الفينيق عدنان الصائغ يليق به الضوء *هبه الشايب - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)       :: مناصرة من خلايا مشاعري (آخر رد :غلام الله بن صالح)       :: رسالة إلى جيش العدوّ المقهور (آخر رد :نفيسة التريكي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-01-2013, 06:29 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي

سلام الله

تعودنا أن نضع نصاً تحت الضوء
ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربةٍ فذّة
سنستميح روح الفينيق عدنان الصائغ
لنضعه تحت الضوء
إذ به يليق الضوء





نبذة عن حياته


البلد الاصلي: العراق
مكان الاقامة: السويد
ولد في مدينة الكوفة - العراق عام 1955.
عمل في بعض الصحف والمجلات العراقية والعربية.
عضو اتحاد الادباء العراقيين.
عضو الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب.
عضو نقابة الصحفيين العراقيين.
عضو اتحاد الصحفيين العرب.
عضو منظمة الصحفيين العالمية.
عضو اتحاد الأدباء السويديين.
عضو نادي القلم الدولي في السويد.
غادر العراق صيف 1993 اثناء مشاركته في مهرجان جرش في عمان، وأقام فيها، ثم أنتقل إلى بيروت عام 1996، حتى استقراره في السويد، حيث يقيم حالياً.

· شارك في العديد من المهرجانات الشعرية في السويد ولندن وهولندا وألمانيا والنرويج والدنمارك وبغداد وعمان وبيروت ودمشق والقاهرة وصنعاء وعدن والخرطوم والدوحة.


انجازاته ومؤلفاته


1) انتظريني تحت نصب الحرية 1984 بغداد
2) أغنيات على جسر الكوفة 1986 بغداد
3) العصافير لا تحب الرصاص 1986 بغداد
4) سماء في خوذة (طبعة أولى) 1988 بغداد
(طبعة ثانية) 1991 القاهرة
(طبعة ثالثة) 1996 القاهرة
5) مرايا لشعرها الطويل (طبعة أولى) 1992 بغداد
(طبعة ثانية) 2002 عمان
6) غيمة الصمغ (طبعة أولى) 1993 بغداد
(طبعة ثانية) 1994 دمشق
7) تحت سماء غريبة (طبعة أولى) 1994 لندن
(طبعة ثانية) 2002 بيروت
8) خرجتٌ من الحرب سهواً (مختارات شعرية) 1994القاهرة
9) تكوينات 1996 بيروت
10) نشيد أوروك (قصيدة طويلة) طبعة أولى 1996 بيروت
طبعة ثانية 2004 القاهرة
11) صراخ بحجم وطن (مختارات شعرية) 1998 السويد
12) تأبط منفى (طبعة أولى) 2001 السويد (طبعة ثانية) 2004 القاهرة




كما صدر له

"مجلد الأعمال الشعرية" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2004.
"خرجتٌ من الحرب سهواً" القاهرة 1994
"صراخ بحجم وطن" السويد 1998


جوائز




*حصل على الجائزة الأولى في مسابقة الشعر الكبرى في العراق عام 1992 عن قصيدته "خرجتُ من الحرب سهواً".
*حصل على جائزة هيلمان هاميت العالمية HELLMAN HAMMETT للإبداع وحرية التعبير- عام 1996 في نيويورك.
*حصل على جائزة مهرجان الشعر العالميPOETRY INTERNATIONAL AWARD عام 1997 في روتردام.
*حصل على الجائزة السنوية لإتحاد الكتاب السويدين - فرع الجنوب Författarcentrum Syd، للعام 2005 في مالمو.


مجلة "ضفاف" الثقافية في عددها التاسع
أربعون كاتباً يحتفون بتجربة عدنان الصائغ الشعرية

عدنان حسين أحمد
أمستردام





يجترح الشاعر وديع العبيدي أسلوباً منهجياً معمّقاً في تكريس مجلته الثقافية ( ضفاف ) من خلال إصدار أعدادٍ خاصة بالأدباء والنقاد والمفكرين العراقيين. وقد سبق له أن أصدر عدداً خاصاً بالقاصة والروائية العراقية لطفية الدليمي عام 2000 ، ثم أردفه بعدد خاص بالناقد يوسف عز الدين عام 2001. وها هو اليوم يتحفنا بعدد خاص كرّسه للشاعر عدنان الصائغ الذي يُعد علامة فارقة في الشعر العراقي المعاصر. ورب سائل يسأل: ما هي المبررات أو المسوغات التي تستدعي إصدار عدد خاص بشاعر أو قاص أو روائي أو ناقد؟ ولا أظن أن الإجابة على هذا السؤال تنطوي على شيء من التعقيد إذا كان المبدع ( المحتفى به ) في أي من الفنون القولية وغير القولية يشكل ظاهرة إبداعية متميزة تستحق البحث والدراسة والتقييم. وأعتقد أن هناك ما يشبه الإجماع على تفرد شاعرية عدنان الصائغ، ليس بين أقرانه ومجاييله حسب، وإنما في الشعر العراقي المعاصر عامة. وليس أدل على ذلك إلا احتفاء الشعراء العراقيين به بدءاً من جيل الرواد وانتهاءً بجيل التسعينات الذي توزع هو الآخر في المنافي البعيدة. ولا نريد أن نتوقف عند الشعراء العرب أو العالميين الذي أثنوا على تجربة الصائغ، وعدّوها في مصاف التجارب العالمية، ولم يقلبوا لصاحبها الموهوب ظهر المجن، فهم كثر، ولا يمكن الإحاطة بأسمائهم في هذا العرض السريع لفحوى العدد التاسع من مجلة ( ضفاف ) الثقافية العامة. ففي مفتتح هذا العدد يؤكد وديع العبيدي، رئيس تحرير المجلة، على ضرورة إرساء قيم وتقاليد ثقافية جديدة تحترم المنجز الإبداعي من جهة، وتبجل القارئ العضوي بوصفه مبدعاً آخر للنص على صعيد التلقي الإيجابي الفاعل. وقد سعى كاتب هذه السطور إلى التوقف عند محاور عديدة في تجربة الصائغ الشعرية، أبرزها المغايرة والاختلاف في كتابة الأشكال والمضامين الشعرية مثل قصيدة الومضة بوصفها نصاً إشراقياً خاطفاً في عدد من مجاميعه الشعرية، والقصيدة الملحمية الطويلة كما في ( نشيد أوروك ). كما توقف عند سحر الكلمات وغواية اللغة في قصائد عدنان الصائغ، وما أفضت إليه هذه اللغة من محاولات جدية لكتابة النص المفتوح الذي يصهر مختلف الأجناس الإبداعية بين دفتيه. وفي باب ( إضاءات ) نطالع آراء أكثر من مئتي أديب وناقد وصحفي وفنان أعربوا عن دهشتهم وإعجابهم بشعرية عدنان الصائغ، وهذا إجماع نادر أظن لم يحصل عليه أديب عراقي من قبل. وفي باب مختارات شعرية نقرأ للصائغ عدداَ من قصائده القديمة والحديثة. ثم يلي ذلك حوار مطوّل أجراه الشاعر وديع العبيدي الذي نبش في طفولة عدنان الصائغ وذاكرته، وبحث في مصادر معرفته، ومرجعياته الشعرية، وتقصى آثار أسلافه وآبائه الروحيين الذين أمدّوه بهذا الوهج الشعري الأخّاذ. كما توقف عند الأسباب الحقيقية التي ميزته عن أقرانه الثمانينيين، ودقق في الأسباب التي جعلته يقع بين مطرقة أدباء السلطة من جهة، وسندان أدباء المنفى وأدباء المعارضة من جهة أخرى. وربما يعود السبب الحقيقي لنجاح هذا الحوار العميق والمستفز هو أن المحاور ( بكسر الياء ) لم يترك شاردة وواردة إلا وتوقف عندها، مستغوراً إياها، ومستنطقاً معطياتها إلى أبعد حد. الدكتور حسن السوداني بذل هو الآخر جهداً جهيداً في كتابة سيرة ذاتية للصائغ بأسلوب غير تقليدي فيه كثير من الجدة والإثارة والتركيز، الأمر يعطي للقارئ تصوراً دقيقاً لتجربة عدنان الصائغ شعرياً وحياتياً. أما الدكتور عبد الإله الصائغ، خال الشاعر وعرابه، فقد كتب دراسة قيّمة عن فن السيرة زوّدنا من خلالها بتفاصيل دقيقة عن الشاعر لا أظن أن إنساناً آخر كان بإمكانه الإحاطة بها كما فعل الدكتور عبد الإله. وربما ذهب أبعد من ذلك عندما أحاطنا علماً بسيرة حياة العائلة برمتها وبأسلوب أدبي شيق يأخذ بتلابيب القارئ حقاً. كما تطرق الدكتور إلى سيرة حياة العراق الفجائعية خلال العقدين الأخيرين تحديداً وما نجم عنهما من مآسٍ وكوارث لم تفلت من مرصد عدنان الصائغ الذي التقط كل الوقائع والأحداث ودونها في نصه الملحمي ( نشيد أوروك ). لقد أتاح الدكتور عبد الإله للنقاد والباحثين والدارسين فرصة ذهبية للإفادة من هذه المصادر والمرجعيات والإحالات الكثيرة التي تسلط الضوء على تجربة عدنان الصائغ الشعرية، ناهيك عن عشرات التفاصيل الصغيرة التي لم تترك زاوية منسية أو جانباً معتماً في حياة الصائغ إلاّ وسلطت عليها الضوء. فضلاً عن الرسائل التي أضعها في ( خانة ) النصوص الأدبية الجميلة التي تعكس شفافية عدنان الصائغ، ليس أمام عرّابه حسب، وإنما أمام أصدقائه الكثيرين. وربما كان الشاعر العذب عذاب الركابي كريما بما فيه الكفاية لأنه كحّل أعيننا ببعض الرسائل الشخصية التي كتبها الصائغ له من منافيه المختلفة. في الباب الثاني نقرأ دراسة الناقد عبد الجبار داوود البصري الذي التفت منذ وقت مبكر إلى شاعرية عدنان الصائغ، لكنه لم ينسَ في المقال الإشارة إلى أن الناقد يوسف نمر ذياب هو أول من نبّه إلى شاعرية الصائغ وأهميته من خلال قصيدة ( صباح الخير أيها المعسكر ) التي نشرتها جريدة الجمهورية البغدادية عام 1984. أما مدني صالح، الناقد والفيلسوف العراقي المعروف، فقد جازف في حينها في القول: ( بأن عدنان الصائغ هو أشعر العرب الذين جاءوا إلى الشعر بعد نزار والبياتي والسياب )، وراهن على شاعريته الفذة من خلال مجموعة شعرية واحدة. ثم انتبه إلى مجازفته التي تنطوي على شيء من التسرع والعجالة، ومع ذلك فأنه لم يرَ في إعلانه أو تقييمه أية مبالغة. يوسف الأسدي تناول ( المعادلة الصعبة في أغنيات على جسر الكوفة ) والتي حاولت أن تزاوج بين النثر والقانون الشعري في رصده لحركة الواقع العراقي من خلال الذات تارة، والموضوع تارة أخرى. بينما رأى حاتم عباس في ( أغنيات على جسر الكوفة ) هماً كونياً كبيراً منساباً عبر الدفق العاطفي الفطري للشاعر عدنان الصائغ. الشاعر المرحوم رشدي العامل كان يشدد على القول بأن عدنان الصائغ شاعر غير دعي. كما كان يخشى عليه من إطراء الآخرين. ولهذا فقد أوجز نصيحته للصائغ بأن مواصلة المسيرة الإبداعية هي التي تحمل بين ثناياها النجاح الحقيقي الناجز، وليس النجاح المؤقت الذي يتلاشى بذهاب مناسبته. الناقد حاتم الصكر رصد ( الداخل الضيق والخارج المتسع ) في قصائد الصائغ التي ( تتناول الحياة متناً والحرب هامشاً ) عبر شعرية أسماها ( منحرفة ) تقوم على كسر القواعد اللغوية والإيقاعية، وعدم تقديس البحور الخليلية. الناقد عبد الجبار عباس يرى أن تجربة الصائغ في ديوان ( سماء في خوذة ) تتوفر على خبرة شعرية استقاها الشاعر من قراءاته لجيل الرواد والأجيال اللاحقة، ففيها بوح غنائي وسيناريوهات ذكية، ومنولوجات داخلية، وحوارات قصيرة مستوفية لشروطها الفنية التي تتفادى التهويل، وتتجنب الصراخ، وتلوذ بالهمس الخفيف، وتستجير بالبساطة المعمقة أو ما يسمى بالسهل الممتنع. قيس كاظم الجنابي رصد من ناحيته الجنوح السردي في ( سماء في خوذة )، كما ركز مثل غيره من الأدباء والنقاد على المنحى اليومي في قصائد الصائغ. والمنحى السردي يمكن تتبعه وتأشيره من خلال الحوار، المونولوج، الشخصيات، الأحداث، الجمل الاعتراضية وما إلى ذلك. خالد محمد المصري ركز أيضاً على اللغة اليومية في قصائد الحرب. وحقيقة الأمر أن اللغة اليومية لعدنان الصائغ لا تقتصر على ثيمة الحرب وحدها، وإنما تمتد إلى أغلب الثيمات والأغراض الشعرية التي يتناولها الشاعر. داود الفرحان، الكاتب الصحفي الجريء الذي أفضت به جرأته مؤخراً إلى السجن، كتب موضوعاً مكثفاً بعنوان ( خوذة بمساحة الوطن ) ركز فيه على مصداقية الصائغ وشجاعته. وأشار إلى أن ديوان ( سماء في خوذة ) قد ولد بعملية قيصرية معقدة. الشاعرة الكويتية سعدية مفرّح التي تكتب بأسلوب حداثي جريء هو الآخر رأت أن ( سماء في خوذة ) تصدم القارئ سواء في موضوعة الحرب أو في القصائد اليومية ذات التفاصيل الصغيرة. حسب الله يحيى يكتب عن مرايا الصائغ، لكنه لم يحدق إليها طويلاً كما فعل الشاعر عذاب الركابي الذي ما زال ساقطاً في الذهول، مدهوشاً من الشفافية الجارحة التي يتوفر عليها الصائغ من دون أقرانه الشعراء. القاص كريم شعلان يشم رائحة الحرب في ( غيمة الصمغ ) كما يشير إلى لغة الشاعر الواضحة التي تجنبت الغموض والوعورة. الشاعر محمد النصار كتب دراسة قيّمة نبّه من خلالها إلى اعتماد الصائغ ( على البساطة المعمقة وتفادي الأسئلة الوعرة ). كما رصد عبر مجساته النقدية الذكية والمرهفة إلى خطورة ( الذاكرة الإيقاعية ) وما ينجم عنها من ( حفظ واستنساخ وإدمان على صور شعرية محددة )، وهو يرى أن الشاعر الأصيل يقاس ( بمقدار ما يجترحه من أقوال متفردة ). وهذا الاجتراح يتطلب من دون شك قدراً كبيراً من ( المكابدة، والكدح، والكد، والمجالدة ). الشاعر والناقد علي عبد الأمير حدد بعض الأشكال أو النصوص الشعرية التي تنطوي عليها قصائد الصائغ مثل ( نص اللقطة السريعة ) و ( النص المشهدي )، وانتقد قاموس الصائغ اللغوي من جهة، وامتدح استخدام ( مفردات الشاعر المحسوبة ) في سياقات مختلفة. كما نبّه علي عبد الأمير إلى مغبة ذهاب الصائغ إلى ( أقصى الوضوح ) خوفاً عليه من السقوط ( فجاجة المباشرة ). وهناك العديد من الآراء النقدية المهمة التي تضمنها متن هذا المقال القيّم ( كتكثيف الصورة وتقطيرها والإطاحة بالبلاغة الصورية من أجل تأكيد المعنى ). القاص علي السوداني أكد من دون مواربة أن قراءته لديوان ( تحت سماء غريبة ) ليست أكثر من محاولة لاكتشاف النص، ولكنه بعد القراءة الثانية والثالثة أراد أن يتوقف عند الهامش القصصي لقصائد المجموعة، ولكنه اكتشف من خلال دراسة تطبيقية وتحليلية في آنٍ معاً أن الهامش القصصي قد تحول إلى متن واسع، بينما انحسر المتن الشعري إلى هامش ضيق. د. إبراهيم إسماعيل شارك بدراسة عنوانها ( الإرهاب والخطاب المستتر ) تناول فيها ثلاث مجموعات شعرية من داخل الوطن توصل من خلال قراءتها إلى الشاعر قد أدان الحرب، ولم يمجدها. أما نصيف الناصري الذي كتب مادة طريفة بعنوان ( عدنان الصائغ وشعراء الحداثة من جيله ) فقد رأى أن تجربة الصائغ تشبه حكاية القرية التي حاصرتها الحرائق من الجهات الأربع فامتطى الجميع ظهور زوارقهم باستثناء رجل ضاقت به السبل فقفز إلى جوف طست يمكن تمييزه من بين مئات الزوارق المتشابهة. وهذا التشبيه لوحدة يغنينا عن الإسهاب والإطناب في الحديث. القاص والروائي محسن الرملي يعتقد أن تجربة الشاعر عدنان الصائغ قد نضجت ( تحت سماء غريبة ) وأنها مالت إلى التكثيف، والتركيز، والاختزال وغياب التكرار الذي عرفته دواوينه السابقة. غالب الشابندر توسع كثيراً في معنى ( السؤال المضمر بين الحداثة والاغتراب ) من خلال قراءته لنماذج عديدة من ديوان ( تكوينات ). أما ( نشيد أوروك ) فقد تناوله كل من شوقي عبد الأمير، والدكتور حسن ناظم، وكريم جثير، و د. محمد جمعة والقاص صلاح أحمد، والشاعر شيركو بيكه س، والقاص جنان جاسم علاوي، وزينب محمود. وقد تنوعت هذه الدراسات بين تناولها للشكل تارة، وللموضوع تارة أخرى. فهناك من توقف عند الحذف والتنقيط والقص والمزاوجة بين الشعر والسرد القصصي كما ذهب د. حسن ناظم. وهناك من توقف عند الهذيان، والمشاهد البانورامية، وثنائية الحب والحرب مثل د. محمد جمعة. بينما لا يجد القاص صلاح أحمد في الكتابة عن ( نشيد أوروك ) سوى اللاجدوى لأنها ( أي الكتابة ) لا تستطع التعبير عن هذه البراكين المرعبة التي تفجرت من جمجمة الصائغ الزرقاء. في حين وصفها بيكه س ب (نهر العذاب المستمر في جريانه ) وربما يكون أغرب توصيف لهذا النشيد هو ما حذرنا منه القاص جنان حلاوي وهو علينا أن نكون، نحن القراء، يقظين ( لكي لا ينط الدكتاتور من بين ثنايا السطور، فيغرز إصبعه في أعيننا ). د. قاسم البريسم تناول مفهوم ( المفارقة ) التي تقوم على أساس التضاد بين المعنيين الظاهري والباطني من خلال أمثلة كثيرة مستقاة من الشعر الإنكليزي، وأخرى استشهد بها من ديوان ( صراخ بحجم وطن ) للصائغ. كما بين أوجه الاختلاف بين المفارقة اللفظية والمفارقة السياقية عبر دراسة نقدية شيقة. د. على حداد قدم لنا جدولاً حسابياً بعدد القصائد التي اختارها الصائغ من دواوينه السابقة مشفوعة بدراسة تحليلية قيمة لهذه النماذج الممتدة من ( انتظريني تحت نصب الحرية ) حتى ديوانه الأخير. الكاتب الجزائري يحيى زكريا تلمس الحس البكائي في قصائد الصائغ، وتتبع تأثره بالحسين ( رض )، وتطرق إلى المأساة بوصفها سمة إنسانية في التاريخ البشري. أما القاص والروائي إبراهيم أحمد فيحفزني إلى استعارة توصيفه الدقيق الذي يقول فيه: ( وإذا كان الشاعر في العالم اليوم يجد وجهه يتقافز على شاشات القنوات الفضائية محاطاً بالنجوم والنساء، فإن الشاعر العراقي يجد نفسه محظوظاً إذا وقف أمام المرآة صباحاً ليحلق ذقنه ويجد رأسه ما زال شامخاً بين كتفيه. ). أما حصة ( تأبط منفىً ) فقد كانت أربع دراسات. الأولى نستطيع أن نقول عنها أنها دراسة عرفانية تستمد قوتها من فيوض د. الأب يوسف سعيد. والثانية التي خشي فيها الشاعر عبد الرزاق الربيعي على الصائغ من الوقوع في ( مطب ) التكرار واجترار الصور الشعرية مما هو سائد ومكرور. غير أن القصيدة الأولى من الديوان والتي حملت عنوان ( نص ) هي التي طمأنت الربيعي على شعرية الصائغ الذي يصنع من الموضوعات العابرة نصاً شعرياً مشحوناً بطاقة عالية تستدرج القارئ إلى أقانيم الدهشة وتثير فيه نوازع الإعجاب. الشاعر حسن الخرساني اقتفى طريق الصائغ المحتشد بالحروب، ونبش في ذاكرته المفجوعة التي هي امتداد لذاكرتنا الجمعية، وتعرّف عن كثب إلى جوعه المعرفي، وحاول أن يتماهى فيه من خلال نص شعري فيه من الفيوضات أضعاف ما فيه من الدراسة والنقد والتحليل. أما مسك الختام فيكفي أن نقتبس من دراسة الباحث والناقد زهير كاظم عبود هذه الجمل والتساؤلات التالية التي تنصف تجرب الصائغ الشعرية: ( هل ثمة مصادفة أن يكون عدنان الصائغ من نفس المدينة التي أنجبت المتنبي والجواهري؟ هل ثمة مصادفة أن يكون الشاعر مطلوباً للذبح مثل أسلافه وأجداده الشعراء؟ أشعر أن قامتي تصل السماء وأنا أقرأ أشعار الصائغ في لغات عدة، ويملأني الحزن حينما أعرف أن أشعاره حبيسة في وطني ). هكذا نطوي الصفحة الأخيرة من هذا العدد الخاص الذي احتفى من خلاله أكثر من أربعين مبدعاً يكتبون في أجناس أدبية مختلفة بشاعرهم الفذ الذي يستحق أن نرفع قبعتنا لموهبته الشعرية التي سوف نظل نراهن على ديمومتها وتألقها بين المواهب الشعرية العراقية التي لا تحصى ولا تُعّد. بقي أن نشُد على يد الشاعر المبدع وديع العبيدي الذي يتجشم العناء اللذيذ في إصدار هذه الدورية النوعية التي بدأت تسد فراغاً واضحاً في الثقافة العراقية الموزعة في المنافي الأوربية تحديداً.


فيحاء السامرائي
و...
يسطع دائماُ، حاملاً فانوس القصيدة




(و...) عنوان ديوان صدر حديثاً للشاعر عدنان الصائغ ضم بعض من قصائد جديدة وأخرى نشرها أو ألقاها في محافل ثقافية متنوعة، يضم 74 قصيدة، بعض عناوينها متكرر كـ (حرب) و(مرآة) و(تشكيل) و(غربة)... والمعروف عن الشاعر كدّه الانتاجي والابداعي المدعم باجتهاد معرفي ورهافة احساس وبراعة صور شعرية، وتحمل قصائده عشقاً ووجعاً وتأملات فلسفية، تموج بمعان انسانية وبعواطف مشبوبة لمنبت حالت بينه وبين قلب مغروس به، منافٍ ومسافات غياب لأخلاق وأزمنة، لتنبت وتتجذر في داخله أعشاب ذاكرة لا تنفك آخذة به نحو واحاتها وفيافيها، بشهدها ومرّها...
ويأتي الديوان جسداً مكتنزاً بسمات روحية عميقة لشاعر، يحتضن حرارة أشعار تشع من واقع عايشه وامتلكه، ونفس تحيا منزوعة من أحلامها، معبأة بتساؤلات وخيبات، وذات حائرة هائمة، تيمّم وجهها صوب أرض مشوّهة وملوّثة بطغاة وعتاة ومغالاة، وتندب أبناءً تلاشوا وتناثروا في موت وشتات... فالشاعر غالباً ما يقلّب ماض رابض فوق جمر فواجع ومحن ونار عشق وغرارة عمر بيد الاستذكار وكماشة الذكريات، ناشداً سحق حياة صعبة عاشها زمن الحروب وتوهان الدروب، بمطارق قصائده... ورغم اختلاجات المفردة المنتقاة والمحمولة على أكف لغة رقيقة ورهيفة، يلاحظ في بعض القصائد تكرار الحدث واعادة استخدام بعض الألفاظ (حزن، وحشة، تذكر، وحدة، غياب، فقدان، عراق...) ويرتسم في صوره الشعرية انطفاء لأشياء مغرقة بسلبية المنفى، رغم إيجابيات توفرت للشاعر خارج الوطن... وتبرير ذلك كما أحسب، شدة تعلق الشاعر بوطنه ليتحدث عنه وهو يعنون قصيدته لندن أو باريس، وليكون مسكوناُ به رغم وجود جسدي له في دول أوربية، لم تفرض عليه استخدام أجوائها ومحاسنها ومصطلحات لغتها، لإبتلائه بأرض أخرى، فلا ترى عيناه غيرها ولو في دمامتها وخرائبها وسوئها وفواجعها ونكباتها وسوادها، وكأنها عادة وفاء وإخلاص توارثناها نحن العراقيين، في بكائيتنا وانتحابنا على أطلال ديار لنا، وحنيناً لماض ومكان مرّا بنا ولم يبرحانا.
تتوزع في أرجاء قصائد الديوان مواضيع ذات بعد وجداني وفكري واجتماعي وأخلاقي وسياسي وتراثي، كثيمات الوطن والمنفى والحرب والحب والرب وأنا الآخر، وأنا والآخر، والنفس الحائرة المكبلة بتساؤلات، في مناقشة لمعنى الوجود والخالق، مما يوسمها حتماً بميسم الجرأة والمشاكسة، وفي الخصوص حين تتحرش بمألوف وموروث ومقدسات، وكأن كاتبها ينادي من على جواد شعره: هل من مبارز؟...مسترشداً بدعوة الشاعر الأمريكي ويليام كارلوس ويليامز: (اكتب كما تشاء بلا مبالاة، حتى يهلك كل شيء ليس أخضراً و يفنى)
وتتمازج وتتماوج التجربة الذاتية للشاعر مع ثقافته فتتجلى في عدنان الانسان، وعدنان المواطن، وعدنان المفكّر، وتتضح أيضاً في بصمات فنية تتميز بها قصائده لا تدنو من خطابية مباشرة، رغم توصيفات، بعض صيغها تبسيطية موجزة وسهلة الهضم، تحقق قوة شعرية مبهرة في الوقت عينه، وتتسرب برقة من عالم خارجي مادي خشن، الى آخر داخلي يفيض بروحانيات وجمال.
امتلك الصائغ في ديوانه جسد القصيدة، فنراه يذرعه جيئة وذهاباً، تارة بوزن وتارة بنثر وأخرى بسجع أو في مرات أخر، بتحرر من أدنى اعتبار لأي تقليد شعري... مراعياً على الدوام تجسيد معاني قصائده في شكلها، فتتيح له تقنيات كولاج وتشابك غير مفتعل، بين تشكيل لغوي وتركيب بنائي وتقطيع عضوي واع للصورة والمفردات والعبارات المتناثرة في القصائد، جمالية شكلية ووظيفة دلائلية، ترمي الى تعميق فعل درامي وموسيقي دون إخلال بوحدة القصيدة العضوية...
وفي منحى آخر يستخدم قصيدة الومضة، ذات الضربة السريعة في ارتدائها لثوب اللحظة والطاقة الخبيئة والاستنفار الشعري، وإظهارها حاجة النص الى التكثيف الخاطف، تلبية لحالة تشظٍ أو قلق وصراع داخلي تعتمل في ذهنه، أو ضرورة تتحكم بها ضوابط فنية وبنيوية، كما أورد الناقد الانجليزي هربرت ريد في وصفها، هي (عندما يسيطر الشكل على المحتوى -الفكرة- أي عندما يمكن حصر المحتوى بدفقة فكرية واحدة واضحة البداية والنهاية، بحيث تبدو في وحدة بيّنة).
وتبدو جلّ قصائده كلوحات فنية، ألوانها حروف مقطعة أومكررة أو ممتدة أو متدرجة، متحدية "تقاليداً بصرية" اعتادها القارئ، ليؤدي التشذير والتقطيع وظيفة هندسية ووحدة مضافة الى النص، رغم التفكيك الجزيئي وتمزيق أوصال الكلمة الذي لا يعيق تواصلها السياقي مع المقطع، وحري بالشاعر الذي يلجأ الى ذلك التكنيك، أن يستخدم توزيع السواد على البياض بعيداً عن كونه زينة خاوية من دلالة عضوية، ينجم عنها تفتيت وتخبط عشوائي ورغبة غير مدروسة في التجريب والتغريب.
كما وتتزين بعض القصائد بتقنيات الخلو من عنوان/ بالامتلاء والفراغ/ بنقاط دون كلمات/ بعدم إكتمال عبارة أو كلمة/ بمد حرف/ بتكرار آخر/...فنلاحظ مثلا في قصيدة (هم) الايحاء باندفاعة وخفة كلمات مثلالريح ـح ح) (طار رررر ر/ ر/ و.../ طارواااا ا/اا/ ا)...ونحس بلذة الفعل وامتداده في قصيدة (أمينة...) حين يصور لنا زمن ونشوة عملية الاندماج والتواصل كما اللحس:
كل خلية
في جسده
لســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــان
يلحســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني
وفي قصيدة تحمل عنوان (...) نرى تدرج الكلمات الذي يشبه رفات لميت على مشنقة:
حتى تزهر أعواد دموعنا المتيبسة
على أديم رفات
آخر
الطغاة
و
آخر
الغزاة
تقنيات الشكل هذه، ليست أمراً طارئاً أو جديداً في الشعر، استخدمها كثير من الشعراء المعاصرين، يكتب سعدي يوسف عن مدينة الكوفة التي يرحل منها:
لكن القرن الأول لم يعد الأول
ها نحن أولاء نغادرها
م
ش
ن
و
ق
ي
ن
ويفسر النقاد بأن في تقطيع كلمة (مشنوقين) هكذا، صورة توحي بتساقط هؤلاء واحداً إثر الآخر وتدليهم مثلما المشنقة.
وفي قصيدة (قالت لي العرافة) استخدمت فدوى طوقان تكرار الكلمة وحذف آخرها، في إيحاء دلالة "سرعة تنفيذ القتل"
أخوتي لا تقتلوه يا
لا تقتلوه
..... لا تقـــ
تستخدم تلك الوظائف الفنية شاعرات عديدات وشعراء عديدون، للايحاء "بتغيير المزاج الانفعالي" والحالة الشعورية، ونلمسها في التنقيط وبملاحظة الأفعال ماقبل وما بعد التنقيط، في فعل يهدف الى استعانة المعنى بالفضاء المكاني، لحفظ التوازن الفني، حيث أن الفراغات المنقطة تصبح موحيات لتوظيف العبارة، بوصفها صدى يتكرر، تعبيراً عن حالات توتر إبداعي، مثلما نحت نازك الملائكة إلى رفض توزيع الأسطر على أساس المعنى.
واستكمالا لوظيفة اللغة، استعمل الشاعر كلمات خشنة في موضوعة الحرب مثل (مفخّخة/ مفخّمة/ منفّخة/ قذيفة/ رصاص...) وللإغتراب كلمات موحشة متأسية مثل (غصص/ مثقلة بالغياب/ خريف موحش/ الآه والترحال/ التحفي...) وأخرى ناعمة في حالات الحب (القبلات/ رفيف فراشات وشهوات/ فتنتها/ الموسيقى/ تزقزق في غابات عينها...)
وفي تناوله للدين والغيبيات، يتمترس الشاعر خلف لغة رافضة متمردة كما في قصيدة (طواف): (عاند / يصطرع / أشركت / كفرت / عنوة / عصيت...) وفي جوهر تساؤلات جريئة كما في قصيدة (لِمَ أنت صامت) يشكو الرب لصمته على أضرار ونوائب تحيق بعباده، وينحو في قصائد أخرى، بلائمة بيّنة على رجال مدّعين يخربون البلاد والعباد بإسم الدين، ويخشون من العقل والمناظرات العلمية والعقلانية فيأمرون بالمسلّمات ويحكمون بالشفاعات ويعدون بالثوابات.
واستخدم ما يطلق عليه في اللغة الانجليزية (ِAlternation) في بداية كلمتين متجاورتين كما في:
(البلاد، البلايا / النأي، الناي/ قيلها ، قالها / التفريخ ، التفخيخ...) أي تكرار موسيقية نفس الحرف أوالصوت: (ب) (ن) (ق) (ت)...
يكررالشاعر استخدام ضمير المتكلم لوظيفة أخرى غير الفاعل، فتكون أناه هي فاعل ومفعول به:
كيف ألمنّي/ أخذني مني... فكيف أردني ألي؟/ فأغادرني/ أسكنني... فأين أيني؟
ويبرز الوجود الصوتي كما لمّح رينيه ويليك (كل قراءة بصوت عال أو انشاد للشعر هو أداء للقصيدة وليس القصيدة ذاتها) في أغلب قصائد الديوان، دون هدر لغوي وزوائد لفظية، ويكتظ شكل القصائد ولغتها بتقنيات معاصرة متنوعة لا خسائر فيها، ولامجال لتناولها بشمولية هنا، تحمل المتلقي الى غنى التفكير وسعة التخيل دونما ملل.


عدنان الصائغ في "و.." يكتب الشعر كما يتنفس


"رويترز" - من بيروت جورج جحا:


عنوان مجموعة الشاعر العراقي عدنان الصائغ يتكلم ببلاغة.. إنه حرف العطف «و» الذي يأتي أحيانا معبرًا عن الحال.. وقد خطّ بالاحمر على الغلاف وحوله الحرف نفسه بلغات عديدة.
كأن عدنان الصائغ أراد اظهار تلك العلاقات الأزلية التي تجعل الأشياء والأمور كلها مترابطة متداخلة فلا نهايات ولا توقف حادا.
لعل هذا يصح عن الماضي والحاضر والآتي وعن هنا وهناك وكل جهة. أم لعل الشاعر من خلال أحزانه العراقية لم يجد ما يفصل الأمس عن اليوم.. وعن المقبل الذي لا يبدو شديد الاختلاف حتى الآن.
إنه استئناف للآلام وللأحزان والعذابات والغربة والتشرد..
واستئناف للأحلام تلك التي لا شفاء منها. يكتب عدنان الصائغ بقدرة على تطويع الوزن وحتى القافية المتعددين عنده على طريقة شعراء التفعيلة.
هذا التطويع يجعل الانتقال الموسيقي بين وزن وآخر سهلاً منساباً لا ينوء بما تحمل الكلمات من معانٍ او تحت وطأة الامتدادات المتباينة طولاً وقصراً. إنه حاضر «لدمج» موسيقي ناجح خاصة في نقل حوار على رغم صعوبة فيه.
فلنقرأ في قصيدة «ما والخ» حيث يقول:
«يموسقني صوتها حين ينداح
هل تتقن الرقص؟
لا.. /رقصتني القذائف
ذات الخبال /وذات الخبب...
أنا شاعرٌ دار بي زمني..
واستدار
أقولُ لثوبك يخفقُ في الريح
هل تبصرين وراء الزجاج الغيوم التي تترقرق بين قميصي
وقلبي؟
مدي يديك إلى غصنه تلمسي نبضه راعشا والعصافير»...

اشتملت المجموعة على 74 قصيدةً متفاوتةً الطول وكثير منها إلى القصر أقرب. وقد كتبت القصائد في بلدان ومناطق مختلفة من العالم وهي تحفل بالتشرد حتى تلك التي كتبت في العراق منها.
عدنان الصائغ شاعر فياض.. فكأنه يكتب شعراً كما يتنفس.. باستمرار وحرارة حياة. العراق هو البدء اذن فالقصيدة الأولى تحمل هذا الأسم.
القصيدة تختصر صورة الشاعر عن العراق وتحدده وتتبع منهج سرد صفاته بتقسيم آلي. انها أقرب إلى النثر منها إلى التوهج الشعري لكنها معبأة ومكثفة من حيث المحتوى. كتب بتعداد قام خلاله باخفاء الواو. ترك الكلمات متتبعة واحدة تنقلنا إلى الأخرى.
قال:
«عندما الأرضُ كوّرها الربُّ بين يديه
ووزع فيها:
اللغات
النبات
الطغاة
الغزاة
الحروب
الطيوب
الخطوط
الحظوظ
اللقاء..
والفراق
وقسّم فيها:
السواد
العباد
البلاد
البلايا
الوصايا
الحواس
الجناس
الطباق..
اعتصرت
روحه
غصة
فكان /العراق».

ننتقل منها إلى قصيدة (كأس) حيث يقول:
«في الحانة
كانت بغداد
خيوط دخان
تتصاعد من أنفاس الجلاس
وأصابع عازفة سكرى
تراقص بين الوتر المهموس
وبين الكاس
وإلى طاولتي يجلس قلبي
ملتحفاً غصته
يرنو ولِهاً للخصر المياس
ووراء زجاج الحانة أشباح تترصدني
تحصي حولي الأنفاس
وأنا محتار
- يا ربي -
أين أدير القلب؟
وأين أدير الرأس؟».
الغياب والوحدة والوحشة والحنين.. كل ذلك يملأ شعر عدنان الصائغ أحد أبرز مشردي السنوات الطويلة والكثيرة الماضية من العراقيين ومن الشعراء.
في قصيدة «مطر بلندن» النثرية يقول:
«مطر بلندن.. يعبر المارون ليلي غير ملتفتين للجرح الذي خلف الجروح ينزّ منذ خمسين عاماً. هل أقول تعبتُ من نوح الحمام على غصوني جردتها الطائرات من اخضرار قصيدة.../ مطر بلندن لا الطريق تدلني للبيت .لا جرسٌ يرنُّ بأخريات الليل. لا ريح تدق الباب. أين اضعتهم!؟ أصحابك الماضين بالكلمات...
مطرٌ. سراعاً يعبر العشاق والمتسكعون فلا أرى إلاّ ظلالي في الطريق تساءل الحانات عمن سوف تشركه في المساء بكأسها وغنائها...
لا فجرٌ يطل وراء قضبان العراق. فكم يطول الليل يا ليل العراق...؟ ».
في قصيدة «ليل لشبونة» نقرأ قوله:
«ها أنت تطوف العالم
ها أنت تطوف لوحدك
ها أنت تنوح على ما مرَّ
تناسَ المرَّ تناساك المارون
فما تنظر أو تنظر...
الليل بأوله
الليل بآخره
الليل كحالك.. شابت منه ذوائبه
شابت روحك
أم شاب بك الوجد لبغداد
فما يلتف على جيدك ساعدها إلاّ وتعمّدتَ بأن تنأى.
يا هذا المنطرح الآن على عتبة باب الحانة
لا تدخل
أو.. تخرج».
في قصيدة «تشكيل 4» عملية تحويل أفكار إلى صور فنية ظريفة في.. كلام كتب في بلدان عديدة. يقول:
«أين يختبئ النسيم اثناء العاصفة؟..»
وايضاً:
«السحب كلام ممزق على لسان الريح».
ومن ذلك:
«السنابل التي اهتزت فرحاً بالنضوج
المناجل أكثر فرحاً منها».
في «تشكيل 6» أفكار تتحول صوراً أو تصبح أشكالاً فكرية أخرى وهي أحيانا أفكار مأخوذة عن كلام معروف او أمثلة معروفة. مثلاً:
«يعدوننا بالجنان الواسعة
كي يسحبوا
من تحتنا
الأرض».
ومن ذلك أيضاً:
«أسقطوا / تمثال الدكتاتور
من ساحة المدينة
فامتلأت ثانية
بتماثيلهم».
ومن «تشكيل 7» نقرأ قوله:
«يا ..
لحياتي
كيف سرقتك الأيام مني
ولم أنتبه!؟».
ونقرأ أيضاً:
«أحلامي
أخطاء
لم أقترفها بعد».
وفي «تشكيل 8» يتابع هذا النهج الذي ليس شعرياً تماماً فيقول:
«حياة بيضاء
كثيراً ما نفسدها بالأحلام».
وأيضاً:
«يعبرنا
الأمل- ساخراً-
بين صفّي عكازاتنا
الملوحة
له».
ومن ذلك أيضاً:
«أخيراً
وصلت قمة حياتي
لكنني لم أجد هناك
من الأيام والأصدقاء والعشب
ما يكفي».
وفي «قصائد قصيرة» نقرأ تحت عنوان «رسائل» قول الشاعر:
«نثيث الثلج
على نافذة منفاي
رسائل متجمدة وصلتني من هناك
هكذا يخيل لي
بينما ساعية البريد على دراجتها الهوائية
تشير أنْ لا رسائل لي اليوم».
وتحت عنوان هو «...!؟» كتب يقول:
«وطن أم زنزانة
الحاكم أضحى سجانه
نحن المحكومين به منذ زمان
يتوارثنا سجانٌ
عن سجان
من باب الجامع
حتى الحانة».


عدنان الصائغ ضاع في (مفارقة) المرآة

حسين بن حمزة- صحيفة "النهار" اللينانية:



في مجموعته «و..» (الكوكب/ الريس)، وهي الحادية عشرة له، لا يقدم عدنان الصائغ (1955) مزاجاً شعرياً متقارباً للقارئ الذي يجد نفسه أمام قصائد عمودية ومدوَّرة وتفعيلة ونثر. لا مشكلة في تجاور الأنواع طبعاً، لكنّ هذا التجاور مصحوبٌ بتباعد موضوعات هذه القصائد وأزمنة كتابتها. أضف إلى ذلك تعدّد الممارسات الشعرية داخل المجموعة، إذْ نجد قصائد قصيرة إلى جانب قصائد أطول، وقصائد مكتوبة على سطور كاملة بجوار قصائد منجزة بسؤال مفرد أو استعارة واحدة. المزاج الموحّد ليس قاعدة، لكنّ ما نقرأه يوحي بأنّنا أمام أكثر من ديوان واحد، وأقلّ من مختارات شعرية. القصد أن الشاعر العراقي المقيم في لندن يُربك القارئ، ويشتت فكرة التلقي لديه. التشتت نفسه يتحالف مع ممارسات شعرية ومعجمية، تسعى إلى إبهار القارئ من خلال المبالغة في استثمار تقنية «المفارقة».
المفارقات وصفة مجرّبة لمباغتة المتلقّي، بصورة مبتكرة أو قفلة مدهشة... لكنّ الإفراط في استعمالها يقضم أجزاء كبيرة من دهشتها، كما هي الحال في القصائد القصيرة، إذْ نقرأ أشياء مقنعة مثل: «أين يختبئ النسيم/ أثناء العاصفة» و«نحتمي من المطر/ ملتصقين تحت المظلة/ فيبللنا مطر»، إلى جوار أشياء عادية مثل: «عزلتي/ اكتظاظٌ داخلي» و«تكراري/ لا يكررني». في الحالتين لا ترقى هذه النصوص إلى تكوين نبرة خاصة أو حساسية شخصية، إلا إذا اعتبرنا التسرّع في بلوغ المعنى نبرةً وحساسية. الواقع أن ما نفتقده في ممارسة صاحب «سماء في خوذة» (1988) هو جرعات التأمل والبطء والفلسفة التي تكفل للشعر مكوثاً أطول في أذهاننا. الإيقاع والقافية ينجحان في تغطية ضآلة التأمل الشعري في القصائد الموزونة. في قصيدة «كأس» مثلاً، يصرفنا المذاق الغنائي المتحالف مع القافية الطربيّة عن معاينة جودة ما نقرأ: «في الحانة/ كانت بغدادُ/ خيوط دخانٍ تتصاعدُ/ من أنفاس الجُلّاس/ وأصابعُ عازفةٍ سكرى/ تتراقص بين الوتر المهموس/ وبين الكاس/ وإلى طاولتي يجلس قلبي/ ملتحفاً غصّته/ يرنو ولهاً للخصر الميّاس/ ووراء زجاج الحانة أشباحٌ تترصدني/ تُحصي حولي الأنفاس/ وأنا محتارٌ يا ربي/ أين أُدير القلب/ وأين أُدير الرأس».
ما ينجح التطريب في إخفائه داخل بعض القصائد يظهر جلياً في قصائد أخرى. أضف إلى ذلك أن صاحب «تأبط منفىً» (2001) قد تحلو له مفارقة ما، فيُميّعها بتكرار استخدامها. هذا ما نجده في قصيدة «مرآة 1»: «كل صباح/ يقف يومي، عجلاً، أمام المرآة/ يعدّل ياقته، وهو يهمُ بالخروج/ وأنا لا أزال مستلقياً على سريري/ أفكر بجدوى أن أستيقظ». الدهشة التي (قد) تصيب القارئ سرعان ما تتشتت بإصرار الشاعر على تكرار مفارقة المرآة، في خمس قصائد متتالية. في نهاية المجموعة، نقرأ قصائد تنتقد الوسائط بين المخلوق والخالق، لكن أغلبها يعاني من تفوق الفكرة على أسلوب كتابتها «ما الذي/ قد فعل الحكام/ والأولياء؟/ هل غيروا من حالنا/ هل حسّنوا من وضعنا/ هل أوقفوا مسيرة الشقاء...». المباشرة المنبعثة من هذا المقطع تنحدر أكثر في مطالبة الشاعر بتصحيح نصيب المرأة في الميراث والشهادة: «وحكمتَ لها بالنصف ميراثاً وشهادة/ هل حقاً/ يا ذا الحكمة واللطفْ/ يرضى عدلك هذا العسفْ».


واو الصائغ مشاكس يصفي أبجديتنا من العنف
الشاعر يلتحف القصيدة بلا مكان

أحمد محمّد أمين




عدنانُ الصائغ شاعرٌ بلا مكان، بيته الترحالُ، ومدينته الفاضلة هباءٌ زمرّديٌّ لم يعد لها وجودُ. مُغامرٌ يركب متون تطلعاته، ولا تضيّفه المرافيء ولا الضفاف... ليظلّ، إذاً، موجُه الهبائي يجتاب الأفضية والآفاق. حتي يبحّ صراخُه... واوُهُ المتمرّدُ وجودي، سرياليّ، جدليّ، عابثٌ وجاد، ساخرٌ ورصين..... حالمٌ واقعي، سارقُ دهشتنا، قاطعُ طريق ٍ لا يتربص بنا في الظلام، بل يتصدّى لنا وسط الطريق والنهار. هو أيضاً هدّامٌ صِدَاميّ، يهدّ القبيح المتنافر ليؤسّسَ مملكة الحبّ والجمال. واوهُ، يتنكر لمجمل شعره وكتاباته من: "انتظريني تحت نصب الحرية"، حتى "تأبط َ منفى"، وما يلي ذلك من انجازات نثرية. انه هنا يُشيّد بنية جديدة للشعر شكلاً وموضوعاً. يرسمُ بواواته بوابةً اُخرى للقصيدة، يتلاعب في ملامحها وهواجسها، ظاهرها ومضمرها، حلمها وشططها. فحرّرها من كتلها التقليدية. إذْ استحالت عنده لوحاتٍ تشكيليةً تغترف من كلّ المدارس الفنية. وتتمترس في ذات الآن بين الإقدام علي المغامرة في المجهول والإحجام عن التوسل بماضي القصيدة وحاضره النمطيين. هي شظايا صور، خربشة طفل لا يشيخ ولا يفني. لجْ معي قصيدته "طواف" ص 202 ترَ تشظي القصيدة ِ إلي أشلاء، كلُّ شلو حياةٌ لا تنفصلُ عن سواها ولا تتمزّقُ، فيها روحٌ وقلبٌ ينبضان:
أطوفُ
بالبيت
ولا بيتُ
الّاي، هل حولي أنا طُفتُ؟.
.......................
ولنسْمعْه أيضاً:
وهو بَناني بيتَه
كيف لي
أن اسكنَ المسكون؟

....... لكنّ المفارقة أنّ الصائغ بناها علي مَروية عن أبي يزيد البسطامي حين قال له أعرابي: اعطني دراهمك وطُفْ حولي. الكعبةُ بيتُ الله بناه وتركه. وبَناني وسكن فيّ، قلبي هو بيتُ الله.
وبصرف النظر عن صدق الرواية وعدم صدقيتها. فالإنسان في نظري أجملُ الخلائق، هو القطبُ واللولبُ، والمركزُ والثبات والحقيقة، هو مَنْ يترَكّزُ فيه نبضُ الله شئنا أم أبينا. وما عدا ذلك فشكلياتٌ ابتكرناها وعظمناها وصيّرناها بديلاً نُؤلِهه. هذه القصيدةُ اُمُ قصائد الديوان، انْ جاز القولُ، فقد زجّ فيها الصائغ كلّ ثقله الإبداعي، من تصوّف، وحلم، وصحو، وجدل مادي، ونفَسٍ واقعي وسريالي. كما أن شكلها غرائبيّ، تُمكنُ قراءتها علي أوجه.....
الصائغ في ( و.. ) يتمرّد على بنية القصيدة الشعرية الحداثية بوضعها الراهن. رَسَمَها بوضع تكعيبي (قصيدة العراق، ص 13 حصراً)، لكنه جعل الكلمات أطلاقاتِ رصاص جاءت زخاتٍ تميل يُمنة ويسرة، تضربُ يوافيخَنا المتورّمة... والجملُ الفعلية فيها شحيحة ما عدا أربع مرّات. والفاعل متوارٍ في ثلاثة افعال منها خلف الضمير المستتر:
عندما الأرضُ؛ كوّرها الربُّ، بين يديهِ
ووزّعَ فيها
(فاستحالَ الفعلُ/ وزّع / فوهة َ بندقية رمتْ رشيشاً من الصُراخ):
اللغاتِ
النباتَ
الطغاةَ
الغزاةَ
الحروبَ
الطيوبَ
الخطوطَ
الحظوظَ
اللقا...
والفراقْ

(تسكتُ البندقيةُ هنيهة لتتنفسَ5، ثمّ تنهمرُ الصرخاتُ كرّة اُخرى بعدَ)،
وقسّمَ فيها:
السوادَ
العبادَ
البلادَ
البلايا
الوصايا
الحواسَ
الجناسَ
الطباقْ
(... ويصمتُ الدويّ، ليترامى إلى الصائغ ما أنجزه، هامساً مع نفسه: نعم حققتُ غايةً، لكنْ، لأرمِ رشة ً أخرى خفيفة بعد فعل):
اعتصرتْ
روحَهُ
غصّةٌ


فكان....
العراقْ"
العراقُ الجميلُ لن يكون بالدم والمفخخات، بل بالإحتجاج السلمي والحوار والتسامح. وكذا تنحو قصيدته (.......) ص 17 ذات الإتجاه في الرشق الناعم المستغرق في الهدوء والعقلانية:

هذهِ المِئذنةْ؛
جسدٌ
ناعِظٌ (لا أعرفُ معني هذه الكلمة)
من عذاباتنا، (جمع عذاب أعذبة، لكن الكتاب تداولوها حتي شاعت)
يتوسلُ
للقبتين
أو...
.. الريحِ
ــح ح
أن تحضنَهْ"

وكأني بالصائغ يتوسلُ بالريح أن تحضن المئذنة وتُطفيء سخونتها مما عراها من أعذبة.... المئذنةُ هي الحياةُ المحفوفة بخطر الحرائق والإحتراب والخلاف. انّه يستقدمُ ريحَ العقل لتُعيدنا إلى التوافق والمحبة والسلام.
أمّا قصيدته الطويلة "أمينة..." ص 51 فهي ليست أمرأةً هام بها الصائغ. إنها... العراقُ أطيافاً أطيافاً. حارةً حارةً، اُمنيةً فاُمنية، هي كلّ ما يُحبّ وما يتمنى، ظلُّ أمان منشود يجري في دروب العراق مثلَ النسائم الرقراقة وخرير أنهاره:
"أمينةٌ.... ببهائها الأكثر دهشة ً من البحر.. بغنجها، المرأةُ التي ليلُها أرخبيلاتٌ ونُعاسٌ، تتركُ نجومَها علي جفوني وترحلُ.... / هي تطشُّ الوردَ والموسيقى على شرفات حياتي / .... أمينةٌ بخبلها تنحني على قميصي /... ماذا افعلُ لذراعيَّ / وهما يطوقانكِ / رغماً عني..".
الصائغُ عاشق هائمٌ يطوف حول الوطن وفوقه، من أجله يُمارسُ وجْدَه بلا ضجّة ولا شعارات ولا دجلٍ.
في هذه القصيدة يتلاعبُ في شكل القصيدة حدَّ التماهي. ويبلغ ذروتها في ص 56.. فالحياةُ التي تتجسّد في هيئة أمينة مَجهلٌ يُحاصره من كلّ جهة، يكاد يُحطمُ عظامه، يتيه فيه، ويختنقُ. وعلى الرغم ممّا يحيطُ به من خطر، فبودّه لو يترسّب في قاعه ويكون شظية من خلائقه العجيبة. إلّا أن القاريء عابرُ سبيل فلا بدّ له من الخروج.. وقبلَ أن تسكتَ القصيدة ُ، تقولُ بأسي : "يا لحياتنا؛ أبوابٌ تُصطفقُ، وأصدقاءٌ يغيبون"..
اذاً، أمينةُ هي مرقدُ وسائدنا، عيبُه الوحيد أن أصدقاءنا فيه يغيبون، الواحد بعد الآخر.
وفي قصيدة "غربة 4" يستغرقُ الصائغ في زعزعة بنية الشكل عبر تشظيّها وتكرار الكلمة: كم غصّصتنا/ وكم رغّبتنا / وكم شرّدتنا / وكم..../ مْ ، لكنه ترك أسئلته عن قصدٍ بلا علامة أستفهام.. فلا أحدَ يسمعُه ويُصغي اليه،، ربّما كان يتكلم مع نفسه أو يمزحُ معنا. ثمّ يقومُ بتكرار الحرف الأخير من الكلمة / الي أينَ تنأي ي ي / أفي كلّ يوم ٍ مٍ مٍ مٍ/ وكذا : العمرُ أقصرُ ممّا تُعاندُ د ُدُ دُ دُ/ أبخسُ ممّا تُكابدُ دُ دُ دُ دُ دُ / فهذا التشكيل أيضاً هو تحايلٌ علي الآخر الذي يُغمض اذنيه عن سماعه، فكأني بالصائغ يَطرقُ علي مسمعه ليوصله رسالته...
أمّا قصيدتُه : نصوصٌ مشاكسة قليلاً، ص 177فهي تشاكسُنا بقوة وعنفوان وجرأة. فيها حدّة ٌوصراحة جارحة. لنسمعْ ما يقولُ: يالناطقُ، باسم الله/ لمَ حذف ألفَ الناطق؟ /......لتُرهبني / ثمة َ كلمة ٌ محذوفة عمداً، يستطيع القاريْ أن يضعها في الفراغ./ ربّي، لم يحتجْ سيفَك كي يُقنعني / الأفضل لم تحتجْ سيفَك. والا لن يستقيم المعني. وما أجملَ قولَه هنا:/ لم نرَ وجهَك، الا بالنصل وبالدم، وأنا اُبصره في الكلمة، في النغمة، في زرقة عينيها،.....واليم / وكذا : كيفَ رأينا الله بنسغ الشجرة، وتركناه، نِسيناه، لكي نتقاتلَ من أجل الثمرة / هنا ينزعُ الصائغ نزعة حلاجية، قشيرية، نِفَرية. يُعيدُهم الي أيامنا، ليُسهموا معنا في الإنشغال بالله صدقأ لا باطلاً، نُريقُ حول اسمه قرعَ الطبول، نُطيلُ في العويل. القصيدة ُبكلّ تفاصيلها دعوة ٌ الي تكريس العقل والوعي والتسامع، فالله ليس شعاراً نعلقه علي الجدران. هو فينا، في سلوكنا، في ضمائرنا. هذه اللوحةُ الشامخة التي رسمها الصائغ بحذقه الإبداعي تصلح أن تكون جدارية تُعلقُ في ساحات مدائننا. هي دعوةٌ الى الإنفتاح لا الي التحجّر، الي الإلتقاء والتلاحم برغم خلافنا واختلافنا. الى التواضع لا الى الجبروت والقمع وكتم الأنفاس.
وفي المقطع الأخير / رسولة / كم من حرف ال "س" الداكن والباهت فيه ؟جاء سبعاً وثلاثين مرة. أجهلُ كنهَ اصطفاف هذه / السينات/ ربّتما يُريد منا أن نسكتَ ونتقبل كلّ شيء من دون احتجاج أو مناقشة. أواستعارَ شفتي أبكمَ منطوٍ علي الصمت، أوقامع ٍ يُملي علينا ارادته علي الرغم منا. وفي الديوان قصائدُ بحجم الوطن وأمانيه، فصعاليكُ حسن عجمي تُعيد بنا الي أيامَ فتوتنا ونزقنا وشططنا وعبثنا وجِدّنا وهزلنا وأصدقائنا، واسماء الأعلام الفنية التي أحببنا، ولا معني لبغدادِنا من دونها أيامئذ ٍ. هذه القصيدةُ تحتقنُ بخزين ِالذكريات التي لا تفني أبداً.....هي حياتنا التي ضاءتْ حيناً هناك، وضاعت في دروب الزمن..
نعم / واوُ/ الصائع استثناءٌ شعري خرج من جُبّة المعتاد والمستهلك، بلْ صفارةُ حَذَر أيقظتْ كسلنا المترهلَ وخجلنا المتبلدَ، ورمتنا الى سديم التراث نلتقطُ من أحجاره الثمينة ما ينفعنا وما يُغني حاضرنا، وتأخذنا أيضاً الي مديات ابداعية أبعد، نغترف من متونها عُدتنا الكتابية بما يُعزّزُ إيقاعَ منجزنا الأبداعي علي اصعدة الفنون كافة.. تري ما الذي ينطوي عليه هذا الـ" و " المكتنز لحماً وعقلاً، فلم يمنحنا الصائغ منه سوى هذا النذر اليسير؟


عدنان الصائغ.. عاشقاً للحرية، باتجاه المنفى


سعدية مفرح
الكويت



"لا تقطف الوردة
انظر...
كم هي مزهوة بحياتها القصيرة"..



ولكن من يهتم أصلاً بهذا الزهو المهيمن على أطراف الوردة يا عدنان الصائغ؟ من يهتم بحال الوردة وتضاريس حياتها القصيرة؟ من قال لك إن قاطفها لا يريد قتل هذا الزهو أصلاً.. لا يريد إنهاء هذه الحياة أصلاً؟
منذ "انتظريني عند باب الحرية" ديوانه الشعري الأول الذي صدر في بغداد قبل ما يقرب من عشرين عاماً، وحتى كتابه الأخير "تأبط منفى" والصادر في السويد قبل شهور قليلة يبدو الشاعر عدنان الصائغ عاشقاً للحرية حتى وإن كان ذلك باتجاه المنفى، باحثاً عن منفى مادامت بين تضاريسه وحدها تنمو نبتة الحرية، وما بين الحالين يبقى الصائغ شاعراً رائقاً وقادراً على نحت مدارجه الشعرية الخاصة في جبال الكلام الكثير الذي صارا يتلبس لبوس الشعر - حتى لا نقول إنه صار يحل محله - مترفعاً عن الكثير من الأمور الصغيرة التي يمكن أن ينشغل بها الباحثون عن شهرة مدوية أو مجد بارق أو فوائد مادية تتراكم في البنوك أرصدة، وفي الحياة مواقف رخيصة تحت لافتة الشعر، فالصائغ الشاعر الذي دفع الكثير من استقراره واستقراره أسرته منذ أن أصر على خصوصية شعره واختلافه عن أي جوقة تعزف وتغني من نوتة لم تكتبها ويمَّم وجهه الإنساني شطر المنفى البعيد، تعرض لأكثر من حملة تشكيك بشعة من قبل أولئك الذين لا يعملون ويسوؤهم ان يعمل الآخرون، والذين يتساقطون كأوراق الخريف اليابسة عند أول ريح تنذرهم بالعاصفة ويسوؤهم أن يبقى الآخرون صامدين كالجبال حتى وهم يواجهون أعتى العواصف.. واقفين كالشجر حتى وهم يموتون فعلاً... لكن هذا الشاعر الحالم العنيد لم يسقط ولم يتزحزح عن مواقفه والأهم من كل هذا أنه لم يتخل عن إنسانيته الرهيفة ولا عن شعريته الذاهبة إلى المدى الأقصى من الإبداع شرطاً لتحققها وضرورة لاكتمالها بالنشر.
لقد ترك الشاعر العراقي عدنان الصائغ وطنه الذي صار جحيماً لروحه النبيلة وقيداً على قصيدته الجانحة لقيم الحق والخير والعدالة منذ بداية التسعينيات باتجاه منفى تعددت عناوينه فأقام قليلاً في عمّان ثم توجه إلى بيروت قبل أن يصبح القطب الشمالي عنوانه السويدي الجديد والذي حاول أن يتأقلم مع ظروفه المتجمدة، هو القادم من شمس العراق المشرقة دوماً، فدفع وهو يمارس ذلك التأقلم الضروري الكثير من صحته المرهقة أصلاً... لكن ما وجده هناك من حريات تليق بالشعر والشعراء وما لقيه من مساندة أسرية رائعة جسدتها زوجة مثقفة محبة وطفلان - كبرا على رصيف المنافي - أدركا مبكراً قدر والدهما شاعراً يتوق للحرية شرطاً لبقائه الإنساني خفف من عذاباته في الغربة وأضاف لقصيدته الجديدة ألقاً إضافياً وخلّصها من كثير من الشوائب والحيل التي يلجأ إليها بعض الشعراء احتيالاً على مقص الرقيب وتقية مما وراء الرقيب.
قصيدة عدنان الصائغ الجديدة والتي تحققت في دواوينه الأخيرة قصيدة رائقة صادقة تتوغل في تضاريس الغربة وتحتفي بالإنسان كأرقى وجود يمكن أن يتحقق في الوجود... يقول الصائغ:

"سأحزم حقائبي
ودموعي
وقصائدي
وأرحل عن هذه البلاد
ولو زحفت بأسناني
لا تطلقوا الدموع ورائي ولا الزغاريد
أريد أن أذهب
دون أن أرى من نوافذ السفن والقطارات
مناديلكم الملوِّحة
استروح الهواء
منكسراً أمام مرايا المحلات
كبطاقات البريد التي لا تذهب لأحد
لنحمل قبورنا وأطفالنا
لنحمل تأوهاتنا وأحلامنا ونمضي
قبل أن يسرقوها
ويبيعوها لنا في الوطن: حقولاً من لافتات
وفي المنافي: وطناً بالتقسيط"


شاعر تأبط منفى!

عبد الستار ناصر
روائي وقاص


شاعر يعطي وآخر يأخذ.. واحد منهما يفتح الممرات ويكشف المستور.. والثاني ما يزال يكتب عن الصباح المشرق وطيور الجنة، وبين أهمية الأول وسطوة صورته وأصالة إبداعه، وبين هشاشة الثاني وعصافيره الولهانة في بيت الحبيبة النعسانة يقع الشعر في صراع حقيقي مع نوع من قراء اليوم.
ذلك أن قاموس الكلمات التي يختارها الشعراء أنما تأتي من نبعٍ واحد وتصب في كتب شتى، وقد يخسر الشاعر عملاً خطيراً بسبب غلاف رديء والعكس معقول أيضاً.. وقد يفضح أحدهم نفسه عبر (تصريح) مضحك أو (قول) ما كان ينبغي أن يقال.. وهنا تمكن علة الشهرة ومنها قد نفهم مدى شهرة العيوب التي تضع الملح في طعام مالح ثم في طبق مرشوش بالملح مع خبز محروق بأملاح التنور وتقدمه لقارئ مريض بارتفاع ضغط الدم إذا به يعاف الشعر وطعام القصائد بعد أن شبع الجلد والمسامات من كثرة الملوحة التي يرميها بعض الشعراء على كتاباتهم الماسحة!
صارت نسبة من يكتب الشعر (أو ما يسمى شعراً) أكبر بكثير من نسبة قارئته، لذلك انقلب المشهد منذ أعوام ليست قليلة، إذ ليس من السهل بقاء الحال على ذات المنوال، ولا بد من (غربال) كبير وتصفية صحيحة وصريحة مع الشعر الذي يعطيك ما تريد ومع الكلام الذي يشبه الشعر ولا يأتي بما تريده النفس أو تعوزه الروح من ثورة وجمال ومعنى..
وهنا نعود إلى الكائن الشعري الذي تأسس شاعراً في كل شيء، والذي تعرفه من لباسه وأفكاره وكوابيسه وأسفاره أو عزلته وتكاد أن تشير إليه وأنت تشاركه تأملاته ورغباته ورؤيته، وربما حبيباته وجنونه معاً، الشاعر بهذا المعنى هو كل ما يصنع أيامه التي ستجيء..
الشاعر الكبير لا يأتي مجاناً إلى ملكوت المجد، ويكذب النقد أو يتحامق إذا ما طرطش بالصفحات شمالاً وشرقاً حتى يقلع هذا من (مجده) أو يجرجر ذاك إلى عرش لا يستحقه المجرور.. ومن المهم ما دامت الحقائق كعادتها تأتي متأخرة أن نقف الى جانب المشهد بحياد أولاً، مع الكثير من المحبة، من دون أن نقف (تحته) ونرى بعض عيوب التجربة، أو نقف (فوقه) حتى يصغر أمام إحساسنا بالسطوة والغلبة ذلك أن الشعر حالة من حالات الشهيق وطريقه مثلى من طرق الكلام وصورة من سريان الدم على جسد الورق وحين نحاكمه على ضعف أو نصفق لقوته، لا بد أن نفرض على أنفسنا محاكمة بمستوى ما سنقضي بأحكامنا عليه.

* *

لا أدري لماذا كتبت هذا الكلام كله وأنا أفكر بالرحيل (معكم) إلى ديوان (تأبط منفى) للشاعر العراقي المبدع عدنان الصائغ فهذه المرة رأيت نفسي قبالة نفسي وأنا أقرأ كيف أن (العراق الذي يبتعد، كلما اتسعت في المنافي خطاه، والعراق الذي يتئد كلما انفتحت نصف نافذة قلت آه، والعراق الذي يرتعد كلما مرّ ظل تخيلت فوهة تترصدني أو متاه، والعراق الذي نفتقد نصف تاريخه أغانٍ وكحلٌ ونصف طغاه) وفي الوقت الذي حاصرتني الغربة فيه رأيت نفسي ثانية وأنا:

"من امرأة إلى امرأة
ومن رصيف إلى آخر
أمشي
قاطعاً حياتي
سيراً على الأحلام"

هكذا مضيت مع الشاعر عدنان الصائغ أنحني – مثله كالقوس على نفسي لكنني أبداً ما انطلقت ثمة أشياء مريرة تشدني إلى الأرض وأنقل رمضائي بخفة أحسد نفسي على نيراني، عساني أقول الشعر أو أكتبه بالطريقة التي أكتب فيها القصة القصيرة لكن أنين القطار يثير على الصفحة 102 شجن الأنفاق هادراً على سكة الذكريات الطويلة وأنا مسمر إلى النافذة بنصف قلب تاركاً نصفه الآخر على الطاولة يلعب البوكر مع فتاة حسيرة الفخذين تسألني بألم وذهول: لماذا أصابعي متهرئة كخشب التوابيت المستهلكة؟ فأحدثها عن الوطن واللافتات والاستعمار وأمجاد الأمة!
الشعر – اليوم – يجب أن تكونه أنت بنفسك مخلوط بك حد أنك لا تدري أيهما (منكما) هو المكتوب على الورقةـ تماماً كما فعل غارسيا ماركيز في روايته المذهلة (الحب في زمن الكوليرا) إذ أنك ما ان تزرع أحزانك بين أحزان أبطالها، سوف تنسى من الذي كتب عن (من)؟ تسرح ثمة في خارطة مزحومة بالرياح والحشرجات والدموع ورسائل الحب، ثم تنام على هسيس العشاق وهمس البحار وحرقة الأشواق برغم شيخوخة الحياة التي تتسرب إلى الروح وإلى الملامح والأصابع وسوف تستيقظ من الرواية من دون أن تصل إلى (أيهما كان بطل القصة؟ أنت؟ أم الذي كان في مكانك خلف حجاب النوم)؟؟
باختصار هذا هو الفن العظيم في الكتابة ولا فرق أي نوع جاءت به أنامل اليدين أو أصابع العقل، القصة القصيرة أم الشعر أم الرواية أم الموسيقى أم الجنون، وأعتقد جازماً، وأنا أترك نيراني تحت بحر الإبداع – أن لا أحد يستطيع قتل المبدع حتى وإن قتلوه.
هذا يتأبط منفى وذاك يتأبط شعرا وبينهما من يتأبط أوجاعه وأحلامه ويرحل صوب لا مكان. المهم في رحلة المنافي هو أن لا نتأبط شرا ونكتفي بالكتابة حلاً وسيفاً ومأوى.

تأبط منفى عدنان الصائغ، شعر، دار المنفى، السويد، عام 2001


غبار طريق المنفى ورؤيا عن عدنان الصائغ



حسن رحيم الخرساني

السويد




حين يتأبطـُكَ المنفى تستيقظُ على أنفاس الوطن لذلك واجبٌ عليكَ أن تحترمَ الصمتَ لو
دخلَ مدينتـَكَ المهاجرة...، من هنا ينبغي على واحدٍ مثلي الوقوف على قساوةِ وشفافيةِ الصائغ وهو ينحتُ من الهواءِ قلباً يشترطُ لهُ عذوبةً ربما تجعلـُك َ أن تستقرَ على حروفها أو تنزلقَ من توهج ألوانها التي تضطرُكَ أحياناً إلى الصعودِ إليها كي تشتعلَ مع ألمٍ عراقي المذاق ورؤيا كربلائية التربة.
ومن معرفتي بالشاعر الصديق عدنان الصائغ أجزمُ أن هذا العاصفُ بميدانهِ الثقافي قد أحترمَ الشوارعَ التي تؤدي إلى فضاءٍ يستعيرُ وجوهـَنا ثم يشهدُ علينا أمام ذواتنا أنـّهُ قد أقتطفَ كثيراً من أوجاعنا وحركَ فينا أوجاعـَهُ التي تزداد َ ثماراً على سلمِ الذاكرةِ...، وعليهِ أيضاً قررتُ أن أحرثَ بعضاً من أوراقـِهِ حتى وإنْ أختنقَ قلمي بغبارِ طريقهِ المكتظِ بالحروبِ والشوقِ إلى مقهى حسن عجمي وشارع المتنبي.

يقولُ الصائغ: (1)

(أعضُ الكتبَ
أعضُ الشوارعَ
هذا الفمُ لا بدّ أن يلتهم شيئاً)

لا شكَ أنّ الجوع ـ قوةٌ لا تعترفُ بالقيم ـ كما يقول الروائي المصري محمد عبد الحليم إلاّ إننا حين ننظرُ إلى صراخ جوع الشاعر يتضحُ لنا أنـّهُ قيمٌ أنتفختْ نتيجةَ أزدحام الرأس وهو يرفضُ أنْ يسربَ بعضها من المكان إلى اللامكان لتحتلَ غيرُها ذاكرةَ الشاعرِ..، لهذا علينا الأعتراف لصديقنا الصائغ أن جوعَهُ لم يكن إلا صرخةٌ ترفضُ الوقوفَ وتحلمُ بالدخول والخروج حتى يهطل المطر.

كذلك يقول شاعرنا الخاسر ـ عدنان ـ ( 2 )

(في خنادق الحروب الخاسرة والزنازين
مـَنْ يغطيني من البرد والهاث ولسعات العيون؟؟)

إنني أُقاسمُ أرتعاشكَ أيـُّها المقامر بما ملكتْ يديه..، وأحتمي بكَ لتحتمي بي من عيونِ المنفى وكلنا ـ ياصديقي ـ ربحنا الخسارات والبرد والصمت الذي نافقَ أخيراً علينا بأننا أقلقنا أجفانـَهُ ونحن نرتلُ نشيدَ العراق...،
ورغم كل شئ يبقى عدنان يغردُ ويقسمُ لنا قائلاً(3)

(من امرأةٍ إلى أخرى
أمشي
قاطعاً حياتي
سيراً على الأحلام..)

يالكَ من طيفٍ تجلى وحدَهُ ونفخ َ في أناملهِ لتحملـَهُ ماشياً في النهار وسائراً في الليل حتى تبقى ويبقى الصائغ رغم ـ العقب الحديدية ـ طائراً يلوحُ لنا أنهُ رافدٌ من النهرين ونورسٌ من أرض السواد..


انشطار الذات في ديوان (تأبط منفى) لعدنان الصائغ
جَدَل الرؤية وآلياتُ التشكيل


د. عـاطـف السـيد بهجـات

أستاذ النقد الأدبي الحديث المشارك
بجامعتي: عين شمس والطائف





(وقال لي: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة")
النـِّفـَّري الموقف الثامن والعشرون من كتاب المواقف - طبعة أرثر يوحنا أربري - مكتبة المتنبي - القاهرة - بدون - ص 51

مقدمة
شهد الشعرُ العربي المعاصر التفاتةً من الشعراء لذواتهم؛ استجابةً للجدل الناشئ داخلَ الذات من جهةٍ، وبين الذاتِ وعوالمها الخارجيةِ المتباينة من جهةٍ أخرى. فكأن الذاتَ الشعرية لم تعُدْ ذاتاً واحدة، بل انشطرت ذاتَين، أو توزعت ذواتاً كثيرة؛ نتيجةً للتغيرات الكثيرة المتلاحقةِ على مستوى العالَم، التي تنعكسُ في الوقت ذاتِه على بيئتي الشاعر: الخاصةِ والعامة.
لقد أدى ذلك إلى نشوءِ جَدَلين شعريين على مستوى القصيدة العربية المعاصرة:
- الجدل الذاتي، الذي تصطرع فيه الذات، ويتمخض عنه دفقةٌ من المشاعر المَوّارة مثل: القلق، والتمرد، والتشتت، والخوف، والانكسار، وغيرها.
- الجدل الجمعي، الذي تتصارع فيه الذات مع بيئاتها المختلفة على مستوى: الجماعة، والعالم. وهذا الجدل ينشأ معه: تصارع، ودونية، وإحباط، واكتئاب، وغيرها. ويمثل هذان النوعان من الجدل المحورَ الأول، وهو رؤيةُ الشاعر لذاته ولعالمه، وسوف يُجرى البحث حول الجدل الذاتي فقط؛ اتساقاً مع العنوان - في ديوان (تأبط منفى ) للشاعر العراقي عدنان الصائغ.
أما المحورُ الآخر فيتمثل في آلياتِ التشكيل، وهي الإطار الشعري الذي يكتنز داخله جدلُ الرؤيةِ، حيث يعتمد الشاعر في إبراز هذا الجدل على طاقات اللغة التعبيرية المتمثلة في: ضمائرها، و أفعالها، وتراكيبها، وأساليبها. كما يعتمد على الإشعاعاتِ الإيحائية غيرِ المسبوقة للتراكيب اللغوية حسبَ سياقها.
والصائغُ صاحب تجربةٍ شعرية تفي بفكرة البحث؛ حيث خاض صراعاً مع السلطة أدى إلى هروبه من العراق عام 1993، ومصاحبتِه حياة َالمنفى في بلاد كثيرة حتى استقر به المقام في لندن*.
ويتناول البحثُ آلياتِ التشكيلِ عَقبَ طرحِ الرؤية في موضعها؛ لكونِها لا تنفصل عن أسلوبها، ولعرضِ وجهةِ النظر الشعرية كاملةً - بمظهرِها وجوهرها -؛ عملا على عدم تفتيتها، ومحاولةً لاستقصاءِ جوانبها، وإبرازاً لوحدةِ الرؤية - جدلاً و تشكيلاً - في موضعٍ واحد.
و لمّا لم يكن الغوصُ في علم النفس، أو الفلسفة - مقصوداً لذاته، كذلك لا يجب إهمالُه؛ فقد عالج البحثُ المفاهيمَ النفسية والفلسفية في موضعِها؛ عملا على ربطِ النص الشعري بخلفيته المؤسِّسةِ له.
والديوان - في معظمه - نصوصٌ قصيرة ذاتُ رؤية عميقة، إضافة إلى بعض النصوص الطويلة، والمطولة "أوراق من سيرة تابط منفى" التي جاء منها عنوان الديوان، وسوف يجرى البحث على النصوص القصيرة، لما فيها من تكثيف للرؤية، وتصوير للمعاناة؛ انطلاقا مما قاله الصائغ عن إبداعه "أنا الميال غالباً إلى قصر القصيدة، و تكثيفها إلى أقصى حد"**
وقد أُجريت دراسةٌ أكاديمية حول شعر الصائغ بعنوان (شعر عدنان الصائغ، دراسة فنية. قدمها الشاعر العراقي عارف الساعدي لقسم اللغة العربية في كلية التربية بالجامعة المستنصرية في بغداد 2006م، ثم صدرت بعد ذلك كتابا تحت عنوان: (شعرية اليومي، دراسة فنية في شعر عدنان الصائغ) - منشورات تموز 2007م. إضافة إلى حوارات ومقالات صحفية تناولت حياته وإبداعه - سيَردُ ذكرُها في ثـَبت المصادر والمراجع إن شاء الله.
و جاء البحثُ في ثلاثِ نقاطٍ بحثية هي:
أولاً: مصطلحات مؤسِّسة.
ثانيا: العنوانُ بنية ُالذات.
ثالثا: جدلُ الذات، رؤية ًوتشكيلاً.
أخيراً: خاتمة.
ثم ثبت المصادر و المراجع.
والله الموفق إلى سواء السبيل..


أولاً: مصطلحات مؤسِّسة
1- الانشطار
جرى العرفُ اللغوي على أن الدالَّ (الانشطار) محددُ المدلول في الانقسام إلى شطرين (نصفين)، إلا أنه يزخر بحمولاتٍ دلالية تربو على ذلك، فلا يقتصر معناه على التناصف، بل يتعداه؛ حيث يقول ابنُ فارس في مقاييس اللغة: (الشين والطاء والراء أصلان يدل أحدُهما على نصف الشئ، و الآخر على البعد والمواجهة)(1)
إن الذاتَ في انشطارها ذاتين لا تعدَم أن يواجـِه بعضُها البعض الآخر. والمواجهة إن كانت تحمل قـُرباً مادياً ناتجاً عن التلاحم، فإنها تحمل بُعداً نفسياً، يتمثل في ابتعاد شطريها عن بعضهما؛ ما يؤدي إلى هوةٍ نفسية، يتمخضُ عنها قدرٌ من تنافرٍ، يؤدي إلى غربةِ الذات عن نفسها وعن المجتمعِ؛ فتؤْثِرَ الابتعادَ (الشَّطر يعني البُعْد)(2) كذلك فإن الذاتَ في مواجهتها الآخر، ربما تكون بعيدة ًعنه نفسيا وفكرياً؛ ما يؤدي إلى حراكٍ جدلي صراعي بين الذات والآخر، حيث ينظرُ كلاهما إلى غيره، على أنه غريبٌ عنه؛ بحكم اختلافِ الذوات عن بعضها أكثرَ من اتفاقِها؛ فيصبحَ الآخرُ بالنسبة للذات (شَطِيراً)، أي غريباً - كما قال اللسان والقاموس والصحاح (الشطير: الغريب)(3).
والذاتُ في تعاملها مع الآخر، تتلاحم مع أكثرَ من شطير، الأمرَ الذي يؤدي إلى إعادة النظر في مدلول الانشطار، من حيث كونِه لا يدل على النصف فقط، ولكنه يدل على البعض أيضاً؛ حيث قال القاموس (الشَّطر: نصفُ الشئ و جزؤه)(4)، ولعلنا إن تجاوزنا الأدبَ والنقدَ إلى مجالِ العلم التجريبي، وتحدثنا عن الانشطار الذري مثلاً، فكلنا نعرفُ أنه يحمل معنى التفتت الضئيل جداً الناجمِ عن شدة الانفجار، هكذا الذاتُ تعيشُ مرحلةً من الانفجار قبل الانشطار، وإذا انشطرت تفتت ذاتياً، وتوزّعت في علاقتها مع نفسها ومع الآخرين.


2- الجَــدَل
يُعرفُ الجدلُ في معناه العام بأنه "عملية ُصراعٍ يتبادل طرفاها المتضادان التأثرَ والتأثيرَ، على نحوٍ يُغيِّر من كليهما على السواء، ويُفضي إلى مُرَكب ثالث يصبح - بدوره - طرفاً في عمليةِ صراعٍ جديدة مع طرف يقابلُه على المستوى الفكري والاجتماعي... الخ، ومن منظورٍ يغدو معه التناقضُ بمثابة المبدأ الرئيسي للجدل"(5)
الجدلُ إذن حوارٌ قائم بين طرفين: شطرى الذات، أو الذات وغيرها. وقد لا يهدُفُ إلى نتيجةٍ، بقدر ما يهدفُ إلى إثباتِ الذات، أو تسجيلِ موقفٍ؛ لأن التناقضَ أو الاختلاف هو عمادُ الجدل. وليس المركبُ الثالث الناشئ عن عملية الصراع إلا مركبٌ متجدد، و تجددُه هو الذي يمثل الثباتَ على الموقف، والتناقضَ القائم بين الطرفين.
ومن شأنِ هذا الجدل أن يقيمَ حواراً يتسمُ بالاختلاف في الرؤية، أكثرَ من الاتفاق بين المتجادِلِين. فالجدلُ يحمل في طياته معنى الصراع، (الجَدَل في اللغة تعني الصَّرْع)(6)، وكأن كلَّ طرفٍ من طرفي الجَدَل، أو أطرافه يريد أن يصرع غيرَه فكرياً؛ فتتولدَ ثنائيةٌ تناقضيةٌ من الغَلَبة والانهزام، يكون لها أثرُها على كلا الطرفين - إيجاباً وسلباً -.
ولو كان ذلك على مستوى الذات، فإنها تعيش صراعاً داخلياً بين ما تريدُ، وما هو كائنٌ، الأمر الذي يؤدي بها إلى حالة من الجَدَل الداخلي، أو جَدَل الذات، فتعيش لحظتي الانهزام والانتصار في آن واحد، وبذلك لا يتحقق الوجودُ الكاملُ للذات؛ لأن أحد شطريها / المنهزم قد اختفى - مؤقتاً - من ساحة الجَدَل، وأصبحت بذلك ذاتاً ثلاثية الأجزاء - بعد تولد المركب الثالث : مصطرعة - منهزمة - منتصرة، بعضُها يجْلِدُ بعضَها، ولا يخفى علينا أن حروف جـَدَل هي ذاتها حروف جَـلـْد، ويأتي تتابُعُ الحركات في الجَدَل مصوِّراً حركية َالقول، وتجاذبَ الأطراف، بينما تأتي الحركة ُالمتبوعة بالسكون في الجَلـْد تصويراً لحركية شطر الذات أو جزئها المنتصر في الحركة، واستسلام شطرها أو جزئها المهزوم في السكون.
ولا يخلو الجَدَل من لَدَدٍ و شدة، يتمثلان في انحيازِ كل مجادلٍ لرأيه على حساب رأي غيره، وهو ما لا يؤدي إلى نتيجةٍ في الغالب؛ لأن كلَّ طرفٍ يدافع عن رأيه باستماتة (الجَدَل تعني الَّلدَد في الخصومة والقدرة عليها)(7)، وبذلك نصبح أمام خصومةٍ فكرية أو صراعٍ فكري متعددِ الأطراف، كلُّ طرفٍ يحتفظ برأيه كما هو، لا يَحيد عنه، ويُحكم حجته في ذلك دون أن يخالط رأيَه رأيُ الآخرين (الجَدْل والجِدْل تعني: شدة الفتل، وعدم الانكسار، وعدم اختلاط الشئ بغيره)(8).
هذا الحراكُ الجدلي - إن صح التعبير - بين الذات وغيرها من شأنه أن يخلُقَ صراعا قد يدوم؛ لعدم تخلي كل طرف عن قناعاتِه، الأمرَ الذي يؤدي إلى صراعٍ بين الذات وغيرها فيما نصطلح عليه بالجدل الجمعي.
ولكلا الجدلين: الذاتي والجمعي نواتجُ نفسية وفكرية تـُسيِّر حركةَ الإبداع، وإن كان البحثُ سيقتصرعلى ما تناوله الشاعر في جدل الرؤية مُعبِّراً عن الذات، وهي تعيش الاصطراع.
3- الرؤية
تتباين الرؤية ُعن الفكرة في أن الثانية أكثرُ تحديداً في مفهومها، و تمثلُ في معناها النقدي "تمثلاً أصبح آليا، ومفصولاً عن أصله الحقيقي، نحصل عليه، ونأخذه كمبدأ أول مؤسِّسٍ للواقع في حد ذاته"(9)، بينما تتميز الرؤيةُ بأنها ذاتُ نسقٍ متماسك. والمصطلحُ في أصله يعود إلى لوسيان جولدمان، عندما قدم في كتابه (تأصيل النص) تعريفا للرؤية، حيث قال: "إن الرؤية َالكونية هي بالضبط تلك المجموعة ُمن التطلعات والأحاسيس والأفكار، التي تجمع أفرادَ فئةٍ ما (وغالباً ما تجمع طبقة اجتماعية)، وتجعلُهم يناوئون المجموعاتِ الأخرى"(10).
إن الرؤيةَ ذاتُ صلة بالفِكرِ أكثرَ من كونها ذاتَ صلةٍ بالفكرة. فالرؤيةُ تُـبنى من مجموعة معطيات أو أفكارٍ قد تكون واقعيةً أو مجردة؛ من أجل الوصول إلى تصورٍ عام. الفكرةُ إذن أساسٌ للرؤية، أو أنها مجموعةُ أسسٍ منفصلة، تجدلُها الرؤيةُ في نسيجٍ واحد. وتبقى الفكرةُ مجردَ فكرةٍ لا قيمة َلها، إن لم تنتظمها رؤيةٌ قابلةٌ للتحقُّق، فالفكرة في معناها العام الذي يراه ديكارت "تمَثـُّلٌ ذو طابعٍ ذهني"(11)، وكل ما كان في الذهنِ يبقى حبيسَ رأس صاحبه إن لم يمتلك القدرةَ على الطرحِ، والتواصلِ مع الآخرين.
تتميز الرؤية ُبشموليةِ النظر إلى محيطها، والقدرةِ على التعامل معه في إطار من العلاقات المتشابكة .كما أنها بشموليتها، واتساعِ رقعتها ينتجُ عنها حراكٌ فكري: داخل الذات، أو خارجها، وهي بذلك أنسبُ لطبيعة الجدل، حيث إن الجدلَ الذي يهدف إلى إثبات الذات - قد تتمخض عنه رؤية ٌتعبر عن تلك الذات، وتبلورُ مواقفـَها إزاء قضاياها الخاصة، وقضايا مجتمعها، فتصبح منظومةُ أحكامها ومعرفتِها منظومةً قـِيمية، لا ترجعُ إلى شيء بقدر ما ترجعُ إلى الذات المدرِكة.
وكون الرؤيةِ مرتبطة ًبالجماعة، لا ينفي ارتباطَها بالفرد؛ حيث أشار جولدمان إلى أن "الشعورَ الجماعي لا وجود له إلّا داخل الشعور الفردي لكل إنسان"(12).
تتشكل الرؤيةُ إذن بناءً على قناعات ذاتية - قد تخطئ، وقد تصيب -، مثل رؤية الذات للمفاهيم المجردة: الحق - الخير- الجمال - الصدق -... الخ. أو بناءً على موقف جمعي يـَمَسُّ الذاتَ بشكل أو بآخر مثل القضايا المجتمعية كالفساد - البطالة - الانتماء... الخ.
وفي الرؤيةِ يمارسُ المرءُ حريتَه في التفكير، واتخاذِ المواقف، دون عوائقَ تمنعُه من ذلك في صورةٍ من صور تـَحَقـُّقِ ماهية الذات وكينونتِها، وتصبح الرؤيةُ في هذه الحالةِ مرادفاً للوجود. وهذا ما يفسر الاستماتةَ في الدفاع عنها، وحُـميا الجدلِ إزاء مناوئيها.
والتعبيرُ عن الرؤية يختلفُ باختلاف طبيعة الشخصية. وأظهرُ أشكال التعبير عن هذا الاختلاف هو الصراع: مادياً كان أم فكرياً. وفي الأدب يشيع الصراعُ الفكري، الذي يتسمُ بالجدلِ أكثرَ مما يتسم بالحوار والمناقشة، مما يطبع الأدبَ بصورةٍ من السخرية والغرور أحياناً كثيرة. ولنا فيما قرأناه، وعرفناه عن النقائض في العصر الأموي تجسيدٌ لهذه الصورة. هذه النقائضُ التي تعبرُ عن رؤيةٍ جمعية، تتجلى في رؤيةٍ ذاتية للفرد/ الشاعرالممثلِ للجماعة وينضوي تحت لوائها أكثرَ مما ينتسبُ إلى نفسه، والصراعُ فيها تجسيدٌ لفكرة المناوأة التي أشار إليها جولدمان. ولا تخفى علينا - في العصر الحديث - المعاركُ الأدبية الناشئة عن رؤيةٍ ذاتية محض، ومنها - على سبيل المثال - معاركُ طه حسين الأدبية في أكثرَ من مناسبة(13)، وكذلك معاركُ لويس عوض في أكثرَ من اتجاه(14).
وتكاد الرؤيةُ - في خصوصيتها - تتماهى مع الذات، حيث إنه من الثابت في علم النفس أن رَدَّ فِعْلِ الذات تجاه المواقف لا يتحددُ وفقاً لطبيعة الموقف، ولكنه يتحددُ وفقا لمفهوم الذات عن الموقف(15)، وما هذا المفهومُ إلّا رؤيةُ الذاتِ الخاصة لما يتحقق وجودُها به، وتقفُ على الواقع من خلاله، وتستطيع بواسطته أن تجابِهَ العالم مِن حولها(16).


ثانياً: العنوان بنية الذات
يتجاوزُ عنوانُ الديوان كونَه تركيباً لغوياً، إلى كونِه بنية ًدالةً على الذات، تمثل إزاحة للاسم الحقيقي لصاحب الديوان، وتحلُّ محلَّه؛ ليصبحَ هذا اللقبُ علامة للشاعر، تستدعي إلى الذهن واحداً من الشعراء العرب القدماء الصعاليك من فئة المتمردين هو: ثابتُ بنُ جابرٍ الفهمي، الذي أزاح لقبُه (تأبط شرا) اسمَه؛ فصار الكثيرون لا يعرفون إلا اللقب.يقال "جاءني تأبط شراً تدعُه على لفظه لأنك لم تنقلْه من فعلٍ إلى اسم، و إنما سميتَ بالفعل مع الفاعل رجلاً فوجبَ أن تحكيَه ولا تغيرَه"(17). ولعل هذا الوجوبَ الذي أشار إليه ابنُ منظور دليلٌ على إزاحة اسم الرجل؛ فصارت بنيةُ الجملةِ اسماً بديلاً حلّ محلّ الاسم الأصلي.
وبنيةُ عنوان الديوان (تأبط منفى) تشهدُ تماسّاً مع الصعلوك القديم في ظاهر التركيبِ من ناحية، وفي تكرار الفعل (تأبط) من ناحية أخرى. هذا الفعلُ الذي يدلُّ على المصاحبة والالتصاق، وليس بعيداً في تأسيس متنه اللغوي عن تأبط شرا "تأبط الشئ: وضعه تحت إبطِه وبه سُمّي ثابت بنُ جابر الفهمي لأنه، كما زعموا، كان لا يفارقُه السيف، و قيل: لأن أمَّه بَصُرَت به وقد تأبط جَفِيرَ سِهام، وأخذ قوماً فقالت: هذا تأبط شرا، وقيل: بل تأبط سكينا وأتى ناديَ قومِه فوجأ أحدَهم فسُمي به لذلك"(18).
نحن إذا أمام شخصية تراثية ارتبط اسمُها البديلُ بالشر، واستدعاها عدنانُ الصائغ في بنية العنوان في حالةِ استبدالٍ ظاهري للتمييز، حيث استبدل (منفي) بـ (شرا)، وهذا الاستبدالُ عنده لا يعني المخالفةَ، ولكنه يعني المساواة َالدلالية بين الشر والمنفى: فأحدُ الشاعرَين صاحَبَ الشرَّ، والآخرُ صاحَبَ المنفى، وكلاهما التصق بما صاحَب.
والتركيبُ عند الشاعرين يشهد غيابا لكليهما في صورةٍ من صور فـَقـْد الهوية / الذات. يتجلى هذا الغيابُ في غياب الفاعل المكافئِ للذات متمثلا في الضمير المستتر/ هو، الأمر الذي يوحي بانقطاعِ الذات عن عالمها المحيط، و كأن كليهما قد غُـيِّب مرتين: الأولى على مستوى بنية الجملة، والأخرى على المستوى الاجتماعي عندما طُرد ثابت من قبيلته، وعندما أُجبر الصائغُ على الهرب من العراق.
واللافت للنظر أن التمييز التراثي (شرا) إن غاب عن التركيب عند الصائغ فهو حاضرٌ في الذهن حالَ قراءةِ عنوان الديوان أو سماعه، طبقا للاستدعاء الصوتي والتركيبي، والمرجعية المعرفية. وهذه العلاقةُ أوجدت نوعا من التماثل بين الرجلين. فثابتُ صاحَبَ الشر، وخرج عن العرف، وأُخرِج من القبيلة. والصائغ تمرد على السلطة، وأُخرج من وطنه، وصاحَب المنفى.
وكأن عنوانَ الديوان يمثل إعادةَ تسميةٍ لعدنان الصائغ، أو إزاحةً لاسمه تماماً مثل ثابت بن جابر الفهمي الذي غاب وحضر بدلاً منه تأبط شرا، وكذلك يرى الصائغُ أن اسمه الحقيقي الذي يمثله قد غاب عنه يوم أُبعدَ عن العراق؛ فغابت الذات الحقيقية للصائغ، وحلت محلها ذاتٌ جديدة (تأبط منفى)، ذاتٌ مُطارَدة بائسة - مثل بؤس الصعلوك تأبط شرا -. يقول الصائغ وهو يقف على جسر مالمو في السويد:
على جسر مالمو
رأيتُ الفراتَ يمد يديه
ويأخذني
قلت أين
ولمْ أكملْ الحلم
حتى رأيتُ جيوشَ أمية
من كلِّ صوبٍ تطوقني (19)
فلم يمنعه عنف السلطة من الحياة في العراق حلماً، بعد ما صودرت حياتُه فيه، ونـُفي منه واقعاً. ولم يحُل هذا العنفُ بينه وبين الارتحال في المكان، أو الزمان إلى وطنه ممثلاً في الفرات، الذي استحضره في الحلم وهو يقف على نهرمالمو في السويد، ويتأبط منفاه.
ورحلتُه ممزوجةٌ بالحنين والشوق، الذي يماثل علاقة َطفل بأمه في قوله:
أيةُ بلادٍ هذه
ومع ذلك
ما أن نرحلَ عنها بضعَ خطواتٍ
حتى ننكسرَ من الحنينِ
على أولِ رصيفِ منفى يصادفنا
ونـُهرَعُ إلى صناديقِ البريدِ
نحضنُها ونبكي (20)
وقد أصبح الصائغُ - باسمه الجديد - يحمل منفاه / وطنَه معه أينما ذهب، كما يحمل ثابت بن جابر الفهمي سِكّينَه. وكأن الصائغَ يحتوي منفاه، ويتجاوزه، ويسيطر عليه مهما تعدد، والدليل على ذلك قصيدةُ (أوراق من سيرة تأبط منفى) التي استقى منها الصائغُ عنوانَ الديوان، واصبحت بنيةُ العنوان بديلاً عن اسم الشاعر(عدنان الصائغ)، الذي أزاح اسمَه بإرادته، متعمداً أن يقدم لنا اسمَه الجديد، الذي يجسد حالَ الصائغ في رؤيةٍ ذاتية اختيارية، على عكس تأبط شرا، الذي فـُرض عليه اسمُه البديل؛ لأنه أُطلق عليه - طبقا لرواية اللسان - من قِبَلِ أمه.
لقد جاءت القصيدة في ستةَ عشرَ مقطعاً، كتبت في خمسَ عشرةَ مدينة مختلفة: عربية وأوروبية. فهي أوراقٌ من سيرة عدنان الصائغ الذي حمل منفاه أو وطنه، كما حمل الشعرَ معه أينما ذهب. يقول الصائغ:
أنا شاعرٌ جوّاب
يدي في جيوبي
ووسادتي الأرصفة
وطني القصيدة
ودموعي تفهرسُ التاريخ (21)
ولا ننسى أن تعددَ المنافي أو الأوطان يعني تجددَ انشطارِ الذات التي لا تلبثُ أن تستقر في مكان حتى تغادرَه، ما يعني توزُّعَها مع كل مغادرة بين ما ترحلُ عنه، وما تذهبُ إليه. وكأن الذاتَ كتب عليها، - و هي تتأبطُ شِعرا (الشعر أصبح معادلاً للمنفى والوطن / وطني القصيدة) - أن تعيش في رحلةٍ دائمة، وانشطارٍ متجدد بين الدخول والخروج. يقول الصائغ تعبيراً عن استعداده الدائم للرحيل:
كتبي تحت رأسي
ويدي على مقبض الحقيبة (22)

ثالثاً: جدلُ الذات
رؤيةً وتشكيلاً
يعيش الصائغ - في جدله - أزمةً مع ذاته، محاولاً أن يجد إجابةً لسؤال الهوية الذاتية، هذا السؤالُ الذي يصاحبُ المبدعين والمثقفين؛ لكونهم يَحْيَوْن في قلق دائم، - يرتبط بسيكولوجيةِ الإبداع و معايشةِ الحاضر واستشرافِ المستقبل، ويصبح هذا القلقُ رديفاً للمبدع والمثقف وهو يعاني لحظة َالانشطار والتفتت. يتضح الجدلُ عند الصائغ في عدة رؤى أخذت أبعاداً، وصوراً نفسية منها:
1- الاغتراب
لا يستطيع الصائغ في هذه الصورة النفسيةِ أن يجمع شتاتـَه، في شكلٍ من أشكال الفقدِ أصابه بالاغتراب عن ذاته. ومصطلح الاغتراب - في أصله اللاتيني - يعني الذي لا يمتلك ذاتـَه، كما أن المعانيَ المختلفة للمصطلح يجمعها قاسمٌ مشتركٌ هو فكرة الانفصال التي يصاحبُها شعورٌ بعدم الراحة.
وعند ديكارت يغترب الأنا عن ذاته، من خلال الكوجيتو الديكارتي، كما يغترب الأنا عن ماضيه عندما يشكُ في الذاكرة، ولا يطمئن إلى ما تحويه من تجاربَ ومعارفَ(23)
يقول الصائغ في نص قصير بعنوان "نَص":
نسيتُ نفسي على طاولة مكتبي
ومضيتُ
وحين فتحتُ خطوتي في الطريقِ
اكتشفتُ أنني لا شئَ غيرَ ظلٍ لنـَص
أراهُ يمشي أمامي بمشقةٍ
و يصافحُ الناسَ كأنه أنا (24)
إن رؤيةَ الصائغ ذاتـَه في هذا الـ (نص) تسيطر عليها فلسفة الفقد،عندما يكتشف أنه (لا شئ) . وإن حاول أن يخدعَنا بالاستثناء المتمثل في (غير ظل لنص) - فإن خداعَه يتلاشى تماماً، كما يتلاشى الظلُ مع غياب الضوء، فهو في النور مجردُ إمعة، وفي الظلام لا وجودَ له؛ حيث لا ظلَ في الظلام. و قد يكون ظلُّ النص مسودتـَه، أو النصَ غيرَ الكامل الذي لا يرضى عنه المبدعُ، ويصبح الظلُ في تلك الحالة نوبة ًمن الشعور بالنقص، وعدم الرضا عن الذات.
يعيش الصائغُ في هذا الـ (نص) أزمة َانشطارٍ مركب، تتمثل مرحلتُها الأولى في الأسطر 1: 4، عندما ينشطر ذاتيا إلى ذاتٍ و ظل. والمرحلةُ الأخرى في السطرين الأخيرين عندما ينشطر الظلُ ذاتياً إلى ذاتين: ذاتٍ مصافحة، وأخرى مراقِبة. ويصبح هذا الانشطارُ الثلاثي على مستوى النص - مجسِّداً أزمةَ انقسام الذات على نفسها في الواقع؛ نتيجة اغترابها، الذي يعود في أحد أسبابه إلى قضيةِ الحرية، وما يتعلقُ بها من مداخلاتِ السلطة السياسية والاجتماعية( 25)، فالحرية - كما يقول الصائغ - "هي الشرطُ الأول والأساسي في كل عملية إبداعية"(26).
وعلى مستوى التشكيل يعمِّق الصائغُ هذه الرؤيةَ المسيطرة َمن خلال ضمير المتكلم/ الذات المسيطر، الذي ينشطر إلى ثلاثِ صور:
- الأولى تتمثل في الضمير الفاعل المتصل بالأفعال الماضية: نسيت، مضيت، فتحت، اكتشفت.
- الثانية تتمثل في ياء المتكلم: نفسي، مكتبي، خطوتي، أنني، أمامي.
- الأخيرة تتمثل في ضمير الرفع المنفصل: أنا.
ترتبط الضمائرُ في الصورة الأولى، والضميرُ الأول في الصورة الثانية بالفعل نسيت الذي يشكل مفتاحَ رؤيةِ الانشطار، و يجسد العالـَم الخاص والذاتَ الحقيقية للشاعر في غرفة مكتبه. وتأتي الضمائرُ الأخرى في الصورةِ الثانية مجسدةً الذاتَ / الظلَ، التي تحاول أن تستعيد نفسَها في الضمير في الصورةِ الأخيرة (كأنه أنا)
ويشهد النصُ - على استحياءٍ - حضورَ ضمير الغائب في: أراه، يمشي، يصافح، كأنه.
يلفتنا توزيعُ الضمائر على مستوى النص؛ حيث نشهدُ حضوراً مكثفاً لضمير المتكلم بصوَرِه الثلاث (عشر مرات)، أمام حضورٍ خَجِل لضمير الغائب (أربع مرات): ظاهراً مرتين، ومرتين مستتراً في الفعلين.
وهذا التوزيعُ يعكس الانشطارَ المركبَ للذاتِ المنقسمةِ عموماً لذاتين:
متكلم، وغائب:
المتكلم ينقسم إلى ثلاث صور
الغائب ينقسم إلى صورتين.
فكأن الذاتَ قد انشطرت من تلقاء نفسها، أو تفتت إلى ذواتٍ سبعٍ، وهذا التفتتُ يعكس انفجارَها الناجمَ عن ضعفها في مواجهة العالَم الذي لا تقوى عليه، وتتلاشى أمامه، بينما تتحقق ماهيتُها هناك في (غرفة المكتب)، في عزلتِها عن العالم، وانكفائها بين الكتبِ والأوراق وخيالات الشعراء. أي أنها تملك شتاتها، وتصنع عالَمها بذاتها، وهو عالَمٌ خيالي هارب من الواقع، أشبهُ بعالم الصعاليك الذي هرب إليه تأبط شرا، فكأن الذات قد ارتضت لنفسها منفى اختيارياً تتحقق فيه بعيداً عن الواقع الذي تتلاشى معه.
الصائغ إذا يحيا بذاتين:
- ذاتٍ منعزلة متحققة قوية في عالم الشعر، الذي يقول عنه: "صار الشعر خوذتي في الحرب، ...، وواحتي في الهجير، ومنفاى في الوطن، ووطني في المنفى... أمارس كتابة الشعر كما أمارس التنفس، طبيعيا لا تكلفة ولا تعقيداً ولا افتعالاً. لذلك تراني في الشعر كما أنا في الحياة..."(27)
- أخرى مندمجة متلاشية ضعيفة في مواجهة العالَم. فهو يعيش صراعاً مع ذاته في مواجهة الآخرين. والصراعُ - كما يرى هورني - دفينٌ في النفس الانسانية، وعاملٌ من عوامل القلق، التي يتكيف معها البشر بطرق ثلاث "عن طريق الاتجاه نحو الناس (بالشكوى إليهم أو الحب)، العمل ضد الناس عن طريق العدوان، أو القوة والبعد عن الناس (سواء بالانفصال أو الاستقلال) "(28)، ويبدو أن الصائغ قد ارتضى الطريقة الأخيرة.
ويربط الصائغُ بين الاغتراب والتاريخ في نص بعنوان "درس في التاريخ (1)"، فيقول:
أطرقَ مدرسُ التاريخِ العجوزُ ماسحاً غبارَ المعاركِ والطباشيرِ عن نظارتيه
ثم ابتسمَ لتلاميذِه الصغارِ بمرارة:
ما أجحدَ قلبَ التاريخ!
أَكـُلّ هذا العمرِ الجميلِ الذي سفحتُه على أوراقِه المُصفَرَّة
وسوف لا يذكرُني بسطرٍ واحد (29)
تنشطر ذات الشاعر في هذا النص بين أزمنة ثلاثة: الماضي، الحاضر، المستقبل. وبقدر توزُّعِها بين الأزمنة الثلاثة، تختلطُ مشاعرُها وتتصارع بين السعادة والحزن، وهذا التصارع ُوالتضارب علامةٌ على ضياع هوية الذات، ورفضِها الحاضرَ، واغترابـِها فيه، وهروبـِها منه في حركةٍ عكسية للزمن تجاهَ الماضي؛ حيث تتحقق ذاتُ التاريخ.
تتجلى عبثية ُالذات وضياعُها في السطرين الأخيرين من النص في المقارنةِ بين التذكرِ والنسيان، بمقابلةٍ كميةٍ بين العمرِ- بطوله وامتداده -، وسطرِ تاريخٍ واحدٍ بفرديته وضآلته. وهذا يعني أن الذاتَ لا ترى قيمةً لما أنجزت؛ الأمر الذي يُحيلها نفساً ممزقةً، وذاتاً متهالكة لم يعُد في عمرها الكثيرُ مثل ورق الكتاب الأصفر، الذي يتداعى سريعاً إن لم نعاملْه برفق.
لقد شكل الصائغ هذا الانشطارَ ومعاناتَه من خلال توظيفِ الفعل، وأدواتٍ أخري. أما الفعل فقد جاء على صيغتين:
- الماضي في ثلاثة أفعال: أطرق، ابتسم، سفح.
جاء الفعلان الأولان مرتبطين بضمير الغائب (هو)، بينما جاء الفعلُ الأخير مرتبطاً بضمير الفاعل (التاء)/ المتكلم/ الحاضر.
- المضارع في الفعل: يذكر مرتبطاً بضميرين: هو/ الغائب/ الفاعل/ التاريخ، وياء المتكلم/ الحاضر/ المفعول به/ الذات. وتفصل بينهما نون الوقاية.
إن توزيعَ الضمائر مع الفعل الماضي يجسد الانشطارَ، ويصوِّرُ غيابا مضاعفاً للذات عن نفسها؛ إذ تحضرُ في موقف، وتغيب في اثنين. وهي تعاني في غيابها؛ إذ جاء الفعل الماضي الأول متعلقاً - في السياق الدلالي للجملة - بصيغة الحال (ماسحا)، وما يتبعها من دوالٍّ توحي بمعاناة الذات، وسَجنها داخل دائرتين: غبارِ المعارك المستدعاةِ من الماضي، وغبارِ الطباشير الحاضر، وكلاهما ينسجُ غشاوة على عيني الذات، التي بدت منشطرةً بين الماضي بمعاركه، والحاضر بطباشيره. وتُعمِّق صيغة ُالمثنى (نظارتيه) - إضافةً إلى النون الفاصلة بين الضميرين - هذا الانشطار.
ويأتي الفعل الثاني/ ابتسم متعلقاً بالجار والمجرور (بمرارة) الذي يُقيِّد الدلالة، و ينقلها - في صورة عكسية لا تخلو من الصراع - من حقل السعادة إلى حقل الحزن؛ فأنشأ جدلاً نفسياً سيطر على الذات، أدى بها إلى حالة من الاغتراب.
أما الفعلُ الماضي الأخير المرتبط بحضور الذات - يقدم خلاصة َالرؤية ونهايةَ الموقف الاغترابي - بصورةٍ مؤقتة -،عندما تتخيل الذاتُ أنها وضعت حداً للجدل، وأقرّت بعدم جدوى دورها في الحياة، وهي تئنُ تحت وطأة التجاهل وعدم التقدير من البشر قَبل التاريخ، فنسيانُ التاريخ نابعٌ بالضرورة من نسيان البشر.
إن الرؤيةَ السابقة - استمراراً لحالة الجدل - ليست رؤية قاطعة؛ فالصائغ قد جاء بالفعل المضارع/ يذكر مسبوقاً بـ (لا) وليست (لن)، حيث تفيد الأولى النفي في الحاضر، كما أن النفي هو السمة المسيطرة على (لا) معنوياً؛ حيث "سيطر النفي على معانيها العاملةِ جميعاً..."(30)، والأخرى تفيد النفي في المستقبل كما قال النحويون(31)، فكأنه يسلط الضوءَ على أحد جانبي المضارع/ الحاضر، ويدَعُ الجانب الآخر/المستقبل لضميرِ التاريخِ والذواتِ الأخرى وتقديرِها. كما يعني هذا أن الذاتَ - في انشطارها بين الماضي والحاضر- تملك بصيصاً من الأمل في انصلاح ذوات البشر مستقبلاً. ويتماهى مع انشطارِ الذات انشطارُ الفعل المضارع بين النفي والإثبات.
ويمارس الصائغُ الخداعَ في السطر الأخير عندما يقول (وسوف لا يذكرني)؛ حيث إن الصياغةَ تستلزم توظيفَ لن بدلاً من لا؛ و ذلك لارتباط سوف بالمستقبل. ولكن هذه الصياغة تعني حالة من الانشطار بين الحاضر والمستقبل، وإن عددناها اضطراباً تركيبياً فهي علامةٌ على اغترابٍ نفسي، فالصائغ لا يُهمل المستقبل تماماً، ولكنه يفكر فيه ولا يفقد الأملَ، حتى وإن ارتضى أن يُزيحَه (المستقبل) - مرحلياً - من تفكيره عندما ضرب عنه باستخدام لا بدلاً من لن.
إن هذه الإزاحة إلحاحٌ ورغبةٌ في تسليط الضوء على الحاضر مرة أخرى؛ بهدف إبراز المرارة المسيطرة على الذات: بلفظها في السطر الثاني من النص، وإيحائها المسيطر على ختامِه. فبعد الاعتراف المرير المتحسر في أسلوب التعجب / ما أجحد قلب التاريخ - بما فيه من مناجاةٍ موجعة للذات - يأتي ختامُ الموقفِ الجدلى في نهاية النص حاسماً صراعَ الذات في انشطارها؛ ليؤكد على هذا الجحود بالنسيان، وكأن الذات أصبحت تحيا خارج السياق / الحاضر/ التاريخ، فأصبحت تناجي نفسها؛ لافتقادها من يحدثـُها وتحدثه.
إن الجمعَ بين ضميري الغائب المستتر/ هو، والمتكلم الظاهر/ الياء استمرارٌ لحالة الجدل التي تعيشها الذات، فضميرُ الغائب المستتر/ هو، يمتلك قوة الحضور في النص على حساب ضمير المتكلم الحاضر/ الذات، التي تتحسر على ما فات، وتستعطف فيما هو آت، وبينهما تعيش حالة من الانشطار والاغتراب في الحاضر.
ينتقل الصائغ في "درس في التاريخ (2)" من شخصية المدرس إلى شخصية المراقبِ للحدث، عندما يقول:
جالساً بين دفـّتـَي دمعتِي
أفكرُ بالمصائرِ المجهولةِ
لملايين العيون المتحجرة
التي نسيها المؤرخون
بين الفوارزِ والنقاط
على هوامشِ الفتوحات (32)
لا تزال الذاتُ منشطرةً عند الصائغ في إطار اغترابها عن نفسها، ولكنها تأخذ مَنحى جديداً، عندما تجمع بين العزلةِ والمواساة، وهي تستدعي ملايينَ الذين سبقوها في رؤيةٍ تحملُ ملمحاً من العتابِ على التاريخ، كما تحمل امتدادا للحسرة، التي انتقلت من الخاص إلى العام، في صورةٍ من صور المشاركة الوجدانية بين مَن تجمعهم ظروفٌ متشابهةٌ من الإهمال والنسيان.
كما تعكس الرؤية ُاستغراقاً أو غرقاً في الماضي وانفصالاً عن الحاضر؛ مما يجعل الذاتَ في جدلٍ مستمر، يمزقها بين الزمنين، وبين الخاص والعام، وهي تحاول أن تستكشف صورتـَها بين المُهمَلين؛ فتقعَ في صراعٍ يتوزعها في الزمن بين الحاضر والماضي. والرؤية - من بدايتها - مُغلفة ٌبمِسحةِ حزنٍ تعادل مسحة َالاغتراب المسيطرة على النص و الذات.
لقد أسهمت اللغةُ والأسلوب في تشكيل حالِ الذات، على نحو يعمقُ الإحساسَ بالانشطار، ويجعلُ الرؤيةَ ماثلةً أمامنا:
- فعلى مستوى اللغة وظف الصائغ الطاقة َالإيحائية في الدوالّ: ملايين، المجهولة ، المتحجرة، هوامش.
جاءت (ملايين) بما فيها من تنكير لتؤكد عمومَ التجربة، ومساواةَ التاريخ بين البشر في الإهمال و النسيان، كما أن إيحاءَ الكثرة فيها يُعد مبرراً للذات حتى تواسيَ نفسها؛ لأنها ليست الوحيدةَ التي أهملها التاريخ.
ويرتبط الدالُّ الأخير (هوامش) بالدالِّ الأول؛ حيث يقدم توصيفا لحال المُهمَلين والمنسيين - والذات منهم - الذين يُذكرون على هامش الأحداث، أو لا يُذكرون، مثلهم مثل الطبقاتِ المهمشةِ في المجتمع، فتنسحب معظمُ شخصيات التاريخ - طواعية أو إجباراً - لحساب شخصيةٍ أو شخصياتٍ معدودة تبقى في البؤرة، في حين يتعمق إهمالُ الشخصيات الأخرى ونسيانُها لدرجة التجاهل أو التجهيل؛ الأمر الذي يؤدي إلى انسحابهم من ذاكرة البشر والتاريخ، وهو ما يبدو في استخدام الصائغ للصفة (المجهولة)، التي عمّقت صورة حال هؤلاء المفقودين أو المفتقدين.
وأخيرا يأتي الدال (المتحجرة)، بما فيه من ازدواجية دلالية في سياق النص؛ ليعكسَ حيرة الذات، التي تتوزع بين الماضي والحاضر في آنٍ واحد، تعيش الماضي عندما تستحضر هؤلاءِ المظلومين المجهولين الأموات، الذين تحجرت مآقيهم. كما تعيش الحاضرَ، وهي تستحضر صورتَهم أمامها أحياء، وقد دمعت عيونهم لدرجة الجفاف حتى تحجرت، فكأن الذات انشطرت في هذا الموقف بين حاضرين: حاضر هؤلاء المجهولين الذي يمثل الماضي بالنسبة للذات، وحاضر الذات وهي تبكي حالَها، و كلاهما متشابهان.
سيطرت بنيةُ الأسلوب الخبري على النص؛ تماهياً مع رغبةِ الذات في البوح والفضفضة، و تعميقاً لرؤية الحال. و هي بنية ٌ جدلية؛ لأن الأسلوبَ يحتمل الصدق والكذب، وكأن الصائغ أراد أن يضعَ التجربة أمام المتلقي، و يتركَ له الحرية في تلقيها؛ ليضعَه في محكِ الانشطار بين الرفض والقبول، ويصيرَ قسيماً للمبدع في جدلِ التجربة. واعتمد الصائغ في ذلك على ثلاثةِ أساليبَ تجسد الرؤيةَ وتنقل الصورةَ هي:
جالساً بين دفتي دمعتي - أفكر - نسيها المؤرخون.
لقد سَبَكَ الصائغُ الأسلوبَ الأول بشعرية واضحة، تعتمد - نحوياً - على :
- الحذف الذي تتجسد فاعليتُه "في خلق توقعاتٍ غيرِ منتظرَةٍ للقارئ"(33). كما أنه " ينشط الإيحاءَ ويقويه من ناحية، وينشط خيال المتلقي من ناحية أخرى"(34)
- التقديم والتأخير بكونه تقنيةً لغوية مرتبطة بالشعر، تنقل الكلام من النثرية إلى الشعرية، بما فيها من مفارقة بنيوية(35)
لقد كانت (جالساً) في الأصل خبراً لمبتدأ محذوف في جملة تقديرُها: (أنا جالس). وفي انحرافٍ نحوي ملحوظ أو انزياح سياقي( 36) تقدّم الخبر، ثم حُذِف المبتدأ، فصار الخبر حالاً.
إن هذه البنيةَ الشعرية تعني التركيزَ على الحال وإبرازَها على حساب الذات المتوارية مع الحذف، وإن كان حضورُها متضمـَّناً في صيغة اسم الفاعل. ويكتمل إيحاءُ البنية بالإجابة عن سؤال المكان المكمل لوصف الحال. والمكانُ في ظاهر البنية لا يمكن تصورُه؛ إذ كيف يجلس المرءُ بين عينيه؟! وعندما نتجاوز ظاهرَ البنية إلى إيحائها نجد الدال (دفتي) يستدعي:
- التاريخ بوصفه كتاباً له دِفّتان؛ الأمر الذي يجسد استغراق الذات في الماضي آناء البكاء، وكأنها دخلت فى التاريخِ؛ لتعيشَ تجربةَ هؤلاء المجهولين.
- البحر؛ لاتفاق ملوحة ِالدموع مع ملوحةِ ماء البحر، إضافة إلي أن حضور (دفتي) يستدعي (ضفتي) الغائبة، وهو ما يصور غرق الذات، التي تَؤُول إلى النسيان والزوال مثل سابقيها المجهولين.
تستمر حالةُ الفقد في الأسلوب الثاني (أفكر)، الذي يمثل حالاً ثانية للذات، اختفى صاحبُها مثل الحال الأولى، وهو الضمير المستتر أنا المكافئ للذات.
يمثل هذا الأسلوبُ استكمالاً لإيحاء الحال في الأسلوب الأول، وبذلك تكتمل صورةُ الجدل في الأسلوبين:
- حيث يتمثل الحاضرُ في صيغتي اسم الفاعل (جالساً)، والفعل المضارع (أفكر).
- ويتجلى إيحاءُ الماضي طبقاً للسياق، وغرقِ الذات في كتاب التاريخ.
ونلاحظ تداخلَ الزمنين في بنية الأسلوبين لدرجة الجدلِ المتمثل في فقد الشاعر الإحساسَ بالزمن، الذي يتماهى مع فقد الإحساس بهوية الذات.
يأتي الأسلوبُ الثالث (نسيها المؤرخون)؛ ليستحضرَ طرفَي الحدث: أصحابَ العيون المتحجرة المنسيين في التاريخ والغائبين في بناء الجملة من خلال ضميرالغائب (ها)، وظالميهم من كَـتَبِة التاريخ؛ ليضعَ الصائغُ الذاتَ أمام طرفي المعادلة، ويتركَها لاصطراعها في اختيار موقفٍ تجاه أحدهما، وكأنه وضعها في حيرة الاختيار مُنشِئا جدلاً جديداً يضاعِف من معاناة الذات.
إن هذه الأساليبَ الثلاثة رسّختْ ما يمكن أن نسميه (رؤية الحال والمآل). كما شهدتْ - تركيبيا - اختفاءَ الذات المتمثلةِ في ضمير المتكلم، ولكنها حاضرةٌ تقنياً في صورة راوي الأحداث من الخارج وضمنياً في صيغة اسم الفاعل؛ ليضعَنا الصائغُ أمام انشطارٍ جديد للذات بين الحضور والغياب، وكأنها تحيا في انشطارٍ متجدد، ولعل هذا يتفق مع الخوفِ المصاحب للإنسان في المنفى.
2- الخوف
يُعرِّفُ علمُ النفس الخوف بأنه "تهديدٌ لهامش وجود الفرد"(37). ويتفق ذلك مع كَونه سلوكاً انفعالياً لغريزة الهرب(38)، التي يلجأ إليها الانسانُ، عندما يستشعر خطراً مادياً أو معنوياً، فيتحول الخوفُ عنده آنذاك من قوة كامنة إلى سلوك ظاهر يتسق وقناعاتِه ومفاهيمَه، التي يتحول إلى الدفاع عنها؛ حيث إن الخوفَ في أحد تعريفاته "قوةٌ خفية راقدة في شعورِ ولاشعور الانسان... تُشَكل عنده من خلال ردات الفعل والفعل المنعكس مفاهيمَ وإدراكاتٍ... وهذه المفاهيمُ لا تموت"(39) وعدمُ موتها يعني ثباتَ الانسان عليها واستعداده للتضحية أو التحايلِ من أجلها، مثل محاولة الصائغ في إخفاءِ قصائدِه التي تساوي وجودَه. يقول في نص بعنوان "هواجس":
أقلُّ قرعةِ بابٍ
أُخفي قصائدي - مرتبكاً - في الأدراج
لكن كثيراً ما يكون القرعُ
صدى لدورياتِ الشرطةِ التي تدورُ في شوارعِ رأسي
ورُغم هذا فأنا أعرِفُ بالتأكيد
أنهم سيقرعون البابَ ذاتَ يومٍ
وستمتدُ أصابعُهم المدربةُ كالكلابِ البوليسيةِ إلى جواريرِ قلبي
لينتزعوا أوراقي
و.....
حياتي
ثم يرحلون بهدوء (40)
يقدم الصائغ في هذا النص رؤيةَ الخوف - إن صح التعبير - في إطارٍ يجمع بين الحقيقة والخيال، ويمثل رحلةَ الذات عبرَ فضاء المكان، وانشطارَها بين المكان الذي كـُتِب فيه النص/ بيروت - ، والمكان المتخيَّل/ بغداد - حيث منزلُ الصائغ. وطغيانُ المكان المتخيَّل في النص يعني تمكنَ الخوف من الذات التي استحضرت المشهدَ بكل تفاصيله. كما يعكس علاقة َالمبدع المتوترة بالسلطة، إذ يرى كلا الطرفين بقاءه في زوال الآخرإن لم يستأنسْه، ويسيطرْ عليه. ولأن السلطة تملك القوة فهي تحاول - على حد تعبير الصائغ -"بكل وسائلها المعروفة وغير المعروفة، وبسياسة الترغيب والترهيب استمالة الأدباء والمثقفين المبدعين إلى ركابها وزجِّهم في خطابها"(41)
وهذا الإجبارُ يؤدي إلى قلق الخوف، الذي عرّفه رولو ماي بأنه "حالةٌ داخلية لصيرورةِ وعي بأن وجودي قد يضيع، وأنني أفقد نفسي وعالمي، وأصبح لا شئ..."(42) هذا القلقُ يسيطر على الذات، مُوجِّها مشاعرَها وأفعالَها، فتصيرَ إلى انشطارٍ ملحوظ بين الرغبةِ في الأمان، والرهبةِ من الخوف وتـُنتج خطاباً مُغلـَّفاً بالقلق والارتعاش. واللافتُ في النص أن الذاتَ الآمنة تتوارى لحساب الذاتِ الخائفة؛ نتيجةَ التوتر الدائم، والخوف المتمكن.
لقد استخدم الصائغُ التشكيل البصري للنص لنقل تلك الرؤية متمثلاً في:
- التفاوت الموجي الذي يعني "تفاوتَ أطوال الأسطر الشعرية تبعاً لتفاوت الموجةِ الشعورية المتدفقة عَبر كل سطر"(43) حيث جاءت مساحةُ السطر الشعري متوازنة ًمع إيحائه وموجته الشعورية في صورة يمكن تسميتُها بـ: سيمترية البناء والإيحاء. فمثلاً جاء السطران الأولان هكذا:
أقل قرعة باب
أخفي قصائدي - مرتبكاً - في الأدراج
حيث يتكون السطرُ الأول من ثلاث كلماتٍ متعلقةٍ ببعضها من خلال علاقةِ الإضافة، فتبدو كلمة ًواحدة، أو دفعةً واحدة من ثلاثِ ضرباتٍ على الباب. وتلاحمُ الكلمات الثلاث أشبهُ بتتابع الضربات التي تتماهى مع ضرباتِ القلب في تسارعها؛ نتيجةَ خوف الذات وفزعِها من المصير المنتظر، فيما لو ضُبطت قصائدُها.
ويأتي السطرُ الثاني أطولَ من سابقه؛ اتساقاً مع طول الزمن المسيطر على الذات لحظةَ شعورها بالخوف، وانتظارِها المجهولَ؛ فيستحيلَ زمنُها زمناً نفسياً يمتد و يستطيل، وله وطأة مضاعفة تتفق والشعور المسيطر. وطول السطر يعكس انشطارَ الذات النابعَ من سعيها الحثيثِ نحو الأمان قَبل دخول رجال السلطة، ومن إحساسِها بالخوف المسيطرِ عليها. و يتمثلُ هذا الانشطار في ضميرى المتكلم أنا/ المستتر/ الغائب، وياء المتكلم/ الظاهر/ الحاضر، فاستحال الأمنُ مرادفاً للغياب، والخوفُ مرادفاً للحضور. كما يأتي الاعتراضُ في السطر مُبيِّنا حالةَ الاختلاط والارتعاش المسيطرة على الذات لحظة الخوف.
كذلك جاء السطران الرابعُ والسابع سطرين طويلين اتساقاً مع حالة الخوف الدائمة المسيطرةِ على الذات في الرابع، وتصويراً للحظاتِ الرعب والفزع الطويلةِ التي تعيشها الذات لحظة التفتيش في السابع، فأصبح الصائغُ يعيش الخوف: حقيقةً وخيالاً في آن واحد؛ نتيجة صراعِه مع السلطة؛ فتمكنت منه فوبيا الخوف التي "ترتبط بذكريات مكبوتة في العقل الباطن، وبأشياء ومواقفَ وأفكارٍ لم يتكيف أو يتاقلم معها"(44)؛ فنشأت لديه فوبيا تسلطية اصطدمت مع رؤيته، فصار يخاف منها على مواقفه وأفكاره(45)
- الحذف متمثلاً في المدّ النّقطِي الذي يعني"مدّ أربعِ نِقاط أفقيةٍ فأكثر في النص الشعري بحيثُ تشغلُ مساحةً معينة بين مفردتين معينتين، أو سطراً كاملاً، أو مجموعة أسطر وفق ما تقتضيه رؤيةُ الشاعر"(46). وقد جاء ذلك في:
لينتزعوا أوراقي
و.....
حياتي
ثم يرحلون بهدوء.
لقد جاء السطرُ الثاني في المقتطع حرفَ عطفٍ وخمسَ نقاطٍ. والمسكوتُ عنه في النقاط معطوفٌ على السطر السابق، ويشكلُ مرحلة ًوسطى بين انتزاعِ الأوراق وانتزاعِ الحياة. ولنا أن نتخيلَ الرعبَ والفزع المسيطرين على الذات من تخيـُّل التعذيب، الذي قد يتمثل في انتزاعِ أعضاءِ الجسم، أو اغتيال الرجولة، أو امتهان الانسانية أو غيرها. لقد أشرك الصائغ - من جديد - المتلقيَ خوفَه وتوترَه وانشطارَه؛ أملاً في فضحِ أولئك الأفظاظ، واحتفظ بقدر من كرامته تمثـَّل في نقاط الحذفِ المجسِّدة للخوف.
ولا يغيب عنا انشطارُ النص بين ضميرى المتكلم و الغائب؛ تصويراً للصراع بين الذات والآخر. ولو كان هذا الآخرُ غيرَ موجودٍ إلا في خيال الذات، فهذا يعني أنها تعيش صراعين في وقتٍ واحد: صراعَها مع الآخر، وصراعَها مع نفسها لمحاولة التغلب على الخوف المسيطر، وفي هذا تجدّدٌ لانشطارها.
كما لا يغيب عنا أيضاً بنيةُ التكرار المتمثلةُ في تكرار القرع ثلاثَ مرات (قرعة - القرع - سيقرعون)، بصيَغٍ مختلفة (اسم مرةً - مصدر - فعل مضارع يفيد الحال والاستقبال) ما يعني أن الذاتَ تعيش خوفَ الحاضر، و تنتظر خوفَ المستقبل، كما يعني أنها تعرضت لشتى سبُلِ التخويف والترهيب.
يتجاوز الصائغُ مرحلة َالترهيب، فينتقل - مُعمِّقاً إحساسَ الخوف - من التخيل إلى تمكُّن التخيل، أو الوهمِ المنقلب إلى حقيقةٍ عندما تستحيل الهواجس إحساساً مصاحبا للذات، يؤدي بها إلى انشطارٍ مرضي عندما يقول في نص بعنوان"شيزوفرينيا":
في وطني
يجمعُني الخوفُ ويقسمُني :
رجلا يَكتبُ
والآخرَ خلفَ ستائرِ نافذتي
يرقـُبني (47)
يمثل هذا النصُ رؤيةً مصاحبةً للذات، تـُجَسِّدُ عند الصائغ - مفهوماً مغايراً للوطن، يختلف عن المفهوم السابق المتمثل في أن الصائغَ يحمل معه وطنَه في تجواله ومنافيه؛ إذ نراه يقدم صورةً معكوسة للوطن تكسوها غلالةٌ من الاغتراب والخوف، فيعيش الصائغ المنفى في الوطن (كتبت القصيدة في بغداد 10/1/1987)، وكأننا أمام نقطةٍ فارقة أو مرحلة ٍسابقة للمنفى المصاحِب فيما بعد، نقطةٍ تمثل مقدمة ًمنطقية أدت إلى نتيجةٍ حتمية، فالرؤية في هذا النص حالٌ سابقةٌ على المآل.
ولعل وضوحَ الرؤية، وصراحةَ الذات - في طرحها - تعبيرٌ جازم عن الخوف، وتصريحٌ بحالة الانشطار، ومجموعةُ أسئلة كامنةٍ في الذات ومسكوتٍ عنها في النص تدور كلُها حول محورٍ واحد هو: مفهوم الوطن المغايرالذي يـُرهِبُ، فيـُرغِبُ عنه، ولا يـُرغِبُ فيه، ويجعلُ الانسان سجينَ الخوف والاضطراب حدَّ المرض.
تشكلت الرؤيةُ في النص على عدة محاورَ شعرية:
الأول: الاختزال / التركيز / التكثيف، وكلها تمثل لحظةً سردية في الحياة الحاضرة للذات، لحظةً تنتمي إلى جنسٍ أدبي مغاير/ القصة، و كأن النصَ ذاتَه - على قِصَرِه - متنازَعٌ عليه بين الشعر والسرد؛ فصار يعيش جدلاً نتجت عنه حالةُ انشطارٍ جنسِ أدبي بين القصة والقصيدة. إنها لحظةٌ سردية تشهد حضورَ الذات في المكان والحدث والزمان في تجسيدٍ حقيقي للرسالة المختزَلة التي تشبهُ الصرخة َالمبكرة، وقد حرص الصائغُ على توصيلها بلا لَبْسٍ أو غموض؛ فتحول النص جرسَ إنذار أو تنبيها للباحثين عن الحرية.
وجاء النصُ - على مستوى الشكل - تجسيداً لفن الإبيجراما، التي "تتمثل في نصٍ قصير مُركّزِ العبارة، مكثّفِ المعنى، يستعير من القصة القصيرة الومضةَ الخاطفة، ولحظة التنوير، وذلك بالاعتماد - غالباً - على "المفارقة"، واختيار اللفظ الدال والعبارة الدقيقة..."( 48) ومحققاً رغبة الصائغ الذي قال عن نفسه "أنا الميّال غالباً إلى قِصَرِ القصيدة، وتكثيفها إلى أقصى حد..."(49)
الثاني: معمار النص يبدأ من تركيب المفتتح ( في وطني)،الذي يشبه بدايةَ القصة القصيرة، بما يحمله التركيبُ من شحنات دلالية وإيحائية إيجابية جاذبة للمتلقي من جهة، وما يتبعها من مفارقة فنية، تـُسفر عن المفهوم المغاير السلبي للوطن من جهة أخرى. فيأتي هذا التركيبُ عكسَ أفقِ توقعِ المتلقي، ويمثل مرحلةَ تأسيس المعمار النصي المنطلق من المكان، الذي يمثل نقطة اَنطلاق السرد النصي (قَصّاً أو قصيداً).
كما يتمثل هذا المعمار في الطردية الفنية، أو التراتبية الحتمية التي لا يجوز أن تسبقَ إحدى مراحلها الأخرى؛ لأنها تمثلُ انسيابية َاللحظة الشعورية المسيطرة على الذات - وقت الخوف - حتى تصل اللحظة ُالشعريةُ الصادمة التي تمثلُ سقفَ المعمار، وتجسدُ المفهومَ المغايرَ للوطن. ولقد أكد الصائغُ على هذه اللحظة الصادمة في نَصٍ آخر بعنوان "العراق" عندما قال:
والعراقُ الذي نفتقدْ
نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ
ونصفٌ طغاهْ (50)
لقد جاء هذا النص "شيزوفرينيا" - في معماريته - نصاً متعالياً بأنماط أفعالِه وضمائره وتنازعه الأدبي بين القصة والقصيدة(51)؛ لكونِه يلتقط موقفاً نفسياً، ويستبطنُ الذات في لحظةٍ شعوريةٍ كما يُفترض في القصة القصيرة أن تكون، إلا أنه صاغ ذلك في معمارٍ شعري تنثالُ شعريتـُه من خلال الضمائرِ التي تشكل حديثَ الذاتِ، والأفعالِ التي تصوغُ الرؤية، وتعرضُ الحدث:
1- الضمائر
جاءت الضمائر على صورتين:
أ) المتكلم متمثلاً في الياء المضافة إلى:
- المكان في: وطني - نافذتي.
- الحدث في: يجمعني - يقسمني - يرقبني.
ب) الغائب طي الأفعال: يجمعني - يقسمني - يكتب - يرقبني.
يفتحُ ضميرا المتكلم المضافان إلى المكان مساحةً من الجدل في تحديد مفهومِ الوطن، الذي يضيق على الصائغ، ويأخذُ في الانحسار والتلاشي حتى يصل إلى مساحة الغرفةِ، أو المساحة منها خلف النافذة. كما يجسدُ هذا الجدلُ المكانيُ مساواةً إيحائية بين الخوف: في السعة/ الوطن، والضيق/ الغرفة.
وتأتي ضمائر الحدث في الأفعال الثلاثة (يقسمني - يرقبني - يكتب) لتجسد انشطاراً ثلاثياً للذات يترجّحُ بين الحضور في فعل الكتابة، و الغياب في فعل الرقابة، الذي يستدعي التخفي والاختباء، ويـُنشئ جدَلاً مكانياً يرتبط بستائر النافذة، وما إذا كان الرقيبُ خلفَ الشباك من الخارج وهو ما يعني انتظار الخوف، أو خلفَ الشباك من الداخل، وهو ما يجسدُ وقوع الخوف بالفعل، الأمر الذي يجعلُ الذاتَ في حالةِ جدلٍ داخلي وانشطارٍ متجدد بين حالـَى الانتظار والحدوث، وبين التفتت في فعل القَسْمِ. جاء في اللسان "القـَسْمُ: مصدر قـَسَم الشئ يقسمه قسماً فانقسم، وقسَّمه: جزَّأه"( 52) وهو ما يستدعي إلى الذهن تفتتَ الذات عند الانشطار*، ويجسد معاناةَ الصائغ من الرقابة المزدوجة: الخارجيةِ من رجال السلطة، والداخليةِ من الذات.
وتضع أفعالُ الخوفِ الثلاثة (يجمعني - يقسمني - يرقبني) ضميرَ الذات/ المتكلم في مواجهة ضميرِ الخوف/ الغائب في حدثٍ واحد، ما يعني ديمومةَ الصراع، واستمراريةَ الجدلِ المنشِئ للانشطار كلما استشعرت الذاتُ الخوفَ.
عندما ننظر إلى ضمير الغائب نجدُه تكرر أربعَ مرات: منها ثلاثُ مرات يعود فيها على الخوف، ومرةٌ واحدة يعود فيها على الذاتِ المتحققة في فعل الكتابة، فكأن الصائغَ يحيا رُبعَ حياته - فقط - آمناً وثلاثةَ أرباعها خائفاً، وصار جزءُ الذات الآمنُ غريباً عنها، وجزؤها الحاضرُ شطيرَ الخوف.
الثالث: ازدواجية الشكل التعبيري عندما جمع الصائغُ بين الغنائية والملحمية، لمّا تحدث عن نفسه وهو يحكي تجربتَه، ولمّا جعل من نفسه راوياً للأحداث، أو كما أشار جيرار جينيت إلى رأي أرسطو وهوراس بأن الشاعر "يتحدث باسمه الخاص بوصفه الراوي، ولكنه في الوقت نفسه يجعل شخصياته تتحدث بأسلوب مباشر"(53)
ولعل ازدواج الشخصية أو الانشطار المرضي الذي تعيشه الذات يشكل بداية نهاية الانشطار وقرب وصول الذات إلى الانكسار والاستسلام.
3- الانكسار والاستسلام
يعد الاستسلامُ انفعالاً مصاحباً لغريزة الاستكانة(54)، وهو نتيجةٌ حتمية لسيطرة الخوف على الذات، الذي يؤدي بها إلى عدمِ الثقة بالنفس، وفقدانِ الجرأة والإقدام(55)، وليس هذا عيباً في شخصية الصائغ، بقدر ما كان استجابةً لظروفٍ سياسية واجتماعية قاهرة، لا قِبَل للذات بمجابهتها أو تغييرِها؛ حيث عانى أدباء العراق، ومثقفوه من جيل الصائغ (جيل االثمانينيات) بطشَ السلطة وجبروتها - على حد شهادة الصائغ(56)، الذي قسّم مثقفي العراق في الثمانينيات إلى ثلاثة أنواع:
"الأول: هادن السلطة وصفق لها وزمّر في كتاباته طواعيةً.
الثاني: دخل المؤسسة الثقافية بحكم مهنته ككاتبٍ أو صحفي أو فنان، وعمل من داخلها، لكنه أعطى نتاجاً خالصاً، بعيداً عن طبول الإعلام.
الثالث: آثر العزلة والصمت"(57)، والصائغ ينتمي إلى النوعين الثاني عندما عمل فترة في المؤسسة الثقافية ِبطبيعته هو، والأخيرِ حيث لا يميل إلى المواجهةِ، ويؤثِر بدلاً منها الصمت(58)
ويأتي الصائغ في منفاه لينفسَ عن نفسه - في شئ من الانكسار - متذكراً حالَه وموقفَ الآخرينَ منه، وعدم قدرتِه على مواجهتهم، كما جاء في نص بعنوان "تأويل" (النص مكتوبٌ في دمشق بتاريخ 7/3/1996) .
ومما يذكر أن الدواوين التي صدرت للصائغ في المنفى - و منها الديوان محل البحث -، صدرت؛ "لتنفِّس عن ذاكرتِه المكتظة بمشاهدِ الدماء المشبعة برائحة الحزن الأسود"(59) يقول الصائغ في النص:
يُملونني سطورا
ويُبوبونني فصولا
ثم يُفهرسونني
ويَطبعونني كاملاّ
ويُوزعونني على المكتبات
ويَشتمونني في الجرائد
وأنا
لم
أفتح
فمي
بعد (60)
تعاني الذاتُ في هذا النص حالةً متداخلة من الانشطار والتوحُّد؛ حيث تنقسم ذاتين:
- أولى راويةً: مراقبة للحدثِ أو للذواتِ الأخرى الفاعلة في جزء النص الأول، الذي يمكن تسميتُه بـ: شطر الحدث، وينتهي بقوله (ويشتمونني في الجرائد).
- أخرى مستكينةً خاضعة - حتى السطر الأخير -، يقتصر دورُها على تلقي الفعل/ الضربات في الجزء الآخر الذي يمكن تسميتُه بـ: شطر الخضوع. ولم يصدر عنها أيُّ إسهامٍ فعلي، أو ردُّ فعل تجاه الحدث؛ لقناعتها بالاستكانة - آنذاك -؛ فلا قبَلَ لها بمواجهة السلطةِ المستهينة بالمثقفين - كما أشار الصائغ -(61)، يؤكد ذلك أن الذاتَ مارست الدورَ نفسَه في شطر الحدث ولم تتدخل بِرَدِّ فعلٍ أو تعليق، واكتفت بالرصد في تجسيدٍ للواقعية النقدية، فالذاتُ تعيش جدلاً منشؤه حالـُها السابقُ- من كبت وقهر- ومآلـُها الحاضرُ- من نفي وغربة؛ فانشطرت بين الزمن الماضي - بما كانت فيه، والزمن الحاضر- بما صارت إليه، وكأنها منشطرة بين استسلامها بالفعل، ومعاناتها بالواقع.
وتعيش الذاتُ مرحلة ًمتقدمة من الاستكانة تحولت فيها للشيئية، فمع تقديرنا لقيمةِ الشعر إلا أنه يُتداولُ من خلال شئ (ديوان/ ويطبعونني كاملاً)، قد يعبث به الانسان - بخاصة الجاهلَ - متى أراد. والديوان بحكمِ كونه ثمرة َإحساسٍ وعاطفة وفكر فهو معنوي، وبحكم تداولِه من خلال شئ ملموسٍ فهو ماديٌ، وكأنه يعاني انشطاراً بين المادي والمعنوي يتماهى مع انشطار الذات في النص.
اعتمد الصائغ في تشكيلِ رؤيته على الضمير والفعل والحال والظرف.
- الضمير
يمكن القولُ بأن هذا النص يمثل صراع الضمائر الذي يعكسُ جدلَ التركيب متماهياً مع انشطارِ الذات على مستوى النص كله؛ حيث يشهد النصُ صراعاً ضمائرياً - إن جاز التعبير - مركباً، فيتصارع ضمير الذات في اتصاله/ الياء وانفصاله/ أنا ويجمع بينهما السلبيةُ والاستكانة. والاثنان معاً يتصارعان مع ضمير الغائب/ الفاعل/ الآخر/ واو الجماعة.
ولأن الراويَ وضميرَ الذات شئٌ واحد؛ فغنائيةُ النص ملموسةٌ، وتتفق- كما سبقت الإشارة - مع الرغبةِ في البوح الحر؛ بحثاً عن مشاركةٍ وجدانية، أو حلٍّ قدَري للأزمة؛ ما يعني ضعفَ الذات، وعدم قدرتها على مواجهة الواقع.
وضمائر الذات - ما عدا الياء في فمي - ترتبط بالحدث وتنقسم إلى:
- ضمير المفعول به في:
يُملونني - يُبوبونني - يُفهرسونني - يَطبعونني - يُوزعونني - يَشتمونني.
ونلاحظ أن الفعل/ الحدث يجمع بين ضميري: الذات/ ياء المتكلم والآخر/واو الجماعة، في مصاحبة حتمية؛ لأنها أفعال صراع، فالذات حلَّت في ديوان الشعر، الذي يتطلب إخراجُه - بعد الإبداع - وجودَ فاعل مهني قد يجيد القراءةَ والكتابة، وقد لا يجيدهما، وهذا يعني أن الصائغ حددَّ هوية الفاعل، أو يسخر منه في معركة التأويل، أو كليهما معاً - و هذا ما يرجحه البحثُ - ويرى أن الشرور التي تـُلهب المبدعين تأتي من فئةٍ جاهلة، غيرِ واعية بطبيعة الإبداع، يقصد بهم عملاءَ السلطة الذين يَنسبون إليه ما لم يقـُل، ويؤولون شعرَه على نحوٍ يَدينُه، يضاف إليهم من يختلفون معه، وكلهم يتطاولون عليه.
وهذه المعركةُ وقعت دون مواجهة، فالآخرُ يفعل ما يريد، والذاتُ مستكينةٌ لا تُواجِه، وقد جاءت نونُ الوقاية فاصلاً بين ضميري الفاعل والمفعول؛ لترسِّخ رؤية الاستسلام وعدم المواجهة.
- ضمير الفاعل:
منفصلاً ظاهراً في: وأنا مستتراً في: لمْ أفتح
ويبدو الضميران في الظهور والاستتار ضميراً واحداً؛ لأن المستترَ يعود على الظاهر، اللهم إلا أن الذات قد آثرت الاختباءَ والتستر، وعاشت مرحلةً من الانشطار، ولكنها آثرت الانسحابَ من الصراع، وهو ما يتفق مع استكانتها واستسلامها.
وضمير الذات: المتلقية للفعل/ ياء المفعول، والفاعلة المرتبطة بالنفي/ وأنا لم أفتح يعكسان سلبية الذات، ويتماهيان مع الشيئية التي آلت إليها؛ ترسيخاً لرؤية الاستكانة؛ لأن الذات بمفردها تواجه ذواتاً متعددة/ واو الجماعة، قد تعرف بعضَهم وتجهل الآخرَ؛ الأمر الذي يضاعف أزمتـَها، ويُعضِّد رغبتها في الانسحاب.
- الفعل
جاءت الأفعالُ كلها بصيغة المضارع في:
يُملي - يُبوب - يُفهرس - يَطبع - يُوزع - يَشتم - لم أفتح، وكلها مثبتة ما عدا الفعلَ الأخير المسبوق بالنفي.
يأتي ترتيبُ الأفعال تصاعدياً متسقاً مع مراحل تطور الصراع التي تعكسُ تنامي حالةِ الجدل داخل الذات، وتصور ارتفاعَ منحنى القلق والتوتر المصاحبين لتوقـُّع الصراع، يبدو ذلك في الأفعال الأربعة الأولى التي تعكس هذا التوقع والاستعداد. ويأتي الفعل الخامس/ يوزع ممثلاً نقطةَ الوثوب في بداية الصراع، الذي شهد طرفاً جَمْعياً فاعلاً يشتم ويسب ويلعن، وطرفاً فردياً خاملاً مستسلماً لا يفعل شيئاً؛ يدل على ذلك تكرارُ أفعال الطرف الجمعي ستَ مرات مقابل فعلٍ وحيد للذات وهو فعلٌ سلبي لا قيمة له في الحدث، ولكنه يحمِل الذات إلى القهر من جديد؛ حيث إن اقترانَه بأداة الجزم قلب زمانَه إلى الماضي - فانشطرت بين حياةِ الحرية الحاضرة بعد هروب الشاعر من العراق، وحياة الخنوعِ والاستسلام التي عاشتها الذاتُ لحظة التذكر، واستحضرتها في صيغة الفعل المضارع الذي يعني عدمَ تخلّصِ الذات من أزمتها، وعدم تطهرها من الخنوع والاستسلام.
- الحال
يؤدي الحال دوراً تصاعدياً، يتسق مع دور الأفعال في تشكيلِ الرؤية في شطر الحدث، عندما استعان الصائغ بأحوالٍ ثلاثة هي :
سطوراً الذي يوحي بانشطار الذات وتفتتها جزءاً جزءاً/ سطراً سطراً.
فصولاً الذي أعاد تشكيلَ فتاتِ الذات وتكوينَها في أجزاءٍ أكبر.
كاملاً الذي يوحي باكتمال تشكـُّل الذات في صورتها، ولكنه اكتمالٌ يشبه مرحلةَ الإفاقة السابقةِ على الموت، أو رقصةَ المذبوح؛ فيتلو هذا الاكتمالَ انشطارٌ للذات/ الديوان عندما تتجزأُ من جديد وتتوزع ُبين المكتبات، حيث يتلو ذلك ذروةُ الحدث المتمثلةُ في سب الذات وشتمها على صفحات الجرائد.
- الظرف
متمثلاً في ختام النص/ بعد الذي يجعل الذاتَ - في استسلامها - لا تفقد الأملَ في المستقبل، وتعيش انشطاراً خافتاً قياساً برهبتِها الناشئة عن الاستسلام، ورغبتِها الطامحة إلى الحرية.
وقد جاء التشكيل البصري للشطر الآخرِ من النص على هيئة كلمةٍ مفردة في كل سطر توحي - انطلاقا من خضوع ِالذات واستسلامها - بالأنين المتتابع، فكأن الأسطرَ الأخيرةَ زفراتُ ألمٍ حارة، أو آهاتٌ متوجعة.
وتبقى الشيئية مسيطرة على الصائغ في استكانته واستسلامه، ولكنها تنتقل من المنحى المعنوي المادي/ الشعر، إلى المنحى المادي الخالص/ (الكوبري - المعبر - الجسر) في نصه "درس في التاريخ (3)"؛ حيث يقول:
نحن المنحين إلى الأبد
كجسورِ الأرياف ِالخشبية
تمرُّ علينا الجواميسُ
والأحزابُ
والجنرالاتُ
والمركباتُ السريعةُ
والأحلامُ المتثائبةُ
و نحن نتأملُ خريرَ مياهِ التاريخ
و نبتسمُ بعمق
لأمواجهِ التي ستتكسرُعما قليل
أمام صخورِنا (62)
لا تزال الذاتُ منشطرةً بين ثنائية: الفعل وتلقي الفعل، أو الحركة والثبات المتجسدة في النص على صورة معبرٍ خشبي يتماهى مع بيئة الفقراء والمهمشين الخانعين. وينقل لنا الصائغ هذا الانشطارَ من خلالِ جدلِ حركةِ الحيوان والانسان والجماد، وسكونِ المعبر/ الذات.
كما ينقل حالةَ الذل والمهانة التي تعانيها الذاتُ في تحولها ذاتاً فئويةً تمثل جماعةً بعينها/ المنحنين إلى الأبد. هذه السلبيةُ الجماعية تعد امتداداً للسلبية الفردية في النص السابق، وتصورُ وضعاً كائناً في حينه، من الصعب مواجهتُه، أو الخروجُ عليه؛ فآثرت الذاتُ الخنوعَ والاستسلام.
والرؤية في هذا المنحى رؤيةٌ إنسانية تتفق وعمومية َالتجربة، التي انتقل فيها الصائغ من الخاص إلى العام؛ ليتبنى موقف المشابهين للذات - نفسياً واجتماعياً -. وتتسق هذه الانسانيةُ وكونَ المعبر متاحاً للجميع، وكأن الذاتَ صارت نهباً ميسوراً للحيوان/ الجواميس، والانسان/ الأحزاب والجنرالات، والجماد/ المركبات السريعة... .
وإذا كانت الشيئية ُعند بعض الفلاسفة تعني الذاتية - فلا مشاحة أن تكون صفاتُ الشئ صفاتٍ للذات، بخاصةٍ عندما يحل الشئ/ الديوان والجسر محلّ الذات(63)، ويتفق هذا مع تفسيرِ مارتن هايدجر لكلمة "الشئ" بأنها "تناسب عالم الجماد بصفة خاصة، ويرى أن الأشياء الطبيعية، والأدوات المصنوعة هي ما عرف دائماً باسم الأشياء"(64)
تنشطر الذاتُ في هذا النص بين أزمنة متداخلة؛ إذ يستحضر الصائغُ الماضيَ عندما كان في العراق قبل 1993، وهذه اللحظة المستحضَرَة يعيش فيها زمنَه الراهنَ - آنذاك -، ويتطلع فيها إلى المستقبلِ الذي كان يتمناه، وأصبح يعيشه زمنَ كتابة النص 30/7/1997، وكأنه في زمنِ الإبداع يعيش زمنَ الألم، وعندما استحضر زمنَ الألم كان يتمنى زمنَ الإبداع الذي تحقق بالفعل، فالذات تعيش صراعاً جدلياً بين رغبتها في الحاضر، ورهبتها - التي لم تتخلص منها - من الماضي.
وتتوازى إنسانيةُ الرؤية وعموميتُها مع تشكيل النص، الذي جاء على هيئة صورةٍ كلية نرى فيها الذاتَ الجمعية قد صارت معبراً خشبياً يُداس بالأقدام إمعاناً في إبراز الخضوع والاستسلام والذل.
كما لم تخلُ الصورةُ من التشخيص - في الأسطر الأربعة الأخيرة - الذي يُسوِّغ شيئيةَ الذات: الفردية/ الشاعر، والجمعية/ "المنحنين".
واعتمد الصائغ في تشكيل الصورة على:
التخصيص - الاعتراض - حرف الواو - الفعل.
- التخصيصص في المنحنين التي تصور هيئةَ الخضوع، ويبدو أن فكرة الانحناء هي التي استدعت الطرفَ الآخر للصورة/ الجسرالخشبي؛ لأن الجمعَ البشري المنحني المتلاصق يشبه في هيئته معبراً بين ضفتين، و كأنه مكتوبٌ على فئة أن تظل مهمشةً خانعة؛ حتى تعبر فئةٌ أخرى من حياة إلى حياة تستمع فيها بالسلطة والرفاهية، ولا تفتأ أن تستعرض قـُوَتَها على حساب المهمشين، وتطؤهم غيرَ مباليةٍ بهم، في صراعٍ جدلي مضمون النتيجة لحساب القوة.
ولمْ يفُتْ الصائغَ أن يحدد طبيعةَ الطرف الآخر/ الجسر من خلال الصفةِ التي وحدت بين طرفي الصورة في ضعفهما، فالضعفُ الكامن في الذات المنحنية يعادلُه كونُ الجسر من الخشب الذي لا يقارن بالجسور المشيَّدة.
- الاعتراض في إلى الأبد، هذا التركيب الذي يؤكد حسمَ الصراع كلما تجدد جدله بين طرفيه لصالح القوة. كما يرسخُ فكرةَ الثبات التي تعانيها الذاتُ في خضوعها أمام الآخر القوي المتحرك، وما دام هناك جسرٌ بين ضفتين سيبقى في الحياة مُنْحَـنُون إلى الأبد.
- حرف الواو الذي ينقسم إلى:
واو العطف في: والأحزب والجنرالات والمركبات السريعة والأحلام المتثائبة. حيث ارتبط ظهورُها في الصورة بتعدد أطراف القوة؛ فأبرزت معاناةَ الذات العزلاء أمام آخرَ مُدَجَّجٍ بأسلحة كثيرة، لا يتوانى في استخدامها من أجل تحقيق أطماعه. كما أنها تمثل قرينةً أو عاملَ ربط بين الخيال التصويري والواقع المحسوس.
واو الحال في: ونحن نتأمل خرير مياه التاريخ ونبتسم بعمق... .وهي التي تعيد الصورة إلى الزمن الماضي، وتنشئ الجدلَ بين زمنِ الإبداعِ وزمن التذكر، الذي يصور الذاتَ في ضعفها، ويعكس أمنياتِها.
- الفعل يسيطر الفعلُ المضارع على الصورة متمثلاً في: تـَمُرّ- نتأمل، نبتسم - ستتكسر .
ترسم هذه الأفعالُ دائرةَ زمنِ الصورة، وهي أفعالٌ منشطرة؛ لأنها خادعة بصيغتِها المضارعة، ودلالتِها على الماضي لحظة الكتابة. ويرتبط الفعلُ الأول منها بطرف القوة في الصراع، و الفعلان التاليان بطرف الضعف والاستكانة، بينما يرتبط الفعل الأخير بتمني المستقبل في زمن الماضي. وتسهم هذه الأفعالُ أيضاً في ترسيخ انشطارِ الذات من خلال الأزمنةِ المتداخلة لحظة الإبداع.
وهذه الصورةُ صورةٌ مغلقة؛ لأن بدايتَها تتسق مع ختامها - رغم ما فيه من خداعٍ نفسي وعقلي؛ لإقناع الذات بقدرتها على المواجهة، وهو أمرٌ في غير محله؛ لأنه يتعارض مع الاستمراريةِ في بداية الصورة وفي ختامها من خلال دوامِ الحال في الفعلين المضارعين: نتأمل، ونبتسم بعمق، كلا الفعلين يرتبط بالبطء (بطء حركة الماء والبطء الناشئ عن التعمق)؛ نتيجة الاستغراق في الزمن: تأملاً وابتساماً، وهو ما يوحي باستمراريةِ الجسر الذي يعني استمراريةَ الانحناء. و تكسُّرُ الأمواج لا يعني انتهاءَها، ولكنه إشارةٌ لتجددها.
إن الابتسامة العميقة في هذا النص تماثل الآهاتِ المتتابعة َفي النص السابق، وهي ابتسامةٌ تكسوها غلالةُ حسرةٍ نشأت عن سخرية الذات من الانحناءِ والتهميش، وعدمِ قدرتها على تغيير وضعِها؛ فوضعنا الصائغ في أحدِ مشاهد الكوميديا السوداء، وأعادنا إلى الصعاليك، الذين يسخرون من الواقع ما داموا غير قادرين على تجاوزِه أو تغييره(65)

أخيراً
فإن ظاهرة انشطارِ الذات في الديوان ليست قاصرة ًعلى النصوص التي عولجت في البحث، و لكن المتتبعَ للديوان يجد الظاهرةَ مسيطرةً على معظم نصوصه؛ وذلك لأن الصائغ لم يتطهر من مرحلة القهر، ولا يزال منشطراً بين الماضي والحاضر، وهو يعيش الحرية.
ولأن البحث يعتمد خطاً يقوم على تفتيت النص والحفر في ثناياه - كان من الصعب معالجةُ كل النصوص التي لا تخرج - في إطارها رؤية و تشكيلاً - عما عولجَ ويندرجُ تحت المحاور الثلاثة التي عالجها البحث وهي: الاغتراب - الخوف - الانكسار والاستسلام.
ومن هذه النصوص على سبيل الاسترشاد: أشباح - باب - خيبات - حصار - وجبة - هبوب - سيرة - تنويعات - نصوص رأس السنة...، وكذلك نص أوراق من سيرة تأبط منفي الذي يدور في الإطار السابق ويعد النصَّ المؤسس للديوان، ويستحق أن يدرس بشكل منفرد.


صراخ عدنان الصائغ
بحجم أوطان وشعوب

يحيى أبو زكريا
كاتب جزائري مقيم في السويد

في أول حوار أجريته مع الشاعر العراقي في بيروت قبل سنتين اكتشفت أن هذا الشاعر هاجسه القلق من جهة والقصيدة من جهة أخرى! وهو يحاول أن يسكّن قلقه بالقصيدة ويُسكن القصيدة قلقه. ولذلك كانت قصيدة عدنان الصائغ سواء تلك التي صاغها في الخرطوم أو في صنعاء أو في عمان أو في بيروت أو في شوارع السويد شمالها وجنوبها, كلها قلقة، فيها همٌّ, فيها قضية، فيها مأساة.
ولا أريد أن أقول هنا أن شعر عدنان الصائغ شعر بكائي درامي – وليس شعراً إنسانياً – بل هو في كل أبعاده شعر إنساني، والمأساة كانت على امتداد حركة التاريخ سمة إنسانية.
وعندما تقرأ قصائد عدنان الصائغ في "تحت سماء غريبة" و " غيمة الصمغ" و "سماء في خوذة" و "العصافير لا تحب الرصاص" إلى "نشيد أوروك" و "صراخ بحجم وطن" تكتشف أنك أمام شاعر مقاوم، سيفه الكلمة وسهمه القصيدة.
ولعل ترعرعه في النجف الأشرف حيث مرقد إمام الحكمة وشيخ الكلام علي بن أبي طالب, وقد جعله على تماس بالحكم الصادرة عن إمام البلغاء علي بن أبي طالب, وتحديداً القول المأثور عنه : "لو كان الفقر رجلاً لقتلته". وتلاحظ في شعر عدنان الصائغ انتصاراً للفقراء وتهكماً بالطغاة الذين تسببوا بحكمهم الجائر في التمكين للبؤس والهوان والذلة.
ولأن عليّاً نشأ مظلوماً ومات مظلوماً, فأن الصائغ الذي تشرب مظلومية عليّ في ديار النجف, يشعر – باستمرار- بالظلم ولذلك راح يفضح الظلم والطغاة. وذات مرة سألت عدنان الصائغ عن تأثره بالحسين بن علي صاحب مأساة الطف فأجاب : لا شك أن للحسين بصمة كبيرة في توجهاتي الشعرية.
وهذا ما يفسر أكثر سرّ البكائية الموجودة في شعر عدنان الصائغ, كما يفسر سر ثورته على السلاطين.
"..... يبدأ من خطاب الرئيس, وينتهي بخطاب الرئيس, مروراً بشوارع الرئيس وأغاني الرئيس ومتاحف الرئيس ومكارم الرئيس وأشجار الرئيس وصحف الرئيس واسطبل الرئيس....." إلى آخر قصيدته الواردة في ديوانه الأخير "صراخ بحجم وطن".
والصائغ من خلال تعرية السلاطين يصنّف نفسه بأنه في خانة الشعراء الصعاليك الذين خلقوا لكي يعارضوا لا لكي يصفقوا وهذا ما يجعل شعره قريباً إلى الذات المعذبة المهمشة المنهكة المثقلة بخطابات الرئيس!
والشعور بالمظلومية والبؤس جعلا عدنان الصائغ لا يقدر على نظم قصائد على إيقاع الرومانسية وزمان الوصل في الأندلس, وهو بمجرد أن يبادر إلى الثانية تنقض الأولى عليها فتصبح الصورة كما يريد عدنان قهراً وبؤساً.

".... فكر أن يكتب عن ياسمين الحدائق
فتذكر أعواد المشانق
فكر أن يكتب عن موسيقى النهر
فتذكر أشجار الفقراء التي أيبسها الحرمان
فكر أن يكتب عن قرنفل المرأة العابق في دمه
فتذكر صفير القطارات التي رحلت بأصدقائه إلى المنافي"
- من "صراخ بحجم وطن" ص23-

وفي ديوانه الأخير أيضاً حملة هوجاء على سالبي الحلم

"... قال أبي لا تقصص رؤياك على أحد
فالشارع ملغوم بالآذان
كل أذن يربطها سلك سري بالأخرى
حتى تصل السلطان..."
- دمشق 15/3/96-

"بيدقني السلطان
جندياً في حرب لا أفقهها
لأدافع عن رقعة الشطرنج
أم وطن
- لا أدري –
أم حلبة
ولهذا أعلنت العصيان
لكن الجند الخصيان
قادوني معصوب العينين إلى الخشبة
وأداروا نحوي فوهات بنادقهم
فصرختُ: قفوا
ستجرون على هذه الرقعة أيضاً
كبشاً بعد الآخر
كي تعلو – فوق سلالم أشلائكم – التيجان"

وعدنان الصائغ لم يطلق صرخات تعرية السلاطين في المنفى حيث هامش كبير من الحرية والطمأنينة, بل أطلق هذه الصرخات في الوطن العربي حيث السجن الكبير،
وتلك الصرخات في ذلك السجن الكبير هي التي أوصلته إلى المنفى.
وانتقاله إلى المنفى لم يرحه على الإطلاق بل زاده الشحنة تلو الشحنة حتى يسترسل في تعرية الذين ظلموه أولاً وبالتالي ظلموا الإنسان بكل أحاسيسه ومشاعره وطموحاته في أن يعيش حراً كريماً. وظلموه ثانياً عندما رموه في المنافي حيث دروب التيه التي لا تنتهي, وكلما ينتهي رصيف تيه يمتد به الرصيف الثاني وهلم جرا.
وفي المنفى تجده يسترسل في تعرية الطغاة وفي تذكار الوطن الذي هندسه هؤلاء الطغاة على مقاساتهم.

" بكى صاحبي
لما رأى الوطن القلب تنهشه الطائرات
تنقر في نبضه قطعاً من ضلوع المنزل والشهداء
فأدرك أنا انتهينا إلى حجر
سوف نحمله في المنافي رصيفاً لأزهارنا الذابلة
يضيّق بين السطور وأحلامنا
وأن الندوب التي خلفتها الحروب على جلدنا
سوف تطمسها السافيات…." ص 34

وهو على خلاف شعراء البلاط وشعراء البترودولار الذين ضمتهم السلطات إلى حظيرتها ليخدموها ويمجدوها, يأبى أن يكون الشعر في خدمة عليَّة القوم.

"…. دخل الشعراء الرسميون
إلى القاعة
واكتظ الحفل
لكن الشعر غريباً
ظلّ أمام الباب
بملابسه الرثة
يمنعه البواب " ص45

وعندما تقرأ كل القصائد الواردة في ديوان صراخ بحجم وطن وعلى الرغم من أن بعض القصائد نظمت في أوقات سابقة تشعر أنك أمام شاعر جلد يطمح أن يكون كالنخلة الباسقة التي لا تزيدها الرياح إلا صلابة وإنغراساً في الأرض وحتى لو استأصلت هذه النخلة من أرضها, فأن عدنان الصائغ يصر على أن تكون هذه النخلة مغروسة وعميقة الجذور حتى لو كانت الأرض التي ستزرع فيها هذه النخلة جليداً في شمال العالم وهاجسه في كل هذا وذاك أن تحمل أوراق النخلة معالم لطريق الغد الخالي من قهر الطغاة.
وكما أن النخلة هي هي سيان لو كانت مزروعة في العراق أو في السويد, فأن قصيدة عدنان الصائغ هي هي سواء نظمها في طنجة أو في جاكرتا أو في شارع الحمراء أو في شارع روزنغورد.. لا فرق.

* عدنان الصائغ, صراخ بحجم وطن ديوان شعر صادر عن دار المنفى السويد سنة 1998.


المفارقة
في شعر عدنان الصائغ

- ديوان "صراخ بحجم وطن" نموذجاً -

د. قاسم البريسم
- لندن -



يشير مفهوم المفارقة Paradox (1) الى الأسلوب البلاغي الذي يكون فيه المعنى الخفي في تضاد حار مع المعنى الظاهري. وكثيراً ما تحتاج المفارقة وخاصة مفارقة الموقت أو السياق، الى كد ذهن، وتأمل عميق للوصول الى التعارض، وكشف دلالات التعارض بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي الغاطس في اعماق النص وفضاءاته البعيدة.
أن للمفارقة وظيفة مهمة في الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، فهي في الشعر تتجاوز الفطنة وشد الانتباه، الى خلق التوتر الدلالي في القصيدة عبر التضاد في الأشياء، الذي قد لا يأتي فقط من خلال الكلمات المثيرة والمروعة في السياق، بل عبر خلق الامكانيات البارعة في توظيف مفردات اللغة العادية واليومية داخل الخطاب الشعري.
كثيراً ما تعد المفارقة على أنها لغة العقل والفطنة، وليست لغة الروح والخيال والشعر، وأنها عمل فكري وليس عاطفياً أو أثراً شعرياً خلاقا. إلا أن المتتبع للمفارقة وأنماطها البلاغية في الآثار الشعرية العظيمة، يجدها أنها لغته الحتمية وسلاح الشعراء الكبار في سجل الشعرية الكونية. فهي التي تحقق أعلى درجات التوتر في القصيدة، وبها نبلغ الحقيقة ونصل الى لذة النص ودهشته. لذا يقول الناقد كلينسثا بروكس "أن الحقيقة التي يسعى الشاعر الى كشفها لا تأتي إلا عبر أسلوب المفارقة" (2) لقد وظف الشعراء الكبار من الغربيين المفارقة في شعرهم، أمثال شكسبير، واليوت، وبايرن وتوماس مان وبوب وكري وشيلى وفيلب سدني وغيرهم بالمئات، حتى لم تسلم قصيدة من قصائدهم الا وضربت بطرف من أطراف المفارقة. كما وجدنا أن الشعر العربي قديمه وحديثه، اعتمد في بناء نسيجه على عنصر المفارقة وأن أغلب القصائد الشهيرة في الشعر العربي تعتمد في شعريتها وبنائها اللساني على المفارقة وعمودها الفقري التضاد. سواء أكانت مفارقتها لفظية أو سياقية. بل أكثر من ذلك أننا نجد أن الشعراء الغربيين الذين اتصف شعرهم بالهجوم المباشر والبساطة في التركيب، وهما مظهران لا يصبان مباشرة في جوهر المفارقة، بنيت قصائدهم المشهورة على عنصر المفارقة، وخاصة المفارقة السياقية، كما هو الحال مع الشاعر الانكليزي وردزورث، الذي نقف عند نماذج من شعر المفارقة عنده لاحقاً.
تقوم شعرية المفارقة بشكل أساسي على التضاد بين المعنى الظاهري والباطني. وكلما أشتد التضاد بينهما، ازدادت حدة المفارقة في النص.
يأخذ التضاد في مفارقة الأدب أشكالاً متعددة، فهو في المسرحية قد يكون كوميدياً أو مأساوياً، وفيه تتفجر العواطف والأفكار وتتقاطع، فقد تُضحك المفارقة بمأساتها، وقد تُبكي بسخريتها. ولا يعني أن المفارقة في الشعر، تقصر نفسها عند مبدأ التضاد فقط، بل تلجا الى السخرية في كشف باطن النص الخفي، حيث يمتزج الألم بالتسلية، كما يؤكد ذلك أ. ر. تومسن، أن المفارقة لا تكون إلا عندما يكون الأثر نتيجة أمتزاج الألم بالتسلية. وكثيراً ما تلجأ المفارقة في بحثها عن طرفي التعارض في الأشياء والأحداث، اصطناع الغفلة أو التظاهر بها.
أن المفارقة جوهر في الأدب، فهي تعكس وظيفته النهائية التي تقوم على الصراع بين الذات والموضوع، الخارج والداخل، الحياة والموت، المتصور والمألوف، الفاني والأزلي، ولأنها تعكس الرؤية المزدوجة في الحياة، فانها خيرما يمثل الأدب، باعتباره تمثيلاً نقياً لما يجب أن يكون، تجاه الكائن (الموجود) الفاسد. أن المفارقة تخلق توازنا في الحياة والوجود، فهي نظره فلسفية للحياة، قبل أن تكون اسلوباً بلاغيا، ندرك بها سر وجود التنافرات والتناقضات، التي هي جزء من بنية الوجود نفسه لذا يقول الناقد الكبير أ. أى. ريتشارد: " أن المفارقة استحضار الدوافع المتضادة من أجل تحقيق وضع متوازن في الحياة". فهي بهذا المعنى، ترفع الأنسان فوق معضلاته، وهمومه العصية في الكون، وتمنحه حرية التجاوز. لذا يقول غوته بهذا الصدد "أن المفارقة ترفع الانسان فوق السعادة أو الشقاء، الخير والشر، الموت والحياة. وحين تتكشف لنا المفارقة في الحياة، تبدو لنا الحياة على حقيقتها، فهي مرآة الحياة الصافية وهذا ما دعا توماس مان أن يقول أن المفارقة لمحة صافية، تتصف بالحرية والهدوء، وهي لمحة الفن الصافي نفسه.
ان حس الشاعر بالمفارقة لا يقتصر على رؤية الأضداد ووصفها في اطار المفارقة، بل في قدرته على اعطائها صورة في الذهن أولاً، ثم مطاردتها في الحياة والواقع. عندها يستطيع ان يتفاعل مع ما يحدث في الواقع ضمن مفهوم المفارقة. ليس كل شاعر يستطيع أن يتلبس فلسفة المفارقة، فهي ليست لباس خارجي، بل فلسفة ونظرة جوهرية للعالم واذا لم يستغرق الشاعر فيها، ويتشبع بها، لا يجد فكره وشعره الطريق لها. وحين تصبح المفارقة عند الشاعر فلسفة وسلوكاً وشعوراً يستطيع عندها أن يلتقط أشتات المفارقة في الواقع والكون ويجمعها في موشور اللغة والشعر. لذا يجد الفطن من النقاد والأدباء والمتتبعين، ان المفارقة لا يقدم عليها الا الشعراء الكبار ويفر منها من كانت تجربته بسيطة ومحدودة. فهي تحتاج اضافة الى تحديد معالمها والتفاعل معها والشعور بها في الحياة اليومية، قدرة في تجسيدها لغة وشعراً واحساساً.
المفارقة نوعان رئيسيان، هما:
1. المفارقة اللفظية
2. مفارقة الموقف أو السياق
ويمكن تحديد المفارقة اللفظية على انها المفارقة التي يكون فيها المعنى الظاهري واضحاً، ولا يتسم بالغموض وذا قوة دلالية مؤثرة.
وكثيراً ما يكون المعنى فيها هجومياً، وخاصة في شعر الهجاء.
وهذه المفارقة يتعمدها الشاعر، ويخطط لها، عبر التضاد بين المظهر والمخبر.
أما النوع الثاني من المفارقة، وهو مفارقة الموقف أو الحدث، فليس فيه صاحب مفارقة، بل هناك ضحية أو مراقب. وبعبارة أخرى تعتمد المفارقة هنا على حس الشاعر الذي يرى به الأشياء والأحداث من حوله، وتصويرها بمنظور المفارقة، ويترك للمراقب (الانسان) تحليلها واستنباط أبعادها الفلسفية والشعورية، وكشف خيوط تعارضها. ومن هنا تختلف المفارقة اللفظية عن السياقية في ان الأولى تعتمد في كشف حقيقتها أولاً على صاحب المفارقة (الشاعر). أما المفارقة السياقية فانها تعتمد على المراقب أو القارئ في استنباط وكشف التعارض بين المعنى الظاهري والخفي.
في المفارقة اللفظية يكون المعنيان الظاهر والباطن في مواجهة مباشرة على خلاف المفارقة السياقية أو الحدث التي تتطلب خفاء وعمقاً في البحث عن طرفي المفارقة داخل بنية القصيدة، وقد تحتاج الى استنباط وتحليل لمجمل القصيدة أو ربطها بسياق خارجي عن القصيدة نفسها، وهذا أكثر أنواع المفارقة صعوبة، كالذي وجدناه في شعر توماس مان، وبوب، وكري وغيرهم.
سأقف عند نماذج من الشعر الأنكليزي التي جسدت المفارقة لنتبين بعض ملامحها السياقية.
يمتاز وردزورث في شعره بالبساطة والإبتعاد عن الغموض والهجوم المباشر خلافاً لكثير من الشعراء الانكليز. وبالرغم من هذا فأن الكثير من قصائده المشهورة بنيت على أساس المفارقة السياقية فهو في قصيدة "سونيتة المساء" (3) يبني مفاصلها على المفارقة السياقية كما في المقطع الشعري:
أنه مساء جميل، هادئ وطليق
الزمن مقدس، هادئ كراهبة
ساكن بهيام
تصف القصيدة وسياقاتها الشاعر مع الفتاة التي تصاحبه، وهما في أحضان الطبيعة. الشاعر مستلهم في العبادة بوعي، ولكن الفتاة التي تصاحبه لم تكن واعية مثله للطبيعة، بل كانت عبادتها بريئة وتفاعلها مع الطبيعة صادق. وبالرغم من أن القصيدة توحي الى أن الفتاة يجب أن تتفاعل وتتماهى مع الوقت المقدس وتصبح مثل المساء نفسه أو مثل هدوء الراهبة وهي في حضن الطبيعة، إلا أن الشاعر يطلق عنان عفوية وبراءة عبادتها.
ومن هنا جاء خيط المفارقة الرفيع، كما يؤكد النقاد الأنكليز، بين وعي الشاعر بقدسية الطبيعة، ووعي الفتاة البريء لكل ما هو مقدس فيها. وبالتالي تضرب المفارقة في كشف التظاهر بالدين والقدسية وما يقابله من براءة للمقدس عند الفتاة.
وفي قصيدته المشهورة "هادئ على جسر وستمنستر" (4) يبين مفارقة القصيدة على دهشته في أثناء مقارنته بين لندن القذرة والمحمومة، وبين مدن أخرى نظيفة وهادئة مثل مونت بلانك ومونت سنويدن. وهو في مفارقته وإدانته لمدينة لندن وحياتها يكفي أن يصفها بقوله:
لم يسبق للشمس أن لبست حلة الجمال
مثل طلعتها الأولى البهية
على الوادي، الصخر أو التل
ولو أخذنا نموذجاً للمفارقة من الشعر العربي المعاصر، نجد أن قصيدة الشاعر محمد مهدي الجواهري "ترنيمة الجياع"، نموذجاً لشعر المفارقة العظيم:
دامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام
نامي فأن لم تشبعي من يقظة فمن المنام
نامي على زبد الوعود يُداف في عسل الكلام
فقد بنيت القصيدة على أسلوب التضاد الذي تحكم في أنساقها التركيبية والدلالية على حد سواء، من أول بيت فيها الى آخرها مما عدت أحد روائع الشعر المعاصر، بعد أن أمتلك صاحبها اللغة والأحساس بالمفارقة.
ترتكز شعرية عدنان الصائغ على حدة المفارقة التي يصهر بها هموم الانسان وحريته في إناء الوجود الانساني، ويوزع مفارقته الشعرية بين الاندهاش والتعجب والسخرية وعلامات الاستفهام وأحياناً الهجوم المباشر.
تتكثف بلورات صوره الشعرية، وتترشح عبر ركني المفارقة (التضاد)، بتفاصيل الحياة اليومية، وتمتزج بألوان الأشياء، وملامح الأماكن، ونبض الشوق والحنين اللامتنهين للوطن. تضعنا قصيدته عند مفازة التأمل، وسواحل الابحار نحو محيط الانسان اللامنتهي، بها نقطع مسافة الألم والشوق والدهشة بعد أن تتركنا في لجة التأمل والانفعال وتعود الى أرض الساحل (الواقع) وحدها.
موسيقى قصيدته رزينة Grave إذا استخدمنا مصطلحات النقد الصوتي، تأتينا هادئة لكنها مشحونة بدفق شعوري طفولي، وتيار دلالي حزين. يفتح الشاعر جرح العراق، ونوافذ الحنين والشوق للوطن المسور بالبنادق في ديوانه "صراخ بحجم وطن" .
الديوان باختصار يمثل صرخة الانسان (الشاعر) بوجه الطغاة وتجار الحروب والدمار. وفي صرخته، ينتقل الشاعر من الوطن المحدود (العراق) الى اللامحدود ومن الذاتي الى الانساني. لذا ليس غريباً أن يأتي العنوان مطلقاً، ويمنح لفظة "وطن" سمة العموم والتنكير ويبعدها عن ألف التعريف المقيد. ويعطيها بعداً انسانياً أشمل، ينطلق فيه من وطنه المقيد الجريح الى رحاب الانساني الذي يتماثل معه، وتنتهك فيه الحريات، ويشهق فيه الانسان قهراً وموتاً.
يقيم الشاعر عبر العنوان المنتقى بشاعرية فائقة مفارقته بين الصرخة ومساحة الوطن، عبر التضاد أو التوازي على حد مصطلحات ياكبسون. (5). والمثير من توازي العنوان، أنه ضم طرفي التوازي، وهما التوازي الايجابي والسلبي في آن واحد وبعبارة آخرى أن التوازي في عنوان الديوان أخذ فضاءين، وهما الفضاء المكاني (الأفقي) والفضاء الدلالي (الرأسي). فعلى مستوى التوازي المكاني، جاء التوازي الايجابي في العنوان بين لفظة "صراخ" و "حجم وطن" كي يكشف علاقتهما من حيث حجمهما وشموليتهما وبعدهما الأفقي. وهذه الصرخة نفسها دخلت في تواز سلبي من الناحية الدلالية مرة ثانية، كي تعمق عظم المأساة التي توحيه دلالة الصراخ الذي هو بحجم وطن (بلا حدود معنية). وبذلك أضاف التراكم الدلالي للفضاء الأفقي في التوازي الايجابي، بعداً دلالياً للتوازي السلبي داخل العنوان وترشح فيه وعمق من فجوة التضاد بين حجم وقوة الصراخ، وما يقابله الوطن.
شكل العنوان الذي حمل بذور توازيه (التضاد) الذاتية (السلبية والايجابية) ثريا النص الذي أضاء دلالات القصائد وأشعل لهيب التضاد والتوازي في داخلها.
يفتح الشاعر نوافذ الحنين للوطن المسيج بالبنادق في قصيدته "حنين". وقد شكلت هذه القصيدة مع القصيدة اللاحقة "العراق" نقطتي الاستقطاب والربط الدلالي مع عنوان الديوان"صراخ". لذا جاء ترقيمهما أو فضاؤهما المكاني كفاتحتين للديوان، محمولاً بحس شاعري غني. وهذا ما عبر عنه جيرار جينت بالنص الموازي، الذي تشتد فيه علاقة العنوان بالنص وتتشابك. والحقيقة اننا لو تأملنا التوازي الدلالي بين القصيدتين "حنين" و"العراق" من ناحية وعنوان الديوان "صراخ" من ناحية ثانية نجد أنه يتوزع على مسارين، شأنه شأن التوازي في العنوان نفسه. المسار الأول وهو التوازي الايجابي بين دلالتي حنين والعراق. فالعلاقة الدلالية بينهما يطلق عليها بالدلالة التلأُمية، وتقوم على مبدأ الحب. في حين تقوم دلالتا حنين والعراق مع دلالة لفظة صراخ في العنوان، على العلاقة السلبية (الدم). يضاف الى ذلك ان فضاء دلالة حنين مفتوح مثل الصراخ نفسه، مما اعطى لهذا التقابل الدلالي المضاد، تعادلاً نفسيا، ساهم في تكريس فجوة الدلالة بينهما.
تتوزع مفارقة قصيدة الافتتاح "حنين" بين المفارقة السياقية واللفظية. وتأتي مفارقة الشاعر اللفظية عبر حدة التضاد بين النخيل (الحياة) من جهة، والبنادق (الدم) من جهة أخرى. أو بعبارة أدق وأوضح بين سور النخيل (الغائب) وسور البنادق (الحاضر)، وبينهما تقع مسافة توتر الحب والحنين للعراق:

"لي بظلِ النخيلِ بلادٌ مسورةٌ بالبنادقِ
كيف الوصول اليها
وقد بعد الدرب ما بينننا والعتابْ
وكيف أرى الصحبَ
مَنْ غيبوا في الزنازين
أو كرشوا في الموازين
أو سلموا للترابْ
انها محنة – بعد عشرين –
أن تبصر الجسرَغيرَ الذي قد عبرتَ
السماوات غير السماوات
والناسَ مسكونةً بالغيابْ"

يعتمد الشاعر اسلوب التراكم الدلالي للتضادات الفرعية داخل نسيج القصيدة، للوصول الى قمة المفارقة السياقية التي تنتجها القصيدة ككل. فهو هنا يضيف للتضاد الذي بدأه في سطره الأول بين النخل والبنادق، تضاد آخر محمولاً عبر وصف أصحابه الذين غيبتهم البنادق، ليقف عند مفارقته السياقية التي يضيء طرفها بيت القصيدة الأخير.
والناس مسكونة بالغياب
أما طرفها الثاني، فينبثق من سلسلة التضادات التي تراكمت في القصيدة، وأولها، تضاد النخل والبنادق، لتنتهي أخيراً بين مفارقة الحضور الغائب للوطن (العراق)، والغياب الحاضر له، وما بينهما تقع مسافة الدم والحنين.
والملاحظ في شعر عدنان الصائغ أنه لا يعتمد فقط على التضاد الدلالي في اقامة طرفي المفارقة، بل يعتمد على الموسيقى الداخلية المنقولة الينا عبر التشكيل اللغوي (الصوتي)، وتفاوت طرفي التضاد في تركيبهما الصوتي الفيزيائي الذي تعود له الموسيقى الداخلية.
فقد وجدت بعد تأمل دقيق وتحليل لطبيعة التركيب الصوتي الفيزيائي لطرفي التضاد في السطر
لي بظل النخيل بلادٌ مسورةٌ بالبنادق
ان فجوة التضاد بينهما تعود الى الموسيقى الداخلية وارتباطها بدلالة المتضادين في السطر.
كشف السطر الأول في القصيدة، الذي شكل مركز التضاد فيها تفاوتاً في البناء اللغوي (الصوتي)، أرتبط بالمسار الدلالي له وقد انعكس هذا التفاوت على الموسيقى الداخلية، عبر مسار التنغيم والوضوح السمعي Sonority ، وطبيعة المقاطع الصوتية فيه.
من أجل أن تتوضح الفروقات الصوتية في بناء السطر، وارتباطها في دلالة المتضادين، يمكن تقسيم السطر الى قسمين رئيسيين، تقع بينهما لفظة بلاد.
الأول: لي بظل النخيل (طرف التضاد الأول)
الثاني: مسورة بالبنادق (الطرف الثاني)
بلاد: (مسافة التضاد)
مرتكزات الوضوح السمعي (الموسيقى الداخلية) في الجزء الأول من السطر جاءت من الصوائت (الياء) ومن الأصوات المائعة (اللام والنون) وهذه الأصوات التي سادت في هذا الجزء، تمتاز بطبيعتها الفيزيائية الناعمة التي لا ضجيج فيها، وتظهر طاقاتها الصوتية وحزمها على شاشة الرسم الطيفي في المركز، مما يعطي تشكيلها ايحاء يتفق الى حد ما مع مشهد النخيل. في حين أن لفظتي "مسورة بالبنادق" طرف التضاد الثاني، ضمت أصواتاً حادة خشنة [ الباء والدال والقاف ]، وخاصة لفظة "البنادق" ومن الناحية الصوتية الفيزيائية المختبرية، فأن الطاقة الصوتية في لفظة "البنادق" تتسم بالعشوائية والتشتت وفيها ضوضاء (Noise)، وتمتاز حزمها الصوتية ببداية حادة. وهذا ما أعتقد يمنح اللفظة ايحاء لفعل البندقية ويحاكي صوتها وتشتت نارها. لذا تقف اللفظتان المركزيتان في السطر، النخيل والبندقية في تضاد صوتي وتنغيمي وموسيقي أيضاً، مما يعزز التضاد الدلالي المعجمي بينهما، ويزيد من حدته وشراسته.
يكثف الشاعر في قصيدة "العراق" اللغة الى حد بعيد حتى يصعب أن نجد زبداً كثيراً، أو مسامات لحشو أو ترهل لغوي فائض، وهذا ما تحتاجه المفارقة في الشعر:

"العراقُ الذي يبتعدْ
كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ
والعراقُ الذي يتئدْ
كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ
قلتُ: آهْ
والعراقْ الذي يرتعدْ
كلما مرَّ ظلٌّ
تخيلتُ فوهةً تترصدني،
أو متاهْ
والعراقُ الذي نفتقدْ
نصفُ تاريخهِ أغانٍ وكحلٍ...
ونصفٌ طغاهْ"
تتصارع الأضداد وتشتبك في هذه القصيدة، حتى تتراكم طياتها الواحدة على الاخرى، ولكن ليس عبر الرصف المألوف، بل من خلال التوليد الدلالي Generrative Semantics (6)، القائم على مبدأ السبب والنتيجة أو الأثر والمؤثر حتى تتعنقد الأضداد في سلم القصيدة، لتنتهي الى المفارقة السياقية التي تنهض من أعماق تلك الاضداد المتلاحقة.
يقيم الشاعر في السطرين الاولين من القصيدة العلاقة الطردية بين العراق والمنفى، ووفقاً لهذه العلاقة فان ابتعاد العراق يولد اتساع المنفى، وهكذا تبقى العلاقة مستمرة ما دامت هناك بندقية وطاغية.
والمثير في دلالة السطرين السابقين اللذين يقفان في تضاد دلالي فيما بينهما، انهما يولدان حالة واحدة لهما هي "الحنين" أو التذكر، دون أن تصطدم دلالتها مع تضادهما السابق وهذا ما جعل من هذا السطر مولداً دلالياً للأسطر اللاحقة.
التخطيط الآتي، ربما يضيء المسار الدلالي للقصيدة ويكشف أنساقها اللغوية.

تضاد
ابتعاد العراق -------- اتساع المنفى
دلالي
حنين توليد دلالي حنين
حنين
خوف
(بندقية)

ان الابتعاد عن العراق يولد حنيناً وحباً، وفي نفس الوقت ان اتساع المنفى هو الآخر يولد حنيناً، ولا يتعارض مع الدلالة المنتجة لطرفي التضاد. الا ان الحنين يولد خوفاً، وهنا يحتدم الصراع بين الدلالتين. وعند هذه المرحلة تفتح القصيدة عن مفارقتها عندما يصبح حب العراق والحنين له يساوي البندقية أو الضياع في زمن الطغاة الذين يقتلون الأغنية، ويسرقون كحل النساء.
يقف الشاعر عند نافورة الدم العراقي أيام انتفاضة الشعب، ويستنطق أيامها وبطولاتها بوجه الظلم، ويكشف الجرائم التي ارتكبها النظام العراقي ضد أبنائها.

"هؤلاء الذين
تساقطوا أكداساً
أمام دبابات الحرس
.......
.......
هؤلاء الذين نما على شواهد قبورهم صبّيرُ النسيان
هؤلاء الذين تآكلتْ أخبارهم
شيئاً فشيئاً... في زحمة المدينة
انهم يتطلعون بعيونٍ مشدوهةٍ
الى قدرتنا على نسياهم بهذه السرعة"

يقيم الشاعر مرة أخرى شعرية القصيدة على التضاد بين التذكر والنسيان، بين حضور شهداء الانتفاضة وغيابهم السريع في الذهن العراقي، بين فعل المنتفضين البطولي وفعل الشعب تجاههم ولا يكتفي الشاعر بدهشة التضاد بين فعل التذكر وفعل النسيان والتي تقوم على شدة استغراب شهداء الانتفاضة المشدوهة عيونهم نحونا، ونسيانهم، بل ياتي بالدهشة المركبة التي يولدها من فعل النسيان نفسه، ولكنها أشد وطأة وألماً وهي "قدرتنا"، في النسيان السريع لرجالات حدث عظيم مثل الانتفاضة. وهنا يضيف الشاعر دهشة أخرى الى دهشة النسيان العادي الذي يأكله الزمن، وتزحف عليه تعرية الأيام. وعند هذا الحد تضعنا مفارقة القصيدة عند مفترق طرق تنفتح على حياة العراقيين في كفاحهم ضد النظام، وهنا يأسرنا الشاعر بالتوتر العاطفي بين الواقع ونتيجته غير المتوقعة، أو بعبارة أوضح بين ما كان من فعل شهداء الانتفاضة، وما يجب ان يكون من فعل عاطفي عراقي تجاه تضحياتهم وبطولاتهم. وهو بهذا استطاع ان يكسر أفق القاريء، ويصعد حالة الانفعال والتوتر الوجداني عبر الانحراف الدلالي للنسيان الذي يمكن ان أسميه "انحراف الحقيقة العفوية".
يقف الشاعر عند الانتفاضة مرة ثانية، وهو ينقل لنا صورة دموية بشعة، شاهدناها وعشنا لحظاتها الفعلية في ساحات الاعدام أيام الأنتفاضة، حيث تحلق عيون الثوار المرتجفة نحو فوهات البنادق السود.

"الذين صُفّوا في ساحة الاعدام
حدّقوا بعيون مرتجفة الى الفوهات السود
المصوبة الى رؤوسهم الحليقة
لكنهم لم يروا عيون القتلة
كانت محجوبة خلف صف البنادق الطويل
لهذا ظلت نظراتهم مسمرة نحونا
الى الأبد"

مشهد كامل لواحدة من جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها النظام العراقي أيام الأنتفاضة، حيث يثير من خلال صوره الشعرية الموفقة، فزعنا الانساني، ويكشف بشاعة القتل لشهداء الأنتفاضة الذين وقفوا يحملقون بعيون مرتجفة، وقلوب شجاعة صلبة الى فوهات بنادق القتلة.
يعود الشاعر في هذه القصيدة الى الأسلوب الذي انتهجه في قصيدته السابقة، وهو الانحراف الدلالي وكسر أفق القاريء عبر المفاجئة باللامتوقع في الحدث. ثلاث صور شعرية تراكمت دهشاتها الواحدة على الاخرى، عبر مسار التضاد الدلالي للقصيدة. الصورة الشعرية الاولى، يقع تضادها بين عيون المنتفضين وما يقابلها من فوهات البنادق. الصورة الشعرية الثانية التي تكمل تضاد الصورة الاولى، وتعمق القسوة فيها، هي التي بين عيون المنتفضين وعيون القتلة المحجوبة بصف البنادق الطويل، هاتان الصورتان تعكسان القسوة، وتولدان دلالة مركزية مضادة تقف وجهاً لوجه ضد دلالة نظرات المنتفضين المسمرة نحو العراقيين والتي تركها الشاعر مفتوحة على فضاء المواقف والأعمال التي يقومون بها في المستقبل تجاه تحرير العراق من الظلم.
ان التضاد الدلالي في الصورة الشعرية الاولى واضح، بالرغم من انه يحمل ألماً انسانياً كبيراً، الا أن الشاعر لم يرد ان تكون الدلالة مستقيمة ومألوفة، وخالية من دهشة المفاجئة التي هي أساس الشعرية. بل زاد من حدة التضاد، وبشاعة القسوة في الصورة الشعرية الثانية التي انعدمت فيه الرؤية بين عيون المنتفضين، وعيون القتلة عبر صف البنادق الطويل. وهنا تتجلى شعرية الصورة الرائعة (من الناحية الفنية)، وتضادها النهائي، عندما حرر الشاعر عيون المنتفضين ونظراتهم من عيون القتلة (في لحظة الموت)، وعكس اتجاهها نحونا. وهذا التحول الدلالي يخزن قيمة دلالية شعرية كبيرة، ويفتح باب التأويل الشعري مستمراً فقد عكس صلابة عزيمة الثوار. وجاء بالعيون المرتجفة كمجسة دلالية في النص، ولم يأت بالقلوب المرتجفة التي توحي بالنكوص والجبن وضعف العزيمة، والذي لم يحدث لأبطال الأنتفاضة بالفعل بالرغم من بشاعة النظام. لذا لم يجعل العيون مسمرة بالفوهات السود، فقد حررهم من الخوف، وأطلق أحلامهم خارج الموت الفيزيائي، ولحظته المرة، فهم أبطال لم يأبهوا الاعدام، ولم تثرهم صفوف البنادق، كانت أفكارهم تحلق في أفق العراق وأنظارهم تتطلع الى العراقيين، وتتسمر نحوهم، عندما كان الرصاص يمطر أجسادهم. وهنا تقع مسافة التضاد ودهشته بين الدم والبشاعة وأحلام وتطلعات المنتفضين نحو الخارج.
تبدو وطأة المفارقة كبيرة على الشاعر، وينعكس جوهرها في سلوكه وطيات شعوره وحتى في أحلامه. وهذا سر الشاعر الذي يكتب عن المفارقة، فهو يجب أن يكون مفارقاً في حياته ونظرته الفلسفية قبل شعره. وان لا يقتصر وجود المفارقة عنده في القدرة على رؤية الأضداد في الحياة وخارج ذاته وفكره، بل يجب ان تصبح جزءاً من فكره وشعوره، وهذا ما يؤكده فلوبير بقوله "ان حس المفارقة يجب ان لا يقتصر على رؤية الأضداد في اطار المفارقة، بل القدرة في اعطائها شكلاً في الذهن".
تطفح المفارقة في أحلامه، وتختزن في لا شعوره الباطن، تضاداً وتنافراً بين حالة حضور الوطن وحالة غيابه. حالة الحلم (الذكرى) وحالة الواقع (الدامي). فهو في قصيدة "غياب" يسرب التعارضات عبر حلمه الشارد نحو الوطن، حيث تنفتح التناقضات في القصيدة بين الحاضر والماضي، البناء والهدم.

"رسم بلاداً
على شرشف الطاولة
وملأها بالبيوت المضيئة والجسور والأشجار والقطط
قطع تذكرة
وسافر اليها
محملاً بحقائبه وأطفاله
لكن رجال الكمارك
أيقظوه عند الحدود
فرأى نادل البار
يهزه بعنف
الى أين تهرب بأحلامك
ولم تدفع فاتورة الحساب"

ان الحلم في القصيدة يقابل الواقع المغيب، فالحلم أصبح هو الوسيلة التي يهرب بها العراقي الى وطنه، بعد ان ضاع في المنافي، وابتعد عن العراق بالخوف والقهر. وعبر ثنائية الأضداد التي تترشح في مفاصل القصيدة وتنمو في داخلها، تُستكمل المفارقة السياقية في الأخير.
فدلالة البيوت المضيئة والجسور والأشجار التي يرسمها العراقي في المنفى والغربة على شرشف الطاولة، تقف ضد الهدم الذي يجري في داخل العراق الآن. وحالة السفر المحمل بالورود والأطفال تقف في تضاد مع الأسوار والحواجز، وما توحيه دلالة نقاط التفتيش على الحدود من رموز للخوف والرعب عند العراقي.
تلك الدلالات المرشحة في النص بكثافة تكشف عن المفارقة السياقية التي تنتهي بها القصيدة، وتقوم بين حالتين حالة العراقي المشرد وغيابه في المنافي التي لا يملك فيها نحو العراق الا سلطة الحلم الذي يعبر به الى وطنه الموصد بالحديد خلسة، وبين واقع العراق اليوم في ظل الأضطهاد والقهر.
وفي قصيدة "رقيب داخلي" نوع آخر من المفارقة. فاذا كانت مفارقة قصيدة "غياب" تعتمد في ايحاءاتها وصورها على الحلم المهرب نحو الوطن والتضادات بين حالتين قائمتين في المشهد العراقي في المنفى فان قصيدة رقيب تعتمد على حشد من تعارضات الواقع التي تضع التوتر بين الدلالات المتراكمة في النص لتقف في النهاية عند المفارقة بين الداخل (الذات) والخارج (الموضوع). بين ما ينبغي للانسان ان يكون، وبين ما هو كائن، بين سلطة الانسان (الشاعر) وما يقابلها من سلطة الحاكم الجائر.

"منذ الصباح
وهو يجلس أمام طاولته
فكر أن يكتب عن ياسمين الحدائق
فتذكر أعواد المشانق
فكر أن يكتب عن موسيقى النهر
فتذكر أشجار الفقراء التي أيبسها الحرمان
.....
فكر أن يكتب عن ذكرياته المتسكعة تحت نثيث المطر
فتذكر صرير المجنزرات التي كانت تمشط شوارع طفولته
فكر أن يكتب عن الأنتصارات
فتصاعد في رأسه نحيب الأرامل
ممتزجاً برفات الجنود المنسيين هناك
في آخرة الليل
وجد سلة مهملاته مملوءة،
وورقته فارغة بيضاء"

ان سلسلة التضادات التي تستدعيها الذكريات بين أعواد المشانق وياسمين الحدائق، وبين الماء (الحياة) والجفاف (الدمار) وبين الحب وما يقابله من تشرد وحرمان. ذكريات الحب وذكريات الدبابات والمجنزرات، نصر الحروب الكاذبة وأرامل الشهداء، تكرس المفارقة السياقية التي تنبع من أعماق القصيدة ومفاصلها، وتنفتح على تأويلات كثيرة، منها ما يخص ذات الكاتب وضمير الكتابة عنده وهو يقع بين تعارضات الواقع والذات، وما يحدثه هذا التعارض من ضياع وتشرد وتبديد في المحسوس واللامحسوس من طاقتنا.
وفي قصيدة "الى شاعر برجوازي" ينحو الشاعر نحواً آخر عندما يقيم تضاد المفارقة عبر الاستفهام بين الشاعر (الانسان) وبين شاعر السلطة الجلاد.

"أوصلتني القصيدة للفقر
هل أوصلتك القصيدة ... للفقر؟
هل أسلمتك الى حارس السجن
أو للتشرد أو للجنون؟"

فهو عبر سلسلة من التضادات الاستفهامية يوسع الهوة بين الفقر والغنى، السجن والحرية، السرقة والنزاهة، ليقف عند المفارقة السياقية الخفية التي تنسج القصيدة. وكما هو مألوف في أسلوب الشاعر في المفارقة الذي يجعل من عنوان القصيدة مفتاحاً لحل طرف نقيضها، ان لم يكن هو طرفها الدلالي المركزي، في حين يغوص الطرف الآخر من التضاد داخل جذور القصيدة ونسيجها العام


الصدى.. والصدأ
في صراخ الصائغ الطويل

كلام وجيز على ديوانه "صراخ بحجم وطن"
إصدار دار المنفى – السويد.

صلاح أحمد
قاص وكاتب عراقي مقيم في السويد






"صراخ بحجم وطن" مختارات شعرية لعدنان الصائغ استلها من ثمانية دواوين من دواوينه. وحين يعتبرها الصائغ مختارات، يعني ذلك مسبقاً أنها أقرب قصائده إلى نفسه. بل أفضلها .. من هنا يغدو أي كلام عليها محاولة شبه مستحيلة بالغة الصعوبة في الآن ذاته. كونها تنتمي إلى مراحل زمنية متباينة، بدءاً من الثمانينيات. وتختلف ظروف كتابتها وموضوعاتها.. كما أن للصائغ وضعاً خاصاً يفرده عن شعراء جيله سواء حين كان داخل الوطن أو خارجه. وحين ضاقت به دائرة الوطن ركب متن المغامرة وتغرب.. ثم اتسعت أمامه آفاق المنافي، وإذ تحاصره العتمة آنا تنفتح له في الوقت ذاته كوى من السنا – سنا الذات العميقة عبر تلون التجربة والحياة خلل أقاليم حلمية غير مطروقة ومسكونة. لذلك حين نقترب من عوالمه ونتغلغل في قصائده. نجدنا داخل مجاهل ممتلئة بالأزهار والأشواك ورؤى عجائبية تضم فراديسه وجحمه المدهشة. وعندما نؤوب منها نكون مرتعبين ومرتعشين متدثرين بالوصب والعرق وبقايا ارهاصات معاناةٍ. ولأن الصائغ يمتلك تجارب رؤيوية وحياتية لا تعد ولا تحصى غير عادية.. يرميها فوق أوراق قصائد الملغومة بالعشق والثورة والغضب والمحبة، تزدحم بالصور الكثيفة المزدانة بتفصيلات الحياة اليومية. قصائده متنوعة ذات طبقات، عليا وسفلى، ظاهرة ومضمرة، قريبة المغزى وبعيدة المرمى، يستقدم أدواتها وحيواتها من داخل الوطن. ومن حافة المعايشة وخارجها. وما يكتبه من داخل الجحيم يبدو ناعماً طرياً بارداً، حيناً، وحارقاً جارحاً مراً حيناً آخر. لذلك أقول: إن الكلام على شعره – وهو الصانع الأمهر في الصياغة الشعرية – ضرب من اللاجدوى والمستحيل وإنه يحشد ألواناً من الصور والرموز والمجازات يمزجها بظنونه وجنونه، وعلمه وحلمه، وكراهيته وعشقه، عصافيره، وزهوره، أوهامه وأوزاره، بكائه وغنائه، آماده وعاداته. وحسْبُ ديوانه "صراخ بحجم وطن" انطواؤه على كل هذه التناقضات والإرهاصات والهواجس مذ بدأت مسيرته الشعرية معبّراً عن مواقفه الإنسانية، ومكوناته الإجتماعية والفكرية، الملوّنةً بحزن ثقيل قاتم لا يسمح أبداً لنافذة فرح أن تشفّ، وتشعّ، ولا لسانحة مسرّة ان تتنفس. إنّه لفي مسعى دائم لتعرية النفس البشرية، وكشف أورامها وكوابيسها المتشابكة:

(قال أبي: لا تقصصْ رؤياك على أحدٍ، فالشارع ملغوم بالآذان / كل أذن يربطها سلكٌ سري بالأخرى / حتى تصل السلطان //
- ثلاثة مقاطع للحيرة –
من ديوان تأبط منفى، ص6)

إن الوضع المأسوي الذي يمر به الإنسان العربي في وطنه قد تغير من سيء إلى أسوأ وبات فرداً مهمشاً مهزوماً، يتناهبه الجوع والهلاك، منكسراً ومنكفئاً. تضافرت على سحقه قوى باطشة داخلية وخارجية:

(جالساً بظل التماثيل / أقلّم أظافري الوسخة / وأفكر بأمجادهم البادخة / هؤلاء المنتصبون في الساحات / يطلقون قهقهاتهم العالية / على شعب / يطحن أسنانه من الجوع //
- نفس القصيدة - ص7)..

والشاعر كالطائر المغرّد، يود لو ينتقل من ديار إلى ديار وله الفضاءات والسماوات، يملأ صدره بقدر كبير من أنسام الحرية. وحين يجدُ صدره قد ضاق، وتنفسه بات صعباً .. والهواء ما عاد نقياً.. يختار التغرب .. ففي المنافي يغرّد بطلاقة.. وبنبرات أكثر صدقاً:

(أنين القطار يثير شجن الأنفاق / هادراً على سكة الذكريات الطويلة / وأنا مسمّرٌ إلى النافذة بنصف قلب / تاركاً نصفه الآخر على الطاولة //
- العبور إلى المنفى - ديوان تأبط منفى ص15)..

وإذ يسرد أي شاعر اضغاثاً من ذكرياته يختار أوجعها وأشدها إيلاماً. ذلك إن الذكرى الأليمة تظل راكدة في اللاوعي. تقضّ مضاجعنا بين أوان وأوان:

(وطني حزين أكثر مما يجب / وأغنياتي جامحة وشرسة / سأتمدد على أول رصيف أراه في أوروبا / رافعاً ساقي أمام المارة / لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات التي أوصلتني إلى هنا //
- القصيدة نفسها - ص11)..

ومهما توغل الشاعر في عمق الغربة والتقى زماناً جديداً، وأماناً طرياً فإن حب الوطن يبقى هاجسه الأول والأوحد.. وعشقه الأزلي:

(أجلس أمام النافذة / أخيط شارعاً بشارع / وأقول: متى أصلك //
- قصيدة تكوينات –
من ديوانه بالاسم ذاته ص12)..

ويبدو إن حياة المنفى لا تحقق له رغباته وآماله الملونة .. إنها استقرار مؤقت وركون إلى الراحة غير دائم.. إنها بداية الإنطلاق للفعل القابل:

(لكثرة ما جاب منافي العالم / كان يمرُّ منحنياً / كمن يتأبط وطناً //
- القصيدة نفسها - ص15)..

وخلال حياة المنفى يحلو للشاعر أن يحلم.. أن يستقدم شظايا ماضيه الجميل بفاعلية حميمة، ساخنة، طرية، حزينة حد المأساة، يصوغ منها قصائده الملتهبة:

(كم صخرة تحتاج الأرض لتكتم صراخ شهدائها / حين يمرّ على أديمها القتلة //
- ذات القصيدة - ص16)..

وتتعدد في قصيدة "تكوينات" الرؤى والمشاهد .. وينحو الصائغ خلالها منحىً صوفياً خالصاً، مردداً صدى كلمات الحلاج والنفري .. بل يستعير شكاواهم:

(أيها الرب افرشْ دفاترك / وسأفرش أمعائي / وتعال نتحاسب //
- قصيدة حساب - ص18)..

وقد يستعير أيضاً لُمحاً من فلسفة عمر الخيام خلال حواره مع الله، مفضياً إليه ساعة تجلياته شكواه:

(نظر الأعرج إلى السماء / وهتف بغضب / أيها الرب / إذا لم يكن لديك طينٌ كافٍ / فعلام استعجلت في تكويني //
- قصيدة شكوى - ص19)..

وإذا كان كل عباد الله في مشارق الأرض وفي مغاربها بعيشون أوضاعاً إنسانية مستقرة، لهم الوقت والمكان يخرجون ويعودون متى شاءوا فإن الإنسان العربي مكبّل بالكثير من القيود، خاضع للحساب والسؤال وفقاً لمزاجية رجال الحدود والكمارك. إلا إن الصائغ عبّرَ عن هذه الحالة القاتمة الكأداء بلغة الحلم الشفيفة:

(رسم بلاداً على شرشف الطاولة / وملأها بالبيوت المضيئة والجسور والأشجار والقطط، قطع تذكرة وسافر إليها / محملاً بحقائبه وأطفاله / لكن رجال الكمارك أيقظوه عند الحدود //
- قصيدة غياب - ص20)..

هكذا هي الحال في وطننا العربي، تُقطع على المرء أحلامه، وتُعطى له حريته قطرة فقطرة. وحين تطول حياة المنافي ويضمحل الأمل بالعودة تشحب وتذبل صورة الوطن وتبتعد:

(ما بيننا وطن لا يؤوب / سفنٌ كالندوب / على صفحة الماء / كفي وكفك ترتعشان من البرد / هل قلت: إنّا غريبان في المدن الطحلبية، نبحث عن نخلة / لتظلل أحلمنا في اليباس الأخير.. //
- قصيدة أماناً أيها البحر-
من ديوان تحت سماء غريبة ص24)

وإزاء الوضع المأساوي للإنسان يجد الشاعر ويرى إن عالمنا العربي يخضع لثوابت مصنوعة بذكاء يخططها – راهناً ومستقبلاً – دهاقنة السياسة العالمية، فما إن ينجني وضع مريع حتى يشرئب وضع أشد قسوة:

(كلما سقط دكتاتور / من عرش التاريخ المرصع بدموعنا / إلتهبت كفاي بالتصفيق / لكني حالما أعود إلى البيت / واضغط على زر التلفزيون / يندلق دكتاتور آخر //
- قصيدة سذاجة - ص 26)

ولا يكتفي الصائغ بتقديم هذه المعادلة بل يستغرق كذلك في تعظيم وتجسيد التفصيلات الصغيرة… منتقلاً من العام الى الخاص .. من الكل إلى الجزء .. وذي الحروب تطحن الناس، حتى باتت كلُّ عائلة تطولها إرهاصاتهاالثقيلة وذيولها الدموية:

(على قوس الصباح/ تنشر المرأة غسيل أيامها / تتلمّسُ ثيابه المبقعة بغبار الحروب / فجأة تختلسُ النظرات لسطح جارتها/ وهي تنشر ثيابها السود //
- قصيدة: حبل غسيل - ص 30)

هكذا باتت حياة الناس في هذه الأوطان: أمان مغيّب، أمراض متفشية، قمع ظاهر ومستور، تصفيات جسدية، أرامل ويتامى، يحصدهم الموت.. وقبالة هذه الصورة السوداوية يغشى اليأسُ الشاعرَ يأساً لا فكاك منه. فكلّ أسلحته وعدته، وأسلحة كل الشعراء بلا جدوى وكل ندائاتهم وأغنياتهم محبطة. لا أحد يستمع إليهم.. وأنهار الدم تجري، والأرواح تزهق، وماكنة الحروب اللعينة تطحن الأخضر واليابس:

(ضعه فوق السندان / واطرقه بلا رحمة / اطرقه يا حداد / اطرقه كي يتمدد / هذا القلب / ويصبح جسراً يوصلني للنسيان //
- قصيدة "محاولة" –
من ديوان غيمة الصمغ ص 33)..

ويتذكر الصائغ قصة أمرئ القيس عندما قتل أبوه فما من أحدٍ يستعين به سوى قيصر .. وما عرف أن لدى هذا يكمن هلاكه أيضاً .. إلا أنّ شاعرنا يورد هذا الحدث التأريخي منطلقاً من إحساس بالغربة والوحدة وانقطاع الصلات مع الأهل مغيرّاً سرد الحكاية باتجاه مغاير:

(صحتُ يا صاحبي / في الضياع الكبير / أعنّي على غربتي / بين نفسي وبيني / بلادك ضيعتها وإنتهيت / وها أنتَ مثلي / أضعتَ الدليل أم باب روما / رأيت الجنود يسدون كل المسارب دون الحدود / فآخيتُ بين الرمال وقلبي / وقلتُ: هو الدربُ أبعد مما نظن، الى قيصر //..
- قصيدة بكائية لامرئ القيس - في ص 34)

وإذا انطفأ أوار الحرب هنا وهناك. فأنها تشتعل ثانية في صقع آخر. فتجار السلاح، وأصحاب القرار لا بد أن يجدوا ساحة أخرى لصرف بضاعة الموت. وكل الحروب لا تخلف سوى مزيد من الرماد والموتى والدمار وجيش من الأيامى واليتامى:

(غداً، حينما تنتهي الحربُ مرغمةً، مَنْ يعيد لأرملة الحرب زهرتها اليانعة .. // قصيدة غيمة الصمغ ص 35) .. ولأن كلّ حرب على وجه الأرض شرسة، عدوانية خارجة عن إطار العدل والتسامح لا تفهم الثوابت الإنسانية. فهي تأكل شباب الأوطان. تقطع الحرث والنسل: (اقلبي الصفحة الآن/ لا وقت / إن القنابل تقتسمُ الأصدقاء //
- قصيدة بريد القنابل- ص 44).

والصائغ إن ينسَ كل شيء فلن ينسى حال الشعر والشعراء. حيثُ استحال جلهّم أبواقاً لتمجيد التماثيل الصدئة الملطخة أياديها بالدم والجريمة .. وكرسوا إبداعهم لصقل وتلميع هذه التماثيل:

(دخل الشعراء الرسميون / إلى القاعة / واكتظ الحفل / لكن الشعر غريباً ظل أمام الباب / بملابسه الرثة يمنعه البواب //
- قصيدة أمسية شعرية –
من ديوان سماء في خوذة ص 45)

لكن قبالة شاعر المناسبات الذي تمتلئ جيوبه وحقائبه بالعملات الصعبة شاعراً آخر يعيش في دركات الفقر. وقد يفضي به تشرده وبؤسه الى الجنون وهو الذي لا يملك من متاع الدنيا سوى إبداعه المتميز:

(أوصلتني القصيدة للفقر / هل أوصلتك القصيدة للفقر !؟ / هل أسلمتك إلى حارس السجن !؟ أو للتشرد أو للجنون!؟ //
- قصيدة إلى شاعر برجوازي - ص 47)

وتنحو بعض قصائد الصائغ منحىً قصصياً تعبر بكثافة ممتلئة رواءً عن لحظة عابرة مشحونة بدلالات رمزية ايحائية:

(يهبط الغصن ثانية ثم يصعد / والبلبل المتأرجح منشغلٌ بالغناء / طلقة / جثة يقف الغصن مرتجفاً / لحظةً / ثم يسكن / تصمتُ في الغاب كل البلابل //
- قصيدة "طلقة" من ديوان: العصافير لا تحب الرصاص- ص 48)..

ويرى الصائغ: أن الشاعر الأصيل الذي يحترم إبداعه الفني لا ينبغي له أن ينساق وراء المكاسب الصغيرة ويضيع صوت حنجرته في الضجيج:

( في ضجيح الطبول / لك أن تنتحي جانباً / وتؤجل ما ستقول /
- قصيدة حكمة مؤقتة - ص 49)

وحينما نغوص في قصائد شاعرنا نكتشف أنه تناول كل مناحي الحياة ومعطياتها. وتغور في تفصيلاتها الصغيرة. ولم تفته حتى الحالات الإنسانية الدقيقة التي لاتسترعي الانتباه كومضة حب عابرة أو لفتة غير مقصودة:

(دائماً، عند كشك المحطات / أبتاع تذكرتين / دائماً كنت أرنو لمقعدها الفارغ / للحكايا التي كنت أعددتها للطريق الطويل / دائماً / كنت أجلس ملتصقاً قرب نافذة / في القطار المسافر، وحدي / وأترك فوق رصيف المحطة / تذكرة ذابلة // - قصيدة: وحدة - ص 49).

ومثلها هذه اللوحة الأخاذة التي تشكل لقطة حية من مشاهد الحياة الكبيرة، تنبض بالأحساس الصادق:

( قلم / مرَّ على ورقة / مرَّ وما سلّمَ / ما أحنى لمفاتنها عنقة / لم يعرف ما بين حناياها القلقة / من شوق أخاذ للحب/ ولم تفهم نزقه / كغريبين معاً/ مرّا / وافترقا / رجلاً يتسكع ، وامرأة محترقة //
- قصيدة: مصادفة - ص 52)..

والهاجس الإنساني – الذاتي المتوحد ، الذي لا بد منه لتأكيد نبرات الإحساس، وتعميق كينونة الفرد – يطفو أحياناً. ويتحرك فيشف عن أرق المشاعر ويشي باتصال وثيق بالحياة على أنه حيٌّ تومضُ جنباته بعاطفة تجاه النفس والآخرين:

( إذا ما اتكأت على شرفات القمر / ونامت بلبل الضفائر إحدى نجومي / فلا تقلقيها / إنها آهة / كسرت باب قلبي / وفرت إليك / لتشكي همومي //
- قصيدة "شكوى" من ديوان انتظريني تحت نصب الحرية - ص 58)

( كنتُ أفضّل لو كانت العبارة: لتشكو همومي.. والفعل شكا أصل ألفه واو)
ختاماً: كنت أحاول إعطاء انطباع سريع عن ديوان (صراخ بحجم وطن) الذي يضم مختارات من ثمانية دواوين.. أغلب الظن أني لمْ أفِ قصائده حقها، ذلك أمرٌ بالغ الصعوبة كون الصائغ أولاً ليس بالشاعر السهل.. ثم، أن من الجنون الكلام على بضعة دواوين دفعة واحدة.. وأود لو اسأل الشاعر شاعرنا: كيف لم يحترق حتى الآن وعالمه الأعمق ينطوي على هذا الكم من الحرائق والبراكين؟! كل قصيدة شواظ من نار تتلظى في قرارته.. يبدو أن ما يشفع للمبدع – وبخاصة الشاعر – أنه يزفر كل هذا اللظى والدخان عبر الكتابة. لذلك لا يحترق، ولكنه يحرق أعداءه ويضرم النار في العروش القديمة وأوكار الظلم.. ليعود العالم فتياً طرياً حانياً يضم البشر جميعاً تحت جناح الرحمة والسلام .. وبدا لي من خلال الديوان، أن شاعرنا لم يكُ مجرد راءٍ يرى الى الأشياء والأوضاع، يسجل بلا مبالات انطباعاته.. بل كان دائماً داخل أتون المعاناة فاعلاً ومساهماً ومحرضاً وكان لتجربة الحرب الطويلة دور في بلورة أدواته الإبداعية.. إن المآسي الكبيرة تعمق أحاسيس الشعراء، تمنحهم خبرة ثرة وخيالات متنوعة.. والفرق واضح وشاسع بين من يعيش في الأتون، داخل الدائرة وبين من يعتمد على السماع ولا يلمس الجراح.. وتكاد قصائد الصائغ تستحيل، أحياناً، إلى أمثال موجزة أو أغنيات مهمومة تترامى إلينا، إلى أسماعنا، هادئة صادحة دونما صراخ أو صخب .. والنبرة الشاعرية تظل عالقة بالقصائد برغم نثرية معظمها.
وإذا كانت مهمة الشعراء زحزحة بنية العالم اللامتوازنة نحو التوازن لخدمة الأنسان في كل زمان‎ فأن عدنان الصائغ كان وفياً حد التضحية. وأسهم بفاعليةٍ وإيجابيةٍ للوقوف إلى جانب الحق.. وكل شعره مكرس وسيلة وغاية لرفع الظلم والحيف عن كواهلنا.. نحن أبناء هذا الكوكب الذي في وسعه أن يسعد الجميع، ويشبعهم.. أتمنى لو يُستجاب إلى دعوات الصائغ لصياغة عالم جديد قائم على الحق والعدل .. عندئذ يمكن للطيور المهاجرة العودُ إلى أوطانها. وينطفئ صوتُ الظلم الى الأبد.


هذيانات جمجمة (عدنان الصائغ الزرقاء)

عبد الرزاق الربيعي
- صنعاء -

"نشيد أوروك، اختصار لكل ما مر على هذه الأرض من حروب وحضارات وطغاة، يمتزج فيه التاريخ والأساطير والفلسفات والسحر والسير والتراث الفكري الإنساني والعقائد والجنس والأشخاص والأحداث ليشكل هذياناً مسعوراً أقرب إلى صرخة احتجاج أمام ما يحدث ويرسم بـ "عبود" صورتنا جميعاً، صورة الإنسان العربي المكدود والمحدود بين اللقمة والطلقة، فكان هذا النشيد أطول قصيدة كُتبت في تأريخ الشعر العربي على الإطلاق، وقد أحجمت عن نشره حتى الآن العديد من دور النشر في عدة عواصم عربية لجرأته وسبب الكثير من المتاعب لمؤلفه فتنقل من بلد إلى بلد وطاردته الأنظمة والأحزاب والأصوليون والسلفيون".
هكذا قدمت دار "أمواج" ـ بيروت، قصيدة الشاعر عدنان الصائغ "نشيد أوروك" الطويلة والمدورة التي تمتد على مساحة "232" صفحة من القطع المتوسط. للهوامش منها نصيب "33" صفحة بالحرف الصغير، أكلت من عمر الشاعر "12" عاما أمضاها في كتاباتها في أمكنة مختلفة وظروف مختلفة. ( بدأ الصائغ بكتابتها علم 1984م وانتهى في منتصف 1996م)، ليضيف تجربة مهمة لسجله الشعري الذي بدأه عام 1984م بمجموعته "انتظريني تحت نصب الحرية" وتلاها بالدواوين "أغنيات على جسر الكوفة"، "العصافير لا تحب الرصاص"، "سماء في خوذة"، "مرايا لشعرها الطويل"، "غيمة الصمغ"، "تحت سماء غريبة" وبعض هذه الدواوين أُعيد طباعته في بيروت ودمشق والقاهرة.
هذه الغزارة في النتاج الشعري قياساً إلى عمره (ولد عام 1955م) وهذا الإصرار على المضي بالمغامرة إلى أقصاها يدلان على موهبة حقيقية يمتلكها الشاعر الذي وضع الكلمة في مقدمة جدول عمره الذي أمضاه متنقلاً بين الكوفة وبغداد والسليمانية وكركوك وعمان وصنعاء وبيروت، إضافة إلى مدن وعواصم أخرى تركت أثرها في روحه الشاعرة ووجدانه.
"عدنان الصائغ شاعر خطير" - كما يقول الدكتور عبد الرضا علي، على الغلاف الأخير- مخلصا لتجربته وحريصا على إنمائها والصعود بها إلى آفاق جديدة وهو أن وضع قلمه على الطاولة وأعاد رأسه إلى الوراء في إغفاءة، فأن الكثيرين يسهرون في البارات والنوادي يتحدثون ويختلفون في شعره، بين من يراه محافظاً يكتب على "التفعيلة" وبين من يتحمس لتجربته ويعتبره شاعراً مجدداً في الصور واللغة والبناء الفني للقصيدة. وهو لهذا يثير الكثير من الجدل بين الأوساط الثقافية ورغم هذا لا يختلف اثنان على موهبته الصارخة وقدرته الرائعة على التقاط أدق التفاصيل الحياتية لتتحول بين أصابعه إلى شعر بالغ العذوبة عبر غنائية تميز شعره بها.
وبمرور السنوات وضع "الصائغ" نفسه أمام تحدٍ ليكتب نصاً "تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحداث والاستذكارات والتواريخ والأساطير والسحر والعقائد والفلسفات والتراث الفكري الإنساني" حيث تذوب في تكوين النص وتلافيفه، ولذلك فليس من الغريب أن يمضي الشاعر "12" عاماً في كتابته، وهي من أقسى السنوات التي مرت بها المنطقة حيث الحروب والجوع والموت والتشرد، لذا جاءت قصيدته لتكون سجلاً حافلاً لكل هذه التجارب المؤلمة التي مر بها الشاعر وعاشها أبناء جيله الثمانيني.
عندما تسلمتُ من البريد نسختي من قصيدة الشاعر عدنان الصائغ الطويلة "هذيانات داخل جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها" وهو العنوان الجانبي لـ "نشيد أوروك" و"أوروك" هو الأسم السومري الذي كان يطلقه السومريون على مدينة الوركاء في جنوب العراق والتي حكمها من قبل الملك جلجامش وهناك رأي يقول أن تسمية "العراق" جاءت اشتقاقاً من هذه التسمية من باب تسمية الكل بأسم الجزء، أقول تذكرتُ حماسة صديقي الشاعر عندما بدأ العمل بقصيدته في عام 1984، وكان يحمل العنوان الثاني، ففي إجازاته الشهرية الدورية حيث كنا نقطع الطريق من "حي البنوك" إلى "الباب المعظم" ومن ثم إلى "علاوي الحلة" مشياً، يقرأ لي فصولاً مما كتب، ويحدثني عن هذا المشروع الطويل الذي ينزف فيه ذاكرته بكل تفاصيلها من أشخاص وأماكن وقراءات على شكل تداعيات يستسلم لها جندي في مواجهة رصاصة القناص في الساتر الأمامي..
وما أن اطلعت على الصفحات الأولى من النص، قلت له: أن هذا النص يحمل مسحة درامية ويصلح للعرض المسرحي وبالفعل انتبه إلى هذه الملاحظة الفنان المخرج غانم حميد بعد أن أطلع على أوراق الصائغ ولمس هذه الناحية فقدم منها عرضاً مسرحيا أسماه "هذيان الذاكرة المر" كان له صداه وتلاه بعرض ثان بعد أعوام بعنوان "الذي ظل في هذيانه يقظاً". أحدثا دوياً في الأوساط الفنية في العراق.
لكن الصائغ لم ينشر النص، ولم يفكر بنشره في العراق. وكان ينظر إليه كمشروع قابل للتطوير ولا يقف عند حد.
وبعد "حرب الخليج" في 1991م اختفى الصائغ فجأة بعد أن زارني في الليلة الثانية للقصف الجوي ودعاني للذهاب إلى منزله في الكوفة، لكنني فضلت البقاء في بغداد شاكراً دعوته، فودعني ليلتحق بوحدته العسكرية جندياً في كركوك، وبعد انتهاء الحرب تفقدنا أصدقاءنا، وكان عدنان في المقدمة.. عثرنا على قصاصة تركها في استعلامات جريدة الجمهورية باسم الشاعر جواد الحطاب الذي قرأ أسمه في الصحيفة فقصد الجريدة ولم يكن الحطاب موجوداً حينها، فترك القصاصة التي كتب فيها يقول: "قلقٌ عليكم.. قلقٌ على ما تبقى من الحطام"..
لكنه ظل مختفياً وكنت أتردد على شقته الكائنة في حي الأمانة على "قناة الجيش" فأرى الستائر مغلقة.. فأعود متحسراً.. وبعد أكثر من "40" يوماً قطعتُ فيها الأمل بالعثور عليه دقَّ بابي فجأة وعرفت أنه كان طوال هذه المدة في شقته يبكي ما حصل ويواصل كتابة "الهذيانات" ولاحظت أنه أضاف شخصية "عبود" ليأخذ النص بعداً درامياً آخر يضاف إلى المسحة الدرامية التي بنى عليها "غانم حميد" مسرحيته المعروفة، وبعد أشهر قليلة قرر عدنان مغادرة بغداد مع عائلته وكان قراراً فيه الكثير من المغامرة "الشعرية" ولكن عائلته الصغيرة تعودت على شظف العيش مع الأب الشاعر الذي لا يهدأ أبداً، ووعدني بالمراسلة حال استقراره هناك وسافر عدنان إلى "عمان".. وانقطعت أخباره تماماً.. وبعد أيام فوجئت به يدق باب بيتنا.. متى عدت من "عمان"؟ لماذا؟ كيف؟ لم يجبني وأنما أراني الجزء الجديد من "الهذيانات" والذي كان يحمل عنوان "عمان" ولكن متى كتبت هذا؟ ولم أُفاجأ عندما أخبرني أنه عاد من "عمان" بعد يوم ونصف من مغادرته باب بيته.. سألته: ولماذا عدت!؟ أجابني بمرارة وانكسار: "المرؤ حيث يضع نفسه" كما قال عمرو بن العاص وعرفت أن "البعض" ممن كان يعتمد عليهم قد خذلوه، فعاد مسرعاً إلى شقته المؤجرة ليغلق الباب على نفسه ويواصل كتابة قصيدته الطويلة.
وبعد عامين غادر بغداد ثانية إثر تلقيه دعوة للمشاركة في مهرجان "جرش" وأقام في عمان وعندما التحقت به بعد فترة قصيرة وجدته عاكفاً على مواصلة كتابة قصيدته أيضاً. وكان يمضي ساعات طويلة في مكتبة "مؤسسة شومان" يقرأ كتب التاريخ والفلسفة والشعر والفكر ويعود مساءً ليواصل النشيد، وبعد أن أغلقت أبواب الصحيفة "آخر خبر" التي كان يعمل بها، تفرغ تماماً لكتابة قصيدته معرضاً نفسه وعائلته للجوع والعوز الشديد. وذات يوم تلقيت رسالة منه عندما استقر بي الحال في "صنعاء" بدأها بـقوله: (اليوم أكملت "نشيد أوروك" بشكل نهائي.. تصور بعد حفر وكفاح طيلة سنوات أكملت القصيدة وأخذت أبكي.. تصور معاناة سنين من حياتنا في هذه الوريقات.. طيلة تلك الفترة انقطعتُ نهائياً عن العالم، وأنت تعرف عندما أنقطع وأغلق عليَّ الباب، وجدت أن ثمة أشياء كثيرة كنت مؤجلها وأولها الرسائل وأول الرسائل لك هذه، صدقني الرسالة الأولى التي أكتبها بعد انقطاع عن الناس والعالم لمدة اشهر) وكان تأريخ الرسالة في 27/11/1995.
ولم تطلْ فرحته كثيراً فبعد أن قدمها لدائرة الرقابة الاردنية حذفت منها "45" صفحة لذا قرر حمل مخطوطة قصيدته وذهب إلى دمشق ليستقر بعدها في بيروت التي هي حلم كل المثقفين العرب. وفي "بيروت" استمرت معاناة الشاعر الذي كتب لي في 19/5/1996م يقول متسائلاً: (ماذا لو نُشر "نشيد اوروك"...؟ للآن أكثر من "15" دار نشر في عدة عواصم عربية ومنها بيروت أحجمت عن طبع النشيد بحجة أنها تمس الثالوث العربي المحرم. ولا أدري ماذا افعل؟) وهو يقصد بالثالوث العربي المحرم طبعاً "السياسة والدين والجنس".
وظلت القصيدة تشكل عبئاً على صاحبها، وذات يوم كتب لي حزيناً في 17/7/1996م ومن بيروت حيث يقيم: ("نشيد أوروك" تأخر قليلاً بسبب الهجمة التي أتعرض لها الآن.. والمشكلة أن أحداً لم يقرأه، المهم في الأمر أن صاحب المطبعة خاف على مطبعته وفلوسه، وتركني للريح إلا أن صاحب دار نشر مهمة وجريئة يطبعها الآن سراً، ربما ستصدر بعد أيام أو أسابيع قليلة... يبدو أن المشاكل ستظل تلاحقني حتى القبر).
ولهذا لم أفاجأ عندما تعرض الصائغ لحملة سوداء من قبل البعض عندما حصل على جائزته الشعرية الأخيرة مدفوعين بالحقد والحسد ومغرمين بخلط الأوراق، لكن صوت الشاعر يبقى أعلى من كل الضجيج...
وفي 15/9/1996م إي بعد شهرين من رسالته تلك وقّع لي علي نسختي من "نشيد أوروك" كاتباً: ( إنه نشيدك الذي حملته معي طيلة 12عاماً ذكرى خرابنا الذي.....).
وبعد أن طُبعت القصيدة وأصبحت بين يدي القاريء فأن السؤال الذي سيدور بذهنه هو: هل أراد "الصائغ" أن يقدم لنا عبر "نشيد أوروك" ملحمة؟
وابتداءً من الصفحة الأولى يحاول الشاعر على ايجاد اجابة مناسبة عندما كتب تحت العنوان "قصيدة طويلة" ليخلص نصه من شروط الأعمال الملحمية التي يقف في مقدمتها البناء التصاعدي ذو الشخوص والموضوعة الواحدة، بينما تجيء قصيدة الصائغ لتلقي حمولتها الشعرية المثقلة بالإشارات التاريخية والإستفادات من الموروث الشعبي والأساطير والحكايات الشعبية وحتى الرسائل الشخصية، ولم يتردد حتى بأن يستفيد من جملة وجدها في مذكرات ولده "مثنى" البالغ من العمر 8 سنوات.
إن البناء الفني للقصيدة يعتمد على ثيمة نفسية تستند على الهذيان ولذا فلا يوجد تصاعد، فالبنية التي تحكم البناء الفني للنص بنية قطع إذ نجد تداخلاً في الأزمنة والأمكنة التي يجمعها زمن الانكسار.. معتمداً في بنائها الفني على ثيمة نفسية تتكيء على التداعي لجندي في الساتر الأمامي يقف في مواجهة رصاصة القناص فيتذكر طفولته والأماكن التي مر بها والأشخاص وقراءاته، على شكل هذيان.

"أحمل رأسي على طبق وأطواف بعصر المماليك
أغسل بالدموع شباك رأس الحسين ـ بمصر ـ فيلتفُ حولي البهاليل والمقعدون،
الصبيات يحملن أطباق آس يطفن أمام الضريح
يدق الدراويش فوق الصنوج
تلاقفها آلـ...
أصرخ: يا أيها الواقفون على الحد في حرب صفين،
هذي الخواتم مغشوشةٌ
والحكومات مغشوشةٌ ...
فأنزلوا عن مطايا العنادِ
وسيروا حفاةً بهذي الوهادِ،
لصوت الجهادِ
فقد نهبتنا خيولُ الغزاة،
وأنتم تفلون هذي المصاحف عن آية لعلي وأخرى للعثمان
ويقولون شورى
فأفتح سحاب بنطالي الرث
ثم أبول على نصف تأريخنا...
أي شورى وتحت السقيفة تلمع أسيافهم حول أعناقنا
هل تركوا لك غير الشتات،
ورمل الفلاة،
وهذي الحروب تجر الحروب إلى آخر الدهر".

وأحياناً يسرف في الهذيان فيحيل القارئ إلى مخطوطات وكتب السحر العربية وكتاب الجفر وشمس المعارف وإلى منبع أصول الحكمة وبغية المشتاق في علم الأوفاق للبوني والسر المظروف في علم بسط الحروف للخلوتي الحنفي والدرة البهية في جوامع الأسرار الروحانية للشيخ الطندتائي والسحر الأسود لبرنوخ المغربي، ليخرج لنا بمقطع هو أقرب إلى الطلاسم حيث تتداخل الكلمات والحروف والأرقام:

"طلسوم ديوم ديموم، ردوا الغريب إلى أهله، قال ساحرُ هطمهطلقيائيل: اخفق ثلاث بويضات ديك بزيت مرارة ثور وعود من الزعفران وبخرْ به ليلة السبت جسمك باسمك، يافور يا روث يا شوش يا موش يا شيط يا ميط ياخيم آخيم شمعوط شبشوط اش اش اشياش ... كشكش كشليخ ك ك س س ك ك*زز ب ب هـ هـ هـ ااااا ء ء ء = ص ص ب ح ق ا ل س م ا و ا ت و ا ل ل .... أخرجت رأسي بين السطور فأبصرتُ وقع بساطيرهم تتقدم في نسق صاعدٍ صاح ضابط إيقاعهم: إلى اليسارررررررر... دررررررر فأستداروا اليَّ".

ووسط هذه الطلاسم تلمع مهارة الشاعر عندما يقول:

"تدلك البحر في رمل كفيك كي يلد الزبد. الفتيات تجردهن على قنفات المقاهي... مطر ناعم في الحديقة تسحب معطفها وتظللني فيشبُّ بأوردتي عطرها صاخباً أتنفسها، وهي تخفق بين الممرات تعبر زهر الأناناس والشرطة المحتمين من القطرات بسقف المحطة والنظرات، انزلقنا).

وقد ينجرف إلى السرد خصوصاً في المقاطع التي يتحدث فيها عن "عبود" الشخصية التي تظهر وتختفي من بين سطور القصيدة... أنه البطل الحاضر... الغائب:

"يعبرني دافعاً عمره مثلما تُدفع العربات ويهمس لي خائفاً:
ـ أمررتَ على بيت عبود هذا الصباح؟ لقد اعتقلوا..
يستدير بعينيه حولي ويمضي يولولُ "شعر بنات وين أولى وين أبات" أفقت على صوت عبود يبكي بآخرة الليل..
لم يبق في البار غيري وغيرك".

ومن الواضح استفادة الشاعر من ترديدة لبائعي حلوى شعر البنات في الحارات الشعبية وقد أوردها بالعامية العراقية، ومن هذا المقطع الذي ينحدر فيه الشعر إلى نثرية يحكمها نسق السرد النثري نلاحظ كيف يرسم الشاعر في أذهاننا ملامح الشخصية بضربات تأتي على شكل "فلاشات" ومن تجميع هذه "الفلاشات" يسلط إضاءة قوية على "عبود" الذي هو رمز للإنسان العربي المسلوب الإرادة والذي يحمل مرارة هذا الزمن في قلبه الفسيح لكنه يعاند ويدافع عن حريته ضد عوامل استلابه وقهره.
وبعد قراءتي للقصيدة عجبتُ أشد العجب لموقف الأصوليين من هذه القصيدة فكيف فسروها بأنها تهاجم الدين؟ ويبدو أن احالاته الكثيرة إلى الفرق الإسلامية وأنهار الدم في الحقب التي شهدت انهيار الدولة الإسلامية في عهودها المتأخرة هي التي كانت وراء استفزاز مشاعرهم، أما الجنس فلا يوجد في القصيدة الجنس الذي نراه في روايات هنري ميلر مثلاَ.. إنها إشارات بسيطة ومغامرات إنسان يجد في جسد المرأة ملاذاً من أزماته.
إن "نشيد أوروك" تجربة مهمة تؤشر لشاعر مهم عاش تجربة الحرب والتشرد وكتب قصيدته وسط الميدان لذا جاءت آهاته مليئة بالفجيعة والألم والصدق. إنها قصيدة تستحق الدراسة المتأنية لا العرض السريع..


عدنان الصائغ يسبح وينشد وهو على مركب اللغة والبحر

صباح الخراط زوين
- بيروت -

"النتاج الذي كان كلمة الآلهة، كلمة غياب الآلهة، الذي كان
الكلمة الصحيحة، المتزنة، كلمة الإنسان، ثم كلمة الإنسان في
تنوعه واختلافه، ثم كلمة الإنسان المغضوب عليه، الإنسان الذي
فقد الكلمة، ثم كلمة ما لا يتكلم في الإنسان، كلمة السر، اليأس
أو النشوة، ما الذي يبقى له أن يقول، ما الذي توارى دائماً عن لغته
(لغة النتاج)؟ هو ذاته (النتاج)".

موريس بلانشو


في "نشيد أوروك"، وهو كما يشير الناشر، "أطول قصيدة كتبت في تاريخ الشعر العربي على الإطلاق"، يجعل الشاعر من الكتابة مشقة لا مفر منها، وكأنها حتمية "إلهية" لا يستطيع الخلاص منها لا من خارجها ولا من داخلها. ما أن يفتح القاريء كتاب عدنان الصائغ حتى يصاب باللغة وبهذيانها أيضاً. إنه (الشاعر) كالتائه طوعاً في متاهة مجموعته، وهي ملحمة شبه لانهائية، أنه كالهائم بين الأحرف والأسطر المكدسة والمتلاصقة، المتفاقمة والفياضة، ملحمة حيث تزاوجت الأساطير الاغريقية بتلك البابلية وحيث اختلطت الأحداث بالايروسية، وبهذا شكل الصائغ قصيدة فريدة في جمعها المواد المختلفة وانصياعها للوتيرة الواحدة، القاتلة، الخانقة، وتيرة الكتابة التي تبناها الشاعر بجرأة أو بخوف. أقول "بجرأة" إذ على الشاعر الذي يخوض مشروعاً كهذا أن يتحصن بلوازم العمل وما لوازمه أولاً وآخراً سوى اللغة، تلك الأداة الطيعة والمتمردة في آن واحد. إذن على الشاعر في جرأته أن يكون محوطاً "بكلية" اللغة، وأريد بكلية كل أبواب اللغة ونوافذها وسراديبها ودهاليزها وأسرارها (بكثير من الريبة) وعتمتها وضوئها. وأقول "بخوف" لأن اللغة لا تستطيع إلا أن تكون متناقضة، أنها الاختلاف والائتلاف معاً (مع الشاعر ومع ذاتها) أنها اليأس والنشوة (بلانشو) أنها الغائبة والحاضرة أنها الحائط المنيع و"رغام الهوام" (عدنان الصائغ)، أنها المتراكمة وأنها المتلاشية، أنها أداة الشاعر مرة وهو أداتها مرة أخرى، أنها المعنى والعدم، هي صنعة الشاعر وهي قاتلته في آن واحد. إن النشيد الذي قام ببنائه الصائغ بمثابة هذه المجازفة، هذا الانتحار، حيث فعل الموت وفعل الحياة، حيث لا بدء ولا نهاية. كان على الشاعر في هذا النتاج أن يواجه حياته وموته، كان عليه أن يلاشي اللغة وأن يحييها بكل فروقها. وهذه الازدواجية المتناقضة جعلت الشاعر يدور حول محور الكتابة، محورها فقط ولو بدا لوهلة ومن خلال الصفحات الطويلة والكثيرة أنه توزع عبر الموضوعات. بل الموضوعات التي امتزجت كانت تدور حول قطب واحد، وهو السؤال حول اللغة وكأن الموت والحب هما الوجه للفعل الكتابي. لم يتشعب عدنان الصائغ مطلقاً رغم مظهر التشعب الذي اتخذته ملحمته بل مشروعه يصب في اهتمام واحد: الكيف واللماذا في الكتابة. أو لنقل كيف القبض على اللغة. أليس نشيد الصائغ بذاته تعبيراً كاملاً عن النزاع القائم بين الشاعر وقصيدته؟ لم يكن "عبود" ومصيره، لم تكن الأحداث والسلطات وسياساتها، كذلك الايروسيات والأساطير والتاريخ واليوميات وكل هذا الجنون الكتابي إلا وجه القصيدة في توحدها وفي مراياها. إذ حين يبدأ مشروع الكتابة تستحيل كل العناصر أدوات صالحة بين يدي الشاعر. عدنان الصائغ وصف أكثر من مأساة شعب وذهب إلى ابعد من الايديولوجيا ونقب أعمق في التراكيب اللغوية التي يجب أن يحدثها كل شاعر حقيقي. عدنان الصائغ أراد أن يكمش اللغة المتوارية أبداً، الهاوية منه دائماً، هذه اللغة التي تحولت من نسيج طويل إلى شباك أوقعت فيها الشاعر الذي أكثر من الكلام بين القوسين كما لم يترك بين الكلام والآخر فسحة استراحة أو استعادة الأنفاس. كأنه الهاذي الذي لا خلاص له، واللاهث بدون رحمة وراء كلمة النهاية والنهاية لا تلوح: "أكنس باحة بيتي من الحرب والفضلات، أقول انتظرتك حتى تبرعم في فرجة الباب غصن التلهف وامتد بين عيوني وبين غيابك غاباً كثيفاً، لماذا أضعتك سيدتي في زحام القصيدة".
بل الشاعر أضاف "الكلمة" الأخيرة، تلك التي يبحث عنها وصار في بحثه يبتعد عن الأول وعن الأخير في الوقت ذاته، وها هو يغرق في "الغاب الكثيف" الذي يصنعه لنفسه، الذي أقامه بينه وبينها (فالرمز هنا جائز وغير دقيق إذ المقصود هنا هو القصيدة) إلا أن اللغة تكثفت وتشعبت حتى ضاع فيها ورآها كالغاب، وبعيداً عن الصدفة تماماً كان للشاعر أن يتفوه بهذا الكلام عند نهاية الكتاب، وليس في محطة أخرى، وذلك لأنه عند هذه النهاية فقط، وكان عليه أن يحسمها، تطلع إلى الوراء، إلى كل الركام الذي خلفه خلال جنونه وفيضه، وكان له أن يتأمل بأسف وبحزن البناء الهائل فيدرك أن اللغة لعنه ولذة, اللذة في الحفر فيها إلى ما لا نهاية واللعنة هي الوقوع في متاهاتها.
هذا ما أدركه في تجربته عدنان الصائغ. ويعلم أخيراً أن الذهاب إليها، إلى ينابيعها، أنها هو كمن يطلب الانكسار والتشظي: "غادرت نحو الحقول إلى لفتي هائماً"...، "كالشظايا تناثرتُ... لحمي الذي مضغته القصائد..."، إن "نشيد أوروك" يتعب ويمتع، وعدنان الصائغ برهن قدرة اللغة الهائلة في صنع ذاتها وإلغاء ذاتها، كما برهن قدرة اللغة الهائلة في صنع ذاتها وإلغاء ذاتها، كما برهن قدرة الشاعر في خلق اللغة إلى ما لا نهاية، حتى التوحد بها، حتى عدم رؤيتها، حتى تصير اللغة فعل تصوف وفعل حب "بحبك أخفاني الحبُّ عني فكيف أحب.

عدنان الصائغ في "نشيد اوروك" – "دار أمواج"، من القطع الوسط، والشاعر حائز جائزة هيلمان – هاميت.


عدنان الصائغ في "نشيد اوروك":

إمعان في العذاب النفسي والجسدي

لامع الحر
- بيروت -


هل ما زال الشعر العراقي ينهل من المعين الكربلائي؟
وهل كُتب على الشاعر العراقي أن يظل العصر كله أسير صرخات الشجا والحزن والبكاء الذي يصل غالباً إلى حد العويل؟
هذا الكلام لا يعني أن الشاعر العربي في أقصى حالات السعادة، وجل ما يشكو منه هو البحث عن المزيد من الرفاهية. بل الحقيقة الساطعة تقول "كلنا في الهمّ شرق". والشاعر العربي، إلى أي قطر انتمى يعيش حالة من الحزن طاغية تجعله لا يرى جيداً ما في العالم من جمالات ومسرات، فينسحب إلى داخل ذاته ليبثها شكواه وألمه خوفاً من تلك الجدران التي تصغي وتسجل مسودات أفكارنا وهواجسنا جيداً. لكن العراقي، بشكل خاص، هو الأكثر انصهاراً في المأساة، لربما كان الشاعر الآخر طارئاً في تعاطيه مع سيمفونية الحزن، إلا أن شاعر بلاد ما بين النهرين شاعر متأصل، متجذر في بوتقة القهر، لكأنه الوجه الآخر لتلابيب الشجا وتفصيلاته الكثيرة.
عدنان الصائغ شاعر "نشيد اوروك" الصادر عن دار أمواج هو من هذه الناحية شاعر عراقي أولاً وأخيراً، لأنه حوّل حزنه الداخلي والذي قد يكون جزءاً لا يتجزأ من الحزن العام إلى نشيد يسجّل ويدوّن بإيحاء شعري، ما اعترى هذا العالم المر الذي نعيشه من حروب كسرت حلاوة الحياة ونسغه الجميل، وقضت على ما فيها من حضارات، تاركة للطغاة وحدهم أن يسرحوا ويمرحوا ويخرّبوا ويقتلوا ويهدموا ويسفكوا، كأن هناك من أوكلهم بإيصال البشرية ليس إلى الدرك الخطر فحسب، بل إلى نهاياتها المحتومة.
عدنان الصائغ شاعر عراقي، وهذا لا يعني انه يقتحم عالم الحزن من الخارج، بل من داخله، من صلبه، من بدء تكوينه الى ما هو عليه الآن، لأنه في هذا المضمار يحمل إرثاً فوق ظهره، وفي ذاكرته، وفي وجدانه، وفي شعره، يعود إلى مئات من السنين خلت، ولهذا نلحظ الحزن في لمحات وجهه قبل أن نلحظها في عظمة لسانه، انه الشاعر الذي يتنفس الألم كأنه يتنفس رمق الحياة نفسه:

"أكنت أخاف وضوح النهار ليكشف لي وجه قاتلنا في المرايا ينظف أسنانه من بقاياي، لكن روحي مهيأة للطعان، لأذهب أبعد في كرنفال المراثي، يجيء الصدى مطراً نادماً في الفيافي: أأترك في الري ملكاً يسيل عليه لعاب الملوك وأرجع مختضاً بدماء ابن عمي؟
كان دم ديموزي .. الحسين .. المسيح
... يسير مع النهر والنخل والريح
صحت برمل الجزيرة: أين الفرات؟
فجاء الصدى: كلّ شلو، من الحسين فرات
كلّ قطرة دم.. تصبح
- على خشب الصلب -
موتي حياة"

يسمي الشاعر قصيدته "أطول كابوس مر بحياتنا" ويجعلها الناشر "أطول قصيدة كتبت في تاريخ الشعر العربي على الإطلاق". فما هي حقيقة الأمر؟
"نشيد اوروك" قصيدة تمتد على مساحة مائتين واثنين وثلاثين صفحة من الحجم الوسط، وينهيها بإضاءات أو هوامش توضح النص بكل ما فيه من رموز وإيحاءات. لكن هذه الإضاءات التي تأخذ مساحة ثلاث وثلاثين صفحة مطبوعة بحرف صغير – اختصاراً للورق – يجعل قراءتها مسألة بالغة الصعوبة.
ويشير الشاعر أن القصيدة كتبت خلال اثني عشر عاماً أي بدءاً من سنة 1984 ولغاية 1996 "وما بينهما من أيام سود" وفي المدن والأماكن التالية: السليمانية (إسطبل في قرية شيخ أوصال)، معسكر 575، شيراتون البصرة، سجن الموقع في كركوك، الكوفة، بغداد، القاهرة، عمان, صنعاء، عدن، الخرطوم، دمشق وبيروت. أي أن الشاعر لم يبتعد عن "اوروك" قيد أنملة على الرغم من تنوع الأمكنة. لا بل على العكس، انتقل نشيده معه، من مدينة إلى أخرى، وكأنه السجل الأوثق على ترحاله ونفيه المستمر.
"نشيد اوروك" أو هذيانات داخل جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها" هكذا يقول. لكن هذه الجمجمة التي يتنكر الشاعر لها هي جمجمتي وجمجمتك وجمجمة كل منا. إنها النشيد الذي ينطلق من خصوصيته إلى الفضاء العام ليعبر عن وجعي ووجعك، ووجع المواطن العربي المتكسر أمام ضراوة الحروب، وجبروت الطغاة:

"والعصر، إن الشعراء لفي خسر، إلا النقارين على طبل والهزازين على حبل والماشين مع النهر. فأحرق أوراقك يابن الصائغ لن تجني من هذا العالم غير القهر. وهذا الشعر يغلق عينيك بمنديل الدمع فلا تبصر من متع الدنيا شيئاً. واو طاء نون مرّ الحراس على جفني فاستوقفهم وقع خطى ينسل خفيفاً بين الأهداب وبيني. شرعوا ببنادقهم صفاً صفاً وانتظروا.. فصرخت بهم: هذا قلبي".

القصيدة "يمتزج فيها التاريخ والأساطير والفلسفات والسحر والسير والتراث الفكري الإنساني والعقائد والجنس والأشخاص والأحداث لتشكل هذياناً مسعوراً اقرب إلى صرخة احتجاج أمام ما يحدث. ويرسم بـ "عبود" صورتنا جميعاً، صورة الإنسان العربي المكدود والمحدود بين اللقمة والطلقة".
في "نشيد اوروك" يطل الشاعر ممسكاً بالحجر .. وبعناصر لغته الشعرية المترقرقة سلاسة وقوة، تسندها غزارة الثقافة المستوعبة، تحيل معها الأحداث الكبرى التي عصفت بهذا العالم، واليوميات الوثائقية والأفكار الفلسفية والدينية والاجتماعية إلى مادة للكلام العفوي الذي يفيض ببساطة دون تعقيد أو مباشرة، وإنما بلغة شعرية صافية.
وتتميز القصيدة على طول أبياتها بنسبة عالية من التماسك والترابط الفني والفكري والدلالي، الداخل في نسيج التكوين العام للنص:

"أشنق نفسي بخيط ضياء نحيل تحدّر من جسر "باب المعظّم" مرتعشاً، ستقاطعه المركبات../ خسرنا البلاد/ خسرنا الأغاني/ ورحنا نجوب المنافي البعيدة/ نستجدي العابرين/ ولي في الرصافة نخل وأهل/ ولكنهم ضيّعوا – في الهتافات – صوت المغني
وعبّود يرنو لسوط المحقق، وهو يلملم أقواله الذابلة
أيها الذابل الآن
تحت غصون المكاتب
كم عبرت قلبك الغيمة الراحلة".

"نشيد اوروك" يضيء مساحات الحزن والألم عند المنشد والقارئ.. ويهدر النشيد حتى لينبئ بفضائحية ما تذكرنا بأننا ننتمي إلى عالم يسمى نامياً، أي لا تنمو فيه إلا وسائل سحق الإنسان وتنمية إحساسه بأنه اقل قيمة من جرذ أو خنفساء.
يوقع الصائغ ضرباته على أوتار التفعيلة دائماً، وان غادرته القافية أحياناً فلتعاوده بين فترات تطول وتقصر حسب متطلبات القصيدة:

"يأتي الغزاة وراء الغزاة، ويأتي الطغاة وراء الطغاة ولا شيء..".

"يستبدلون الغلال بأخرى، السجون بأخرى/ ويمضي بنا العمر جوعاً ونفياً وقهراً/ وهم راسخون على الأرض دهراً فدهرا، نباع ونشرى ، ولم ندر أمراً/ ونذبح مثل الشياه بساح معاركهم كي يزيدوا حدود الممالك شبراً."

" - كم ساعتك الآن؟
منتصف الموت ببغداد..
ورجال الـ (آر.بي.جي) خلف النخل يدكون قلاع الديكتاتور (يفتش بين الأدراج عن الحرس الخاص: لقد فروا فيلوذ بزاوية المرحاض. يموت وحيداً مذعوراً. يسحله صرصار من ياقته بين الأنقاض يخشخش بالأوسمة الذهبية. تعترك الديدان على جثته، كاميرات الصحافيين، تعلّقه فوق الجسر اكف الشعب الهادر لافتة لنهاية عصر الطغيان.."

صور الوطن تهيمن على نص الصائغ مشحونة بشعور بالغربة والنفي مرير. والوطن الذي يبنيه المقاول هو النقيض للوطن الذي يحلم به الشاعر ويريده. وعندما يصير مجرد سعي دؤوب لبناء الشقق والفنادق والمطاعم يطرد المبدع منه، فينسحب إلى ظلال تقيه وطأة هذا البناء، ويدخل عالم الحلم الذي يستوعب أحزانه الكبيرة.
المواطن يعيش الخيبة دائماً. الخيبة من السياسي الذي يجرّع المواطن ويلات الجوع ويدفعه دفعاً إلى ساح القهر والفقر. والخيبة من الآخرين الذين يضعون القول موضع الفعل، فيضيع الوطن المثال ليحل مكانه الوطن – الصفعة:

"قالوا.. وقالوا../ وقلت: سلاماً.. أيا وطناً/ لم نجنِ منه سوى الصفعات".

لكن المنفى ليس بديلاً للوطن، أي منفى. وكيف إذ كان مصحوباً بالخوف والجوع والذل؟ وكيف إذا كان مسعىّ دائماً للاستبدال بمنفى آخر اقل قسوة؟ وإذا كان طرقاً
لأبواب السفارات التي تعرف كيف تمتهن كرامة الكائن الحي وتسيء إلى إنسانيته لمجرد انتمائه إلى هذا الوطن؟ حتى يراوده شعور بان الأفق أضيق من كوة السجن، وان العالم الواسع يضيق به، فيعيا وهو يبحث عن مكان يليق:

"أجوب العواصم وحدي، طريداً هلوعا/ تلوك الكلاب ثيابي – الضلوعا/ من بنا أكثر جوعا/ وأمضي لأطرق باب الوكالات، السفارات، لا من يرد.
تقلّبني نظرات الموظفة المستفزة من فتحة فتغلق شباكها حين تبصر سعفاتي الخضر ذابلة في السؤال المذل".

"نشيد اوروك" قصيدة طويلة وليست مطوّلة. مشغولة بعناية فائقة وبجهد بالغ يدفعك إلى عدم الاكتراث بالسلبيات، والثغرات التي تعتور النص.
الا انه لا بد من القول أن القصيدة متعبة جداً. فلا فراغات فيها. ولا متسع للراحة بسبب تزاحم سطورها، وتداخل فقراتها، وما رافقها من تكرارات للفكرة الواحدة في غير مكان.
لكن تبقى "نشيد اوروك" علامة بارزة في مسيرة الشاعر عدنان الصائغ، وان مال أحياناً إلى الإمعان في تصوير العذاب النفسي والجسدي، في نشيج يصرخ بعبثية ساحقة.


عدنان الصائغ في نشيد أوروك
يقرع أجراس الحنين وينام في الشوارع

زينب حمود
- بيروت -


من الشاعر العراقي عدنان الصائغ الذي "شد رحاله من بغداد صيف 1993 إلى عمان، ومنها إلى دمشق فبيروت مرورا بالخرطوم وصنعاء وعدن".
فمجموعته الشعرية الجديدة "نشيد أوروك". عن دار أمواج في بيروت. في 232 صفحة من الحجم الوسط وهي كناية عن قصيدة مطولة تشبه الملحمة، لا مثيل لها في مناخنا الشعري السائد...
يختصر فيها الشاعر كل ما مر على هذه الأرض من حروب وحضارات وطغاة. يمتزج في سطورها التاريخ بالأساطير والفلسفات والسحر والسير والتراث الفكري الإنساني والعقائد والجنس والأشخاص والأحداث حيث الهذيان المسعور أقرب إلى الصرخة الاحتجاجية أمام كل ما سيحدث.
صوّر الشاعر عبر "عبود" بطل القصيدة الإنسانَ العربي المكدود والمحدود بين اللقمة والطلقة. فكان هذا النشيد أطول قصيدة كُتبت في تأريخ الشعر العربي على الإطلاق. وقد أحجمت على نشره العديد من دور النشر في عواصم عربية عدة، لجرأته وسبب الكثير من المتاعب لمؤلفه، فتنقل من بلد إلى آخر، وطاردته الأنظمة والأحزاب والأصوليون والسلفيون.
إلى ذلك حاز الصائغ على جائزة هيلمان هاميت العالمية للإبداع، وهي جائزة الاحترام التي تُمنح سنوياً للأدباء والكتاب في أنحاء العالم الذين يتعرضون للاضطهاد بسبب كتاباتهم المعادية للديكتاتورية والتعسف. وهي المرة الأولى التي ينالها شاعر من العراق...
حاول الشاعر في نشيده ـ الصراخ ـ الرفض ـ الاحتجاج ـ أن يختصر تأريخ الإنسانية في كلامٍ يروي تجارب مرت، وحضارات اندثرت وحروباً ومآسي وحباً وكوارث... كانت محاولته صعبة ومرهفة وشفافة لأنها استطاعت أن تجمع كل كبت العالم في كتاب واحد أسمه "أوروك". كُتبت حروفه بدموع العين وتعب الجسد وساعات الرحيل. وأمام نواح الشاعر الكربلائي المتصاعد من باطن الأرض استطاع إيجاد لغته الشعرية التي كانت في مستوى الأنين مستعيراً من اكتوفيو باث قوله "كلما ارتفع مستوى الأنين ارتفع مستوى الشعر" لكنه بالمقابل استطاع إيجاد أمكنة للزهرة وأمكنة للوطن. ولأبناء الوطن.
عدنان الصائغ في نشيد "أوروك" يكتب حنينه والدموع. يصغي لوجع الروح. للفساتين المرهفة. للشتات الضائع. لهسهسة الأنهار والأشجار. ويستذكر أيام القرى والمدن ودجلة... ويقول:

"هل كان لي أن أشير إلى شجر السيسبان... هل كان لي أن أمر على جرس الباب. أقرع هذا الحنين الذي كنت أخفيه بين القميص ونبضي فيهرع سرب الكراكي إلى نبع قلبي..
أنا جدولٌ يابسٌ غادرتهُ الضفاف إلى عتمة الدغل.
شققني عطشي في بلاد المياه التي تترقرق ما بين جفني وكفي ولكنها
الروح حين ترى النهر ألصق من دمعة الغرباء إلى وطني... النهر
أقرب مما تظن الكراكي القتيلة".

وفي مكان آخر يقول الشاعر، مصوراً واقعه ومحيطه وحاله:

" وأنا نائم في الشوارع. أبحث في الواجهات عن اللاأحد.
والوجوه التي غادرت للأبد.
جسدي علكته الصناديق والنسوة - اللافتات. سأتركه الآن منحشراً خلف طابور خبز الاعاشة، يمتد.. ويمتد ( في مدن الثلج كنا نحنُّ لشمس البلاد ونرجف إن مر تحت نوافذنا شرطي) فمن سيهدئ قلب الولد...
أرهقتني رحى المدن الحجرية، منهرساً بين أسنانها والعمارات.
نخرج ـ جيل الغباء المعلب ـ في شارع العصر لافتة:
من طحين ودم.
نحاججه بالبلاد التي دفنت نصف أبنائها.
في بطون الخنادق
فيحاججها بالبنادق
ويصففنا ـ فوق رقعته ـ كالبيادق.."

الشاعر علق معطف عمره وراح إلى الحرب منكمشاً
كاليتيم على ظهر ناقلة ويقول هنا:

"آه يا وطنا شطبت ظهرك السرفات
ستحني لهم قلبك المر
كي يعبروك إلى الأوسمة.
لنا كل ما في الشكوك
ولهم كل ما في البنوك.
من النفط واللغط والأنظمة...."

الشاعر ترك لنشيده أن يأخذ مستوياته في التعبير عن واقع الحال. عن المأساة والوجع والرؤى والأنين. وقد جاءت أشكاله الإنسانية والفنية متداخلة بين الغنائية العالمية والرمز. بين الدراما والمونولوج الداخلي. وبين السرد والتكيف بالإضافة إلى التلاقي بين اللغة الشعرية التراثية واللغة الشعرية الشعبية الموهية المكتنزة، بتفجيرات الحياة. وبهذا شكل تنوعاً جديداً ومتفرداً من تنويعات القصيدة العربية المعاصرة. إلى ذلك جاءت مجموعة "نشيد أوروك" من ضمن الشعر العالمي المعاصر نظراً لتفردها وشكلها وأسلوبها ولغتها المختلفة وقوانينها الإنسانية الخاصة التي ولدت معها بمواصفات عصرها ومهارات شاعرها، أي أنها لم تأخذ أو تستعير شكلها أو منهجها من أحد وهي تنسرح على مداها الوجداني في إضاءات داخلية وخارجية مرهفة ومرهقة في آن.
عدنان الصائغ الشاعر الذي ضاق به الوطن فقرر حزم حقائبه والرحيل، أودعنا اعترافاته وأوجاعه وكنا كمثله نعيش في زمن الوجع والثورة المكبوتة ننتظر غودو الذي لم يأت وربما لن يأتي في الزمن المرتد على نفسه.


السؤال المضمر
بين الحداثة وفلسفة الإغتراب

قراءة في "تكوينات" عدنان الصائغ

غالب الشابندر
- السويد -

(القسم الأول)
1



في ديوانه الجديد [ تكوينات ]، يشكل السؤال المضمر نقطة مؤسسة، تترُّ من جسده المتوهج إشراقات أمل مكتوم، سؤاله يتوارى خلف الصورة الظاهرة، ليرتعش بعطاء حزين، يحكي محنة الإنسان في الشرق المسكين، حيث تتوالى صور اليأس، لتشكل هيكل المعرفة و أقنوم الفكر. لقد استهلك اليأس كل نفحات سحره الوجودي، فبدت الحياة في عينيه شبحاً مخيفاً، يلاحق الإنسان في كل مكان.
الاستلاب استفز طاقة الشاعر وفجرَّ خياله الخصب، ليطل على الآخر بسؤاله المضمر، سؤاله الخفي، فأن بداهة الفطرة تؤكد أصالة الجمال وأسبقَّية العدل، وقبل ذلك أولوية الخير، فلماذا يستهلك الرعب صدى الحب؟ ولماذا يرتعد النهار من ليلٍ داهم يريد الاستئثار بمقولة الزمن؟ ولماذا يرتعد ليل من نهارٍ ثقيل، استبد به طغيان [الأنا]؟
أنثيالات النفي تتلاحق بضلالها الكئيبة على ساحة الوجود… المعنى الأصيل للحياة يتقهقر,‎…العالم يتلوى من طعنات الموت الغادر… والحياة … هذا المعطى الأولي، المعطى السابق على كل تجربة… هذه الحياة تتحول إلى هبة عابرة، مرسومة على ورق مزخرف، وممهورة بتوقيع زائف، فانسلخت البديهية في ذهن شاعرنا، في إحساسه المرهف، في وجدانه المتوثب …انسلخت من حقها، فيما هي ينبوع الحكمة ومصدر التكوين.
السؤال المضمر أنسلَّ بهدوء من هذه التراكمات القاسية، فطرح روحه المعذّبة بعفوية مرتعشة، يفتش عن جواب هو الآخر خفي، فكأن الحرية قد صلبت إلى الأبد.
يبرز السؤال المضمر من خضم التناقض الفاضح الذي يشهد على فساد الزمن ورداءة إيقاعه، فتظهر لوحة الوجود خريطة مشوهة، تتنافس على اهترائها نتوآت القدر الجاهل، ومخالب البديهية الملغاة، وعندها يندثر التاريخ، فيندفع الشاعر إلى تصوير أحزانه وإهمال أفراحه، ولا يأتي على ذكر هذه الأخيرة الاً عابراً، وربما لأيهام الذات وتسليتها… يذكرها أمنية تائهة، وليس واقعاً يفرض نفسه على الشاعر.
السؤال المضمر يتكون عبر تجارب حادة، عبر تراكم الصدمات التي تقود الفكر إلى الخدر، وهو إنما ينبثق من بقايا الوعي السابق… من بقايا رعشة الروح.
السؤال المضمر حائر وفي الوقت ذاته خلاًق… حائر لأنه سؤال… خلاًق لأنه يؤسس رؤى تتسم بالعمق مهما كانت سلبية المضمون.
في مفتتح ديوانه:

(أتصفح كتب التاريخ
فتتلوث أصابعي
… بالدم
كلما قلبت فصلاً لطاغية
قادني حراسه
إلى الفهرست
فأرتجف هلعاً)

فالتأريخ أذن جسد منفي… جسد مثقَّب برصاص الموت الكريه، الموت الأسود… والفهرست يختصر الحياة كلها بصدى الدم المسفوح بلا حساب وبلا سبب، والجريمة عندما تستوعب الزمن تصبح عصية على التفسير، وهذا الفهرست كما يبدو، وفَّر على الشاعر جهد الاستقراء الطويل، ولكن ليرمي به في جحيم النتيجة.
يهرب الشاعر من هذا القدر الجافي، فيرسم في مخيلته حلم البلاد الوردية… الهادئة … الوديعة، ففي قصيدته [غياب ]، يتحول الحلم إلى مهرب… طريق إلى الحقيقة الملموسة بشخوصها الكبيرة [البيوت المضيئة، الجسور، الأشجار، القطط ] ولكن الحلم، هذا المهرب الوحيد، ينتكس داخل مملكته… ينقلب إلى مأساة، إذ ينعى الحلمُ بدايتهَ الواعدة بنهايةٍ كان الشاعر قد هرب منها في يقظته… ويُكمل النفي دورته القاسية عندما يطبع صحو الشاعر بمراسيم الاتهام البغيض.
يقول:

(رسم بلاداً
على شرشف الطاولة
وملأها بالبيوت المضيئة والجسور والاشجار والقطط
قطع تذكرة
وسافر أليها محملاً بحقائبه وأطفاله
ولكن رجال الكمارك
أيقظوه عند الحدود
فرأى نادل البار يهزه بعنف
إلى أين تهرب بأحلامك
ولم تدفع فاتورة الحساب)

هذه المعادلة الصعبة المرعبة كانت تطارد الشاعر… تطارد روحه الندية… تطارده بلا هوادة… فهو على موعد دائم مع المسير المعكوس للزمن… مع الحلم المغدور.
هناك اغتيال علني للحقيقة… امتهان سافر للشمس… اعتداء صلف على الوضوح … فأي قيمة ـ بعد ـ يمكنها ان تستهوي الضمير الحي؟ وأي شهوة فرحة يمكنها أن تمارس صلاحيتها في العطاء؟ وأي كلمة يمكنها أن تستدعي شقيقتها لتبني قصيدة؟
الظلام يحيك خيوطه الكئيبة حول العالم، يخنق انفاس الخلاص وقد لف بسواده الكثيف حلم الوجود، فاختار الشاعر العزلة، فهي الملجأ وهي الملاذ وهي العلاج… هروب من القوة الغاشمة التي راحت تفكك بعنف ظاهر بين الجسد والروح، تشظّي بمساميرها الصدئة جسد المغامرة، فتفسَدُ الحياة التي هي ليست فرصة الإنسان الوحيدة، بل هي البديهية التي تتر بتلقائية بريئة من مسامات جلده ونفحات روحه وتموجات صوته.
في قصيدته [ عزلة] يتحول الشاعر إلى صرخة ترتد داخل جسدها فتختنق، واذا تحرك فيه شوق قديم، يقتلع قلبه المحزون، ويضعه على طاولة مكسورة، ليذكّره بالماضي المطعون… أنه يعتزل حتى قلبه.
الشاعر صريع دوائر يحتضن بعضها بعضاً، تعتصره داخل مراكزها المتحدة، ومحيطاتها الصلدة تحجب اسرار التواصل بينه وبين حقه في مباشرة الأشياء.
يقول في [ عزلة ] وقد هجر كل شيء:

(هكذا انتقي عزلتي
وساعتادها
…………….
غير أني اذا اشتقت للاخرين
سأجلس قلبي إلى الطاولة
وأحصي له
الطعنات)

ويمضي الشاعر في عزلته الرهيبة، فيودّع قلبه إلى الأبد، لقد تحولّت عزلته إلى نسيان، فها هو يهب قلبه للطرق العنيف:

" كي يتمدد
…………
ويصبح جسراً للنسيان" .

إنه يخشى أن تكون عزلته هذه نوعاً من الرؤية التي تزيد من شقائه ومعاناته الوجودية الطاحنة، فربما ينبثق من داخله شوق الى الاخر، فيما هو الجحيم بعينه، فليسلًم قلبه، اذن، للطرق الذي يستنفذ حضوره وشهوده.
فهذا العالم ينبغي أن ينسى، يستحق أن ينسى، ونسيان الشيء ملغوم بأعلى طبقات التعامل السلبي وأقصى درجات الموقف العدمي
وكيف لا ينسى هذا العالم، وليس فيه ألاّ:

"مخبر قمئ يلحسني
مختبئاً، خلف جريدته"

وفي خضم صراعات الحياة، وفي تيار سحبها المتلاطمة، حيث لابد أن يكون البقاء للأصلح والنجاة للاطهر… ينفرد هذا المخبر القميء بحصة الوجود التي لا حقيقة قبلها أو بعدها.
كيف لا يهمل هذا العالم، و[ الكولونيل الذي لم يجد من يكاتبه ] يسري في جسد التاريخ ؟ فهذه هي الثورة تأكل أبطالها الحقيقيين، ويغتصب المناضل الورقي أرملة المناضل الصادق في صبيحة يوم أسود على الوطن وأهله:

"بينما كانت بلاده تحترق
كانت شفتاه تحترقان
على جسد الأرملة الفاتنة
التي كان زوجها يحترق
على سواتر الحرب
…………… دفاعاً عن شرف الأرض"

إنها ملحمة احتراق، احتراق من أجل المصير، واحتراق يدمّر المصير، واحتراق يستهتر بالمصير، ويشاء الزمن الرديء أن يكون الانتصار والبقاء والظفر لذلك الاحتراق الذي ينسج خيوط حقده الغادرة من هذا التضافر المنطقي بين الدمار والاستهتار، فيضيع شرف الأرض بضياع الدم المسفوح من أجلها.
لماذا لا يودّع الشاعر قلبه، وزمنه يذهب هدراً للارهاب الاستطرادي، والشعر يُصلب على رغوة التصفيق البليد، فيموت الأمل في مهده، وتقتل التجربة في لحظة تفجرها الواعي: ـ

"ما أسرع ما دق جرس رحيلها
وأنا لم اكمل بعد أبجدية انوثتها
فدرسوني شخير اللغة
ما أسرع ما انفض الحفل
لأبقى وحيداً في حانة القصيدة
طافياً على رغوة التصفيق البليد"

والآخرون يشيّعون جسده، وهو يرتعش بحرارة الحضور المتدفق بـ[الأنا] الشهودي، ولأنهم يقبضون على سلطة النفي القهري، ولأن نفياً من هذا النوع يعتمد القوة الغاشمة، كان الشاعر ارادة ملغاة، رغماً عنه، فتعطلت فيه قوة ادراك الحقيقة… حقيقته هو:

"مالي أراهم
ينثرون باقات الزهور الندية
على سريري ـ شاهدتي البيضاء
دون أن أعترض
أو أصرخ
أو أبكي
هل مت حقاً
ولا أدري"

هناك موت موهوم ولكنه مفروض، الأمر الذي يخلق وعياً ساهياً، يفرز فكراً متردداً، ويصل الذروة هذا التنازع بين الرغبة في الحياة من جهة وهذا المنطق المفتون بقلب الحقائق من جهة أخرى… يصل هذا التنازع المر الى الذروة في محنة الوطن.
يقول:ـ

"أصيح بلادي
وأشهق
أحتاج حبراً بمقدار ما يشهق الدمع في فمنا
لأكتب أحزان تأريخنا
……………………………..
والوطن المتباعد خلف زجاج المطارات
يأخذني للشتات
ويتركني للفتات"

الحزن يضاف إلى التاريخ، فيتبدى سطحاً متواصل الانات، الحزن يشخص هنا، ومن خلال هذه الاضافة… يشخص قدراً امتطى كلمة البديء، ليحتكر فعل الأزل، فيما لو أضيف التاريخ إلى الحزن، يكون ـ الحزن ـ قضية من جملة قضايا أخرى، قضية على قارعة الطريق التي طالما تصطف على جنبيه قضايا كثيرة ومن انواع شتّى.
فليودّع الشاعر قلبه…
يتعامد السلب على نفسه ليمسك جسد الديوان، تتر من سطوته رغبة الرحيل… رغبة النسيان… رغبة الهجر… هجر الذات… هجر كل شئ.
هذا التيه يؤدي إلى تشكل سؤال غير صريح في حروفه وصوته، ولكنه صريح في أندياحه الروحي على قلبه وضميره، وكل ذرًة من ذرًات كيانه.
الوجود لوحة متهرئة، فيما هو في الأساس بيان مشرق… فلابد أن يكون هناك سؤال عن سرّ هذه المعادلة الصعبة… وهو سؤال مضمر، فان استعراض المفارقة وخاصة اذا كانت كبيرة وصادمة عبارة عن سؤال حائر.
أنه السؤال المصنوع من روح الحقائق المضطهدة، من افرازات النفي غير المعقول، فليس من التجربة، ولا من الفكر، أن ترفض الأرض أبنائها، فهي الأم الحنون بطينتها الحرة وجسدها الدافئ
وانفاسها الطيبة.
الوطن، هذا الطين المعجون بأفراح ابنائه واحزانهم… هذا الهواء الذي يدخل في تكوين وانعاش كل خلية من خلايا اجسامنا… هذا الوطن الحاني الجميل… الصادق… يقذف بنا إلى العالم المجهول، يؤسس في داخلنا طاقة التسكع، يبني في انفسنا غريزة النفرة.
ان الشجرة التي تنمو باتجاه معاكس تتصدع من داخلها… وعندما يحسر البياض البصر عن جولاته المنتشية في اجواء الشعر وشهوات الفكر، يتاكل التأريخ، وتصدأ الأيام.
فلماذا لا يتأسس السؤال المضمر وخاصة في ضمير الشاعر؟

2

الصورة الشعرية لدى عدنان الصائغ مشبوبة بنارها الذاتية، تلتهب بخزينها من خبرة الحياة، تضطرم في داخلها اسرار الولادة والتجدد، فهي ليست بالصورة التي تنتظر امتدادها من اضافات خارجية، ولا بالصورة التي تحتكر ذاتها لذاتها، هي انطلاقة حيّة تتوالد وتتناسل، امتداداتها تجليات متوالية لبذرتها الأولى، الوحدة الجوانية تمسك بها من الداخل والكثرة البرانية تطفح عليها من الخارج، وبين الوحدة الجوانية والكثرة البرانية سر عميق، ذلك هو روح الشاعر.
ان الصورة الشعرية الجيدة، او الصورة التي تنتمي الى الشعر حقاً، تتمرد على التحليل التجزيئي، لأنها تصدر من روح الشاعر الكلية، تتجاوز فن المحاكاة، هذا الفن العاجز لاعتماده الانطباع الساذج، وهي لا تضطلع بمهمة الوصف ولا التفسير، لأن طاقتها الساخنة تتعدى لغة الرقم ولغة التعليل، وهي ليست بديلاً عن شيء أو حدث، لأنها تسمو على كل قيمة احتياطيّة. الصورة الشعريّة تخلق عالماً جديداً، يفيض به كيان الشاعر كله لتؤسسّ كوناً غير مألوف سابقاً. أن هذه الصورة فيزياء أخرى، أنها فيزياء الشعر، حيث تتجه إلى ابداع عالم غير مسبوق على ساحة الفعل، يفاجيء الحواس فتنفعل، يصدم العقل فينتقل الى مقتربات أخرى، ينفض عن الوعي غبار ممارساته الرتيبة، وبالتالي، فأن الصورة الشعرية خلاًقةُ قيم.
إن القيم افراز للموجود، فأذا تغيّر الموجود استحقت قيم جديدة، فكيف اذا انبثق في عالم الحس والعقل والضمير والروح موجود جديد؟
هل يعني هذا انّ هناك انقطاعاً بين الشعر وهذا الوجود الماثل؟
الوجود الماثل محفّز، مثير، والأستجابة هي كون موازي، كون له قوانينه الخاصّة ونواميسه المرتبطة به واسراره النابعة من داخله وقيمه التي يفرزها، ان الشعر عالم، يحتاج الى اليّة تتماهى مع جوهره، اذا اردنا ان ننفذ الى عالمه.
لا اعتقد ان الشعر يفسًر هذا الوجود الماثل، بل يخلق وجوداً موازياً، وجوداً في محاذاته، فكما ان هناك سماءً طبيعية هناك سماء شعريًة، وكما ان هناك جمال طبيعيً هناك جمال شعري.
الصورة الشعرية ليست مركباً من خيال وواقع كما يتصور بعض النقاد وانما هي كيان أصيل، لها استقلاليتها، لها شخصيتها الكاملة، انها كون ماثل.
عدنان الصائغ في ديوانه [ تكوينات ] يطرح صوراً شعريَّة مشحونة بحضورها الموحَّد، كتلة متصلة التكوين، لكنها تتخلق وتتبرعم من داخلها، فتمتد على جسد الزمن، تلاحق وجودها بهذه الأنبثاقات الثرية، والاساس هو البذرة الاولى، فهذه البذرة تشهق بعذاباتها وافراحها، تشهق بروحها الفائرة، بروحها الملتهبة، ولكن لا لتموت بل لتحي بممكناتها الغنية، وعدنان بصوره الشعريّة يستحدث كوناً صادماً، ودنيا تفاجئ المتلقي، فهو لا يصف ولا يفسر، بل يبدع ويخلق…
انه شاعر:

"الليالي بلا أرق
انساها على سريري في الصباح"

فهو هنا يؤسس قيماً جديدة، بعيدة عن القوانين الفيزيقية، ذلك، ان الأرق في تصوره يقظة روحيّة، والنوم الهادئ الرغيد عبارة عن ترف، لوثة في ضمير الانسان، انتكاسة في مملكة الطهر… من هنا حرص الشاعر على احتضان هذا الأرق، هذا الترياق الروحي الصافي:

"الأرق
نسي مفاتيح غرفته
على طاولتي
ترى أين يبيت الليلة"

لا يريد للأرق ان يهجره ابداً، يطلبه حثيثاً، يبحث عنه، واذا دققنا في الصورة الجديدة، تكشف بأنها الوليد الشرعي لسابقتها، فالشاعر بعد ان وحّد بين الأرق واليقظة الروحيّة، طرحه خبزاً وملحاً وماءً، ولكن لا ليرتوي جسدياً، بل ليشتعل بنار الحقيقة المعذبة.
اذن الأرق، وهو بذرة التكوين في كلا الصورتين، ليس موضوعاً للحكاية او الشكاية، ولا مادة للدرس او التجربة، ولا ظاهرة للنعت أو البيان، بل هو قضية قائمة بذاتها، عالم، كون.
إن عالماً جديداً يتكون، وقد استدعى هذا العالم الجديد قيماً جديدة، قيماً من نوعه وعلى امتداده.
ان الصورة الشعريّة هنا خلق وابداع، انشاء غير مسبوق، وله قوانينه النابعة من داخله، من احشائه، من اعماقه، فالأرق هذا ليس نسخة مكررة، بل نسخة أصيلة، وعلاقتها بالأرق الكوني، الأرق المألوف تقوم على التوازي والتناظر، ويخطئ من يفسّر الصورة الشعريّة بأنها عملية تطوير للظاهرة الكونية الحياتية او الاجتماعية، لانها في الاساس تكوين جديد، بدليل الانقلاب الكامل في الصورة الكونية والحياتية . ان الوجود الخارجي بالنسبة للشاعر حافز ومثير، والقصيدة وجود آخر.
يقول في تكوينات [ 4 ]:ـ

"حين بحث في أدواج الليل
ولم يجد سيجاراً
اشعل عود الثقاب
وبدأ يدخن نفسه ـ بهدوء ـ
ملتذاً
وهو يتلاشى رويداً رويداً
في سحاب الدخان"

وفي تقديري ان الشاعر حتى لو عثر على السيجارة المفقودة لعزف عنها، لانه في الاساس يريد ان يدخن نفسه بثقاب مصنوع من احزانه وآهاته وعذاباته، أن عود الثقاب هذا هو [ أحزان تاريخه ]… ان الشاعر يريد ان يتماهى مع عدمه، وهذا الالتذاذ بالتلاشي البطيء يضفي على السيجارة المفقودة قيمة سلبية، انها مفقودة حقا، ولكن الاشارة الى هذا الحرمان الخارجي، انما لمزيد من تشعيل الذات الطوعي وتحريقها المغيّا… انه لا يهدفها ابداً، وبحثه عنها خدعة، فاذا عثر عليها يهملها.
ان السيجارة الفيزيقية المتموضعة في حيّزها الخاص والمختفي عن العين الجارحة، لا يمكن ان تكون بديلاً عن احتراق الذات وتشطّرها، عن تولّع الضمير بلهيب الخزن الساحق، ان السيجارة المفقودة كما اتصورها، هي هذا الشيء المألوف، وأدراج الليل مخابئ مادية ملموسة، وهي ليست هدفاً ولا مقصداً، لأن الشاعر غريب، وغربته مع هذا العالم حيث يتجه الى الهاوية السحيقة بفعل انهيار القيم الجميلة، وتسلية مثل هذه الغربة لا تكون إلا بصهر الروح وهرس الأعصاب وطحن الدم.
إن الأرق اعتصار للذات من داخلها، أقصد، الأرق الذي يشكل رؤية قائمة بذاتها، وليس الارق الذي تفرضه الاسباب الطبيعية المدروسة، وذات الشاعر هي ذاك االتلاشي البطيء.
وحدة في كثرة وكثرة في وحدة، ولولا ثراء البذرة الأولى، لما تجلت هذه الجدلية المرتبكة في ظاهرها، المتماسكة في باطنها، وليس صعباً ان نتحسس وشيجة الامتداد الحي بين هذه الصورة و ذلك الامضاء الراسخ بين الأرق والوعي.
ان سحر الطبيعة من نوع القيم التي تسود المجتمع، واتجاه القيم من موقف الانسان، وهذه السلسلة من الحقائق اصابها الشلل، تسرّى في تضاعيفها السم القاتل، النفاق، الزيف، فكان الارق هو العالم الموازي، فان الشاعر لا يفترس الاشياء، وانما يستجيب لاثاراتها، فيؤسس عالماً جديداً
قالوا: ان الشعر نقد الحياة، وهو صحيح، ولكن كيف؟ وبأي معنى؟
ان نقد الشعر للحياة لا يكون باظهار محاسنها ومساؤها ثم بعقد مقارنة ميتة، هذه طريقة ساذجة، الشعر ينقد الحياة بطرح النموذج، والنموذج يكشف ويفضح ويبين، لانه اشبه بالمثل الاعلى، أو هو مثل أعلى، والمثل الاعلى يحمل في طيّاته مهمة نقديّة راقية.


السؤال المضمر
بين الحداثة وفلسفة الإغتراب

قراءة في "تكوينات" عدنان الصائغ

غالب الشابندر
- السويد -

(القسم الثاني)


الصورة الشعرية في عطاء الصائغ صهر فني وتركيبي ومعنوي للمتضادات فيكاملها، وأقول ذلك، لان هناك من لا يجيد الجمع بين هذه المتضادات، فتضيع الوحدة الشعريّة.
ان اكبر فجيعة تفتك بالتاريخ والزمن هي الوحدة المصطنعة، سواء على صعيد الفكر أو الفن والصورة الشعرية في ابداعات الصائغ نسق يحافظ على تكامله عبر حشد من المتضادات، وهذا النسق لم ينبثق شكليّاً من تزاحم الأضداد، بل ينبثق طوعيّا، لان هذه الاضداد متعاطفة على بعضها، وكأنها تملك صفة الجعل البسيط، الجعل المتوقد بحضوره الذاتي.

"الشعراء الاقصر قامة
كثيراً ما يضعون لقصائدهم
كعوباً عالية"

الصورة هنا متوهجة بذاتها، فالعلو الزائف، المصطنع، الخادع، يعرًي [ القصر ] الموضوعي، المؤكد، [ القصر ] الذي يراد له ان يشمخ رغماً وقسراً وقهراً، وذلك ان موضوعيًة الأشياء تعادل الحقيقة، حتى اذا كانت مرّة، ان هذا التداخل الغريب بين الصور المتناقضة وإعطاء كل صورة عنوان لا يستقيم مع المألوف الأستعمالي [ العلو /الزيف ـ القصر / الحقيقة]… هذا المركب المحبوك التناقض، ينبثق من اعماق الذات المشحونة بالتجارب الكبيرة، المزدحمة بالتاريخ الصاخب، ينبثق بعفويّة متدفقة، بعفويّة مستندة الى تجربة قد ارتوت بخبرة الزمن المرتعش بالأحداث الجسام.
ان تحليل المركب الكيمياوي يكون بتفكيك عناصره عن بعضها، ولكن تحليل الصورة الشعرية يكون باحالة عناصرها على بعضها، هناك نتوسل باداة من حديد وارقام، وهنا نتوسل باداة من وعي، بل بالوعي كله، لان القصيدة تنبثق من الشاعر كله، من عقله وروحه وشهواته وعضلاته ولحمه ودمه… هناك نسعى للعلم، وهنا نجالد من أجل الخلق، والخلق آخر مرحلة من مراحل الصراع المعرفي، خاصة خلق القيم المترتبة على موجود جديد.
يقول في [ تكوينات ]:

"يتدفأ قلبه بالذكريات
بينما اطرافه
ترتجف من البرد"

صورة اخرى تتواصل في ابعادها الداخلية امانة المتضادات…
القلب… الأطراف.
الدفء… البرد.
الاستقرار… الارتجاف.
ان الصائغ في الصورة الجديدة يريد أن يلقي في روعنا عالماً جديداً، لحمته وجوهره: ان الانسان قلب في جوهره، وباقي أجزائه اعراض مهملة.
يقول في تكوينات:

"كثرة الطعنات
وراء ظهري
دفعتني كثيرا
…… إلى الأمام"

قد يترآى للراصد انها صورة تقليدية، فكثيراً ما نسمع أن الطعنة من الخلف دليل على المضي الى أمام، ولكن هنا، وفي هذا النص الشعري الجميل، نقع على الحكمة الحية، وقد برهنت على صدقيتها، أي أن الحكمة كشفت عن كونها [ فعل ]، وليست مجرد تصور، فالصورة لم تنبثق من تأمل صوفي أو رؤية فلسفية تجريدية، بل من تجربة، شاهدها يكمن فيها، وبذلك تكون الصورة الشعرية قد شيّدت لنا منطومة وجودية، كوناً له تجسّده الفعلي، فهناك تجاوز جريء وجسور لقرار الحكمة في قمة تجوهرها النظري، ارغام لها على ان تكون حضوراً عارياً، ومن الواضح ان تماسك الصورة جاء نتيجة التعاهد الخفي بين عطاء المتضادات، وقد شحن الشاعر البناء المادي المتشابه [ ك . ت . ب ]، بروح التضاد، من إضافتها إلى صور متعاكسة تماماً [ خلف، أمام ].

في تكوينات:
"كم عيناً فقأت
ايها المدفعي
لتضئ على كتفيك كل هذه النجوم"

ان الشاعر يصوغ عالماً تجري في ازقته المظلمة واسواقه الداعرة أخطر عمليات المساومة، حيث يُشَّيد المجد الزائف باحجار الحقيقة الصلبة!! فبرز الزيف زاهياً وتعرَّت أحجار الحقيقة من صلاحيتها، فبدت شائهة، مقززة، لقد استقر الموت حقيقةً أولى، بل لم يعد الموت حقيقة، وإنما الحقيقة هي الموت!!
ان العيون البشريّة تجسّد اصالة التكوين، هي عين التكوين، والنجوم المسطرة على اكتاف الجنرالات اعتبار، وليس هناك من معادلة هشة، كتلك التي يحتل فيها الاعتبار موقع الاصالة، حيث نتواجه مع كون له مادته الخاصة به، وهو كون على كل حال، أي حتى اذا تشيَّد على قواعد تفقد أي مبرر عقلاني لوجودها.
ان الوصف في الصورة الشعرية يأتي على هامش البناء، فهي في الاساس بنية، أمضاء كينونة، انشاء عالم جديد، وما سمي بالاغراض الشعرية كالمدح والرثاء، انما تعبر عن وعي مسطح بجوهر الشعر، أن هذا اللون من التقييم يذوّب الشعر في ابتذاليّة الادراك العادي للاشياء والحياة، ويكشف عن تفكير أسير وليس عن تفكير خلاًق، فالصورة الشعرية، اذن، مخاض عسير.
يقول الصائغ في [ تكوينات ]:

"الشمعة التي تركوها مشتعلة
قامت وأسدلت الظلام
على نفسها
ونامت"

ان النور موجود غائي، والغاية اذا اهملها المعنيون تهجر وجودها، الخير حقيقة واعية، يكمن فيه نزوع الى الخارج، يتجه بكليته إلى الآخر، فاذا هجره الآخر، هجر نفسه، لانه لا يريد ان يبقى في دوامة العطالة.
ان الصورة نسيجة ذاتها، تشكل بمادتها الفكرية وقوامها اللغوي وعلاقاتها الداخلية عالماً شاخصاً، وجوداً ملتحماً بكينونته، حقيقة لصيقة بنواتها.
الصورة وليدة تجربة عميقة عاشها الشاعر في العالم وليس مع العالم، وتلك من معالم المخاض الشعري الناضج، لان الشاعر الواعي والمسؤول لا يجعل من شعره ذاتاً والآخر موضوعاً، بل هو ذلك الانسان الذي تغلغل في محيطه الكوني، حيث يتحول هذا المحيط الى محفز لخلق العالم الثاني الذي هو الشعر، أو عالم الشعر.
لست من الذين يقولون، أن الشاعر الجيد هو الذي يسقط مشاعره على الكون، بل هو الذي يبدع بشعره كونا محاذياً، موازياً… ليس كوناً ظلاً… بل ملحمة وجودية لها عنوانها الخاص، وتضاعيفها الخاصة.
الصورة الشعرية تنتهي في علاقتها مع الشاعر في اول لحظة ينسَلَّ فيها من وجده الشعري، ولكنها تبقى على اتصال مستمر بالمتلقي، والمتلقي طبقات من الاستيعاب والحماس والوعي، وليس من شك ان قدرة الصورة على تفتيق أكثر من مصداق للفهم والادراك، دليل على انها استوعبت المتلقي، وامارة حيّة على انها صورة متحركة في داخلها، وأنها بئر عميق من المعنى والاسرار والايحاءات والإيماءات، وهذا لا يكون إلا إذا توجه الشاعر من الوصف الى البناء، من الهامش الى المتن، من المحيط الى المركز.
ان الشمعة هنا رمز ينتمي الى عالمه الذي احتضنه، فكان لبنة من لبناته، ومفردة من مفرداته، رمز ينتظر الخيال الخصب، والرؤى الكونية، ينتظر الاحاطة الروحية، والنفاذ المتسرَّي إلى جسد الكلمة وهو يتلوّى بآلامه المفتوحة على العالم كلًه.

3

الكلمة مخلوق تواصلي، تستمد طاقتها على الخلق من اسباب متنوعة، من معناها المعجمي المسطر في القاموس، ومن علاقاتها بنظائرها ومضاداتها، ومن موقعها من الجملة، من مجال استعمالها واستخدامها، ومن خبرة المتلقي فكريّاً وحياتيّاً ولغةً، والكلمة فضاء تحيط نفسها بمجال من الايحاءات، تأخذ المتلقي المرهف الى مديات من التصور والفكر، لأنها مرّت وتمرّ بتجارب ضخمة من الاستعمال، فخضعت لاضافات الخيال وضرورات التكيّف النفسي والآجتماعي والعلمي… الأمر الذي جعل من ايقاعها في الذهن، مدعاة للولوج في عالم أكبر وأحب وأغنى من معناها المفرد المتجمد في صفحات المعاجم.
الشاعر المبدع يشخص هذه القدرة الفذّة للكمة، ويجهد على استثمار شهوتها للاتصال والتواصل، فيحاول أن يستنهض طاقتها القصوى، يستلهم امكاناتها الذاتيّة والتجريبية على الاداء والبناء، والشاعر قد يعتمد في ذلك على ثقافته الواسعة، أو يستعين بذوقه الفني الرفيع، أو يستفيد من موهبته، ولذا، فأن الكلمة في استعمال الشاعر تعني مستويات من المعنى وطبقات من الدلالة عند المتلقي، وهذا من علامات خصوبة الشعر.
الفن الشعري بالمعنى العميق يتجاوز مسألة الحرص على الوزن والقافية، ليصل الى تكريس العالم المفتوح الذي تنطق به القصيدة، ومن علائم هذه الموهبة استدراج الكلمة لمقارباتها في تشكيل مادة القصيدة اللغوية، نظراً لأن هناك بذرة اولى تكمن في بئر القصيدة الشعريَّة، ولولا هذه البذرة لما كان هناك عنوان ـ هذا على اقل تقدير ـ، وإلا فان الجهد الشعري لا ينبثق من فراغ.
ان تجاذب الكلمات ذات المقتربات المتتاخمة او المتنافية، يخلق محيطاً شعريَّاً مركّزاً، يستجمع عالم الذات في بؤرة متوترة، تلح ارتعاشاتها على توكيد الجوهر.
ان الشاعر يستثمر تواصليّة الكلمة عبر تجاربها الحلوة والمرّة، وهذه الكلمة امينة في اعطاء اسرارها لمن يستلهما، ومن اسرارها الأفاضة بمخزون تواصلها التاريخي الثمين.
الشاعر عدنان الصائغ يعشق الكلمة، يتعامل معها بلطف وحنان ورعاية، يختارها بدقة فائقة، ويضعها في مكانها المناسب، المكان الذي يتشوف اليها بشغف وحماس، فأنثالت المقتربات، تتنادى، فيما بينها لتأسيس الكون الجديد.
نأخذ على سبيل المثال قصيدته [غربة ]… فهذه القصيدة تتكون من ثلاث وعشرين كلمة، ورغم هذا، نسجت روحها من مفردات، تتلاصق فيما بينها ضمن نسيج مشترك في المعنى
والايحاء والفضاء.
لننظر وندقق بهذا المسلسل من الكلمات [السماء، أرضنا، المنافي، جرحنا، طردتني، بلاد، ساومني، صمتي المر، أبكي، فاتنا… ].
هذه الكلمات، هي لحمة كونه الجديد، اقصد هذه المقطوعة الشعرية الساخنة، والأمعان في هذه الكلمات، يكشف عن استدعاء بعضها لبعض، في رحم الجذر الاول للقصيدة الذي هو الغربة، فالسماء والارض يشكلان الكون، حيث السماء هي السقف الحامي، الذي يوحي بأن الحياة موضوع حقيقي وغائي، والارض هي الام الحنون التي تغذي الحياة بشروطها الضرورية، والشكوى الى السماء والارض موضوعها الغربة اكثر من أي شيء آخر، لان الغربة وخاصة المتنقلة منها، تحجز ملكيّة الوجود في عناوين محدودة ة والمنافي هي المعادل الموضوعي للغربة، والطرد يشكل جوهر الحرمان من المكان، ذلك الحق الروحي الذي افرزه وجودي المفرد عبر كفاحه المكثف ضد العدم والبوار، ولا جرح كالذي تحفره الغربة في الروح البشري، لأنها استهانة بالبدهيّة الواضحة التي تلي بديهية الحياة، أي بيتي الحبيب الذي شيدته بكل وسائل وآليات تعّرفي على الوجود، فهو عصارة نفسي، والصمت تفرضه الغربة، لانها عالم موحش، والبكاء حنان العاجز على الغائب العزيز، ذاك هو الوطن.
فالكلمة في هذه القصيدة مثلاً مخلوق تواصلي، تشتبك في أُلفة رائعة مع نظائرها واضدادها، وذلك لا يتم الاً بفضل الوعي الشعري لدى الشاعر، وبفضل عمق التعامل مع المفردة، انه يستثمرها ولا يستهلكها، فان استعمال الكلمة في سياق أخواتها أو معاكساتها يحرك الكلمة من داخلها، لتعطي خبرتها الطويلة.
يقول:

"السماء التي ظللتْ أرضنا
والمنافي التي أرّخت جرحنا
سأقول لها:
كلما طردتني بلاد
وساومني صاحب
اتكأت على صمتي المر
أبكي
الذي
فاتنا"

فالغربة كلمةً وموضوعاً تسري في القصيدة، عبر المادة اللغويّة الجديرة بتوفير الاجواء المناسبة والاوضاع المفروزة، والمفردات تحيل بعضها على بعض، ويشد من لحمة هذا التواصل اللغوي، تجسيدُ المعنى وتكثيف الصورة وتوحيدُ المضمون، خاّصة، وان الشاعر دمج بوثبة مفاجئة بين غربة الروح وغربة الوطن.
يتصور البعض ان التطابق بين اللفظ والمعني عملية عفويّة جارية في الحياة المعيوشة، وانها تمضي جرياً على السليقة الاجتماعية في نظام الناس، واكبر دليل على ذلك، انتظام الانسان واستقرار علاقاته بالآخر، سلباً وايجاباً، فان اختيار الكلمة لمعني من المعاني ممارسة مألوفة، ولا تحتاج الى جهد.
هذا التصور بطبيعة الحال، يحمل شيئاً من الصدقيَّة، وان كان خاضعاً لنقاش طويل وعسير، ولكن التماهي بين اللفظ والمعنى في الشعر غيره في اللغة العاديّة، لان الشعر كما قلنا، عمارة جديدة، كون غير مألوف سابقاً، والشعر الجيد يقراْ من اوله الى آخره، لانه يكشف عن عالم يتأسس وثبة بعد وثبة، ثم يواصل حضوره لحظة بعد لحظة، ويكون نابعاً من ومضة اشراق، تتجاوز الحدود الماديّة للشاعر كي يخلق، والقصيدة غير مسبوقة بتخطيط أولي، تنبع من كل الذات، وهي تحمل خطتها وقوانينها وكينونتها، وأغرب ما في الشعر، أنه يتموضع في معنى جديد بتقادم الزمن وتوالي التجارب الانسانية، ولهذا، أن الكلمة في القصيدة غيرها في دفاتر الحسابات التجارية، بل غيرها في كتاب الشفاء لابن سينا وكتاب الطبيعة لاسحق انيوتن والنسبية لانشتاين.
ان لغة الشعر هي الشعر، كما ان موضوع الشعر هو الشعر، وكل ذلك يقودنا الى استنتاج مهم:
إن الشاعر يهدف الى استثمار جو الكلمة، ولذا، كان نصّه فضاءاً، وكلمة الشاعر وهو يبدع كونه الجديد، إنما تحضر مع جوّها حضوراً ذاتيًاَ، مثل حضور النار بحرارتها… فالشاعر لا يلوًن التجربة ولا الحياة ولا الاشياء، وانما يفجر في الوعي عمارة جديدة، عمارة مستحدثة، الامر الذي يسوقه الى استخدام الكلمة بكل حملها التاريخي، بكل علائقها الممتدة لافاق بعيدة، والاكثار من الكناية والاستعارة والترميز… ينصب في هذا الافق من التصور للكلمة الشعرية، فان تلك المقتربات انما لتفجير المذخور الوجودي للكلمة، فهي مقتربات تتصل بعالم الشعر اكثر من غيره كما نعلم.
الكلمة وهي في بنية الشعر، مخلوق صوفي، نغمة روحيّة شفافة، تتسع وتتسع مع امتداد الافق الزمني للانسان، ومن هنا، قد لا تخلد النظرية العلمية بقدر ما تخلد القصيدة المبدعة، ولا تصمد النظرية الفلسفية لتقلب الزمن، بقدر ما تصمد القصيدة الحية، واقصد بالخلود هنا، المعايشة والحضور، وبالصمود استمرار التألق داخل الضمير والفكر.
القصيدة المبدعة تفلت من التلاشي البطيء او السريع، تملك ناصية الزمن، ومن أسباب ذلك، هو الاستخدام الروحي للكلمة، توظيفها ضمن حشد من نظائرها واضدادها، فان هذا الفن الراقي من الاستعمال، يولًد سيلاً من الصور، يشبه سيل الاحداث الناتج من العلاقات الكونيّة، ان هذا الاستعمال المرن المتدفق، يخلق أو يحول النفس الانسانية الى قابلية رؤى، انه الاستعمال الكفيل باستيعاب التغيرات الهائلة التي تتسارع على بنية العالم.
يقول في "دبق":

"كان الصباح
يصب قهوته
ويرشف ما تبقى من سواد الليل
يقلب ساهماً فنجانه لصقي
ليقرأ في الخطوط المستحيلة
ما يمر من الشوارع
والكلام ـ النمل
والفتيات في أصص النوافذ
يغزلن جدائل الأزهار ـ للعشاق
كي يتسلقوا أحلامهن
الى المرايا واحتراقات القصيدة"

العلاقة بين الصباح والليل علاقة اثراء، واذا كان الصباح بشير بيانٍ وكشف ووضوح، فانه يرتشف بقايا سواد الليل، ليكون اكثر اشراقاً ونصاعة، ويكون أكثر قدرة على ترجمة المهمة الكونية، وهذا التركيب ينز عن عالم جديد، لان الصباح الفيزيقي يطرد الليل، والكلمات {الصباح، الليل، السواد} ذات معاني تنتمي الى هذا اللون الجديد، فالشاعر هنا، اجترح اللغة العاديّة، واخترق اسوارها، انه حَّطم قانون القصور الذاتي اللغوي، أي، المعني القاموسي الجامد، والطريقة الجديدة في هذا الانجاز، ليس تفجير التاريخ وحسب، بل تحطيم الحواجز بين معاني الكلمات، خلق آواصر من الأُلفة بل من التمازج الذاتي بين مفردات اللغة المتنافية قاموسياً، والمتنافية على صعيد تحققها الفعلي الواقعي الملموس والمعيوش بطريقة عادية وسليقية، وإلا كيف تكون الخطوط المستحيلة نقاط مراقبة؟

4

الغربة من أبرز القضايا الملحة في ديوانه [ تكوينات ]، وربما كان لزمن قصائده دور في ترسيم هذه النقطة كأحالة متمركزة في ديوانه.
نفذ الى الغربة بالكلمة والصورة والسؤال والحيرة، وطالما تطل بمأساتها من بين سطوره، وكأنه جعل منها القضية الوحيدة التي ينبغي ان تسترعي الهم الفلسفي في العالم، والم يتناول الغربة بهويتها المادية المعروفة، لان الشاعر منفي قهراً، حُرم بالقوة من حقه، اذ سلب منه صراحة واستهتاراً، ومما يلفت النظر حقاً شمولية غربته، فهو ليس ذلك المخلوق الذي حيل بالعنت بينه وبين التراب الذي نبت فيه، بل هو ذلك الروح المضطهد ، ذلك الضمير المقموع، وهو تلك الكلمة المذبوحة.
انها الغربة الكلية!!
ان الغربة عندما تكون بهذا المستوى تساوق العدم وتعادل النفي' فمن الطبيعي ان تكون الموضوع المتكرر في الديوان، الموضوع الذي يستجلب استحقاقات كثيرة، مما يجعله نواة مركزيّة. فليس صدفة ان يكون مفتتح الديوان هذا الكشف عن غريته في داخل التاريخ!! فهو كلما يتصفح كتب التاريخ تتلوث اصابعه، وليس صدفة أن تكون خاتمة الديوان عبارة عن سلب محض.

"أرسم درباً وأمحوه
أرسم خطواً ويمحوه غيري
فمن أين أبدأ"

فهي إذن غربة مركبة، متداخلة، غربة من الخارج وغربة من الداخل، أن الرسم وضوح… بداية ‘إشراق…شروع في المسير… والمحو نفي وحذف.
{فمن أين ابدأ ؟}
أن الشاعر لم يعدم تشخيص البداية، بل يعرفها وفقه كنهها بدليل الرسم الذي هو دالًة، ولكن ما أن يشرع فعلاً
حتى تتحرك قوة من داخله، تحذف المحاولة الجادة، وتصدمه قوة من خارجه، لتمارس ذات الموقف!! فاي غربة اذن هو يعانيها؟ انها تتجاوز محنة المصير لتتحول الى محنة وجود، وحنة الوجود اقسى من محنة المصير لأنها تنطوي على سؤال خطير، انه السؤال الذي ينصب على تبرير هذا الوجود بالذات، ان الارتياب بمبررات الوجود يربك العقل، ويحول دون البداية، المر الذي يعدم المسير.
ان جهض البداية من الداخل والخارج يضيق معنى الوجود، ويصل إلى مرحلة الحذف.
ان سؤال: من أين ابدأ… ليس سؤالاً عن نقطة زمنية أو مكانية، بل سؤال عن حقيقة الذات واسباب مجيئها الى هذا العالم، مادامت البداية، بداية المسير مقموعة من الداخل والخارج، وهذا التوافق بين البعدين، تعبير عن اعتصار الشاعر لكل ممكنات تصوير المحنة، وتوثيق لكل اسباب التساؤل الحائر.
ان رسم البداية وحذفها في آن واحد، يترجم موقفه القلق في هذه الحياة، فهو:

"نصف طليق
ونصف مصفد"

انها ليست حالة من التردد، ولا حالة من الحيرة، بل هي محنة، ثم غربة، غربة تكرست اخيراً في هذا التساؤل عن سبب هذا الوجود، وكيف لا يكون ذلك، وهي غربة كليًة تلاحقه في كل جزئيات حياته؟
قد يرى بعض الناقدين أن هذا البيان فوق طاقة النص أو النصوص، وفي الحقيقة أن القصيدة عبارة عن كون كما قلنا، والكون الخارجي، هذا الذي يكتنفنا من كل جانب، الذي يغمرنا بمادته وطاقته… ليس إلاّ علاقات محكومة بقانون الاحتمال و من ثم حوادث شتًى تنجم عن هذه العلاقات المعقدة، ومن الصعب تحكيم اليقين في نوع هذه الاحداث، والقصيدة على هذا الجري، فقوامها بعد الايقاع المتميز، تلك الروابط بين المفردات المثقلة بالخبرة والمعاني والتجارب، وهذا التركيب يفرز المعاني على نحو الاحتمال، فليس هناك معنى، بل نحو معنى، خاصة، ان النص الشعري المعاصر ليس عطاءً جاهزاً، وانما خبرة هائلة، والقارئ هو الأخر خبرة، يقرأ بذاته وليس بذات الشاعر، لان القصيدة اصبحت ملكه.
ان التأويل مقدم على الحقيقة، وخبرة القاريْ ليست راصدة وانما مشاركة، ولكن هذا لا يعني، أن التماهي معدوم تماماً، لأن هذا نوع من الفوضى، وانما الذي نريد ان نؤكد عليه هنا، تحرير النص الشعري من الآليٌة الساذجة في الفهم والتلقي، وتوظيف الخبرة الشعوريّة لدى المتلقي في هذه العملية الروحية الرائعة، ومن الطبيعي أن تكون هنا او هناك نقطة لقاء، ولكنه اللقاء المترع بنحو الحقيقة المرنة.
والآن ألا يحق لنا أن نسأل عن ماهيّة ذلك السؤال المضمر؟
انه: لماذا؟
وتبقى مسألة اكتشاف موضوعات السؤال من مهمات المتلقي.

21/5/1998


عدنان الصائغ يكتب فوق سماء غريبة أشعاراً تجسّد محنة الوطن

زهير كاظم عبود
- السويد -


الغربة تترك سحنتها فوق كلمات قصائد الشعراء ، تستفزهم وتزيد من هرس أحلامهم وعذابات يقظتهم وتتغلغل بين ثنايا قلوبهم المغلفة بالحزن ، والغربة النيران التي تحرق كل الأطياف الجميلة فتحيلها هشيماً محترقا مثل الورق اليابس في الذاكرة وجزء من محنة الإنسان في هذا الزمان .
والغربة تترك أيقاعات مطبوعة داخل الروح فتغمرها بالوحشة حيناً وأحياناً كثيرة تغمرها بالحنين الذي يفعل فعل الشفرات الحادة داخل النفس التي تتطلع دوماً الى سماء الحرية والى فضاء رحب ليس له حدود وخال من الحواجز والمصدات و الخطوط الحمراء فوق تفاصيل الجسد ، فضاء مطلق يحلق فيه الشعراء دون أجنحة مثل الحمائم البيض بشفافية مثل رقة الفراشات الملونة ، يمطرون كما تمطر الديمة الوافرة مطراً من الكلمات الدافئة التي نصبغ بها جدران أرواحنا ونبلل بها عطش نفوسنا ونهدهد بها شوقنا الذي طال الى سماء الحرية الملون .
المدهش في مجموعة الشاعر ( عدنان الصائغ ) – تحت سماء غريبة الذي أعادت المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت طباعته في العام 2002 بعد أن كانت الطبعة الأولى قد صدرت عن دار مواقف عربية – منشورات سعد البزاز - لندن عام 1994 .
أن نصوص المجموعة تتجدد مع تجدد المحنة وتحمل بين ثناياها الكثير من الأشارات والخفايا التي يضمنها عدنان الصائغ بين ثنايا النص وبين أشعاره المحلقة وتتداخل في الكلمات الطرية .

"تضيق البلاد
تضيق
تضيق
وتتسع الورقة
البلاد التي نصفها حجر
والبلاد التي دمعها مطر
والبلاد التي ...
تبيع بنيها
اذ جوعتها الحروب
فماذا تبيع أذا جوعتك البلاد
وضاقت بدمعتك الحدقة
................"

لم تزل الكلمات تحلق فوق هام النخيل ورؤوس الضحايا التي تبحث أرواحها وعن قبر يعيد لها بهاء البلاد فتستقر فيها ، لم تزل الكلمات تنوح عند سماع صوت العجائز ولثغ الأطفال ورائحة البلاد وعبق الأضرحة والقباب الذهبية التي تسلب اللب ، وأعمارنا التي ضاعت بين هذه الدروب وضيعت البلاد فلذات أكبادها ، لم تزل جاثمة فوق عتبات البيوت العتيقة وعند مفارز الأمن ونقاط التفتيش وشظايا العمر الذي لم يرممه كل هذا الزمان ولا غسلت تعبه كل قيعان المحيطات والأنهر التي لم تجف ، غير أن الكلمات لم تجف بعد .

"السماء التي ظللت أرضنا
والمنافي التي أرخت جرحنا
سأقول لها
كلما طردتني بلاد
وساومني صاحب
أتكأت على صمتي المر ..
أبكي الذي فاتنا"

ويقوم الصائغ بنشر كلمات قصائده فوق حبل الشمس لعلها تصل الوطن في الليل حين ينام الناس وتغمض عين الطيور التي تلتقطها فتعبر اليهم مثلما يعبر اليهم صوت المؤذن فجراً ، فتصلهم مثل الأحلام التي تتدثر فيها الكلمات المرصوفة في رسائلنا ، تلتصق بعيونهم لا تفارقها فثمة شوق كبير وحلم كبير .
ويتنقل الشاعر الصائغ في قصائدة على امتداد مساحة الطريق الموصل الى عمان يفكك قصائده التي هربها من بغداد ثم الى العقبة فصنعاء ينشرها في هواء حزين .

"كلما سقط دكتاتور
من عرش التاريخ ، المرصع بدموعنا
ألتهبت كفاي بالتصفيق
لكنني حالما أعود الى البيت
وأضغط على زر التلفزيون
يندلق دكتاتور أخر"

وعلى امتداد مساحة 38 قصيدة متنوعة تتوزع قصائد عدنان الصائغ يسجل فيها أحلامه وتجلياته وشهادته في الزمن الصعب ، ويرسم تنبؤاته وهذيانه فوق الكلمات التي يكــتبها بخط واضح ونبط كبير ، لعله يستقرء ما سيصير اليه الزمان ، فالكوفة مبتلاة بالمتنبئين وبالمنجمين وبالضحايا والمنفيين أيضاً ، لعله يريد أن يكتب قصائدة بمداد ماء الفرات بعد أن وجد أن أحبار الدنيا لا تتناسب مع لون كلماته ، ويريد أن يؤكد لنا بشكل جازم أن كل سماء يفترشها و يكتب تحتها هي سماء غريبة أذ ليس له غير سماء العراق ، العراق الذي قال فيه :

"العراق الذي يبتعد
كلما أتسعت في المنافي خطاه
والعراق الذي يتئد كلما انفتحت نصف نافذة
قلت آه
والعراق الذي يرتعد كلما مر ظل
تخيلت فوهة تترصدني
أو متاه
والعراق الذي نفتقد
نصف تاريخه أغان وكحل
ونصف طغاهْ"

كلمات القصائد شفافة يخاف عليها من الانكسار ، يقول الشاعر الكردي شيركو بيكه س أنه شعر أثناء قراءة القصائد أنه يتذوق طعم الرطب ويشم زهور الأهوار ويغمس رأسه في ملتقى النهرين ويسمع دقات قلب الشاعر عدنان الصائغ .
ولكي نسمع معاً دقات قلب الشاعر ونتلمس فجيعتنا وحزننا بين كلماته نصعد معه فوق كلمات القصائد نرحل معا دون أجنحة في سماوات غريبة لعلنا نلمح الوطن من بعيد ولعل الوطن يوميء الينا وهو يستعيد أنفاسه بعد هذا الخراب الطويل .


"تحت سماء غريبة" للعراقي عدنان الصائغ

في هجاء التشرد وتمجيد الحرية والتحديق بالكابوس

عمر شبانة
- بيروت -




تظل الحرية هاجساً في روح الشاعر وحياته وسلوكه، يبدأ بالكتابة الشعرية المتحررة من القيود، وصولاً إلى العلاقات اليومية البسيطة. وعليه، يبقى الشعراء أسرى دوامة القمع والتشرد، فهم وارثو الندم، ليس من أبائهم وأجدادهم، كما عادة الوارثين. بل من أبنائهم كما عادة الشعراء. هكذا كتب الشاعر عدنان الصائغ إهداءه حين قدم لي ديوانه الجديد "تحت سماء غريبة" (منشورات البزاز في عمان – الأردن)، فهو لم يجد شيئاً "سوى الندم الذي ورثناه من أولادنا".
ومنذ العنوان، يعلن الشاعر غربته عن هذا العالم، فيبدو تحت سماء غريبة، حيث تعج الحياة بالشرطة والسجون والمنافي والقطارات والمسافرين والضحايا... وحيث الكوابيس والمراثي المبكرة ومحاولات النسيان والبلاد الضيقة والرحيل والمخبرون... ثم حيث "الشعراء الأقصر قامة../ يضعون لقصائدهم كعوباً عالية" وحيث "كثرة الطعنات وراء ظهري دفعتني كثيراً إلى الأمام" وحيث "غصن حياتي ممتلئ بالعصافير الميتة". "الربان المتردد يجد كل الرياح غير مؤاتية... للإقلاع" والموت في كل شيء، و"خلف الخطى الصاعدة/ إلى العرش/ ثمة دم منحدر على السلام".
في هذه القصائد الناعمة والمتوحشة في آن، ترتسم صورتان للإنسان: الصورة التي تنجزها الحرب، والصورة التي تلغيها الحرب. وجهان لإنسان واحد، يهرب من الوطن المدمر ليبحث عنه ويقيمه في داخله. ويمضي به إلى المنافي فيتدفأ بنيران ذكرياته الصغيرة ذات الحضور القوي الباهر.
قصائد لا تمجد الوطن إلا بقدر ما تعيد صياغته في صورة تفاصيل وملامح الإنسان الذي يمثل العنصر الأساس في هذا الوطن. الإنسان الذي نجده أما مهاجراً إلى المنفى، يشير إلى البحر ويسأله "من سيظلل أحلامنا في المنافي/ وننسى على كل مرسى/ مناديل بنلوب بنسجها أهلنا..."، وإما في حانة يكشُّ الذباب المشاكس عن صحن أحلامه، ويدفع فاتورة القيء، ويتذكر أنه كان سيسافر منذ عشرين عاماً، ففي جيبه ما تزال "تذكرة لقطار مضى...".
وتقف ثنائية الوطن/ الغربة شاهدة على صورة العلاقة الملتبسة مع كل من طرفي العلاقة. فالوطن "مدجج بالحراس" وديكتاتور يندلق "من أفواه الجماهير الملتهبة بالصفير والهتافات" و"مفرزة إعدام" تمر أمام المرأة التي اقتادوا زوجها قبل عام، وحبل غسيل تنشر المرأة عليه "ثيابها السود" فتهرع جارتها وتتشبث بعنق زوجها كأنها تخشى أن تفقده كما فقدت الأولى زوجها.
ومن رموز الوطن، ذلك "الجندي المجهول" الذي لم يحلق ذقنه ذات صباح فعاقبه العريف، ثم غدا "الجندي القتيل الذي نسوه في غبار الميدان، بلحيته الكثة غدا متنزهاً للمدينة". وفي المقابل يبدو المنفى وحدة وصقيعاً وأرصفة تسكع ومهاجرين "بلا وطن ولا سجائر ولا جوازات سفر" وفوق ذلك حنين إلى النخل والحانات.
وتتلخص علاقة الشاعر بتلك الثنائية في قوله "كلما فكرت في الغربة/ سبقتني دموعي إلى الوطن".
و"تحت سماء غريبة" قصائد تراوح بين النظم (قصيدة التفعيلة) وبين قصيدة النثر، فتجيء القصيدة – من دون اعتبار لشكلها – مكثفة شديدة الاختزال حيناً، كما في قصيدة "حرية" التي نثبتها كاملة:

"قبل أن يكمل رسم القفص
فر العصفور
من اللوحة".

وقد تنفلش القصيدة لتغوص في صور ولغة وتشابيه وتراكيب مكرورة ومرددة في الشعر. وفي الحالين لا نعدم حضور الحالة الشعرية النابعة من حالات يصورها الشاعر بانفعال كبير يجعل المعنى يطغى على العبارة مرة. ومرة ثانية نجد ذلك التوازن بين الدال والمدلول فلا يطغى أي منهما على الآخر.
ولعل في قصيدة "جنوح" بعض سمات القصيدة التي يريدها ويكتبها عدنان الصائغ. إنها تلك التي تحتاج إلى لغة خارج اللغة – البيت:

"معنى يشكّله الطفل، قبل الفراشات
في رعشة البرعم الغض".

إنها عفوية الكتابة المشردة، حيث اللغة لا تتعالى على قاريء المقاهي والأرصفة، والصور قريبة من الرؤية العابرة واليومية. لغة وصور تجسد التفاصيل الصغيرة، فتقدم خريطة الحياة في توغلها من اليومي إلى الجوهري في حياة الشاعر/ الإنسان المتعدد الوجوه وزوايا الرؤية، حيث:

"النجوم التي يتوهمها المطبعي حروفاً متناثرة..."
يراها المدفعي دموع الأرامل التي
سيخلفها بعد كل قذيفة...
يحسوها السكير حبيبات طافية من الذكريات المرة...
يتلمسها السجين سجائر مطفاة في جلده...
يتأملها العابد، رذاذ ماء الوضوء
على سجادة الكون
النجوم...
ترى أين تختفي
عندما تفتحين نافذتك
في الصباح".

وثمة أبعاد في كل قصيدة، في كل رؤية شعرية، لكن قصيدة "أبعاد" تحدد، من خلال أبعادها الثلاثة، رؤية كل شخص في المشهد الذي يضم طفلاً "يلحس البوظا" و"مخبر قميء يلحسني، مختبئاً خلف ثقوب جريدته...". هذا المشهد المكرس للانكسارات، ينتهي بأن "تعصف الريح بالجريدة فيطير الحمام/ لكن النافذة تبقى مفتوحة" أملاً بالحرية.
الحياة بتفاصيلها وعناصرها – هنا – تتوازى مع الفن والحرية المفقودة، الضالة التي يسعى وراءها الشاعر، تتجلى في معظم قصائد الديوان. ففي هذه المجموعة، كما يرى سعدي يوسف في كلمته على الغلاف الأخير، يفتتح عدنان الصائغ "مشروع حريته الشعري". وليس المشروع هذا سوى محاولة للنجاة من الكابوس، استدعت – حسب سعدي يوسف أيضاً – التحديق فيه (في الكابوس) طويلاً... من موقع الحرية.
هذه الحساسية العالية تجاه الحرب (دونما وصف خارجي للحرب) تدفع الشاعر إلى التقاط رموزه وتفاصيله من روح المعاناة والقهر، والابتعاد عن الوطن في صورته القديمة بما تمتلكه من مقومات استهلكها الشعر. وبالحساسية نفسها يكتب، كأنما بالدم الحار، الحب الضائع في زحام التشرد والهجرات المتلاحقة.
تتساوى إذن عناصر الوطن من الإنسان المسجون في فضاءات وطنه، إلى ذرات التراب والنخيل ومياه النهر التي يحملها الإنسان المقهور في وطنه أو الهارب من عدم قدرته على بناء ذلك الوطن/ الحلم ومن عدم قدرته على تحمل رؤية الوطن سجيناً راكعاً أمام الجلاد – الديكتاتور!


على هامش النقد:

من عتمة الفوضى إلى ضياء التسمية

قراءة في مجموعة "تحت سماء غريبة"
للشاعر عدنان الصائغ

محمد النصار
- عمان -




بصدور مجموعته الشعرية الأخيرة " تحت سماء غريبة" يمضي الشاعر عدنان الصائغ قدماً في تعميق مساره الشعري الذي اختطه منذ صدور المجموعة الأولى له " انتظريني تحت نصب الحرية في بغداد عام 1984. إذ أن الصائغ يعمق هنا حواره الحميم الدافيء والمواجع في آنٍ معاً بينه وبين العالم, حواره الذي يبدأ من رصد موجودات هذا العالم عبر الاستثمار الواضح لطريقة عمل حواسه المرهفة واشتباكها مع مفردات الواقع اليومي التي تدخل عن طريق آلية أشتغال الحواس إلى مصهره الشعري فتتم إذابتها مع المدركات الأخرى المخزونة في طبقات وعيه معرفةً وخبرة حياة وآلامٍ تبقى موهبة الشاعر حريصة على إبقائها حيةً فتقدمها نصوصاً متوهجة تثري دهشتنا بلغة موجزة ومشاهد طازجة.. أن الشاعر يشفف علاقاته بالوجود – عن طريق الخصائص المشار إليها – ويتمظهر الثقافي متمثلاً بالبساطة المعمقة إذ يتم طرد واستبعاد "الأسئلة الوعرة" التي لا تلائم طريقته في الأداء أسلوباً ومخيلة.. وحين تحضر شذرات الأسطورة والميثولوجيا فعلاً هنا وهناك "بنيلوب", "أجاممنون"على سبيل التمثيل فان الشاعر حاذق في توظيف هذه الشذرات وإحكام السيطرة على تفاعلاتها "النصية" مع العناصر الأخرى بشكل ينمُّ عن خبرة تحمي تجربته من طغيان تأثير هذه العناصر "الشذرات" التي لا تتلاءم مع أسلوبه الشعري
وفي هذا إدراك لأهمية تحقيق الانسجام الذي هو الشرط الأول لتحقيق شعرية وجمالية النص.. يحضر اللمح والإيماء وتغيب الثرثرة.. إن الشاعر الصائغ حريص على أن يظل وفياً لعزلته, يذود عن أساه, حريصاً على ذاته التي يتسرب إلى شعورنا خطابها الجارح الهاديء غير أن هذا الهدوء يضمر في طياته قوة روح لا تتهاون في تمظهرها وتمردها مع كل ما يتهدد حريتها وسعيها لتأسيس حضورها وسط هذا العالم المليء بشتى صنوف القبح والمرارة... إنه يتساءل, يغضب, يحتج فيتخلل السواد إلى مياهه ليلوّنها فيمتزج وهج الروح وهي تنزف اغترابها مع هذا السواد في
ثنيات متعددة لها قوة الإدهاش الطفولي.. إن حفاظ الشاعر على طراوة المخيلة هو دليل على بقاء الطفل حياً في داخله ضدَّ العالم الذي يحاول تدجينه وترويضه بطرق وأساليب حياة بعضها بسيط واضح وبعضها الآخر غامض معقد.. إن الإحساس العميق للشعراء وسط خراب الأشياء يعكس حالة الرعب, رعب السؤال عن مصير ومعنى وقيمة وحركة الوجود بالمعنى الأوسع.. وهذا السؤال هو صراخ طفولي ولكنه عميق ضدّ البلاهة والتشيؤ الذين يزحفان على كل مظاهر الوجود وأشكاله المتعددة.
إن نصوص عدنان الصائغ هي ممارسة وجودية لاختراق فجاجة العالم وهشاشته عن طريق الاستفادة من التفاصيل العابرة وتغذية الصلة الحية بها بنظرة متأسية تعكس حالة "التلاشي والأفول واللامعنى" عبر قلق التوحد وثقل الغربة وقساوة الفوضى ضد ذاتٍ عزلاء تعاني من خساراتٍ متعاقبة فتهربُ إلى "ملجأ" اللغة لتحمي وجودها من التآكل والانقراض:

" تراقب نهر المشيب
يشقُّ المروج.. إلى مفرقيك
فتبلع كبسولة القرحة المزمنة
هكذا
بانتظامْ
وتنامْ " ص 21

يحاول عدنان الصائغ الاستعانة بالذاكرة وإطلاق العنان لأحداثها المتشابكة فتمارس هذه الأحداث حضورها في اللحظة الشعرية الراهنة أي لحظة ولادة النص, هاربة من زمانها ومكانها المبعثرين "هناك / أمس" في ذخيرة الوجدان الشخصي له وعن طريق تقطير هذه الوقائع ومزجها بما تراه العين النشطة من مشاهد يومية مملة ومكرورة آلاف المرات ينطق النص بما تضمره تلك الحوادث المخزونة ليقيم حوارنا معها, حوار الرؤية الصافية غير المشوبة بغبار الوقائع حيث أن لحظة المعاناة الحقيقية تبدأ آنَ الكتابة فتتم المعاينة المتألمة والمتأملة إذ أن حالة التقادم تنقّي وتهيء لاقتناص المكنون الباقي عازفةً عن ملاحقة ما هو عارضٌ زائل فتخرج الأشياء من عتمة الفوضى لتدخل في ضياء التسمية وهكذا يسمو الوجود فتصبح الذاكرة هنا وسيلة لتحرير المقموع الراكد الذي يرزح الكائن تحت سلطته الكابحة ضدّ حريته:

"معادلة صعبة
أن أبدّل حلماً, بوهمٍ
وأنثى.. بأخرى
ومنفى, بمنفى
وأسأل :
أين الطريق؟! " ص 35

يحضر عنصر التكرار بوفرة في نصوص الصائغ, يصبح هذا التكرار أما لازمة إيقاعية : مفردة أو جملة أو لازمة لتأكيد قوة الحالة الشعرية وعبر هذا التكرار يصوغ الشاعر أحداث مشهده مضفياً طابعاً استمرارياً عليه عن طريق الإكثار من استخدام الفعل المضارع والجملة القصيرة المكثفة الخالية من الزوائد:-

"تعبرُ البنتُ
يصفرُ شرطي المرور
إلى النحلِ
أن يعبرَ الآن
تصفرُ فينا بيوت التذكر, ضيقة البابِ
تصفرُ ريحُ المدافع" ص5

إن تتابع الأفعال المضارعة : تعبر, يصفر, تصفر، يسهم في إثراء شحنة المشهد وتوفير الاداء السلس المتحقق عبر الاختزالية والتكثيف والإقلال من استخدام الجمل الوصفية الاستطرادية مع الاقتصاد في استخدام الجار والمجرور, والحذر من إكثار استعمال الأسماء الموصولة وهذه جميعاً تعطي لجملة الشاعر صفة البرق في التوهج وقوة " الإبلاغ " يضاف إلى هذه الخصيصة الإدائية استخدام عنصر المفارقة الصادمة والجارحة وهناك ميزة أخرى وهي استخدام "الجملة المفتاح" التي تلمُّ حولها "عاملات" أخريات يعملن في خدمتها لإثراء القيمة الشعرية للنص ككلية واحدة : فجملة (تصفر ريحُ المدافع) في المقطع أعلاه هي الجملة التي تشكل البؤرة الأساسية في هذا المقطع وهي تختزن "ضوءاً سرياً وداخلياً" قوياً وملموماً في حين تأخذ الجمل التي تسبقه دور المرايا, فتعتاش على قوة الضوء الأصلي للبؤرة الأساسية وتسهم في "الوشاية" بـ " مضمون " الصدمة الشعرية : تصفرُ فينا ريح المدافع هكذا يتم رسم المشهد عبر إعمال حاسة البصر بفاعلية استثنائية وهي إحدى ميزات الكتابة الشعرية لدى الصائغ:

"تختلس النظرات
لسطح جارتها
وهي تشرُّ ثيابها السود
فتمسك قلبها, بيديها
- كليمونةٍ معصورةٍ –
وتهبط مسرعة
إلى غرفة النوم
متشبثةً بعنقِ زوجها
وهو يفرك عينيه
مذهولاً
لمرآى زوجته..
…. بالثياب السود." ص39

إن الشاعر هنا حاذقٌ بطريقة رسم المشهد عن طريق استثمار عنصر المفارقة في هذا المقطع اللافت وفي مقاطع كثيرة أخرى في الديوان:-

"أفتح ثلاجة أحزاني
أخرج قنينة عرقٍ" ص40

أو:

"وتساقطت عقارب الساعة, من معصمها
كطيور ميتة, على السجادة " ص41

إنه يديم صلتنا – عن طريق النظرة المندهشة – بالأشياء, يزيح الغبار الأسود وحالات عمى البصيرة, يلتقط البعد الخفي المفقود للأشياء وعلاقاتها بعضها ببعض فيعمق وجودنا وإحساسنا بهذا الوجود. إنه شاعر القصيدة الواقعية الرمزية, يغذي حنيننا إلى البعد الرمزي للموجودات, الذي " نسيناه" في خضم الركام والهلع واللهاث خلف نزعة "استهلاك" الأشياء والسقوط ضحية رتابتها وانشغالاتنا البائسة بها والتي لها أول وليس لها أخر.. إنه يدفيء "البرودة" التي تزحف ضدّنا لنقاوم هامشية الوجود وندحر سلطة الأشياء الفارغة:

"أرفع أنخابهم كأساً, كأساً
أو جثةً , جثة
وحين أسقط على الرصيف
من الثمالة
سيحملونني – في توابيتهم –
إلى البيت ." ص40

المخيلة تعمل في هذا المقطع على تسليط ضوئها على مفارقة "الحي الميت" وهو البعد المطمور في ضلالات الوقائع اليومية.. هنا يقوم الشاعر بدور الطفل الواشي بهذه الوشائج المؤجلة والتمرد على نزعة الموت والخراب الكامنة فيها حتى يصل الأمر أحياناً إلى حدّ الغناء الحزين الذي ينطوي على تهكمية مرّة:

" أشيرُ إلى البحر
من سيظلّلُ أحلامنا في المنافي
وننسى
على كل مرسى
منديل بنلوب ينسجها أهلنا
............
المنافي تضيقُ بنا
والفيافي تحيقُ بنا" ص6
...............
* *

أختتمُ هذه الملاحظات السريعة في تجربة الشاعر المثابر عدنان الصائغ بالإشارة إلى ظاهرة تكاد تشيع في نصوص عدد غير قليل من الشعراء وهي ما اصطلح على تسميته بـ "الذاكرة الإيقاعية" إذ أن الذاكرة تعدُّ عاملاً خطراً على تجربة أي شاعر إذا لم يُحكم السيطرة على رصد "تفاعلاتها الخفية" داخل مصهره الشخصي فهي تمتلك قدرة فائقة على الإسحار والإستحواذ... تهيمن على الشاعر, تُحكم السيطرة على "خطابه" الخاص, تقوم بالقول نيابة عن كينونته, عبر تراكماتها اللاواعية المتحصلة من عمليات الحفظ وإدمان قراءة نمط محدد من الشعر ولشعراء معينين... ولأن الشاعر يمارس وجوده ويؤسسه عن طريق اللغة.. لذا يصير وجوده أصيلاً بمقدار ما يجترح من "أقوال" متفردة خاصة وهنا تبرز أهمية "المكابدة" و "الكدح" و "الكد" و "المجالدة" ومعاناة الفشل مرّاتٍ ومرات لقهر "سلطان الذاكرة الإيقاعية" التي تأكل من جرف الشاعر عن طريق استخدام سلطة اللغة وهي تحاول أن تقول ما لا نعني فنفقد شرطاً لازباً من شروط "حريتنا" .. فالحرية هي وجودي أنا.. وهي وعيي أنا.. كيف أفكر.. كيف أحلم.. كيف أرى.. وهي صفاتٌ تشكل جميعها بصماتي التي لا يمكن بحالٍ من الأحوال لأحدٍ أن يستنسخها دون هتكِ "وجودها الخاص" وحريتها الشخصية.

عمان 25/ 12/ 1994


غيمة الصمغ لعدنان الصائغ
جسر إلى النسيان

حافظ محفوظ
- تونس -


ضمن سلسلة "ضد الحصار الثقافي" صدرت ببغداد في الأيام الماضية المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر العراقي عدنان الصائغ ممهورة بـ "غيمة الصمغ". المجموعة تضم طيها ثلاثين قصيدة تتوزع على اثنتين وستين صفحة من الحجم المتوسط.
من يعلم الشاعر أن يكون دائما متوثباً لاختطاف اللحظات الأكثر انفعالاً في العالم وفيه، داخل أعصابه وذكرياته وتفكيره وأحلامه وحدسه وانشغالاته؟ من يعلمه هذه اللعبة التي تصنع منه جرساً يرن كلما نبه؟ عدنان الصائغ في "غيمة الصمغ" يحاول أن يرصد أجراسه المنبهة دائماً المتعبة برصد الذات أولاً والحبيبة/ البلاد المضطربة دون نهاية وهو في محاولته يرسم الرنين الصادر عنه يرسم آهة الروح وارتجاج القلب وتوثب الحواس فتكون رسومه قصائد متوهجة لا يمكن أن نمسك ببدايتها أو بنهاياتها وهذه طبيعي لأنها قصائد مرتعشة ومتحركة دون انقطاع أو توقف كأنما هي رجع صدى لناي أو كمنجة حزينة ومضطربة. وعدنان الصائغ يحتفل بخيباته شعراً

"يدها
وأفتح ليل نافذتي
على مطر
ينث الأفق من عبق اشتهائك
هاهنا وجعي على البحر المحاصر
هاهنا قلبي يدثره صقيع يديك
في البلد الغريب" صفحة 28

إن اختزال القول ضرب من التفريط في لذة اكتشاف ما بقي منه ومجموعة "غيمة الصمغ" هي مقاطع مختزلة من قول يمتد إلى لا نهاية الفعل الإنساني في ما يراه ممكناً من الفعل وهي اختزال لكلام كثير ينثره عدنان الصائغ على مياسم قصائده كأنه يريد لها أن تخصب على رغبتها ووفق ما يرومه لها قارئها فهي تحيل إلى فضاء غير ما تشير إليه لغتها وتأتي إلى أجواء لم ترسمها كلماتها أو جملها وهو ما يضيف إليه قوة التخيل كجمالية نثرية يستغلها الشاعر لتتسع العبارة. يقول في قصيدة "محاولة" (ص 48)

"ضعه فوق السندان
واطرقه بلا رحمة
أطرقه، أطرقه، قلت له:
أطرقه كي يتمدد هذا القلب
ويصبح جسراً يوصلني للنسيان"

إنها الطريقة التي يقنع بها الشاعر نفسه أنه أمسك بلحظة هاربة ويصر على أنه أمسكها غير أن اللحظة هي التي تمسكه وتقيده بالكلمات وتصور له نفسها على شكل قصيدة يطرب لرؤيتها مكتملة نقول هذا لأننا ندرك جيد الإدراك، كما علمنا شارل بودلير وأبو تمام أن الشعر لا يكتب بل يمسك بذيله ويتبع إلى أقصى تخومه دون الكلام حتى لا يجفل لأنه جموح ولا نقصد بالكلام سوى ذاك الذي يأتي من خارج الشعر. عدنان الصائغ في مجموعته "غيمة الصمغ" يمسك جيداً بتلك اللحظات التي تنسكب من مسامات الوقت وهو يفعل ذلك بعمق دراية وعميق الخبرة على غربلة اللغة الشعرية كما لا يدع هذا المقطع من قصيدة "خرجت من الحرب سهواً" ص 56 أي شك.

"... أن نقصر قاماتنا
كي تمر الرياح على رسلها
أن نماشي القطيع
إلى الكلأ الموسمي"


رائحة الحرب في "غيمة الصمغ"*

كريم شعلان
اوتاوا - كندا


يحاول الشاعر عادة أن يجني ثماراً مما بذر من حروف في السطور، ظاناً أن نتيجته الأخيرة ستكون وفق ما رسم في دواخلهِ من حصيلة، إلاّ أن ذلك لا يتحقق بتلك السهولة أو لا يتحقق أبداً. ذلك لما يخزن هذا الشاعر في دواخله من انثيالات وتشعبات تقود إلى طرقٍ مختلفة وشائكة. فبدلاً أن تقود اللغة إلى منظر ساحر يحتوي عاشقين، ربما تظهر في زاوية ما صورة لمقبرة أو طائر ميت فتتحول النتيجة إلى تيار مختلف لا مجال لتحديد مساره أو حصره.
والشاعر هو المرآة الحساسة لإلتقاط حركة الخارج وخزنها ببديهية فطرية مصقولة بالتأمل والخوض بالتفاصيل مهما كانت من البساطة أو الهول.
وهكذا هي الحال مع مجموعة عدنان الصائغ "غيمة الصمغ" التي حاول أن يتخلص من بقايا الحرب من خلالها، إلا أنه كتب عن الحرب بالنتيجة.
في تفاصيل القصائد وكمسحة عامة هناك تركيز على عالم المرأة وسطوتها و(الآخرين) بمفهوم يختلف عن مفهوم سارتر والعزلة التي يحلم بها الشاعر لسوق كلامه ولرصّ حروفه إلا أن آثار الحرب تظهر كرائحة تخيم على مناخ القصائد.
وسوف نتناول القصائد بالتسلسل لأجل ذلك.
في قصيدة " أخطاء " والتي تتناول موضوع (الآخرين):

"أيها الخطأ المتكرر
ـ يا عمر ـ
يا ندم الأصدقاء الجميل
سأفتح مشجب قلبي
لكل حماقاتكم"

وسنلاحظ العلاقة هنا بين القلب والأصدقاء والمشجب وكيف يتغير المناخ ويقودنا عالم قديم إلى حرب في قلب هو مشجب أو هي ذكرى مشجب كان، وتحول إلى باب في قلب أتعبتهُ الحرب. وفي قصيدة "رحيل":

"ينفتح البحر
لاسفن في دمي للرحيل
ولا وطن للحنين
*
لا مطر في الحديقة
لا وطن في الحقيبة"

وهنا تنمو مفردات الدم والرحيل والوطن والحنين ولا مطر ولا وطن وهي أجواء توعز إلى نتائج حرب خاسرة رغم أن القصيدة تنزع لتكون عن امرأة.
وفي قصيدة "جسر" وهي ومضة لتمرير شيء بينه وبينها إلا انه قال:ـ

"أحني دمي
كي تمر أغانيكِ من ثقب قلبي
إلى مصعد الشقة الفارهة".

وهنا تبدو أغانيها رصاصة ودمه رأساً ينحني فتمر الأغاني ـ الرصاص ـ من ثقب القلب.. فكيف لا نتصور هذا الـ(جسر) مليئاً بدخان وذكريات الحرب.. وفي "بكائية لأمريء القيس":

"بكى صاحبي
لما رأى الوطن ـ القلب ـ
تنهشه الطائرات
تنقّر في نبضه
قطعاً من ضلوع المنازل
والشهداء
رأيت الجنود،
يسدون كل المسارب
دون الحدود .."

وفي هذه القصيدة تظهر أجواء الحرب واضحة. ولا بد من الإشارة إلى أن عدنان الصائغ يتفرد عن أبناء جيله بلغة مختلفة تماماً فهي بعيدة عن الغموض وتقصد التضبيب الذي أوقع الكثيرين في شباك الوهم.
وهي ـ أي لغته ـ مليئة بالشعر الذي يبدو هادئاً أو هادراً معاً.
وفي قصيدة "ندم القرنفل":

"تجيءُ المدينة
أشجارها ندم أخضر
يتفتح تحت رذاذ النوافير"

وفي قصيدة "بريد القنابل":

"الفناجين باردة كالصداقات
والحربُ تعلك أيامنا
وأنا في انتظار الندم
اقلبي الصفحة الآن.."

ورغم أن القصيدة تبدأ بـ (أنتِ) وتنتهي بـ (أنتِ) إلا أن أنياب الحرب تظهر جلية لتعلك الأيام ـ أيام الشاعر ـ:

"اقلبي الصفحة الآن
لا وقت
أن القنابل
تقتسم الأصدقاء".

وفي قصيدة "وداعاً":

"أقول وداعاً
نهار القصيدة تشطبهُ الطائرات
على لوحة الأفق
*
زمن ينتهي دائماً
بخساراتنا".

وفي قصيدة "مصادفة":

"كغريبين معاً مرّا وافترقا
رجلاً يتسكع
وامرأة محترقة.."

ومن قصيدة "سأم":

"أعلق ـ في المشجب ـ قلبي
وأنام".

وفي قصيدة "زعل" وهي قصيدة فراق عن امرأة:

"نفترق الآن
سيشيخ الورد
وتساقط أوراق العمر على نافذة الموعد
أتأمل فستانك في المشجب
متكئاً فوق ذراعي"

*

"تتوزعك الطرقات
ويوميات الحرب".

وقصيدة "سماء في خوذة" والعنوان هنا دلالة مباشرة عن الحرب:

"ارتبكتُ أمام الرصاصة
كنا معاً في العراء المسجى على وجهه
خائفين من الموت
جمّعت عمري في جعبتي ...
ثم قسمته بين طفلي
ومكتبتي والخنادق

*
وركضنا ....
نتحدى معاً موتنا
أينا سيخبّيء ـ يا وطني ـ رأسَهُ
ولنا خوذة واحدة؟"

وتستمر بقية القصائد ـ إلى مخبر قديم.
ـ شقة رقم "1".
ـ في المكتبة.
ـ طلقة.
ـ متسولان.
ـ أمسية شعرية.
ـ ديوان.
رغم أن القصائد كتبت بفترات زمنية متفاوتة وفي أماكن مختلفة ورغم اختلاف محتويات القصائد وما تريد البوح به إلا إنها محملة بذكرى وحياة مليئة بالأسى والاختناق من دخان حرب طويلة عاصرها الشاعر وبقيت معه بين أصابعه وأحداقه فهو يكتبها عندما يغازل حبيبته وعندما يعاتب أصدقاءه وعندما يصف شيئاً ما.. فتظهر كرائحة عتيقة في مطر الكلام وبين الحروف وتؤسس لوجودها قسراً ولا يراها الشاعر أحياناً فتظهر لنا بأجمل ما يمكن من مفردات دوّنها الشاعر عدنان الصائغ.


(*) الاقتباسات مختارة من ديوان "غيمة الصمغ" ط1 مطبعة الاديب البغدادية 1993 بغداد / ط2 منشورات اتحاد الكتاب العرب 1994 دمشق. ضم غلاف الطبعة الأولى كلمة للشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر، جاء فيها: "نادراً ما التقيتُ شاعراً مثل عدنان الصائغ، تكتبهُ القصيدةُ قبل أن يكتبها، ممتلئاً بالشعرِ فيّاضاً به، كلما رأيتهُ أدركت أن الشعر لما يزل في بقعةِ ما من هذا العالم الحديدي الحجري. ربما في جزيرةِ منعزلةِ هجرتها الطيور ولم تهجرها القصائد بعد، بل يخُيّل لي أن الأرض كلها في تصور هذا الشاعر ليست إلا أوراق قصائد تدور... لا شيء من حوله أو بين يديه إلا هذا النغم التائه المسحور، أو هذه المرأة المتنكرة الباهرة الضائعة في عالمها الضائع ـ أي القصيدة ـ أو هو أشبه في زمنه هذا بفارس علّق شارة الفروسية في عصر لم يعد يحفل بالفروسية والفرسان، ولم يعودوا هم إلاّ أشباحاً وظلالاً. واني أحمدُ له هذا الصبر والتشبث، وهذه الرغبة في اقتحام (طواحين) الأيام (النثرية) المصفحة بالاسمنت والذهب، بل يخيل لي أحياناً أنه (آخر) الشعراء وقد دالت دولتهم وجف في وجوههم ماءُ الحياة والحياء...
الرياحُ تسرع الخطى وهو مسرعٌ إلى قصيدته، فلاح محراثه اليراع وحقوله الورق، صائغ أدمى جفونه فوق مادة الشعر الزئبقية الهاربة، طير تائه على أرصفة السجائر والجرائد، طفل لم يزل لاهياً بطيارته الورقية بين طائرات الكوكب الأرضي الهادرة المتراكضة، تتدلى القصائد بين يديه كما تتدلى العناقيد الذهبية بين عرائشها وكؤوسها، هو صاح و(الآخرون) نائمون، هو مجنونٌ ثملٌ بالشعر و(العقلاء) الكثرة الكاثرة، العالم نثر وهو شعر، كما يقول عبد الصبور. العالم حجر وهو موجة، كما يقول بوشكين. العالم عوسج وعاقول وهو ورقة ورد..
سلام على القصيدة حيّة نابضة ملء أصابعهِ"...

كريم شعلان
27/9/1997


عدنان الصائغ.. من أين لك هذه الشفافية الجارحة؟

عذاب الركابي
- ليبيا -


"خذ ثمانية أعوام من عمري، وصف لي الحرب
خذ عشرين برتقالة، وصف لي مروج طفولتي
خذ كل دموع العالم، وصف لي الرغيف
خذ كل زهور الحدائق، وصف لي رائحة شعرها الطويل
خذ كل البنوك والمعسكرات والصحف، وصف لي الوطن.

1 – قرأتُ الصديق الشاعر "عدنان الصائغ" قبل أن أراه وألتقيه، وشدني إلى قصائده هذا التوهج الرائع، وهذا الصدق النادر، المصحوب بتماس طفولي جميل لحب الشعر والذوبان في كونه، وقد أذهلتني هذه اللغة الشعرية المتمكنة الشفافة التي تصدر عن روحه العاشقة المعذبة دون تكلف أو تصنع ..

"كفاك تحديقا في مرايا عيوني
لقد بكيت كثيراً، أكثر مما يجب،
أكثر من كمية الدموع المخصصة لحياتي"

"عدنان الصائغ" يراه القارئ المتابع للشعر كأنه على موعد دائم مع الكلمات، فهي هواؤه، وطريقه، وامرأته، وأصدقاؤه. إنه يعقد حلفاً هادئاً جميلاً مع الكلمات على بناء مدنه الشعرية الخاصة به، فأنت تراه حين تقرأه، ربما لأنه استطاع أن يحول جراحاته وهمومه إلى ومضات شعرية، بل إلى نيران متأججة مذهلة لا تستقر، لهذا حين التقيته – ولأول مرة – في عمان، لم أفاجأ بهدوئه وشفافيته وجنونه بالشعر والعلاقات، والفضلُ يعود أيضاً لكلماتنا الدافئة الحزينة والصادقة التي استطاعت أن تختصر كل هذه المسافات والطرق، ونقاط الحدود، ومراكز الشرطة والجمارك، ومزاج الأنظمة المتقلب، ومقدمات التعارف التقليدية...

2 – وأنا أقرأ كتابه الجميل "مرايا لشعرها الطويل*" توقفت كثيراً عند محطاته الحزينة، والتي فاتتها قطارات، وقطارات، وأناس، وعشاق، وطيور، وسحب، وأمطار، ومواسم.. هكذا تراها في كل نص من نصوصه، باردة، رطبة، ثقيلة، حزينة، وقد اغتالت أيد خفية خطوط الضوء، وعناقيد البهجة فيها، وتساءلت عن أي شيء أكتب؟ هل أكتب عن "عدنان الصائغ" الشاعر المعذب، العاشق، الشفاف أبداً؟؟ هل أكتب عن مدن قهره وعذابه؟ عن غربته الروحية؟ عن حالات عشقه النادرة؟ تساءلت... ولكن عبارة هامة كتبها "روجي كايوا" عن "سان جون بيرس" تقول: "لا أحد يعلم من أين له هذه الرقة الساحرة التي يملكها وحده" أيقظتني على هذه الشفافية النادرة التي تفرد بها هذا الشاعر الشاب دون غيره من شعراء جيله الذين أعرفهم.. وقد خيل لي أن أهتف: عدنان الصائغ من أين لك كل هذه الشفافية الجارحة؟؟

"اتركيني لدقائق
ريثما يهدأ هذا الهلع الذي يسكنني
منذ دخلت – سهواً – رصيدك العاطفي
اتركيني لدقائق
ففي داخلي سنوات من الوحل والهلع والرصاص"

ألستم ترون مثلي أن هذه الشفافية الجارحة لا تليق إلا به؟؟ (تتساقط صور القنابل بدل الدموع) وأن هذا العذاب الحر، والحزن الدافيء، وهذا السيل الجارف من الذكريات الأليمة – البهيجة أحياناً،/ التي ثقبت قلبه، وجردته من نعومة يديه ليس لها من عنوان إلا جسده الموشوم بجراح لا تشفى ولا تهدأ، وهو يعرف هذا جيدا، وكان صعباً عليه أن يغير حياته، ما دام هذا الألم نبضه، وهويته، وسلوته، وقلمه الذي يسجل على ورق خجول هذه التراتيل الشفافة الجميلة..

"كان علي – على الأقل – أن أحدثك قبل هذا
عن بساتين طفولتي التي حرثتها أسنان البلدوزرات
والمجنزرات ...
عن قلبي الذي ما زال يرتجف على الأرصفة كلما
مر به ما يشبه شعرها الطويل.
عن القنابل التي حفرت ذكرياتها على ملامحي..
ورغم ذلك فلست على استعداد
لأن أبدل حياتي بأية حياة على الإطلاق
فأنا أملك هذا الألم الذي يضيء"

3 – قال "إزرا باوند": "كل شعر يتوقف على الأحاسيس"، وأشهد أن القصيدة عند الصديق "الصائغ" نبض، وإحساس وهي عنده لا تهدا أبدا، غزالة نافرة، أو امرأة من نار..

"من أين للقصيدة كل هذه الرغبة
في البكاء على شرشف الورق الأبيض،
لا مطر، لا تفاح، لا أجراس، أيتها النافرة
كغزالة، في براري الفكرة الشاسعة"

فهو في شفافيته الجارحة كأنه يقيم في وردة.. في قطرة ندى.. في صباح عطر بأنثى، بعلاقة كونية، برائحة وطن حنون رائع.. والنص لدى "الصائغ" سكن في حالة عشق،.. سكن في وطن مضاع،.. سكن في روح نابضة بالعشق والحياة، فكيف تهدأ عنده القصيدة وهي كروحه، وهو العاشق الذي (يرف بجناحيه الكسيرين في غابات اللغة). اللغة (كلماته) التي تكون الشاعر على نحو سحري، وهو مكون من كلماته، حسب تعبير "والاس فاولي".

"مبتدئا بعشب القصيدة وهو يذبل،
بعشب الأرملة وهو يذبل،
بالفتيات وهن يزقزقن أمام باب المدرسة وسط صياح الباعة..."

قلت أنها الشفافية الجارحة، موت وولادة، عشق وجروح، وعذاب واحتراق، ومرارة، أليست هي قريبة من شفافية "اندريه فليتير":
(في أكفنا صور من رمل،
وسيوف من دموع)؟؟
في كتابه الجميل "الأجل أية شمس يا ستيفان"؟ ترجمة الصديق خالد النجار..

4 – كتب "والاس فاولي" يقول: "الحب أضمن السبل التي نتبعها للفرار من العالم، وهو في الوقت نفسه أعمق أساليبنا في معرفة العالم"..
وأنا حين أتحدث عن صديقي "الصائغ"، وأقول في حقه هذه الكلمات التي تتدحرج بثقة، وصدق على أرصفة هذه الشفافية الجميلة، رأيت أيضاً أن أرشقه بباقة ورد تحية لروحه العاشقة.. التي أفرزت هذه الحرارة، وغرست في نصه هذا النوع من الحب، والدهشة والمفاجأة، والطرافة الموجعة أحياناً، فيرغمك للانجذاب إليه دون ملل.

"من يدلني على مشجب
أعلق عليه معطفي البالي، وقلبي
لقد تعبت من هذا القلب وأريد
استبداله الآن..!!"

ترى هل أن هذه الشفافية هي سر الانجذاب إليه؟ أم أن طريقته في الحب والعشق أضفت عليه هذه الشفافية الجميلة؟ ولماذا لا يكون هذا صحيحاً ما دام الحب "دراما كونية عظيمة بالنسبة للرجل" – حسب تعبير "بول إيلوار"، فكيف وهو الشاعر الشفاف، الرقيق ذو النص السحري الممغنط برقة وهدوء كل الأنهار، وخجل كل النسمات، فيكف لا ينقاد إليه القارئ دون أن يشعر بملل أو ضجر، وهو الشاعر الذي تصير الدهشة في نصه شجراً قد يثمر هذا التلذذ الخالد في مقطوعاته.. ومضاته الشعرية:

"أهربُ من الشوارع، باتجاه النسيان
أهربُ من ذكريات أمطار يديك على نافذة قلبي
باتجاه عزلة المقهى
أهربُ من البحر: أمواج ضفيرتك – وأقصد –
اضطراب القصيدة،
باتجاه رمال الندم: نسيانك – وأقصدُ –
النثر اليومي
أهربُ من الدقائق التي تنبضُ بكِ.."

5 – "على الشاعر أن يعرف نفسه أولا، عليه أن يبحث عن ذاته عبارة هامة من رسالة الشاعر العبقري "رامبو" إلى "بول دوميني" وقد حدد فيها طريقة البحث والكشف التي لا تتعدى ثلاثة أقانيم "الحب والمعاناة والجنون"..، فلماذا لا يكون نص عدنان الصائغ المرآة الصافية للكشف عن خلجات نفسه العاشقة، القادمة من قعر هذه المعاناة، والحاملة كل وصايا العشق والجنون..

"أنت أيتها الجالسة بهدوء
تنظرين من خلال زجاج اللامبالاة
إلى شوارع قلبي، وهي تضج بزحام الناس،
والهموم والباصات،
سأنقر زجاج وحدتك،
وأدعوك إلى التسكع معي تحت شمس الحياة الدافئة"

وهو في شفافيته هذه، ورقته، واحتراقه، وعناقيد جنونه المتدلية لشاعر عاشق حتى العظم، وليس شاعرا ساحرا أو سميائياً كما وصف الشاعر النزق "رامبو" يوما، وأن حبه نقي، صاف، وجارح، يذكرنا كثيراً بابتهالات عشق "إيلوار" السريالي الفرح بحبه أبدا:
"أيتها الوديعة
حين تنامين، يتحد الليل بالنهار
(بول إيلوار – المرأة الأولى)
وربما يقترب بامرأته المجنونة أيضا من "هيرودياد" "مالارميه" التي كتب بناريتها، وألقها وجوده، ورسم بعسل أنوثتها رقته:
"ساعديني
لأسرح شعري بتثاقل في مرآة".
إن شفافية الصائغ ترغمك على الإصغاء له، وإذا ما قررت منحه وقتك، وجنود ذاكرتك دفاعا عن شجر القلب، فأنك في قراءة كل نص يتحرك قلبك الموجه، فتهديه إليه غير آسف.

6 – وإذا ما جذبتنا حيرة "الصائغ" وقلقه المزمن، فأن نصه الواثق يجرنا من شريان القلب، لما فيه من إيحاء، وقوة، وثبات، كخطوات شاعرنا وهو ذاهب للاغتسال بدماء القصيدة، وبكل رقة الشاعر يغرس أسئلته في أحشائنا غرساً موجعاً أحياناً، طامعاً في اصغاءة هادئة، خفيفة:

"ماذا سأقول للشوارع، حين تسألني، غدا
عن حفيف خطواتك
ماذا سأقول لذاكرتي، حين تبكيك في منتصف الليالي الموحشة"

وبدفء الشاعر المتوهج، وأداته، ونبض همه يشتغل الصديق "الصائغ" على صورته الشعرية بكل هدوء، وكأنه يرسل نبضه، ورعشة جسده، ودفقه الشعري، وآهاته المموسقة وينتظر حتى تكتمل صورته نابضة بعذابه اللذيذ، متسلحا بآيات حبه، فبالبحث يتم (اقتحام حصون اللغة) حسب تعبير (والاس فاولي) فتأتي نصوصه هكذا جميلة، خفيفة الظل، مشعة بسحرها اللغوي:

"أحاول أن أغيّر شكل كتاباتي
فتتمرد علي أصابعي.
وتقفز – كأولاد مشاكسين –
فوق سياج حدائق شعرك
لتقطف اللوز والقصائد والفوضى"

7 – "أخذت نصيبي من المرارة، وحملت حظي من الشقاء"
(أراغون)
شقاء..؟ وأي عذاب هذا الذي يتقن أبجديته الشاعر "عدنان الصائغ"؟ طريق حالك يختار.. ناثراً وردات جسده الناحل، وأمنياته، وأيامه، وطفولته وصولاً إلى المرأة الدافئة الجفنين.. وصولا إلى القصيدة المتمنعة:

"لي كل هذا النبض الشمولي،
لي كل هذه المسافات، وأدعي أنني وحيد
وحزين تماما، على مصطبة قصائدي،
أغزل خيوط سنواتي الواهنة عباءة للريح،
بانتظار موسيقى خطاك القادمة من الينابيع
*
وصولاً إلى الدهشة، وصولاً إلى اللذة، ..
وصولاً إليك، وصولا إلى القصيدة المتمنعة،..
أتناثر يومياً في الطرقات كشظايا المرايا وأعود
مساءً لألملمها على الورق..
تلك هي حياتي!!

8 – وتلك هي حياتي.. أيضاً أيها الصديق!

فأذن لي بإرسال كتاب جراحاتي إليك.. بعض عناقيد الضوء.. وقلادة من دموع.. وحزمة من سطور احتراقي ولهفتي وشوقي.. وقل: فقرات من حديث إذاعي قصير لنهر غريب حزين، مع أملي بأن نلتقي مرة أخرى، وللقصيدة الحق في ترتيب هذه اللقاءات.

قراءة في كتابه "مرايا لشعرها الطويل" دار الشؤون الثقافية – بغداد 1992


شعرها الطويل في مرايا عدنان الصائغ

"حياتي شوارع من الريح"

معتز السلطي
عمان


صدر للزميل الشاعر عدنان الصائغ كتاب شعري جديد، بعنوان "مرايا لشعرها الطويل" عن وزارة الثقافة والإعلام في بغداد.
الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، كتب في تقديمه للكتاب قائلا: "وليس ما أقوله هو رثاء أو تقريظ لصديقي الشاعر عدنان الصائغ. فهو قد شب عن الطوق، ولم يعد الرثاء أو التقريظ يقدمان له وجبه كلمات في حانة!"
وعلى الغلاف الأخير كتب البياتي مشاعره إزاء الكتاب الجديد، في قصيدة يقول فيها:

"أكتشف الأنفاق الحجرية في روحي
والمنفى والنار
ومقابر بغداد
أكتشف اللوح المحفوظ،
والمقبوس المسماري النابضَ في جدل الروحْ
أكتشف، الآن، لماذا كانت
أصوات الموتى، تصعد من بئر شقائي
ولماذا كنتُ أخافْ
من بعض الأصوات الغامضة التعبى
تثقبُ صمتَ الأنفاقْ
أكتشف البعد الخامس في مرآة الأشياء
وفتوحات الأسلاف الشعرية في نار الكلماتْ
لكنّي وأنا أتماهى في داخل روحي
أحرقُ الآنْ"

وفيما يلي نص قصيدة "بالون" من الديوان الذي يضم نصوصاً تحاول قصيدة النثر بأدوات شعرية ناضجة، وتعكس آلام وأحلام شاعر عراقي حمل هم الوطن وأشواق الشعر والجمال والمستقبل، في المعسكرات وخنادق القتال وشقاء الكدح. وظل، بالرغم من كل شيء، متمسكاً بأحلامه الكبرى، أحلام شاعر يتهجى صورة عراق عظيم.

بالون

أنتَ تملكُ الصكوكَ..
وأنا أملكُ القصائدَ..
ورغم ذلك فأنا أكثرُ سعادةً منكَ
حياتُكَ: بنوكٌ، ومسابحٌ من الفسيفساءِ،التلاشي والأفول واللامعنىالبرودة وسكرتيراتٌ أنيقاتٌ، وكونياك، وملاعقٌ من ذهبٍ، وصفقاتٌ ودم...
وحياتي: شوارعٌ من الريحِ، وكمبيالاتٌ مستحقةٌ، وأصدقاءٌ، ومطرٌ، وخبزٌ منقوعٌ بالباقلاء...
ورغمَ ذلك..
فأنا أستطيعُ أن أضعَ رأسي على الوسادةِ وأحلمُ
أما أنتَ فلا تستطيع أن ترى غيرَ الكوابيسِ

*

أنا الشاعرُ عدنان الصائغ
رأيتُ من الخنادقِ والمساطرِ والأكواخِ والمعسكراتِ
أضعافَ ما رأيتهُ أنتَ.. من الصالوناتِ والسهراتِ والمطاعمِ الفخمةِ..
وبيدي هاتين،.. اللتين كثيراً ما خدشتا أصابعَكَ الناعمةَ
وهما تصافحانكَ...
بيدي هاتين،..
حملتُ عشراتِ الجثثِ من ساحاتِ المعاركِ
وبعتُ السجائرَ والصحفَ على أرصفةِ المدنِ..
ونقلتُ الصناديقَ في مخازنِ الشالجيةِ، والطابوقَ والجصَ لبيوتِ الأثرياءِ..
وغسلتُ الصحونَ في المطاعمِ الرخيصةِ
وعملتُ في المجاري والمقاهي والمكتباتِ
من أجلِّ لفّةِ همبركر...
أستطيعُ أن أمضغها ملتذاً
وأنا أجوبُ الشوارع عائداً إلى البيتِ
أما أنتَ...
فما أكثر ما كنتَ تشكو المللَ والتخمةَ
وأنتَ تنبشُ أسنانَكَ المنخورةَ
بعيدانِ الثقابِ
لتستخرجَ... لحمَ الآخرين

*

أعرفُ أن في شرايينكَ يجري ماءُ الكولونيا
وفي شراييني شوارعٌ من الوحلِ
وأن ثمنَ حذائِكَ
يعادلُ أضعافَ راتبي من المجلة
ورغمَ ذلك..
فأنا أكثر سعادةً منكَ..
أستطيعُ أن أغمضَ عيني
لأرى حشداً من النجوم تحطُّ على سطحِ بيتنا الطيني
وأن بين أصابعي تترقرقُ الآف الينابيع
وهي تنحدرُ إلى القرى
ما الذي نفعلُ
نحن الفقراءَ المنتشرين على أرصفةِ المدن
الفقراء الذين لا نملك سوى التسكعِ والطيبةِ والحبِّ
ما أكثر ما نظرتَ إلينا بازدراء
وأنتَ تمرقُ أمامنا بسيارتكَ الفارهة
لقد قاتلنا بضراوةٍ..
من أجلِّ أن يكون لنا وطنٌ،
وشوارع، وشمسٌ، وأشجارٌ، وكرامةٌ، وخبزٌ، وقصائد
وتاجرتَ بشراهةٍ
من أجل أن يكون لك رصيدٌ،
وصكوكٌ وعمارات
ماذا نفعل ؟
إذا كنا قد انشغلنا بهموم الوطن
وانشغلتَ بهموم الصفقاتِ
إذا كنا قد غصنا في طين الجبهاتِ.. حدَّ الركبِ
وبقيتَ تتفرج على ثيابنا المبقّعةِ بدمِ المعاركِ وغبارِ القنابلِ
- من خللِ زجاجِ مكتبك الأنيقِ –
دون أن تجرؤ حتى على لمسها
ورغمَ ذلكَ،
فأنتَ تستطيع أن تشتري القلاعَ والذممَ والشققَ المكيّفةَ
ولكنك لن تستطيعَ أن تشتري حلمَ شاعرٍ
وذلك ما يؤرقكَ طويلاً ..
طويلاً جداً..


الحوامدة يحاور الصائغ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


موسى حوامدة - الأردن - 26-3-2003 :

ارجو التكرم بابداء رأيكم فيما يجري الان في العراق
شعراء المنفى العراقيون هل اصبح الطريق الى بغداد اقرب ؟
هل تحملون النظام العراقي وحده كل ما يجري الان؟
كيف تقيمون وقوف شعبكم الاسطوري في وجه الامريكان؟


عدنان الصائغ:

الحيرة شاملة وشرسة، في وجدان كل عربي وعراقي حر ومستقل.. ليس بسبب اختلاط الوقائع والخنادق فحسب بل ولاختلاط التأويلات والتفسيرات التي لا ترحم هي الأخرى، لتنضاف إلى محنتنا محنة جديدة حين لا تجد من يفهم مأساتك رغم مرور كل الكوارث.
إنها الازدواجية المريرة التي أوقعتنا فيها سياسات حكامنا ومنظري ثقافاتنا.

فهل أنت مع الحرب أو ضد الحرب؟

سيواجهك المطبان القاتلان إذن:
* إذا كنت ضد الحرب والخراب
فأنت مع الدكتاتورية وصدام حسين!!.
* وإذا كنت مع الحرب باعتبارها الفرصة النادرة والوحيدة للتخلص من الدكتاتورية فأنت إذاً مع طائرات ب 52 وجورج بوش وبلير!!.
* إذا كنت مع الدفاعات العراقية والمقاومة فأنت مع آلة النظام العسكرية..
* وإذا كنت مع تقدم قوات التحالف لتخليص شعبك من سلطة الدم فأنت معارض وخائن.
فهل أنت ضد أو مع؟
أم أنت ضد ومع في آن واحد؟
أم أنت لا ضد ولا مع؟ وكيف تستطيع ذلك؟
لقد أربكتني عيون الأسئلة المفتوحة أمام ضميري كحال الملايين من العراقيين المتناثرين في أصقاع المنافي وداخل أسوار الوطن المنهوك.
كم من صاروخ يسقط لنصل إلى رأس الدكتاتور..
وكم من نفي وسجن وقمع ومشنقة نتحمل ليتأكد العالم من معاناتنا وقهرنا.
في البدء أقول:
الذي يحب الحرب إنسانٌ غير سوي أو تاجر حروب أو سمسار.
وفي الوقت نفسه أقول:
والذي يساند النظام إنسانٌ بلا ضمير ولا رحمة أو تاجر أو سمسار.
وبين هذين الأمرين المريرين
بين كرهي للنظام الدموي وبين مشاهد القصف الامريكي البريطاني يظل قلبي يعتصر ألماً وحزناً على وطني وأهلي.
لقد عشت الحرب جندياً أكثر من 13 عاماً حين زجنا بها نظام لا يعرف الرحمة، نظام أهوج جر البلد إلى سلسة من الكوارث وسرق من شبابنا أجمل السنوات ومن وطننا أعظم الخيرات وبدد الكثير من الموارد طيشاً وغباءً.
لقد خبرتُ الحرب منذ نعومة أحلامي وعرفتُ أهوالها في حربين شرستين، وها هي الثالثة أتابعها منفياً بعيداً عن وطني في أصقاع السويد، وروحي تعتصر ورأسي يكاد ينفجر.
لماذا هذه الحروب المتواترة
لماذا يا ربي. ألا يكفي ما مر بنا من حروب وقمع وحصارات وسجون ودكتاتوريات مريعة..
وما الذي يفعل عراقنا الأعزل ازاء كل هذا؟
كيف يقاوم جيوش العالم "المتحضر" بطائراته وبوارجه ودباباته وكتائبه الزاحفة، لكن بدونها سيستمر كابوس النظام مخيماً على صدورنا. وهنا كيف يمكن لنا أن نقاوم سلطته الدموية التي بنت عرشها طيلة أكثر من 30 عاماً على الجثث والقنابل ورسخت نظامها بأجهزة الأمن والأمن الخاص والمخابرات والاستخبارات ولجان الإعدام ورجال الحزب والجيش الشعبي ومليشات فدائي صدام والخ والخ.. ومن سيناصرنا؟
نعم.. أريد حرية وديمقراطية، ولكن ليس عن طريق دبابة أو فوق جثث شعبنا.
نعم.. أريد وقف الحرب، ولكن ليس ببقاء الدكتاتور الذي لا يقل ضرراً على شعبي من الحرب. أن لم يكن أكثر سوءاً.
آهٍ.. يا عراقي الجميل والنبيل، يا بلد النهرين والشعر والشمس والزقورات والفراهيدي وجابر بن حيان وابراهيم النظّام وأبو حنيفة النعمان والحسين الشهيد وبشار بن برد وأبو العلاء المعري والمتنبي والرصافي والجواهري ونازك والسياب والبياتي والتكرلي وناظم الغزالي ويوسف عمر وصديقة الملاية وجواد سليم وضياء العزاوي وشاكر حسن آل سعيد وعلي الوردي وطه باقر و.. و.. وقائمة المبدعين تطول وتطول..
واسأل ضمير العالم أليس هنالك من حل
ألا يستطيع العراق أن يعيش بلا حروب ولا طغاة.
أن ينمو ويتطور وينتج ويبدع وهو قادر وخلاق وولود.
ألا يستطيع شعبي أن يكون ضد سياسة القمع
وضد سياسة الحروب
الحرب دمار
والدكتاتورية دمار
لا حل سوى كنس مخلفات الدكتاتورية إلى الأبد: فكراً ونظاماً وشعارات
لا حل سوى الاستقلال من كل سيطرة خارجية.
لا حل سوى الوعي
لا حل سوى الحرية
نعم.. تلك هي وحدها الحلول الناجعة القادرة على خلاصنا

قالوا عنه
ــــــــــــــــــــــ


عدنان الصائغ شاعر مبدع يواصل مسيرته عبر حرائق الشعر ويغمس كلماته بدم القلب". عبد الوهاب البياتي
"أن شعر عدنان الصائغ خلاصة لجوهر الشعر في النصف الثاني من القرن العشرين، في قصائده يلتقي الشجن العذب بالموسيقى الهادئة ويتعانق السؤال القصي بالسؤال الأكثر حميمية ودفئاً". د.عبد العزيز المقالح
"الشعر اليوم كثير جداً، ولكن ما يستحق أن يُصغى إليه قليل جداً، وشعر عدنان الصائغ من هذا القليل". جبرا إبراهيم جبرا
"هناك تمايز أكيد. ثمة جرعة من الحرية، أثرت في الشكل وفي طبيعة المادة الخام. أهي النجاة من الكابوس؟ ربما، لكنها استلزمت التحديق فيه طويلاً.. من موقع الحرية" سعدي يوسف
"نادراً ما التقيتُ شاعراً مثله تكتبه القصيدة قبل أن يكتبها ممتلئاً بالشعر فياضاً به". حسب الشيخ جعفر
"أثناء قراءتي لهذا الشاعر المبدع شعرتُ وكأنني أذوق رطب البصرة وأنا فوق النخل. وأشم زهور الأهوار وأنا في المشحوف. وأغمس رأسي في عمق القرنة وأنا أحلم. ومن ثم أصعد إلى بغداد لكي أسمع دقات قلب شعره يدق فوق نصب الحرية".الشاعر شيركو بيكه س
"من الصعب أن تعرف عدنان الصائغ كله، أنه نهر من العذابات والآلام والشوق إلى القول والتشهي إلى أن يسمعه الآخرون. أن لديه الكثير الكثير ليقوله". طلال سلمان ـ رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية
"شعرت بكل فرح اني وجدت شاعراً حقيقياً.. اتمنى بكل ما في عروقي من حب ان يواصل مسيرته الشعرية الرائعة". الشاعر رشدي العامل
"شعره مشتبك بالحياة ممسك بتلابيبها، ويزخر بالفعل والحركة والصراع".الناقد فاضل ثامر
"وما زال يبحث وهذه ميزة له، وما زال يختمر الرعود، ويوحي بالمطر المدرار". الناقد ياسين النصير
"وقصائد الصائغ لا تهادن موضوعها. انها تجيء به إلى طقوسها ونظامها ولا تذهب إلى عنوانيته أو كلياته. على عكس ما يفعله شعراء كثيرون".

الناقد د. حاتم الصكر
"صاحب اللغة السحرية المستلة من رقم بلاد ما بين النهرين ومن تطوحات المنافي". الشاعر محمد علي شمس الدين ـ بيروت
"انه النضج الشعري الذي يتفجر بشواظ نار مقدسة".الناقد محمد مبارك
"ينتهي ديوانه ولا تنتهي أوجاع القارئ ولا دموعه ولا احساسه بمأساة ما ارتكبه الطغاة في تاريخ البشرية".د. عبد الرحمن الكيالي
"وهو وافر العطاء ويتمتع بموهبة واعدة".الشاعر د. صلاح نيازي/ لندن ـ رئيس تحرير مجلة الاغتراب الادبي
"وتصبح اللغة عنده اداة كشف التجربة وبلورتها واداة الرؤية العميقة التنبؤية التي تستكشف الذات والعالم من حولها".الناقد د. خليل الشيخ- جامعة اليرموك/الأردن
"عدنان الصائغ آخر زفير لمتأوه مصلوب، الملاحق من أسلحة دياجير الظلمة، المتأفف من أصوات سلاسله الثقيلة. اللغة عنده لها نبضها الخاص وعندها قاموسها الذي يفهرس دم الكلمات".الشاعر د. الأب يوسف سعيد ـ السويد
"قال بعض القراء من مصر وخارجها: انك جبران جديد غير اني اعدك قامة شعرية كبيرة متفردة وقد رصدت الشرق والغرب في شعرك". جمال الغيطاني ـ رئيس تحرير أخبار الادب المصرية 22 يوني 1997
".. حين وقف الشاعر العراقي الذي يعيش الآن في المنفى امام المكريفون كان شعره قوياً متدفقاً ومؤثراً".ستافنان ايرسكورد ـ صحيفة اربيتر Arbetar 8/7/1997 السويد
"كثيرون احبوا الشاعر العراقي لان صوره الشعرية جميلة جداً. قالت ماركيب اهلين ـ زائرة من المهرجان ـ لقد كان يتكلم بحيوية وشعره يعبر بصدق عن الرجل الذي أصبحت لحيته حديقة".ياسيكا يورانسون ـ صحيفة Helsingborgs Dagblad11/9/1997السويد
"انا وصديقاتي اتفقنا على حبنا واعجابنا بقصائد الشاعرة الرومانية اندا بلانديانا والشاعر الإيراني يد الله رؤيائي والشاعر العراقي عدنان الصائغ".الشاعرة آنا ستوبي ـ صحيفة سيدسفنسكا Sydsvenska 9/9/1997 مهرجان ايام الشعر العالمي في مالمو ".
"عدنان الصائغ واحد من اخطر شعراء الحرب الذين أنجبهم جيل الثمانينات الشعري في العراق، عاش الحرب بكل تفاصيلها في جبهات الموت سنوات طويلة ولأنه يكره الحرب جداً قدر حبه للعصافير فقد كانت الحرب متشبثة به ربما كانت بحاجة ماسة إلى من يكتب تأريخها السري غير ذلك التأريخ العلني الذي يدونه مزورو الحرب وفي مقدمتهم شعراء المديح العالي".صحيفة المحرر ـ باريس 16/8/1993
"بات من النادر هذه الأيام أن تعثر على شاعر مدهش يوقظ الإنسانية فيك.. وتقرأ كثيراً وتجد أن ما تبقى بين أصابعك قليل.. وقليل جداً. لكنني، وبناء على نصيحة شاعرة صديقة، تناولت ديواناً للشاعر عدنان الصائغ عنوانه "تحت سماء غريبة" وما كدت أنتهي منه حتى صرخت لقد وجدته.. هذا شاعر مدهش، بسيط وعذب وعميق وجريء وحاد ومر وعذب ومفاجئ وذو حس أنساني جارح. نعم أنه وحيد.. وسط الكثيرة التي تستنسخ بعضها البعض. عدنان الصائغ وتر فريد ومميز في جوقة الشعراء. سألتها عنه فقالت أنه أحد المنفيين في السويد، وقد حاز جوائز عالمية.. وأن لديه دواوين أخرى كثيرة سأبحث عنها بلا شك. وسأترك القارئ مع نماذج من أشعاره دون أن أزعم بأنني اكتشف شاعراً نادراً، لأن غيري لا بد أن يكون قد اكتشفه قبلي وعرفه قبلي، وأنني إحدى المتأخرات عن معرفته وقراءة شعره".لارا العمري (صحيفة الزمان/ لندن 21/7/1998)


إنّه أشعر العرب الذين جاءوا إلى الشعر بعد نزار والبياتي والسياب

مدني صالح




"مشكلتي أني لا أعرف حداً للعالم
حين أحبُّ
وحين أجوع"

تلك هي الجملة المفيدة التي يتخذ منها الشاعر عدنان الصائغ مدخلاً لديوانه "أغنيات على جسر الكوفة" من منشورات آمال الزهاوي ـ مطبعة وأوفسيت عشتار بغداد 1986: ثاني ديوان للشاعر بعد ديوان البكر "انتظريني تحت نصب الحرية" ـ من منشورات وزارة الثقافة والإعلام بغداد 1984.
وكان للشاعر عدنان الصائغ أن يقول: " إني لا أعرف حداً للعالم إلاّ حين أحب أو حين أجوع".
كما كان له أن يقول: " إني لا أعرف حدود العالم إلاّ حين أحب أو حين أجوع" ... وتظل الجملة شعراً مفلسفاً جميلاً يحتمل أن تسأل:
هل من حب بلا جوع؟
هل من جوع بلا حب؟
هل الجوع والحب أمران أم أمر واحد!! وهل من شعر بلا حب وجوع!!
بل هل من حب بلا شوق وشوق بلا جوع!!
وهل من حدود لأقطار النفس وعوالم الروح وآفاق الشعر إلاّ بحب وبشوق وبجوع!!
لكن مشكلة الشاعر عدنان الصائغ لا تبدأ إلاّ عند حد بداية الحب حين يحب وبداية الجوع حين يجوع!!
ولك أن تسأل إذا شئت لماذا لا تبدأ أزمة الشاعر إلاّ بجهل حدود العالم وبالحب وبالجوع!!
ألأنَّ الحب من الشوق؟ والشوق من الجوع؟ والجوع من الألم الذي هو أنبغ ما في الحياة: جوعاً وشوقاً وحباً وشعراً وجهلاً بالبدايات وبالنهايات وبالتخوم وبالحدود!!
أم لان "عدنان الصائغ شاعر مبدع يواصل مسيرته عبر حرائق الشعر ويغمس كلماته بدم القلب .. وان رؤيته مطر يغسل أوراق الشجر المتربة ويعيد للطبيعة المتعبة عذريتها" كما شهد له الشاعر عبد الوهاب البياتي بالجوع وبالحب وبالشعر وبالمشكلة وبجهل حدود العالم: "عبر الجزئيات الصغيرة للحياة العراقية ويتوغل في أبعاد الناس البسطاء بكلمات واضحة بسيطة مثقلة بالبذور والزهور والثمار" وبالحب وبالشوق وبالشعر وبالجوع وبالمشكلة:

"محترفاً بالشعر.. وبالنظرات الأولى..
أتسكع في مدن الكلمات.
يا جسر الكوفة حدثني عن
بستان اللوعة هل أزهر؟
عن آخر أشعار "كزار حنتوش"

ولعدنان الصائغ في "أغنيات على جسر الكوفة" شعر ل تقرأه إلاّ وتحفظه ومنه قوله:

"لأمي ، سجادة الصلاة
وخوف قديم من الدركي
تخبئنا كلما مر في الحي تحت عباءتها
وتخاف علينا عيون النساء
وغول المساء وغدر الزمان".

ولعدنان الصائغ في "أغنيات على جسر الكوفة" شعر يستحق مني عليه كتاباً بعنوان "هذا هو عدنان الصائغ" بعد كتابي "هذا هو هو البياتي" وكتابي "هذا هو السياب" فهو اشعر العرب الذين جاؤا إلى الشعر بعد نزار والبياتي والسياب.
ولما أردت استمزاج رأي آخرين من النقاد في هذا الموضوع أطلعت عليه الأستاذ الدكتور جلال الخياط أستاذ النقد الأدبي في جامعة بغداد فقرأه وسألني أتنوي نشر هذا الموضوع فقلت له: على جناح السرعة.. وقال لي: إن الموضوع يضرك إذا نشرته.. قلت وليكن.. قال: ولا ينفع الشاعر..
قلتُ : ألا ينفع الشاعر.
قال: بل يضره..
وسر جلال الخياط بالذي سمعه مني إذ وعدته بصرف النظر عن نشر الموضوع الذي ليس في نشره إلاّ الضرر لي وللشاعر.
وافترقنا على أن أعيد النظر في الموضوع فأعيد كتابته.
ولما جاء الغد وتواجهنا، قلت لجلال: إني قد تركتُ الأمر كله بناء على رأيك في النظر إلى المسألة. ففرح مستغرباً وقال: أأصدق الذي اسمعه!! قلتُ: صدقْ. وبدلت الرأي بعد ساعة وعزمت على النشر لا متوكلاً إلاّ على الله الذي هو خير حافظاً من الضرر الذي قد يصيبني بسبب إنزال الناس منازلهم وإعطاء كل ذي حق حقه ورد الأمانات الثقافية إلى أهلها في كل فروع الفن والعلم والفلسفة والأدب.
وبعد فهل لجلال الخياط أن يعينني على رفع لواء عدنان الصائغ في الشعر كما أعنته على رفع لواء عبد الوهاب البياتي فيه:
لا بناءً إلاّ على القاعدة الأصولية في الطريقة وفي تصنيف الموجودات وفي المنهج " كل يكبر في نوعه.. لا العصافير نسور صغيرة ولا النسور من كبار العصافير".. وأطلعت الأستاذ الناقد يوسف نمر ذياب -وله في المسألة بداية تبشر بالشاعر عدنان الصائغ - على الأمر كله فقال: ربما كنت أول المرحبين برأي الأستاذ مدني صالح في الشاعر عدنان الصائغ. ألم أكن أول المبشرين بالصائغ شاعراً في مقالة نشرتها جريدة الثورة وقد سرني أن يعيد الشاعر نشر مقالتي فيه (صباح الخير أيها الشاعر. صباح الخير أيها المعسكر) مقدمة: لديوانه الأول (تحت نصب الحرية)..
ويبقى أن رأي مدني صالح في أن عدنان الصائغ أشعر العرب بعد نزار والبياتي والسياب ربما رأيت في إعلانه استعجالاً ولا أقول مبالغة.
فعمر عدنان الشعري لا يبيح للناقد أن يجزم بمثل هذا الرأي فيه.. وعسى أن يحقق عدنان الصائغ حسن ظن مدني صالح به.

بغداد 1986


المعادلة الصعبة
في "أغنيات على جسر الكوفة"

يوسف الأسدي
- بغداد -




صدر عن منشورات أمال الزهاوي ببغداد ديوان للشاعر الشاب عدنان الصائغ بعنوان "أغنيات على جسر الكوفة".
عندما يكتب المبدع عن الواقع، الموضوع خارج الذات، خاصة حين يتفاقم الصراع وتتعدد نقاط محاوره، فأنه لا يستعيد ما يجري أمامه كأدوات تعبير تمرر ما تضطرب به ذاته وهو يتنفس علاقاته خلالها، بل يدرج نفسه داخل حركة الجموع المعانية، منعكساً، منتمياً، مطروحاً، في غرفتها، كحالة إنقاذ، لا كصورة معزولة هشة تسقط أنينها على الآخرين، عندئذ لا يبدو العمل الإبداعي مسحوباً إلى الخواء أو يخرج من أرض هشة، متلفعاً بكونية غياب سعى إلى خلاص ضائع ذي تصور قلق فرداني، فمن المهم أن يدخل الشعر منطقة حدود الوعي في قنواته الادائية، فلقد مللنا في الشعر الحديث ظاهرة التلذذات الرغائبية الضيقة التي تجتر رثاءات عائمة، وتتكيء على خلاصات تأخذ صيغة الشعر في الكلام، ولا تأخذ دور الشعر في التكثيف فثمة صور أو مفردات في البيت الشعري تدخل إلى أعماق الإنسان تنقلها ابداعات الشاعر إلى ذوات الآخرين لتنير شمعة مضيئة في مسيرة الإنسان العربي المتناقضة، ما يكفي لفتح القلب والفكر ومعانقة الواقع في تحمل صنعه من جديد، حيث تبرز خلال درجات وعيه المتفاوت ومواقفه قدرات النسيج الشعري على التوصيل والاستغلال والتحول..
فأي مدى حققه الديوان في هذا التصور؟
ثمة تساؤل ملح ركز تجربة الشاعر كلها في قضايا ومواقف إنسانية كبيرة ولها معان ودلالات عميقة في هذه النفس..

"محترقا بالشعر.. وبالنظرات الأولى.. أتسكع في مدن الكلمات.. وحيداً.. أفتح قلبي للريح.. تمر طيور النورس زاهية بسماوات بلادي.. أسألها: لم يرتعش القلب إذا مر على دكة محبوبته وتفوح الأزهار.. ولا يرتعش العاذل حين يمر ولا..!!".

هكذا يرصف عدنان الصائغ معانية وهكذا ينظم صوره الشعرية في شكلها الفني وتندرج بتغير الصور وربما تأخذ أبعاداً جديدة، ويبدو أن الشاعر تهمه التفاصيل ويهمه أيضا المساس بهذه التفاصيل اليومية في اغلب قصائد ديوانه، ويستعيد التفاصيل أحياناً من أجل استخدامها ولكنه يظهرها بالشكل اليومي المعتاد للناس الذين يحيون هذه التفاصيل من أجل أن يقول عبرها ما في القلب من حرائق وصولاً إلى النتائج، أنه بمعنى آخر اختيار لطريق التغيير لكنه تغيير من طبيعة خاصة. ومحاولة استنطاق الحاضر..

"قالت سيدتي:
وبعينيها فرح الكلمات يضيء سماوات عذاباتي الزرقاء كقوس قزح..
اكتبْ شعراً عن عيني السوداوين
تملَّ مفاتن روحي الحلوة.. نرجسةً.."

الشعر صناعة. وصناعة الشعر تصبح بهذا المعنى واستناداً إلى هذا المقياس صناعة تفور في أعماق الواقع بعيداً عن النرجسية أو أية معان أُخر تنطرح ضمن الاحساسات الشخصية. تقودني هذه الملاحظة إلى نتيجة بالغة الخطورة، فلقد أصبح الشكل الجديد هو تاريخ القصيدة، بمعنى آخر أن دراسة الأشكال وتطورها أصبح هو الوسيلة الوحيدة لفهم هذه الحركة الجديدة وتقييمها، فهل عبر الشاعر الصائغ عن هذا كله؟
أظن أن الشاعر عدنان كتب أغلب قصائد ديوانه باندفاعة شكلية لم تكن دون مقدمات أي بمعنى آخر أوصلته إلى التأثر بالمحيط الذي يعيش فيه وقساوته ومرارته ووحدته ضمن رؤية عميقة إلى داخل نفسه هو وضمن صراع قاس بينه وبين واقعه.. ومن إيقاعات حسم خلالها عدنان الصائغ موقفه نهائيا من الحياة.. وهو أن يكتب الشعر لكي يعبر عن هذا الموقف..

"يا جسر الكوفة حدثني عن بستان اللوعة هل أزهر؟
عن آخر أشعار كزار حنتوش..
أقول لجسر الكوفة محترق قلبي بالشعر ومحترق دمعي بالعشق.."

ترى هنا الإيقاع الذي يتقاطع عن وحدة الشاعر واحتراقه داخل بنية القصيدة حيث يعيد الشاعر في أكثر من قصيدة الصورة بشكل تفصيلي داخلي.. فالصورة الشعرية بكل مزاياها تصبح أكثر من مجرد نقلة نوعية من الحياة ضمن مشاهد الذات الشعرية.. فالقصيدة الجديدة ضمن سياقها الحديث وهذا ما يدعو إليه الشعراء الشباب.. ابراهيم زيدان.. معد الجبوري.. عبد المطلب محمود.. سلام كاظم، كمال سبتي.. أمين جياد.. وغيرهم.. أداة تجربة وارض تجربة.. وانطلاقاً من هذه المعطيات استطاعت القصيدة أن تستجيب بأدواتها لمعطيات الواقع نفسه.. هكذا ترتفع أصوات عدنان الصائغ وأمين جياد، وغيرهم الكثير من محاولات عديدة لتأسيس قصيدة مبدعة ضمن معطيات الواقع الذي تعيشه امتنا العربية..

"الدرب طويل يا بنت حميد المرعب، يبدأ من نقطة حبر سقطت فوق قميصك، هذا المترف كالثلج، كزهرة قداح لم تتفتح ذات صباح تشريني في الصف."..

الأساس في هذه القصيدة هو تزاوج بين النثر والقانون الشعري.. لكن لا يبقى هنا الإيقاع خارج القصيدة أو حتى شكلها المعروف.. حينما يتحول إلى محدد داخلي في القصيدة، فبنت حميد المرعب كأية بنت أخرى يصفها الشاعر ويعطيها ملامح الفتاة الجميلة يحولها الشاعر من مفردة قصصية إلى مفردة شعرية بجهد متعب أيضاً ثم يقوم بإلباسها رداءً تفصيليا دقيق المعنى لتأخذ بالتالي جملة أخرى هي مجموعة من الصور والتداعيات والتضادات.. فوحدة القصيدة الايقاعية التي تنطلق من الصور تحافظ على وحدة الموضوع.. صوت الشاعر من جهة وصوت الواقع من جهة أخرى... لذلك تبقى قصيدة الصائغ بهذا المعنى أنها محاولة لإيصال تجربته ضمن صور الواقع إلى الناس داخل عالم متغير تتركب فيه الآراء والذات والرؤية..


الداخل الضيّق.. والخارج المتّسع

د. حاتم الصكر
- بغداد -


"للطفولة يُتمي..
ولامراتي، الشعرُ والفقرُ
للحربِ هذا النزيفُ الطويلُ
وللذكرياتِ.. الرماد"
عدنان الصائغ – "سماء في خوذة" -




ـ 1 ـ

تخرج قصائد عدنان الصائغ من الحرب كما دخلتها: قلقة، عنيدة، مجروحة. إنها تتصل بالحرب ـ موضوعاً لا غرضاً ـ بصلات شعرية. لذا فهي لا تقيم تلك الصلات احتكاماً إلى موروث حماسي (سواء باستلهام غرض الحماسة الحربية أو باستعارة الصوت الغنائي) بل تظل على العكس من ذلك: تقترح صلات ذات وشائج قوية بالحياة (التي تبدو في شعر الصائغ متنأ والحرب هامشاً).
إنه يذكرنا دوماً بأصحابه وصديقاته، بأشجار المدينة ومصاطب حدائقها، بالأمنيات الذاهبة في (جعبة) المقاتل إلى الجبهة، والعائدة في أوراق الشهيد وبقايا المواضع والملاجيء.. وتلك هي أبرز نقاط التماس بين الشاعر وموضوعه.
وقصائد الصائغ لا تهادن موضوعها. إنها تجيء به إلى طقوسها ونظامها ولا تذهب إلى عناوينه أو كلياته. بمعنى أن الوحدة الصغرى (الذات) هي التي تجلب: بالشعر، الوحدة الكبرى (الموضوع) على عكس ما يفعله شعراء
كثيرون يبدأون بالموضوع وبهذا نستطيع تفسير العنوان المحيّر: "سماء في خوذة".
إنها علاقة الخارج بالداخل والواسع بالضيق والموضوع بالذات. فالسماء (أو الأفق المفتوح) هي التي حلت في الأصغر (الخوذة أو الثقب). ومن هذه الخوذة أو الثقب في الجمجمة أو النافذة في غرفة أو الفتحة في موضع.. منها يتصل الشاعر بموضوعه: بالواسع الممتد خارج نفسه.. فيراه وهو في هيأة ضيقة ولا يغريه اتساعه ليتيه أو يحلق. وليس هذا اقتراحاً لإقامة ثنائية مفترضة. فالخارج والداخل المرمّزان بالسماء والخوذة (والأفق والثقب أحياناً) يحتلان الجزء الأكبر من آليات قصائد الصائغ التي ما تزال بسيطة التناول والمفردات.
هذه الصلة المنعكسة: بين الداخل والخارج، والذات والموضوع، سوف تكون سبباً في اقتراح ما يمكن تسميته بالشعرية المنحرفة أو المحرفة، وهنا ـ حيث لن نجد صلة منطقية ـ ستكون للأشياء معانٍ أخرى غير ما نتوقع عند القراءة: معانٍ تولدها الدلالات بالدرجة الأولى.. فنلتقي مثلا، بالموت في ختام إحدى القصائد على هذه الهيأة:

"نظرتُ لموتي المؤجل.. يرمقني ببرود
ويخلع خوذته..
وينام"

ونلتقي بالشاعر وقد فتح دولابه الخشبي متهيئاً للنوم ولكن ماذا سيفعل؟

"أفتح دولابي الخشبي
أعلق ـ في المشجب ـ
.. قلبي
... وأنام"

هذا القلب المعلق في المشجب والموت النائم دون خوذة هما مثالان لما تنتهي إليه ثنائية الخارج والداخل أو الواسع والضيق... وما تنتهي به قصائد الصائغ أيضاً.
فالصائغ ينهي قصائده دائماً بمفاجأة تحرف القصيدة عن سيرها وتلقيها في احتمال لم يكن وارداً أثناء القراءة: احتمال يلغي التوقع ويوجه القراءة مجدداً من حيث بدأت. والدعوة إلى قراءة عنوان الديوان وفق الثنائية الآنفة: لا تقل أهمية عن قراءة نهايات القصائد. فكلاهما ـ العنوان والنهايات ـ يرتبان صلة جديدة بين الداخل والخارج وفق الحصار الذي تعكسه القصائد والثقوب المتاحة في الأفق المتسع, تلك الثقوب التي يرى منها الشاعر أفقه وسماءه فيتلون كل منهما بما يراه الشاعر من زاويته.
في (بريد القنابل) يحدثنا الشاعر عما يفعله حين (يكسره زعل الأصدقاء):

"فأجمع كل نثاري
وأختار زاوية للحنين
هي الوطن – الكأس – والمرأة الواحدة"

أن الشاعر منسحب إلى (زاوية) مكتفياً بنثاره. ثم مسمياً زاويته التي انسحب إليها : الوطن والكأس والمرأة.
فعلاقة الضيق بالواسع هنا تدعو لتأمل النظرة إلى الوجود, وإلى الحرب بكونها (حالة) يحياها الإنسان, يمر بها ويتوقف عندها. لكنها عابرة كأي شيء آخر...

- 2 -

يحاول الشاعر إسقاط نظرته إلى الوجود, على أبطال قصائده, أولئك الذين يختارهم من يوميات الحياة ثم يجلسهم في قصائده ليتحدثوا بحكمة غريبة.
وتصلح قصيدة [بائعة التذاكر] مثالاً لهذا الإسقاط. فالمرأة تبيع للركاب تذاكر الحافلات : لكنها تتعامل مع العالم وموجوداته من خلال (فتحة الكشك) فترى الناس أكفاً وأصابع:

"غابة من أكفٍ
وهي من فتحة الكشك
من أفق ضيق
تقطّع ساعاتها، سأما وتذاكر:
(أكفٌ بلون التراب، المواعيد
والتبغ، أو كاللهاث
أكفٌ مرابيةٌ أو منمقةٌ
خشنةٌ، لا مباليةٌ، أو مشاكسةٌ
نصفُ مفتوحةٍ، نصفُ جائعةٍ، نصفُ آه..)

فالذي يبدو للمرأة البائعة من فتحة الكشك، وهو صورة العالم بالنسبة لها، أي أنها (كالشاعر) لا ترى من الخارج المتسع إلا ما تسمح به فتحة الكشك الضيقة. وهي العلاقة نفسها التي أقامها الشاعر مع موضوعه أيضاً. في الشهيد يرى الشاعر الوطن كله. وفي ثقب الخوذة الضيقة يرى جراحاً..

"سقطت خوذةٌ
فتلمست في رئتي موضع الثقب منها
امتلأت راحتي بالرماد
سقطت خوذة
فتلمست في وطني موضع الثقب منه
شرقنا معا بالدم المتدفق"

أن الحرب لم تعد في عيني الشاعر إلا امتداداً لخيط الدم الطالع من ثقب في خوذة شهيد. فهي ليست زعيقاً حاداً أو صورة هائلة التفاصيل لجيش يتقدم وآخر ينكسر. هي خيط دم آدمي ينتشر من ثقب ليصبغ الأفق.
إنها - وببساطة – تبدأ من أقرب اللقطات لتنفتح على المشهد الواسع. تبدأ من ثقب خوذة لتستوعب سماء الوطن كله. وهذا ما عبر عنه العنوان تعبيراً بليغاً فكان عنصراً توصيلياً ناجحاً إذ اختصر مقولة (الواسع في الضيق) وانبثاق الأفق من عين يحاصرها ثقب صغير ترى منه العالم فتجد أماكن رؤية (سماء في خوذة) شيئاً منطقياً.

- 3 -

تلك الثقوب التي يصنعها الرصاص أو تتركها الشظايا تتكرر في الأشياء المختلفة. فنجد لدى الصائغ (سنوات مثقوبة) و (سماء مثقوبة) وكذلك الخبز والجورب والوطن.. بل هو زمان الثقوب كما يلخص الشاعر. لكن الإنسان يصنع من هذه الثقوب عالماً جديداً.
إنه لا يستسلم للموت بل ينتصر عليه بالشعر أيضاً.
فالشاعر يغني الوطن "من شقوق المواضع والقلب". أي أن الداخل المشقق : المكان والقلب معاً, يفيض ليؤلف أغنية الوطن الواسع.
إن الشاعر يقيم صلته بالعالم على أساس هذه الثنائية, فالفضاء والأفق والسماء هي الأبعد دائماً : والذات هي الأقرب.
يقول الشاعر مصوراً الانتظار:

"أهش ذباب الدقائق عن صحن وجهي الدبق"

وهو يلخص بإيجاز بليغ صلته بالخارج حيث الزمن يطمع بوجهه وهو يهش عن صحن وجهه الدبق ذباب الزمن.. فهو متحصن بزاويته أو صحنه أو موضعه أو مصطبته وبينما تحتشد حوله عناصر الخارج بسعتها.
وهكذا رأى الشاعر الحرب فجاءت قصائده مختلفة عما كتبه سواه.
في الحرب لا يجد الصائغ مادة ملحمية فينساق إلى إيقاعها, أو يجد حالات (مجاورة) فيمد بصره إليها ثم يخسر ذاته وصوته وحالته.
إنه يلتقي بالحرب في منتصف المسافة بين القصيدة ونفسه ويمر بها لا ليقيم فيها بل ليعبرها إلى متن الحياة. وتلك ميزة صعلوكية وجدتها في شعر "كزار حنتوش" القريب بمكوناته من الصائغ, ولدى جواد الحطاب بصورة أقل.

"أوصلتني القصيدة للفقر"
يقول الصائغ موجهاً الخطاب (إلى شاعر برجوازي) ويسأله:
"هل أوصلتك القصيدة للفقر؟
هل أسلمتك إلى حارس السجن
أو للتشرد أو للجنون؟"

ولـه في صحبة القصيدة الفقيرة صحب مثله يتحدث عنهم في قصيدته (شقة رقم 1). وإذا كان هذا بعض ما فعلته القصيدة بالشاعر, فهو راضٍ بما وصل إليه, غير شاك, بل انه مزدهِ بذلك متباه أشد المباهات, جاعلاً ذلك امتيازه على الشاعر (البرجوازي). فالصائغ يجد نفسه بعد عشرين عاماً من الشعر لا يملك:

"إلا نظافة قلبه وجيبه وحلمه القتيل"

فهو لا يريد من الشعر سوى ما وصل إليه, وهذا شأن الصعاليك في تراث العرب الشعري, يحكون عن قوت يقتسمونه وأموال ينفقونها وأعمال معروف يصنعونها.. ولهذا نرى الشاعر مصدوماً بحلمه على الدوام.. فالأرض أضيق مما يتصور, أي انه قد يراها أحياناً واسعة فتغريه بالخروج من زاويته ولكنها سرعان ما تكشف عن ضيقها وبخلها معاً :

"الأرض أضيق مما تصورتُ
أضيق من كف كهل بخيل"

ويمثل هذا تدعيماً لنسبة النظر إلى اتساع الخارج. فالشاعر يرى الأرض أضيق من كف البخيل. أي انه يستفيد من معنوية البخيل ومادية الكف ليؤلف صورة بليغة في معناها : صورة الكف الضيقة بالبخل وليس بالسعة فالأكف واحدة, ولكن كف البخيل بسبب شحته وبخله تبدو أضيق من سواها (ولا معنى هنا لإسناد الكف إلى الكهل. فالبخيل ألصق بمعنى الضيق من الكهل, ولا فرق بين أن يكون البخيل شاباً أو كهلاً بعد ذلك).
لقد رأى الشاعر الأرض غير ما تصورها. وهذه إحدى صدمات الحلم في تجربة الشاعر : صدمة ما بين التصور والحقيقة أو المثال والواقع. في (مرثية حزن كلاسيكية) يتحدث الشاعر إلى فتاة عرفها يوم كان فتى لاهياً ثم أصبح مثقلاً بالزمن:

"الفتى اللاهي الذي قد تذكرين
صار أبْ
وله طفلان أو ذنبان, آه
وديون.. , ووظيفة
سرقت منه أراجيح الحنين
وأغاني الدرب,
والأمطار
والوجه الدفين"

الزمن الضيق إذن, والفتى اللاهي يراه الآن – كما يرى الأرض – قيداً ومتاعب لا تنتهي, وتلك صدمة أخرى بالطبع.

- 4 -

أن البحث عن الحرب في ديوان الصائغ, كالبحث عن سماء في خوذة مثقوبة, فنحن لن نجد إلا ظل الموضوع ورموزه. وحالات حولها الشعر إلى شظايا متناثرة ممزقة كأوراق العرافة التي تنثر الإجابة على سائليها في أوراق ممزقة.. عليهم ليعرفوها أن يرتبوا تلك المزق المتناثرة.
وهكذا نستطيع قراءة الديوان لنجد أن الحرب ظل وراء القصائد وإن كانت هي مركز تفجرها واتساعها. وانبثاقها من الذات إلى الخارج يجري في مجراها.
لقد ظل الصائغ محدقاً في الأرض, لا يلاحق فضاءً وهمياً. وهذا هو امتياز قصائده رغم أنه ما يزال – كما هو في دواوينه السابقة – يحمل من غبار الأرض شيئاً كثيراً ليدخله إلى القصيدة فيحجب بذلك جوهرها الشعري.
فما تزال الصفات المجانية ماثلة نجدها في : الولد الصعب والياسمين المشاكس والقمر المتسكع والندم المر والصبي المشاكس وفي الدشداشة المشاكسة (أيضاً).
وما تزال الموضوعات المباشرة تستهويه أحياناً فيكتب قصائد في موضوعات عادية مثل (أمسية شعرية) (ناقد) (إلى شاعر برجوازي) (متسولان) (جائع) وهي بعض الغبار الذي تلمه القصائد عند اقترابها الشديد من حالات الحياة اليومية ومن الانقسام البسيط المرئي بالنظر المجرد.
ولا تزال موسيقى القصائد محدودة. يحددها (المتدارك) هذا البحر الضيق بتفعيلته القصيرة وسكناته الكثيرة.
إلا أن الإيقاع لا يتوفر في أغلب قصائد الصائغ لأنه يخرج كثيراً من هذا البحر الضيق إلى سعة (المتقارب) فتتحول (فعلن) أو (فاعلن) في قصائد كثيرة إلى (فعولن). وهذا خطأ مطرد في الديوان. ويمكن معاينته في قوله:

"فتاة ترش دمانا على الأصص النائمة
فيتثاءب العطرُ بين انحسار القميص
وجوعي
إذن أنت لا تشبه الآخرين
قميصٌ يتيمٌ
وقلبٌ يتيمٌ.."

وفي قصائد أخرى تحصل هذه الانتقالات التي صارت ميزة إيقاعية خاصة بشعر الصائغ لعلها تعكس رغبته الكامنة في الانفلات من الضيق إلى الواسع: من المتدارك إلى المتقارب. وهو لا يتوانى عن كسر القاعدة اللغوية. فيقول (جوراباً) و (تمسح ذلتها) و (حافة) بالتخفيف.. ويصرف أحياناً ماحقة التنوين. أن تلك النواقص الأسلوبية, تغدو جزءاً من شخصية القصيدة ذات الواقع اليومي المألوف لدى عدنان الصائغ.. المؤكدة لشعريتها المنحرفة بانحراف إيقاعها. القصيدة التي تقدم نفسها للقارئ ولا تقدم موضوعها.
القصيدة التي إن تقرأها, تجد ذاتاً لا موضوعاً, وإحساساً لا تصويراً خارجياً, وجرحاً شخصياً لا ملحمة حربية. هنا امتزج الكل في واحد. وكانت ثنائية الداخل والخارج أبرز ما في الديوان : ملاحظين أننا قرأناه بتوجيه العنوان, وبنداء خفي يبعثه النص : يقول لنا بأن ما غيبه كثير, وربما كان بدء القصائد في ذلك العالم الذي تشير إليه من ثقوبها وزواياها. ولا تريد أن تراه بما هو عليه في واقعه. وإلا لماذا كان ثمة شعر؟

بغداد 1988

سماء في خوذة – شعر – عدنان الصائغ – دار الشؤون الثقافية – بغداد – 1988 - .


أوراق من سيرة تأبط منفى




(1)

أتسكعُ تحتَ أضواءِ المصابيحِ
وفي جيوبي عناوين مبللةٌ
حانةٌ تطردني إلى حانةٍ
وامرأةٌ تشهيني بأخرى
أعضُّ النهودَ الطازجةَ
أعضُّ الكتبَ
أعضُّ الشوارعَ
هذا الفمُ لا بدَّ أن يلتهمَ شيئاً
هذه الشفاه لا بدَّ أن تنطبقَ على كأسٍ
أو ثغرٍ
أو حجر
لمْ يجوعني الله ولا الحقولُ
بل جوعتني الشعاراتُ
والمناجلُ التي سبقتني إلى السنابلِ
أخرجُ من ضوضائي إلى ضوضاءِ الأرصفةِ
أنا ضجرٌ بما يكفي لأن أرمي حياتي
لأيةِ عابرةِ سبيلٍ
وأمضي طليقاً
ضجراً من الذكرياتِ والأصدقاءِ والكآبةِ
ضجراً أو يائساً
كباخرةٍ مثقوبةٍ على الجرفِ
لا تستطيعُ الإقلاعَ أو الغرق

تشرين ثاني 1993 عدن

*

(2)

كتبي تحتَ رأسي
ويدي على مقبضِ الحقيبةِ
السهول التي حلمنا بها لمْ تمنحنا سوى الوحولِ
والكتب التي سطرناها لمْ تمنحنا سوى الفاقةِ والسياطِ
أقدامي امحتْ من التسكعِ على أرصفةِ الورقِ
وأغنياتي تكسّرتْ مع أقداحِ الباراتِ
ودموعي معلّقةٌ كالفوانيسِ على نوافذِ السجونِ الضيقةِ
أفردُ خيوطَ الحبرِ المتشابكةَ من كرةِ صوفِ رأسي
وأنثرها في الشوارعِ
سطراً سطراً،
حتى تنتهي أوراقي
وأنام

آذار 1996 دمشق

*

(3)

سأحزمُ حقائبي
ودموعي
وقصائدي
وأرحلُ عن هذه البلادِ
ولو زحفتُ بأسناني
لا تطلقوا الدموعَ ورائي ولا الزغاريدَ
أريد أن أذهبَ
دون أن أرى من نوافذِ السفنِ والقطاراتِ
مناديلكم الملوحةَ.
أستروحُ الهواءَ في الأنفاقِ
منكسراً أمامَ مرايا المحلاتِ
كبطاقاتِ البريدِ التي لا تذهبُ لأحدٍ
لنحمل قبورنَا وأطفالنَا
لنحمل تأوهاتِنا وأحلامنَا ونمضي
قبل أن يسرقَوها
ويبيعوها لنا في الوطنِ: حقولاً من لافتاتٍ
وفي المنافي: وطناً بالتقسيط
هذه الأرضُ
لمْ تعدْ تصلحُ لشيءٍ
هذه الأرضُ
كلما طفحتْ فيها مجاري الدمِ والنفطِ
طفحَ الانتهازيون
أرضنا التي نتقيَّأُها في الحانات
ونتركها كاللذاتِ الخاسرةِ
على أسرةِ القحابِ
أرضنا التي ينتزعونها منا
كالجلودِ والاعترافاتِ
في غرفِ التحقيقِ
ويلصقونها على اكفنا، لتصفّقَ
أمامَ نوافذِ الحكامِ
أيةُ بلادٍ هذه
ومع ذلك
ما أن نرحلَ عنها بضعَ خطواتٍ
حتى نتكسرَ من الحنين
على أولِ رصيفِ منفى يصادفنا
ونهرعُ إلى صناديقِ البريدِ
نحضنها ونبكي

كانون ثاني 1996 الخرطوم

*

(4)

حياتنا التي تشبه الضراط المتقطع في مرحاض عام
حياتنا التي لمْ يؤرخها أحد
حياتنا ناياتنا المبحوحةُ في الريحِ
أو نشيجنا في العلبِ
حياتنا المستهلكةُ في الأضابير
والمشرورةُ فوق حبالِ غسيلِ الحروبِ
ترى أين أوَّلي بها الآن
حين تستيقظُ فجأةً
في آخرةِ الليلِ
وتظلُّ تعوي في شوارعِ العالم

15/7/1999 ليلاً - قناة دوفر Dover بحر المانش

*

(5)

أضعُ يدي على خريطةِ العالمِ
وأحلمُ بالشوارعِ التي سأجوبها بقدمي الحافيتين
والخصورِ التي سأطوقها بذراعي في الحدائقِ العامةِ
والمكتباتِ التي سأستعيرُ منها الكتبَ ولن أعيدها
والمخبرين الذين سأراوغهم من شارعٍ إلى شارعٍ
منتشياً بالمطرِ والكركراتِ
حتى أراهم فجأةً أمامي
فأرفع إصبعي عن الخارطة خائفاً
وأنامُ ممتلئاً بالقهر

16/7/1999 حديقة الهايدبارك – لندن

*

(6)

سأقذفُ جواربي إلى السماءِ
تضامناً مع مَنْ لا يملكون الأحذيةَ
وأمشي حافياً
ألامسُ وحولَ الشوارعِ بباطنِ قدمي
محدقاً في وجوهِ المتخمين وراءَ زجاجِ مكاتبهم
آه..
لو كانتِ الأمعاءُ البشريةُ من زجاجٍ
لرأينا كمْ سرقوا من رغيفنا
أيها الربُّ
إذا لمْ تستطعْ أن تملأَ هذه المعدةَ الجرباءَ
التي تصفرُ فيها الريحُ والديدانُ
فلماذا خلقتَ لي هذه الأضراسَ النهمة
وإذا لمْ تبرعمْ على سريري جسداً املوداً
فلماذا خلقتَ لي ذراعين من كبريت
وإذا لمْ تمنحني وطناً آمناً
فلماذا خلقتَ لي هذه الأقدامَ الجوّابةَ
وإذا كنتَ ضجراً من شكواي
فلماذا خلقتَ لي هذا الفمَ المندلقَ بالصراخِ
ليلَ نهار

آب 1999 براغ

*

(7)

أين يداكَ؟
نسيتهما يلوحان للقطاراتِ الراحلةِ
أين امرأتكَ؟
اختلفنا في أولِ متجرٍ دخلناهُ
أين وطنكَ؟
ابتلعتهُ المجنـزرات
أين سماؤكَ؟
لا أراها لكثرةِ الدخانِ واللافتاتِ
أين حريتكَ؟
أنني لا أستطيعُ النطقَ بها من كثرةِ الارتجاف

1996 مقهى الفينيق - عمان

*

(8)

دموعي سوداء
من فرطِ ما شربتْ عيوني
من المحابرِ والزنازين
خطواتي قصيرة
من طولِ ما تعثرتْ بين السطورِ بأسلاكِ الرقيب
أمدُّ برأسي من الكتاب
وأتطلعُ إلى ما خلفتُ ورائي
من شوارع مزدحمةٍ
ونهودٍ متأوهةٍ
ورغباتٍ مورقةٍ في الأسرّةِ
وأعجبُ كيف مرّتِ السنواتُ
وأنا مشدودٌ بخيوطِ الكلماتِ إلى ورقة

تموز 1993 مهرجان جرش- عمان

*

(9)

لا شمعة في يدي ولا حنين
فكيف أرسمُ قلبي
لا سنبلة أمامَ فمي فكيفَ أصفُ رائحةَ الشبعِ
لا عطور في سريري فكيف أستدلُّ على جسد المرأة
لنستمع إلى غناءِ الملاحين
قبل أن يقلعوا بأحلامهم إلى عرضِ البحرِ وينسونا
لنستمع إلى حوارِ الأجسادِ
قبل أن ينطفئَ لهاثها على الأرائك
أنا القيثارةُ مَنْ يعزفني
أنا الدموعُ مَنْ يبكيني
أنا الكلماتُ مَنْ .. يرددني
أنا الثورةُ مَنْ يشعلني
تشرين ثاني1993 صنعاء

*

(10)

أكتبُ ويدي على النافذة
تمسحُ الدموعَ عن وجنةِ السماء
أكتبُ وقلبي في الحقيبةِ يصغي لصفيرِ القطارات
أكتبُ وأصابعي مشتتة على مناضدِ المقاهي ورفوفِ المكتبات
أكتبُ وعنقي مشدودٌ منذ بدءِ التاريخِ
إلى حبلِ مشنقةٍ
أكتبُ وأنا أحملُ ممحاتي دائماً
لأقلِّ طرقةِ بابٍ
وأضحكُ على نفسي بمرارةٍ
حيلأمي ، سجادة الصلاة
وخوف قديم من الدركي
تخبئنا كلما مر في الحي تحت عباءتها
وتخاف علينا عيون النساء
وغول المساء وغدر الزمانن لا أجد أحداً
سوى الريح

1991 بغداد

*

(11)

كيف لي
أن أتخلّصَ من مخاوفي
رباه
وعيوني مسمرةٌ إلى بساطيلِ الشرطةِ
لا إلى السماءِ
وبطاقتي الشخصية معي
وأنا في سريرِ النومِ
خشيةَ أنْ يوقفني مخبرٌ في الأحلام

24/7/1999 امستردام

*

(12)

تحتَ سلالمِ أيامي المتآكلةِ
أجلسُ أمام دواتي اليابسةِ
أخططُ لمجرى قصيدتي أو حياتي
ثم أديرُ وجهي باتجاهِ الشوارع
ناسياً كلَّ شيءٍ
أريدُ أن أهرعَ لأولِ عمودٍ أعانقهُ وأبكي
أريدُ أن أتسكعَ تحتَ السحب العابرة
حتى تغسل آثارَ دموعي
أريد أن أغفو على أيِّ حجرٍ أو مصطبةٍ أو كتاب
دونَ أن يدققَ في وجهي مخبرٌ
أو متطفلةٌ عابرةٌ
أعطوني شيئاً من الحريةِ
لأغمس أصابعي فيها
وألحسها كطفلٍ جائعٍ
أنا شاعرٌ جوّاب
يدي في جيوبي
ووسادتي الأرصفة
وطني القصيدة
ودموعي تفهرسُ التأريخَ
أشبخُ السنواتِ والطرقاتِ
بعجالة مَنْ أضاعَ نصفَ عمرِهِ
في خنادقِ الحروبِ الخاسرةِ والزنازين
مَنْ يغطيني من البردِ واللهاثِ ولسعاتِ العيون
وحيداً، أبتلعُ الضجرَ والوشلَ من الكؤوسِ المنسيّةِ على الطاولاتِ
وأحتكُّ بأردافِ الفتياتِ الممتلئةِ في مواقفِ الباصاتِ
لي المقاعدُ الفارغةُ
والسفنُ التي لا ينتظرها أحد
لا خبز لي ولا وطن ولا مزاج
وفي الليل
أخلعُ أصابعي
وأدفنها تحتَ وسادتي
خشيةَ أن أقطعها بأسناني
واحدةً بعدَ واحدة
من الجوعِ
أو الندمِ

تشرين أول1996 بيروت

*

(13)

أيها القلبُ الضال
يا مَنْ خرجتَ حافياً ذاتَ يومٍ
مع المطرِ والسياطِ وأوراقِ الخريفِ
ولمْ تعدْ لي
سأبحثُ عنكَ
في حقائبِ الفتياتِ اللامعةِ والمواخيرِ ومحطاتِ القطاراتِ
حافياً أمرُّ في طرقاتِ طفولتي
وعلى فمي تتراكمُ دموعُ الكتب والغبار
أجمعُ بقايا الصحفِ والغيوم الحزينة وصور الممثلات العارية
وأدلقُ وشلَ القناني الفارغةِ في جوفي
أجمعُ أعقابَ السجائر المطلية بالأحمر
وأظلُّ أحلمُ بما تركتهُ الشفاهُ الأنيقةُ من زفراتٍ
القصائدُ تتعفنُ في جيوبي
ولا أجد مَنْ ينشرها
الدموعُ تتيبسُ على شفتي
ولا أجد مَنْ يمسحها
راكلاً حياتي بقدمي من شارعٍ إلى شارعٍ
مثلما يركلُ الطفلُ كرتَهُ الصغيرةَ ضجراً منها
وأنا...
أتأملُ وجهي في المرايا المتعاكسة
وأعجبُ
كيف هرمتُ
بهذه العجالة

7/1/2000 أوسلو

*

(14)

سأجلسُ على بابِ الوطنِ محدودبَ الظهرِ
كأغنيةٍ حزينةٍ تنبعثُ من حقلٍ فارغٍ
يغطيني الثلجُ وأوراقُ الشجرِ اليابسة
أنظرُ إلى أسرابِ العائدين من منافيهم كالطيورِ المتعبةِ
أمسحُ عن أجفانهم الثلوجَ والغربةَ
إنهم يعودون...
لكن مَنْ يعيد لهم ما ضيعوهُ
من رملٍ وأحلامٍ وسنوات
أقلعتُ في أولِ قطارٍ إلى المنفى
وأنا أفكرُ بالعودة
شاختْ سكةُ الحديدِ
وتهرأتِ العجلاتُ
وامحتْ ثيابي من الغسيلِ
وأنا ما زلتُ مسافراً في الريحِ
أتطايرُ بحنيني في قاراتِ العالم
مثل أوراقِ الرسائلِ الممزقةِ
دموعي مكسّرةٌ في الباراتِ
وأصابعي ضائعةٌ على مناضدِ المقاهي
تكتبُ رسائلَ الحنينِ
لأصدقائي الذين لا أملكُ عناوينهم
أنامُ على سطوحِ الشاحناتِ
وعيوني المغرورقةُ باتجاهِ الوطنِ البعيد
كطائرٍ لا يدري على أيِّ غصنٍ يحطُّ
لكنني دون أن أتطلعَ من نافذةِ القطارِ العابرِ سهوب وطني
أعرفُ ما يمرُّ بي
من أنهارٍ
وزنازين
ونخيلٍ
وقرى. أحفظها عن ظهرِ قلب
سأرتمي، في أحضانِ أولِ كومةِ عشبٍ تلوحُ لي من حقولِ بلادي
وأمرّغُ فمي بأوحالها وتوتها وشعاراتها الكاذبةِ
لكنني
لن أطرقَ البابَ يا أمي
إنهم وراء الجدران ينـتظرونني بنصالهم اللامعة
لا تنتظري رسائلي
إنهم يفتشون بين الفوارز والنقاطِ عن كلِّ كلمةٍ أو نأمةٍ
فاجلسي أمامَ النافذة
واصغي في الليلِ إلى الريح
ستسمعين نجوى روحي

1998 مالمو

*

(15)

خطوطُ يدي امحت من التشبّثِ بالريحِ والأسلاك
ومن العاداتِ السرّيةِ
مع نساء لا أعرفهن
التقطتهنَّ بسنّارةِ أحلامي من الشارع
وهذه الشروخ، التي ترينها ليستْ سطوراً
بل آثار المساطر التي انهالتْ على كفي
وهذه الندوب، عضات أصابعي
من الندم والغضب والارتجاف
فلا تبحثي عن طالعي في راحتي
- ياسيدتي العرافة -
ما دمتُ مرهوناً بهذا الشرقِ
فمستقبلي في راحات الحكام
20/3/1990 كورنيش النيل- القاهرة

*

(16)

لا أعرفُ متى سأسقطُ على رصيفِ قصائدي
مكوّماً بطلقةٍ
أو مثقوباً من الجوعِ
أو بطعنة صديق
يمرُّ الحكامُ والأحزابُ والعاهراتُ
ولا يد تعتُّ بياقتي وتنهضني من الركامِ
لا عنق يستديرُ نحوي
ليرى كيفَ يشخبُ دمي كساقيةٍ على الرصيفِ
لا مشيعين يحملونني متأففين إلى المقبرة
الأقدامُ تدوسني أو تعبرني
وتمضي
الفتياتُ يشحنَ بأنظارهن
وهن يمضغن سندويشاتهن ونكاتهن المدرسية البذيئة
ومئذنةُ الجامعِ الكبير
تصاعدُ تسابيحها - ليلَ نهار -
دون أن تلتفت لجعيري

…….

لا أعرفُ على أيِّ رصيفِ منفى
ستسّاقطُ أقدامي ورموشي من الانتظار
لا أعرفُ أيَّ أظافرٍ نتنةٍ ستمتدُ إلى جيوبي
وتسلبني قصائدي
ومحبرتي وأحلامي
في وضحِ النهار
لا أعرفُ على أيِّ سريرِ فندقٍ أو مستشفى
سأستيقظ
لأجد وسادتي خاليةً...
ودموعي باردةً
ووطني بعيد
لا أعرفُ في أيِّ منعطفِ جملةٍ أو وردةٍ
سيسدد أحدهم طعنتَهُ المرتبكةَ العميقةَ
إلى ظهري
من أجلِ قصيدةٍ كتبتها ذاتَ يومٍ
أشتمُ فيها الطغاة والطراطير
ومع ذلك سأواصلُ طوافي وقهقهاتي وشتائمي
عابراً وليس لي غير الأرصفةِ والسعالِ الطويلِ
ليس لي غير الحبرِ والسلالمِ والأمطارِ
سائراً مثلَ جندي وحيدٍ
يجرُّ بين الأنقاضِ حياتَهُ الجريحةَ
لا أريدُ أوسمةً ولا طبولاً ولا جرائدَ
أريدُ أن أضعَ جبيني الساخنَ
على طينِ أنهارِ بلادي
وأموت حالماً كالأشجار


أنا وهولاكو


قادني الحراسُ إلى هولاكو
كان متربعاً على عرشِهِ الضخمِ
وبين يديهِ حشدٌ من الوزراءِ والشعراءِ والجواري
سألني لماذا لمْ تمدحني
ارتجفتُ مرتبكاً هلعاً: يا سيدي أنا شاعرُ قصيدةِ نثر
أبتسمَ واثقاً مهيباً:
لا يهمكَ ذلك..
ثم أشارَ لسيافِهِ الأسودِ ضاحكاً:
علمْهُ إذاً كيف يكتبُ شعراً عمودياً بشطرِ رأسِهِ
إلى شطرٍ وعجزٍ
وإياكَ أن تخلَّ بالوزنِ
وإياكَ من الزحافِ والعللِ
امسكني السيافُ من ياقتي المرتجفةِ،
وهوى بسيفِهِ الضخمِ
على عنقي
فتدحرجَ رأسي،
واصطدم بالنافذةِ التي انفتحتْ من هولِ الصدمةِ.
فاستيقظتُ هلعاً يابس الحلق، لأرى عنقي مبللاً بالعرق، وكتابَ الطبري ما زالَ جاثماً على صدري، وقد اندعكت أوراقه تحت سنابكِ خيولِ هولاكو التي كانت تنهب الممالك والقلاع، وأمامي وشيشُ التلفزيونِ الذي انتهى بَثُّهُ بنهايةِ خطابِ الرئيسِ الطويلِ
قفزتُ مرعوباً
رأيت فراشي ملطخاً بدمِ الكتبِ التي جرفها نهرُ دجلة، ممتزجاً بالطمي والجهشات
حاولتُ أن أجمعَ شطري رأسي اللذَين التصقا بجانبي التلفزيون
وأصبحا أشبه بسماعتين يبثُّانِ الوشيشَ نفسَهَ.
في الصباحِ…….
على غيرِ العادةِ ،لم اقرأ نعيي في الجريدةِ ،
ولمْ تقفْ سيارةُ الحرسِ أمامَ البيتِ وعليها جنازتي
ولمْ أعرفْ تفاصيلَ ما حدثَ
ذلك لأنَّ هولاكو ضجرَ من الوشيشِ
فقامَ بنفسِهِ وأطفأَ التلفزيونَ
وعادَ إلى كتابِ الطبريِّ ثانيةً،
مبتسماً واثقاً مهيباً ،
بعد أن رفسني بخصيتي
لأنني نمتُ
قبل أن أكملَ بقيةَ سيرتِهِ


الظلُّ الثاني



وقفتُ أمام البنايةِ
مرتبكاً
يتعقبني ظلُّه من وراء الجريدةِ
لفَّ معي الطرقاتِ
وقاسمني مطعماً في ضواحي المدينةِ
والباصَ
والمكتباتِ اللصيقةَ
حتى انتهينا إلى دورةٍ للمياهِ
وقاسمتهُ هلعي في القصيدةِ، منكمشاً
أتحسسُّ طياتها من خلالِ التصاقِ القميصِ بنبضي الذي يتسارعُ
والعجلات التي تتسارعُ
والقبلات التي تتسارعُ خلف الغصون
تحسسَ - حين استدارَ - انتفاخَ مؤخرةِ البنطلونِ
فأبصرتُ فوهةً تترصدني……

………

ولم نفترقْ
قاطعتنا الشوارعُ
لم نفترقْ
قاطعتنا أغاني المقاهي التي سيحطُّ الذبابُ على لحنها ويطيرُ إلى الشاي، سيدةٌ بالثيابِ القصيرةِ تهبطُ من سلّمِ الباصِ تقرصها النظراتُ المريبةُ من فخذيها.. فتجفلُ، موجُ الزحامِ الذي يتلاطمُ فوق ضفافِ المحلاتِ منحسراً أخرَ الشهرِ نحو البيوتِ التي ستجففُ أيامَ
النوافيرُ…
ساحةُ بيروت…
لمْ نفترقْ…

………

دلفتُ إلى البارِ
كان ورائي
يمد مخالبَهَ في ظلالي وكانَ الوطنْ
على بعدِ منفى وكوبٍ من الشاي
يقرأُ في صحفِ اليوم آخرَ أخبارِهِ
نافثاً في الزجاجِ المضبّبِ دخانَ سيجارةِ اللفِّ
يبصقُ..
[ .. حين أصافحهُ، سيمدُّ يداً بترتها الشظايا، يشيرُ... (لصورةِ جلادهِ ساخراً تتربعُ أعلى الجريدةِ مزدانةً بالنياشينِ ـ كمْ نفختهُ الجرائدُ ـ يتبعهُ الدبقُ، الحشدُ والكامراتُ) .. أشيرُ إلى المطرِ المتساقطِ من غيمِ أجفانِهِ وهو يرنو لجوعِ شوارعهِ والعماراتِ
تمصُّ دماه وتعلو…]
.. يرى الحافلاتِ التي تتدافعُ
والخطوات التي تـتـ....
.. إلى أين يلهثُ هذا القطيعُ ؟
احتسيتُ ـ على قلقٍ ـ نصفَ كوبي
فبادلني النظراتِ
التفتُّ
رأيت الذي كان يرقبني
قابعاً خلف نظارتيهِ وظهري
يقرّبُ أذنيهِ من طرفِ الطاولةْ
نحنُ لمْ نتبادلْ سوى جملٍ نصف مبتورةٍ
فماذا يسجّلُ فأرُ الحكومةِ في أذنِ صاحبِهِ
ويُهيّيءُ- خلفَ التقاريرِ والمعطفِ الجلدِ - طلقتَهَ القاتلةْ


بيادق



بيدقني السلطانْ
جندياً في حربٍ لا أفقهها
لأدافعَ عن رقعةِ شطرنجٍ - لا أدري -
أم وطنٍ أمْ حلبةْ
ولهذا أعلنتُ العصيانْ
لكنَّ الجندَ الخصيانْ
قادوني معصوبَ العينين إلى الخشبةْ
وأداروا نحوي فوْهاتِ بنادقهم
فصرختُ: قفوا
ستُجرّونَ على هذي الرقعة،
كبشاً كبشاً
كي تعلو - فوق سلالمِ أشلائِكمُ – التيجانْ


سيرة ذاتية لكاتم صوت



(1)

لماذا يلمعني هذا السيد الأنيق
كل صباح
وهو يمضي إلى مهمته الغامضة

*

(2)

وراءَ زجاجِ احدى المكتبات
ظلَّ صاحبي يختلسُ النظراتِ إلى وجهِ رجلٍ
كان يقلّبُ كتاباً
حين وقعتْ عيناهُ - على مؤخرةِ بنطلونِ صاحبي - ارتبكَ
هل خافني الرجلُ؟
سألتُ صاحبي، فلكزني بحذرٍ
أن أسكتَ
لكن الرجلَ الذي التفتَ فجأةً إلي ورآني
اصفّرَ وجهُهُ
تركَ الكتابَ
وانسلَّ مسرعاً بين الزحامِ
تاركاً صاحبي
يبحثُ عنه بغضبٍ

*

(3)

كيف يعرف - سيدي - يا تُرى
ضحيته
وسط هذا الحشد من الأعناق

*

(4)

ذات مساء
وبينما كان المطرُ ينهمرُ
في شوارعِ المدينةِ
أخرجني من دفءِ جيبهِ
حركني ببرودِ أعصابٍ
ووجهني إلى ظهرِ رجلٍ
كان منحنياً لالتقاطِ شيءٍ لمْ أرْهُ
إذ تكوّمَ الرجلُ فوقه فجأةً
بينما اتسعتْ خطواتُ صاحبي

*

(5)

بعد سنواتٍ من عملي
أصبتُ بمرضٍ عضال
فأخذني صاحبي إلى دكانِ رجلٍ ملطخٍ بالزيتِ
نظرَ لي طويلاً
ثم قطّبَ شفتيه بأسفٍ
متمتماً بأنني لم أعدْ أصلحُ لشيءٍ
تركني صاحبي بلا رفةِ قلبٍ أو مبالاةٍ
دون أن يدري أنهم سيرمونه مثلي ذاتَ يومٍ

*

(6)
بين كومةٍ من عظام وأشلاء حديدية
التفتُ بحذرٍ
رأيتُ حولي عشراتٍ من زملاء المهنة
بهيئاتٍ وحشرجات مختلفة
تبادلنا أطرافَ الأحاديثِ قبلَ أنْ ننامَ
عن جولاتِنا الليليةِ
عن العيونِ التي أطفأنا فيها البصيصَ
عن الأعناقِ التي كنا نراها مزهوةً
ونعجبُ
كيف ترتجفُ أمامنا فجأةً
وتتلوى كسنابل في الريحِ،
بينما كنا نضحكُ
عن تلك الحياة الشاسعة التي.....
لم تكن تعني لنا سوى ضغطةِ زناد


الإله المهيب



هالتهُ كثرةُ الشكاوى التي ضَجرَ الملائكةُ من إيصالها
والدموع التي لا تصلُ صندوقَ بريدِهِ إلا ذابلةً أو متسخةً
والشتائم التي تُكال له يومياً بسببٍ أو دونه
أرادَ أن يعرفَ ما يجري في بلادِنا
فتنكَّرَ بملابسِ قرويٍّ
ونزلَ من سمائِهِ البهيةِ
متجولاً في شوارعِ المدينةِ
وبينما هو ينظرُ مشدوهاً
إلى صورِ السيد الرئيسِ تملأُ الحيطانَ والهواءَ وشاشاتِ التلفزيونِ.
مرقَ موكبُهُ المهيبُ، مجلجلاً
- بين جوقةِ المصفقين واللافتاتِ والحرس-
فتعالى الهتافُ من فمِ الرصيفِ المندلقِ
ورقصتِ البناياتُ والشجرُ والناسُ والغيومُ
فلكزَهُ أحدهم هامساً بذعر:
صفّقْ أيها المغفّل،
وإلا جرجركَ حراسُهُ الغلاظ


تكوينـات


(1)

لا تقطفِ الوردةَ
انظرْ...
كمْ هي مزهوة بحياتها القصيرة

*

(2)

في بالِ النمرِ
فرائس كثيرة
خارجَ قضبانِ قفصهِ
يقتنصها بلعابِهِ

*

(3)

في الروحِ المذبوحِ
رقصٌ كثيرٌ
غيرَ أنَّ مدارَ الجسدِ لا يتسع

*

(4)

ما الذي يعنيني الآن
أيها الرماد
انكَ كنت جمراً

*

(5)

كمْ نلعنكِ
أيتها الأخطاء
عندما لمْ تَعُدْ لكِ من ضرورةٍ

*

(6)

كلما ارتفعتْ منائرهم
خَفَتَ صوتُ الجائع

*

(7)

الجزرُ
عثراتُ البحرِ
راكضاً باتجاهِ الشواطيء
هكذا تلمعُ خساراته من بعيد

*

(8)

باستثناءِ شفتيكِ
لا أعرفُ
كيفَ أقطفُ الوردةَ

*

(9)

أصلُ أو لا أصلُ
ما الفرق
حين لا أجدكِ

*

(10)

تمارسُ المضاجعةَ
كما لو أنها تحفظها عن ظهرِ قلبٍ

*

(11)

لمْ تعدْ في يدي
أصابع للتلويحِ
لكثرةِ ما عضضتها من الندم

*

(12)

هل تتذكرنا المرايا
حين نغيبُ عنها

*

(13)

سأقطفُ الوردةَ
سأقطفها
لكنْ لمنْ سأهديها
في هذا الغسقِ
من وحدتي

*

(14)

لا أحد ينظرُ إلى أحدٍ
الكلُّ ينظرون إلى بعضهم

*

(15)

لولمْ يكنْ لجمالكِ مشجب
أينَ
نعلّقُ أخطاءَنا..؟

*

(16)

جمالها الذي عاشتهُ بإفراط
انفرطَ من بين أناملها
دون أن تتمكن
من الانحناء
لالتقاطِ ما تبقّى من حياتها

*

(17)

إنها لعنة الجسدْ
أنَّ ينامَ وحيداً على الجمرِ
مكتفياً بأصابعِهِ
عن نساءٍ يراودن أحلامَهُ
لا يخلّفنَ غيرَ الزبدْ

*

(18)

وأنتِ تمرينَ بخدكِ المشمشي
كمْ من الشفاهِ تلمظتْ بكِ
في الطريقِ إلي

*

(19)

بإبرتهِ المائيةِ
يخيطُ المطرُ
قميصَ الحقول

*

(20)

ماذا تفعلُ ظلالنا
في حضرةِ الضوء

*

(21)

هكذا نجلسُ
متقابلين
أصابعنا متشابكة
وقلوبنا تهيئ حقائبها للسفر


خيبات



انتظرتُ الأغصانَ الجرداءَ حتى أزهرتْ
والراياتِ المنكّسةَ حتى انتصبتْ
لكنْ ما أن تكوّرَ الوردُ حتى قطفَهُ غيري
وما أن سارتْ الراياتُ حتى تركتني على الرصيفِ
ومضتْ تشقُ طريقَها وسطَ الهدير .. إلى باحة القصر
وانتظرتُ السفنَ المبحرةَ حتى عادتْ
لكن ما أن نزلَ البحارةُ والمسافرون
لم أجدْ من يعرفني
وقرعتُ الزنازينَ حتى فُتحتْ
لكن ما أن خرجَ السجناءُ
فاتحين أذرعَهم ورئاتهم للحريةِ
حتى جروني من ذراعي ورموني فيها


شاعــر



إلى الشاعر الشهيد علي الرماحي
في عصر الطغيانْ
كان الشعراءُ الخصيانْ
- كالفئرانْ -
ينكمشون بـجحرِ السلطانْ
ويغنون
بأمجادِ جلالتهِ
وبنعمتهِ
وتظلُّ حروفك
- في كلِّ زمانٍ ومكانْ -
تمشي ....
وعلى كتفيها الصلبانْ


حكاية وطن



شَعَرَ تمثالُ السيد الرئيس بالضجر
فنـزل من قاعدته الذهبية
تاركاً الوفودَ والزهورَ وأناشيدَ الأطفال،
وراح يتمشى بين الناس الذين اندفعوا يصفقون له:
"بالروح بالدم.. نفديك يا.….."
انتعشَ التمثالُ.
وحين علمتْ تماثيلُهُ الأخرى بالأمر
نزلتْ إلى الساحاتِ
وراحتْ تتقاتلُ فيما بينها.
والناس يتفرجون
لا يدرون
أيهم السيدُ الرئيس....؟!!


هواجس



أقلّ قرعة بابٍ
أخفي قصائدي - مرتبكاً - في الأدراج
لكن كثيراً ما يكون القرع
صدىً لدورياتِ الشرطةِ التي تدورُ في شوارعِ رأسي
ورغم هذا فأنا أعرفُ بالتأكيد
انهم سيقرعون البابَ ذات يوم
وستمتدُ أصابعهم المدربةُ كالكلابِ البوليسيةِ إلى جواريرِ قلبي
لينتزعوا أوراقي
و…..
حياتي
ثم يرحلون بهدوء


شهداء الانتفاضة



هؤلاء الذين
تساقطوا أكداساً
أمامَ دباباتِ الحرسِ
هؤلاء الذين حلموا كثيراً بالأرضِ
قبل أن يحلّقوا بأجنحتهم البيضاء
هؤلاء الذين نما على شواهدِ قبورهم صبّيرُ النسيان
هؤلاء الذين تآكلتْ أخبارُهم
شيئاً ، فشيئاً..
في زحمة المدينة
إنّهم يتطلعون بعيونٍ مشدوهةٍ
إلى قدرتنا على نسيانهم بهذهِ السرعة


مشاكسـة



لأنَّ الشمسَ
ظلتْ نائمةً إلى الضحى
في سريرِ الإمبراطورْ
لمْ تستيقظ المدينةُ – هذا الصباح –
غير أن السجينَ المشاكسَ
مدَّ أظافرَهُ الطويلةَ الحادةَ
– عبرَ القضبانِ –
ووخزَ جسدَها الأرجوانيَّ
فاندلقَ دمُها،
ساخناً
فوقَ كوّةِ زنزانتهِ
وأضاءَ العالم


دبابيس



النجومُ، التي يتوهمها المطبعيُّ، حروفاً متناثرةً على أديمِ الليل.
النجومُ، التي يراها المدفعيُّ، دموعَ الأراملِ التي سيخلّفها بعد كلِّ قذيفة
النجومُ، التي يحسوها السكّيرُ، حبيباتٍ طافيةً من الذكرياتِ المرّة
النجومُ، التي يتلمّسها السجينُ، سجائرَ مطفأةً في جلدهِ
النجومُ، التي تمسحها العاهرةُ، بقايا الفحولاتِ المنطفئةِ بين فخذيها
النجومُ، التي يتأمّلها العابدُ، رذاذَ ماءِ الوضوءِ
على سجادةِ الكون
النجومُ...
دموعنا المعلّقةُ - بالدبابيسِ - في ياقةِ السماء
ترى أين تختفي
عندما تفتحين نافذتكِ.. في الصباح


تحت سماء غريبة



معادلةٌ صعبةٌ
أن توزّعَ نفسكَ بين فتاتين
بين بلادين
من حرسٍ وأناناس
بينهما، أنتَ ملتصقٌ بالزجاجةِ
في حانةٍ، تتقافزُ فيها الصراصيرُ
كانتْ لكَ الكلماتُ، الطريقَ إلى النخلِ..
من أين جاؤوا بأسوارهم
فانتحيتَ، تراقبُ
ضوءَ الصواري البعيدةِ
يخبو ، ويصعدُ
بين الشهيقِ، وبين الزفير

............

.............

معادلةٌ مرّةٌ
أن تظلَّ كما أنتَ
ملقىً على الرملِ
ترسمُ أفقاً، وتمحوهُ
برقاً، وتجلوهُ
إنَّ السماءَ القريبةَ، أشهى
السماءَ البعيدةَ.. أبهى
لكن أحذيةَ الحرسِ الملكيِّ
ستحجبُ عنك فضاءَ الحنينِ المعرّش
ما بين أزهارِ قلبكَ، والنافذة

............

.............

معادلةٌ صعبةٌ
أن أبدّلَ حلماً، بوهمٍ
وأنثى،.. بأخرى
ومنفى، بمنفى
وأسألُ:
أين الطريق!؟
][color=






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:39 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط