزْدَادُ مَـوَاطِنُ اسْتِعْمَـارِ الـبُـؤْسِ وَالشُّحُـوبِ
لِلْهَيْكَلِ المُقَـدَّسِ ! )
في هذه الصورة المرتبطة بالتي قبلها..قد توّجت اللوحة بضوء مقدسي نفحاته من بيت المقدس وذلك الهيكل المزعوم...
تناص وتوظيف يدل على براعة الشاعر في حبك الأحداث والتناص القرآني والأعور الدجال لخدمة الأدب وتفتيح الذهن والفكر نحو ذلك الغزو والإستعمار الذي ما زالت أنيابه تقضم جذور المقدسات والأراضي المقدسة ..
ولتفتيح الأعين على ذلك المارد المستبد الذي يحفر الأهداف لصالحه والإستيلاء على الشرق.. صور عظيمة تتجلى في هذا السبك الإبداعي الكبير..
والشاعر يشير لنهضة العقول والتفكر بما يجري حولها من تخطيطات قوى كبيرة لهدم الأنسان العربي والمسلم ومحو حضارته عن الوجود...
ويكمل الشاعر لوحته بنفحاته الواعية الناضجة ومحطات الأمة اليوم...

( إِنـَّهَـا لَيْلَـةُ احْتِضَـارِ القَمَـر !!
اللِّسَـانُ رَافـَقَـهُ الجَفَافُ
رَغْبَةً فِي اغْتِيَالِ الهَمْسِ
وَخَلْفَ قـُضْبَانِ القَـدَر ؛
تـَقِفُ لَعْـنَـةُ السَّجَّـان)..
صورة عذبة ثرية جدااا وهي تقدم وصفا بليغا لحال هذه الأمة اليوم...كناية عن المعاناة والصمت القاتل الذي كان هادما لأسس أمة اليوم....
اللسان رافقه الجفاف..كناية عن العجز ..قول الحق..الوقوف أمام الباطل..ولو بالكلمة..لكن الخوف يعشش في القلوب..فيمسك اللسان عن الدفاع وعن النطق...
وهذه هي فئات المجتمع اليوم التي باتت في خوف على حياتها من ظلم الكبار ...مما جعلهم يعيشون في دائرة الضعف..والسبب ضعف الإيمان في النفوس...وترك منهاج الله...فاغتيلت الحناجر وبترت الأيدي..وكسرت الخطى نحو الكرامة وبات الضمير عريانا...
...
الرموز هنا واضحة كل الوضوح التي تقع بين فكيّ الواقع المؤلم وإنسان اليوم...
والدلالات المتعددة هنا أيضاً تكشف عن أسباب الضعف وانهيار الأمة بصور شعرية متينة البناء ..
.....
(صَرَخْتُ بِهَا :
ارْحَلِي .....
أَنـْتِ اللَّعْنَةُ لاَ سِـوَاكِ
مَهْـزُومٌ أَنـَا عَلَى فـِرَاشِ الأَمَلِ الكَذُوب !
مِن أَجْلَكِ امْتَلأَتِ الآفـَاقُ
بِأَنـَّنِي نـَبِيُّ الجِـرَاح !
عَـقَـرُونـِي كَـفَـرَسٍ عَـرَبِيٍّ أَصِيـلٍ
دَارَت عَلَـيْـهِ الـدُّنـْيَـا .... ,
فَـإِذَا بـِالصَّهِيـلِ الشَّـامِخِ
وَقَـد صَـارَ بـَينَ أَجْـلاَفٍ مِـنَ الأَعَـاجِـمِ
لاَ يـَعْـرِفـُونَ قِيمَـةَ العَـرَبـِيِّ )
في هذه الصور المتلاحقة بالقوة لغة وبناء..وبالتشابيه التي أضفت على النص روح المتعة وجمعت قلائد العذوبة والطلاوة والبلاغة....
(صرخت بها..)..الصرخة هنا لها دلالة عمق الوجع من براثن الحياة..وتعبير عن التكتلات والإفرازات التي باتت تهجع في مصب الروح...
والصراخ لا تتم ثورته إلا بعد أن يطفح الكيل ألماً وضيقاً..
والتي أفرزت الحقل الذي يمثله الشاعر بشكل بارز والذي عكس ذلك صراعه الداخلي ..من خلال قوله( مَهْـزُومٌ أَنـَا عَلَى فـِرَاشِ الأَمَلِ الكَذُوب !)..
فالأمل الكذوب هو عملية انتحار الحق وخفوت النور...وكيف لا والمرء رهينة بين يدي خيط أمل يعيده للحياة..والأمل الكذوب..كناية عن التغييرات في القيم والمبادئ وانقلاب الموازين في الحياة ..وهذا من أصعب عصف على الروح وانحصارها في دائرة الضيق والوجع..
لذلك هذه الصورة كانت من أنفاس الجمال تناسلاً ورقياً...
وأما ( مِن أَجْلَكِ امْتَلأَتِ الآفـَاقُ
بِأَنـَّنِي نـَبِيُّ الجِـرَاح !)..
هنا توقفت مليّاً وأنا أعدّد مناقب هذا العمق المذهل والصورة الموحية لسحر النسج والبناء...
امتلأت الآفاق...بوجود نبيّ للجراح...
والنبيّ هو الذي ينبئ ويحمل كل أنواع الجراح ويبلّغها للغير...فكيف بالشاعر نبيّ الجراح..كناية عن الرسالة التي يحملها والحياة التي تسكنه وقد ذرفت من عيونها الجراح وحتى أصبح عنواناً له... ويدل ذلك على عمق ما يحمله من آلالام...
( عَـقَـرُونـِي كَـفَـرَسٍ عَـرَبِيٍّ أَصِيـلٍ
دَارَت عَلَـيْـهِ الـدُّنـْيَـا .... ,)..
ودائما وأبدا نجد أن كل نبيّ وقد تعرّض للإغتيالات والمحن والتربص به ..لنجد من هذه الصورة البليغة العميقة المؤثرة عن حجم المأساة وما تتعرض له هذه الأمة من نزيف لا يجف..
كلمة عقروني..تمثل عملية الذبح...ويشبه الشاعر نفسه كفرس عربي أصيل..لا ينكر صاحبه ويخلص له بوفائه ويخدمه بإخلاص..والفرس العربي الأصيل عنوان الأصالة..من صفاته:
الوفاء لصاحبها والتضحية في سبيله..
الذكاء والفطنة وحب التعلم..
الشجاعة والحماسة..
الصبر والقدرة على تحمل المشقات والفوز بالسباقات الطويلة...
الصحة الجيدة وحب الموسيقى..
لذلك عملية العقر تعني ذبح كل الإنسانية والقيم والأخلاق والمبادئ ..وقتل كل جميل في هذه الحياة...
(فَـإِذَا بـِالصَّهِيـلِ الشَّـامِخِ
وَقَـد صَـارَ بـَينَ أَجْـلاَفٍ مِـنَ الأَعَـاجِـمِ
لاَ يـَعْـرِفـُونَ قِيمَـةَ العَـرَبـِيِّ )...
وما أفظع هذه الصورة التي مزقت القلوب التي تخوض بين أعماقها وتحس بكل ما ينبض فيها من قوة وتأثير...
فعند عقر الفرس وقتل الأصالة ..تصرخ الفرس بصهيلها شموخا وكبرياء رغم اغتيالها..ليصل قوة صهيلها للأعاجم وهم يتلذذون بذلك لأنهم لا يدركون قيمة هذا العربيّ الأصيل...وهذا كناية على طربهم لقتل العربيّ إذ لا قيمة له عندهم...ليكون للعنصرية دور بلا إنسانية لحرية الفرد....
(أَنـَا الحَـرْفُ الَّذِي تـَجْـرِي حَـيَـاتـُهُ
فِي الدَّرْبِ المَجْهُـولِ مُنْذُ الأَزَل
تـَبَـدَّلَت عَلَى الحَـرْفِ أَقْـدَارُ الحَيَاةِ
صَـرْخـةٌ فِي قـَـبْــرِ المُحَـالِ الكَئِيبِ
الَّـذِي لَـم يـَكُـن قـَـبْــرَاً
وَلَـكِـنَّ الحَـيَـاةَ تـُرِيـد
مَـوْتٌ ... تـَحْتَ عَـينِ الشَّمْس !
مَصْلُوبٌ عَلَى جُـذُوعِ النَّخِيـلِ العَـتِيـقِ
بـِعَصْـرٍ يـُنَـادِي بـِآيـَاتِ هَــدْم
صُـوَرٌ وَمَشَـاهِـدٌ مَـرَّت عَلَى حَـرْفِي
مِطْـرَقـَةُ العَـرَّافـَةِ تـَدُقُّ بـَابِي فِي لَيْلَةِ مَـوْتِي
اذْهَبِي عَـنِّي ! )..
وتتكاثف الصور المبهرة المتقنة التراكيب..لتعلن عن ولادة قلم فذ يعرف أنّى يغرس حرفه...وبقدر إحساسه بالحرف وقدسيّته..بقدر ما يؤثر عليه نواتج الخارج الداخلي..وهذا ما يعبّر به الشاعر بقوله:
(أَنـَا الحَـرْفُ الَّذِي تـَجْـرِي حَـيَـاتـُهُ
فِي الدَّرْبِ المَجْهُـولِ مُنْذُ الأَزَل
تـَبَـدَّلَت عَلَى الحَـرْفِ أَقْـدَارُ الحَيَاةِ)..
أنا..ضمير منفصل...معبّر عن وحدانية الشاعر وما يخصه ...(وأنا الحرف)..له دلالات عدة...لأن للحرف قدسيته وخواصه وامتيازاته المتعددة...وهو يساوي جزء من كثرة أو من كلمة...وهو عملية تكوين للغة عامة والتي هي لغة كتاب الله...وأن يتحدث الشاعر على أنه حرف ..هذا يعني أنه يملك مقدرات كل الكلمات التي لا تنتهي..يعني أنه يساوي جيلاً أو أمة بحجمه وقدراته ...ولكن هذا الحرف تغمسه عواصف الحياة وآلامها المختلفة...
هنا انتقل الشاعر من الخاص إلى العام بعمق معانيه...وكل المعالم والمبادئ والقيم والأسس البنائية لقيا وثبات الأمة...
صورة حكت الكثير وامتلأت بالدهشة ..والقوة في السبك ...يرتقي فيها الشاعر لمستوى الرمز..الذي بنى عليه فكرته التأويلية التي أعطت تلك الأبعاد الدلالية المختلفة...
عملية الإندماج بمشاعره مع روح النص جعل لها قاعدة مؤثرة في نفس المتلقي وله امتداده الروحي في معناه الوجداني..وهذا ما رفع النص عالياً في تأثيره والتحليق في عالم الخيال للتنقيب عن تأويلات عدة يتوسع مدار الفكر عبره...
(صَـرْخـةٌ فِي قـَـبْــرِ المُحَـالِ الكَئِيبِ
الَّـذِي لَـم يـَكُـن قـَـبْــرَاً
وَلَـكِـنَّ الحَـيَـاةَ تـُرِيـد
مَـوْتٌ ... تـَحْتَ عَـينِ الشَّمْس !)
وما أفظعها من صورة تقشعر لها الأبدان..من قوة رسمها ونقشها على لوح الإبداع...
قبل هذه الصور كان الشاعر قد صرخ..
بقوله..
(صرخت بها ..إرحلي...)
لتتطابق مع نوعية الصرخة هنا...
لكن بطريقة أفظع عمقا من إتقانه للحرف في نسجه بطريقة بالغة الأثر...
الصرخة هنا كانت في قبر المحال الكئيب..
والقبر هو المعبر عن مساحة قليلة للفرد بعد انقطاعه عن الحياة...وحين يتم الصراخ فيه..يعني لا أمل للرد عليه والإستجابة المستحيلة...وقد أراد كناية عن موت الحياة وتساقطها تحت عين الشمس..أي بوضوح النهار وعلى مرآى من الجميع..وهذا أيضا كناية عن قمة الألم وموت الكرامة والعدل والضمير والأمن والأمان والعيش الهني..
(مَصْلُوبٌ عَلَى جُـذُوعِ النَّخِيـلِ العَـتِيـقِ
بـِعَصْـرٍ يـُنَـادِي بـِآيـَاتِ هَــدْم
صُـوَرٌ وَمَشَـاهِـدٌ مَـرَّت عَلَى حَـرْفِي
مِطْـرَقـَةُ العَـرَّافـَةِ تـَدُقُّ بـَابِي فِي لَيْلَةِ مَـوْتِي
اذْهَبِي عَـنِّي ! )..
ويكمل دائرة الوجع بنغمة وجدانية مؤثرة جدا مذهلة ...وشدة إتقانها المحكم أفرزت مشاعر حية نابضة من المتلقي أثارت أحداقه وجلدت نبضه حزنا وألماً..
الصورة هنا جاءت بانحناء تام من الأقلام لحرف باسق وارق كهذا...
مصلوب على جذوع النخيل...والصلب كما ذكرت سابقا..قتل الأنسانية وقتل الحق واغتصاب الشرع...وأن يكون صلبه على جذوع النخيل...يعني مصلوب على أرضه وطعن بقدسيتها وشموخها وقوتها وكرامتها...
لأن الصلب على النخيل هو قتله أيضا وانتهاك لقوته ومكانته المقدسة والتي أوصانا بها نبي الرحمة...
وهذا كناية عن التعرض لحرمة الإنسان والمقدسات بانتهاكها واغتصابها...
وهو مصلوب في زمن يهدم كل نعم الحياة ..ويكثر الدجل والكذب والصدق ينتحر..وهذا ما وضّحه الشاعر ..بكلمات ..مطرقة العرافة...
زمن بيعت في المثل العليا ..والضمائر والقيم وبات الهدم عنوان الحضارة.....
وهذا يوحي للغربة والوحشة والمعاناة ..والتي ربطها الشاعر مع وحي النص.
النغمة الطاغية على روح القصيدة هي نغمة التمزق والحزن والضياع وتبديد الوحدة بين أبناا الوطن الواحد..مما يعكس ذلك السقوط والمعاناة في الوطن الجريح...وهذه تأملات تولج لذات الشاعر تمثّلت في طقوس الفكر المجسدة في ذات الشاعر ووجدانه..وهذا بحد ذاته تعبيراً عن تأملاته في سقوط الحياة وتصوراته وفلسفته الراقية في وصف عمق الجراح....

(مَهْـزُومٌ أَنـَا / مَهْـزُومٌ يـَا أَبـَتِ \ مَهْـزُومٌ مُـنْـذُ خُلِقْـتُ
لَم تـَرَ صَبَـاحَـاتِي كَـيْـفَ يـَسْتَـرِيحُ
السُّكُـونُ فِي صَـدْرِي / كَـيْفَ أُبـْحِـرُ ؟!
كَيْفَ ...؟!
لَن أُبـْحِـرَ ... ؛ ظَفِـرَ بـِىَ الوَجَعُ
وَأَنـَا بـَقِـيَّـةٌ مِـن رَمَـاد)

هنا تتجدد الصور الإبداعية العميقة ..وقد طحنتها الهزائم في ظل انكسار الأعماق من انكسار الأرض..
(مهزوم أنا..) صورة حديث الذات الخاص وتأثير المعاناة على الروح الشاعرة..لتبدأ بالإنطلاق للعام بشكل سلس ومغري للذائقة..
هذا التقوقع الذاتي يبدأ بتراكماته نحو الخارج .. إفراز هذه الأوجاع نحو الأب
(مَهْـزُومٌ يـَا أَبـَت)..والسبب لذكر الأب..إذ كان يعاصر تلك الأوجاع وشاهدٌ على ذلك العصر..
والدليل قول الشاعر مَهْـزُومٌ مُـنْـذُ خُلِقْـتُ
لَم تـَرَ صَبَـاحَـاتِي كَـيْـفَ يـَسْتَـرِيحُ
السُّكُـونُ فِي صَـدْرِي / كَـيْفَ أُبـْحِـرُ ؟!
كَيْفَ ...؟!)..وكأن الشاعر يريد من الأب أن يلتفت لهذه الهزائم التي لم تتوقف بعد من ولادته..ليقول لنا ..بأن الجراح طالت بنا أمدها وما زالت تنحت ذاكرة المجتمع كله..
هذه الصورة التي ترمز لشدة الأوجاع النفسية التي سببتها المعاناة للوطن ..ما زالت تبيت في الصدر لم تنفك عنه أبدا...
صورة عميقة متقنة النظم وما بها من مرامي وأبعاد...استطاع الشاعر هنا رسم حدود الذات وما يجري بها من صراع ..وهذا النوع من الصراع..يساهم في خلق مفاهيم تقرّب المتلقي من التحسس بهموم الشاعر والعيش في ظله ليتمكّن من التفاعل معه والإنخراط في الأزمة التي خُلقت مع الشاعر..ليتمكن المتلقي من الدفاع عنه بصدق والثورة على الباطل..
وبمثل هذه الصورة يعلو شأن الشاعر ويرتفع حرفه نحو قمة الجمال والكمال..والذي يدل على براعته وإتقانه في تجسيد الحدث باندماج تام بين الحرف والمشاعر والصورة الممتلئة بالحدث..
( لَن أُبـْحِـرَ ... ؛ ظَفِـرَ بـِىَ الوَجَعُ
وَأَنـَا بـَقِـيَّـةٌ مِـن رَمَـاد)..
وهذه الصورة المدهشة الذي يعبر بها عن قمة وجعه إذ يشبه نفسه ..بقية من رماد..
يرسم الوجع وكأنه قد تخطّفه فازداد به السوء وحاله الموجع ليبقى منه قليل من رماد..على حافة الموت..بعد عمر طويل ..
لو جئنا نفصل هذه الألفاظ ونفكك ما بها من وجع في ميزان الوطن..لوجدنا كفة الوجع رجحت كفة الوطن..إذ أصبح الوجع هو الوطن في كل مكان..وها نحن في عباءة الأمل نتدثّر..ونحن نرفع الأكف والأعين نحو رحمة الله بانتظار النصر الذي وعدنا به بإذن الله...
(لَقَـد بـَكَى .... وَجَـرَت الدُّمُـوعُ فِي رُبـُوعِ الشَّـام
أشبَاحٌ / أشباحْ بِفِعلِ أشباه الرِجالْ
مَتى تَهتَز شَوَاربِ العَربْ ..؟
أصْنَامٌ / أصْنامْ أنْتُمْ
بِلا مُؤَخْراتْ ..... !)..
من منطلق هذه الصورة المؤلمة يتدحرج بنا الشاعر نحو أرصفة الوجع بين أزقة الشام وربوعها التي غطتها الدموع من حرارة الألم...
فتجلده وتهزه خذلان العرب وسباتهم العميق..وغفلتهم عن الدماء التي تسيل بلا توقف..هم أصنام قلوب وضمائر وموت معاني الكرامة من ألسنتهم وأيديهم...
وصف دقيق جدا لقادة العرب الذين يشربون دماء الأبرياء نخب سكرهم وتعاطيهم مخدر الغرب والمصالح الذاتية...
أي لو تفجرت قنابل في أولاداهم وبيوتهم ما رقّت قلوبهم للحق والعدالة...
لقوله تعالى:
"وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف 179)..
هذه أصدق آية تقال بحقهم.. وكفى
(المَوت يَنتَظرْ
الكَفَنُ يـَخْطُو نـَحْوِي فِي هُـدُوءٍ
فِي هَيْـئَةِ المَسْخِ المُنْتَظَرِ
الغِـرْبـَانُ السُّـودُ تـُحَلِّقُ فـَوْقَ رَأْسِي انـْتِظَارَاً
لِنَهْشِهِ حِينَ إِغْمَاضِ الأَجْفَانِ إِلَى الأَبـَد
جَحَافِلُ الظَّلاَمِ تَمْـلأُ الأَمَاكِنَ
وَكَأَنـَّهَا كَانَت تـَتَـرَبـَّصُ بِي فَهَجَمَت بـَغْتَـةً !!
الـنُّجُـومُ اخْتَفَت فَجْـأَةً !! هَـرِبـَت !! تـَخَلَّت عَنِّي)...
ويستمر الشاعر في خلق الصور المذهلة المبهرة وهو يمسح عنها غبار الصمت بقلمه الفذ لينطق حرية التعبير عن حقيقة الواقع الموجع واندماجها بذات الشاعر حد الذوبان... وهذا هو سر الجمال..تناسق ما بين روح النص وروح الشاعر..ليتدفق السحر من بين أصابع هذا القلم الفذ...
(الموت ينتظر)..وهذه اللفظة كناية عن هول الوجع وحدوث كارثة حقيقية موجعة جعلت من الكاتب نافذة تذكّر للموت واستعداد الكفن للوصول ( الكَفَنُ يـَخْطُو نـَحْوِي فِي هُـدُوءٍ
فِي هَيْـئَةِ المَسْخِ المُنْتَظَرِ)..
للوصول بهدوء..هذا دليل على وجود تخطيط مسبق غير مباغت لتشريع الموت على هيئة أولويات معاصرة تقف بالدور ...وهذا قمة الألم الذي يحمل سكينا لذبح وانتهاك الحرمات بغير وجه حق..واغتيال الإنسانية...
والغربان السود تنتظر الجسد حين يستسلم للموت لتنهش لحم البشر ...
( الغِـرْبـَانُ السُّـودُ تـُحَلِّقُ فـَوْقَ رَأْسِي انـْتِظَارَاً
لِنَهْشِهِ حِينَ إِغْمَاضِ الأَجْفَانِ إِلَى الأَبـَد)..
ومتى تنهش الغربان الرأس والجسد..إلا إذل تعرض الجسد لصلبه عاليا..أو ترك الجثة بلا غطاء أو دفن تحت التراب..وهذا كناية عن الإستبداد والظلم ومنع مواراة الجسد التراب..ليكون ملتحفا السماء..ولربما دلٌ على كثرة الموتى لقلة من يكفنها ويدفنها..ووجه الظلم العاتي في الأرض والأيدي التي تقتل وتغتصب حرمات الإنسان...
( وَكَأَنـَّهَا كَانَت تـَتَـرَبـَّصُ بِي فَهَجَمَت بـَغْتَـةً !!
الـنُّجُـومُ اخْتَفَت فَجْـأَةً !! هَـرِبـَت !! تـَخَلَّت عَنِّي)...
وللغربان تأويلات عدة..تنصرف لقادة وحكام لهم أنياب يمزقون بها جسد الطهر والكرامة والضمير والإنسانية بكل معانيها...
جنودهم طغاة يتربصون البشر بلا ضمير ..مجردين من معالم الإنسان وهم على هيئة وحوش ضارية..ينهشون الحق والدين ...فغطى الأرض الظلام وغابت معالم النور وحتى النجوم التي تهتدي بها البشر قد اختفت عن معالم الطريق وتركت ظلاما يتخبط به الإنسان ...

(آهٍ يـَا وَجَعِي !!
كَيْفَ أَنـْتَ يـَا وَجْهِي وَقـَد صِـرْتَ أُنـْشُـودَةً لِلـرِّيح
نـَفْسِي غَـرِيبَـةٌ عَـنِّي
بـَل أَنـَا غَـرِيبٌ عَن نـَفْسِي ..
في المقطوعة الأخيرة هذه..يدمج الشاعر الفلسفة بين أنامل حروفه..لتكون بارقة قوة لحروفه العميقة المتقنة..
حيث يتداخل الوجع والصراع الذاتي المجبول بفلسفة الذات..
(آهٍ يـَا وَجَعِي !!
كَيْفَ أَنـْتَ يـَا وَجْهِي وَقـَد صِـرْتَ أُنـْشُـودَةً لِلـرِّيح
نـَفْسِي غَـرِيبَـةٌ عَـنِّي
بـَل أَنـَا غَـرِيبٌ عَن نـَفْسِي )..
فلسفة الذات لها أبعاد .. حوار الذات مع الذات.. وعندما نتحاور وننقاش ونتحدث مع الذات.. هذا يعني أننا نقوم بتحريكها وهزّها ولومها وعتابها.. وهذه مرحلة في علم النفس تفيد إما صراعاً لا ينتهي وإما إيقافاً عما هي عليه.. بحسب الصراع المتراكم في الذات البشرية.. والشاعر يطلق عنان الجمال والسحر في محادثته مع الذات..حيث تخيط رموزاً تلتف في عنق الصراع الذاتي واللوم لها .. لسُكناها القلق وليس قلق عادي بل متوهج.. يزداد توهجه عند أي طارئ مقلق.. والقلق المتوهج هذا لا يأتي من فراغ مطلقاً .. إلا وله خلفية استحوذت على ملكة أحاسيسه وأذابتها لتندرج في هذا العتاب الساحر..وراء هذا القلق مارد من الدجى يهز أعماقه لتنتفض مراكب حسه لينتهي في حوار ذاتي وصراع.. من خلال الصورة الفنية الرائعة التي يصف بها غربته خارج وداخل الذات..
هنا سوف أخوض لأبعاد أخرى ربما يرمز لها الشاعر .. وهو العراك الدائم أثناء التصادم مع الواقع.. الحياة داخل الوطن المفعمة بالحزن والألم .. والتخبطات التي تحدثها سياسة العصر التي تقذف الأمن بعيداً.. وتجلب القتل والفساد والدمار ولا تزرع إلا الويلات والحروب..
( الـرِّيحُ تـَعْـوِي بِمَعْـزُوفـَةِ الاحْتِضَـارِ
وَصَخَبُ اللَّحْـنِ المُـرْعِبِ يـَضِجُّ مِـنْـهُ سَمْعِي
يـَصْحُـو مَـوْتِي ..!
حَانَ أَوَانُ احْتِضَارِ الذِّكْـرَيـَاتِ المُعَتَّـقَـةِ
شَبَحُ الرَّدَى يَمْشِي الهُـوَيـْنَى
حَفْلُ التَّـنَكُّـرِ لِتَنَـكُّرِي أَمَـامِي !!
وَفِي حَفْلٍ أُسْطُورِيٍّ لِكُلِّ أَصْحَابِ الدَّمِ العَرَبِيِّ
يَجِيءُ النُّصُبُ التِّذْكَارِيُّ
لِكَلْبٍ يـَتَعَفَّفُ الجُـثَث)..
صور ورمزية عالية متقنة..كلها تصب في الذات وتفاعلها مع الخارج من البيئة ..وكأن الكون يلحن معزوفة حزن بكل ما فيه تفاعلا مع الإنسان المصدوم بهذه الحياة وما فيها من ظلم البشر...فالريح تعوي للإحتضار..
وقد حان احتضار كل الذكريات المعتقة..في حفل تنكري وأسطوري لنصب تذكاري لكلب يتعفف الجثث...
تشابيه وأوصاف غاية في الإبداع..وصور ذهنية نابضة بواقع مرير...تحمل أبعاد الألم والغربة..وتجسد تلك الطاقة التي تلامس الوجدان..وتطلق لفكرته التأويلية العنان في السبح في الخيال مع روح النص..ليكتمل معها كل عناصر الجمال والإبداع...
..........
الشاعر الكبير المبدع المتفرد بحرفه ..الغني بفكره..الواسع في علمه...
أ.محمد خالد النبالي
كنت في حضرة قلم مبهر ومدهش..وقد تنقلت بين أفيائه في متعة الذائقة الأدبية وبين جمال هذا النظم البديع من حرفكم المتألق..
وفقكم الله لما يحبه ويرضاه
وزادكم رفعة ورقيا وعلما نافعا ونورا وخيرا كثيرا...






  رد مع اقتباس
/
قديم 23-02-2017, 12:50 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


زياد السعودي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: قراءة جهاد بدران على نص تـَسْقُـطُ الحَـيَـاة .. محمد خالد النبالي

بوركت جهودكم التي ترفدون بها ابداعات آل فينيق
ودمتم فارقا
كل الود






  رد مع اقتباس
/
قديم 23-02-2017, 02:34 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
محمد خالد النبالي
الإدارة العليا
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
مقرر لجنة الشعر في رابطة الكتاب الاردنيين
عضو تجمع أدباء الرسالة
نائب رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل وسام الأكاديمية للابداع والعطاء
الاردن

الصورة الرمزية محمد خالد النبالي

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


محمد خالد النبالي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: قراءة جهاد بدران على نص تـَسْقُـطُ الحَـيَـاة .. محمد خالد النبالي

بوركت االأديبة جهاد نعم إنها تصنع الفارق وتمنحنا السعادة
انه قمة العطاء بهذا الجهد والقراءة وتمنح نصي تذكرة العبور
وها هي تغدق علي بهذا الكرم وهذه القراءة الشاهقة والكبيرة , القراءة الناصعة
وتهب الحروف رونقها عندما تغوص كي تقطف الدرر
ولا أظن اني استطيع ان أوفيك الحق بالتعبير عن مدى امتناني وتقديري
لكن اقول كلي فخر بابنة فلسطين الاديبة الراقية جهاد بدران
فوجب علي الشكر والاحترام لهذا العمل المميز
مع تحياتي محمد خالد النبالي






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:22 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط