العاقر

[رشيدة الفارسي]

نظرت إلى البطن المكّوّر أمامها. تأمّلته مليا. تأملت المرأة الواقفة قبالتها. حدّقت فيها، في قامتها، في وجهها. ثم عادت تتأمل البطن الخصب. استدارته تشدّها شدّا. هناك توقف بصرها و تسمّرت نظراتها. لا شكّ أنه يضج حركة و حياة و حرارة. نظراتها شاردة، تائهة ساهمة. تنتقل بين البطن المكور و بطنها الخاوي الذاوي، الضامر. بطنها الذي لم يعرف يوما الانتفاخ و لا الامتلاء. بطن أعجف صامت. كأرضهم الجدباء التي لم تنبت إلا الأشواك. هناك نشأت. و كبرت في بيت متواضع حوله شجيرات عجاف في حقل ناء. بيتهم كان بعيدا عن البيوت. نادرا ما يزورون أو يزارون. و نادرا ما يمرّ إنسان من هناك. في عزلتهم عاشوا و كبروا. لا لقاءات. لا مناسبات. لا صداقات. لا مدرسة. لا سفر. عالمهم هو الحقل و البيت. هناك نشأت فتاة شابّة نحيفة شاحبة أمية. لم تعرف من العالم إلا هذه القرية المنسيّة على سفح الجبل. و لم تعرف من القرية إلا حقلهم النّائي و بيتهم البسيط. لذلك هي تأنس بالوحدة و تنفر من النّاس بل إنّها تخشاهم. و كيف لا تخشاهم و هي اليوم مطلقة، وحيدة، فقيرة. تقف عاجزة أمام زوجة طليقها تتأمل بطنها المنتفخ بعينين زائغتين تحدوها رغبة جامحة في تحسّسه و لمسه عساها تكتشف سر الحياة.
هي العاقر. هي العقيم التي لم تحمل جنينا يتخبّط في أحشائها قطّ. أرض بور شائكة. لا خصب. لا نبات. لا خضرة. لا حياة. هكذا هي.
عندما ظهر فجأة ذات يوم في حياتها. اهتزّت. اضطربت. كان قبسا أنار ظلمة أعماقها. مزنا روى أرضها العطشى إلى الحبّ و الحياة. بدرا أشعّ في سمائها القاتمة. خطبها. فوافقت دون تردّد، دون تفكير. أخيرا ظهر رجل في حياتها. إنسان آخر غير أبويها و أخواتها. وجه جديد غير الوجوه المألوفة. رجل. شاب. للكلمة وقع السحر في نفسها. رجل يطلب يديها. يريدها. اصطفاها من كل البنات. آمال كبيرة تشرق في الأعماق و تتألّق في العيون. صفحة جديدة تفتح في كتاب حياتها الخالي.
و تزوّجا. معه عرفت أحلى الأيّام و الليالي. و ترشفت السعادة قطرة قطرة. و حلّقت في عوالم رائعة رائقة. ثم تلاشى كل ذلك و بدأت رحلة العذاب. سرت الهمهمات و الهمسات بين أفراد العائلة. هل هي حامل؟ لم تأخّر حملها؟
و تأخّر الحمل. تأخر كثيرا. كلام الحماة غدا سهاما جارحة. نظراتها تحمل اتهاما صارخا بالعجز و التقصير.
صار البيت سجنا خانقا يزداد كلّ يوم ضيقا و انطباقا على صدرها. صبرت. تحمّلت. تألّمت. بكت في صمت. توسّلت إلى زوجها أن يصبر و ينتظر لعلّ الفرج آت. لكن ضغط الأم لا يطاق و الفرج لم يأت. هو يحبّها لكنها عاقر، عاجزة عن إنجاب طفل يملأ بيته و حياتها سعادة و أنسا و حبورا. و هل يستقيم الزّواج في القرية دون أطفال؟ و أمه لا تصمت. لا تنسى. لا ترحم حبّهما، تسأل و تلحّ في السّؤال.
هي عاقر. للكلمة وقع السياط على الظّهر، وقع النصل في الصدر، هو حبيبها. رفيقها. أنيسها. صديقها. معه عرفت الحنان و الصدق. معه أحست بذاتها. بأنوثتها الدفينة. معه توهّجت الحياة في عينيها و سرى الدّفء إلى قلبها. لكنها الآن عاجزة. عاجزة عن إسعاده، عن إهدائه طفلا تعلو ضحكته في البيت و تتردّد زغرودة فرح و حياة. و عجزها هذا آلمها. أربكها. دمّرها. بعثر كيانها. فإذا الذات حطام و الروح شظايا.
و كان الطّلاق. فكان الفراق و كان الألم. ثم كان الزواج ثم الحمل. و ها هي الآن تلتقي بالعروس الحامل. ها هي تتأمّلها. تتأمل بطنها الممتلئ الخصب. و تتساءل عن سرّه الرّهيب. لقد طلقها الزّوج إذن بعد طول انتظار. طلقها و في القلب مرارة و في الحلق غصّة و في العين دمعة. طلقها و هو يحبّها و لا يصبر على فراقها. لكن قرار الأم لا يناقش و لا يردّ. و العجز عن الحمل لا يغتفر في العائلة و لا في القرية أيضا.
إن قيمة المرأة تظلّ محل شكّ إلى أن يتم الحمل و الإنجاب. وإذا لم يحدث ذلك اهتزت صورتها في عيون الآخرين و اعتبرت كائنا ناقصا يمنّ عليه بكلمات الشفقة و المواساة.
لذلك كان لا بدّ من التضحية بالحبّ و العشرة و الانسجام من أجل البنين. انكفأت على ذاتها تلملم جراح أنوثتها المكلومة. تكفكف دموعا سخيّة انسابت على الوجنتين الذابلتين’ تبلل الصدر المثقل بالأحزان و تطفئ نارا تتلظّى في الأعماق.
الحياة بدونه فراغ يحتويها. يغرقها. ماذا تفعل بأيامها و لياليها إذا لم يكن هو حاضرا فيها؟ ماذا تفعل بحياتها إذا لم يكن هو هناك معها ؟ بجانبها. يشعرها بوجودها. صوته. أنفاسه. حنانه. كل ذلك غدا عدما، فراغا. و اليوم ها هي تلتقي بزوجته الجديدة . الزّوجة الحامل تقف أمامها. تتباهى ببطنها المنتفخ. تشهره دليل أنوثة و قدرة و تفوّق و شاهدا على خيبتها هي و عجزها.
هل يمكن أن تكون الحياة كذبة كبرى؟ هل يمكن أن تكون السّعادة وهما خادعا؟ هل يمكن أن يكون الحب الكبير سرابا خلبا؟ هل يمكن أن يصبح ما كان بينهما ذكرى بعيدة تثير الابتسام؟
هي الآن وحيدة، مصدومة، تائهة، حزينة بعدأن خمدت نار الحبّ و الشّوق و غدت رمادا و صقيعا يسكن الأعماق. هي تفتقده. تريده إلى جانبها. لكن هيهات. هو اليوم سعيد بزوجته و بابنه المنتظر. أكيد أنّه نسيها في خضم غبطته بالحدث السّعيد.
أكيد أن حياته أشرقت بهذا الحمل و أزهرت و أنّه ينعم بعيدا عنها بالأنس و الحبّ و الدّفء و البهجة. و هي هنا وحيدة، بائسة تتأمل البطن العامر حينا و تتحسّس بطنها الخاوي حينا اخر. يا للمرارة! كيف السّبيل إلى الانعتاق من هذه الأحزان التي تجثم على صدرها و تكتم أنفاسها؟ كيف السبيل إلى نسيان عذابات النفس؟ تتحسّس بطنها من جديد. فيخيّل إليها أن الحياة دبّت فيه، أن حركة تسري بين ثناياه، أن قلبا صغيرا ينبض هناك مردّدا صدى نبضات قلبها. هو جزء منها. نبت هناك. أينع هناك. أثمر هناك. في أحشائها، في أعماقها.
تستعذب الفكرة. تعيش الحالة بكل جوارحها و وجدانها.
عادت تتأمّل المرأة الحامل. اقتربت منها. مدّت يدها نحوها. تريد أن تلمسها، أن تتحسّس البطن العامر. ذعرت المرأة. تراجعت. ازدادت هي اقترابا منها و هي تبتسم لها. لا تخافي سيّدتي. لا تخشي شيئا. ما أردت بك سوءا. أنا فقط أريد أن ألمس البطن الخصب، أن أسمع حركة جنينك بل جنيني. فأنا حامل مثلك تماما. و جنيني حبّ لا ينضب و أمل لا يذوي. أمل في آت قد يكون أفضل رغم ما في الواقع من قتامة و ما في القلب من مرارة.
أنا يا سيّدتي جبل من الصّبر لا ينهدّ. أنا أرض تشتاق إلى المطر و تنتظره مهما تأخّر. أنا طائر مهاجر يصارع العواصف و الأنواء حتّى يعود إلى عشّه، آمنا، سالما مهما طالت الرحلة و تعطل المسير. لا تخافي يا سيّدتي فأنا زورق مهما عبثت به الرّياح و مهما تقاذفته الأمواج لا بدّ أن يصل يوما إلى برّ الأمان و يرسو على الشّاطئ. فلا تخافي مني و لا تخافي عليّ.
أنا الجنين و البذرة. أنا البرعم و الزّهرة. أنا الجذور و الشجرة. أنا الأمس و اليوم و الغد.

[زياد السعودي]

سلام الله
وتحية ترقى لبياض أرواحكم
نرى فيما يراه الحريص على جدوى العلاقة التشاركية
ان نرشح لكم هذا المنجز :

http://www.fonxe.net/vb/showthread.php?t=66817

تعقيبكم اثراء

كل الود

[فاطمة الزهراء العلوي]

سردية جميلة جدا من حيث البناء والتاثيث الدرامي / الذي أخذ فيه تداعي نمو الصورة والحدث ، كامل حريتهما وحقهما
والقصة ادانة لمجتمع يتحرك قدما نحو الانحطاط الفكري و إيمان سيء بتقاليد باهتة

العاقر مجرمة حتى إشعار آخر

شكرا على هذه اللحظة السردية القوية

همسة
لو سمحت لي سيدتي هنا:
هكذا الحياة تجارب تعاش و قلوب تخفق و تضطرم حبّا و شوقا و لهفة و حنينا. ثم تسكن و تخمد. فتستحيل النار رمادا و الحرارة صقيعا يسكن الأعماق

أراه تدخلا من الساردة / كان بالإمكان التخلي عن هذي الفقرة / كونها في عمق الصورة

وثم
ألف مرحبا بك في باحة الفينيق وبغيث حرفك السيدة رشيدة

تقديري بلا ضفاف

[رشيدة الفارسي]

سلامي
هذه نصوصي صدى أنفاسي وزهرات من كياني ووجداني تطلّ عليكم في المدينة الحالمة
تبغي أن تينع بينكم وتتضوّع ودّا وطيبا تفاعلكم قطرات ندى ترويها.
يشرّفني مروركم ويسعدني .

[روضة الفارسي]

مرحبا أستاذة رشيدة أتمنى لك اللإقامة الطيبة بيننا

محبتي وتقديري

[عبير هلال]

نص جميل ومؤلم يحكي عن معاناة

عاقر ..

لا أعلم ربما أكون مخطئة لكن النهاية جاءت كشرح مستفيض

في محادثتها مع الحامل ..

محبتي للمبدعة وتقدبري

[محمود مليكة]

قصّ دقيق الوصف عميق المعنى كيف لا و قد تناول باقتدار مسألة اجتماعية انسانية حسّاسة ألا و هي " الخلفة " و الانجاب ؟ !

شكرا راقيتنا رشيدة لأنّك ذهبت إلى قلب الوجع و جحيم المعاناة وتميّزت في تصوير الحال بنبل و تحضّر رغم أنّك و الحمد لله أمّ و لم تردي حوض الحرمان هذا .

طوبى لك فاضلتنا و بمزيد الألق لك انسانة و مبدعة .

مودّة لا تنتهي .

[رشيدة الفارسي]

شكري وامتناني للأخت فاطمة الزهراء
أسعدني تفاعلك. همستك وصلت وأفادت.
مودّتي..

[خديجة قاسم]

أهلا ومرحبا بك أختنا رشيدة وبقلمك الجميل
أتمنى لك طيب الإقامة بيننا
سلم العطاء ودام أنيقا
كل التقدير لك

[رشيدة الفارسي]

العزيزة روضة
سعيدة بأن نلتقي من جديد بعد غياب طويل في ربوع المدينة الحالمة.
مودّتي.

[رشيدة الفارسي]

أخي عوض
جميل مرورك و أجمل منه كلماتك.
دمت صديقا صدوقا.

[رشيدة الفارسي]

الأخت عبير
مرورك شرّفني و تفاعلك أسعدني.
تقديري.

[رشيدة الفارسي]

عميد الدار السيد الفاضل الزياد
دعوتكم إلى العلاقة التشاركية مستجابة.
شكرا على التوجيه
لكم فائق الشكر و التقدير.

[رشيدة الفارسي]

الفاضلة خديجة
سلمت و سلم حضورك الشفاف
سرني تفاعلك ودعمك
كوني بالقرب
مودتي

[رشيدة الفارسي]

الفاضل محمود
نعم صديقي هي معاناة المرأة
حين تكون عاقرا
في مجتمع لا يرحم
ولا يتفهم
لها الله
مودتي

[رشيدة الفارسي]

عقم الجسد صعب
لكن عقم الروح أصعب
و أخطر
عقم الروح يعني
أن تتحجر القلوب
و تقسو
أن تموت المشاعر
أن تأفل البسمة
و تذوي
أن تمتد بيننا المسافات
وتكون الغربة قدرنا

[رشيدة الفارسي]

رغم العقم بدت العاقر قوية متفائلة مؤمنة
بنفسها، ثابتة الخطوات، شامخة.
العاقر اعطتنا درسا في التحدي رغم الخيبات
و الانتكاسات

[رشيدة الفارسي]

و تتواصل رحلة العاقر مع الوجع
و المرارة في مجتمع لا يرحم.
مجتمع ذكوري يعتبر المرأة
مسؤولة عن العقم و يحاسبها
على ذلك بقسوة و شراسة.
و لا تفسير لمثل هذه السلوكيات الخاطئة
إلا بالجهل الراسخ في العقول
و الذي يتجلى في جملة من
العادات و التقاليد التي تكبل
المرأة و تضع أمامها الخطوط
الحمراء.
بالعلم فقط نبني العقول و نطور
العلاقات بين المرأة والرجل.
و نغير مفاهيم الزواج و الحب
و الأسرة.

[نوال البردويل]

قصة من الواقع، قصة كل يوم وكل عصر
والمأساة هنا هي نظرة المجتمع إلى المرأة العاقر واتهامها
بأنها إنسان ناقص رغم أن الله هو من قدر لها ذلك
والمأساة الأكبر تخلي الزوج عنها وكأنها اقترفت جريمة
تستحق عليها العقاب
هي لم تخطيء لتعاقب ولكن الخطأ في مجتمع لا يرحم
سرد جميل دون أي تعقيد سلس وسهل القراءة
كل التقدير الوارفة رشيدة
مودتي
.

[قصي المحمود]

قصة تغوص في عادات المجتمع وثقافته المتخلفة والقاصرة إنسانيا
االعاقر هي نتيجة وضع صحي لا دخل فيه للإنسان..ولكنها النظرة المجتمعية القاصرة
للمرأة العاقر والمطلقة ..مشكلة عالمنا الثالث المتخلف عدم الفهم الإنساني للأخر
وحتى عدم احترام مشاعره...
البيئة والمجتمع والثقافة القاصرة والفهم الخاطيء هو الوبال على شعوبنا
وهذا ينجر الى مفهوم المواطنة
نص إجتماعي رقي بأمتياز
تحياتي وتقديري وكل عام وانتم بخير

[رشيدة الفارسي]

صديقي الكريم قصي المحمود
شكري بلا ضفاف على هذا الحضور العطر
و على هذه الكلمات الرائعة التي غاصت في النص
و تتبعت أبعاده.
سرني أنك هنا.
كل الود و باقات الياسمين.
و عيد سعيد و كل عام و انت بألف خير

[خالد يوسف أبو طماعه]

إعادة تدوير
من شأنها أن تزيد من مساحة التلقي
كل الود


كونوا معنا 👇


http://www.fonxe.net/vb/showthread.php?t=72121

[إيمان سالم]

نص رائع استمتعت بالقراءة و متابعة ذلك الرصد الدقيق
لكل ما يختلج في صدر البطلة من أحاسيس تجسدت بكل تفاصيلها
و تفاعلاتها ... جعلتني أشعر بثقل كلمة عاقر وهو أمر خارج عن نطاقها ...

مولعة هي مجتمعاتنا بالتصنيفات التي لا تنتهي ... في كل مرحلة و مع
كل وضع سنجد صفة تحملها المرأة عموما فقبل الزواج ممكن توصف بعانس بعده بعاقر ... !
و هكذا دون توقف هناك من تلام لأنها تنجب الكثير من الأولاد ....

سرد جميل و راق مبدعتنا الفاضلة رشيدة الفارسي
كل التقدير لحروفكم التي أبدعت في رسم هذه اللوحة
الوجدانية المؤثرة ...

محبتي و تقديري
دمت بأمان الله ...