الفينيق " نزار ب. الزين " في ذمة الله ..في ذاكرة الفينيق/ زياد السعودي - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: رفيف (آخر رد :صبري الصبري)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ✒ ✒ محابر خاصة ✒ ✒ > ۩ في ذمـة الله .. في ذاكرة الفينيق ⋘

۩ في ذمـة الله .. في ذاكرة الفينيق ⋘ رحمهم / رحمهن ..الله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-05-2014, 12:58 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي الفينيق " نزار ب. الزين " في ذمة الله ..في ذاكرة الفينيق/ زياد السعودي


سلام الله

تعودنا أن نضع نصاً تحت الضوء
ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربةٍ فذّة
سنستميح روح الفينيق
نزار ب. الزين



لنضعه تحت الضوء،إذ به يليق الضوء
رحمه الله
وادخله جنانه



مقدمة
ــــــــــــــــــــ


من مواليد دمشق في الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1931
-بدأت حياته العملية كمعلم في دمشق وريفها لمدة خمس سنوات
-عمل في الكويت كأخصائي اجتماعي ومثقف عام، لمدة 33 سنة قبل أن أتقاعد عام 1990، إضافة إلى عمله الإضافي في صحف الكويت.
-كتب أول مجموعة قصصية بعنوان (ضحية المجتمع) عندما كان في الثانوية العامة عام 1949
-كتب مجموعتي الثانية (ساره روزنسكي) سنة 1979
-وإضافة إلى عشقه للأدب كان يهوى الفنون التشكيلية كذلك، وقد أقام معرضا لإنتاجه الفني في شهر أكتوبر 1999 في مدينة دمشق مركز المزة الثقافي خلال إحدى زياراته للوطن ضمت 55 لوحة.
عاش في الولايات العربية المتحدة منذ انتهاء خدمتي في الكويت
أي منذ عام 1990 وأدار مع نجله وسيم مجلة (العربي الحر) الألكترونية - عبر الانترنيت؛
-تتجاوز قصصه القصيرة غير المطبوعة المائة وأربعين قصة وأقصوصة
-عشرة أعمال روائية صغيرة ذات طابع وطني تحت مسمى كيمنسانيا (الكيمياء الإنسانية)
-ثمانية أعمال روائية صغيرة تحت عنوان كنز ممتاز بك
-عمل روائي طويل واحد تحت عنوان عيلة الأستاذ
-إحدى عشر حكاية للأطفال
-عدد من الدراسات الأدبية والفكرية نشرت في الصحف الكويتية (الراي العام - القبس - الوطن) والعربية في أمريكا (أنباء العرب - العرب) وبعض المواقع الإلكترونية المهتمة بالأدب.
انتقل الى رحمة بتاريخ 24/مارس /2014



المغفور له بإذن الله فينيقيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إعذرني أرجوك
حوار قصير
ـــــــــــــــــــــــــــــــ


- ابن أختي الحبيب ، لساني عاجز عن إيفائك حقك من الامتنان ، لسماحك لي باستخدام حمامك ، فقد شعرت بنعيم لم أشعر بمثيله منذ أسابيع ..
= خالي الحبيب ، لا حاجة بك إلى شكري ، فأنت أدرى الناس بمعزتك في قلبي ، و بيتي مفتوح لك في كل حين .....
- أنا متأكد من ذلك – الله يرضى عليك و يوفقك - هذا ما يجعلني أتجرأ و أطلب منك ما ترددت طويلا قبل أن أطلبه !.
= تفضل يا خال ، أنا تحت أمرك !
- أنت تعلم أنني بلغت من العمر عتيا ، و أعاني من عدة أمراض أسوؤها الإسهال المزمن ، و تعلم أنني أعيش في غرفة مستأجرة أشعر فيها بالعزلة ، و الإحساس الدائم بالخوف من أن أموت وحدي فيها ....
= أنا أدرك مدى الوحدة التي تعاني منها يا خال ، و لطالما تساءلت لماذا لا تعيش مع أحد أبنائك أو إحدى بناتك ؟
- كل لاه بأسرته و مسؤولياته ، و صدقني لا أراهم – سامحهم الله دنيا و آخرة – إلا لماما !..
= هل تطلب مني أن أتوسط لك مع أحدهم ؟..
- بل أطلب منك أن تسمح لي بالعيش ما تبقى لي من أيامي القليلة في بيتك !..
بعد صمت و تفكير طويل أجابه :
= خالي الحبيب ، إني لفي غاية الخجل إذ أصارحك القول ، بأن بناتي في الجامعة و هن بحاجة ماسة إلى غرفهن ، و أن زوجتي كبيرة السن و لن تقوَ على خدمتك ، فاعذرني لعدم تمكني من تلبية طلبك هذا ، و فيما عدا ذلك فأنا تحت أمرك !



رحلة اسماعيل
رواية قصيرة من خلال رسائل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


صديقي و أخي إسماعيل
هذه أول مرة أقول فيها " كل عام و أنت بخير " لشاهدك و ليس لك ، أقولها و الدمع يتجمع للإنطلاق ، قاومته في بداية الأمر و لكنه كان يتمرد على إرادتي ، أما الآن و قد مضت أشهر على رحيلك فإنني أفلح غالبا في ضبطه و لكن على حساب قلبي الذي يعتصره الألم و يكاد يخنقه .
إنني أسرّي عن نفسي هذه الأيام بتصفح رسائلك ، تصور ، لقد أحصيتها فوجدتها تناهز المائة رسالة ؛ كل واحدة منها كانت وصلة جديدة تشد روحي إلى روحك ، أما إذا ضمت جميعا إلى بعضها بعضا فسوف تشكل موسوعة في العواطف البشرية بشتى ألوانها و مختلف درجاتها ، المظلم منها و المشرق ، الجامح منها و المعتدل ، المفرط منها بتشاؤمها أو المبالغ منها بتفاؤلها ، الساخر منها أو الناقم ، المحبط منها أو المتحدي .
عواطف دائمة التوتر ، دائما مشدودة ، أي خطل كان يستفزك و أي جنوح يستنفر أعصابك .
مشكلنك أنك كنت تقرأ ما بين السطور و تبحث تحت الظلال ، فتكشف و تكتشف ما يعجز غيرك عن إكتشافه أو كشفه .
لطالما قلت لي أن حياتك أقصوصة تصلح لكتاب ، و لكنك كتبت الكتاب دون أن تدري يا إسماعيل .
*****
30 /12/ 1966
صديقي و أخي أبو وضاح ....
بعد أقل من أربعين ساعة ، سوف يغتسل الزمن من قاذورات عام ليغطس في قاذورات عام جديد ، ذلك أنه ابتلي بكائن قذر إسمه الإنسان ، الذي قال عنه أحد الفلاسفة " الإنسان حيوان ناطق " و قال آخر : " بل هو حيوان ضاحك " ، أما أنا فأصفه بإنه " حيوان خائف " و من صفات الخائف أنه يلوث نفسه من شدة الخوف .
و لكي أكون دقيقا في تعبيري فلا أغضب سكان الهند أو الهند الصينية ، أهالي جزر الكاريبي أو المجاهل الأفريقيه ، سأدخل بعض التعديل لتصبح العبارة : " الإنسان العربي حيوان خائف " .
فالعربي المقود مذعور من بطش العربي القائد ، و العربي القائد متوجس خيفة من أن يتمرد عليه العربي المقود ، و العربي الجار يخشى العربي الجار ، بحيث لم يبق من العروبة غير إطارها اللغوي .
الخوف - مثلا - هو الذي دفع الناس إلى النزوح من فلسطين .
أذكر جيدا والدي عند دخوله البيت ذات يوم مذعورا : (( مالنا قعاد ها هنا )) ، الحامية العربية غادرت في الليل الفائت ، و سرية جيش الإتقاذ مرتبكة بسبب غياب قائدها ، و تعزيزات صهيونية تقترب منا ؛ يجب الإبتعاد حالا ريثما تنجلي الأمور !
و حتى اليوم يا صاحبي لم تنجل الأمور ، فما زلنا حيوانات مذعورة ، و المذعور يسهل بقاؤه تحت السيطرة حتى يحين موعد إفتراسه .
لقد طردوني من أمارة ( بترولويت ) لأنهم خافوا مني ؛ أنا - المسكين – إسماعيل بن إبراهيم ، الذي لا يملك غير جسده النحيل ، و راتبه الضئيل ، خافوا مني و بالأحرى خافوا من لساني الطويل !
كل ذنبي أنني ( حيوان عربي غير مذعور ) فاعتبروني نغما ناشزا و بناء على قانون ( من خاف سلم ) و البند العاشر من نظام الطوارئ الذي ينص على أن ( الشباك الذي يأتيك منه ريح ، سده و استريح ) و البند الخامس من القرار العرفي المسمى ( قانون الوقاية خير من العلاج ) و الذي ينص في بنده الأول : ( لا تناموا بين القبور و لا تشوفوا المنامات الوحشة ) بناء على الحيثيات السابقة كلها أو بعضها ؛ جروني من بيتي إلى الطائر الميمون.
لهم الحق ، فقد تكلمت كثيرا عن كارثة الإنفصال ، و أطلقت لساني عن حرب اليمن و مهازلها ، و مع أنني لست صحافيا يخشون قلمه أو حزبيا يشتبهون بتعاونه مع جهات أجنبية ، و أنني لست سوى إنسان عادي يتحسس مشكلات قومه ، فقط إنسان غير مذعور ؛ فاعتبروني منحرفا و من ثم طردوني .
*****
1/7/1967
أخي و عزيزي أبو الوضاح
قال فريد الأطرش مواسيا : " الوغى كر و فر " و لما قلّبت قاموسنا المعاصر إكتشفت أن العبارة الصحيحة هي : " الوغى فر و فر و فر و فر "
و لكنهم إعتادوا – أقصد المطربين و الساسة – أن يدخلوا بعض التعديلات على بعض التعبيرات ، فالمطربون إعتادوا بأصواتهم الحنونة على تحويل الإستجداء و الإستعطاف و الاستذلال إلى عاطفة أسموها الحب !! أما الآخرون – أقصد الساسة – فقد برعوا بتمويه الهزائم بمصطلحات مثل :
( خسرنا جولة و لم نخسر حربا )
( إنها نكسة و ليست هزيمة )
( الوغى كر و فر )
ثمت مجذوب مشهو ر في دمشق ، و في الحقيقة هو من عقلاء المجانين ، إعتاد صعود الحافلات متسولا و لكن بأسلوب مبتكر ؛ كان يحمل كوبا من الماء ثبّت على حافته عصفورا صغيرا من الإسفنج ، كان ينظر إليه كأنما يخاطبه ثم يزجل قائلا :
يا عصفوري يا عصفور
يا أحلى طير بين الطيور
يا عصفوري ليش بتتحرش
بفضايح فريد الأطرش
و فاتن حمامه بتتنغرش
لأنها طيرة من الطيور
و يا عصفوري يا عصفور
----
يا عصفوري فين الدين
و فين عهد صلاح الدين
حتى يرجع فلسطين
و يرمي اليهود في البحور
و يا عصفوري يا عصفور
----
( الوغى كر و فر ) برأيي المتواضع فضيحة جديدة من فضائح فريد الأطرش ، أما صلاح الدين فقد بعث فعلا و لكن أفراد بطانته خذلوه !
*****
14/10/1970
كلي أسف لعدم قدومك إلى دمشق في الصيف الفائت ، و لقد أصبحت أعاني من حالة مزمنة من الأسف بسبب إستمرارك بعدم القدوم للمرة الثالثة ، معاناتي من حالة مزمنة أخرى تجاه ما يجري عندنا و حولنا ، إنه تمزيق لعرب ناصر بعد أن مزقوا ناصر ، و هكذا ينقلب هتاف أحمد سعيد – كبقية الإنقلابات – ليصبح : " إخفض رأسك يا أخي " لأن ( من يرفع راسه لفوق تنقصف رقبته )
هل سمعت بما قاله رئيس أركان الصهاينة في أعقاب المأساة الجديدة : " إن عدد القتلى العرب في هذه الحرب العربية العربية يفوق عددهم في حروبهم العربية الإسرائيلية كافة " ألا يا لشماتتهم و يا لخيبتنا !
دعنا من السياسة و خزيها و لنلتفت إلى شؤوننا الخاصة ، فبلقيس إبنتي لا زالت تذكركم فردا فردا ، أما أنيس ، فبدأ ينساكم لأن فكره مشغول بجدول الضرب خوفا من الضرب – أقصد ضرب المعلمين – مع العلم أن الكل في بلادنا ينضرب بسوط الخوف و التخويف ، الأب يخوّف ابنه ، المعلم يخوف تلميذه ، المفتش يخوف المعلم و المدير ، مدير الإدارة يخوف موظفيه ، رجل الدين يخوف المتعبدين ؛ و هكذا يا صاحبي حياتنا كلها خوف بخوف !
لا أدري كيف تتشتت أفكاري أو يستطرد قلمي ، فقد كنت أتحدث عن أولادي ، حدثتك عن بلقيس و أنيس ؛ أما لميس فهي مثل زعمائنا تحكي قصصا كثيرة معظمها غير مفهوم ، أما أدونيس – آخر العنقود – فهو في هذه المرحلة من العمر أشبه ببغاء .
و على ذكر الببغاوات قال فقهاؤنا : " المسلمات السافرات علة هزائمنا " فرددت الببغاوات " الحجاب الحجاب سوف ينصرنا " ، المحجبات أثقلن حجبهن و نصف المحجبات أكملن حجبهن ، و السافرات أصبحن تحت الضغوط حائرات ، و هكذا - يا صاحبي – عادت صراعات الثلاثينيات ، مؤامرة جديدة هدفها إلهاء الناس عن قضيتهم الكبرى و هزائمهم الأكبر .
18/12/1971
أخي الحبيب أبو وضاح
أما عن العمل- يا صاحبي - فينمو و تنمو معه المسؤوليات و تتعاظم الواجبات و تتراكم فوق رأسي الشائب ؛ هكذا الحياة يا عزيزي ، فهي فترة تفكير و تدبير ، ثم تفكير و تدبير ، تفكير و تدبير يمتد من لحظة اشتعال الوعي إلى لحظة الإنطفاء، البعض يفكر بعقله و البعض بقلبه و بالبعض بقدميه أو يديه .
خذ مثلا مشكلة البيت ، فقد إشتريته هيكلا ( على العظم ) و بدأنا فورا بإكسائه باللحم حيث إبتدأت – منذئذ - متاعبنا مع المهنيين من نجارين و بلاطين و دهانين ، وعود تجر وعود و مماطلات تتبعها مماطلات ، أشبه بوعود الأمم المتحدة و مماطلات جامعة الدول العربية (16-17)؛ يرمي أحدهم بعض المعدات ثم يغيب و إن عثرت عليه و طالبته بتنفيذ وعده أرغى و أزبد و قد يستخدم قدميه أو يديه – كما حصل لي مع أحدهم – أما إذا لجأت إلى القضاء فهناك إهدار الوقت و المال بلا طائل ، فأتفه الدعاوى القضائية تستغرق عقدا من الزمن على الأقل .
فرانكفورت التي هدمتها الحرب العالمية الثانية بالكامل ، بعثوها خلال خمس سنوات ، و شقتي المتواضعة مضى على وضع حجر أساسها خمس سنوات و ربما إحتاجت لخمس أخر ليتم إنجازها . يومهم بشهر من أيامنا ، و شهرهم بسنة من سنيّنا ، و سنتهم بعشر ؛ أما المسافة الحضارية بيننا و بينهم فقد باتت – وا أسفاه - تقدر بالقرون !
15/5/1973
أخي أبو وضاح
كلنا إليها ، حزنا جدا أنا و أفراد أسرتي لوفاة والدتك ، و الكلمات تعجز عن مواساتك و لا نملك سوى أن نتمنى لها الرحمة و لكم الصبر و السلوان ، اليوم هي و غدا أحدنا ، قطار يلفظ البعض و يستقبل البعض في رحلة مجهولة البداية و النهاية !
18/12/1973
أخي و صديقي أبو وضاح
حربنا هذه المرة كانت مشرفة و إيجابياتها تفوق سلبياتها ، عنصر المباغتة ، الدفاع الجوي الرائع ضد الهجمات الجوية ، الدفاع المدني ، التجهيز المدني من حيث توفير الماء و الغذاء و الوقود . و لولا ضعف جارتنا في الغرب لما تمكنت طائراتهم من إلحاق الأذى بمصانعنا و بنيتنا التحتية في الشمال .
شَعر – محسوبك – لم تبق منه شعرة واحدة سوداء ، أما قلبي فإنني أشعر بضعفه و خاصة إذا اضطرتني الظروف إلى صعود السلالم عند توقف المصعد و ما أكثر ما يتوقف ، لقد بدأت أشعر بوطأة السن ، مع أنني في مطلع الأربعينيات ، فهل يعزى ذلك إلى إرهاق العمل أم إلى وطأة الأحداث ؟
أعجب ما قرأته هو ما قاله العم كسينجر : " يجب إخراج مصر من المعركة و إبعادها عن مشكلة الشرق الأوسط " . العجيب في الأمر هذه الصراحة المطلقة غير المعتادة ، ترى هل بلغت به القدرة على صنع الأحداث هذا الحد ؟ ترى هل هو جاد ؟ ترى هل يجد من يطيعه ؟
صوت المدفعية لا زلنا نسمعه ، فالجبهة اقتربت وأصبحنا على مرمى مدفعيتهم ، و لكننا هنا جميعا غير مكترثين حتى لو إقتحموا دمشق ، كل الناس يدركون الآن أنهم في مواجهة أمريكا و من ورائها حلف الأطلسي و ليس إسرائيل و حسب .
نسيت – في زحمة الأحداث – أن أتمنى لك و لأسرتك عاما جديدا سعيدا و عمرا مديدا ، أما أنا فمنذ عودتي من جنيف عدت إلى إحتراقي البطيء بنار المصطلحات الجديدة :
- الثغرة
– الكيلو 101
– فك الإشتباك –
- حرب التحريك
– جميع الأوراق بيد العم سام
– الأرض مقابل السلام
التي إنضمت إلى شقيقاتها :
- النكسة
– العدوان الثلاثي
– رودس
– الهدنة رقم 1
– الهدنة رقم 2
مصطلحات نجترها ثم نهضمها ، في انتظار ظهور مصطلحات جديدة !!!! .
16/1/1974
أخي و عزيزي أبو وضاح
أما عن إبني أنيس ، فما زلت في حيرة من أمره و أمر معاملته ، فهو متقلب الأطوار ، تارة أراه ضاحكا بشوشا ودودا و تارة أخرى عصبيا إنطوائيا سريع الإستثارة سهل الإدماع ، فهل لك بإرشادي إلى وسيلة تحد من مزاجيته المتعبة هذه ؟
البيت الجديد امتص كل شيء حتى راحتنا و أعصابنا ، تماما كالحرب الأخيرة التي استنزفت دباباتنا و مصانعنا و شبابنا و معظم بنيتنا التحتية ؛ فمنه العوض و عليه العوض !
ربما اسافر إلى الولايات المتحدة في الصيف القادم حيث يعيش هناك أحد أخوال أولادي ، و ذلك للسياحة و الإستجمام و كذلك العمل إن أمكن ، فلا بد لحجري من أن يصيب عدة عصافير في الوقت ذاته ، و سترافقني أم أنيس و أنيس و بلقيس ، أما لميس و أدونيس فسيبقيان برعاية جدتهما ؛ و سأبذل جهدي للبحث عن جامعة تناسب إبنك وضاح .
19/5/1975
أخي و عزيزي أبو وضاح
رسالاتك الأخيرة كانت مختزلة ، فإما أنك كنت مشغولا جدا أو أنك (( قرفان)) جدا من آخر التطورات و المهازل .
ألف شكر لإهتمامك بشقيقي ، و هنيئا له فقد أصبح له أخ سادس ، إنه يكتب لنا عن نجاحات كثيرة غير أنه لم يذكر شيئا عن القرض أو عن شريكه الجديد و عما إذا وثّق عقده معه أم لا ، أرجو أن تستمر بمراقبته عن كثب ، حتى إذا تعثر أنجدناه في الوقت المناسب ، فتعثره متوقع لأنه – يا حبة عيني – آخر العنقود .
أما أعمالي هنا فتتحرك بسرعة نحو الأفضل ، فلم لا تفكر بالعودة فتضع يدك بيد أخيك أبو أنيس ؟
أولادي كالعادة من الأوائل ، و قد استطاع أنيس أن يتخلص من معظم عيوبه المزاجية ، فلم يبق منها سوى ثمانين أو سبعين ، و فعلا أفادتني نصائحك ، فقد تقربت إليه و خصصت له بعض وقتي ، أستمع إلى الغث من من كلامه و بفرح شديد إلى الثمين ، و أناقشه حول تساؤلاته الكثيرة ، و بدأت أدربه على الحوار بدل الشجار ، و الإبتعاد عن مصادر الإستفزار بدلا من التحدي ، و على ضبط النفس بدل الصياح و البكاء .
حتى معلميه الذين كانوا دائبي الشكوى و التذمر من سلوكه ، أخذوا يلاحظون إنحسار سلبياته ، و إحدى المعلمات أوكلت إليه بعض المهام تشجيعا لمواهبه الفنية ، فأوكلت إليه مسؤولية صحيفة الجدار ، و قيادة فريق الطلائع ( الكشافة ) ، و قد ذهب في مهام صحافية إلى بيوت ذوي الشهداء ، و هو يطلب مني حاليا تعلم قيادة السيارة و لكنني في هذا متردد فما هو رأيك ؟ و على العموم يمكنني القول بكل ثقة أن إنقلابا مس صميم شخصيته ، و آخر تعليق لمدير المدرسة على صحيفة أعماله الفترية كان " إنه يحب القيادة و ناجح فيها ، و لديه ميل للتضحية و إنكار الذات ، إضافة إلى الذكاء و الجدية .
أما بلقيس ، فكما عهدتها ( عايشة على مهلها ) ، متأنية جدا ، خجولة جدا ، و لكنها جادة مجتهدة جدا جدا .
أما لميس فهي شيطانة في ثياب طفلة ، بينما بدأت مواهب أدونيس بالظهور و هي متعددة موسيقية غنائية تمثيلية ، و هو مرتبط جدا بمعلمته و متعلق بها.
لم تذكر لي شيئا عن حياة إبنك الجامعية ، هل لا زال يراها مملة ؟
16/6/1975
صديقي و أخي
أرجو أن تستمر في محاولتك إنقاذ أخي إسحق من ورطته و ألا تحسب أبدا للمادة أي حساب ، إنه يبرر فشله بسوء حالته الصحية فلِمَ لا تكون تلك حجة لإقناعه بأن يترك كل شيء و يعود حالا ، إشتر له تذكرة باتجاه واحد إلى دمشق ، قبل أن يزداد غرقا .
20/2/1976
عزيزي أبو وضاح
مللت السياسة و الخوض في مستنقعها ، أنعشني نصر تشرين لفترة وجيزة و ما لبثت الأحداث أن أعادتني إلى اليأس ، هذا الذي يجري في لبنان ألا يدعو إلى الدهشة و الإرتياب و الأسى ؟ هل بلغ بنا الحمق أن نندمج في دور عرائس المسرح ؟ اللعبة الإقليمية مستمرة و كذلك إبنة عمها الطائفية و ابنة أختها الشعوبية و ابنة عمتها العشائرية ، ألم اقل لك ذات يوم أن مناخ الثلاثينيات قد عاد ؟!
على العموم دعنا من السياسة فقد بدأت أحاجيها تستعصي على فهمي ، كما يستعصي على فهمي هذا النزاع المستمر بين بين أنيس و بلقيس ، و بين بلقيس و لميس . بلقيس كما عهدتها ذكية و دائما من الأوائل في مدرستها و لكنها عنيدة و تميل إلى الدكتاتورية بصفتها الأكبر بين إخوتها ، بينما تجد أنيس مفرطا في حساسيته و لا يتقبل على الإطلاق محاولاتها السيطرة عليه ، و هكذا تنشب المنازعات ، أرجو أن تسعفني برأيك .
أهنئك بسلامة الوصول و تجاوزك جميع تلك الصعوبات التي اعترضت رحلتك ، أما عن غدر الصديق فهو صعب فعلا و يدعو إلى المرارة ، ربما أهضم أن يربح منك ماديا ، أما أن يغشك و يعرض حياتك و حياة أطفالك للخطر فهذا غير مقبول على الإطلاق ، صداقة خمسة عشر عاما أضاعها بفورة جشع و نزوة طمع .
و لكن كيف تسنى له استبدال المقطورة التي اشتريتها من نسيبه على أنها مستعملة مرة واحدة بمقطورته المتهالكة ؟ أين كنت عندما تم التبديل ؟. و لِمَ لم تستلم ما اشتريته في الحال ، و لكن لن ألومك فالمفروض أنك كنت تتعامل مع صديق .
الطقس معتدل و الشمس تسطع صافية فوق الفيحاء فتضفي عليها جمالا فوق جمال ، لولا الصخب الذي نعانيه من ضجيج السيارات و زحمة الناس و فوضى المرور و صراخ جهاز التسجيل عند جاري ليل نهار مروجا لبضائعه الفنية ، لدرجة أفقدتني أعصابي و حواسي و خاصة منها حاسة التذوق الموسيقي ، حتى أني بدأت أكره أم كلثوم و عبد الوهاب و فيروز و حتى صباح فخري لأجله .
26/11/1977
أعددت عدة السفر إلى مصر لبعض الأعمال ، و اشتريت التذاكر و حجزت الأماكن ، ثم علمت أن مصر السادات تعيد الفلسطينيين من مطارها لأسباب غير واضحة ، و كما تعلم فقد أفلح ( الدكتور كيسنجر) بإخراج مصر من ساحة الصراع ،فهم يخططون و ينفذون أما نحن فمتخبطون و مستنفذون .
حضر خال الأولاد من الولايات المتحدة الأمريكية ، و كان لحضوره صدى في غاية البهجة بعد غياب سبعة عشر عاما ، و قد أغراني بوجود فرص عمل جيدة هناك و جعلني أفكر جديا بالأمر ، بل بدأت فعلا بالتفكير بالهجرة .
10/1/1978
تهاني القلبية بالعام الجديد و بالمناسبة فإن الأعوام الجديدة لم تعد تثيرني كما في السابق فكل عام جديد على أمتنا العربية أسوأ من أخيه المغادر ، فلعل التغيير الجذري الذي عزمت عليه يقلب هذه الصورة المملة .
فلسفتك حول مضار الهجرة منطقية و لكنك تغالي بها ، فأنا شخصيا أجد نفسي قادرا على العمل لخمسين سنة أخرى ، فأنا لا أدخن و لا أشرب الكحوليات ، و لدي استعداد للتأقلم مع أية بيئة ، فأنا اسماعيل و إسمي مقرون بالمتاعب و الترحيل . اسماعيل الذي ارتحل على أكتاف أمه هاجر فرارا من إضطهاد ساره زوجة أبيه ، اسماعيل الذي تخلى عنه أبوه إبراهيم ، يكرر نفسه في شخصي الضعيف ؛ و لكنني أحاول أن أصنع قدري بيدي هذه المرة .
كانت رحلتي الأولى غصبا عني على ظهر ( حمارة عرجاء ) فرارا من بغي سارة القرن العشرين ، و بعد أن عجز أبو يعرب عن حمايتي و حماية أهلي . و كانت رحلتي الثانية إلى بلاد بترولييت التي لم يعجبها كلامي الكثير و عقلي المستنير ، فطردتني مخابراتها كما طردتني ساره من قبل ؛ أما الآن فإنني أخطط للإرتحال الثالث بمحض إرادتي .
28/3/1978
أخي أبو وضاح
منذ أسبوعين و بينما كنت على أهبة الإستعداد لمغادرة المنزل إلى العمل ، إذا بألم يمتد من الصدر إلى الرقبة فالكتف ، ألم يداهمني فيشل حركتي ، فنقلتني أم أنيس في الحال إلى المستشفى حيث مكثت أربعة أيام في غرفة العناية المركزة .
إنها الجلطة يا صاحبي !
عمري بالضبط خمس و عشرون يوما و شهران و سبعة و أربعون عاما ، أفليس مبكرا أن أصاب بأزمة قلبية ؟
3/8/1978
أخي أبو وضاح
ساءني جدا عدم حضورك إلى دمشق هذا الصيف ، فقد كنت أخطط لقضاء فترة ترويحية برفقتك لا سيما بعد سفر بلقيس و أنيس إلى الولايات المتحدة لزيارة خالهما .
حالتي الصحية لا بأس بها و كما تقول جدتي : (( عمر الشقي بقي)) .
أنا معك يا أخي أن عليّ تخفيف الأعباء و التقيد بعلاج و نصائح الطبيب ، و لكن هدفي بتأمين مستقبل أولادي ينسيني نفسي أحيانا ، و كما قلت لك سابقا فإنني لن أرضَ باقل من مليون ليرة سورية لكل ولد من أولادي كي يبدأ به حياة ناجحة ، و هذا الهدف أضعه فوق كل إعتبار .
و أما عن عصبيتي و توتري الدائم فهو أمر من الصعب التخلص منه لأنه جزء من شخصيتي ، فأنا لا أطيق الإعوجاج و كل ما هو حولي للأسف أعوج .
إنني ضجر و متبرم من كل ما هو حولي ، و كل غلطة يرتكبها قادتنا تستفزني و كل سلوك تخلفي يتورط به مواطنيَّّ يثير أعصابي ، و أملي في رحلة طويلة للإستجمام و العلاج .
13/9/1978
أخي و صديقي أبو الوضاح
أكتب إليك من فندق هلتن في شيكاغو ، بعد استراحة قصيرة من سفرة طويلة شملت الوسط الغربي للولايات المتحدة .
الجالية العربية في هذه المنطقة كبيرة و الكثير منهم من الخريجين الذين يرفضون العودة إلى البلاد .
لقد أصبحت بلادنا منفرة يا صاحبي ، فعندما يتذوق أحدهم طعم الحرية و الحضارة يرفض العودة إلى غياهب التخلف و مجاهل الإستبداد .
صادفت هنا في أمريكا إبن صديقك النصّاب ، الذي نصب عليك و على غيرك ليعلِّم أولاده في بلاد العم سام .
الناس هنا في أمريكا لا يهتمون بالسياسة أو الساسة ، و لا يعرفون شيئا عن بلادنا و مآسيها ، لا يعرفون سوى أننا بدائيون نتنقل فوق الجمال ، و أننا ملكنا ثروة طائلة لا نعرف كيف نديرها ، و أننا دمويون و هواة حروب . و يشبهوننا بالهنود الحمر .
من ضمن المشاريع التي أبحثها هنا ، تأسيس شركة مع بعض العرب الأمريكيين ، تمارس أعمال بيع و شراء و تعمير العقارات ، إضافة إلى الإستيراد و التصدير . أما طموحاتي السياسية فهي إنشاء لوبي عربي ، يقف في وجه اللوبي الصهيوني ، ترى هل أنجح.؟
كل شيء هنا – في أمريكا – مبني على أعمدة ثلاثة : العلم و الجهد و الأرقام ، أنت تعمل إذا أنت موجود ، أنت تملك المال إذا أنت موجود ، أنت متعلم إذا أنت موجود، أنت متعلم و تعمل و تملك رأس المال إذا أنت نصف الوجود .
قابلت هنا عربا محافظين و متزمتين ، و عربا باعوا كل شيء حتى المبادئ و الأخلاق ، قابلت السعداء منهم في حياتهم الزوجية و قابلت التعساء و المطلقين ، قابلت القادر على رعاية أبنائه و كذلك الذي تخلى عن مسؤولياته تجاههم ، قابلت أبناء ظلوا على ولائهم لأهلهم و أبناء تمادوا في عقوقهم ، شاهدت الناجحين منهم و الساقطين .
فالهجرة – يا عزيزي – تحتاج إلى بنيان أخلاقي و علمي و تخطيط مدروس و إلا ضاع كل شيء ، ترى هل أقوى و أولادي على مواجهة ظروف الهجرة ؟ هذا ما يحيرني .
شكرا لتعزيتنا بوفاة والد زوجتي و تهاني الحارة بسلامة ابنك وضاح ، السيارة – يا أخي – تعوض و لكن الإنسان لا تعوضه أموال قارون ، و لقد تعرضت لحادث مماثل حيث دفعني أحد مجانين قيادة السيارات من الخلف فحطم نصف سيارتي الخلفي و قد نجا ولديّ بلقيس و أنيس من الحادث بأعجوبة .
أسباب يأسي تتفاقم و تتعاظم ، ففي السياسة تخبط و تعقيدات ، و جريمة حلب المروعة لا زلنا نعاني من مضاعفاتها ؛ و في حياتنا اليومية يتعمق الفساد الإداري و تنتشر الرشاوى علنا و تتفاقم الفوضى المرورية و ازدحام الشوارع و الضجيج الذي يصم الآذان ،كل شيء من حولي منفر منفر حتى الأعماق .
أما بخصوص الهجرة فقد قدمت كافة الأوراق اللازمة و نحن بانتظار الحصول على البطاقة الخضراء .
و هكذا تراني ماض في مخططي لهجرة جديدة إلا أنها - كما قلت لك سابقا -ستكون بمحض إرادتي هذه المرة ، إسماعيل لن يرحل على ذراع أمه هاجر هروبا من طغيان زوجة أبيه و غفلة أبيه أبو يعرب ، و لن يهاجر إلى أمارة بترولييت طلبا للرزق ثم يطرد منها طرد الكلاب ، اسماعيل سيهاجر هذه المرة على حصان فولاذي من صنع يديه .
الوطن يا عزيزي ليس خبزا و ماء بل هو كرامة و شعور بالآدمية .
أنا معك بأن الفساد و الإنحطاط الأخلاقي سببهما توالي الحروب و وطأة الضغوط الإقتصادية ، فالحروب تدمر العمران و تستنفذ الموارد و تحطم القيم .
نجحت بلقيس في الثانوية العامة أما أنيس فسيحصل عليها في العام القادم و لميس أصبحت في المرحلة الإعدادية أما أدونيس فقد أنهى المرحلة الإبتدائية و ودع زمن المرايل .
تم للأسف بتر ساق محمد شقيق زوجتي و لك أن تتصور مدى معاناتنا و معاناته .
20/6/1979
أخي أبو وضاح
(ذاب التلج و بان المرج) و أخيرا كشف أنور الصاجات ( 16-17) قناعه مظهرا وجهه الحقيقي فبدا قبيحا ، لقد باع القضية ، و بال على بني يعرب و بني يََجرب كذلك ، متناسيا شلالات الدم التي سفكت طوال أربعين عاما ، فضاعت مع خطوته ( التاريخية !!! ) أحلام الوحدة و الحرية إلى الأبد .
أما مشروع صهيون بإيجاد دويلات عربية ضعيفة - يمكن السيطرة عليها - حول إسرائيل ، فقد بدأ يتحقق بفضله و بفضل من دفعه من بني بترول إلى هذه الخيانة .
20/10/1980
فتحت صندوق البريد
ليس فيه غير مغلف وحيد
إنه من مغلفاته
حمّله بطرفاته و غمزاته
و بأعمق الأفكار
و أحدث الأخبار
و بلوذعياته
****
فضضته متمهلا
و لوجهه الصبوح
و خفة الروح
متمثلا
لمحت الرسالة ، أخرجتها
و من ثم بسطتها
فصفعتني حروفها السوداء
كما تصفع الأفنانَ بوادر الشتاء
*****
لقد حملت في طياتها خبر إسماعيل
إنه الرحيل ... الرحيل... الرحيل
فقط تغير المسار
نحو مجاهل الأقدار
فتراقص الكلام المحزون
وراء دمعي الهتون
فلا العزيمة صمدت
و لا الإرادة بقيت
و لا من يريدون .



الشعرة من العجين
قصة قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــ


تعرف عليها في بلد خليجي ، تزوجها ، ثم صحبها معه إلى بلده ، كانت تعمل كسكرتيرة في إحدى الشركات الكبرى ، و كان يعمل مراسلا في نفس الشركة ، كانت متفوقة عليه علميا فهي تحمل شهادة جامعية ، أما هو فلم يتعد المرحلة المتوسطة ، و لكنه يحمل في الوقت نفسه ذكاء متقدا و على الأخص ذكاء إجتماعيا ، جعله محل ثقة رؤسائه في الشركة و ثقة كل من تعامل معه من المسؤولين باسم الشركة .
عاد إلى بلده يحمل هذه الخبرات إضافة إلى مبلغ جيد من المال تمكن من توظيفهما في الحال بافتتاح مقهى ناجحا وسط مدينته السياحية الصغيرة ، سرعانما جذب إليه كبار موظفي المدينة بدءا من رئيس المخفر إلى قاضيها إلى معلميها و حتى أصغر شرطي فيها .
كان يعرف تماما كيف يرضيهم ، و اين و متى يعفيهم من ثمن مشروباتهم ، و أين و متى يقدم لأحدهم الشيشة ( الأرغيلة ) بالتبغ المعسل و هو أقصى ما يمتلكه من تكريم .
كان يدير عمله بنفسه و يشرف على كل كبيرة و صغيرة و قد زين وجهه بابتسامة عريضة دائمة ، فأحبه عماله و زبائنه و كل من تعرف عليه ، و أصبح مقهاه دائم الإزدحام و في جميع المواسم .
و على العكس من ذلك تماما كان سلوكه في بيته ، فقد منع زوجته من الإستفادة من شهادتها الجامعية و خبراتها الوظيفية ، و منعها من الخروج من المنزل أو إقامة أي صلة مع الناس .
و هو بذلك يستغل بعدها عن أهلها و صعوبة وصولهم إليها أو وصولها إليهم .
يصرف على الطعام بسخاء ، و لكنه لا يؤمن بضرورة تجديد الملابس ، ولا يؤمن كذلك بالاحتياجات النسائية كأدوات الزينة أو العطور ، هذه كلها توافه – بنظره - لا يحبها و لا يسمح بصرف درهم واحد على أي منها .
أنجبت له ثلاثة أطفال ، كان يعاملهم بمنتهى القسوة و يعاقبهم لأتفه الأخطاء ، و إن حاولت الدفاع عن أي منهم ، يصب جام غضبه عليها بلسانه البذيء بداية ثم بيده أحيانا .
ثم بدأ يحملها مسؤولية أي تقصير مدرسي يصدر عن أولاده فيعاقبها تماما كما يعاقبهم .
يخلع حزام بنطاله و يبدأ بجلدها أولا ، ثم بجلد المذنب من الأطفال ، تستغيث ، تستنجد ، فلا من مغيث و لا من منجد !
الجيران يسمعون صياحها و لكنهم لا يتدخلون ،
يصغون إلى استغاثاتها باهتمام و لكنهم يتجمدون عجزا ،
قد تتوقف اللقم في حلوقهم إشفاقا ،
قد تزرف نساؤهم الدموع بصمت ،
و لكن ليس أكثر من ذلك .!..
و ذات يوم وردها كتاب من شقيقتها .
لقد توفي الوالد
و خلف لهما منزلا ، باعته و دعتها للحضور لاستلام حصتها .
رفض الزوج السماح لها بالسفر !
أجبرها على كتابة توكيل له ، ثم سافر بنفسه .
قبض النقود ،
و لما عاد وضعها في حسابه !.
تجرأت فاعترضت :
- هذه نقودي يا رجل ، بأي حق تستولي عليها ؟
فخلع حزامه و بدأ بجلدها ..
و لكنها قاومته هذه المرة ...
عضته من يده فأدمتها ...
تناولت المقلاة و ضربته بها فآلمته ..
ثارت ثائرته ..
أمسكها من شعرها ..
و بدأ يضرب رأسها بالجدار ..
استثار المنظر أطفالها ..
فبدؤوا يلقون عليه ما تطاله أياديهم ..
أنقض على كبيرهم فكسر يده !
و دفع ابنته فوقعت أرضا و شج رأسها ..
و عندما أصيبت الزوجة بالإغماء ..
و عندما ازداد صراخ الأطفال و عويلهم ..
و تفاقمت ثورتهم ..
غادر المنزل مهددا متوعدا .
ثم عاد إلى المقهى يوزع إبتساماته .
أما الجيران فكانوا يسمعون صياحها و صراخ أطفالها و لكنهم لا يتدخلون ،
يصغون إلى استغاثاتها باهتمام و لكنهم يتجمدون عجزا ،
قد تتوقف اللقم في حلوقهم ،
قد تزرف نساؤهم الدموع بصمت ،
و لكن ليس أكثر من ذلك !
فقد كُمّت أفواههن ! ...
تجرأت جِنان – و هذا هو اسمها – و غادرت المنزل متوجهة إلى المستشفى .
عالجوا جراحها ..
صوروا دماغها ...
أكد الطبيب أنها مصابة بكسور بالدماغ و بارتجاج في المخ ..
عالجوا كسور ابنها ..
و جروح ابنتيها ..
ثم كتبوا تقريرا بالواقعة ،
و قعه المدير ،
تمهيدا لرفعه إلى النيابة العامة .
حضر مشاري – و هذا هو اسمه – بصحبة أحد كبار المتنفذين إلى المستشفى .
ناقشا مدير المستشفى طويلا ..
ضغطا عليه كثيرا ..
فوافق - تحت الضغوط - على السماح بخروج المصابين على مسؤوليتهم (!)..
و تحت الضغوط سلم مشاري و صاحبه تقريره ، فمزقاه أمام عينيه ..
ثم أمر مشاري أفراد عائلته بالعودة إلى المنزل مرغمين ..
و في اليوم التالي أسلمت جِنان روحها إلى باريها ..
و خرج مشاري من جريمته كما تخرج الشعرة من العجين !!!!!
أما الجيران فضرب كل كفا على كف ..
و هزوا رؤوسهم تعجبا و أسفا و أسى ...
توقفت اللقم في حلوقهم هلعا و ولها ..
و زرفت نساؤهم الدموع ...
و لكن مُنعن من التعبير أكثر من ذلك ...



أطمع بالرئاسة
ق ق ج
ـــــــــــــــــــــ


تعزيزا لسياسة اللامركزية ، أنشأت وزارة التربية وظيفة حارس أول ، أي رئيس لمجموعة حراس لعدد من المدارس المتجاورة ؛ و ما أن علم الحارس خويلد بالخبر حتى هرع إلى مكتب سكرتير المدرسة ، راجيا أن يكتب له طلبا لإشغال الوظيفة الجديدة .
نظر إليه السكرتير متعجبا و قد رسم ابتسامة ساخرة على وجهه ، و هو الذي يعرف أن خويلد محل تندر زملائه الحراس و معلمي المدرسة ، بسبب ملابسة الرثة ، و تعثر نطقه ، و قصر قامته المفرط ، و هيئته العامة التي توحي بأنه معوق إعاقة ما ؛ فسأله : " لماذا ترغب بالوظيفة يا خويلد فهي مسؤولية جسيمة صعبة عليك ؟ " فأجابه ضاحكا : " أطمع بالرئاسة يا أستاذ ؟! "




المتشردة
أقصوصة واقعية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ



لدى بلوغه الدرجة الأخيرة من السلم لفت نظره سيدة مكومة فوق مقعد في شرفة جاره الأرضية ، كانت ترتعش بردا و في يدها لافتة صغيرة فوق قطعة متهالكة من الورق المقوى ، كتبت عليها " هوملس Homeless " أي بدون مأوى ، فأثارت فضوله .
ألقى عليها تحية الصباح ، فردت التحية بصوت مرتجف ،
ثم ...
طلبت منه راجية ما يقيها هذا الصقيع ..
و لكن من أنت ؟ سألها مستغربا ، فأجابته :
- أنا مطرودة ، طردني أولادي الثلاثة بما فيهم ابنتي التي تعيش في هذه الشقة ، و لم أجد مكانا أبيت فيه لأتقي هذا البرد القارس سوى شرفتها !!
هز رأسه تألما و عجبا ،
ثم ...
أحضر لها غطاء صوفيا ،
ثم ...
هرع إلى سيارته !
عند عودته من الدوام صادف جارته فعاتبها لائما حول ما كانت عليه حالة أمها صباحا ، فأجابته و قد ترقرق الدمع في عينيها :
- نعم ، هي والدتي ، و لكنها ابتليت بإدمان الخمرة ، و وقاية للأطفال طردها زوجي ، و كذلك فعل أخواي ، و خاصة بعد أن فرت مرارا من مؤسسة إعادة التأهيل ، و بعد أن قبض عليها بتهمة التسول أكثر من مرة !



هروب جارية
قصة قصيرة :
ــــــــــــــــــــــــــ


فرحت آبوا ( و هذا هو اسمها ) و ابتهج والداها و إخوتها الثمانية ، عندما استدعاها مكتب التخديم في مدينتها الصغيرة ، ذلك أن "آبوا" سوف تنتشلهم جميعا من مستنقع الفقر الذي يعيشون .
<< عليك أن تستعدي خلال ثلاثة أيام >> أمرها بذلك مدير المكتب ؛ جميع أفراد الأسرة – من ثم - جندوا أنفسهم لإتمام استعداداتها ، ثم جاءت لحظة الوداع ، عناق و دموع ، ثم إلى الطائرة ، ثم إلى مضارب بني يعرب .
استقبلها مخدومها بترحاب و كذلك ربة البيت و ولديها الفتيين فوزية و حمد، أما بقية الأبناء و البنات – و هم من جميع المقاسات - فلم يكترثوا .
"آبوا" ، كانت فتية و شعلة من النشاط و الذكاء مع مسحة من الجمال ، و قد تمكنت بسرعة من تعلم بعض الجُمل العربية لإحتياجاتها اليومية ، و كذلك استطاعت إرضاء الجميع فأحبوها و أحبتهم .
و لكن ...
ذات ليلة ، تسلل إلى فراشها بكر الأسرة المراهق ..
كمَّ فمها ، حاصرها بذراعيه القويتين ، ثم مارس فعلته الشنعاء !
تألمت كثيرا ،
بكت كثيرا ،
و لكنها أجابت بالصمت المطبق كل من حاول سؤالها عن سبب بكائها ،
<< لعلها حنَّت لأهلها ؟! >> قالت ربة البيت ، فكفوا عن سؤالها ..
و ذات ليلة أخرى ، تسلل حمد – ثانية – إلى فراشها ،
كمَّ فمها ، حاصرها بذراعيه القويتين ، ثم مارس فعلته الشنعاء !
تألمت أكثر ،
بكت أكثر ،
و لكن ...
أحدا لم يأبه لبكائها هذه المرة ..
ثم تتابعت ممارساته و استمرت "آبوا" صامتة ، و لكن حزينة ، تعيسة ، و كسيرة الخاطر ...
و لكن ...
بعد مائة يوم أو تزيد ظهرت عليها أعراض الحمل ..
أكد ذلك الطبيب الذي جرتها إليه أم حمد !
ثم خضعت "آبوا" إلى تحقيق وحشي ، ابتدأته أم حمد و شاركتها به ابنتها فوزية ....
و بين كل وجبة تحقيق و أخرى ، كان حَمَد يتقدم من أذنها مهددا بالويل و الثبور و عظائم الأمور ، إن هي زل لسانها بتصريح أو تلميح .
<< لا بد أنه أحدٌ من الشارع ، قد يكون القمّام و قد يكون سائق الجيران >> قالت ذلك أم حمد ثم قررت أمرا :
<< هذه العاهرة ، يجب أن نجهضها قبل أن تفوح رائحة الفضيحة >>
و ابتدأت أم حمد - من بعد – سلسلة من الإجراءات الأكثر وحشية ، سعيا وراء إجهاض "آبوا" ، و تم لها ذلك !...
ما أن أبلَّت آبوا من آثار الإجهاض و التعذيب ، حتى قررت أمرا .
كانت قد طلبت من ( أبو حمد ) أن يعيدها من حيث أتت ، فسخر منها قائلا : << و النقود التي دفعناها لمكتب التخديم ؟ و المال الذي بذلناه لتذكرة سفرك ؟ و الرواتب التي أرسلناها لأهلك ؟! >> ثم أضاف مذكرا << كان علينا أن نسلمك للشرطة بعد فعلتك الشنعاء و لكننا لم نفعل إشفاقا عليك ! و لكن يبدو أنك عديمة الوفاء و لا تستحقين الشفقة !! >> ثم أضاف منذرا << إسمعي يا بنت ، جوازك في عهدتي و روحك في يدي ، عودي إلى مطبخك في الحال قبل أن يشتعل غضبي ! >>
و في ظهيرة اليوم التالي و بينما كان أبو حمد في عمله ، و أم حمد و ابنتها فوزية تنالان قيلولتهما ، و الصغار في مدارسهم ، تسللت "آبوا" من الدار ، تتقاذفها الشوارع على غير هدى !
كان الجو قائظا ، و بداية عاصفة رملية أخذت تلوح في الأفق...
تعبت ...
كلت قدماها ...
أُرهقها التجوال بلا طائل ..
بدأت قواها تخور ..
و بدأت تشعر بالدوار،عندما لمحت مبنى مخفر الشرطة ،
فتماسكت و اتجهت نحوه في الحال ،
و لكن ..
ما أن إبتدأت باجتياز الشارع ، حتى حاصرتها سيارتان ..
توقفتا ..
نزلت من الأولى أم حمد و جارتها أم سليمان ،
و نزلت من الأخرى فوزية و صديقتيها نورا و لولوة ؛
توقفت حركة المرور ..
بدأت أبواق السيارات تعوي ، و إشرأبت الأعناق من نوافذها ..
أما النسوة الأشاوس فقد حاصرن "آبوا" ..
حاولت الإفلات ....
أمسكتها أم حمد من شعرها الطويل ثم جرتها قسرا إلى سيارتها ..بينما كانت الأخريات يتناوبن على صفعها و ركلها ..
تجمهر بعض المتطفلين ...
ضحك بعضهم لطرافة المشهد ....
انتبه رئيس المخفر لصخب الشارع ، فوقف بجوار النافذة يستطلع ...
ما أن شاهد أم حمد و قد إنحسرت عباءتها فحملتها بيد بينما جرت المسكينة من شعرها بيدها الأخرى ، حتى ضحك بدوره لطرافة المشهد !!!!


صبرا
قصة :
ـــــــــــــــ



الزمان : العاشرة من صباح الرابع عشر من أيلول( سبتمبر) 1982
المكان : نقطة تفتيش إسرائلية في شارع المزرعة في بيروت المحاصرة .
محمود و أفراد عائلته يتوجهون نحو حي صبرا بسيارتهم الخاصة
- هوياتكم .
يقول الإسرائيلي بالعربية ( المكسرة ) ، ثم يضيف :
- كيف سمحوا لكم بالمرور؟
يجيبه محمود :
- مررنا خلال سبعة حواجز و كلهم سمحوا لنا بالمرور ..
- من أين أتيتم ؟
- من الجبل ...
يتناول الجندي هاتفه اللاسلكي ، يرطن بالعبرية لفترة ، ثم يلتفت إليهم قائلا :
- أنتم رهن الإعتقال !
يصرخ الأطفال ، تمد أمهم رأسها محتجة :
- و ماذا فعلنا ؟
يشهر رشيشه ( العوزي ) في وجهها و يأمرها :
- إخرسي و سدي أفواه أولادك ، و إلا ثقبت رأسك و رأسهم ..
التفتت إلى زوجها لائمة و هي ترتعش هلعا :
- ألم أقل لك أن الأمور لن تهدأ قبل الإنسحاب الإسرائيليي ؟
- ما يدريني ؟ أجابها هامسا . ثم أضاف غاضبا بصوته الخافت:
- المقاتلون انسحبوا بحراسة الأمم المتحدة ، و السوريون كذلك ، و قالوا أيضا أن اسرائيل تعد للإنسحاب بدورها ؛ و الأهم أن نقودنا استنزفت كلها في الجبل ، و أبو خولة صاحب البيت رفض أن يمهلنا يوما واحدا ...
فهل كان أمامنا غير المجازفة؟؟؟!! ، ثم أضاف أيضا بصوت متهدج :
- سبعة حواجز اجتزناها بدون أي إشكال فما بال هذا المتعجرف يخالفهم ؟!!
تبكي الزوجة و تهمس مرتعشة :
- ( الله يجيب العواقب سليمة )
سيارة مصفحة خفيفة تقلهم إلى عمارة محتلة في حي الطريق الجديدة .
يحشرونهم في غرفة صغيرة ...
الأطفال لم ينفكوا عن البكاء ، جاعوا .. عطشوا .. بالوا على على أنفسهم ...
محمود و زوجته تكاد مثانتَيهما تنفجران ...
رجوا الحارس مرارا أن يسمح لهم بالذهاب إلى دورة المياه و لكنه رفض بغلظة ..
الزمان : الحادية عشر من صباح الرابع عشر من أيلول( سبتمبر) 1982
المكان : نقطة تفتيش إسرائلية في شارع المزرعة في بيروت المحاصرة .
- هوياتكم .
يقول الإسرائيلي بالعربية ( المكسرة ) ، ثم يضيف :
- كيف سمحوا لكم بالمرور؟
يجيبه عنتر :
- مررنا من خلال عشرة حواجز و لم يمنعنا أحد .
- من أين أتيتم ؟ من دمشق ، و قبلها كنا في تشيكسلوفاكيا في رحلة استشفاء.
- هل أنتم من هنا ؟
- لا أبدا ، أنا أعمل موظفا في الكويت ، و تركنا أطفالنا عند خالهم في مخيم صبرا ، و جئنا الآن لنأخذهم بعد أن هدأت الأوضاع لنعود بهم من ثم إلى مقر عملنا .
يتناول الجندي هاتفه اللاسلكي ، يرطن بالعبرية لفترة ، ثم يلتفت إليهما قائلا :
- أنتم رهن الإعتقال !
- يا أخ ، يبدو أنك مخطئ ، نحن لم نكن هنا منذ آذار(مارس) ، و نحن لا نتدخل بالسياسة ، نحن جئنا فقط لاصطحاب أطفالنا و العودة بهم إلى مقر عملنا في الكويت.
يشهر رشيشه ( العوزي ) في وجهه و يأمره :
- إخرس ( وَلا ) ، و إلا ثقبت لك رأسك ..
يأمره و زوجته بالترجل ، ثم يأمر سائق التاكسي بالعودة من حيث أتى ..
سيارة مصفحة خفيفة تقلهما إلى عمارة محتلة في حي الطريق الجديدة .
يحشرونهما في غرفة صغيرة ...
عنتر و زوجته تكاد مثانََتيهما تنفجران ...
رجيا الحارس مرارا أن يسمح لهما بالذهاب إلى دورة المياه و لكنه رفض بغلظة ..
يتوجه محمود إلى غرفة المحقق :
- أنا يا حضرة الضابط ، معلم في مدرسة المخيم الإبتدائية و لا شأن لي بالسياسة ..
- إجلس و لا تخشى شيئا ، نريد منك معلومات ، فقط معلومات ..
- أية معلومات ، أنا و عائلتي ، غادرنا المخيم منذ بدء الحوادث ، فأية معلومات تريدها مني ؟
أجابه آمرا :
- أنا من يطرح الأسئلة و أنت فقط تجيب ، ثم وقف بعد أن أشعل سيغارته و بدأ يطرح أسئلته :
- كم معلم في مدرسة المخيم الإبتدائية و كم موظف ؟
- ماهي أسماؤهم ؟
- أين يسكنون ؟
يهمس محمود في سره " و ما شأنه بالمعلمين و مساكنهم ؟ "
- من تعرف من المثقفين ؟ أعني أطباء ، مهندسين ، محامين ، كتاب ، صحافيين ..
و يتساءل محمود في سره " و ما شأنه بالمثقفين ؟ "
يرجعونه إلى حيث أسرته ، لقد منّوا عليهم أخيرا فأحضروا لهم دلواً !
و في فجر اليوم التالي سمحوا للأسرة بالذهاب إلى المخيم مشيا على الأقدام ، بعد أن صادروا السيارة و الأمتعة.
يتوجه عنتر إلى غرفة المحقق :
- أنا يا حضرة الضابط موظف بالكويت ...
يجيبه المحقق بغلظة :
- أعرف ذلك ، و لا شأن لك بالسياسة ، أعرف ذلك ، و لست و أمثالك من يغذي المخربين بالمال و تقدمون لهم 5% من رواتبكم ، أعرف ذلك ، و أعرف أنك مخرب مثلهم ..
- أبدا و الله .. أنا لا أتدخل بالسياسة و لا شأن لي بالمنظمات ، و التبرع إن هو إلا ضريبة لمنظمة التحرير ..و هي بمثابت حكومتنا نحن الفلسطينيون ...
يجيبه بغلظة :
- تقصد منظمة المخربين ؟؟!! على أي حال نحن لا نريد منك سوى معلومات ، و يبدأ من ثم أسئلته :
- من هو خال الأولاد ؟؟
- ما هي مهنته ؟
- كم عدد أولادك ، أعمارهم ، عدد أولاده ، أعمارهم ؟
- من هم أقاربك في المخيم غير خال الأولاد ؟
- أين يسكنون
- من هم المثقفون منهم ؟
- ماهي وظائفهم ؟
و في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي سمحوا لعنتر و زوجته بالذهاب إلى المخيم على الأقدام ، بعد أن صادروا أمتعته .
دبابات الميركافا و العربات المصفحة تملأ الشوارع ، و تسد جميع المنافذ ...
يصلون إلى مخيم صبرا ...
يسمح الجنود الإسرائليون لمحمود و زوجته و أطفاله بالدخول إليه ، ثم لعنتر و زوجته ثم لآخرين ، و لكنهم يمنعون أيا كان من مغادرته ...
تتساءل جمانه زوجة محمود و قد حملت على ذراعها أصغر أطفالها ذو الثلاث سنوات :
- كيف يشيعون أنهم يعدون العدة للإنسحاب ؟ هل هذا منظر من يريد الإنسحاب ؟
يجيبها و هو يلهث و قد حمل فوق ذراعه ابنه الأوسط ذو السادسة من عمره ، و جر بيده ابنته ذات العشر سنوات :
- لقد اختلطت الأوراق يا جمانه و لم أعد أفهم شيئا ، إنسحاب الدوليين بسرعة أثار و يثير في رأسي عشرات الأسئلة ، ترى هل قررت إسرائيل احتلال لبنان كله و بتواطئ دولي و صمت عربي ؟
أجابته خائفة :
- ( ربنا يجب العواقب سليمة )
يصل عنتر و زوجته إلى دار أخيها ، تقرع الباب ، يصيح أكبر أبنائهما ، بابا و ماما حضرا ، يتبادلون العناق و القبل و تغتسل وجوههم بالدموع ، يلتصق بهما أطفالهما الأربعة و أطفال أخيها الخمسة
- لقد صادروا كل ما نحمل بما في ذلك الهدايا ، قالت سمية فيجيبها أخوها :
- عودتكم سالمين أغلى هدية .
في بناية إحدى السفارات الخليجية حولوها إلى مقر قيادة ( سلام الجليل ) ، أمر شارون بتنظيف المخيمات من بقايا المخربين ، ثم صعد إلى سطح السفارة ليتابع بداية التنظيف. و كان قد قال لأعضاء مجلسه الحربي من ضمن ما قال : " كدنا نصل إلى القاهرة و منعونا من دخولها ، و كدنا نبلغ دمشق ، و منعونا من دخولها ؛ و لكنهم أعطونا الضوء الأخضر لبلوغ بيروت و ها نحن في قلبها ، و هذه هي فرصتنا الذهبية لتنظيف بيروت و المخيمات من بقايا المخربين ، و أقول لكم لا ترحموا أحدا و خاصة لا ترحموا المثقفين ، فهم محركات الشر ، لقد قتل المخربون الرئيس اللبناني المنتخب أمس و كان حليفنا و من أكثر المتفهمين لظروف إسرائيل و اضطرارها إلى غزو لبنان ، و يجب أن نثبت لأتباعه المكلومين أننا معهم و أننا سنساعدهم في انتقامهم الكبير " .
الزمان الساعة الواحدة من ظهر الخامس عشر من أيلول
المكان مخيم صبرا
جنود أسرائيليون بملابس الميدان التي نزعوا عنها أية إشارة تدل على أنهم إسرائيليون ، .يتسللون بمجموعات صغيرة إلى داخل المخيم .
قرع أحدهم باب محمود السلفيتي
- أنت محمود السلفيتي ؟ أنت معلم في مدرسة المخيم الإبتدائية ؟
- نعم أنا ماذا تريدون مني ؟
يجيبه أحدهم بطلقة يوجهها نحو صدغة
يصرخ أطفاله مذعورين ، تولول أمهم مستغيثة ، تشاهد نساءً و أطفالاً يَجرون نحو أحد المخارج ، تمسح دموعها ثم تجر أطفالها راكضة وراءهم ..
جنود آخرون بدؤوا يقرعون الأبواب ...
ينادون على صاحب الدار باسمه ....
يتقدم صاحب الدار مستفسرا ...
يجيبونه بطلقة في راسه ..
يصرخ الأطفال ، تولول الأمهات ، يقفون أمام جثث ذويهم عاجزين ، تجر الأمهات أطفالهن ثم يتوجهون جميعا نحو مخارج المخيم ...
و خلال ساعتين تم تنظيف المخيم من حوالي مائة من مثقفيه ، ثم انسحبوا .
الزمان الساعةالثامنة من مساء الخامس عشر من أيلول
المكان مخيم صبرا قرب سوق الخضار
تحرك عنتر عوض الله و زوجته و أطفاله و خالهم و أفراد أسرته مستثمرين فترة الهدوء و هبوط الظلام ، تحركوا باتجاه المستشفى ، فقد تراءى لهم أنه أكثر الأماكن أمنا ، و قبيل بلوغهم هدفهم أضاءت السماء بشعلات الإستكشاف ، ثم بدأت تتساقط فوقهم و من حولهم القذائف ، و ما لبثوا أن تكدسوا فوق بعضهم بعضا بين قتيل و جريح .
و قد انصهر في بوتقة الكمنسانيا الجديدة حوالي ألف مدني أعزل معظمهم نساء و أطفال و شيوخ ، بين قتيل و جريح ! .
هذا و قد سمحت الأنظمة العربية بتعليق الرايات السوداء فوق شرفات البيوت تعبيرا عن حزن الجماهير
و هي كذلك لم تعارض إشعال الشموع قرب النوافذ ، ليلاً !


يا جارتي الحلوة
ق ق ج :
ـــــــــــــــــــــــ



هي أغنية حوارية حققت نجاحا غير مسبوق منذ لحظة إذاعتها بالتلفزة ، و انتشرت بسرعة انتشار النار في الهشيم ، قدمتها المطربة المحبوبة سهام غريب ، مع المغني الشهير سامر عطا لله .
إلا أن شخصا واحدا لم يكن مرتاحا لهذا النجاح ، إنه نجوان الحياني زوج سهام ...
<< أنا مؤلف الأغنية و ملحنها ، و أرجو بل ألح في رجائي ، أن توقفوا إذاعتها فورا ، لأنني أرغب بأدائها مع زوجتي ، فأنا أحق من غيري بأدائها معها ! >> قال ذلك للمدير العام و هو في حالة يرثى لها من الإنفعال ؛ إلا أن المدير رفض طلبه قائلا : << هذه الأغنية انتهى أمرها ، بإمكانك أداء غيرها مع زوجتك مستقبلا ...>> .
في الأيام التالية شوهد نجوان الحياني يتنقل بين مكاتب موظفي إدارة التلفزة ، مرددا بشكل هستيري :
- أنا مؤلف "يا جارتي الحلوة" و ملحنها ...
أنا أولى بالشهرة من سامر عطا الله ...
أنا أحق منه بأدائها مع زوجتي ....
لقد تجاهلت الإدارة اعتراضي .....
و حتى زوجتي لم تحتمل غضبي ، فغادرتني إلى بيت أهلها ...
الكل ضدي ........
مع أ نني مؤلف" يا جارتي الحلوة" و ملحنها !!!


يا جارتي الحلوة
أقصوصة :
ــــــــــــ


هي أغنية حوارية حققت نجاحا غير مسبوق منذ لحظة إذاعتها بالتلفزة ، و انتشرت بسرعة انتشار النار في الهشيم ، قدمتها المطربة المحبوبة سهام غريب ، مع المغني الشهير سامر عطا لله .
إلا أن شخصا واحدا لم يكن مرتاحا لهذا النجاح ، إنه نجوان الحياني زوج سهام ...
<< أنا مؤلف الأغنية و ملحنها ، و أرجو بل ألح في رجائي ، أن توقفوا إذاعتها فورا ، لأنني أرغب بأدائها مع زوجتي ، فأنا أحق من غيري بأدائها معها ! >> قال ذلك للمدير العام و هو في حالة يرثى لها من الإنفعال ؛ إلا أن المدير رفض طلبه قائلا : << هذه الأغنية انتهى أمرها ، بإمكانك أداء غيرها مع زوجتك مستقبلا ...>> .
في الأيام التالية شوهد نجوان الحياني يتنقل بين مكاتب موظفي إدارة التلفزة ، مرددا بشكل هستيري :
- أنا مؤلف "يا جارتي الحلوة" و ملحنها ...
أنا أولى بالشهرة من سامر عطا الله ...
أنا أحق منه بأدائها مع زوجتي ....
لقد تجاهلت الإدارة اعتراضي .....
و حتى زوجتي لم تحتمل غضبي ، فغادرتني إلى بيت أهلها ...
الكل ضدي ........
مع أ نني مؤلف" يا جارتي الحلوة" و ملحنها !!!


الحمام العسكري
قصة :
ــــــــــــــــــــ


الشيخ خالد ، في الأربعينيات من عمره ، متزوج من إثنتين و مطلق لإثنتين و له منهن جميعا عشرة أبناء و بنات و هو اليوم أحد قضاة المدينة المشهورين .
زامل كلا من عبد الباقي و حقي و رمزي و رؤوف ، في مكتب عنبر و هو المدرسة الثانوية الوحيدة في مدينة دمشق أيام العثمانيين ، ثم ما أن حصلوا على الشهادة الثانوية العامة ( الباكالوريا ) حتى فرقتهم الأيام ، فاتجه رمزي إلى جامعة بيروت الأمريكية حيث درس فيها الأدب العربي و الصحافة ، ، و اتجه الباقون إلى كلية الحقوق بدمشق ، إلا أن رؤوف لم يتمكن من المواصلة لأسباب عائلية.
أما عبد الباقي و حقي فقد واصلا دراسة المحاماة حتى تخرجا ، ثم مارسا عدة مهن مرتبطة بوزارة العدل و في عدة محافظات إلى أن تمكنا من تأسيس مكتب للمحاماة مستقل كل على حدة ؛ بينما توجه خالد إلى جامعة الأزهر في مصر .
و بينما تنقل خالد بين عدة مناصب قضائية إلى أن استقر بدمشق ، فإن رمزي اتجه إلى الصحافة حيث اشتهر ككاتب العمود الرئيسي الساخن في جريدة الزمان ثم مديرا لتحرير جريدة الفجر الجديد .
و نظرا لموقع عبد الباقي الحساس في ساحة الشهداء ( المرجة ) فقد التأم شملهم من جديد فكانوا في كثير من الأمسيات و خاصة منها مساء الخميس يجتمعون هناك ، فيتناقشون في أمور الساعة السياسية منها أو الإجتماعية و القضائية، فكانت في حقيقتها ندوة ثقافية متواصلة يغذيها كل منهم بخبراته العريضة .
أما خالد فكان حضوره إلى الندوة قليلا فلذا كان الترحيب به عادة فوق المألوف ، كانوا ينادونه أحيانا الشيخ خالد و أحيانا الأستاذ خالد ، أما الآخرون فاكتفوا بلقب الأستاذ أو بدون ألقاب غالبا .
كانوا جميعهم يعاملون الشيخ خالد بمنتهى الإحترام ، فكان ما أن تطأ قدماه غرفة المكتب حتى ينهض الجميع مرحبين ، فيهرع - حامد ساعي - المكتب لتناول عمامته ( لفته ) و جبته فيعلقهما على المشجب ؛ ثم يحيي الشيخ خالد الجميع و يجلس إلى أقرب مقعد من الأستاذ ؛ ثم يكرر تحية كل من الموجودين ثانية فردا فردا ، ثم لا يلبث أن يطلب الشاي من حامد إذا كان الموسم شتاء أو ( العرقسوس المثلج ) إذا كان الموسم صيفا .
و كثيرا ما كان يحتدم النقاش حول المستجدات السياسية أو الإحتماعية فيتخذ كل من خالد و رؤوف جانب التعليل الديني بينما يتخذ كل من رمزي و حقي التعليل العلمي ، أما عبد الباقي فكان تارة ينافح مع الشيخ و تارة مع الصحافي وفق مايراه حقا ، و كانت الأصوات ترتفع و العروق تنتفخ و الوجوه تشتعل ، ثم يتدخل راشد سكرتير المكتب بنكتة أو طرفة تناسب أو لا تناسب المقام ، أو يصدر منه تعليق يشير إلى سطحية تفكيره فهو لم يتجاوز في تعليمه شهادة ( البروفيه أو الكفاءة ) ، فتنفرج الشفاه المتعبة و تنبسط الجباه المقطبة و يتحول الجدال إلى موجة من الضحك تمحي كل أثر لأي تجاوز كلامي صدر من هذا أو ذاك.
كان الشيخ خالد – و يؤازره في ذلك رؤوف – كان يعتبر الثورة العربية الكبرى خيانة و تواطؤا مع الأجانب ، و يعتبر الداعين إلى تحرير المرأة مارقين و زنادقة ، أما إذا تطرق الحديث إلى نظريات التطور كنظرية < دارون > فإن قيامة الشيخ تقوم ، فيرغي و يزبد و يثور و يفور و يتوعد بعظائم الأمور ، و يبدو أحيانا و كأنه سينقض وشيكا على زميليه رمزي و حقي ليعمل فيهما تهشيما بأسنانه أو قبضة يده .
في حين يعتبر الأستاذ رمزي وضع المرأة الحالي ضربا من العبودية و أن ثورة الشريف حسين كانت ضرورة ، لولا جهله و أبناؤه خوافي السياسة و شباكها ، تجاه أدهى شعوب الأرض من عتاة السياسة البريطانيين ، فحالفوهم ، فكان تحالفا غير متكافئ ، و جعلهم < مكماهون > ألعوبة بين يديه و أضحوكة التاريخ ، ثم إندفاع الناس وراء الشريف حسين لأن العثمانيين أرادوا في أواخر عهدهم طمس الهوية العربية .
سأل رمزي صديقه خالد - ذات يوم - في معرض نقاشهما حول وضع المرأة الإجتماعي :
- شيخي ، أنت مجرب لتعدد الزوجات ، ألا تشعر أنك ارتكبت خطأ أو مظلمة ؟
- حاشا لله ، يا رمزي ، أنا لم أخالف أوامر ربي قط ، و زواجي بأكثر من واحدة من حقي الشرعي.!
- و لكن الشرع يقول : وإن خفتم ألا تعدلوا – و لن تعدلوا – فواحدة !
- هل نسيت أنني قاض ، و أن القضاء مرتبط بالعدل ، يا أستاذ ؟ .
- و الأولتان ألم تظلمهما ؟
- أبدا و الله ، الأولى كانت متعلقة بأهلها ، و اكتشفت أنها تزورهم من وراء ظهري ،
و أنا اؤمن بأن المرأة لها خرجتان ، الأولى من بيت أهلها إلى بيت زوجها ، و الثانية من بيت زوجها إلى القبر . و لما اعترفت بفعلتها الشنيعة ، طردتها ثم أرسلت لها ورقة طلاقها .
- و الثانية ؟
- الثانية كانت مريضة بداء الفشل الكلوي وأهلها أولى بعلاجها ، و هي حتى اليوم قيد العلاج ، فإن أبلّت من مرضها فيا مرحبا بعودتها !
هز رمزي رأسه استنكارا و أسفا ، ثم قال منزعجا و لكن بلطف :
- أليس هذا ضربا من الإستعباد بربك ؟
أجابه خالد بغضب :
- أنت تحمل السلّم بالعرض يا رمزي ، و تحاول أن تسبح ضد التيار ، و أفكارك علمانية يسارية ، فاحتفظ بها لنفسك !
و في مناسبة أخرى سأله حقي ، و هو يغمز بعينه :
- بربك ، ألا تميز إحدى زوجتيك عن الأخرى ؟
فابتسم الشيخ خالد ، ثم أجاب بكل ثقة و جدية :
- أبدا ، و إن كنت مفتونا بصغراهما .
- هذا هو الظلم بعينهّ !
- أنا قلت مفتونا بها و لم أقل أني أميزها ، تلك عاطفة أكنها في أعماق أعماقي ، و لم أظهرها قط خاصة أمام الأخرى .
- هذا تهرب من الواقع – شيخي - ، فلا بد لعاطفتك الخاصة هذه أن تظهر في شكل ما ، مهما ألبستها من أقنعة !
- صدقني أنك على خطأ ، فالكبرى بينهما تتفانى في خدمتي و إرضائي !
- لأنها تستشعر الخطر ، يا شيخ خالد .
و لم تستمر المناقشة طويلا ، فقد اعتبر خالد – عندما أُفحمه حقي - أن الأمر خوض في الخصوصيات يرفض متابعته .
و ذات يوم أعلن عبد الباقي أنه اشترى سيارة خاصة ، فهلل الأصدقاء و كبروا ثم طالبوه بضرورة تدشينها ، فوعدهم بذلك حالما يتقن القيادة .
و كان ....
ففي أحد أيام الجمع و بعيد إنسحاب الفرنسيين من سوريه مرغمين ، عبرت سيارة عبد الباقي الحدود السورية اللبنانية فتجاوزت سهل البقاع ثم تسلقت جبل "الكنَيْسة فضهر البيدر" ثم هبوطا في طريقها إلى بيروت .
كان الشيخ خالد إلى جوار عبد الباقي ، بينما جلس الآخرون على المقعد الخلفي ، و اتضح أن رمزي يحمل إلى جانب مواهبه الأخرى صوتا رخيما شنف به أسماع الثلة طوال الطريق .
و كان الشيخ خالد أكثرهم شعورا بالطرب ، فكان يصيح بعد كل سحبة أو بعد كل نقلة من مقام إلى مقام :
- الله الله يا أستاذ ، أزدنا طربا ، أزادك الله من نعمائه !
كانت المحطة الأولى هي الجامعة الأمريكية ، فما أن أبرز رمزي بطاقته كخريج منها لمسؤول المكتب المختص ، حتى سمح له بالدخول و صحبه ؛ و هناك تجولوا في ساحاتها الرحبة و ملاعبها و حدائقها المتدرجة نزولا حتى البحر على رقعة من الأرض تعادل مساحة بلدة صغيرة أو حي كبير ، و قد لفتت أنظار الجميع أشجار باسقة غير مألوفة تتوزع هنا و هناك و أزهار رائعة لم سبق أن رؤوا مثلها ، مستقدمة من جميع أنحاء العالم و قد كتب على لوحات نحاسية أمام كل منها إسمها العلمي و عمرها و المنطقة التي تشتهر بها ، ثم ولجوا من النفق المبني تحت الشارع الساحلي لينفذوا مباشرة إلى شاطئ صخري هُيَّء ليكون صالحا لرياضات السباحة و التجديف .
كان رؤوف لدى مشاهدته السابحين و السابحات سواء بمسبح الماء الحلو الكبير أو مسبح الماء المالح على البحر مباشرة ، كان في غاية الاضطراب و الخجل محاولا أن يغض بصره ما أمكن و لكن دون جدوى ؛ أما الشيخ خالد الذي ترك عمامته و جبته في السيارة بحجة الحر و إرتفاع نسبة الرطوبة ، فقد كان في غاية الإنشراح و الحبور ؛ و بينما كان رؤوف يستغفر ربه و يتعجل العودة كان الشيخ خالد هادئا فلم تتحرك شفتاه بأي تعليق.
ثم عاد بهم رمزي إلى مجمع المباني الجامعية مشيرا إلى أسمائها و تخصصاتها و إذ اقترب من مبنى كلية الآداب حيث سلخ خمس سنوات من عمره يدرس فيه، تقدمت منه فتاة عرّفت نفسها بأنها رئيس اتحاد طلاب الجامعة ، ثم دعته - باسم الاتحاد - و صحبه لتناول القهوة في كافيتيريا الكلية.
و هناك كانت المفاجأة، فقد اقتيدوا إلى إحدى القاعات حيث دبر اتحاد الطلاب اجتماعا عاجلا شارك فيه بعض الأساتذة ممن درّسوا الأستاذ رمزي، إضافة إلى مدير الكلية و بعض المساعدين .
فما أن دخلوا القاعة حتى علا التصفيق ، ثم قام مدير الكلية بإلقاء كلمة رحب فيها بالضيوف و حيّى على الأخص الأستاذ رمزي الحمصي كأحد مؤسسي إتحاد طلاب الجامعة الأمريكية و أحد أبرز متفوقيها و الحاصل على عدة شهادات شرف ، و بصفته أيضا صحافيا ناجحا تُدرَّسُ في أحد صفوفها مقالاته السياسية و الإجتماعية و الأدبية ؛ كان الموقف مثيرا للعواطف ثمّنه الأستاذ رمزي عاليا في كلمته التي ارتجلها ردا على الحفاوة به و بصحبه.
كان الأصدقاء في حالة دهشة فقد كشف الموقف جانبا مشرقا و مشرفا عن صديقهم رمزي كانوا يجهلونه ، و التفت عبد الباقي فجأة نحو الشيخ خالد فسأله هامسا :
- كيف ترى الأمور شيخي ؟.
فأجابه بعد بعض تلكؤ :
- إنها بادرة طيبة ، و يبدو أنهم يقدرون خريجيهم ، و أتصور أن بادرة مثل هذه ستمنح صديقنا رمزي ، دفعة قوية نحو مزيد من التقدم و الإبداع ، و لكن .!!!!......
فضحك عبد الباقي معلقا :
- دوما هناك " و لكن !!!! "
فأجابه و قد قطب جبينه :
- أجل ؛ هناك ( لكن) و( لكن كبيرة ) يا عبد الباقي ؛ فإن جو الاختلاط و الحرية الذي رأيناه هنا ، لا يتناسب مع قيمنا الدينية و المؤسف أنه يجري على أرض إسلامية ، و قد رأينا فتيات شبه عاريات في المسابح ، و فتيات تلعبن التنس بملابس تكشف عن أفخاذهن ، و فتيات تأبطن أذرع زملائهن ، و تلك المسماة ، رئيس اتحاد الطلاب ، وقفت على المسرح و قد ظهر ساقاها إلى ما فوق الركبتين ، ثم إن هذه الجامعة إن هي إلا صرح تبشيري رضينا أن نشاهده حبا بالإستطلاع ، و لكن ما كان علينا المشاركة في نشاطاته ؛ لقد أقحمنا صاحبنا رمزي في ذلك كله سامحه الله.
أجابه عبد الباقي معترضا :
أولا : رمزي لم يخطط لكل هذا و قد فوجئ كما فوجئنا !
ثانيا : لبنان - يا شيخ خالد - ليس بلدا إسلاميا ، إنه لوحة فسيفسائية نادرة تشكلها جميع ما عرفه شرقنا الأدنى من أطياف عقائدية .
ثالثا : هذا الصرح التبشيري خرّج المئات من المثقفين أمثال رمزي ، بينما لم تنشئ لنا الخلافة العثمانية طوال أربعمائة سنة من حكمها لبلادنا ، غير كلية الحقوق بدمشق !
رابعا : يا سعادة القاضي ، لقد عرضت لتوك شرحا تفصيليا لأمور لم يلفت نظري منها إلا القليل !
ثم أخذ يقهقه عاليا .
و يبدو أن القاضي فهم الغمزة إلا أنه لم يشاركه الضحك ، و لكنه رد عليه بعد أن هدأ :
- أنت خبيث و ( سلال ) يا عبد الباقي !
فقهقه عبد الباقي من جديد و أجابه :
- يقول المثل الشعبي :" العين تطب محل ما تحب !! "
ثم عاود الضحك حتى دمعت عيناه ، و ما لبث خالد أن شاركه الضحك !
ما أن غادروا ساحة وقوف السيارات في الجامعة الأمريكية ، حتى تنفس رؤوف الصعداء ، و أخذ يكرر استغفار ربه من جريرة جعله رمزي ينزلق إليها ، و قال له جادا و محتجا :
- كيف تقحمنا في مثل هذا يا رمزي ؟ إني لأحملك ذنوبي لهذا اليوم ، كلها .
فأجابه مبتسما :
- كثيرة هي اليوم ذنوبك يا رؤوف ، فقد شاهدتك مرارا تركز بصرك على السابحات الفاتنات .
هنا لم يتمالك عبد الباقي نفسه ، فانفجر ضاحكا و تبعه الآخرون .
و كانت المحطة الثانية في راس بيروت فقد عضهم الجوع بنابه ، و كما سبق أن فعل فقد قادهم رمزي إلى مطعم مطل مباشرة على الحمام العسكري ، و كما سبق أيضا ، ترك الشيخ خالد عمامته و جبته في السيارة ، ثم اختار أقرب كرسي إلى البحر حيث تسمرت عيناه على الشاطئ الصغي ر و تحول من ثم إلى تمثال شمعي .
كان الفرنسيون لمّا ينسحبوا بعد من لبنان ، و كان الحمام العسكري يعج بعائلات ضباطهم و بعض الضباط اللبنانيين ، و بينما استلقت بعض السيدات و الفتيات و قد ارتدت كل منهن ورقتي التوت ، طلبا لحمام شمسي ، فقد آثرت أخريات السباحة و التنقل بين العوّامة و الشاطئ .
التفت إليه رؤوف على حين غرّة مستهجنا و منبها :
- شيخي ، لا تترك الشيطان يتغلب عليك !
إلا أن القاضي لم يعره التفاتا ، فتطوع رمزي للإجابة قائلا :
- الله جميل يحب الجمال يا رؤوف ، يا أخي !.
- لقد أمرنا بغض البصر ، يا أستاذ !
- ضع على عينيك نظارة سوداء يا رؤوف .
أجابه حقي مبتسما . و لكن رؤوف ظل على موقفه فأردف قائلا :
- صراحة ، الأمور تفرض نفسها من حولي و أشعر بالخوف من معصيات اليوم !
- استخرج كفّارة يا أخي ، وزع رطلا من الخبز على الفقراء ؛ أجابه رمزي شبه متهكم !
فهز رؤوف رأسه علامة التذمر ثم أضاف قائلا :
- كل أمر جدي تقلبه مزاحا يا رمزي ، أرحني يا سيدي و دعنا نغادر هذا المكان ، فوالله لو أعلم أين أنا أو إلى أين يمكن أن أتوجه ، لما مكثت معكم لحظة واحدة ، هناك عشرات المطاعم غير هذا يا أخي !
ثم وضع يده على كتف خالد و قال موجها إليه الحديث :
- ألست معي يا شيخ خالد ؟
إلا أن الشيخ خالد ظل متصلبا كتمثال شمعي و قد تسمرت عيناه نحو هذا الخليج الصغير المسمى بالحمام العسكري، متجاهلا رؤوف و إحتجاجاته !
هنا تدخل عبد الباقي قائلا و قد رسم على شفتيه ابتسامة عريضة :
- يا رؤوف يا صاحبي ، الأمر أبسط مما تتصور ؛ قل: " نويت ( التزهزه ) " و أرح بذلك ضميرك المعنّى !
و ما أن أتم عبد الباقي عبارته هذه حتى دوت ضحكات الأصدقاء الأربعة مجلجلة !




إنصره ظالما أو مظلوما
قصة قصيرة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


في مقهى اعتاد على ارتياده الزميلان الأستاذ علي - و هو مدرس في "ثانوية سعد" - و الأستاذ محمود ، المشرف الاجتماعي في نفس المدرسة ، و في حديث دار بينهما حول المثل المعروف : "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " قال الأستاذ محمود لزميله : << ليس المقصود بكلمة "أخاك" في المثل معناها الحرفي ، بل وسَّعها بنو يعرب ليشمل أبناء القبيلة الواحدة في البادية ، أو العائلة الواحدة في المجتمعات الزراعية فيما بعد ؛ و عندما انتقلوا من حياة البداوة أو الفلاحة إلى الحياة المدنية ، زادوا في توسيعها لتشمل أبناء المدينة الواحدة ، أو الوطن الواحد ، مقابل الغرباء عن أي منهما ، فتطور المثل إلى : << أنا و أخي على ابن عمي و أنا و ابن عمي على الغريب >> .
ابتسم الأستاذ علي ، قبل أن يرد على صاحبه قائلا : << تحليلك منطقي يا أخي ، و كعادتك تفلسف الأمور ؛ و لكن لماذا لا نقول : << أن المثل يعني باختصار التعصب الأعمى أو إن شئت العنصرية بأبشع صورها ؟!
أجابه الأستاذ محمود قائلا : << لن نختلف في هذا ، فلنقل أنها العنصرية ! >> .
بعد فترة صمت ارتشف خلالها الأستاذ علي نفسا عميقا من نرجيلته ، تسببت بسعاله لبعض الوقت ، تنحنح ثم قال :
- إليك قصة حول ذلك كنت أحد شهودها ؛ فبينما كنت جالسا – ذات يوم - على شرفة منزلي المطلة على أحد أسواق المدينة ، لفت سمعي صخب قريب فاستبد بي الفضول . وقفت مستندا على حاجز الشرفة لأرى شجارا محتدما بين جاري الخباز المعروف ب "أبو العز" و هو مقيم "أي لا يحمل جنسية هذا البلد" و بين أحد الزبائن من المواطنين ، ما لبث أن تطور إلى تماسك بالأيدي ، و بلمح البصر تقدم مواطن آخر ليدعم مواطنه دون أن يسأل عن سبب الشجار ، و هذا ما فعله آخرون بعد قليل !!!
كان أبو العز طويلا عريض المنكبين مفتول العضلات كأنه مصارع من الوزن الثقيل ، تمكن بيسر من إلقاء أحدهما أرضا بينما كاد يلقي بالآخر ؛ و لذهولي الشديد أوقف مواطن ثالث سيارته بعيدا عن الرصيف و هبط منها مسرعا باتجاه المتشاجرين و ابتدأ يشد أزر مواطنَيه ؛
ثم ... أخذ المارة من المواطنين يوقفون سياراتهم كيفما اتفق ،
ثم ... يغادرونها مسرعين ليساهموا بمهاجمة "أبو العز" بما طالت أيديهم ... هذا بحذائه ، و ذاك بعقاله ، و غيرهما برفسة من قدمه أو بلكمة من قبضته ؛ و ظل أبو العز - رغم هذه الهجمات المتفاقمة الشرسة - يدافع عن نفسه ببسالة ، و قد تمزقت ثيابه و سالت الدماء من وجهه و يديه ؛ و عندما حاول بعض عمال المخبز بمؤازرة آخرين من أصحاب الدكاكين المجاورة فصل المهاجمين عن أبي العز ، تعرضوا للضرب بدورهم ، فانسحبوا بعيدا و اكتفوا بالفرجمة متألمين ، فكلهم مغتربون و كلهم يخشون على أسباب رزقهم و معاش أسرهم !!!.
و بعد أن … كاد جمع المواطنين يقضون على أبي العز و يسلبونه حياته ،
و بعد أن … عمت الفوضى في السوق كله ،
و بعد أن … تعطل السير و علا عويل أبواق السيارات من كل صوب ؛
قدمت سيارات الشرطة ،
ثم … أخذ الشرطيون يفرقون الجمع ؛
ثم ... قيدوا ابا العز – وحده - و ساقوه مكبلا إلى إحدى عرباتهم !!!!
علق الأستاذ محمود قائلا :
- إنها القبلية الجاهلية يا صاحبي ، لا زالت معششة - وا أسفاه - في أدمغة الكثيرين من بني يعرب !!.
و ما حدث معي يضرب مثلا أسوأ ، فاصغ إليَّ يا أخي :
- قبل أن أنتقل إلى ثانوية "سعد " كنت أعمل بمدرسة بلدة "أم النخيل" الابتدائية ، و بحكم وظيفتي كمشرف إجتماعي ، حولت التلميذ "عبد الله" إلى معهد الإحتياجات الخاصة ، بعد أن أثبتت إختبارات الذكاء عدم قدرته على مواصلة الدراسة في المدرسة الابتدائية العادية ، ثم تبين لي أن التلميذ المذكور شقيق أمين مخزن المدرسة و هو مواطن و من سكان "أم النخيل" ، الذي أبدى استياءه و اعتراضه الشديد على هذا القرار ؛ و رغم محاولتي إقناعه بأن انتقال "عبد الله" إلى ذلك المعهد كان لصالحه ، إلا أنه لم يقتنع ، و أجرى - من ثم - اتصالات برفقة وفد من وجهاء البلدة مع مسؤولي وزارة التربية لإيقاف القرار و لكن دون جدوى !!!
ثم أضاف الأستاذ محمود قائلا :
- و منذئذ ناصبني أمين المخزن العداء و امتنع عن تحيتي أو محادثتي ، و قد سلك السلوك ذاته حراس المدرسة الثلاثة و هم أيضا مواطنون و من سكان البلدة ، و لكن الأسوأ حدث فيما بعد ...
ذهبت إلى مستوصف القرية بعد عدة أسابيع لعلة طارئة ألمت بي ، ففحصني طبيب المستوصف مشكورا و أعطاني وصفة الدواء اللازم – و هذا من حقي كموظف في الدولة - و بينما كنت أهم بتقديم الوصفة إلى الصيدلاني ، انقض عليَّ أمين المستوصف انقضاض صقر على حجل ، صائحا في وجهي : << لا يحق لك العلاج في هذا المستوصف ! >> ثم امتدت يده يريد سحب وصفة الدواء مني ، فقاومته و أنا أقول له مشمئزا : << الوصفة أصبحت ملكي ! يحق لك أن تمنعني عن حصولي على الدواء ، و لكن لا يحق لك انتزاع الوصفة مني !>> ثم مضيت ، و لكن ما أن ولجت في سيارتي ، حتى لمحت عددا من المواطنين ربما كانوا من مراجعي المستوصف المرضى أو موظفيه ، يحاولون اللحاق بي ، بل بدؤوا بإلقاء الحجارة باتجاهي ، فحركت سيارتي خلفا ، و هم يتابعونني ، حتى بلغت باب المدرسة ، فكفوا ....
و لكن في اليوم التالي ، استُدعيت إلى مخفر "أبو النخيل" ، فأرسل معي مدير المدرسة – بعد أن أخبرته بقصتي - وكيله ؛ و كانت التهمة أنني هاجمت أمين المستوصف و هو على رأس عمله ، و أنني رميت عقاله أرضا ، و هذه إهانة في عرف البلد لا تغتفر ، و أنه مضطر لتوقيفي (!!!) ، فاقترح الأستاذ الوكيل – بعد نقاش طويل - أن أقدم اعتذاري لأمين المستوصف ، فوافق الملازم رئيس المخفر على ذلك ، شريطة أن يتنازل أمين المستوصف عن شكواه بعد الإعتذار !...
و كان الإعتذار على شكل وفد ترأسه وكيل المدرسة بمصاحبتي مع عدد من الزملاء المعلمين ، في زيارة إلى مضافة أمين المستوصف ، الذي تصدر المضافة و على يمينه أمين مخزن المدرسة ، و قد شعرت خلال الزيارة بمهانة لا زالت تحز بنفسي حتى اليوم ....
و تجنبا لهذا الجو العدائي ، طلبت نقلي من المدرسة .
كانت الساعة قد شارفت على العاشرة ليلا عندما قرر الزميلان مغادرة المقهى ، و في سريرتهما تساؤلات بلا حدود .


صراع مع الموت
رواية قصيرة واقعية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كنت في زيارة لأحد أقاربي حيث تصادف وجود أبنائه و بناته و الأزواج و الأحفاد .....
الأحفاد?! ،ألا ما أروعهم ، كانوا يقفزون من حوله و من فوقه و من بين ساقيه كحمائم أليفة ، هذا يهاجمه مصارعا تارة و ملاكما تارة أخرى ، فيتخذ في مواجهته موقف المدافع ، و ذاك يطلق عليه رصاصه الوهمي من بندقيته الخشبية ، فيتصنع الإصابة ملقيا نفسه فوق أقرب أريكة فاغرا فيه مدليا لسانه جاحظا عينيه ، و تلك تسترق خطاها الناعمة لتفاجئه من الخلف قافزة على ظهره متشبثة بكتفيه ، فيثبت يديها الصغيرتين براحتي يديه الحانيتين ثم يدور بها بضع دورات حتى يدوخها و يدوخ ، فيقعا معا على الأرض ضاحكين ، و رابعة تشده مستنجدة ليحل لها مشكلتها مع إحدى ألعابها ، و ثمة صغير أخذ يلح عليه طالبا إعادة رواية إحدى الحكايات المثيرة . كانت سعادته بهم و سعادتهم به فوق كل وصف !
أما جهان إبنته الكبرى ، فكانت مكتئبة و من بينهم جميعا ظل فمها منكمشا و جبينها مقطبا و عيناها طافحتين و إن لم تفضا ، لولا أن علا عويل أصغر أبنائها من الداخل فانفجرت باكية و هي تدمدم : " هذا فوق إحتمال البشر ، لم يدعني أغفو طوال الليلة الفائتة ،هذا ظلم فكأن المرأة وحدها خلقت للشقاء " ، ثم التفتت إلى زوجها متمتمة ببعض غضب : " أنا بدوري إمرأة عاملة يا سليم ، ثم أنا لم أنجبه وحدي ، فكلانا شركاء ؛ ساعدني بعض الشيء في تحمل المسؤولية " .
هنا شدتني بعيدا عن عتابها الباكي الذي أثاره رضيعها المشاكس أو ربما المريض ، نظرة رمقني بها قريبي مشفوعة بابتسامة حملتا أكثر من معنى و حفزتا ذاكرتي للحال لتبرز على شاشتها الخفية ، لقطات مكثفة و سريعة من حكاية جهان . جهان الطفلة ذات السنوات العشر ، جهان المريضة و هي تصارع الموت ، جهان الموظفة النشطة ، ثم جهان العروس فالأم ؛ و إلى جوارها مع كل صورة وجهان حانيان ، وجه قريبي هذا و وجه زوجته المرحومة .
لم ينتبه والدا جهان إلى أن الأمر غير عادي ، إلا بعد أن أخذ سعالها يتكرر و يتلاحق ترافقه أعراض إختناقية ؛ كانا قد باشرا علاجها – شأنهما شأن معظم ذوي الدخل المحدود – وفق أعراف الطب الشعبي من مستحضرات العطارين ، إضافة إلى الحجامة و التبخير ثم انتقلت الوالدة – بناء على نصائح عجائز العائلة - إلى بيوت المشعوذين فمن قائل بأنها أصيبت بعين حسود و من قائل أن شيطنا قد تقمصها ، فاستجابت الوالدة لكل إرشادات هؤلاء- على الرغم من عدم قناعتها ، كمثقفة، بكل ذلك – و ذلك دون التماس أي تحسن ؛ و على العكس فقد تفاقم المرض فأقعدها ثم أخذ سعالها يتخذ شكل نوبات حادة مع ارتفاع حرارة جسمها ، و لكن عندما قذفت دما ، شعر الوالدان بخطر حقيقي ، فاستدعيا عندئذ الطبيب .
نظر إليهما الطبيب بإشفاق و لكن ببعض إرتباك ثم أخبرهما بأنه التدرن الرئوي أو السل الرئوي و أضاف : " هو في مرحلته الثانية فإن أفلحنا بإيقافه يكتب لها النجاة و إلا ... "
بكت الوالدة و أجهشت ، أما الوالد فقد أصابه ذهول لم يفق منه إلا عندما انتابت جهان موجة جديدة من السعال ، فهرع إلى ملابسه يرتديها ، و يخرج على عجل ليحضر ما وصفه الطبيب من أدوية .
و بروح تعاونية نادرة قسما واجباتهما الطارئة بينهما ، فهناك أبناء آخرون يجب الحرص على وقايتهم ، و تعليمات الطبيب بهذا الخصوص يجب أن تنفذ بدقة ، فغرفة جهان محظورة تماما على إخوتها و كذلك استخدام أدواتها و ملابسها . إنها حالة طوارئ باللون الأحمر .
و تعلمت الوالدة طرق التعقيم و ضبط مواعيد الدواء بأنواعه و قياس الحرارة و النبض و تسجيلهما على شكل خطوط بيانية ، و تعلم الوالد الحقن العضلي ثم الوريدي ، و كذلك تعودا على تناوب السهر إلى جانبها ؛ فحولا بذلك بيتهما إلى مستشفى حقيقي .
و بكل هدوء و شجاعة حصرا ما يمكن الإستغناء عنه بدءا من مصاغ الأم و انتهاء بمقتنيات الزينة ، كالمزهريات و الفضيات و الأوعية الصينية التي اعتاد الناس على اقتنائها ، ثم أخذا يبيعانها شيئا فشيئا ليتحول ثمنها إلى غذاء مركّز و علاج مكثف و أمل عنيد بأن ينقذا ابنتهما جهان من براثن الموت
لم تحرز جهان تقدما ملحوظا ، فلجأ الوالد إلى طبيب آخر ذاع صيته مؤخرا ، فاستدعاه و بعد إجراء فحص دقيق مستعينا بالتحاليل المخبرية قرر لها عقارا جديدا باهظ الثمن يتم تناوله بالحقن بحيث كانت كل ثلاثة عبوات منه تعادل نصف مرتبه كمهندس طبغرافي في إحدى الدوائر الحكومية .
صدمة جديدة و عبء جديد ، جعل الوالدة تلقي برأسها على صدر زوجها مجهشة بالبكاء ، و أخذ الوالد يربت على كتفيها بحنان و هو يداري دمعه ، كان ذلك أول موقف عاطفي يجمعهما منذ أشهر امتزج فيه حبهما بدموعهما ، إلا أنه موقف حفزهما على مواصلة النضال ؛ فمنذ اليوم التالي قابل الوالد رئيسه شارحا له وضعه مطالبا بعمل إضافي يساعده على مواجهة محنته ، فاعتذر المدير إلا أنه أرشده إلى مهندس صديق ، فعمل لديه- و هو راض و ممتن - كرسام هندسي .
و ببطولة استوعبت الأم كافة الأعباء الداخلية لتفسح لزوجها مجال الإنصراف إلى عمله الإضافي المرهق ، كانت إذا فرغت من شؤون المنزل و احتياجات الأطفال ثم أسلمتهما إلى اللعب أو الفراش ، تنصرف إلى جهان ، فتجالسها و تقص عليها الحكايات و النوادر ، كانت جهان تمسك بيد أمها و تتشبث بها كأنما لتستمد منها الطمأنينة و الأمان ، كانت تتصور خطرا يتربص بها كخطر الذئب في قصة ليلى و الذئب ، أو خطر حلم يعقوب ، أو خطر منكر و نكير ، و تسأل أمها " ماذا لو كانت لي ذنوب هل حقا سوف يعذباني ؟ ، ماذا لو وجدت نفسي وحيدة في قبري ؟ ، كثيرا ما أحلم يا أمي أنني وحيدة في قبري أرتجف بردا و هلعا....!. "
أسئلة تتجاوز سنها و لا عجب فقد كانت من المتفوقين قبل أن يقعدها المرض ، و كانت منذ نعومة أظفارها فلسفية التساؤلات و غزيرتها ، و هاهي الآن تتفلسف حول الموت و ما بعده ؛ فقد أدركت معاناة والديها و متاعبهما المادية و الجسمية ، و تابعت بحزن و إحساس بالذنب مساومات والدها مع تجار الأثاث المستعمل و أصغت بأسى إلى همسهما حول ما تبفى من قائمة الموجودات المرشحة للبيع وشيكا ، ثم أخذت ترصد تأخر والدها المسائي و سهره أحيانا حتى الفجر و هو يرسم و يرسم ، و لاحظت عينيه بألم و هما تزدادان إرتخاء و عدم تمكنه من التحكم بعضلات جفنيه فانطلقت تتحرك كيفما شاءت ، فأيقنت أن ذلك كله ما كان ليحدث لولا مرضها ، فكان إحساسها بالذنب يضاعف من معاناتها من مرضها و خوفها من استفحاله ، لولا تلك اليد الدافئة و العينان الناضحتان بالحب و الوجه الباسم الذي كان يكلؤها برعايته الحانية ليل نهار .
و ذات يوم قال لهما الطبيب : " لقد أفلحت بتعطيل المرض إلا أنني لم أفلح – للأسف - حتى الآن بإيقافه ، و أنصح بنقلها إلى مصح صدري في أحد المنتجعات الجبلية ، حيث الهواء النقي و العناية المتخصصة . "
مصاريف جديدة و أعباء جديدة و كالعادة واجهها الوالدان بشجاعة ؛ كانت أعمال البناء قد تضاعفت مؤخرا ، كما افتتحت الجامعة كلية الهندسة بفروعها ، فراجت تجارة الأدوات و المعدات الهندسية و جد فيها الوالد فرصة لدخل قد يسمح بتنفيذ توصية الطبيب المكلفة. فعمل بداية كوسيط ( سمسار ) ثم إكتشف إمكانية العمل لحسابه الخاص ، و إذ لاحظ أن الأمر مربح بادر لفوره إلى إدخال جهان إلى مصح صدري معروف .
فاضطرت الأسرة - نظرا لبعد المصح – إلى إستئجار منزل في قرية مجاورة ، و هذا ما أتاح للوالدة أن تزور ابنتها كل يوم مشيا على الأقدام توفيرا للمصاريف .
و في يوم من تلك الأيام العصيبة ، ما كادت أم جهان تلتقط أنفاسها قادمة لزيارة ابنتها حتى وجدتها في غاية الإضطراب ، قالت جهان و هي تبكي بحرقة : " تقيأت نجوى زميلتي في الغرفة ، تقيأت دما ثم شهقت مرتين .. فقط مرتين ، ثم ماتت ... ماما أنا خائفة .. ماما يخامرني شعور أنني التالية "
هدأتها أمها ثم طلبت من الطبيب المناوب أن يبدد مخاوفها فأكد لها ، أنها في طريقها إلى الشفاء . و بعد أقل من أسبوع همست جهان بأذن أمها و هي تعانقها : " لم ينتبني السعال منذ الأمس يا أمي " كانت تلك العبارة بداية رحلة النقاهة لبضعة أشهر أخرى تكللت بالشفاء التام .
تذكرت ذلك كله في ثوان تذكرت خروج جهان من المصح ، تذكرت عودتها إلى المدرسة و التهام ما فاتها من علوم ، تذكرت حفل زفافها ، و تذكرت والدتها التي ما أن إطمأنت على نجاتها من براثن الموت حتى عاجلها الموت . ثم تذكرت كفاح والدها و مثابرته و تصميمه على إنقاذ ابنته ؛ ثم التفتّ نحو جهان فهمست لها بسري : " و الآن تتذمرين من وعكة ألمت برضيعك يا جهان ؟ أنسيت كم سهر والداك من ليال أمام سريرك و هما يصارعان الموت لحسابك ؟!"


مفاجأة صاعقة
أقصوصة :
ـــــــــــــــــــــــــــــ


يعاتبها قائلا : - كل يوم أعطيك مصروف المنزل و إذ أطلب منك إعداد طعام الغداء تجيبيني أن الوقت لم يسمح لك بالطهو ، و تطلبين مني أن أتناول طعامي عند والدتي !
ثم أضاف : كسلك يحيرني ، و يحيرني أكثر تبخر مصروف البيت ؟!
تجيبه ببرود : آلام مفاصلي منعتني من القيام بأي عمل ، تناول غداءك عند والدتك !
اضاع هاتفه الجوال للمرة الخامسة فجن جنونه ، و أخذ يبحث عنه في كل ركن ، لم تكن زوجته موجودة ليسألها ، فقرر أن يبحث في خزانتها بعد أن لاحظ أن الخزانة غير مقفلة ربما للمرة الأولى .
ما أن فتح باب الخزانة حتى صعقته المفاجأة ، عشرات الأثواب الجديدة رصت إلى بعضها بعضا ، عدد كبير من الأحذية النسائية أحصاها فكانت خمسا و ستين زوجا ، و أكثر من أربعين حقيبة يد بمختلف الأشكال و الألوان !!!


أسرى الأوهام
ق ق ج :
ـــــــــــــــــــــــ


مؤامرة

أبو العز صاحب دكان صغيرة لبيع التبغ و مشتقاته ، اعتاد على الادعاء بأنه يعلم بمؤامرة كبرى تهدف إلى قلب نظام الحكم و اغتيال رأس الدولة !!!
و ذات يوم فوجئ بأن محدثه ضابط في مخابرات أمن الدولة ، الذي أمره أن يرافقه في الحال !...
بعد ثلاثة أيام من إغلاقها شوهد أبو العز و هو يفتح دكانه ، و قد التف رأسه بالضمادات الطبية ، و علق يده المكسورة فوق رقبته ...

ديغول*

ما أن اقترب من الأستاذ محيي الدين ليرحب به كزميل جديد حتى بادره هذا قائلا و قد ارتعشت شفتاه غضبا : "انظر إلى هذين ، إنهما يشيران إليّ و يهمسان بكلمة "ديغول" .
بعد أسبوع أو يزيد ، أصبح اسمه الشائع "ديغول" على كل لسان ! و أصبحت دواعي غضبه لا تنتهي ، و ما لبث أن تم نقله بناء على طلب مدير المدرسة الملح ...فكانت هذه نقلته العاشرة !

*F B I

قالوا لها أن ثمت عضوة جديدة عربية اشتركت حديثا بالنادي ، فهبت للفور و اتجهت نحوها حيث أشاروا لتتعرف عليها ، ما أن تقدمت منها مرحبة ، حتى صاحت هذه مندهشة : " أبهذه السرعة أخبرتك عني ال F B I ؟! "

جيران

- انظر يا سعيد إلى السطح المقابل ، ألا ترى تلك الامرأة و هي توجه إلينا حركات بذيئة بيديها ؟
- لا أرى أحدا يا أمي !!..
- بل أنا أراها ، نادِ اخوتك و رددوا معي : << طقوا موتوا يا جيران ، ما منطق و ما منموت ، إلا يموتوا هالجيران ...>> .
ثم اعتاد الأطفال أن يقفوا كل يوم على شرفة منزلهم مرددين أهزوجة والدتهم نحو بيوت جيرانهم الصامتة كنوع من اللعب !
و لكن اللعب لم يدم طويلا ، فقد زار والده وفد من الجيران بحتجون على سلوك أطفاله ، فكان نصيب سعيد و اخوته حرمان من المصروف لمدة أسبوع مع صفعتين لكل منهم ، بينما صحب أمهم في اليوم التالي إلى عيادة الأمراض العقلية..
***************
هوامش :
* ديغول : هو الجنرال الفرنسي الذي قاد حرب التحرير ضد النازيين ، و يبدو أن الرجل يشبهه شكلا ..
* F B I رمز لمكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي
***************


إنهم من الجن
أقصوصة
ـــــــــــــــــــــــــــ


ضج أصحاب المزارع من تكرار سرقة عجولهم و أغنامهم ، جندوا الحراس ، أكثروا من الكلاب ،
ثم ....
طلبوا حماية (مخفر الدرك)* و لكن هؤلاء و اؤلئك عجزوا عن ضبط اللصوص ،
جُن جنون قائد مخفر الدرك في القرية المجاورة ، فأمر رجاله باعتقال المشبوهين .
ثم ...
باعتاقل حراس المزارع بتهمة التواطؤ ؟! ..
جوعوا هؤلاء و اؤلئك ، حرموهم من النوم ، أوسعوهم ضربا و تعذيبا .. دون أن يصلوا إلى اية نتيجة ،
ثم ..
صارت أخبار اللص الشبح أو اللصوص الأشباح على كل لسان ..
و بدأت الشائعات من كل لون تنتشر انتشار النار في الهشيم ،
إلى أن أبدى إمام جامع القرية رأيه الحصيف ، فقال :
" اللصوص أيها الناس ليسم بشراً ، إنهم من الجن ! "
و منذ تلك اللحظة ، امتنع الناس عن التجول في القرية بعد غياب الشمس ،
فاليوم يخطف الجن العجول و غدا قد يخطفون الأطفال ، و ربما النساء و الرجال ...
و نشط من ثم سوق المشعوذين و العرافين ، يكتبون الأحجبة و يقدمون الوصفات الناجعة ، لمنع أذى الأسياد !!!
أما حراس المزارع فقد استقالوا ..بعضهم احتجاجا على اعتقالهم و تعذيبهم ،
و بعضهم خشية الجن و العفاريت ..
و هكذا ، خلا الجو أكثر و أكثر ، للص أو اللصوص ..
ثمت سيارة شاحنة تحول مكان الشحن فيها إلى حجرة كبيرة ،
و قفت الآن أمام إحدى المزارع ،
يترجل منها أحدهم و بيده مقص خاص بتقطيع الحديد ،
و ترجل آخر يحمل قطع اللحم المغمس بمخدر قوي ،
يبدأ الأول بمهارة بتقطيع الشبك المعدني الذي يشكل سور المزرعة ،
يفتح ثغرة تصلح لمرور رجل زحفا ،
بينما يلقى الآخر بقطع اللحم إلى الكلاب الهائجة ،
و إن هي إلا دقائق حتى يغط الكلاب بنوم عميق ،
يترجل آخر ،
يتسلل إلى حظيرة الأبقار ،
يطعن ثلاثة من العجول السمينة بمخدر ،
فتخور العجول ألما ،
ثم ..
تسقط أرضا ، بلا حراك ،
ثم ...
يترجل آخرون ،
يتسللون نحو الحظيرة ،
و بسرعة و رشاقة يحملون العجول المخدرة ،
ثم ...
يتعاونون معا على رفعها إلى باطن الشاحنة ، الواحد بعد الآخر ،
ثم ...
تبتلعهم الشاحنة ،
ثم ....
تتحرك بهم و كأن شيئا لم يكن ..
*****
باطن الشاحنة عبارة عن ورشة عمل كبيرة ،
طاولة مثبتة في الوسط ،
وُضِع فوقها عدة فرّامات ، و مناشير ، تعمل جميعا بالكهرباء ، و تستمد طاقتها من محرك كهربائي ثُبَّت في إحدى الزوايا ..
و على الجدران عُلِّقت سكاكين و سواطير* من مختلف المقاسات ..
و من السقف تدلت عدة ( شناكل )* ، كما تدلت عدة قناديل تشع بإضاءة قوية ..
*****
و بسرعة و رشاقة تم فصل رؤوس العجول عن أجسادهما ،
ثم ..
عُلقت على الشناكل ،
ثم ...
بدأ الرجال و هم جزارون محترفون ، بعملية السلخ ،
ثم ...
بعملية التقطيع ،
ثم ...
تولى أحدهم توضيب الأحشاء ،
ثم ...
قام آخر بجمع الدماء المراقة فوضعها في دلوين كبيرين ،
ثم ...
قام آخر بتنظيف المكان .
*****
كانت الشاحنة فد وصلت إلى دكان الجزار ( أبو عيشة ) ، في مركز القضاء ،
و بنفس الرشاقة ، نقلوا اللحوم و الشحوم و العظام و الأحشاء إلى دكانه ،
ثم ....
علقوا قطع اللحم على (الشناكل) في واجهة الدكان ،
ثم ...
قدم أبو عيشه لرجاله حصتهم من الغنيمة ،
ثم ...
أخذ يردد باعلى صوته :
" يا فتاح يا عليم ... يا رزاق يا كريم ! "
ثم ....
جلس في انتظار الزبائن .
و ذات يوم و بينما كانت شاحنة ( ابو عيشه ) تعبر القرية بعد إحدى غزواتها ، و كانت الشمس قد بدأت تطرد جحافل الظلام ، عبر غلام الشارع متجها نحو المخبز ..
كانت الشاحنة مسرعة ، فقد تأخرت عن أوقات مغادرتها المعتادة ، و لم ينتبه السائق إلى الصبي فدهسه ..
كان بعض الفلاحين على حافة الطريق ،
سمعوا صوت صياح الغلام ، و مكابح الشاحنة ،
فهرعوا نحو موقع الحادث ،
ليشاهدوا السائق يزيح الصبي المصاب بطريقة وحشية ،
ثم يحاول العودة إلى الشاحنة مسرعا يريد الفرار ..
تكأكؤوا حوله فمنعوه ،
ثم ..
كبلوه ،
ثم ...
فوجئوا ببوابة الشاحنة الخلفية تُفتح ،
و بأشخاص يترجلون منها حاملين السكاكين و السواطير ..محاولين فك أسر السائق من قبضته ،
ثم ...
تشتعل معركة حامية سلاحها الحجارة و السكاكين و السواطر ..
تتجمع أعداد أخرى من القرويين بينهم أم الصبي المصاب و أبوه و إخوته ،
يشتركون جميعا بالمعركة ، ثم يشنون هجمة رجل واحد انتهت بإمساكهم جميعا و تكبيلهم بالحبال ، بعد أن أوسعوهم ضربا ،
ثم ...
صعد البعض إلى قلب الشاحنة ،
ليكتشفوا الحقيقة المذهلة !

حوار قصير جدا
ــــــــــــــــــــــــــــــ


سألتها الداية* :
- لا مؤاخذة ، من والد الجنين ؟
صمتت قليلا ثم قالت لها باستحياء :
- المرحوم !
أعوذ بالله ، والدك ؟
سالتها مذعورة كمن لدغتها أفعى !!
فأجابتها :
- المرحوم ليس والدي بل زوج أمي ...
- هو أيضا محرم عليك ، كيف حدث هذا ؟
أجابتها باكية :
- توفيت والدتي منذ كنت في الرابعة ، و هو الذي رباني و دللني ،
ثم ..
نمت في أحضانه منذ التاسعة ،
و لم أجد من يخبرني أن هذا حرام !!!
صمتت الداية طويلا ،
ثم ...زفرت ،
ثم ... حوقلت ،
ثم ...هزت برأسها يمينا و يسارا أكثر من مرة ،
ثم ....أجابتها بعد أن ربتت على كتفها :
- لا عليك ، لقد غرر بك ذلك القذر،
و لكن لحسن حظك خلَّف لك ثروة تعتاشين منها طوال حياتك ،
سأصحبك – منذ صبيحة الغد - إلى طبيب أعرفه في العاصمة ،
الذي سوف يجهضك ،
ثم ...
يجري لك عملية ترقيع !

علماء
ق ق ج :
ــــــــــــــــــــ


عقدت الأجهزة العسكرية و المدنية المسؤولة عن اتخاذ القرارات المصيرية في الدول الغربية إضافة إلى ربيبتها اسرائيل ، اجتماعا في غاية السرية ، تحت عنوان : <<الشرق الأوسط الجديد!!!>> ، و بعد مناقشات طويلة ، اتخذت القرار السري الهام التالي :
<< تمنع الجامعات الغربية تدريس العلوم المتقدمة و العلوم التطبيقية
"التكنولوجيا" للطلاب القادمين من الشرق الأوسط !>>
ثم ... علق أحد المشاركين قائلا : <<يكفيهم ما لديهم من علماء الدين !!!>>



الطفلة المدللة
أقصوصة واقعية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لم ينجبا غيرها ، فظلت طفلتهما المدللة و محور اهتمامهما حتى شبت و بلغت المرحلة الجامعية ، و لكن في السنة الجامعية الثانية أحبت أستاذها - و هو بعمر والدها !- و عندما حاول الوالدان ثنيها هددتهما بالانتحار!ّ!...
قالت لها والدتها بعيد إنجابها طفلها الأول : - يوم ولدتُك أهدتك المرحومة جدتك مائة دولار فتحَت بها حسابا في البنك باسمك ، ثم ... أضاف والدك مثلها ، ثم .. أنستنا مشاغل الحياة الأمر برمته ، و لم أتذكره إلا يوم إنجابك لطفلك ....إليك إيصال الحساب وجدته بعد لأي ، فعندما تتحسن صحتك راجعي البنك..
في زيارتها التالية ، قالت "شهد" - و هذا هو إسمها – و قد استبد بها الغضب : - قالوا لي في البنك أن هذا الحساب قد أغلق منذ زمن طويل ، ثم .... أضافت منذرة و قد اكفهر وجهها و علا صوتها : - أريد نقودي .... إذا لم تصلني خلال يومين سأقاضيك و والدي !!!




اعداد :

زياد السعودي / الاردن







  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:02 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط