نبضات - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: صلّى عليك الله يا علم الهدى.. (آخر رد :جهاد بدران)       :: ثلاثون فجرا 1445ه‍ 🌤🏜 (آخر رد :راحيل الأيسر)       :: أُنْثَى بِرَائِحَةِ اَلنَّدَى ! (آخر رد :دوريس سمعان)       :: تراتيل عاشـقة .. على رصيف الهذيان (آخر رد :دوريس سمعان)       :: هل امتشقتني؟ (آخر رد :محمود قباجة)       :: ،، الظـــــــــــــــلّ // أحلام المصري ،، (آخر رد :محمود قباجة)       :: فارسة الأحلام (آخر رد :محمود قباجة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: بَغْيٌ وَشَيْطَانَانِ (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: وَأَحْتَرِقُ! (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: شاعر .. (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: أحـــــــــزان! // أحلام المصري (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: ما زال قلبي يخفق (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: مملكة الشعر الخالدة (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: افطار ودعاء (آخر رد :فاتي الزروالي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ ⟰ ▆ ⟰ الديــــــوان ⟰ ▆ ⟰ ▂ > ⊱ تجليات ســــــــــــردية ⊰

⊱ تجليات ســــــــــــردية ⊰ عوالم مدهشة قد ندخلها من خلال رواية ، متتالية قصصية مسرحية او مقامة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-02-2016, 05:31 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي نبضات

هذا مقطع من رواية أشتغل عليها . أتمنى ملاحظاتكم . كما يقال مقطع واحد كاف لنحكم على نجاح أو فشل العمل الأدبي..



نبضات
*******

بالقرب من خدود زهرة ندية، مشرقة .. رأيت بعضا مني يرتشف رحيقها المسكن، و يشم عطرها الفاتن.. و البعض الآخر، يتأمل سحبا نضرة تمزج بين بياض الثلج و زرقة الحياة.. لكنها جوفاء..!!
كلما غابت عن عيني، أبني في مخيلتي أكواما من حبيبات الندى، أتخيلها تتساقط برفق فوق تلك الزهرة التي تقتلها الوحدة و الغربة..
حتى الأمطار لم تزرها هذا العام..!!
أحيانا نعيش بدون ماء .. بدون أكل .. فقط من خلال كلمات أو نظرات بسيطة تُخرج معها نبضات قلب صادق، ينشر خيوطه الندية، و تحرك فيك خزانا أراه في جهة ما بداخلك مهملا.. !!
و تمشي حينها مرفوع الرأس تتراقص بداخلك الأحلام ..
تفتح نافذة من ورائك فترى دما و رقصات الرصاص العنيفة و غيوما خريفية جوفاء، كتلك التي أراها الآن و أنا أجلس من فوق حجرة صلبة، تتبعثر في السماء و كأنها تخبط خبطة عشواء كالقنابل التي تمشط صدر الأرض هنا و هناك و تترك فيه حفرا تأوي المجرمين و المنكوبين و المهلوسين..
كل من لا وطن له..!!
تقفل تلك النافذة بسرعة و تعود إلى تلك اللحظة التي أشعر بها و أنا أدقق النظر في تلك الزهرة و الرياح تداعبها بين الفينة و الأخرى، كلما تعبت أرش عليها بعضا من عطر مشاعري فتتوهج كقنديل يعشق الاشتعال بهدوء في ظلام دامس ..
تتوقد مشاعري أكثر كفراشات عاشقة للنور، و تنشر أجنحتها بفرح..!!
فجأة، سمعت أقداما تمشي بالقرب مني، حاولت أن أعرف من يحاول إزعاجي، لكن بدون جدوى !! لأنني أشعر بنفسي و سط خيوط جذابة و ساحرة، أو حلم يشدني بقوة..
شيئا فشيئا رائحة الدخان تتكاثر، فأراك تختنق، أشعر بنسماتك تذبل، تقترب من الموت، فإذا بها تنفخ في وجهك عطرها الساحر، تسقيك روحها ..
فأشعر مثلك بقوة عجيبة تجتاحني من جديد.. كسرت القيد، فتحت عيني، و جدت جدتي تطوف حولي و في يدها " مجمار" صغير تنبع منه رائحة البخور.. صرخت في وجهها بقوة:
- ماذا تفعلين يا جدتي !؟
- أطرد الأشرار يا نور قلبي!!
مسكينة جدتي !! كيف أشرح لها أنها تلوث بيئة غرفتي و أنني كنت فوق سكين الموت، و لولاها لكنت في عداد الموتى..!!
غادرت سريري بسرعة، قصدت المغسل، و بدأت أشرف الماء البارد على وجهي .. دققت النظر في المرآة، و جدت أمي تدخل المنزل ..
تمسكني من الخلف ..
تعانقني..
أشعر بنبضات قلبها تعزف سمفونية جشية، تخيلت الحلم الدافئ، صرت عصفورا وسط عش دافئ و من حولي أزهار ترمقني بنظرات غريبة إلا زهرة واحدة تبتسم في وجهي .. توشوش في أذني .. تنتظرني في مكان ما.. فقلت بصوت مرتفع:
- يجب أن أجدها !!
تمتمت أمي و الدهشة بادية على وجهها:
_ أن تجد ماذا يا بني..!؟ فأنت لست على ما يرام، أراك شاردا و تردد كلاما غريبا بين الفينة و الأخرى، هل تحتاج إلى طبيب!؟
حاولت أن أخفف من قلقها المتزايد، فهي متعبة من العمل.. أجبتها مبتسما:
- لا تخافي يا أمي الجميلة!! فقط تذكرت جائزة آخر السنة الدراسية، فشعرت بحماس مفرط..!!






  رد مع اقتباس
/
قديم 06-02-2016, 07:02 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
منوبية الغضباني
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
تونس

الصورة الرمزية منوبية الغضباني

افتراضي رد: نبضات

لغتك متينة وسليمة
والأحداث في هذا المقتطع من روايتك وجدانبة صرفة
أبطالها أحاسيس مبثوثة فيك ومن حولك تصنع دهشتها في تواترها وصلتها ببعضها ....
جميل ما قرأتُ شوّقتني أخي ودفعت فضولي لتقصي الآتي واللاّحق .






لِنَذْهَبَ كما نَحْنُ:

سيِّدةً حُرَّةً

وصديقاً وفيّاً’

لنذهبْ معاً في طريقَيْنِ مُخْتَلِفَيْن

لنذهَبْ كما نحنُ مُتَّحِدَيْن

ومُنْفَصِلَيْن’

ولا شيءَ يُوجِعُنا
درويش
  رد مع اقتباس
/
قديم 06-02-2016, 11:04 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة منوبية كامل الغضباني (دعد) مشاهدة المشاركة
لغتك متينة وسليمة
والأحداث في هذا المقتطع من روايتك وجدانبة صرفة
أبطالها أحاسيس مبثوثة فيك ومن حولك تصنع دهشتها في تواترها وصلتها ببعضها ....
جميل ما قرأتُ شوّقتني أخي ودفعت فضولي لتقصي الآتي واللاّحق .
القديرة دعد .. شكرا على الحضور الجميل و المشجع..
فعلا الكتابة ليست صعبة بل الصعب إخراج عمل أدبي ناجح و هذا هو الهدف. أن تشد االرواية القارىء بمختلف مشاربه، و أن تحقق قيمة فنية ..
شكرا مجددا ..
مودتي و تقديري






  رد مع اقتباس
/
قديم 08-02-2016, 06:00 AM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

و هي تداعب شعري بكفها اليمنى، تردد بصوت حنون:
- بني..!! الأم عبارة عن "عقد" متماسك ثمين، عندما ترى ثمرة حبها شاردة و حائرة كأنها في عنق زجاجة، تتناثر حباته يوما بعد يوم، و يبقى خيطه بلا معنى..!!
فأنت رجل البيت رغم صغر سنك.. إنني أعتمد عليك فلا تخذلني..!!
و أنا أمشي صوب غرفتي، شعرت بنبضات قلبك تتسارع مثلي تماما، تغوص في مواضيع كثيرة، و أن عقلك لا يستوعب تمازج خيوط الحياة ..
تنظر إلى الساعة المعلقة هناك على جدار صلب، تجدها قد ملت الدوران، تريد أن ترتاح إلى الأبد.
الساعة تشير إلى الواحدة و النصف ظهرا، تحمل محفظتك و تغادر المنزل بهدوء و في قلبك أشياء كثيرة..
و أنا أخطو بهدوء، كانت كلمات أمي تدور في رأسي الصغير ببطئ، فهي تريدني أن أصبح رجلا و أنا لم أتخطى بعد اثنتا عشرة سنة من العمر .. أن أصبح أصغر طبيب و أنا أخاف من الدماء..!! قلبي يرتعش عندما أرى بائع الدجاج، في حينا، و هو يمسك دجاجة ضعيفة، يلوي عنقها في السماء و يمرر سكينه الحاد بخفة و يلقي بها وسط برميل صدئ بالدماء السوداء .. فأسمع نبضاتها بقوة، و كأنها تصرخ في وجهه و تكتب بنبضاتها رسالتها الأخيرة :" إذا كان قدري أن أدبح، فهل قدري أيضا، أن أموت مكبلة الجناحين في برميل ضيق كريه ..!؟"
يتملكني الحزن و الدهشة في نفس الوقت، و بدون وعي أركض، أتخيلها مسكينة تنزف و تخنق بدون حرية..
لا يهدأ قلبي من الوجع، حتى أسمع تغاريد الطيور فأعلم حينها أنني و صلت الى المدرسة، و تعود الابتسامة لوجه القمر من جديد في حلكة النهار..!!






  رد مع اقتباس
/
قديم 08-02-2016, 07:30 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

ما يعجبني كثيرا في مدرستي التي تطل على مرتفع مخضر، أشجار الصنوبر و الصفصاف الشامخة الوارفة الأوراق، و عصافيرها التي لا تمل من التغاريد الساحرة..
ذات يوم، خرجت من حجرة الدرس لأذهب إلى المرحاض، و أنا أخطو بهدوء سمعت صوت طائر غريب .. صوته رقيق و جشي، حرك أوتاري المرهفة، فانجذبت نحو مصدر الصوت شيئا فشيئا و شوقي يزداد لمشاهدة هذا الطائر الذي استفز فضولي و غير وجهتي ..
و أنا أقترب منه، وجدته واقفا شامخا على غصنه كبطل لا يخشى السقوط، ريشه رمادي يميل إلى زرقة السماء المشرقة، عيناه جميلتان ينبع منهما بريق حب دافئ.. و أنا أقترب منه أكثر، رمقني بنظراته الحادة و حلق عاليا..
طار الطائر نحو مهمته، رجعت أنا إلى وعيي من جديد، تذكرت المرحاض، تملكني الخوف من العصا.. بدأت أجري و قلبي يخفق بقوة، تسلقت سور المدرسة ثم قفزت إلى الداخل، كادت رجلي أن تنكسر لولا الحظ الذي حالفني..
و أنا أقترب من باب حجرة الدرس المطلة على ساحة المدرسة المخضرة بأشجار "الكالبتوس" و بعض الورود الفاتنة، لمحت فأرا يقتات من بعض فتات أقلام الرصاص و الأوراق، حدق في وجهي المصفر، تملكته الرعشة كتلك التي تلبسني الآن، فدخلنا معا كلصين هاربين.. صرخت المعلمة عاليا و هربت تطلب النجدة، بينما حجرة الدرس شهدت لأول مرة، ثورة جماعية ضد متمرد لم يترك كراسة و لا دفترا إلا و قضمه بأنيابه الحادة.






  رد مع اقتباس
/
قديم 10-02-2016, 09:04 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
افتراضي رد: نبضات

مقطع جميل
لديك نفس روائي طيب ويغري بالقراءة
وما لاحظته هو مساحة المنولوح او الحديث مع الذات ياخذ طابع الخاطر ويؤسس لسكون الجملة السردية : السكون بمعنى الذي لا يتحرك نحو افقية التصعيد الحكائي للصورة
وربما اكون مخطئة فـــــ بالنسبة الي : مقطع واحد لا يكفي
هات المزيد يا السي ادريس لتتكون الرؤية

ومزيدا من عطاء






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
قديم 13-02-2016, 05:36 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمة الزهراء العلوي مشاهدة المشاركة
مقطع جميل
لديك نفس روائي طيب ويغري بالقراءة
وما لاحظته هو مساحة المنولوح او الحديث مع الذات ياخذ طابع الخاطر ويؤسس لسكون الجملة السردية : السكون بمعنى الذي لا يتحرك نحو افقية التصعيد الحكائي للصورة
وربما اكون مخطئة فـــــ بالنسبة الي : مقطع واحد لا يكفي
هات المزيد يا السي ادريس لتتكون الرؤية

ومزيدا من عطاء
القديرة فاطمة الزهراء تحياتي
شكرا على هذا التواجد القيم و البهي ..
إنشاء الله سآتي بالمزيد .. فقط الوقت لا يسمح ..
مودتي و تقديري






  رد مع اقتباس
/
قديم 14-02-2016, 05:43 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

و أنا أتابع المعركة عن كثب، لمحت الكل يصرخ، بل هناك من يصيح مثل الغراب و لا يفهم أصلا لماذا!!
و هناك من استيقظ من نومه، و استطاع لأول مرة في حياته أن يكسر قيد خوفه، أو سياج تربيته المعوجة..!!
الغريب في الأمر، استطاع الفأر بليونته الفائقة أن يفر خارجا من بين أرجلهم و هو يتنفس الصعداء، و تركهم يتشاجرون، يرفعون الطاولات و يحاولون تكسيرها، و كأنهم فعلا يتمردون حقيقة عن شيء خفي عشعش في صدورهم الصغيرة .. عن شيء حاولت أن أعرفه و ألمسه بفكري الصغير، و لكن بدون جدوى!!
دق جرس الخروج أخيرا .. الساعة تشير إلى الخامسة زوالا.
و أنا أخرج معهم، رأيتهم يفرحون بأرجلهم و أيديهم، يعبرون عن بطولاتهم
- أنا من قتل الفأر!!
- بل أنا أيها الكاذب !!
- إنكما تكذبان، بل أنا من أخرج أحشاءه برجلي القوية..!!
حملوا صراعاتهم و رحلوا..!! إلا أنا مازلت أجلس بالقرب من المدرسة أفكر في عقوبة الغذ.
لم أشعر بنفسي حتى قلت عاليا:
- ماذا سأقول لأمي، عندما يخبرها المدير ؟؟






  رد مع اقتباس
/
قديم 15-02-2016, 04:14 AM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

مصباح رغم توهجه بالكاد يسدل خيوطه التي تمزج بين الصفرة و الاحمرار. هدوء يراقص جدران بهو لا تتعدى مساحته الاجمالية عشرة أمتار.
في زاوية البهو ،تجلس جدتي على سجادة للصلاة، في يدها اليمنى تسابيح بيضاء، أراها تلمع في عينيها كعناقيد عنب يشع منها بياض لامع.
بعد مرور صلاة العشاء، هاهي أمي تجهز مائدة العشاء: قدحا من " الحريرة"، خبزا طازجا - تكتسح رائحته أوتاري الجائعة..و فاكهة جافة.

جلست في مكاني المعتاد، أخذت حبة تمر في يدي و أنا أتساءل كيف لهذه الأخيرة أن تحتوي على كل العناصر المغذية - الكالسيوم والأحماض الأمينيَّة والكبريت والحديد و البوتاسيوم والفوسفور والمنغنيز والنحاس والمغنيزيوم - كما تقول لي أمي دائما و هي تشجعني على تناولها من أجل ذاكرة قوية، رغم أنها صماء لا تتكلم !؟ في حين لا يتوفر الانسان العاقل على أية مزايا تذكر، سوى تلويث الطبيعة و استنزاف جمالها الساحر برمي الأزبال !!
ترمقني أمي بنظرة مشرقة و هي تقول:
- ألا يعجبك التمر يا بني!؟
نطقت جدتي التي تجلس بالقرب مني و الابتسامة تضيء وجهها:
- كيف لا يعجبه و هو ملك الفاكهة !!
جدتي رغم أنها لم تقرأ يوما إلا أنها تفاجئني بحكم مدهشة، ألمس فيها كوكبا ينبض خيرا و عطفا حتى أن أمي تحبها كثيرا و كأنها أمها الحقيقية. هذا النموذج الفريد جعلني أكذب الحكايات الأسطورية حول صراع بين قلبين؛ قلب الحماة و قلب زوجة الابن..!!
بين الفينة و الأخرى، ألمح أمي و هي تشرب " الحريرة" تطيل النظر و أسمع نبضاتها تعزف بهدوء و تبتسم داخليا و كأنها تتذكر صورة ما في عقلها.. كم كنت أتمنى أن أفتح نافذتها لأرى تلك الصورة !!
بعد عشاء بسيط و هادئ، خطوت بخفة نحو شرفة المنزل، و جدت الظلام أسدل خيوطه كخيوط العنكبوت، السماء مضيئة و ساحرة!!
- أمي .. أمي !! إني أرى الثلوج في السماء!!
مسكتني من الوراء، تداعب شعري و تقول:
- بل هي غيوم سعيدة بضوء القمر!!
لم أصدق ما قالته أمي، لأنني أرى بياضا مختلفا عن بياض الغيوم!! قلت لها بنبرة أشعر أنها تخرج من الأعماق:
-غدا ستسقط الثلوج .. !! غدا سأبرهن لك حقيقة ما أقول يا أمي..!!
غادرنا الشرفة، و سعادتي لا توصف!!
دخلت غرفتي فرحا، بعد أن منحت قبلتين: الأولى لأمي و الثانية لجدتي، نشرت جسدي على السرير، أرحت المصباح لينام هو الآخر، و سافرت عبر النوم بعيدا..






  رد مع اقتباس
/
قديم 15-02-2016, 03:05 PM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
أحمد علي
عضو أكاديمية الفينيق
السهم المصري
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية أحمد علي

افتراضي رد: نبضات

السلام عليكم ورحمة الله
مرحبا بالأديب الجميل إدريس الحديدوي

متابع بشغف
والنقد فيما بعد إن وجد


مع تثبيت النص






سهم مصري ..
عابـــــــــــر سبيــــــــــــــــــــــل .. !
  رد مع اقتباس
/
قديم 15-02-2016, 07:18 PM رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
عبير محمد
الإدارة العليا
عضو تجمع الأدب والإبداع
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية عبير محمد

افتراضي رد: نبضات

قرأت واستمتعت بالقراءة هنا في محراب سردك الجميل الماتع
وحرفك العميق الذي جعلنا نعيش داخل الاحداث ونتنفس اريجها بعمق
اسجل متابعة
تحية تليق
وكل الود والورد








"سأظل أنا كما أريد أن أكون ؛
نصف وزني" كبرياء " ؛ والنصف الآخر .. قصّـة لا يفهمها أحد ..!!"
  رد مع اقتباس
/
قديم 16-02-2016, 04:55 PM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عوض بديوي مشاهدة المشاركة
سلام الله ،
سردية ماتعة تستحق المتابعة
أتابعك وأسجل ملحوظاتي
وأزودك بها بحوله تعالى
رائع أنت
شكرا لك
مودتي
القدير عوض بديوي مرحبا بك هنا. حضورك فخر و اعتزاز..
ننتظر ملاحظاتكم بفارغ الصبر
مودتي






  رد مع اقتباس
/
قديم 16-02-2016, 04:57 PM رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد على مشاهدة المشاركة
السلام عليكم ورحمة الله
مرحبا بالأديب الجميل إدريس الحديدوي

متابع بشغف
والنقد فيما بعد إن وجد


مع تثبيت النص
القدير أحمد على مرحبا بك و شكرا على التتبيث.
حضور فخر لي .. ننتظركم دائما..
مودتي






  رد مع اقتباس
/
قديم 17-02-2016, 05:34 PM رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

يليق بك الأبيض..

بعد نوم منعش و هادئ، استيقظت على زغاريد جارتنا فاطمة. هرولت خارجا و الفضول يتملكني، وجدت أمي و جدتي يشاهدان الثلوج تتساقط بنخوة و انشراح..!!
ها هي الأرض أمامي مثل عروس الجنة، تنبض بياضا، ترتدي نديف الثلوج اللامعة تحت خيوط شمس هادئة.
التفت نحو أمي قائلا:
ــ أرأيت يا أماه ..!! ألم أكن محقا في تصوراتي التي تعاتبينها بالساذجة..؟؟
ــ نعم .. !! لقد هزمتني يا بني .. !! لقد صدقت توقعاتك..!!
نطقت جدتي بفرح و هي تمسك كومة ثلج:
ــ هذا الثلج هو الحياة !! مهما غاب، لابد له أن يعود. فهو لا ينسى حبه للأرض و النبات. أما نحن البشر، سنرحل و لن نعود أبدا..!!
شعرت بحنين الماضي يستيقظ بداخلها، كتلك الزهرة التي تدفع حبات التراب لترى النور.
حاولت أن تبكي. لكنها بخفة، أخفت دموعها و حملت كرة ثلج و ضربتني بها.
ــ لقد أصبت الهدف !!
حملت كرة الثلج أنا الآخر، و قدفتها بها. و هي تحاول الفرار، تزحلقت، فسقطت و هي تضحك بصوت مرتفع !!
حاولت أمي أن تشاركنا التراشق بالبياض، فتدحرجت هي الأخرى..
الكل يضحك .. الكل يتبادل الثلوج من حولنا..
أزقة حينا مملوءة بالنساء و الرجال بمختلف أعمارهم، و كأنهم يحتفلون بعيد مقدس. حتى الأطفال الصغار يمرحون، يضحكون و يتمرغون فوق الثلج الذي وصل سمكه عشرون سنتيما.
و الجميل أيضا، هناك من يتفحصه، بدقة متناهية؛ و كأنه يحاول أن يغوص بين حبيباته نحو الخلود. و هناك من ينحت مجسمات معبرة ..
أما سعاد، بنت جارتنا عائشة. لمحتها ترسم قلبا بأصبعها، و تطيل النظر فيه و كأنها تحاول العبور نحو ضفة الحب، أو أنها ترسم مسارها الغرامي مستقبلا .
لأول مرة، تخلص "حينا" من بقعه السوداء و من لونه الباهت .. لأول مرة، رأيته جميلا و مختلفا ينبض بالحياة ..






  رد مع اقتباس
/
قديم 18-02-2016, 03:03 AM رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

و نحن نحتفل، كانت الساعة هي الاخرى تلتهم الوقت بدون توقف. فجأة، نادتني أمي :
ــ لندخل إلى المنزل، لقد داهمنا الوقت بلمح البرق .. !! الساعة تشير إلى السابعة و النصف .
دخلنا بسرعة، تناولنا الفطور.. و دعنا جدتي و الابتسامات لا تفارق وجوهنا.
و نحن أمام عتبة المنزل - كما العادة - قبلتني أمي بحرارة و هي تقول:
ــ اعتني بنفسك جيدا!!
ذهبت في طريقها المعتاد. و هي تمشي، كانت تسرع في خطواتها حاملة معها حقيبة مملوءة بالكتب و الثلج يتساقط فوق رأسها. ربما فرحة الصباح أنستها أن تأخذ معها مظلتها، أنستها أن ترتدي حتى معطفها الصوفي ليحميها من البرد. أو ربما ضيق الوقت، بعثر تفكيرها و جعلها تفكر فقط في مدرستها..
فهي تدرس مادة اللغة العربية في مدرسة خصوصية، و لا تحب أن تتأخر عن واجبها المدرسي الذي تعتبره واجبا مقدسا.. أما أنا تنتظرني مسافة عشرون دقيقة مشيا على الأقدام لأصل إلى مدرستي العمومية.
و أنا أسرع في خطواتي، كنت أفكر في أمي و ما تقاسيه من تعب من أجل تنشئة جيل قارئ محترم. و أنا أخطو، أتساءل لماذا لا نقرأ في مدرسة واحدة؟؟ لماذا طرقنا مختلفة و إن كان هدفنا واحدا؟؟ لماذا .. لماذا .. لماذا.. ما جدوى السؤال بدون إجابة حقيقية..!!
و أنا أستمر في المشي، كانت قدمي تغوص في الثلج، أحيانا تلتوي أحدهما و أسقط بفعل الحفر التي لا ترى و كأنها ألغام نارية..
عندما اقتربت من المدرسة، شاهدت عصفورا متعبا يرتعش من البرد، بالكاد يطير.. كلما حاولت أن أمسكه يطير قليلا ثم يسقط على رأسه.. ربما يخاف مني، أو ربما يعتبرني عدوا نازيا يبحث عن وليمة في جسده النحيف..
هذا الطائر التائه، جعلني أفكر بعيدا، في الناس الذين يسكنون الكهوف و الجبال.. في الذين لا يملكون غطاء و لا قوتا..
نسيت روعة الثلج و بياضه، و تاهت بي الدروب في متاهات أخرى..






  رد مع اقتباس
/
قديم 20-02-2016, 06:49 PM رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبير محمد مشاهدة المشاركة
قرأت واستمتعت بالقراءة هنا في محراب سردك الجميل الماتع
وحرفك العميق الذي جعلنا نعيش داخل الاحداث ونتنفس اريجها بعمق
اسجل متابعة
تحية تليق
وكل الود والورد
شرف لي هذا الحضور أ. عبير محمد.
نورت و انرت المكان
مودتي و تقديري






  رد مع اقتباس
/
قديم 21-02-2016, 09:37 AM رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
روضة الفارسي
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
تونس
افتراضي رد: نبضات


كنت هنا وقد تمتعت كثيرا بهذه الفصول التي تقول مذكرات طفل ذكي مرهف الحس له قدرة على تأمل جمال وتغاريد الطيور، طفل مختلف، تأمل ذعر فأر و تألم لموته، طفل يغمس قلبه في الثلج ويتأمل الكون والعباد مليا، الإحساس شفاف عميق لذلك وصل ما كتبت للقارئ وصلتني حكم داخل هذه الفصول وأحسن ما أعجبني هو الوصف فقد أبدعت لدرحة أني رأيت المشاهد و حضترها بل أحست أني إحدى أبطالها. بوركت مبدعنا ادريس
سأعود هنا كثيرا بإذن الله برافو






  رد مع اقتباس
/
قديم 21-02-2016, 10:53 PM رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
بسباس عبدالرزاق
عضو أكاديميّة الفينيق
يجمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / أوراس
الجزائر

الصورة الرمزية بسباس عبدالرزاق

افتراضي رد: نبضات

سأعود للقراءة على مهل (بعد نسخه في جهازي) ما نثرته هنا من جمال حرفك استاذي

ولابد أن نحتفي بهذا المولود ونراقبه بعين المحبة


محبتي استاذي وتقديري






  رد مع اقتباس
/
قديم 23-02-2016, 03:13 AM رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة روضة الفارسي مشاهدة المشاركة

كنت هنا وقد تمتعت كثيرا بهذه الفصول التي تقول مذكرات طفل ذكي مرهف الحس له قدرة على تأمل جمال وتغاريد الطيور، طفل مختلف، تأمل ذعر فأر و تألم لموته، طفل يغمس قلبه في الثلج ويتأمل الكون والعباد مليا، الإحساس شفاف عميق لذلك وصل ما كتبت للقارئ وصلتني حكم داخل هذه الفصول وأحسن ما أعجبني هو الوصف فقد أبدعت لدرحة أني رأيت المشاهد و حضترها بل أحست أني إحدى أبطالها. بوركت مبدعنا ادريس
سأعود هنا كثيرا بإذن الله برافو
القديرة و المبدعة روضة الفارسي تحياتي
شرف لي هذا المرور .. فعلا نورت السطور المتواضعة و أتمنى أن تنال إعجابك حقا.
شكرا على المرور الندي و المشجع ..
مودتي و تقديري






  رد مع اقتباس
/
قديم 23-02-2016, 03:15 AM رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بسباس عبدالرزاق مشاهدة المشاركة
سأعود للقراءة على مهل (بعد نسخه في جهازي) ما نثرته هنا من جمال حرفك استاذي

ولابد أن نحتفي بهذا المولود ونراقبه بعين المحبة


محبتي استاذي وتقديري
المبدع القدير بسباس عبد الرزاق شرف لي هذا المرور البهي من كاتب مبدع ..
نورت السطور بمرورك الندي .. انتظر عودتك بشوق ..
مودتي و تقديري






  رد مع اقتباس
/
قديم 23-02-2016, 03:23 AM رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

دق الجرس، بدأ التلاميذ يدخلون ساحة المدرسة المزينة ببساط ثلجي أبيض.
وأنا معهم أخطو، لمحت على وجوههم رسوما تمزج بين حمرة الأمل و زرقة البرد القارس..
هناك من يرتدي لباسا صوفيا، حذاء صلبا مستوردا يضرب به الثلوج و يضحك تارة و يغمز تارة أخرى.
و هناك من يضع رأسه بين كتفيه مثلي تماما، أو مثل ذلك العصفور الذي لا يستطيع أن يطير أو أن يعبر عن وجعه .. فقط ينظر نحو أمل غامض..!!
جلست في مكاني المعتاد داخل القسم، الطاولة الأخيرة في الصف الثالث و البرد القارس يدخل من النوافذ المكسرة، يطوف حولنا زارعا سمومه ثم يخرج دون استئذان .. بينما أنا ما زلت أفكر في ذلك الطفل الذي حدق في وجهي مبتسما، رغم بعض أصابع رجليه كانت تطل من نافذة حذائه المترهل على الثلج و كأنها تقبله بحرارة!!
بعد وقت وجيز، شعرت بصديقي حسام يجر ثوبي و يتمتم، فتحت عيني، و جدت معلمتي تقف أمامي:
ـ أنت الوحيد الذي لم تقف عند دخولي القسم.. هل تتحداني ؟؟ قالتها بلهجة قوية و هي تحملق في وجهي بعينين منتفختين و كأنها لم تنم البارحة .
وقفت بخفة و أنا أتذكر المشهدين معا، اشتد خوفي كثيرا:
ـ و هل يعقل أن يتحدى الابن أمه الثانية؟؟ فقط كنت ... قاطعت كلامي قائلة:
ـ كنت تسخر مثل البارحة؛ لقد خرجت من القسم ساعة كاملة، و تركتنا نبحث عنك كالمجانيين!! و عندما عدت جلبت معك فأرا متوحشا و تسببت في فوضى عارمة..!!
فبينما التلاميذ يضحكون، ضربت الطاولة بعصا الزيتون الغليظة، فقفز الجميع من مكانه، بينما أنا كنت واقفا مثل متهم خطر رجلاه ترتعشان و قلبه ينبض بقوة !!
كيف لا ينبض !؟ و هي تقف أمامه غاضبة مثل بركان، مصفرة الوجه، تحاول أن تنقض عليه و تبرحه ضربا.
دخل المدير فجأة، و قف الجميع..
ـ أين هو ذلك التلميذ الذي..؟؟ أشارت له بيدها نحوي..
اقترب مني ثم حدق في عيني قائلا:
ـ غدا لن تدخل المدرسة دون ولي أمرك.. هل فهمت يا ولدي؟؟
ـ نعم فهمت .. !! قلتها بارتباك ثم جلست مكاني.
و هو يغادر القسم، و قفا معا بالقرب من الباب و هما يتحاوران نصف ساعة تقريبا !!
بعدها دخلت القسم من جديد و هي تقول بصوت مرتفع:
ـ اخرجوا كتب القراءة، صفحة سبع و ستون و بدون ضجة !!
أخرجت قراءتي مثل الجميع و أنا أردد " و لي أمرك" مرات عديدة دون أن أعرف المعنى . مصطلح جديد أسمعه لأول مرة .. هل أسأل معلمتي عن معنى ذلك ؟؟
كنت أراقبك كيف كنت مترددا، خائفا، شاردا .. فجأة، عزمت بقوة لتعرف لأن من السؤال يتعلم الانسان.
رفعت يدك، فظنت المعلمة أنك تريد قراءة النص.. قالت لك دون أن تعرف ما تريد :
ـ اقرأ النص يا إدريس !!
أجبت بصوت منخفض :
ـ ماذا يعني ولي أمرك!؟
ضحكت رغما عنها، رغم سواد العتمة ثم أجابت و هي تبتسم و ملامح وجهها بدأت تتحول نحو الاحمرار و كأن الضحكة استطاعت أن تذيب الدم الخاتر في عروق وجهها:
ـ تقصد ولي أمرك انت ؟
ـ نعم .. نعم ..!!
ـ و لي أمرك يعني : " أبوك أو أمك .. أي المسؤول عنك في المنزل" هل فهمت يا إدريس؟؟
أجبتها نعم و خوفي يتناقص صبيبه شيئا فشيئا.






  رد مع اقتباس
/
قديم 24-02-2016, 05:23 AM رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

نبضات
*******

بالقرب من خدود زهرة ندية، مشرقة .. رأيت بعضا مني يرتشف رحيقها المسكن، و يشم عطرها الفاتن.. و البعض الآخر، يتأمل سحبا نضرة تمزج بين بياض الثلج و زرقة الحياة.. لكنها جوفاء..!!
كلما غابت عن عيني، أبني في مخيلتي أكواما من حبيبات الندى، أتخيلها تتساقط برفق فوق تلك الزهرة التي تقتلها الوحدة و الغربة..
حتى الأمطار لم تزرها هذا العام..!!
أحيانا نعيش بدون ماء .. بدون أكل .. فقط من خلال كلمات أو نظرات بسيطة تُخرج معها نبضات قلب صادق، ينشر خيوطه الندية، و تحرك فيك خزانا أراه في جهة ما بداخلك مهملا.. !!
و تمشي حينها مرفوع الرأس تتراقص بداخلك الأحلام ..
تفتح نافذة من ورائك فترى دما و رقصات الرصاص العنيفة و غيوما خريفية جوفاء، كتلك التي أراها الآن و أنا أجلس من فوق حجرة صلبة، تتبعثر في السماء و كأنها تخبط خبطة عشواء كالقنابل التي تمشط صدر الأرض هنا و هناك و تترك فيه حفرا تأوي المجرمين و المنكوبين و المهلوسين..
كل من لا وطن له..!!
تقفل تلك النافذة بسرعة و تعود إلى تلك اللحظة التي أشعر بها و أنا أدقق النظر في تلك الزهرة و الرياح تداعبها بين الفينة و الأخرى، كلما تعبت أرش عليها بعضا من عطر مشاعري فتتوهج كقنديل يعشق الاشتعال بهدوء في ظلام دامس ..
تتوقد مشاعري أكثر كفراشات عاشقة للنور، و تنشر أجنحتها بفرح..!!
فجأة، سمعت أقداما تمشي بالقرب مني، حاولت أن أعرف من يحاول إزعاجي، لكن بدون جدوى !! لأنني أشعر بنفسي و سط خيوط جذابة و ساحرة، أو حلم يشدني بقوة..
شيئا فشيئا رائحة الدخان تتكاثر، فأراك تختنق، أشعر بنسماتك تذبل، تقترب من الموت، فإذا بها تنفخ في وجهك عطرها الساحر، تسقيك روحها ..
فأشعر مثلك بقوة عجيبة تجتاحني من جديد.. كسرت القيد، فتحت عيني، و جدت جدتي تطوف حولي و في يدها " مجمار" صغير تنبع منه رائحة البخور.. صرخت في وجهها بقوة:
- ماذا تفعلين يا جدتي !؟
- أطرد الأشرار يا نور قلبي!!
مسكينة جدتي !! كيف أشرح لها أنها تلوث بيئة غرفتي و أنني كنت فوق سكين الموت، و لولاها لكنت في عداد الموتى..!!
غادرت سريري بسرعة، قصدت المغسل، و بدأت أشرف الماء البارد على وجهي .. دققت النظر في المرآة، و جدت أمي تدخل المنزل ..
تمسكني من الخلف ..
تعانقني..
أشعر بنبضات قلبها تعزف سمفونية جشية، تخيلت الحلم الدافئ، صرت عصفورا وسط عش دافئ و من حولي أزهار ترمقني بنظرات غريبة إلا زهرة واحدة تبتسم في وجهي .. توشوش في أذني .. تنتظرني في مكان ما.. فقلت بصوت مرتفع:
- يجب أن أجدها !!
تمتمت أمي و الدهشة بادية على وجهها:
_ أن تجد ماذا يا بني..!؟ فأنت لست على ما يرام، أراك شاردا و تردد كلاما غريبا بين الفينة و الأخرى، هل تحتاج إلى طبيب!؟
حاولت أن أخفف من قلقها المتزايد، فهي متعبة من العمل.. أجبتها مبتسما:
- لا تخافي يا أمي الجميلة!! فقط تذكرت جائزة آخر السنة الدراسية، فشعرت بحماس مفرط..!!
و هي تداعب شعري بكفها اليمنى، تردد بصوت حنون:
- بني..!! الأم عبارة عن "عقد" متماسك ثمين، عندما ترى ثمرة حبها شاردة و حائرة كأنها في عنق زجاجة، تتناثر حباته يوما بعد يوم، و يبقى خيطه بلا معنى..!!
فأنت رجل البيت رغم صغر سنك.. إنني أعتمد عليك فلا تخذلني..!!
و أنا أمشي صوب غرفتي، شعرت بنبضات قلبك تتسارع مثلي تماما، تغوص في مواضيع كثيرة، و أن عقلك لا يستوعب تمازج خيوط الحياة ..
تنظر إلى الساعة المعلقة هناك على جدار صلب، تجدها قد ملت الدوران، تريد أن ترتاح إلى الأبد.
الساعة تشير إلى الواحدة و النصف ظهرا، تحمل محفظتك و تغادر المنزل بهدوء و في قلبك أشياء كثيرة..
و أنا أخطو بهدوء، كانت كلمات أمي تدور في رأسي الصغير ببطئ، فهي تريدني أن أصبح رجلا و أنا لم أتخطى بعد اثنتا عشرة سنة من العمر .. أن أصبح أصغر طبيب و أنا أخاف من الدماء..!! قلبي يرتعش عندما أرى بائع الدجاج، في حينا، و هو يمسك دجاجة ضعيفة، يلوي عنقها في السماء و يمرر سكينه الحاد بخفة و يلقي بها وسط برميل صدئ بالدماء السوداء .. فأسمع نبضاتها بقوة، و كأنها تصرخ في وجهه و تكتب بنبضاتها رسالتها الأخيرة :" إذا كان قدري أن أدبح، فهل قدري أيضا، أن أموت مكبلة الجناحين في برميل ضيق كريه ..!؟"
يتملكني الحزن و الدهشة في نفس الوقت، و بدون وعي أركض، أتخيلها مسكينة تنزف و تخنق بدون حرية..
لا يهدأ قلبي من الوجع، حتى أسمع تغاريد الطيور فأعلم حينها أنني و صلت الى المدرسة، و تعود الابتسامة لوجه القمر من جديد في حلكة النهار..!!
ما يعجبني كثيرا في مدرستي التي تطل على مرتفع مخضر، أشجار الصنوبر و الصفصاف الشامخة الوارفة الأوراق، و عصافيرها التي لا تمل من التغاريد الساحرة..
ذات يوم، خرجت من حجرة الدرس لأذهب إلى المرحاض، و أنا أخطو بهدوء سمعت صوت طائر غريب .. صوته رقيق و جشي، حرك أوتاري المرهفة، فانجذبت نحو مصدر الصوت شيئا فشيئا و شوقي يزداد لمشاهدة هذا الطائر الذي استفز فضولي و غير وجهتي ..
و أنا أقترب منه، وجدته واقفا شامخا على غصنه كبطل لا يخشى السقوط، ريشه رمادي يميل إلى زرقة السماء المشرقة، عيناه جميلتان ينبع منهما بريق حب دافئ.. و أنا أقترب منه أكثر، رمقني بنظراته الحادة و حلق عاليا..
طار الطائر نحو مهمته، رجعت أنا إلى وعيي من جديد، تذكرت المرحاض، تملكني الخوف من العصا.. بدأت أجري و قلبي يخفق بقوة، تسلقت سور المدرسة ثم قفزت إلى الداخل، كادت رجلي أن تنكسر لولا الحظ الذي حالفني..
و أنا أقترب من باب حجرة الدرس المطلة على ساحة المدرسة المخضرة بأشجار "الكالبتوس" و بعض الورود الفاتنة، لمحت فأرا يقتات من بعض فتات أقلام الرصاص و الأوراق، حدق في وجهي المصفر، تملكته الرعشة كتلك التي تلبسني الآن، فدخلنا معا كلصين هاربين.. صرخت المعلمة عاليا و هربت تطلب النجدة، بينما حجرة الدرس شهدت لأول مرة، ثورة جماعية ضد متمرد لم يترك كراسة و لا دفترا إلا و قضمه بأنيابه الحادة.
و أنا أتابع المعركة عن كثب، لمحت الكل يصرخ، بل هناك من يصيح مثل الغراب و لا يفهم أصلا لماذا!!
و هناك من استيقظ من نومه، و استطاع لأول مرة في حياته أن يكسر قيد خوفه، أو سياج تربيته المعوجة..!!
الغريب في الأمر، استطاع الفأر بليونته الفائقة أن يفر خارجا من بين أرجلهم و هو يتنفس الصعداء، و تركهم يتشاجرون، يرفعون الطاولات و يحاولون تكسيرها، و كأنهم فعلا يتمردون حقيقة عن شيء خفي عشعش في صدورهم الصغيرة .. عن شيء حاولت أن أعرفه و ألمسه بفكري الصغير، و لكن بدون جدوى!!
دق جرس الخروج أخيرا .. الساعة تشير إلى الخامسة زوالا.
و أنا أخرج معهم، رأيتهم يفرحون بأرجلهم و أيديهم، يعبرون عن بطولاتهم
- أنا من قتل الفأر!!
- بل أنا أيها الكاذب !!
- إنكما تكذبان، بل أنا من أخرج أحشاءه برجلي القوية..!!
حملوا صراعاتهم و رحلوا..!! إلا أنا مازلت أجلس بالقرب من المدرسة أفكر في عقوبة الغذ.
لم أشعر بنفسي حتى قلت عاليا:
- ماذا سأقول لأمي، عندما يخبرها المدير ؟؟

مصباح رغم توهجه بالكاد يسدل خيوطه التي تمزج بين الصفرة و الاحمرار. هدوء يراقص جدران بهو لا تتعدى مساحته الاجمالية عشرة أمتار.
في زاوية البهو ،تجلس جدتي على سجادة للصلاة، في يدها اليمنى تسابيح بيضاء، أراها تلمع في عينيها كعناقيد عنب يشع منها بياض لامع.
بعد مرور صلاة العشاء، هاهي أمي تجهز مائدة العشاء: قدحا من " الحريرة"، خبزا طازجا - تكتسح رائحته أوتاري الجائعة..و فاكهة جافة.

جلست في مكاني المعتاد، أخذت حبة تمر في يدي و أنا أتساءل كيف لهذه الأخيرة أن تحتوي على كل العناصر المغذية - الكالسيوم والأحماض الأمينيَّة والكبريت والحديد و البوتاسيوم والفوسفور والمنغنيز والنحاس والمغنيزيوم - كما تقول لي أمي دائما و هي تشجعني على تناولها من أجل ذاكرة قوية، رغم أنها صماء لا تتكلم !؟ في حين لا يتوفر الانسان العاقل على أية مزايا تذكر، سوى تلويث الطبيعة و استنزاف جمالها الساحر برمي الأزبال !!
ترمقني أمي بنظرة مشرقة و هي تقول:
- ألا يعجبك التمر يا بني!؟
نطقت جدتي التي تجلس بالقرب مني و الابتسامة تضيء وجهها:
- كيف لا يعجبه و هو ملك الفاكهة !!
جدتي رغم أنها لم تقرأ يوما إلا أنها تفاجئني بحكم مدهشة، ألمس فيها كوكبا ينبض خيرا و عطفا حتى أن أمي تحبها كثيرا و كأنها أمها الحقيقية. هذا النموذج الفريد جعلني أكذب الحكايات الأسطورية حول صراع بين قلبين؛ قلب الحماة و قلب زوجة الابن..!!
بين الفينة و الأخرى، ألمح أمي و هي تشرب " الحريرة" تطيل النظر و أسمع نبضاتها تعزف بهدوء و تبتسم داخليا و كأنها تتذكر صورة ما في عقلها.. كم كنت أتمنى أن أفتح نافذتها لأرى تلك الصورة !!
بعد عشاء بسيط و هادئ، خطوت بخفة نحو شرفة المنزل، و جدت الظلام أسدل خيوطه كخيوط العنكبوت، السماء مضيئة و ساحرة!!
- أمي .. أمي !! إني أرى الثلوج في السماء!!
مسكتني من الوراء، تداعب شعري و تقول:
- بل هي غيوم سعيدة بضوء القمر!!
لم أصدق ما قالته أمي، لأنني أرى بياضا مختلفا عن بياض الغيوم!! قلت لها بنبرة أشعر أنها تخرج من الأعماق:
-غدا ستسقط الثلوج .. !! غدا سأبرهن لك حقيقة ما أقول يا أمي..!!
غادرنا الشرفة، و سعادتي لا توصف!!
دخلت غرفتي فرحا، بعد أن منحت قبلتين: الأولى لأمي و الثانية لجدتي، نشرت جسدي على السرير، أرحت المصباح لينام هو الآخر، و سافرت عبر النوم بعيدا..
يليق بك الأبيض..

بعد نوم منعش و هادئ، استيقظت على زغاريد جارتنا فاطمة. هرولت خارجا و الفضول يتملكني، وجدت أمي و جدتي يشاهدان الثلوج تتساقط بنخوة و انشراح..!!
ها هي الأرض أمامي مثل عروس الجنة، تنبض بياضا، ترتدي نديف الثلوج اللامعة تحت خيوط شمس هادئة.
التفت نحو أمي قائلا:
ــ أرأيت يا أماه ..!! ألم أكن محقا في تصوراتي التي تعاتبينها بالساذجة..؟؟
ــ نعم .. !! لقد هزمتني يا بني .. !! لقد صدقت توقعاتك..!!
نطقت جدتي بفرح و هي تمسك كومة ثلج:
ــ هذا الثلج هو الحياة !! مهما غاب، لابد له أن يعود. فهو لا ينسى حبه للأرض و النبات. أما نحن البشر، سنرحل و لن نعود أبدا..!!
شعرت بحنين الماضي يستيقظ بداخلها، كتلك الزهرة التي تدفع حبات التراب لترى النور.
حاولت أن تبكي. لكنها بخفة، أخفت دموعها و حملت كرة ثلج و ضربتني بها.
ــ لقد أصبت الهدف !!
حملت كرة الثلج أنا الآخر، و قدفتها بها. و هي تحاول الفرار، تزحلقت، فسقطت و هي تضحك بصوت مرتفع !!
حاولت أمي أن تشاركنا التراشق بالبياض، فتدحرجت هي الأخرى..
الكل يضحك .. الكل يتبادل الثلوج من حولنا..
أزقة حينا مملوءة بالنساء و الرجال بمختلف أعمارهم، و كأنهم يحتفلون بعيد مقدس. حتى الأطفال الصغار يمرحون، يضحكون و يتمرغون فوق الثلج الذي وصل سمكه عشرون سنتيما.
و الجميل أيضا، هناك من يتفحصه، بدقة متناهية؛ و كأنه يحاول أن يغوص بين حبيباته نحو الخلود. و هناك من ينحت مجسمات معبرة ..
أما سعاد، بنت جارتنا فاطمة. لمحتها ترسم قلبا بأصبعها، و تطيل النظر فيه و كأنها تحاول العبور نحو ضفة الحب، أو أنها ترسم مسارها الغرامي مستقبلا .
لأول مرة، تخلص "حينا" من بقعه السوداء و من لونه الباهت .. لأول مرة، رأيته جميلا و مختلفا ينبض بالحياة ..
و نحن نحتفل، كانت الساعة هي الاخرى تلتهم الوقت بدون توقف. فجأة، نادتني أمي :
ــ لندخل إلى المنزل، لقد داهمنا الوقت بلمح البرق .. !! الساعة تشير إلى السابعة و النصف .
دخلنا بسرعة، تناولنا الفطور.. و دعنا جدتي و الابتسامات لا تفارق وجوهنا.
و نحن أمام عتبة المنزل - كما العادة - قبلتني أمي بحرارة و هي تقول:
ــ اعتني بنفسك جيدا!!
ذهبت في طريقها المعتاد. و هي تمشي، كانت تسرع في خطواتها حاملة معها حقيبة مملوءة بالكتب و الثلج يتساقط فوق رأسها. ربما فرحة الصباح أنستها أن تأخذ معها مظلتها، أنستها أن ترتدي حتى معطفها الصوفي ليحميها من البرد. أو ربما ضيق الوقت، بعثر تفكيرها و جعلها تفكر فقط في مدرستها..
فهي تدرس مادة اللغة العربية في مدرسة خصوصية، و لا تحب أن تتأخر عن واجبها المدرسي الذي تعتبره واجبا مقدسا.. أما أنا تنتظرني مسافة عشرون دقيقة مشيا على الأقدام لأصل إلى مدرستي العمومية.
و أنا أسرع في خطواتي، كنت أفكر في أمي و ما تقاسيه من تعب من أجل تنشئة جيل قارئ محترم. و أنا أخطو، أتساءل لماذا لا نقرأ في مدرسة واحدة؟؟ لماذا طرقنا مختلفة و إن كان هدفنا واحدا؟؟ لماذا .. لماذا .. لماذا.. ما جدوى السؤال بدون إجابة حقيقية..!!
و أنا أستمر في المشي، كانت قدمي تغوص في الثلج، أحيانا تلتوي أحدهما و أسقط بفعل الحفر التي لا ترى و كأنها ألغام نارية..
عندما اقتربت من المدرسة، شاهدت عصفورا متعبا يرتعش من البرد، بالكاد يطير.. كلما حاولت أن أمسكه يطير قليلا ثم يسقط على رأسه.. ربما يخاف مني، أو ربما يعتبرني عدوا نازيا يبحث عن وليمة في جسده النحيف..
هذا الطائر التائه، جعلني أفكر بعيدا، في الناس الذين يسكنون الكهوف و الجبال.. في الذين لا يملكون غطاء و لا قوتا..
نسيت روعة الثلج و بياضه، و تاهت بي الدروب في متاهات أخرى..

دق الجرس، فبدأ التلاميذ يدخلون ساحة المدرسة المزينة ببساط ثلجي أبيض.
وأنا معهم أخطو، لمحت على وجوههم رسوما تمزج بين حمرة الأمل و زرقة البرد القارس..!!
هناك من يرتدي لباسا صوفيا، حذاء صلبا مستوردا يضرب به الثلوج و يضحك تارة و يغمز تارة أخرى..
و هناك من يضع رأسه بين كتفيه مثلي تماما، أو مثل ذلك العصفور الذي لا يستطيع أن يطير أو أن يعبر عن وجعه .. فقط ينظر نحو أمل غامض.. !!
جلست في مكاني المعتاد داخل القسم، الطاولة الأخيرة في الصف الثالث و البرد القارس يدخل من النوافذ المكسرة، يطوف حولنا زارعا سمومه ثم يخرج دون استئذان .. بينما أنا ما زلت أفكر في ذلك الطفل الذي حدق في وجهي مبتسما، رغم بعض أصابع رجليه كانت تطل من نافذة حذائه المترهل وكأنها تريد أن تقبل الثلج بحرارة؛ أو ربما لأنها سئمت السجن داخل حذاء ضيق و أرادت أن ترى النور فكان حظها أن تلمس الثلج الساحر..
بعد وقت وجيز، شعرت بصديقي حسام يجر ثوبي و يتمتم. فتحت عيني، فو جدت معلمتي تقف أمامي:
ـ أنت الوحيد الذي لم تقف عند دخولي القسم.. هل تتحداني ؟؟ قالتها بلهجة قوية و هي تحملق في وجهي بعينين منتفختين و كأنها لم تنم البارحة.
وقفت بخفة و أنا أتذكر المشهدين معا، اشتد خوفي كثيرا:
ـ و هل يعقل أن يتحدى الابن أمه الثانية؟؟ فقط كنت ... قاطعت كلامي قائلة:
ـ كنت تسخر مثل البارحة؛ لقد خرجت من القسم للذهاب إلى المرحاض لكنك تبخرت لمدة ساعة كاملة، و تركتنا نبحث عنك كالمجانيين!! و عندما عدت جلبت معك فأرا متوحشا و تسببت في فوضى عارمة .. !!
فبينما التلاميذ يضحكون، ضربت الطاولة بعصا الزيتون الغليظة، فقفزت قلوبهم هلعا.. !!
أما أنا كنت واقفا مثل متهم خطر مكبل اليدين و رجلاه ترتعشان و قلبه ينبض بقوة.
كيف لا ينبض و هي تقف أمامه غاضبة مثل بركان، مصفرة الوجه، تحاول أن تنقض عليه و تبرحه ضربا !!
دخل المدير فجأة، و قف الجميع..
ـ أين هو ذلك التلميذ الذي..؟؟ أشارت له بيدها نحوي..
اقترب مني ثم حدق في عيني قائلا:
ـ غدا لن تدخل المدرسة دون ولي أمرك.. هل فهمت يا ولدي؟؟
ـ نعم فهمت .. !! قلتها بارتباك ثم جلست مكاني.
و هو يغادر القسم، و قفا معا بالقرب من الباب و هما يتحاوران نصف ساعة تقريبا .
بعدها دخلت القسم من جديد و هي تقول بصوت مرتفع:
ـ اخرجوا كتب القراءة، صفحة سبع و ستون و بدون ضجة !!
أخرجت قراءتي مثل الجميع و أنا أردد " و لي أمرك" مرات عديدة دون أن أعرف المعنى.
مصطلح جديد أسمعه لأول مرة .. فسألت نفسي:
ـ هل أسأل معلمتي عن معنى ذلك ؟؟
كنت أراقبك كيف كنت مترددا، خائفا، شاردا و انت تقول: " أسأل .. لا أسال .. فجأة، عزمت بقوة لتطرح السؤال رغم كل ما حصل.. فمن السؤال يتعلم الانسان.
رفعت يدك، فظنت المعلمة أنك تريد قراءة النص.. قالت لك بدون تفكير مسبق:
ـ اقرأ النص يا إدريس !!
أجبت بصوت منخفض و بعفوية :
ـ ماذا يعني ولي أمرك!؟
ضحكت رغما عنها .. رغم سواد العتمة الذي كان يخيم فوق رأسها. ثم أجابت و هي تبتسم و ملامح وجهها بدأت تتحول نحو الاحمرار، و كأن الضحكة استطاعت أن تذيب الدم الخاتر في عروق وجهها:
ـ تقصد ولي أمرك انت ؟
ـ نعم .. نعم .. !!
ـ و لي أمرك يعني : " الأب أو الأم أو المسؤول عنك في المنزل" هل فهمت الآن؟؟
أجبتها نعم و خوفي يتناقص صبيبه شيئا فشيئا ..






  رد مع اقتباس
/
قديم 26-02-2016, 04:10 AM رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

و هم يتابعون القراءة، كنت أنا أفكر في طريقة ما .. في طريقة أفاتح بها أمي الموضوع، فهي تعود إلى المنزل منهكة الجسد و الروح..
هل يعقل أن أزيدها جرعة إضافية من التعب و التشنج.. هل و لدت لأكون لها نافذة تطل من خلالها على عالم الحزن و المشقة..؟؟
و هل أنا حقا فعلت شيئا يستحق هذا الاستدعاء ..؟؟
مجموعة من الأسئلة تتموج داخل رأسي الذي أشعر به يتقلص عوض أن يتسع..!!
هل أذهب إلى المدير لأشرح له أنني لا أستطيع أن أفاتح أمي بالموضوع؟؟ و أن أبي هو الآخر لا يستطيع الحضور ..!! لأنه توفي في حادثة سير في ذلك اليوم المشؤوم و نحن في نزهة عطلة نهاية الأسبوع .. هل سيتفهم طلبي و يساعدني؟؟
رغم كل هذه الأسئلة، لم أتوصل لقرار معين . و أنا مغمض العينين، شعرت بنفسي أسافر إلى الوراء عبر الزمن.. و كأنني بداخل غرفة بلاستيكية بيضاء لا هواء فيها..!!






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-02-2016, 03:59 AM رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

بدأت أشعر بالاختناق و أصرخ بنبرة جمعت كل الفصول المتعبة و الغيمات المجروحة:
ـ " إنه ينزف ..!! إن دمه الغالي يسيل من جمجمته، من أنفه، من أذنيه ..!! "
لا أحد يسمعني.. حاولت أن أوقف تدفق الدماء بيدي، بملابسي، لكنها كانت ساخنة تنهمر بسلالة و كأنها تودع جثته الدافئة.. !!
رفعت عيني أمامي .. هاهي سيارتنا المشؤومة التي انقلبت على ظهرها مشوهة المنظر في قارعة الطريق، أبي يحتضر بين أحضاني، في حين أمي لم أجد لها أثرا..!!
أما السيارة التي صدمتنا من الخلف، لم يبقى منها شيئا .. حتى أنني لم أعد أميز جثة من كان يقودها بسرعة جنونية.. أهو شاب مريض ؟؟ أو شيخ كره حياته ؟؟ أو امرأة كانت تحاول الانتحار؟؟

الطريق حزينة ذلك المساء، و أنا مزين بالدماء، تمنيت لو ودعت الحياة قبل أن أرى مثل هذا المشهد الأكثر هولا و حزنا في حياتي..!!
و أنا أمسك أبي بين أحضاني، كنت أبكي كثيرا و أتألم .. فجأة، مسكتني يد حنونة دافئة من الخلف، شعرت أنني أعرفها بل أشم عطرها الممزوج برائحة الدم، تسرب عطرها إلى أنفاسي، ثم أغمي علي..
لم أستيقظ من غيبوبتي إلا و أنا أرى أشباحا يطوفون من حولي، و بالقرب مني أجهزة متطورة تصدر أصواتا إلكترونية خفيفة..
ظننت نفسي في كوكب غير الأرض..!!
تشابكت الأحداث في رأسي، فلم أعد أعرف كم من فصل في السنة، و أي الفصول أجمل ؟؟ و لم تداخلت الفصول فيما بينها ؟؟ فهل هي نهاية العالم الدموي الذي باتت الدماء تسيل أكثر من نهر " واد أم الربيع" و من نهر " النيل"..
شيئا فشيئا، بدأت أسترجع وعيي و أنا أسمعني أردد:
ـ" لن أركب السيارة من جديد .. لقد سلبت مني أبي ..!!"
فتحت عيني؛ ها هي أمي تلمس شعري بيدها اليسرى، و يدها اليمنى عليها " جبيرة بيضاء" معلقة بوشاح في عنقها..على وجهها جروح مختلفة الطول لكنها خفيفة.. اقتربت مني و وضعت رأسها في عنقي و هي تبكي و تئن مثل فصل الربيع الذي فقد وروده و أزهاره و أشجاره و حتى نبضاته أمام عينيه الجاحظتين النازفتين الضعيفتين...






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-10-2016, 04:55 AM رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
ادريس الحديدوي
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب

الصورة الرمزية ادريس الحديدوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

ادريس الحديدوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: نبضات

قوة الحدث الدرامي أنساني نفسي و المكان الذي كنت فيه متواجدا.
لم أشعر بنفسي حتى كنت أمشي وسط التلاميذ و هم يخرجون من الباب الرئيسي للمدرسة، يصرخون و يضحكون بأفواههم و أيديهم و حتى أرجلهم. خيل إلي أنني وسط جنود يحملون أغراضهم على ظهورهم و يغادرون قلاع الاعتقال، الأرض من تحتهم بيضاء، البرد قارس..
تفرق الجميع عند نقطة التقاطع، كل واحد كان يجري نحو حجره الدافء قبل أن يسدل الظلام خيوطه السوداوية.
و صلت المنزل أخيرا متعبا، نزعت حذائي و لم أكلم أحدا. نشرت جسدي النحيف على السرير في الوقت الذي مر النوم بمركبته الهادئة و المنعشة بحبيبات الندى.. تعلقت بها و سافرت بعيدا..






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:22 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط