الفينيق أمل دنقل يليق به الضوء* سلطان الزيادنة - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: إخــفاق (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :عبدالماجد موسى)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 30-03-2011, 01:25 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سلطان الزيادنة
عضو مؤسس
أكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع الأدبي والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية سلطان الزيادنة

افتراضي



سلام الله

تعودنا أن نضع نصاً تحت الضوء
ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربةٍ فذّة
سنستميح روح أمل دنقل
لنضعه تحت الضوء
إذ به يليق الضوء







نبذة عن حياته:

أمل دنقل هو شاعر مصري مشهور قومي عربي، ولد في عام 1940 بقرية القلعة، مركز قفط بمحافظة قنا في صعيد مصر. وتوفي في 21 مايو عام 1983م عن عمر 43 سنة. زوجته هي الصحفية عبلة الرويني.

-هو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل. ولد أمل دنقل عام 1940م بقرية القلعة ،مركز قفط على مسافة قريبة من مدينة قنا في صعيد مصر، وقد كان والده عالماً من علماء الأزهر الشريف مما أثر في شخصية أمل دنقل وقصائده بشكل واضح.

سمي أمل دنقل بهذا الاسم لأنه ولد بنفس السنة التي حصل فيها والده على إجازة العالمية فسماه باسم أمل تيمنا بالنجاح الذي حققه
-كان والده عالماً في الأزهر الشريف وكان هو من ورث عنه أمل دنقل موهبة الشعر فقد كان يكتب الشعر العمودي، وأيضاً كان يمتلك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي مما أثر كثيراً في أمل دنقل وساهم في تكوين اللبنة الأولى للأديب أمل دنقل. فقد أمل دنقل والده وهو في العاشرة من عمره مما أثر عليه كثيراً واكسبه مسحة من الحزن تجدها في كل أشعاره.
-رحل أمل دنقل إلى القاهرة بعد أن أنهى دراسته الثانوية في قنا وفي القاهرة التحق بكلية الآداب ولكنه إنقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكي يعمل.

عمل أمل دنقل موظفاً بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفاً في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولكنه كان دائماً ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر. كمعظم أهل الصعيد، شعر أمل دنقل بالصدمة عند نزوله إلى القاهرة أول مرة، وأثر هذا عليه كثيراً في أشعاره ويظهر هذا واضحاً في اشعاره الأولى.

مخالفاً لمعظم المدارس الشعرية في الخمسينيات إستوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، وقد كان السائد في هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة. عاصر امل دنقل عصر أحلام العروبة والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر في عام 1967 وعبر عن صدمته في رائعته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" ومجموعته "تعليق على ما حدث ".

شاهد أمل دنقل بعينيه النصر وضياعه وصرخ مع كل من صرخوا ضد معاهدة السلام، ووقتها أطلق رائعته "لا تصالح" والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، ونجد أيضاً تأثير تلك المعاهدة وأحداث شهر يناير عام 1977م واضحاً في مجموعته "العهد الآتي". كان موقف أمل دنقل من عملية السلام سبباً في اصطدامه في الكثير من المرات بالسلطات المصرية وخاصة ان أشعاره كانت تقال في المظاهرات على ألسن الآلاف.

عبر أمل دنقل عن مصر وصعيدها وناسها، ونجد هذا واضحاً في قصيدته "الجنوبي" في آخر مجموعة شعرية له "أوراق الغرفة 8"، حيث عرف القارئ العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" الصادر عام 1969 الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارئ ووجدانه

-
أصيب امل دنقل بالسرطان وعانى منه لمدة تقرب من ثلاث سنوات وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته "اوراق الغرفة 8" وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب ال 4 سنوات، وقد عبرت قصيدته السرير عن آخر لحظاته ومعاناته، وهناك أيضاً قصيدته "ضد من" التي تتناول هذا الجانب، والجدير بالذكر أن آخر قصيدة كتبها دنقل هي "الجنوبي".
لم يستطع المرض أن يوقف أمل دنقل عن الشعر حتى قال عنه احمد عبد المعطي حجازي ((انه صراع بين متكافئين، الموت والشعر)).
رحل أمل دنقل عن دنيانا في 21 مايو عام 1983م لتنتهي معاناته في دنيانا مع كل شيء. كانت آخر لحظاته في الحياة برفقة د.جابر عصفور وعبد الرحمن الأبنودي صديق عمره، مستمعاً إلى إحدى الأغاني الصعيدية القديمة، أراد أن تتم دفنته على نفقته لكن أهله تكفلوا بها.







إصداراته الشعرية:

صدرت له ست مجموعات شعرية هي:

البكاء بين يدي زرقاء اليمامة - بيروت 1969.
تعليق على ما حدث - بيروت 1971.
مقتل القمر - بيروت 1974.
العهد الآتي - بيروت 1975.
أقوال جديدة عن حرب بسوس - القاهرة 1983.
أوراق الغرفة 8 - القاهرة 1983.

مؤلفات عن أمل دنقل:

حسن الغرفي ـ أمل دنقل: عن التجربة والموقف ـ مطابع إفريقيا الشرق، الدار البيضاء 1985.
السماح عبد الله – مختارات من شعر أمل دنقل – مكتبة الأسرة، القاهرة 2005
عبلة الرويني ـ الجنوبي: أمل دنقل ـ مكتبة مدبولي ـ القاهرة 1985.
جابر قميحة ـ التراث الإنساني في شعر أمل دنقل ـ هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان ـ القاهرة 1987.
سيد البحراوي ـ في البحث عن لؤلؤة المستحيل ـ سلسلة "الكتاب الجديد" ـ دار الفكر الجديد ـ بيروت 1988.
نسيم مجلي – أمل دنقل أمير شعراء الرفض، كتاب المواهب القاهرة 1986
عبد السلام المساوي ـ البنيات الدالة في شعر أمل دنقل ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1994.
عِمْ صباحاً أيها الصَّقر المجنَّح: دراسة في شعر أمل دنقل، حلمي سالم.







دراسات ومقالات عنه:


أمل دنقل.. وميض تغتاله العتمة
خيري حسين - باحث مصري

محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل من مواليد قرية "القلعة" إحدى قرى مديرية "قنا" أقصى جنوب مصر، ولد في 1941 لأب يعمل مدرسًا للغة العربية متخرجًا في الأزهر.
كان والده في تنقل ما بين قرية "القلعة" وإحدى مدن "قنا"؛ فهو في فترة الدراسة يقيم بالمدينة، يعمل بالتدريس، وحين تنتهي الدراسة يعود أدراجه بأسرته المكونة من ولدين وبنت، أكبرهم أمل وأصغرهم أنس.. وهذا التنقل قد أثّر في طبيعة أمل كثيرا فيما بعد.
وكأن الألم هو الحضانة الأولى للعظماء، فلم يكد أمل يتم العاشرة من عمره حتى مات والده. وحرصت أمه الشابة الصغيرة التي لم تكن قد جاوزت النصف الثاني من عقدها الثالث على أن يظل شمل أسرتها الصغيرة ملتئمًا، مع عناية خاصة توليها لمستوى الأولاد الاجتماعي من حيث حسن المظهر والتربية وعلاقاتهم وأصدقائهم.
ساعدهم على العيش "مستورين" أن الأب قد ترك لأولاده بيتًا صغيرا في المدينة يقطنون في طابق منه ويؤجّرون طابقًا آخر، كما عاون الأم في تربية أولادها أحد أقرباء زوجها كان بمنزلة عم "أمل".
حين التحق أمل بمدرسة ابتدائية حكومية أنهى بها دراسته سنة 1952 عُرف بين أقرانه بالنباهة والذكاء والجد تجاه دراسته، كما عُرف عنه التزامه بتماسك أسرته واحترامه لقيمها ومبادئها؛ فقد ورث عن أمه الاعتداد بذاته، وعن أبيه شخصية قوية ومنظمة.

آثار الطفولة
والمفارقة أنه حين وصل للمرحلة الثانوية بدت ميوله العلمية، وهيأ نفسه للالتحاق بالشعبة "العلمي" تمهيدًا لخوض غمار الدراسة الأكاديمية في تخصص علمي كالهندسة أو الكيمياء، لكن العجيب أن أصدقاءه قد أثروا كثيرا في تحوله المعاكس إلى الأدب والفن في هذه الفترة ؛ فقد كان من أقرب أصدقائه إلى نفسه "عبد الرحمن الأبنودي" –شاعر عاميه مصري- وقد تعرف عليه أمل بالمرحلة الثانوية، و"سلامة آدم" –أحد المثقفين البارزين- فيما بعد، وكان يمت له بصلة قرابة وكان رفيقه الأول في مرحلة الطفولة، وبعد اتفاقهما الدائم على الالتحاق بالقسم العلمي وجدهما قد فاجآه والتحقا بالقسم الأدبي، فوجد "الصغير" نفسه في حيرة شديدة، سرعان ما حُسمت إلى اللحاق بأصدقائه.

إلا أن ذلك لا يعني أنه كان بعيدا عن مجال الأدب، فضلا عن الثقافة العربية؛ فقد نشأ في بيت أشبه بالصالونات الأدبية، فلم يكن والد أمل مدرسًا للعربية فحسب، ولكنه كان أديبًا شاعرًا فقيهًا ومثقفًا جمع من صنوف الكتب الكثير في سائر مجالات المعرفة؛ لذا فقد تفتحت عينا الصغير على أرفف المكتبة المزدحمة بألوان الكتب، وتأمل في طفولته الأولى أباه وهو يقرأ حينا ويكتب الشعر حينا.
لهذا كله ولموهبته الشعرية الباسقة لم يكد أمل ينهي دراسته بالسنة الأولى الثانوية إلا وكان ينظم القصائد الطوال يلقيها في احتفالات المدرسة بالأعياد الوطنية والاجتماعية والدينية.
وهذه المطولات أثارت أحاديث زملائه ومناوشاتهم بل وأحقادهم الصغيرة أحيانا، فبين قائل بأن ما يقوله "أمل" من شعر ليس له، بل هو لشعراء كبار مشهورين استولى على أعمالهم من مكتبة أبيه التي لم يتح مثلها لهم، أما العارفون بـ"أمل" والقريبون منه فيأملون – من فرط حبهم لأمل- أن يكون الشعر لوالد أمل دنقل، عثر عليه في أوراق أبيه ونحله لنفسه شفقة على أمل اليتيم المدلل الذي أفسدته أمه بما زرعته في نفسه من ثقة بالنفس جرأته –في نظرهم- على السرقة من أبيه.
ولما أحسّ أمل من زملائه بالشك؛ تفتق ذهنه عن فكرة مراهقة جريئة وهي وإن كانت لا تتسق مع شخصيته الرقيقة إلا أنها فاصلة.. أطلق موهبته بهجاء مقذع لمن تسول له نفسه أن يشكك في أمل أو يتهمه، ولم يمض كثير حتى استطاع أمل دنقل بموهبته أن يدفع عن نفسه ظنون من حوله. ولما تفرغ أمل من الدفاع عن نفسه داخل المدرسة تاقت نفسه لمعرفة من هو أفضل منه شعرا في محافظته، فلم يسمع بأحد يقول بالشعر في قنا كلها إلا ارتحل له وألقى عليه من شعره ما يثبت تفوقه عليه، وكأنه ينتزع إعجاب الناس منهم أنفسهم.
أحلام وطموحات
ولما لم يكن هناك من يجده أمل مكافئا تاقت نفسه أن يلتقي بالشعراء الذين يرى أسماءهم على الدواوين الراسخة في مكتبته، وانصرف أمل عن أحلامه الدراسية وطموحاته العلمية إلى شيء آخر هو الشعر.
ومما نُشر لأمل دنقل وهو طالب في الثانوية أبيات شعرية نشرتها مجلة مدرسة قنا الثانوية سنة 1956، وكتب تحتها: الطالب أمل دنقل يقول فيها:

يا معقـلا ذابت على أسـواره كل الجنود
حشـد العـدو جيوشه بالنار والدم والحديد
ظمئ الحديد فراح ينهل من دم الباغي العنيد
قصص البطولة والكفاح عرفتها يا بورسعيد

وفي العدد التالي أفردت المجلة صفحة كاملة لقصيدة بعنوان: "عيد الأمومة"، وكتبت تحت العنوان: للشاعر أمل دنقل، وليس للطالب كسابقتها، جاء فيها:
أريج من الخلد .. عذب عطر
وصوت من القلب فيه الظفر

وعيد لـه يهتف الشـاطئان
وإكليله من عيون الزهر...

ومصر العلا .. أم كل طموح..
إلى المجد شدت رحال السفر

وأمي فلسطين بنت الجـراح
ونبت دماء الشهيد الخضـر

يؤجـج تحنانهـا في القلوب
ضرامًا على ثائرها المستمر

وأمي كل بـلاد.... تثـور
أضالعـها باللظى المستطـر

تمج القيود.... وتبني الخلود
تعيـد الشباب لمجـد غبـر

فإن الدمـاء تزف الدخيـل
إلى القبر.. رغم صروف القدر

وتنسج للشعب نور العـلاء
بحـرية الوطـن المنتصـر


حصل على الثانوية العامة عام 1957، والتحق بكلية الآداب 1958. وقد ساعده ذلك على الإقامة في القاهرة لتتاح له فرصة جديدة ونقلة حقيقية في مجال القصيدة الدنقلية كما يقول عنه "قاسم حداد" في مقاله: "سيف في الصدر" في مجلة "الدوحة" أغسطس 1983: "دون ضجيج جاء إلى الشعر العربي من صعيد مصر، وكتب قصيدته المختلفة، وكسر جدران قلعة القصيد كما لم يعهد الشعر العربي القصائد ولم يعهد الكسور".

وهذه قضية أمل الكبرى التي عاش من أجلها كالمحارب تماما، وهو يعبر عن ذلك حين يقول:

كنت لا أحمل إلا قلما بين ضلوعي
كنت لا أحمل إلا قلمي
في يدي: خمس مرايا
تعكس الضوء الذي يسري من دمي
افتحوا الباب
فما رد الحرس
افتحوا الباب ….. أنا أطلب ظلا
قيل: كلا

وانفجر أمل في الشعر بهدوئه العجيب.. فلم يمكث في القاهرة سوى عام واحد؛ إذ رحل عنها 1959 إلى قنا ثانية حيث عمل موظفا بمحكمة قنا، لكن تهويمات الشعر وخيالاته لم تكن تدع مبدعا كأمل لوظيفة رتيبة مملة.. ترك العمل لانشغاله بالشعر والحياة، واستمر شعره هادفا ثائرا على الواقع، وأحيانا ساخرا منه بأسلوب يحيل هذه السخرية إلى إبداع شعري غاية في الشفافية تطلق في ذهن القارئ العديد من المعاني الشعرية.

أمل الثورة

ورغم شعارات ثورة يوليو وانجذاب الكثيرين لها؛ حيث كانت الثورة أمل جموع الشعب الكادح، ومنهم أمل دنقل الفقير ابن أقصى الصعيد.. فإن ذلك لم يخدعه كآخرين، حيث كان متنبها لأخطائها وخطاياها؛ فقد سجل رفضها بعين الباحث عن الحرية الحية لا شعارها؛ ففتح نار سخريته عليها، فهو يرفض الحرية المزعومة التي فتحت أبواب السجون على مصراعيها.. يقول أمل:

أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك
باق لك الجبروت، باق لك الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
تفرّدت وحدك باليسر
إن اليمين لفي خسر
أما اليسار ففي عسر
إلا الذين يماشون
إلا الذين يعيشون..
يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون
إلا الذين يوشُون
إلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
الصمت وشمك..
والصمت وسمك
والصمت أنى التفتّ
يرون ويسمك
والصمت بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين
يلف الفراشة والعنكبوت

لم يستقر أمل دنقل في وظيفة أبدا فها هو يعمل موظفا في مصلحة الجمارك بالسويس ثم الإسكندرية، ويترك الوظيفة، لقد اعتاد أمل دنقل الترحال، وربما ورثها من طفولته حال حياة والده، ولكن انغماسه في الشعر قوّى ذلك في نفسه، وجعله يتحلل من قيود المكان وقيود الوظيفة، فقد ترك دراسته في السنة الأولى الجامعية، وترك عمله بقنا، وها هو يترك السويس إلى الإسكندرية، بل يترك العمل الوظيفي ليعلن لنا بنفسه في أخريات حياته أنه لا يصلح إلا للشعر فيقول: "أنا لم أعرف عملا لي غير الشعر، لم أصلح في وظيفة، لم أنفع في عمل آخر…" توصل أمل دنقل إلى ذلك قبل أفول نجمه بثلاثة أيام فقط.
وفي 1969 يصدر الديوان الأول لأمل دنقل بعنوان: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" تأثرا بالنكسة، وبعده بعامين ينشر أمل دنقل ديوانه الثاني: "تعليق على ما حدث"، ثم يأتي نصر 1973 وعجب الناس من موقف أمل دنقل؛ إذ هو لم يكتب شعرا يمجد هذا النصر حيث يصدر ديوانه الثالث: "مقتل القمر" 1974 دونما قصيدة واحدة تحدثنا عن النصر، وفي 1975 يصدر ديوانه: "العهد الآتي".

عشق الترحال والحياة

وفي أحد أيام سنة 1976 يلتقي أمل دنقل بالصحفية "عبلة الرويني" التي كانت تعمل بجريدة "الأخبار" فتنشأ بينهما علاقة إنسانية حميمة، تتوج بالزواج 1978، ولأن "أمل" كان كثير التنقل والترحال فقد اتخذ مقرًا دائما بمقهى "ريش"، وإذا بالصحفية "عبلة الرويني" زوجة الشاعر الذي لا يملك مسكنا، ولا يملك مالا يعدّ به السكن تقبل أن تعيش معه في غرفة بفندق، وتنتقل مع زوجها من فندق لآخر، ومن غرفة مفروشة لأخرى.
ويستمر أمل دنقل يصارع الواقع العربي بإنتاج شعري مميز فيكتب: "لا تصالح"، رافضا فيها كل أصناف المساومات، متخذا من الأسطورة رمزا كما عودنا من ذي قبل، ولكن أمل دنقل كُتب عليه صراع الواقع العربي الذي ما برح يكتب فيه حتى واجه بنفس قوية وإرادة عالية صراعه مع المرض، ودخل أمل المستشفى للعلاج، وكان لا يملك مالا للعلاج الباهظ الذي يحتاجه في مرضه.
وبدأت حملة لعون الشاعر من قبل الأصدقاء والمعجبين، وكان أولهم "يوسف إدريس" -أديب مصري- الذي طالب الدولة بعلاج أمل على نفقتها.
وطلب أمل من أصدقائه التوقف عن حملة المساعدة. كان أمل لا يريد أن ينشغل أحد بمرضه، وظل أمل دنقل يكتب الشعر في مرقده بالمستشفى على علب الثقاب وهوامش الجرائد.. ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه، حتى إنه يتم ديوانا كاملا باسم: "أوراق الغرفة 8".
يموت الألم في أمل دنقل مع صعود روحه لبارئها، لكنه يترك تاريخا مضيئا بالشعر وآرائه السياسية التي كانت تصدر عنه بروح القادر ونفس الحر دون أن ينجرف إلى تيار معين يفسد عليه انتماءه للشعر.. ودون أن يترك حدثا بلا قول وخطر، بل وسخرية موجهة.






أمل .. الذي جعلنا نحب الشعر
شهادة نشرت في جريدة أخبار الأدب


أمل دنقل هو آخر الشعراء الجاهليين العظام ، يقف بمحاذاة النابغة الذبياني ، وعنترة ، وامرؤ القيس ، وتأبط شرا ، وعمرو بن كلثوم ، يشبههم في لغته المستقاة من عصرهم ، في ثوريته ، في هجائه وفي مديحه ، في بكائياته ،وربما في وقوفه على الأطلال ، و في شاعريته ، يشبههم في أنه يصلح أن يتحول لأيقونة مختلفة تعلق على جدار الزمن ، لكن ربما يبدو السؤال الجدير بالإجابة هنا ، هل كان من الجيد أن يشبههم أم لا ؟
في عصره كان أمل دنقل شاعر مختلفا ، ولهذا عاش حتى الآن رغم موت الكثيرين من شعراء عصره الذين لا زالوا على قيد الحياة ، قرأ التراث العربي القديم وقدمه لقارئه بروح مختلفة ، قدم أمل دنقل قصيدته المتحررة من إطار القصيدة العمودية الساقطة في إسر القافية في قصيدة التفعيلة بشكل يبدو جميلا ، حتى لغة أمل ، صوره ، إسقاطاته ، تبدو مختلفة ، محاولاته أن يكتب قصيدة ملحمية درامية ، هو النوع الذي كان يغيب عن المشهد الشعري العربي .
تحول أمل دنقل إلى أيقونة سياسية ، طغت على كونه أيقونة شعرية ذات نكهة خاصة، ربما لتجربته السياسية شديدة التأثير ، ربما لأن المناخ السياسي العام في الستينات كان يحبذ أن يفرز شاعرا كهذا ، تماما كما أفرز صلاح جاهين الذي غنى لعبد الناصر ، ربما لأن عصر " قلب العروبة النابض " ، " ومن الخليج الثائر إلى المحيط الهادر " كان يحتاج شاعرا يكتب " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " والكحكة الحجرية فيما بعد
هل تتوقف تجربة أمل دنقل عند هذا فحسب ، هل يمكن اختزال تجربة أمل دنقل في أبيات يرددها الثوار في المظاهرات ، وطلبة الجامعة في الندوات السياسية، أعتقد أن أمل دنقل كشاعر أعمق من هذا .

أرفض حبس أمل في خانة شاعر قصيدة " لا تصالح " أو وصفه بأنه مجرد " أمير شعراء الرفض " كما يفضل محبو القصيدة السياسية أن يسموه ، ربما يبدو هذا جزءا من تجربته ، ولكن ليس كل التجربة ، التجربة التي نضجت واتضحت في ديوان " أوراق الغرفة 8 " فقدم قصائد تنضح بالهم الإنساني ، أقرب إلى قصيدة النثر في مفهومها العام .
القصيدة السياسية بالطريقة التي كتب بها أمل دنقل قصائده ، ليست سبة ، خاصة لو قارناها بقصائد شاعر مثل نزار قباني ، حينها سيتبين لنا الفارق : مقدار الخفة التي تسم قصيدة نزار ، و البعد الجمالي والإسقاط باللجوء إلى الأسطورة والتراث الإنساني والعربي القديم والملحمية التي تسم قصائد أمل ، وربما لو نزعنا قصيدة لا تصالح من دلالتها السياسية وتوقفنا عند دلالتها التاريخية الأعم " حرب البسوس بين أبناء العمومة و وصية كليب لأخيه المهلهل بن ربيعة بن مرة " ربما لكانت أكثر شاعرية ، ولكن ربط القصيدة بالسلام مع إسرائيل والإسقاط السياسي المباشر قد أضرا بها .
أمل دنقل ظاهرة شعرية مهمة ، وإلا ما كان يجري الاحتفال به ، وتذكره كل عام ، يبدو مختلفا حقا عن كل شعراء جيله ، تبدو ثقافته مختلفة ، لغته الشعرية ، صورته لدى قارئه مختلفة ، قد يختلف البعض مع بعض ما كتبه ، لكن أحدا لا يستطيع نفي شاعريته وتأثيره في مجمل القصيدة التفعيلية ، كما لا يمكن الحديث عن فترة الستينات والسبعينات بالفوران السياسي ـ الحقيقي ـ الذي كانت تموج به تلك الفترة ، من غير أن نتذكر أن أمل دنقل رصد كل هذا في قصائده ، لكن كيف رصده ؟ ، يبدو هذا سؤالا آخر جديرا بالإجابة .
قراءة في قصيدة أمل دنقل: خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين
لـسن عزوز

إن عملية الاستبصار الشعري لشخوص التراث إضاءة لمتاهات البنى الخفية لعالم الذات، وللعالم الخارجي، وما أكثر النوافذ المغلقة، وما أشق أن نسمع أخفى الهمسات ونلتقط أدق الجزئيات، ونرسم بحساسية شبكية مفرطة،
ملامح، وظلالا للأحداث والأشخاص، يكون من شأنها فنيا، أن تقيم البناء الحدثي، وتجسد الشخوص في التنامي المتكامل، وفي القدرة الخلاقة على نفخ الروح في التراث التاريخي.
يقول أمل دنقل*، في قصيدته ' خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين' :

هَا أَنْتَ تَسْتَرْخِي أخِيرًا..
فَوَدَاعَا..
يَا صَلاَحَ الدِينْ،
يَا أَيُّهَا الطَبْلُ البِدَائِي الذِّي تَرَاقَصَ المَوتَى
عَلَى إيقَاعِهِ المَجْنُونْ،
يَا قَارِبَ الفِلِينْ
للعَرَب الغَرقَى الذِينَ شَتَّتَهُمْ سُفُنُ القَرَاصِنَة
وأَدْرَكَتْهُم لَعْنَةُ الفَرَاعِنَة
وَسَنَةً .. بَعْدَ سَنَة..
صَارَتْ لَهُمْ ' حِطِينْ' ..
تَمِيمَةَ الطِفْلِ، وَإكْسِير الغَد العِنّينْ
( جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)
( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)
مَرَّتْ خُيُولُ التركْ
مَرَّتْ خُيُولُ الشرْكْ
مَرًّتْ خُيُولُ المَلِكِ - النِسْر،
مَرَّتْ خُيُولُ التَتْر البَاقِينْ
وَنَحْنُ ـ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ - فِي مَيَادِينِ المُرَاهَنَة
نَمُوتُ تَحْتَ الأحْصِنَة!
وَأنْتَ فِي المِذْيَاعِ، فِي جَرَائِدِ التَهْويِنْ
تَسْتَوْقِفُ الفَارِين
تَخطُبُ فِيهِم صَائِحًا: ' حِطِّينْ '..
وَتَرْتَدِي العَقَالَ تَارَةً،
وَتَرْتَدِي مَلابِسَ الفِدَائِيِينْ
وَتَشْرَبُ الشَايَ مَعَ الجُنُودْ
فِي المُعَسْكَرَاتِ الخَشِنَة
وَتَرْفَعُ الرَايَة،
حَتَى تَسْتَرِدَّ المُدُنَ المُرْتَهنَة
وَتُطْلِقُ النَارَ عَلَى جَوادِكَ المِسْكِينْ
حَتَى سَقَطْتَ ـ أيُهَا الزَعِيمْ
وَاغْتَالَتْكَ أيْدِي الكَهَنَةْ!
( وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بالخُلْدِ عَنْه..)
( نَازَعَتْنِي ـ لِمَجْلِسِ الأَمْنِ- نَفْسِي!)
نَمْ يَا صَلاَحَ الدِينْ
نَمْ.. تَتَدَلَى فَوقَ قَبْرَكَ الورودُ..
كَالمِظَلَيين!
وَنَحْنُ سَاهِرُونَ في نَافِذةِ الحَنِينْ
نُقَشّرُ التُفاحَ بِالسِكـِّينْ
وَنَسْأَلُ اللَّهَ ' القُرُوضَ الحَسَنَةْ'!
فَاتِحَة:
آمِينْ. (1)
العنوان هنا وحده، يحمل قدرا كبيرا من الاكتناز الدلالي، ولعل القارئ يلاحظ، أن العنوان يرتبط أشد الارتباط بالنص الذي يعنونه، فهو إن شئت نص مختصر، يتعامل مع نص مفصل، فالعنوان دوما عبارة عن نص مختصر، يتعامل مع نص أكبر حجما، يعكس كل أغواره وأبعاده، ومن هنا لا نجد بدا من الاشارة إلى ' أن أغلب الذين يتعاطون الكتابة، إنما يجدون كل الصعوبة في اختيار عنوان أعمالهم' (2)، وبهذا فالعنوان عبارة عن رسالة يبثها المرسل إلى المرسل إليه، وهي مزودة بشفرة لغوية يحللها المستقبل ويؤولها، بلغته الواصفة، وترسل عبر قناة، وظيفتها الحفاظ على الاتصال، ولفهم هذه الوظائف، يستحسن الاعتماد، على الوظائف الست، التي تكلم عنها ' رومان جاكبسون' وهي: ' الوظيفة المرجعية والانفعالية والافهامية، والشعرية أو الجمالية والتنبيهية، والانعكاسية'(3)
نبرزها في المخطط التالي :
العنوان: خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين.
الخطاب: يمثل الحركة والحاضر.
التاريخ: يمثل الماضي والاستنجاد به أو اقتباسه وتقمصه و(غير) رد فعل رافض لهذا التاريخ لدى الشاعر.
صلاح الدين والقبر: يمثل رفضا مطلقا في خيال الشاعر للبطل الفرد فأمل يرى أن التكامل لاثبات الوجود ليس شخصا ولا مؤسسة مهما كانت وإنما هو التواجد الجماعي لتحقيق الغاية.
إن الأحداث السياسية والأوضاع الاجتماعية، كانت مصدرا هاما، من مصادر، التجربة الشعرية لدى أمل فقد برز في ظروف منكسرة من تاريخ مصر الحديث، تشابكت فيها الأحداث السياسية، وتفاعلت مع نفسه، مكونة كتلة من الأحاسيس، القاتمة، الممزوجة بألوان الحزن والألم واليأس والخوف على المصير المشترك، الذي آلت إليه البلاد العربية، بما منيت به من انكسارات وشروخات، أضاعت هيبتها ومست سيادتها، فاتخذ له في ذلك، طريقا سياسيا في شعره، مستمدا مواضيعه من أوضاع شعبه الممزق، بين ظلمة الاستعمار في الماضي، وسلطة الحكام المستبدين في الحاضر:
هَا أنْتَ تَسْتَرْخِي أخِيرًا..
يتخذ السطر الاول، كطبيعة بسيطة في تحصيل الحاصل، ونزع إفرازات الهلوسة، في تشيؤ الفكرة، يعني أن الاسترخاء، أمر معلوم جدا، ومنطقي لا يستهدف الحاضر بالسلبية أو الإيجابية، فالمرحلة التي تمثل المجد والتوحد الشعبي، التي رمز إليها في شخص ' صلاح الدين'، يعتبرها اللاجدوى في تحريك الواقع، الفكري، فالطبْل البدائي لا يضيف تجديدا ولا فائدة من توظيفه، إنما للنشء مفاهيم تتعدى عصر الواقع في إطار الماضي وتشجيع الواقع على تقمص الماضي، فالرغبة الحقيقية للتغيير والمقاومة، تكون من الحاضر نفسه، باعتبار أن الحاضر يفرض حضورا على الساحة الدولية، لا تغييبا عنها وذلك يتحقق حسب مصطلحات العصر ومغيرات الفكر، وتجديد المجتمع، وتسليح الفرد واستقطاب المعيار الواقعي، لخلق تحدّ ٍ يوازي الضعف، كانت السفينة فلينية ( يَاقَارِبَ الفِلِّينْ)، وكان الشعب عربا أي ضعفا، ولاوجودية في الحسابات الدولية، لأن الحسابات العالمية، لا تنطلق من الأرقام، البشرية وإنما من التكتلات التكنولوجية والاقتصادية، ولمزيد من الايضاح نستعين بالمخطط التحليلي الآتي:
خطاب تاريخي على قبر صلاح الدين
ها أنت تسترخي أخيرا.. - يا أيها الطبل -
يا قارب الفلين للعرب الغرقى
فالطبل لايضيف شيئا ولا جديدا ولا تجديدا فالنشء له مفاهيم تتعدى حصر الواقع في إطار الماضي وهذا ما يؤكده العنوان في نفي التاريخية.. للحاضر.. ! وحالة الاسترخاء في نظر الشاعر.. أمر معلوم.. وطبيعي جدا!! الشاعر أيضا يشير إلى فلينية السفينة وهنا تتدفق رؤاه الجمالية في تناص ذاتي مع قصيدة ' مقابلة خاصة مع ابن نوح'، فهاهم الحكماء الجبناء يفرون نحو السفينة.. سفينة فلينية، هشة، تدفعها الرياح أنى شاءت!! وها هم العرب الغرقى، الذين يمثلون الضعف، والترهل: ( المغنون ـ سائس خيل الأمير ـ المرابون ـ قاضي القضاة ـ راقصة المعبد ـ جباة الضرائب ـ مستوردو شحنات السلاح ـ عشيق الأميرة) !!
يقول الشاعر: ' يجب التنبه إلى أن العودة للتراث لا يجوز أن تعني السكن فيه، بل اختراق الماضي كي نصل إلى الحاضر استشرافا للمستقبل' (**) ولذلك وظف هذه الإيحاءات: وَلَنَا المَجْدُ ـ نَحْنُ الذِينَ وَقَفْنَا
( وَقَدْ طَمَسَ اللهُ أَسْمَاءَنَا)
' مقابلة خاصة مع ابن نوح'.
وَنَحْنُ ـ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ - فِي مَيَادِينَ المُرَاهَنَة
نَمُوتُ تَحْتَ الأَحْصِنَةِ !
' خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين'.
بطبيعة الحال، تغيرت من حول النفس الباطنية عند الشاعر أمل دنقل كل رموز الخلق الإبداعي، في تطوير المجتمعات من زاوية إلى زاوية أخرى، وهذا ما يجعل صورة ( الفلين)، أكثر دلالة على عمق الضعف والترهل للذي يحاول أن يتزعم الفكرة، مهما كانت.. أن يجعل منها قارب ( نجاة!) ـ كما يفعل الحكماء، الجبناء عندما فروا إلى السفينة طالبين النجاة في قصيدة ' مقابلة خاصة مع ابن نوح' للشاعر نفسه - حيث يصيح سيد الفلك:
( انْجُ مِنْ بَلَدٍ.. لَمْ تَعُدْ فِيهِ رُوحْ!). كان طبيعيا جدا، أن تكون كصيغة مادية، تجسد قيمة الانحطاط الاجتماعي الذي يعاني منه الفراغ القومي الذي كان فكرة تعدت حدود الوطن الواحد وعقلية الشاعر الواحد، إلا أن الاستمرار في التمسك بهذه القوة الضعيفة، يعني عودة إلى ما سلف من معاني الاندثار الروحي، فالقومية أساءت إلى عقلية كانت أكثر علمية، ورقعة كانت أكثر اتساعا، فعامل التقزيم، داخل رفض القصيدة، كان شديد اللهجة :
وأَدْرَكَتْهُم لَعْنَةُ الفَرَاعِنَة ْ
وَسَنَةً .. بَعْدَ سَنَة ْ..
صَارَتْ لَهُمْ ' حِطِينْ' ..
تَمِيمَةَ الطِفْلِ، وَاكْسِير الغَدِ العِنّينْ .
والفرعونية كرمز من رموز القصيدة، يدل على الانغلاق على ما يعتبرونه ساميا، وأحد أسباب الأفول في الحضارة الفرعونية نفسها، أي أن رمز ( حطين) يريد به الشاعر أن يفجر الشعور عند الشعوب التي فقدت علاقة القرابة بين بعضها البعض، في اللسان إلى البصيرة والعقيدة والهدف. حاول الشاعر تضخيم الحدود الزجاجية، التي لا تصلح إلا للمتاحف، أي لكل ما أنهكه الأفول وقضى عليه، أي أن إحياء الموت، لا يعني العودة إلى الحياة.
ويستمر الانكسار، وتستمر الرغبة الشديدة في المطالبة بالحل، كان الحل عملية همسية، ليست بالوضوح الذي يكون في لغة الأرقام، بل في لغة تكون جامعة بين الشعب والسلطة، هكذا اكسير الغد العنين، رمز يعني فوضى تحديد الموقف بشكل علاجي بحت وإنما هو محاولة للاعتراف بالداء، والفرق شاسع. يبقى عامل التاريخ أحد المصطلحات التي رافقت تطور القصيدة في باطن المعنى، هو عند الشاعر قوي جدا :
( جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)
( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)
مَرَّتْ خُيُولُ التركْ
مَرَّتْ خُيُولُ الشرْكْ
مَرَّتْ خُيُولُ المَلِكِ ـ النِسْر،
مَرَّتْ خُيُولُ التَتْر البَاقِينْ
وَنَحْنُ ـ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ - فِي مَيَادِينِ المُرَاهَنَة ْ
نَمُوتُ تَحْتَ الأحْصِنَة ْ! (4)
إن الجمع بين ( التتار، الشرك، الملك النسر)، وبقاء التتار مربوط بفعل ( مَرَّ)، ويعني هنا ( أحدث وأثَّر)، والشاعر يعرف وجوههم واحدا، واحدا : الحكماء، الجبناء، الذين مروا أيضا على ' نوح' ـ عليه السلام - ورأوه منهمكا في صنع السفينة.. والجفاف سائد.. وليست هناك أنهار قريبة، أو بحار.. كيف ستجري هذه السفينة إذن يا نوح؟ .. هل ستجري على الأرض.. أين الماء، الذي يمكن أن تسبح فيه سفينتك؟ ' وترتفع ضحكات الكافرين، وتزداد سخريتهم من نوح.. إن قمة الصراع في قصة نوح تتجلى في هذه المساحة الزمنية.. إن الباطل يسخر من الحق.. يضحك عليه طويلا، ويسخر منه طويلا' (5).
قال تعالى، في سورة هود: ) وَيصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ، سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ إنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُون َ (6) ، كذلك الترك والمشركون والملك النسر.. كلهم رموز مختلفة لقوى استلابية واحدة!.
والملك النسر، ليس هو سبيل النجاة، في نظر الشاعر، لأن القوة الحضارية الآن، ترتبط بشخص مهما كان، ولكنها ترتبـــط ارتباطــا، عضويــا وكليــا بالشعـــب نفســـه، وهذا يجعلنا نتساءل عن الكيفية التي نجعل بها من الكتل البشرية ( الشعب)، الراكدة المتجمعة حول غايات بسيطة، سطحية، قوى ديناميكية، تصنع التاريخ وتغير مجراه، نحو هذا الهدف أو ذاك؟ ، ويقوم المفكر الكبير ' مالك بن نبي' ( ***) ، بعملية تحليل جد مركزة ( الاستعصار)، ليخلص في النهاية، إلى أن أي مجتمع في نقطة إقلاعه، ليس أمامه من رأس مال ' سوى ثلاثة عوامل مادية: ( الانسان ـ التراب ـ الوقت) '(****) .
ومن ثمة استطاع صياغة معادلته الحضارية المشهورة: ( حضارة = إنسان + تراب + وقت ).
وينقلنا المفكر الكبير، إلى حقل آخر من حقول المعرفة البشرية، التفاعلات الكيميائية، ليقيم مقارنة بين معادلته الحضارية والمعادلة الكيميائية: ( ماء = أكسجين + هيدروجين ) .
حيث لا يتشكل الماء إلا بوجود ( مركب) ، أي شرارة كهربائية، ومن ثمة يؤكد أنه لنا الحق في أن نقول: ' أن هناك ما يطلق عليه ( مركب الحضارة)، أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، فكما يدل عليه التحليل التاريخي.. نجد أن هذا المركب موجود فعلا، هو الفكرة الدينية، التي رافقت دائما، تركيب الحضارة خلال التاريخ' (7) ، فالقاعدة والبنية الحقيقية للمجتمعات، ليست شريحة من المجتمع نفسه، مهما بلغت مكانة هذه الأخيرة، وإنما الرأي السديد، وتحديد المصير الروحي يكون في يد الشعوب كما عرفنا ذلك، أي الطاقة الحقيقية، ليست وطنا يمثله شخص بعينه مهما علا شأنه وعظم سلطانه، وإنما الثروة الحقيقية، هي الطاقة البشرية، الانسانية، الروحية، التي يعتمد عليها الشخص الواحد في تغيير أدوار الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتكنولوجية والعسكرية، بذلك يثبت لنا أن التتار، ليس رمزا للموت والخراب والدمار، كما أن الملك النسر ليس رمزا للحياة :
وَأنْتَ فِي المِذْيَاعِ، فِي جَرَائِدِ التَهْويِنْ
تَسْتَوْقِفُ الفَارِينَ
تَخُطُبُ فِيهِم صَائِحًا: 'حِطِّينْ '..
وَتَرْتَدِي العقَالَ تَارَةً،
وَتَرْتَدِي مَلابِسَ الفِدَائِيِينْ
وَتَشْرَبُ الشَايَ مَعَ الجُنُودْ
فِي المُعَسْكَرَاتِ الخَشِنَةِ
وَتَرْفَعُ الرَايَةْ،
حَتَى تَسْتَرِدَّ المُدُنَ المُرْتَهنَة ْ
وَتطْلِقُ النَارَ عَلَى جَوادِكَ المِسْكِينً
حَتَى سَقَطْتَ ـ أيُهَا الزَعِيمْ
وَاغْتَالَتْكَ أيْدِي الكَهَنَة ْ!
( وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخلْدِ عَنْهْ..)
( نَازَعَتْنِي ـ لِمَجْلِسِ الأَمْنِ - نَفْسِي ! )
نَمْ يَا صَلاَحَ الدِينْ
نَمْ.. تَتَدَلَى فَوقَ قَبْرَكَ الوِرْودُ..
كَالمِظَلَيين !(8)
تتواصل رواسب المعاناة والأفكار، التي تشعر بإرهاق كبير شديد، أكثر ما يرهقها، هو طريقة تفجير المغيرات في عقول المتغيرات، وهو باب مفتوح في أفكار القصيدة، غير مغلق، بإمكان أي شاعر أن يواصل من خلاله كتابة شعرية تنصب في إطار القصيدة العام لأنها فكرة جوهرية وأفكار جزئية، وأحاسيس مشتركة بين عامة أبناء هذا الوطن الكبير، يواصل الشاعر سرد المعاناة التاريخية، في تحديد الشخص الواحد، حيث يعطيه أدوارا كثيرة في ارتداء العقال وملابس الفدائيين وأشياء كثيرة يحاول من خلالها إبراز الخلل التاريخي والتحذير الكلي من الوقوع فيه، إلى غاية المقطع الأخير :
وَنَحْنُ سَاهِرُونَ فٍي نَافِذَةِ الحَنِينْ
نُقَشِرُ التُفَاحَ بِالسِكِينْ
وَنَسْأَلُ اللَّهَ ' القُرُوضَ الحَسَنَة ْ'!
فَاتِحَة:
آمِينْ. (9)
وهنا تعبير قائم في شبه اللامعاناة، التي كانت محور القصيدة، وبهذا كان النص يعبر عن تحليل فكري يخص الشاعر ويخص المرحلة التاريخية التي سبقت كتابة القصيدة، ولكنه تحليل يمتاز بمنطقية شديدة وحسية بالغة الأهمية، مَثَّلَ الشاعر في قصيدته، دور المدافع عن الملك أو الحاكم، لتجسيد قيمة حقيقية للخلفية الشعبية، المغيبة تماما.
وإذا عدنا إلى القصيدة فسنجد أن الشاعر ما زال يغترف ويستوحي نصوصه عن طريق ( التناص) في علائق مع خطابات أخرى، في مثاقفة حصيفة مع أبيات الشاعر ' أحمد شوقي'، تضفي على شعر ( أمل)، عدا جمالياته عتاقة وجلالا، وصيغة حضارية، متواصلة، ويظهر نسيج التناص في البيتين التاليين:
(جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)
( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)
( وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخُلْدِ عَنْهْ..)
( نَازَعَتْنِي ـ لِمَجْلِسِ الأَمْن ِ- نَفْسِي!).
فالبيت الأول يتناص مع بيت من مسرحية ( مجنون ليلى) لأحمد شوقي :
جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا وَسَقَى اللَّهُ صِبَانَا وَرَعَى (10)
ويستخدم الشاعر المفارقة الصارخة الساخرة حيث الشاعر ' يدمر التوقع الذي يثيره البيت المضمن عن طريق بناء صيغة ساخرة مناقضة لمستوى مشابهة الحقيقة (Vraisemblance )، في البيت المضمن، وتشكل الصيغة الساخرة، في العبارة ( ثرانا الأجنبي ) تحولا تاما في المضمون والقافية'(11) ،أما البيت الثاني، فيتناص مع بيت من قصيدة للشاعر أحمد شوقي وهي معارضة لسينية البحتري:
وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخُلْدِ عَنْهُ نَازَعَتْنِي إلَيْهِ فِي الخُلْدِ نَفْسِي (12)
حيث ' تكسر صيغة - مجلس الأمن - السياق المضموني في السطر الشعري مع الاحتفاظ بالقافية'(13)، فهذه التناقضات والمفارقات بين مستويات الخطاب ' تعادل الواقع المعيش، وتشكل في الوقت نفسه انقطاعا تاريخيا،.. يماثل الانقطاع في الذاكرة الشعرية ومن ثم انقطاع الاستمرارية التاريخية والثقافية على السواء' (14) ، وحيث الخطاب يبقى غير تاريخي! في هذا الزمن اللاتاريخي!.
الهــوامــش :
* أمل دنقل، شاعر مصري ولد سنة 1940 و توفي سنة 1983، أهم دواوينه ' البكاء بين يدي زرقاء اليمامة'.
(1). أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 2 ، 1985، ص398، 399.
(2). إبراهيم بادي، ' دلالة العنوان وأبعاده في ( موتة الرجل الأخير)'، مجلة ' المدى' سورية، عدد 6 ، 1999، ص113.
(3). بييرجيرو، علم الاشارة ( السيميولوجيا)، ترجمة: منذر عياشي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، سورية، ط1، 1998،ص30.
(**) جهاد فاضل، ' أزمة حرية.. وليست أزمة شعر'، ( حوار مع الشاعر أمل دنقل)،مجلة ' آفاق عربية'، العراق، ع 3 ، السنة السابعة، 1981 ص114.
(4). أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، ص397.
(5). أحمد بهجت، أنبياء الله، ' دار الشروق' لبنان، ط7، 1980، ص54.
(6). سورة هود، الآية 38، مكية.
( ***) مالك بن نبي: مفكر وفيلسوف كبير، ولد في قسنطينة في الجزائر سنة ( 1905) لأبوين فقيرين، وتوفي في الجزائر في 31 تشرين الأول ( اكتوبر) 1973. للمفكر اثنان وعشرون (22) مؤلفا مطبوعا واثنا عشر مؤلفا مخطوطا.
انظر: ' مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن' ، ' دار الفكر'، دمشق، سورية ، ' دار الفكر' ، الجزائر، ط2 ، 1984 .
- مالك بن نبي، ' في مهب المعركة' ، ' دار الفكر'، دمشق، سورية، ط1، 1981.
- ( ****) معنى التراب هنا ليس بالمعنى المتبادر إلى الذهن، إنما المقصود به كل شيء على الأرض وفي باطنها، سواء أكان ثمرا أو معدنا، ولعل المفكر استوحاه من قوله تعالى: ' وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعَا مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَرُون . سورة الجاثية، الآية13، مكية.
انظر: ' مالك بن نبي: تأملات في المجتمع العربي'، ' دار الفكر'، دمشق، سورية، 1985، ص167.
(7). مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة : عبد الصبور شاهين، /عمر كامل مسقاوي، ' دار الفكر'، الجزائر، ' دار الفكر' سورية، ط 4، 1987 . ص48.
(8). أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، ص398، 399.
(9). أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، لبنان، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 2 ، 1985، ص398، 399.
(10). أحمد شوقي، ' مجنون ليلى'، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1983، ص112.
(11). اعتدال عثمان، ' إضاءة النص'، ' دار الحداثة للطباعة والنشر'، لبنان ط 1، 1988 ص183.
(12). أحمد شوقي، ' الشوقيات'، دار العودة، بيروت، لبنان، مجلد 1 ، 1986، ص46.
(13) اعتدال عثمان، ' إضاءة النص'، ص183.
(14) المرجع نفسه، ص183.







مَنازِلُ الشَّمْسِ في شِعْرِ أمل دنقل

نَمَطٌ مِنْ تَأْويلِ الأحاديثِ أَفْضَل

مُقَدِّمَةٌ
أقسم الحق - سبحانه، وتعالى! - بالشمس ، في مطلع سورة باسمها: "والشمس وضحاها" (1) ، التي عبدها بعض الأمم : "وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله" (2) ، على رغم أنه – سبحانه ، وتعالى!- كره بقاء آثار الإشراك به .

وبهت سيدنا إبراهيم - عليه السلام! - النمروذ ، بالشمس: "إن الله يأتي بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب" (3) ، التي بهرته من قبل : "لما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر" (4) ، على رغم أنه – عليه السلام! – أدرك ما فيها من نقص المخلوق عن كمال الخالق؛ فهي التي تشرق على الدنيا ؛ فكأنها لم يمسها ظلام ، ثم تغرب عنها ؛ فكأنها لم يمسها ضياء .

سبحان الذي ذكر الشمس في كتابه ثلاثاً وثلاثين مرة (5) ، بين العابدية والمعبودية ، والقريبية والبعيدية ، والشارقية والغاربية ، والمضيئية والمشعلية - وسخرها لاحتمال الأضدا د؛ فأمنها ناس وخافها آخرون ، وأحبها ناس وأبغضها آخرون!.

ومن الناس؟

قال عبدالله بن المبارك ، السيد العالم – رحمه الله ! – : هم العلماء ، جوابًا صريحًا(6) .

وقال أحمد شوقي ، السيد الشاعر – رحمه الله! – هم الشعراء ، جواباً ضمن بيته :

"جاذبتني ثوبي العصي وقالت أنتم الناس أيها الشعراء" (7) .

وكلا الجوابين سواء ؛ فالعلم والفن ، ومنه الشعر - سبيلان إلى الحقيقة مختلفان مؤتلفان ، وكفى دليلاً أن الشعر في أصل لغتنا ، العلم (8) .

لم يجد السيدان ابن المبارك وأحمد شوقي - رحمهما الله ! – في غير العلماء والشعراء ، من علامات الحياة شيئاً ! وكيف يدعي الحياة من لم يختبر ما فيه وما حوله بالعلم ، أو يذقه بالفن !

قال السيد أبو العتاهية - رحمه الله ! - :

" لا تطلع الشمس ولا تغيب إلا لأمر شأنه عجيب " (9) .

ولم يكن عجيب شأنها عند السيد أبي أمامة ، إلا "الغلبة" :

"فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب" (10) .

ثم لم يمر يوم من أيام هذا الحيّ ، منذ حملق في الشمس أمنا أو خوفاً ، وحبّاً أو بغضاً - إلا بمعنى لها عنده ، وليد جديد ، حتى إذا ما نشأ المتأخر ، ورث ذلك كله ، ورباه ونماه وزكاه . وإنا لنعجب كما عجب السيد أبو الفوارس ، أن يبقى للمتأخر ما يزيده :

"هل غادر الشعراء من متردم"! (11) .

ونوشك أن نقر للسيد زهير ، مقالته :

"ما أرانا نقول إلا معارًا أو معادًا من لفظنا مكرورا" (12) .

- لولا ما نعرف من فطرة الأحياء على الاختلاف : "الناسُ أخيافٌ" (13) .

شَمْسُ الصَّعيدِ :

نفذ في القاهرة سنة 1957م ، محمد أمل فهيم أبو القاسم محارب دنقل ، المعروف بأمل دنقل (14) ، الشاب الصعيدي الشاعر المسنون ، في السابعة عشرة من عمره القصير (1940-1983م)- مؤمناً بالحياة شعراً وبالشعر حياة (15) ؛ فذاق معالم الحياة كما لم يذقها أقرانه (16) ، وأولع بذكرها في شعره كما لم يولعوا (17) ، وكأنه كان يبادر الموت!

كيف لا يذوق الشمس إذًا صعيديٌّ ، وهي الصعيد ، ويولع بذكرها من يبادر الموت ، وهي الحياة!

لقد تبينها على سبيل الاستعارة التصريحية ، في {12} منزلا (معنى) ، في {55} مرة ، في {33} قصيدة من {89} هي مادة مجموعاته السبع بطبعة ديوانه الأخيرة ، على النحو التالي في الجدولين (18) :



لقد نزلت الشمس في مجموعات الديوان كلها ؛ فلم يكن لمثل هذا الشاعر المسنون المؤمن بالحياة شعراً وبالشعر حياة ، أن يعمى عنها ، ثم هي في مجموعات شعره مثلها في أبراج السماء : يطول منزلها ؛ فيكثر ذكرها ، ويقصر ؛ فيقل !

شَمْسُ الْحَياةِ :

ولقد كانت "الحياة" قبل سائر منازل الشمس (معانيها) ، أطولها الذي بينها فيه .

قال أولاً :

" الشمس (هذه التي تأتي من الشرق بلا استحياء)
كيف ترى تمر فوق الصفة الأخرى
ولا تجيء مطفأه !
والنسمة التي تمر في هبوبها على مخيم الأعداء
كيف ترى نشمها فلا تسد الأنف
أو تحترق الرئه! " (19) .

لقد كان ينبغي أن يطفئ الشمس مرأى الأعداء.

ثم قال ثانياً :

" الشهور زهور على حافة القلب تنمو
وتحرقها الشمس ذات العيون الشتائية المطفأه" (20) .

لقد قتلت الشمس المطفأة الزهور .

ثم قال ثالثاً :

" ها هو الرُّخ ذو المخلبين يحوم
ليحمل جثة ديسمبر الساخنه
ها هو الرخ يهبط
والسحب تلقي على الشمس طرحتها الداكنه " (21) .

لقد حجبت السحب الشمس .

ثم قال رابعاً :

" يقال : لم يجئ
وقيل : لا بل جاء بالأمس
واستقبلته في المطار بعثة الشرف
وأطلقوا عشرين طلقة لدى وصوله
وطلقة في كبد الشمس
(لذا فإن الشمس لم تشرق علينا ذلك الصباح) " (22) .

لقد عفّت الشمس عن الشروق .

إنه حين يكره الحياة ذليلة أولاً وثانياً ، ثم ينكرها مزيفة ثالثاً ورابعاً- حريص عليها غير مفرط فيها ، ولكن عزيزة صادقة .

شَمْسُ الْحَقيقَةِ :

ثم كانت "الحقيقة" منزل الشمس الثاني ، الذي تبينها فيه .

قال أولاً :

" هي الشمس أم إنها التاج
هذا الذي يتنقل فوق الرؤوس إلى أن يعود
إلى مفرق الفارس العربي الشهيد " (23) .

لقد تنازعت الرؤوس الشمس تاجاً.

ثم قال ثانياً :

" نحن جميعاً نحجب ضوء الشمس ونهرب" (24) .

لقد تداول الناس الشمس حجباً وهرباً .

ثم قال ثالثاً :

" أنى مشى تحوطه حاشية من النساء
يكسفن وجه الشمس أو يخسفن بالقمر
(لذا فإن الشمس لم تشرق علينا ذلك الصباح)" (25) .

لقد حجبت الحاشية الشمس .

إنه يجد أولاً الحقيقة قد تنازعتها طوائف مدعيها ، ثم يرى ثانياً وثالثاً سر ذلك أنهم يخافونها فينكرونها ؛ فيزهد في الحياة ، وهو الذي رأى أولاً الحقيقة تتبرأ من طوائف مدعيها جميعاً ، لتنتسب إلى من بذل فيها حياته .

شَمْسُ الْحُرّيَّةِ :

ثم كانت "الحرية" منزل الشمس الثالث ، الذي تبينها فيه .

قال أولاً :

" البسمة حلم
والشمس هي الدينار الزائف
في طبق اليوم
(من يمسح عني عرقي في هذا اليوم الصائف؟)
والظل الخائف
يتمدد من تحتي
يفصل بين الأرض وبيني! " (26) .

لقد وصف الطاهي اليومي ، الشمس ، ضمن المقادير .

ثم قال ثانياً :

" كانت الخيل في البدء ، كالناس
برية تتراكض عبر السهول
كانت الخيل كالناس في البدء
تمتلك الشمس والعشب
والملكوت الظليل " (27) .

لقد كانت الشمس للخيل في الزمان الأول .

ثم قال ثالثاً :

" عم صباحاً أيها الصقر المجنح
عم صباحا
هل ترقبت كثيراً أن ترى الشمس
التي تغسل في ماء البحيرات الجراحا
ثم تلهو بكرات الثلج ،
تستلقي على التربة ،
تستلقي وتلفح !
هل ترقبت كثيراً أن ترى الشمس لتفرح
وتسد الأفق للشرق جناحا ؟
أنت ذا باق على الرايات مصلوباً مباحاً " (28) .

لقد عجز الصقر المرسوم في العلم ، عن أن يرى الشمس .

إنه يسخر أولاً من دعوى الحرية التي جرى عبيد قومه من ادعائها ، على نظام رتيب ، ثم يرى ثانياً أهون تفريط في الحرية ، باباً عريضاً للعبودية ، ثم يستفزهم ثالثاً بذل العبودية إلى عز الحرية .

شَمْسُ الْكِبْرِياءِ :

ثم كانت "الكبرياء" منزل الشمس الرابع ، الذي تبينها فيها .

قال أولاً :

" ذهب الشمس العجوز انصهرا
وهوى فوق نفايات الثرى
وأنا أبكي على تل الرماد! " (29) .

لقد ذابت الشمس ، وسالت على الأرض .

ثم قال ثانياً :

" صار ميراثنا في يد الغرباء
وصارت سيوف العدو سقوف منازلنا
نحن عبّاد شمس يشير بأوراقه نحو أروقة الظل ،
إن التويج الذي يتطاول
يخرق هامته السقف ،
يخرط قامته السيف ،
إن التويج الذي يتطاول
يسقط في دمه المنسكب! " (30) .

لقد غربت الشمس ، فطأطأ لها العبّاد رأسه .

ثم قال ثالثاً :

" ما أقل الحروف التي يتألف منها اسم ما ضاع من وطن ،
واسم من مات من أجله
من أخ وحبيب !
هل عرفنا كتابة أسمائنا بالمداد
على كتب الدرس ؟
ها قد عرفنا كتابة أسمائنا
بالأظافر في غرف الحبس
أو بالدماء على جيفة الرمل والشمس ،
أو بالسواد على صفحات الجرائد قبل الأخيرة
أو بحداد الأرامل في ردهات (المعاشات) ،
أو بالغبار الذي يتوالى على الصور
المنزلية للشهداء
الغبار الذي يتوالى على أوجه الشهداء
إلى أن تغيـب! " (31) .

لقد كانت الشمس ميتة حين كتب عليها المجاهدون أسماءهم .

إنه يبكي أولاً انتكاس الكبرياء التي شيخت وبليت ، ثم يسخر ثانياً من أمته التي كانت تجتهد في الكبرياء ، فصارت تجتهد في الذل ، ثم يفضح ثالثاً ضياع جهاد من يطلب كبرياء ميتة !

شَمْسُ الأمَلِ :

ثم كان "الأمل" منزل الشمس الخامس ، الذي تبينها فيها .

قال أولاً :

" والدم كان ساخناً يلوث القضبان
هذا دم الشمس التي ستشرق ، الشمس التي ستغرب ،
الشمس التي تأكلها الديدان! " (32) .

لقد أرسلت الشمس الغاربة دم شروقها القادم .

ثم قال ثانياً :

" فأنا مثلك كنت صغيرا
أرفع عيني نحو الشمس كثيرا
لكني منذ هجرت بلادي
والأشواق
تمضغني ، وعرفت الإطراق
مثلك منذ هجرت بلادك
وأنا أشتاق
أن أرجع يوماً ما للشمس
أن يورق في جدبي فيضان الأمس " (33) .

لقد تعالت الشمس وأغرت الناظر .

إنه يتمسك أولاً بالأمل على رغم يأسنا منه حيناً ، وعلى رغم ضياعه أمامنا حيناً ، ثم يذكرنا ثانياً كيف تعلق به ، وكيف يشتاق إليه كلما باعده .

شَمْسُ الْمَجْدِ :

ثم كان "المجد" منزل مشرق الشمس السادس ، الذي تبينها فيه .

قال أولاً :

" في الليل ، في حضرة كافور ، أصابني السأم
في جلستي نمت ولم أنم
حلمت لحظة بكا
وجندك الشجعان يهتفون : سيف الدوله
وأنت شمس تختفي في هالة الغبار عند الجوله
ممتطياً جوادك الأشهب ، شاهرا حسامك الطويل المهلكا " (34) .

لقد كانت الشمس في الميدان .

ثم قال ثانياً :

" اللوحة الأولى على الجدار :
ليلى (الدمشقيه)
من شرفة (الحمراء) ترنو لمغيب الشمس ،
ترنو للخيوط البرتقاليه
وكرمة أندلسية ، وفسقيه
وطبقات الصمت والغبار! " (35) .

لقد استغرقت الشمس الغاربة عين سليلة المجد .

ثم قال ثالثاً :

" ثوبها الأخضر لا يبلى ، إذا خلعته رفت الشمس ثقوبه " (36) .

لقد بقيت الشمس علاجًا .

إنه يبين أولاً كيف يغيب العربي عن حاضره الأليم ، ويعيش في ماضيه المجيد ، ثم ثانياً كيف يتشوق لذلك المجد الآفل ، ثم ثالثاً كيف يجدر بصاحب ذلك المجد أن يستغيثه ليستعيده .

شَمْسُ الزَّمانِ :

ثم كان "الزمان" منزل الشمس السابع ، الذي تبينها فيه .

قال أولاً :

" صديقي الذي غاص في البحر مات !
فحنطته
(واحتفظت بأسنانه
كل يوم إذا طلع الصبح آخذ واحدة
أقذف الشمس ذات المحيا الجميل بها
وأردد : " يا شمس ، أعطيك سنته اللؤلؤية
ليس بها من غبار سوى نكهة الجوع !
رديه رديه ، يرو لنا الحكمة الصائبه "
ولكنها ابتسمت شاحبة!) " (37) .

لقد أبت الشمس رده .

ثم قال ثانياً :

" الطيور معلقة في السموات
ما بين أنسجة العنكبوت الفضائي ، للريح
مرشوقة في امتداد السهام المضيئة
للشمس ،
(رفرف
فليس أمامك-
والبشر المستبيحون والمستباحون صاحون -
ليس أمامك غير الفرار
الفرار الذي يتجدد كل صباح ! ) " (38) .

لقد نفذت سهام الشمس في الطيور ، وأخذتها إلى المدى .

إنه يائس أولاً من أن يمكنه الزمان من غايته ، ثم خاضع ثانياً لدوران رحاه .

شَمْسُ الْمُحال :ِ

ثم كان "المحال" منزل الشمس الثامن ، الذي تبينها فيه .

قال :

" وطفلاً كنت ، كالأطفال
ومركبة من الكلمات تحملني لعرش الشمس" (39) .

لقد أبلغته مركبة الكلمات عرش الشمس .

إنه يعجب لحاله صغيراً: كيف جرأه الشعر على طلب المحال!

شَمْسُ الشِّدَّةِ :

ثم كانت "الشدة" منزل الشمس التاسع ، الذي تبينها فيه .

قال :

" فاجأني الخريف في نيسان
وطائر السمان
حط على شواطئ البحر الشماليه
طلبت من تحبه نفسي قبيل النوم
فلم أجد إلا عذاب الصوم
طلبت من تحبه نفسي
(في الظل والشمس)
فلم أجد نفسي! " (40) .

لقد كانت نفسه هي من أحبه في الظل والشمس .

إنه يؤثر ألا يهرب من الموت ، وأن يعانيه وحده ، كما عانى الحياة رخية وشديدة وحده .

شَمْسُ الْوَعْيِ :

ثم كان "الوعي" منزل الشمس العاشر ، الذي تبينها فيه .

قال :

" أيها العشب الذي ينضح حمى
شمسنا مطفأة العينين دوما! " (41) .

لقد ظلت الشمس مطفأة العينين .

إنه ينعى على الساسة غفلتهم عما يدعوهم إليه في سبيل مصلحة أمته التي رصد لها حياته .

شَمْسُ الْحُبِّ :

ثم كان "الحب" منزل الشمس الحادي عشر ، الذي تبينها فيه .

قال :

" (كان يا ما كان)
أنه كان فتى
لم يكن يملك إلا مبدأه
وفتاة ذات ثغر يشتهي قبلة الشمس
ليروي ظمأه " (42) .

لقد تمنت الفتاة الشمس .

إنه يتذكر كيف استغرقه قديماً همه ، وشغله عن سائر مشاعره ، حتى صادفته فتاة باحثة عن الحب الطاهر .

شَمْسُ الْخُلودِ :

ثم كان "الخلود" منزل الشمس الثاني عشر الأخير ، الذي تبينها فيه .

قال :

" هواي له الشمس تنهيدة
إلى اليوم بالموت لم تؤمن " (43) .

لقد كانت الشمس نفسها تنهيدة هواه .

إنه يفخر بخلوده وإخلاصه له .

خاتِمَةٌ :

لقد مضى أمل دنقل في إنزال الشمس منازلها ، وتحميلها الأضداد ، على ما سخرها الله له - إلى قسمين من المنازل (المعاني) : شارقي ، وغاربي :

أما الغاربي فالحياة ذليلة أو مزيفة ، والحقيقة مدعاة متنازعة أو مخوفة منكرة ، والحرية مدعاة أو مفرطًا فيها أو ضائعة ، والكبرياء منتكسة أو ضالة أو ميتة ، والزمان ميؤوسًا منه أو مخضوعًا له ، والوعي غائباً .

وأما الشارقي فالأمل متمسكًا أو متعلقًا به أو مشتاقًا إليه ، والمجد معيشًا فيه أو مشوقًا إليه أو مستغاثًا مستعادًا ، والمحال متجرأ عليه ، والشدة مكافحة ، والحب مقبلاً ، والخلود طائعًا .

من ثم ينبغي ألا يُعدَّ أمل دنقل في شعراء الرفض الساخطين (44) ، ولا في شعراء القبول الراضين ، بل في شعراء الدنيا (الدنيويين) الذين تتقلب بهم يسارًا ويمينًا فيرضون ويسخطون .

ومن ثم ينبغي أيضًا لمن يراعي الديوان كاملا في وعي رؤية الشاعر وأسلوبه - وهو أسد النقد منهجًا - ألا يعد الشمس صورة لمعنى (مشرق) من تلك المعاني ، فلم تعد مفردة البناء ، ولا مقيدة بأغلال الجماد (45) - بل أن يعدها رمزًا للدنيا التي عاش لها أمل دنقل ، يساعد على وعي رؤيته وأسلوبه ؛ فقد صارت مركبة البناء ، مطلقة من أغلال الجماد .

رحم الله الشاب الصعيدي الشاعر المسنون ، ابن الشيخ الصالح ، وتجاوز عن سيئاته ، ولم يحرمنا أجره ، ولم يفتنا بعده . آميـن !

* الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية ، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس

حَواشي الْبَحْثِ :

1- سورة الشمس ، الآية (1) .
2- سورة النمل ، من الآية (24) .
3- سورة البقرة ، من الآية (258) .
4- سورة الأنعام ، من الآية (78) .
5- عبدالباقي (محمد فؤاد) : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، مادة شمس .
6- صقر (الدكتور محمد جمال) : نجاة من النثر الفني ، الجزء الأول ، ص6 .
7- ديوانه .
8- ابن منظور (أبو الفضل محمد بن مكرّم المصري) : لسان العرب ، مادة شعر .
9- ديوانه .
10- ديوانه .
11- ديوانه .
12- ديوانه .
13- ابن منظور ، مادة خيف .
14- آدم (الدكتور سلامة) : أوراق من الطفولة والصبا، سفر أمل دنقل، بتحرير عبلة الرويني، طبعة الهيئة المصرية العامة سنة 1999م، ص223 .
15- سالم (الشاعر حلمي) : الحداد يليق بالشعراء، سفر أمل دنقل، ص124.
16- حجازي ( الشاعر أحمد عبدالمعطي) : رسالة إلى أمل دنقل، سفر أمل دنقل، ص10 .
17- السابق، ص11 .

18- دنقل (أمل): الأعمال الشعرية الكاملة، طبعة أطلس بالقاهرة، إيداع سنة 1995م، نشرة دار العودة ببيروت، ومكتبة مدبولي بالقاهرة. ولقد راعيت في ترتيب المجموعات، تواريخ طبعاتها الأولى، كما بينتها الرويني (الأستاذة عبلة): بيبلوجرافيا، سفر أمل دنقل، ص697. ولقد طبعت المجموعة الأخيرة "قصائد غير منشورة"، في مقدمة الديوان، وهي طائفة مختلفة الأزمان قدامة وحداثة، لم يثقفها أمل على وجه العموم، بحيث يقبلها في أي من سائر المجموعات، وإن ثقف منها بعض مقاطع قصائدها، وسلكه في مقاطع قصائد بعض مجموعاته الأخرى، من مثل بعض مقاطع قصيدة "العراف الأعمى"، المسلوك في قصيدة "سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس"، من مجموعة "العهد الآتي"- ثم إن " قصائد غير منشورة"، تحتمل أن تزيد بما يجترئ على إضافته ناشرها، مما لم يثقفه فينشره أمل، كأكثر المجموعة الخامسة "أقوال جديدة عن حرب البسوس"؛ ولذلك كله أخرت رتبتها، وأرى ألا نمكنها من إضلالنا عن سواء الحقيقة، متى أرخنا شيئاً من الظواهر].

19- لا وقت للبكاء ، مج2 ، ص317 .
20- سفر ألف دال ، مج4 ، ص352 .
21- ديسمبر ، مج6 ، ص452 .
22- الزيارة ، مج7 ، ص52 ، ولتراجع في هذا المشرق كذلك ص212، 97، 483 .
23- أقوال اليمامة ، مج5 ، ص411 .
24- ماريا ، مج3 ، ص109 .
25- الزيارة ، مج7 ، ص52 ، ولتراجع في هذا المشرق كذلك، ص9، 11، 12، 13 .
26- سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس ، مج4 ، ص346-347 .
27- الخيول ، مج6 ، ص460-461 .
28- بكائية لصقر قريش ، مج6 ، ص473، ولتراجع في هذا المشرق كذلك، ص 462، 48، 58، 66 .
29- العشاء الأخير ، مج 1، ص223 .
30- أقوال اليمامة ، مج 5، ص414 .
31- قالت امرأة في المدينة ، مج6 ، ص479، ولتراجع في هذا المشرق كذلك ص153،227، 274، 423.
32- أشياء تحدث في الليل ، مج1 ، ص217 .
33- ماريا ، مج3 ، ص111 .
34- من مذكرات المتنبي (في مصر) مج1 ، ص240 .
35- رسوم في بهو عربي ، مج4 ، ص286 .
36- لا أبكيه ، مج7 ، ص70 ، ولتراجع في هذا المشرق كذلك ص235 .
37- إجازة فوق شاطئ البحر ، مج1 ، ص186 .
38- الطيور ، مج6 ، ص456، ولتراجع في هذا المشرق كذلك ص192 .
39- قلبي والعيون الخضر ، مج3 ، ص91، ولتراجع في هذا المشرق كذلك ص122 .
40- فقرات من كتاب الموت ، مج2 ، ص253 .
41- حكاية المدينة الفضية ، مج2 ، ص293 .
42- طفلتها ، مج3 ، ص81 .
43- رسالة من الشمال ، مج3 ، ص122 .
44- عوض (الدكتور لويس): شعراء الرفض ، سفر أمل دنقل ، ص52 .
45- زايد (الدكتور علي عشري): عن بناء القصيدة العربية الحديثة ، طبعة 1981م، نشرة مكتبة العروبة بالكويت، ص126 .






في ذكرى ميلاده السبعين، أمل دنقل آخر الشعراء الجاهليين



احتفل مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية بعيد ميلاد الشاعر الراحل أمل دنقل الذي كما كشفت زوجته الكاتبة عبلة الرويني أنه لم يعرف الاحتفال به في حياته، وأن المرة الوحيدة هي تلك التي أصر فيها جابر عصفور على اصطحاب أمل من الغرفة رقم "8" التي كان يعالج بها من مرض السرطان بمعهد الأورام، ويأخذه في جولة بسيارته في شوارع القاهرة، وأن الاحتفال الوحيد الذي كان يعرفه الشاعر الراحل كان لحظة كتابة "القصيدة".
وأمل الذي رحل عن دنيانا منذ ما يقرب من ربع قرن، يعد واحدا من أبرز شعراء الستينيات، كان مشروعا شعريا استطاع أن يجعل من قصيدته صوتا خاصا في رؤيتها ومضمونها، فحملتها النخبة والعامة، خاصة تلك القصيدة التي شكلت هموم الواقع المصري وقتئذ في الستينيات والسبعينيات، حتى ليذكر أن قصيدته الكعكة الحجرية هتفت بها جمع المتظاهرين لسنوات.
احتضنت احتفال عيد ميلاد أمل دنقل السبعين أحاديث ذات شجون وهموم حول تجربته وحول التجربة الشعرية المصرية في عقد السبعينيات وفي اللحظة الراهنة، بدأت بالشاعر فؤاد طمان الذي أكد نضالية أمل دنقل مذكرا
بمواقفه المشتعلة بالفروسية والولاء الحميم ، وقال" من منا ينسى قصائد "زرقاء اليمامة"، "الكعكة الحجرية"، " لاتصالح".
ليتحدث بعد ذلك المايسترو شريف محيي الدين، مدير مركز الفنون بالمكتبة مؤكدا على أن أمل كان أستاذا لأجيال من الشعراء الشباب بعده، "لكنه كان تلميذا للشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، هذا الأستاذ الذي أعلن أن أمل هو تلميذه الوحيد؛ بينما كان أمل في بدايته شديد التأثر به: شعرًا وفكرًا وروحًا للدرجة التي جعلته يهدي ديوانه الأول لأستاذه حجازي معترفًا له بأنه الذي علّمَه لون الحرف، وهذا اعتراف يندر أن يعترف به شاعر لشاعر؛ وهو يجلو لنا جانبًا إنسانيًّا مهمًّا لأمل، وجانبًا جديدًا لمعنى الريادة الشعرية الحقيقية التي كان شاعرنا حجازي أحد أهم أركانها في الشعر العربي الحديث.
وعن علاقته بأمل دنقل قال شريف محيي الدين: منذ كنت في الرابعة عشرة من العمر حتى رحيل أمل، سعدت بصداقته بعد أن قدمني إليه النحات الراحل عوني هيكل صديقه المقرب، وأصبحت ألتقي به على مقاهي وسط البلد، وتأثرت به، واستمعت إليه وهو يلقي شعره، وبعد رحيله ظلت الصداقة الرائعة مع إبداعه الخالد".
وأكد المايسترو أن الفن الحقيقي لا يتجزأ، بل يتكامل ويجدد شبابه الدائم بالفرار من قالبه التقليدي متخذًا لنفسه تجليات وأبعادًا فنية أكثر تنوعًا؛ وذلك بالاتكاء على ما هو جوهري في التجربة الفنية من النفوذ الثاقب إلى عمق التجربة الإنسانية في مستوياتها الشاملة ومنتجها الفكري والثقافي قديمًا وحديثًا، مما يسمح لها باقتحام مناطق ومساحات فنية متنوعة.
وأضاف: كنت شاهدًا على ما حققته تجربة أمل في هذا الصدد عندما قمت بتلحين بعض قصائده التي لم يمنعها عمقها الفكري ولا رصانة لغتها من الانصياع للغة موسيقية ذات طبيعة فنية مغايرة؛ والآن تتوالى على خاطري الذكريات الحميمة لهذه التجربة فيطرب لها قلبي.. فحين قررت خوض هذه التجربة عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين اندهش كثير من أصدقائي الفنانين، وتساءلوا: هل يمكن أن يخضع هذا الجبروت الشعري بعرامة لغته وعنفوان صوره وحواره العميق مع التاريخ؛ هل يمكن أن يخضع للتلحين ويترقرق غناء عذبًا؟!"
واستطرد"كانت المفاجأة أنني وجدت الشعر محتويًا على لحنه ومتدفقًا بموسيقاه؛ خلافا لما توقعه الجميع، وانطلقت في رحلة التلحين حتى اكتملت النصوص الملحنة أحد عشر نصا استمتعت غاية الاستمتاع باكتشاف طاقاتها الموسيقية الثرية الصافية، وذلك بقدر سعادتي بالحفاوة الجماهيرية الكبيرة التي كانت تنالها تلك الأعمال في مصر وفي أوروبا أيضا حيث كانت تُعرض مع ترجمة القصائد إلى اللغات الأوروبية، وكان تفاعل الجمهور الأوروبي معها مدهشا؛ وصارت ذكرياتي الحميمة معها أجمل وأكبر؛ وتحضرني من هذه الذكريات ذكرى مؤثرة أحب أن أشارككم دفئها: كان ذلك بألمانيا في أوبرا ساركرن وتم غناء بعض قصائد أمل مع عرض ترجمتها الألمانية، وكانت منها قصيدة "ضد من" التي كتبها أمل عن معاناته مع المرض اللعين حين اشتدت وطأته عليه، وإذا بالجمهور الألماني يحتفي بالعمل احتفاء مؤثرا حتى جاءتني بعد الحفل مجموعة من الممرضات الألمانيات، واعترفن لي بأنهن اكتشفن بعد هذا الحفل معاني جديدة لمعاناة الناس من المرض.
وبدأ الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي حديثه نافيا أستاذيته لأمل، وقال: لم أكن تلميذا لأمل ولا لهذا الجيل من الشعراء الذين كانوا يقرأونني كما أقرأهم، كانوا يتعلمون من تجربتي، وأتعلم من تجربتهم، وتجربة أي شاعر ليست تجربة فردية وإنما هي بلورة لكل ما قرأ وتعلم في تراث الفن الذي يشتغل فيه، شك أنني تعلمت من شوقي وحافظ وأبو شبيكة ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي، ومن البكائيات الشعبية التي كانت هي غناء أمي في ظهائر الصيف عندما كانت تفقد عزيزا، تعلمت من لغة القرآن ولغة طه حسين وتوفيق الحكيم.
وأنا بالفعل أجد في صيغ أمل ما يذكرني بالصيغ التي استخدمتها نحوية وإيقاعية، وهذا طبيعي لأننا أبناء نفس اللغة، وكذلك اهتم بالموضوعات التي اهتممت بها، لكنه أبدع فيها إبداعا خاصا مثلا عندما أقرأ قصائده عن القاهرة أحسده وأتمنى لو كنت كتبت هذه القصائد، وأيضا قصائده عن الإسكندرية وخصوصا عن البحر أحسده عليها وأتمنى لو كتبت هذه القصائد، لأنني أحب البحر ولم أكتب عنه كما كتب أمل.
وأكد حجازي: لست متواضعا وأعرف قدري وأستطيع أن أقول إن أمل شخص مؤدب على غير الشائع عنه، كان محبا، والحب يقنعنا أننا أعطينا وأمل كان يحب أن يعطي.
وقال حجازي: عرفت أمل أظن عام 1960 / 1961، كنا نلتقي على مقهى عبد الله بميدان الجيزة في نهاية الشارع المؤدي إلى جامعة القاهرة، وكان من رواد المقهى أو أساسيا في ندوتها التي تنعقد كل مساء أنور المعداوي، عبد القادر القط، زكريا الحجاوي، محمد حسين كامل وصحفي يدعى طلبة رزق، وكان يأتي بين الحين والآخر محمود حسن إسماعيل الذي كان يجلس في ركن بعيدا عن الآخرين، كان شديد الكبرياء، لكن الآخرين أيضا كانوا أشد كبرياء منه، وفي أمسية من الأمسيات ظهر شابان عرفت فيما بعد أنهما أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي، لا أتذكر أكان ذلك عام 1960 أم 1961، لم يكن أمل نظم قصيدته التي قدمته للناس"كلمات اسبارتكوس الاخيرة" التي قرأها أمل عام 1962 ، إذن كان هذا اللقاء سابقا.
أمل دنقل كان مفتوناً بأصوات اللغة، فلا يمكن أن يفسر شعر أمل بعيداً عن الصوت، لقد انصرف الكثيرون للحديث عن أمل باعتباره شاعر المشروع القومي، أنا لم أفهم ذلك، لأن اهتمامه بالمشروع القومي مجرد مظهر أو صورة من صور اهتمامه العميق بالكلمة، الواقع الذي يستوعب الحاضر كما يستوعب المستقبل.
عندما ظهر أمل الذي كان شديد الاهتمام بالتفاصيل الحياتية في شعره كان هناك تيار في النقد يكره الحديث عن تفاصيل الواقع، باعتبار أن الشعر يتحدث عن الكليات وليس الجزئيات، لكنه استحضر كل التفاصيل، استقى رؤاه ليس مما يدور حوله في الواقع وإنما أيضا من التاريخ، انظروا كيف استطاع أن يعيش مع زرقاء اليمامة والخنساء وعنترة والحجاج وقطر الندى واسبارتكوس وسيزيف والإسكندر وروما وقرطاج، كان يستحضر الحاضر والماضي لأن هذا هو الواقع والواقع هو الحياة.
كان يحول الواقعة للحديث عن التاريخ أو ما أسميه أنا تاريخ الروح المتمثل في الشعر، لا تصدقوا كذابين يقولون أن الشاعر يمكن أن ينسلخ عن تراث لغته، هؤلاء كذابون، من يقول أنه متأثر بالشاعر الألماني هولادر لاك كذاب.
وتابع الناقد د.أحمد درويش الحديث عن أمل دنقل وتجربته الشعرية، مؤكدا أنه إلى جانب الخيط السردي يوجد الحوار الدرامي، كما تنخلع على قصائد أمل آثار التصوير السينمائي لشاعر اتسعت معه حتى أمكن أن تتحول إلى عمل سينمائي، وهو حال قصيدته" نافورة حمراء"، إن التطور الذي حدث في تقنيات الصورة الشعرية عند أمل هو لاشك جزء من تطور عام، لكنها تجسدت بشكل فني نافذ وواسع في قصائده، وواقع تشكل في سمة فنية، أصبح من الضروري معه أن يعاد النظر في جوهر التطور في هذا القرن.
وانتقد د.درويش تراجع الشعر بصفة عامة وتدهور مكانته، "فلم تعد القصائد تحتل الصفحات الأولى من الجرائد اليومية ، كما أن الشعراء يعتصمون بعالمهم الخاص راضين أو غير راضين تاركين الساحة للشعراء الخطابيين".
وأكد أن قصائد دنقل أصبحت أناشيد وشعارات رددتها ألسنة المتعاطفين والثوريين أعواماً وأعواماً حتى بعد رحيل صاحبها. وأوضح أن أمل خلد نمط الحداثة الجماهيرية في مقابل الحداثة النخبوية.
وعُرض في الاحتفالية فيلماً تسجيلياً بعنوان" حديث الغرفة رقم 8" أخرجته عطيات الأبنودي وهو إنتاج عام 1990 ، يسجل لقطات مع والدة الشاعر عقب رحيله، ولقاء مع الشاعر أثناء وجوده في مستشفى معهد السرطان بالقاهرة، وذكرياته عن بداياته ورؤيته للشعر وللعالم من حوله.
وجاءت الجلسة الثانية والتي أدارها د.محمد زكريا عناني، ليدلي عدد من المثقفين بشهادات عن الشاعر الراحل، من بينهم أنس دنقل شقيق الشاعر، وعبلة الرويني زوجة الشاعر، وعبد العزيز موافي، وعلاء خالد ومحمد خليل رفيق وحميده عبد الله.
وأثارت الجلسة موقف جيل السبعينيات من أمل دنقل، حيث كانوا قد أطلقوا عليه وصف"آخر الشعراء الجاهليين"، وعلى الرغم من ألمح إلى ذلك عبد العزيز موافي والموقف الذي ووجه فيه أمل بهذا الوصف مؤكدا أنه موقف فردي، كشفت عبلة الرويني عن اسم الشاعر الذي وصف أمل بذلك وهو أحمد طه، وأكدت أن الموقف كان جماعيا من جيل السبعينيات.
عقب ذلك، عقدت جلسة بعنوان: "شهادة الشعراء الشباب"، والتي شارك فيها حمدي زيدان، صالح أحمد، عبد الرحيم يوسف، منتصر عبد الموجود، وائل السمري، وأدارها الشاعر عمر حاذق.
وقد اختتمت الاحتفالية بقصائد مغناة من شعر أمل دنقل قدمها أوركسترا مكتبة الإسكندرية، وهي تأليف وقيادة شريف محيي الدين، نيفين علوبة (سوبرانو)، محمد أبو الخير (تينور)، أشرف سويلم (باريتون)، مع قراءات من شعر أمل دنقل قدمها الشعراء: فوزي عيسى، بشير عياد، أحمد فضل شبلول ، حسن معروف، عمر حاذق، محمد منصور، إيمان السباعي، سامي إسماعيل







أثر التراث في شعر أمل دنقل

بقلم حلماء قدسي

التراث و الشعر العربي المعاصر:

التراث لغةً: من ورث الشيء يرثُه وِرثاً ووراثةً و إراثةً[1] و يكون الشيء الذي لقوم ثم يصير إلي آخرين بنسب أو بسبب[2] و إذا تصفحنا المعاجم العربية الأخري نري أنّ معظم معاني (تراث) تذهب إلي معني (الارث) وهو ما يخلفه الميت من مال فيورث عنه حيث جاءت بهذا المعني في القرآن الكريم: «وتأكلون التراثُ أكلا لما». فالتراثُ في الآية الكريمة تعني الميراث لغةً.

والتراثُ اصطلاحاً: «ما تراكم خلال الأزمة من تقاليد وعادات وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعب من الشعوب، وهو جزء أساس من قوامه الإجتماعي و الإنساني والسياسي والتأريخي والخلقي يوثق علائقه بالأجيال الغابرة التي عملت علي تكوين هذا التراث واغنائه »[3] وأما التراثي العربي فهو يتمثل فيما خلفته لنا الأمة العربية منذ القدم من عطاء المضامين، بامكاننا أن نستعين به في مواصلة الركب الحضاري فهو «ما خلفه لنا السلف من آثار علمية وفنية وأدبية، مما يعد نفيساً بالنسبة إلي تقاليد العصر الحاضر وروحه» [4].
نبذة عن حياة أمل دنقل

ولد «محمد أمل فهيم أبوالقاسم مُحاربُ دنقل» سنة 1940م بقرية «القلعة» مركز «قفط» علي بعد عشرين كيلومتراً تقريباً إلي الجنوب من مدينة «قنا» وقد كان والده عالما من علماء الازهر الشريف مما اثر في شخصية أمل دنقل وقصائده بشكل واضح. سمي أمل دنقل بهذا الاسم لانه ولد بنفس السنة التي حصل فيها أبوه على "الاجازة العالمية" فسماه باسم أمل تيمنا بالنجاح الذي حققه (واسم أمل شائع بالنسبه للبنات في مصر). وكانت حياته رحلة شاقة ومضنية تعتريها هواجس مصير الشعب المصري والأمة العربية. عاصر أمل دنقل عصر أحلام العروبه والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته. أصيب أمل دنقل بالسرطان وعانى منه لمدة تقرب من الأربع سنوات وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته "أوراق الغرفه 8"وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب ال 4 سنوات، وقد عبرت قصيدته "السرير" عن آخر لحظاته ومعاناته. وتوفي سنة 1983م في القاهرة. إن أمل دنقل ولد في بداية الحرب العالمية الثانية، وترعرع في ظل احتدام الصراع السياسيي والإجتماعي في مصر مابعد الحرب، وفي وقت كان أبناء مصر يسعون إلي نيل الحرية والإستقلال والتخلص من الإستعمار البريطاني، ومن ثم مجيء الثورة في مصر علي يد جمال عبدالناصر سنة 1952. كما أنه شاهد المد اليساري وتقارن مصر من المعسكر الشيوعي ورحيل جمال عبدالناصر ومجيء السادات الذي اقترب من الولايات المتحدة واتفق مع الإسرائيل. فعكس أمل دنقل كل هذه الأحداث في شعره وعبر عن تطلعات شعبه في فترة التي كانت فترة الهزيمةِ والإهتراء لمصر وللأمة العربية كلها. فحاول أن يوظف شعره في خدمة قضايا وطنه وشعبه ولهذا يجب علي دارس شعره أن يعي ظروف مجتمعه ويلم بالقضايا السياسية والتاريخية السائدة في عصره.
أمل دنقل واستخدام التراث

حينما رجع أمل دنقل إلي التراث وجد أنه يوجد أمامه کماً هائلاً من المصادر التراثية السخية، فأقبل عليها بنهم محاولاً استغلالها في شعره حسب تجاربه المعاصرة. إن الحديث عن هذه الروافد التي أغنت الشعر المعاصر حديث صعب، ولايمکن لنا أن نلم به في صفحات مثل هذه لتعددها واختلاف طبيعة مصادرها. حيث تتنوع هذه المصادر علي التراث الديني والتراث الصوفي والتراث التاريخي والتراث الأسطوري والتراث الشعبيّ و….

وأن انفعال أمل دنقل باتعمل مع التراث كان أقوي من معاصريه عند مافتح عينه علي تراكم شعر دشنه جيل الرواد. فعنصر استخدام التراث تمثل في شعره بنحو واضح، بالإضافة إلي مكوناته الثقافية الخاصة، حيث انه قرأ كتب التراث منذ وقت مبكر وبحث عن القيم الجوهريه التي يوحي بها ذلك التراث.[5] وهذه هي أرملّة الشاعر عبلة الرويني تشهد أن الشاعر في هذه الفترة كان يطالع التراث العربي أحياناً كثيره؛ فتقول: «….في تلك السنوات قرأ العديد من كتب التراث والملامح والسير الشعبية، ثم أعاد قراءتها بعد ذلك مرات عديدة، وفي طبعاتها المختلفة، يحركه حس تاريخي لاكتشاف الطبقات المتراكمة وراء الحكايات والمعلومات. ….. » [6].

وهذا يرسم لنا صورة واضحة عن قراءة أمل دنقل لمصادر التراث العربي التاريخي والشعبي وبحثه الدائب في متون التراث والتأكيد علي هذا التراث وقيمه الجوهرية كما يُري لنا نوع مقروءاته. وهو يعيد قراءته لتلك المتون مرات عديدة وفي طبعات مختلفة في دقة وتوثيق شديد مستهدفاً كشف القيم التي تمثلها مضامين تلك الكتب والمصادر التاريخية والقصصية، والشخصيات التي لها حضور دائم في أذهان الناس وهي تجتاز الساحة الثقافية العربية القديمة وتناضل ويقاوم الأعداء، كما تقاوم الغزوات الأجنبية في أرجاء التراث العربي المختلفة وتبحث عمن يُعيدهم للظهور مرة أخري وتتدافع البعضُ البعضَ في سبيل الظهور علي أرض الواقع في العصر الحديث.

إن توظيف أمل للتراث لم يكن في الجانب الفني فحسب بل بدأ علمه باحثاً فيه وناقداً له اهتم به منظِراً فقد كتب بحثاً تاريخياً حول قبيلة قريش تحت عنوان «قريش عبر التاريخ» وكان يشمل دراسة مطولة في أربع مقالات وقام بنشره في مجلة «أوراق». كما أنه كتب دراسة عن أسباب نزول القرآن من منظور التاريخي إلا أن جريدة «الأهرام» رفضت نشرها بسبب ماكانت تطلب دراسته ونشرها من الجرأة للطرح وماكانت تحتوي عليه من الآراء غير الموافقة مع ما جاءت به كتب التفسير المتدوالة بين الناس. ومع ان احدا لا يستطيع ان يحدد مصادر ثقافته العربية والأجنبية بالضبط، فإن ثقافته، وبخاصة العربية،كانت جيدة، حيث انه قال في مقابلة، قبل وفاته بأسابيع: «اكتشفتُ انه لا يكفي للإنسان ان يكون شاعرا وقادرا على كتابة الشعر. فهناك كثير من التيارات الفكرية والثقافية التي كانت تموج في ذلك الوقت (أي في الستينات من القرن الماضي )، وكان لا بدلي من الإلمام بها. وهكذا انقطعتُ عن قول الشعر من سنة 1962 حتى سنة 1966، وكرست هذه الفترة للقراءة» [7].

فهذا الإهتمام بالتاريخ والدين صار مصدراً ثرياً هاماً في توظيفه وابداعه الشعري، إذ جعل شعره يزخر بالتراث القومي العربي والإسلامي وإن هذا التراث يغلب علي الأنماط الأخري، بحيث تقلّ الرموز الأسطورية اليونانية والرومانية والفرعونية في شعره. فأمل دنقل يختلف عن الشعراء الجيل الأول أمثال بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وأدونيس والبياتي الذين يكثرون من هذه الرموز والسبب في الإستخدام القليل من الرموز الأجنبية وميل الشاعر إلي الرموز العربية والتراث القومي هو أن القارئ العربي ليس لديه خلفية ثقافية للميثولوجيا والأساطير الأجنبية مع أن التراث العربي يعيش في وجدان الأمة العربية، فهو يبحث عنه أرضية مشتركة بينه وبين متلقي شعره [8].

ان دنقل كان يهدف من وراء استخدامه للتراث خاصة التراث القومي والديني تربية الحس القومي لدي الناس عامة ولدي أفراد يتميزون بجهلهم لتاريخهم ويضعف الشعور القومي عندهم. لهذا استدعي في أشعاره حجماً كبيراً من الشخصيات التاريخية والإسلامية والأخري من الأدب الشعبي والملامح التي تجسد بذكرها البطولات والأمجاد والشهامة والتضحية. وذلك لإزالة الغشاوة عن عيون الأمة العربية واضح دمائها في قلوب هذه الأمة التي نفذ فيها اليأس والقنوط، ومن أجل أن يعطي تلك الشخصيات التاريخية أبعاداً معاصرة تجعلها قادرة علي الحياة في الحاضر والماضي معاً،[9]،لأن «شعر أمل دنقل من النماذج التي تتعأمل مع التراث في محاولة توظيفه عبر رؤية معاصرة» [10].

إن الدافع السياسي كان إحدي الدوافع عند أمل دنقل لاستعارة الشخصيات والعناصر التراثية، كما أن هناك دور هام للدوافع القومية والفنية والأسباب الإجتماعية والنفسية في اتخاذ الشاعر خدمة القضايا الوطنية، في الدفاع عن حق الشعب ومجده وتقدمه، من أولويات وظائف الشعر. بل الشعر ينطلق من الدوائر الثلاث؛ هي دائرة الذات ودائرة المجتمع ودائرة الإنسان، فيجب أن يكون الشاعر ملتزماً بقضايا الإنسان وفي هذا المضمار يكون الشعر لدي أمل دنقل «تواصلاً»، أي لايمكن كشاعر مثله أن ينقطع عن تراثه بل يجب أن يعي التراث أولاً، ومن ثم يتجه نحو التجديد، إذ أن التجديد لايكون من عدم[11]، وهو يقول: «الشاعر في العالم العربي، وفي ظلّ الظروف الإجتماعية والسياسية السائدة مطالب بدورين: دورٌ فنيٌ، أن يكون شاعراً، دور وطنيّ، أن يكون موظّفاً لخدمة القضية الوطنية وخدمة التقدم، ليس عن طريق الشعارات السياسية وليس عن طريق الصياح والصراخ وإنما عن طريق كشف تراث هذه الأمة وايقاظ إحساسها بالإنتماء وتعميق أواصر الوحدة بين أقطارها.» [12].

المصادر التراثية عند الشاعر:

1-التراث الديني

القرآن الکريم:

يعد القرآن مصدراً رئيساً بين المصادر التراثية الأخري في أشعار أمل دنقل، کما ان كيفية توظيف هذا التراث تكون بأشكال مختلفة وطرق متنوعة، فهو يستعيره علي مستوي الكلمة المفردة حيناً وعلي الجملة والآية حيناً أوعلي مستوي إعادة جو القصص القرآني ضمن سياق قصائده أحيانا أخرى.

تحتوي مقاطع من أشعار أمل دنقل علي بعض الآيات والعبارات القرآنية مباشرة أو غير مباشرة، منها:
«……والتّينِ والزيتونْ
وطورِ سينينَ، وهذا البلدِ المحزونْ
لقدْ رأيتُ يومَها: سفائنَ الإفرَنج
تغوصُ تحتَ الموجْ »[13].

2-التوراة والإنجيل

بعدما أَشرنا إلي التأثير القرآني في أشكال المختلفة علي نصوص أمل دنقل الشعرية، نريد أن نتحدث عن أثر الكتاب المقدس في شعر أمل دنقل، بدءاً بالقول إن هذا التأثير يقع في جانبي الشكل والمضمون، فقد تمثل الشاعر في تسمية بعض قصائده وتقسيماتها أسلوب الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد في تسميات أبدا به وفقراته. من ذلك ديوان «العهد الآتي» فعنوان هذا الديوان مأخوذ من العهد القديم والجديد كما وردا في الكتاب المقدس و «كأن الشاعر يبشر ـ من خلال تسميته تلك بالزمن المحلوم به في المستقبل»[14]وهناك عناوين لقصائد الشاعر مأخوذة من الكتاب المقدس منها: «سفر التكوين» و «سفر الخروج» و «سفر الخروج» و «سفر ألف الدال»، قسّم هذه القصائد علي «اصحاحات» كل إِصحاح يحتوي علي فقرة شعرية و «يبدو أن الشاعر وهو يوظف الجانب الشكلي ومن الكتاب المقدس، يهدف إلي استمداد القوة من ذلك البناء الإلهي لينفث فيه معانيه وأبعاده المعاصرة»[15]، هذا وإن الشاعر لايتأثر بالجانب الشكل والمظهري للتراث التوراتي والأجنبي فحسب، بل يخطر خطوة أُخري وهي التأثر بالأسلوب الصياغة التعبيرية منهما، كمثل قوله:
«أبانا الذي في المَبَاحثِ. نحن رعاياكَ. وباقٍ لَكَ الجبروتُ
وباقٍ لنا الملكوتُ. وباقٍ لمن
تَحْرسُ الرَّهَبُوتْ»[16].

فالشاعر في هذه القصيدة يقدم لنا نوعاً من التوازي بين الصيغ الشعرية وبعض العبارات والتوراتية، والقصيدة هذه «تستحضر أكثف لحظات التجربة الدينية التقليدية، فإذا شرعنا في قراءتها وجدنا تعبيراً لاذعاً عما يتمّ في العصر الحديث من انتهاك للقدسيّة»[17] . ويحذرهم من الخضوع والذل. ويمکن للباحث أن يرصد المواقف والشخصيات المتعلقة بالتراث التوراتي والإنجيلي في دواوين الشاعر، کذکره لـ «العذراء» في «مقتل القمر»[18]، ولـ «يوحنا» في «البکاء بين يدي زرقاء اليمامة»[19]، ولـ «المسيح» في «العشاء الأخير»[20]، و «العشاء».

التراث العربي الإسلامي:

يعد هذا المصدر منبعاً سخياً لدي أمل دنقل وإن لهذا الرافد حظ أوفر ضمن المصادر التراثية الأخري، وتحدثنا فيما سبق عن الأسباب التي جعلت الشاعر أن يتخلي عن توظيف التراث الفرعوني والأجنبي بصفة عامة ليقبل علي التراث العربي الاسلامي. فهو يصرّح بذلک في قوله: «إن استلهام التراث في رأيي ليس فقط ضرورة فنية. ولکنه تربية للوجدان القومي، فإنني عندما استخدم أُلقي الضوء علي التراث العربي والاسلامي الذي يشتمل منطقة الشرق الأوسط بکأملها، فإنني أنمي في المتلقي روح الإنتماء القومي وروح الإحساس بأنه إلي حضارة عريقة، لاتقلّ إن لم تزد عن الحضارات اليونانية أو الرومانية»[21]، ولقد أدرک الشاعر بأنه باستدعائه للتراث العربي الاسلامي يستطيع أن يحيي القيم التاريخية في القارئ العربي حيث يذهب إلي أن استخدام الأساطير والتراث الفني «ليس فقط کرموز لأبطال العمل الفني وإنما أيضاً لاستنهاض أو لإيقاظ هذه القيم التاريخية من نفوس الناس» [22].

صنف عبدالسلام المساوي التراثيات العربية والاسلامية المستدعاة في شعر أمل دنقل علي أقسام:

أ: الشخصيات ب: الأحداث التاريخية ج: الأساطير والخرافات د: المأثورات الأدبية شعراً ونثراً
أ: الشخصيات

فيما يخص الشخصيات، نستطيع أن نقول أن الشاعر يعتمد علي أشکال مختلفة و ملاحظة في نفس الوقت من الاستدعاء؛ إما أن يستدعيها بالعلم (علم الشخص الکنية. اللقب) أو بالدور، أو بالقول وإما يستدعيها استدعاءً عرضياً أو استدعاءً کلياً.

تعتبر قصيدة «من أوراق أبي نواس» نموذجاً صالحاً للاستخدام الجزئي، حيث جاء الشاعر باسم هذه الشخصية في عنوان القصيدة، مع ذلک لانجد أثراً واضحاً لهذه الشخصية أو إشارة إلي ملامحه مباشرة، إلا ما استلهمه أمل دنقل منها في خروجها علي التقاليد والعادات العربية في أشعاره. کما أن شخصية أبي موسي الأشعري، تظهر أيضاً في مثل هذا النمط في قصيدة «حديث خاص مع أبي موسي الأشعري» وقد وجد أمل دنقل تشابهاً بين وجهة نظره و وجهة نظر أبي موسي.حيث يذهب کل من أبي موسي والشاعر إلي أن الأشياء الموجودة علي الأرض ضحية بريئة للعبة القدر، ففي هذا الجانب أيضاً هناک تشابه تام بين الشاعر والشخصية التراثية. ولاتظهر تلک الشخصية في مساحة القصيدة الطويلة التي تبلغ 91 سطراً بعدُ. هذا وإننا نري أمل دنقل قد تعأمل مع شخصيات کصقر قريش وصلاح الدين الأيوبي وزرقاء اليمامة والمتنبي وقطر الندي…. بکيفية أخري، حيث يخص الشاعر قصيدة بکأملها أو ديواناً کأملاً للشخصية التراثية وتکون حينئذٍ «معادلاً تصويرياً لبعد المتکأمل من مراحل تطوره الشعري»[23] وهذا الاستخدام عند المعاصرين يُسمي بالاستخدام الکلي أو الاستغراق الکي. فهناک قصائد تحمل عناوينها أسماء هذه الشخصيات مثل قصيدة «من مذکرات المتنبي» و و«مراثي اليمامة» و «أقوال اليمامة» و «خطاب غير تاريخي علي قبر صلاح الدين» و «بکائية لصقر قريش» أو کما نري أن بعض أسماء هذه الشخصيات يصبح عنواناً لديوان الشاعر مثل «البکاء بين يدي زرقاء اليمامة».

ب: الأحداث التاريخية

أمّا الأحداث التاريخية فترتبط بالشخصيات التي جاءت ذکرها في الصفحات السابقة من دراستنا. بعضها يرجع إلي العصر الجاهلي کأيام العرب (حرب البسوس) وبعضها الآخر إلي العصر الإسلامي کحدث الفتنة بين علي (عليه السلام) ومعاوية ومقتل الحسين (عليه السلام) ومعرکة حطين وإلي العصر العباسي کأخبار المتنبي في بلاط کافور الإخشيدي. کما أن هناک أحداث تاريخية معاصرة ترتبط في معظمها بالقضية العربية في مواجهة العدو الصهيوني.

ج: الأساطير والخرافات

يلاحظ القارئ لشعر أمل دنقل أن حظ الشاعر من الشخصيات الأسطورية العربية قليل وإنّ أمل دنقل لم يغفل عن المأثورات الأسطورية والقصصية عند العرب لما لها من حضور دائم في ذاکرة الشعب. وربّما هذا مادفعه إلي تخصيص قصائد أو ديواناً کأملاً لتلک الحکايات والاستمداد منها لتبين أبعاد قضاياه المعاصرة. فهو کما نري، يستدعي أسطورة «زرقاء اليمامة» في قصيدة کأملة هي «البکاء بين يدي زرقاء اليمامة» وملحمة سالم الزير المقترنة بحرب البسوس في ديوان کأمل هو: «أقوال جديدة عن حرب البسوس». کما يستلهم القصص والحکايات الخرافية في کتاب «ألف ليلة وليلة» في قصيدة معنونة بـ «حکاية المدينة الفضيّة»[24] ويستحضر بعض الشخصيات من هذا الکتاب کشخصية «شهريار،شهرزاد، بدرالبدور».

د: المأثورات الأدبية شعراً ونثراً

إن أمل دنقل کأي شاعر معاصر آخر يعتمد بعض الأحيان علي نص أو نصوص للآخر في بيان غرضه الشعري، بعبارة أخري يضمن الشاعر بيتاً ومجموعة من الأبيات الشعرية أو عبارات نثرية في قصائده بدقةٍ بارزة، بحيث يقيم «تناصاً» وتلاحماً تاماً بينها وبين أشعار الشاعر. ونحن نري الشاعر المعاصر يمارس في هذا المضمار أحد الشکلين التاليين؛ إما أن يجعل النصوص التراثية طبيعية تقبل الدخول دون أي مقاومة وتصل إلي درجة الذوبان في شعره، فيمُده بالقيم الجوهرية التي تمثلها دونما إحالة علي أصلها بذکر اسم العلم أو المکان وإما في بعض الأحيان تکون إضاءة المرجعية التاريخية ضرورية لقيمة يمثلها، فيکون للإحالة علي اسم العلم أو المکان تبرير فني، وعندئذٍ يکون الحدث التاريخي أو الأسطوري هو مرکز البعض والحيوية داخل نص الشاعر، هذا هو مايسميه بعض النقاد الامتصاص و إعادة الإنتاج [25]، وينطبق تماماً علي الشعر الدنقلي. هذا وإن الشاعر يرجع إلي الکثرة الهائلة من مأثورات الشعرية والنثرية القديمة والحديثة مرة اُخري وينتقي منها أبيات وعبارات تساعد في رفد قصيدته بأبعاد نفسية اجتماعية وجمالية ملحوظة. ففي بعض الأحيان الشاعر يورد تلک النصوص دون تحوير أو تغيير أساسي في الأصل، مثل مانشاهده في القصيدة «البکاء» بين يدي زرقاء اليمامة علي لسان «الزباء»:
«تکلَّمي… تکلَّمي
فها أنا علي الترابِ سائلُ دمي
وَهوَ ظميءٌ… يطلبُ المزيدا
أسائلُ الصَمتَ الذي يخنقني:
«ما للجِمال مشيهاً وئيداً»
أجندلاً يحملنَ أم حديداً»[26].
وهو هنا يوظف البيت الذي روي عن ملکة «تدمر» وهي «الزباء»:
«ما للجِمال مشيُها وئيداً
أجندلاً يحملنَ أم حديداًً»[27].

فهو بتضمين هذا البيت يستحضر النبوءة الکامنة وراء البيت المضمن ويقدر أن يعبر عن رؤيته بقوة. و في أحيانا أخري يقوم الشاعر بإجراء بعض التغيرات الجزيئة علي الألفاظ حتي تمکن بحلته الجديدة حمل أبعاد تجربة الشاعر المعاصرة ، کما نري يقول أمل دنقل قائلاً:
«الناسُ سواسيةٌ ـ في الذلِّ ـ كأسنانِ المُشْطْ
ينكسرونَ ـ كأسنانِ المُشطْ
في لحِيةِ شيخِ النَّفطْ»[28].

فإنه يتناص مع حديث النبي (ص) الشريف وهو «الناسُ سواسيّة كأسنانِ المُشطْ »[29]، ثم يقوم بتحويره وأتي به في قصيدة «رسوم في بهو عربي»لترسيم صورة شنيعة عن الحياة الاجتماعية والسياسية للعرب في عصر النفط وفي ظل استغلال الثروات الأمة العربية.
التراث الشعبي:

فيما يحض بتوظيف التراث الشعبي في شعر أمل دنقل نستطيع أن نقول أن کميّة هذا التراث بأنواعه المختلفة التي هي «اللغة المحکية، والتقاليد الشعبية، وألقاب الأطفال، والأغاني المحلية، والمواويل» تقلّ عن المصادر التراثية المذکورة سابقاً. ففي مجال اللغة المحکية يستخدم أمل عبارة «کان يا ماکان» التي يفتتح بها الناس حکاياتهم للأطفال وذلک في قصيدة «طفلتُها»[30]، کما يستخدم أغنية من الأغنيات الشعبية التي يردّها الأطفال عندما يخلع ضرس لأحدهم، فيلقي به إلي جهة الشمس صائحاً[31]:
«يا شمسُ يا شموسة
خُذي سنةَ الجاموسة
وهاتي سنةَ العَروسة»
فيستغل من هذه الأغنية أمل دنقل في قصيدة «إجازة فوق شاطيء البحر» ويقول:
«صديقي الذي غاصَ في البحرِ… مات!
فخنَّطتُهُ…
(… واحْتفظتُ بأسنانِه..
کلَ يومٍ إذا طلعَ الصبحُ: آخذُ واحدةً..
أقذفُ الشَّمسَ ذاتَ المحيّا الجميل بها…
وأردّوُ: «يا شمسُ؛ أعطيکِ سَنَّتْهُ اللّؤلؤيَّة..
ليس بها من غُبارٍ.. سوي نکهةِ الجوع!!
رُدّيه، رُديّه… يَرْوِ لنا الحکمةَ الصائبة»
(لکنّها ابتسمتْ بسمةَ شاحبة!)[32]

وبهذا استخدم البارع رسم الشاعر لنا صورة عن تفشي الجوع بين أبناء مجتمعه وهو يحنّط صورة حياة مجتمعه المتمردية ويحتفظ بمعاناة شعبه مندداً بها، إنضالها.هذا وإننا أشرنا إلي توظيف الشاعر لشخصيات ألف ليلة وليلة ومنها شهريار وشهرزاد في قصائده: منها قصيدة «حکاية المدينة الفضية»[33].

التراث الأجنبي:

يري أمل أن أولّ فارق يميزه جيله عن جيل شعراء السابقين أمثال صلاح عبدالصبور في استخدام الأسطورة والتراث هو أن جيله يعتبر الإنتماء إلي الأسطورة العربية والتراث العربي هو المهمة الأولي بخلاف الجيل السابق الذي کان يعتمد التراث اليوناني والتراث الاغريقي ويعتبر الانتماء إلي التراث العالمي هو واجب الشاعر[34]، فقوله هذا يکفينا إذا بحثنا المبررات الفنية لوجود نسبة ضئيلة من مصدر التراث الأجنبي قياساً مع وجود حجم کبير من التراث العربي والاسلامي في أشعار الشاعر. حيث يلاحظ القارئ، إن اقبال أمل دنقل علي التراث العربي والاسلامي يفوق أضعافَ أضعاف المصدر الأجنبي في الأساطير الفرعونية واليونانية والرومانية. ولکن هذا لايعني أن أمل دنقل لم يهتم بهذا التراث اهتماماً لافتاً للانتباه، بل هناک استخدامات ناجحة لهذا التراث في دواوين الشاعر خاصة في المراحل الأولي من تجربته الشعرية. وهذا يعني أنه سابق علي مرحلة التراث العربي الاسلامي ويرجع ذلک إلي أن أمل دنقل تأثر بجيله السابق أمثال بدر شاکر السياب، عبدالوهاب البياتي، صلاح عبدالصبور و… الذين أکثروا من استخدام التراث الأجنبية. لقد کان أبرز استخدام للتراث الأجنبي يتمثل في شخصيات «سبارتاکوس» و «أبي الهول»، و «أديب» و «بنلوب» و«سيزيف» ….

ومن التراث الفرعوني قد استدعي أمل دنقل أساطير کـ «أوزوريس، إيزيس»و«رع» ومن التاريخ الفرعوني قد استدعي «رمسيس»و «أحمس». کما عرفنا أن أمل دنقل کان يميل کثيراً للاستلهام من التراث الاسلامي والعربي القديم، ولکن هناک بعض استلهامات من التراث الأجنبي تعد نقطة مضئية في تجربته الشاعر، يعتبر قصيدة «کلمات سبارتاکوس الأخيرة» إحدي النماذج في هذا المضمار. وبعد قراءة فاحصة لديوان الشاعر نستتطيع أن نستنتج أن الشخصيات والرموز الموظفة عند أمل دنقل تنتمي إلي نوع رافض منها، ومتمرد ومناويء، كما أن الأحداث والوقائع التي يستلهما الشاعر هي أحداث تدور حول التشبث بالوطن و…الخ[35] وعلي حد قول صلاح فضل «لعب شعر أمل دنقل دوراً بطولياً في تمثيل المصير القومي في فترة تحولات أليمة، جعلته يلقب بأمير شعراء الرفض السياسي، لما سيصبح بعد عقد واحدة من السنين الشييء المعقول والمقبول في الحياة العربية، وهو «التصالح المستحيل» مع العدو التاريخي،…. وتأتي قصيدة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» لتثمل المنطلق الواعد لهذا الحس الحداثي في التعبير الشعري، فهي نص مدهش لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره ـ كتبت عام 1962 ـ يتمني فيه مشهداً سينمائياً لفيلم عالمي شهير، ويصب فيه كلماته المشحونة بأيديولوجيا الحرية والمخنوقة بالواقع المکمم لها في الحياة المصرية إبان ذروة المد الناصري العام عقب أول انكسار فادح له بانفصال القطر السوري وماأحدثه من تمزّقات في وجدان الشباب العربي مع تحريم التعبير المشروع عنها»[36].

وأما قصيدة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» فهي تستلهم شخصية «سبارتاكوس» الثائر الروماني كما توظّف شخصيات ثراثية أُخري منها: سيزيف، هانيبال، الشيطان.. ولكن هذه الشخصيات المستدعاة تتآزر جميعاً لتدعم الدلالة العامة التي يهدف الشاعر إلي بيانها من خلال شخصية «سبارتاكوس».يلبس الشاعر «قناع» سبارتاكوس ويتكلم من وراءه. فنجد أن شخصية (سبارتاكوس) مشحونة بالدلالات الأسطورية ويستغل أمل دنقل تلك الدلالات استغلالاً ناجحاً علي مستوي نصه الشعري. حيث لايستحضر الواقعة كما في أصلها بل يعطيها تصوراً جديداً ومعان جديدة ورؤية معاصرة من خلال عملية التوليد وتوزيع المشاهد علي مقاطع شعره والتي يسميها الشاعر «مزجاً». تبدأ القصيدة ب«المزج» الذي خصص لتمجيد «الشيطان» بقول الشاعر «المجد للشيطان…» ويكاد أن يكون البؤرة الأساسية في الدلالة المركزية التي للقصيدة هي الرفض. فيتم عرض بقية وحدات القصيدة علي هذه الخلفية. فالشيطان في الكتب الدينية (القرآن الكريم و الكتاب المقدس) رمز للعصيان والتمرد علي الأوامر الإلهية. فعبارة «المجد للشيطان» تحل محل العبارة الدينية الشائعة «المجد لله في الأعالي».

ولعل الشاعر لم ير شخصية تراثية رافضة للخضوع تشابه سبارتاكوس في رفضه فحاول أن يحدث نوعاً من الالتحام المعنوي بينهما، فنجد سبارتاكوس هو الشيطان نفسه بما يحمله هذه الشخصية من رموز الرفض والتمرد والثورة في حدوديهما[37]:
«المجدُ لِلشيطانِ… معبودُ الرياحْ
منْ قالَ «لا» في وجه من قالوا «نعمْ»
منْ علّمَ الانسانَ تمزيقَ العدمْ
منْ قالَ «لا»… فلم يَمُتْ
وظلَّ روحاً أبدية الألم!» [38].

فان الشاعر يجرد صورة الشيطان من مدلولها الديني و يلصقها مدلولا آخر، فهو معلم رافض للأوامر البشرية غير عادلة ويرفض الطاعة العمياء و الضعف. فصورته الجديدة انزياحية رمزية توافق کل من يتحدي و يرفض السلطات الغاشمة والمستبدة ويدافع عن الحق بالتحريض علي نقيض مدلولها الديني القديم فيستحق التمجيد[39] و نستطيع ان نقول إن المجد هنا ليس للشيطان (ابليس) ولكنه للشيطان (سبارتاكوس) الذي كان عبداً شجاعاً مشتاقاً إلي الحرية، فقال (لا) في وجه (القيصر). ولهذا ظل اسمه علي كل لسان وظلت روحه أبدية الألم تزرع الشجاعة في نفوس العبيد وترفع بهم إلي الصنوف الأولي من مواجهة الظلم والقهر[40]. وأما المقطع الآخر في القصيدة، فهو يبدأ بقول ـ سبارتاكوس ـ الشاعر:
«مُعَلَّقٌ أنا علي مَشانقِ الصباحْ
وجَبهَتي ـ بالموتِ ـ محنيِّة
لأنني لم أحْنِها…. حيَّة!
……
يا إخوتي الذينَ يعبرونَ في الميدانِ مُطْرقينْ
مُنحدرينَ في نهايةِ المَساءْ
في شَارعِ الاسكندر الأكبرْ
لا تَخجَلوا… ولترفَعوا عيونَكم إليّْ
لأنكم مُعَلّقونَ جانبي… علي مشانقَ القيصرْ
فلترفَعوا عيونَكم إليّ
«ربما… إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عَينَيَّ:
يبتسمُ الفناءُ داخلي… لأنكم رفعتمْ رأسَكم… مَرّهْ»[41].

فعلقت جثة (سبارتاكوس) علي مشانق، ولکن اية مشانق؟ مشانق الصباح، فالشاعر أضاف المشانق التي تعني الموت والدمار إلي مفردة الصباح، الکلمة التي تدل الإشراق والولادة وهکذا تصبح موته موت الحياة أو الشهادة من أجل امته وفي سبيل الحرية .جبهته محنية بسبب الموت فيما كانت خلال حياته لاتعرف الانحناء ويلفت سبارتاكوس إلي إخوته العابرين في الميدان مطرقين رؤسهم رغم أنهم أحياء، يخاطبهم بأن يرفعوا رؤسهم، ويروا مصيرهم المرمز في مصير، حيث أنهم معلقون مثله علي مشانق القيصر المستبد… ثم يقول في المقطع الثالث من القصيدة:
«يا قيصرَ العظيمَ: قد أخطأتُ.. إني أعترف
دَعني ـ علَي مِشنقَتي ـ ألْثُم يَدَكْ
……………
دَعني أكفِّرْ عن خطيئتي
أمنحْكَ ـ بعدَ مَيْتَتي ـ جُمجُمتي
تصوغُ منها لكَ كأساً لشرابكَ القويّ»[42].

فيبدو واضحاً أنّ أمل دنقل أضفي علي تجربته المعاصرة علي الشخصية التراثية واقتلعها من ملامحه التاريخية، فهو لم يخضع أمام القيصر وكان رافضا له أبداً. ولكن ما قام به الشاعر في هذا المقطع يتعارض تلك المرجعية التاريخية. فهو يفوه بكلمات تصل أحياناً إلي حدود الخضوع الخنوع، وذرف دموع الندم علي ما صدر عنه من عصيان والرفض. ولكن هذا التناقض ظهر في نص الشاعر من خلال تكنيك في يستخدمه أمل دنقل وهو «المفارقة»[43]، التي تكون في أبرز صورها فكرة «تقوم علي افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف»[44].تتحقق هذه المفارقة عن طريق مقابلة بين الطرف التراثي وهو سبارتاكوس القائد والثائر الروماني الرافض وبين سبارتاكوس المعاصر الخاضع.

ولايفوتنا الذكر بأن أمل دنقل منذ بداية القصيدة يستفيد من أسلوب المفارقة ويفاجئ القاريء بتمجيد الشيطان «المجد للشيطان» خلافاً لقولنا «اللعنة علي الشيطان» ولما يقرأه القارئ في الكتاب المقدس؛ «المجد لله في الأعالي، علي الأرض السلام وبالناس المسرّة»[45]، فهو يجعل سبارتاكوس نموذجاً للتمرد والعصيان أمام الخائفين والخاضعين ويدعو إلي قول «لا» كما قاله الشيطان ومزق العدم، بل تکاد أن تكون قصيدة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» برمته تقوم علي المفارقة .فالشاعر يأتي بهذه التناقضات والمفارقات في القصيدة كلها لإبراز واقع حياة الناس وتصويرها تصويراً مريراً وعنصر المفارقة الشأملة للقصيدة يلعب دوراً أساسياً في القصائد الدنقلية لإبراز هذه التصاوير كما عدها الدارسون هي العنصر الرئيس والمهيمن في شعر أمل دنقل[46].
الخاتمة:

عالجت هذه الدراسة موضوع التراث وتوظيفه في الشعر العربي المعاصر وقد كانت هذه المعالجة من حيث مفهوم التراث في المعاجم اللغوية وعند نقاد العرب المعاصرين. كما تطرقت إلي مصادر والروافد التراثية عند أمل دنقل وأسباب ودوافع تعأمل واستيحاء التراث في نصوصه الشعرية المعاصرة. ثم ركزت علي موضوع التراث عند أمل دنقل علي وجه التحديد وبحثت عن دوافع الشاعر عند استخدام العناصر والشخصيات التراثية ثم تناولت المصادر التراثية التي أسقت الشاعر منها في التعبير عن تجاربه الشعرية. وقسمها علي مصدرين أساسيين: هما التراث العربي والاسلامي والتراث الأجنبي المشتعل علي التراث الفرعوني واليوناني والروماني.وقد تواصلت هذه الدراسة إلي نتائج التالية:
إن توظيف الرموز والعناصر التراثية يساعد علي تخفيف الغنائية والذاتية في الشعر العربي المعاصر ويبتعد القصيده من البيان الخطابي والتعبير المباشر.
يشدد أمل دنقل في استخدامه للتراث علي توظيف التراث العربي والاسلامي واستمداد الشخصيات والرموز التراثية منه هادفاً إلي إيقاظ و تربية الحس القومي و الوطني.
إن معظم الشخصيات والرموز والوقائع والأحداث المستدعاة في دواوين الشاعر ينتمي إلي شخصيات المتمردين والرافضين. منها شخصيات سبارتاكوس، شيطان، سيزيف و….
إن أمل دنقل يعبر من خلال أصوات تراثية مختلفة ومتنوعة في قصيدة واحدة. ولكن هذه الشخصيات تتآزر جيمعاً في بيان موقف الشاعر وتعدد هذه الأصوات يتوفر الإمكانيات التي تبرز في القصيدة المعاصرة، وهي المونولوج والحوار والمشهد المسرحي.






شهادات عن أمل دنقل فى كتاب “أعشق إسكندرية”
حررها حسن غريب



أصدر مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية كتاب "أعشق إسكندرية… شهادات عن الشاعر أمل دنقل فى عيد ميلاده السبعين"، والذى يقدم شهادات عن الشاعر الراحل، ألقيت فى احتفال المركز بالعيد السبعينى لميلاده، وهو من تحرير الشاعر عمر حاذق، ويضم شهادات لعدد كبير من الشعراء والنقاد المصريين، ومنهم الدكتور جابر عصفور، والشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، والفنانة عطيات الأبنودى، والأستاذ أنس دنقل.

وقال المايسترو شريف محيى الدين، مدير مركز الفنون: "إن حجم التأثير والثراء الشعرى للشاعر الراحل أمل دنقل ظل يتنفس فى تجارب عدد كبير من الشعراء الذين قدموا شهاداتهم عن الشاعر فى كتاب "أعشق إسكندرية"، احتفالاً بشاعر لم يكن يومًا يجيد شيئًا من وسائل التسلق التى كانت ستمنحه ما هو جدير به من الشهرة والنجاح.

وأشار إلى أن الكتاب يضم شهادات لشعراء من أجيال مختلفة: بدءًا بحجازى "أستاذه"، وجيل السبعينيات ثم الثمانينيات، بالإضافة للشعراء الشباب الذين لم يلتقوا بأمل لقاءً شخصيًّا بل إبداعيًّا، وكذلك شهادات مهمة لرفاق دربه من أسرته وأصدقائه الحميمين الذين يحكون على صفحات الكتاب عن أمل الزوج والشقيق والصديق والتلميذ، كل ذلك مع إضاءات نقدية لتجربة أمل التى كانت لها خصوصيتها الإبداعية المتميزة.

ويضم الكتاب الذى يقع فى 155 صفحة ملحقًا للصور الذى يعرض لقطات من المراحل المختلفة لحياة الراحل أمل دنقل، ومنها التلميذ أمل دنقل فى المدرسة الابتدائية، وصورته مع محافظ القنال محمود طلعت فى معسكر إعداد القادة بالسويس عام 1956، ومشاركة أمل دنقل بمؤتمر الشعر الرابع عام 1962، وصور زفافه على عبلة الروينى، وصورة أخيرة على فراش الموت فى مايو 1983.

يحتوى الكتاب أيضًا على ملحق للوثائق ويضم رسائل وقصائد بخط يد الراحل أمل دنقل، ومنها مسودات قصيدة الخيول وقصيدة محمود حسن إسماعيل، بالإضافة إلى عدد من الرسائل منه وإليه، ورسالة موجهة لأمل من الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى، وحوار خاص معه يرجع لعام 1974. ومرفق بالكتاب أسطوانة سى دى لقصائد أمل دنقل المغناة من تأليف المايسترو شريف محيى الدين، وأسطوانة "دى فى دى" للفيلم التسجيلى "حديث الغرفة رقم 8" للمخرجة عطيات الأبنودى.

ويقول الشاعر عمر حاذق: "إن الشهادات السكندرية فى الكتاب لبعض من التقوا بأمل فى الإسكندرية كشفت عن أهمية المرحلة السكندرية ومدى محوريتها فى تجربة أمل، لكونها نافذته الأولى على شعر كفافيس وغيره من شعراء العالم الذين قرأ شعرهم لأول مرة مترجمًا للعربية على نطاق شخصى وفى جلسات خاصة، بينما احتفت شهادات أخرى بالتأمل العميق فى تجربة أمل داخل سياقها الشعرى ومعطياتها التاريخية، وقدمت الشهادات الأخرى رؤية حميمية لحياة أمل ورؤاه عن الحياة والشعر، ومعاناته النبيلة التى صاغت جانبًا مهمًّا من معركته مع الحياة شاعرًا وإنسانًا.وفى شهادة بعنوان "الوعى بالانهيار القومى".






عن كتاب "الجنوبي": سيرة دنقل بقلم زوجته
هيا صالح

رغم أن كتاب "الجنوبي.. أمل دنقل" يبدو للوهلة الأولى سيرة غيرية، إلا أن القارئ، بعد سبر أغواره، ومطالعة صفحاته التي تجاوزت 220 صفحة، يكتشف أنه، بالإضافة إلى ذلك، سيرة ذاتية لعبلة الرويني تحكي فيها تجربتها الشخصية في إطار حديثها عن تجربة أمل دنقل. تلك التجربة الواحدة التي امتزج فيها الاثنان معاً، بحياة تشكلت وفق إيقاعات متنوعة؛ صداقة، حب، زواج، عشق، تكوين عائلة. ولعل هذا الارتباط العميق الذي جمع الاثنين معاً، هو ما جعل نفسيهما نفساً واحدة، ومسيرتيهما مسيرةً واحدة أيضاً.
تتجلى القدرية في السيرة، من خلال حديث الرويني عن مجريات اللقاء الأول الذي جمعها بالشاعر الراحل أمل دنقل في أكتوبر العام 1975، في مقهى "ريش"، حيث كانت عبلة تنوي في بداية عملها بجريدة "الأخبار" إجراء حوار مع أمل، رغم معرفتها مسبقاً بصعوبة نشر هذا الحوار. كان دنقل شاعراً يسارياً، وهو ما أوضحه لعبلة أحد المحررين السياسيين في الجريدة قائلاً: "ربما يمكنهم نشره في طبعة (أخبار اليوم) العربية، فمن الممكن تصدير أمل دنقل عربياً، لكنه غير مسموح باستهلاكه داخل مصر". وقد زادت تلك العبارة من عزم عبلة وتصميمها على حوار أمل وتحدّي سياسة الجريدة: "فلماذا تأخذ الجريدة موقفاً من شاعر؟ بل كيف تأخذ الجريدة موقفاً من عقل الصحفي؟".
وبعد بحثها عن أمل في المقاهي الشعبية، وهي المكان المفضّل لدى الكتّاب والشعراء . تلتقي عبلة به، ويجري الحوار بينهما إنسانياً أولاً قبل أن يكون أدبياً: "قلت: كنت أظنك أكبر قليلاً. ضحك بصوت مرتفع: يبدو أن عندك عقدة ألكترا! ولم أُسْتَفز أيضاً، بل ابتسمت: اطمئن لن أحبك".
وتضيف عبلة: "كان الانطباع الأول الذي كوّنته سريعاً؛ أن هذا الشخص مختلف عن الآخرين، يتكلم لغة أخرى، يسلك سلوكاً آخر، بل ويحسّ أحاسيس أخرى. فمنذ اللحظة الأولى سقطت كل المسافات والادعاءات والأقنعة، وبدا لي وجهُ صديق أعرفه من زمن".
تكمل عبلة حوارها الصحفي مع دنقل، الذي هو أول حوار وآخر حوار يُنشر معه في جريدة "الأخبار". وتتعمق العلاقة بين الاثنين، وتتوالى اللقاءات، ورغم محاولة دنقل ترك مسافة بينه وبينها، إلا أن عبلة تدرك أن هذه المحاولات ما هي إلا اعتراف صريح منه بدفق من العواطف التي تضطرب في قلبه تجاهها. وتكتشف في لحظة تأمل إنسانية أنها هي أيضاً تبادله تلك المشاعر: "قال لي في المرة الرابعة التي التقيت فيها معه، ومن دون أدنى مقدمات: يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة! حرّك هذا التحذير الاستفزازي انفعالاتي، فبدت عارية: أولاً أنا لست صديقتك، كما أنني لا أسمح لأحد بتحديد مشاعري متى تتزايد أو تتناقص، إنني وحدي صاحبة القرار في علاقاتي بأصدقائي"، وتضيف: "من المؤكد أن أمل أحبني ، وأن غضبي لعبارته يعني أيضاً أنني أحمل له نفس المشاعر".
ووفقاً لمقولة "قل لي من صديقك أقل لك من أنت"، تشير الرويني في "الجنوبي" إلى العلاقات المركّبة التي جمعت أمل بأصدقائه، متوقفةً عند المنظور الإشكالي الذي كان دنقل يرى المحيطين به من خلاله: "إن الضعيف لا أصدقاء له، بينما القوي يتزاحم من حوله الأصدقاء".
فقد احتوت صداقات دنقل، كما توضح الرويني، على كثير من الأشكال المركبة. وكثير من أقنعة الحدّة، والمنازلات الملتهبة، والمشاحنات الكلامية، والمداعبات الشديدة. وقد "ظلت هذه العلاقات شديدة التركيب، حيث تبدو المداعبة حادة بينما يبحث أمل من خلالها عن نوع من الاطمئنان الكامل لا يجده دائماً، أو نوع من الفهم والحب له لم يوفره الآخرون، وربما لم توفره الأيام له شخصياً. ولهذا اتسمت علاقاته دائماً بمزاج ساخر، ومزاج حاد لا يحتوي شراً، بقدر ما يحتوي مرارة الأيام الطويلة". ومن أصدقاء دنقل المقربين، كما توضح الرويني، يحيى الطاهر عبد الله الذي وافته المنية إثر حادث سير ولم يشترك دنقل في مراسم غيابه وكان يقول: "إن يحيى خاص بي وحدي". والدكتور يوسف إدريس الذي جمعت دنقل به علاقة صعلكة، والشاعر نجيب سرور، وجابر عصفور، والكاتبة صافيناز كاظم التي كان دنقل دائم الاستفزاز لها.
أصبح مقهى "ريش" مكانَ اللقاء الدائم، وربما المفضّل، بين العاشقَين؛ أمل وعبلة. رغم ما كانت تبديه عبلة من تحفّظٍ تجاهه في البداية: "أقنعني أمل بالتخلي عن منطقي البرجوازي، وتلك الوثنية التي أمارسها تجاه الأماكن، فلا يوجد مكان نحبه، وآخر نكرهه، هناك فقط شخص يسعدنا الجلوس معه أو لا يسعدنا، وكانت كلماته منطقية وعادلة، فبدا (ريش) معه أجمل وأرقّ الأماكن التي تصلح للقاء عاشقَين".
كانت البرجوازية طريقةً تعيش عبلة في إطارها، لكنها أبداً لم تستحوذ على تفكيرها أو عالمها بالكامل. وهي لذلك كانت مستعدة، كما تقول، لأن تبيع العالم كله من أجل شاعر لم يكن يمتلك غير بنطلون واحد أسود ممزق. "كأن هذا الثقب الناتج من احتراق سيجارة يطل من فوق الركبة، وكان أمل يحاول مداراته دائماً عن عيوني البرجوازية، بينما كنت أبحث دائماً عنه، وأنا أكاد أعتذر عن ملابسي الأنيقة".
لم تكن العلاقة التي جمعت عبلة بأمل، والتي راهن الكثيرون على فشلها، علاقة عادية أو عابرة، ولذا لم يكن من الغريب أن تتّخذ هذه العلاقة فيما بعد، شكلَ الرباط الزوجي المتين، رغم ما كانا يواجهانه من معيقات مادية. يقول أمل: "إنني أتكلم عن راتب شهري يمكن أن يعول أسرة لا بدّ لها أن تأكل وتنام على الأقل. إن اختياراتي ليس عليكِ أن تتحملي تبعاتها وعذاباتها". فترد عبلة: "أمل.. إننا سنتزوج ليس فقط انتصاراً للحب، ولكن، انتصاراً لاختياراتك".
بعد زواجهما، باتا صديقَين لا زوجين، وخرجا على أشكال الزواج التقليدية، حيث أصبح الشارع بيتهما الذي يقضيان فيه جلّ وقتهما. وتصف عبلة علاقتهما الزوجية قائلة: "كان الحب في داخله، وكان التصاقي الشديد به يُشعره كثيراً بالقيد والتوتر والعبء النفسي أحياناً، ولعل مرد ذلك إلى إحساسه العميق الدائم بأنه لم يمنحني راحة، أو أن الحياة ذاتها لم تمنحنا استقراراً".
لم تكن هناك طقوس معينة تلازم دنقل أثناء كتابته للقصيدة، كما توضح عبلة التي رافقته في مشواره الإبداعي والحياتي، سوى توفر السجائر التي ظلت صديقة أمل المقرّبة حتى وفاته. كان مرض السرطان قد بدأ يغزو رئته: "قال له الطبيب: كفّ عن السجائر، قال: إن الكفّ عن السجائر لن يعوق السرطان الهادر في صدري، دعها فهي متعتي الأخيرة".
بدأ السرطان يأخذ من جسد أمل الناحل، فتزداد روحه تألقاً وجبروتاً. وكان يصارع الموت بعناد لا يلين. وكانت مأساة أمل، كما توضح عبلة: "أنه ظل قادراً على حمل البحر، بينما البحر لم يستطع أن يحمله.. أجمل سمكة نادرة في مياهه.. ظل دائماً يبحث عن التوازن الصعب داخل هذا العالم المتواتر والمرفوض حوله، وداخل هذا التناثر الحاد في كيانه حتى انفجر كل شيء.. وتمدد السرطان".
لقد بدأت معاناة أمل مع السرطان بعد مضي تسعة أشهر على زواجه بعبلة، وظل المرض يتمدد، لأن أمل وعبلة لم يكونا يمتلكان "ملّيماً" واحداً من أجرة الطبيب التي بلغت 300 جنيه. وفي ظل الحاجة المادية الملحّة، شعر الاثنان، بجبروت الفقر: "إنها المرة الأولى التي نعرف فيها قسوة الفقر.. المرض هو الحالة الوحيدة على هذه الأرض التي تحول الفقير إلى بائس حين يواجه قدره عاجزاً".
وتروي عبلة قصة علاج دنقل في معهد السرطان، حيث امتدت فترة العلاج لأكثر من سنة ونصف السنة، أعلن الأطباء بعدها، عن حتمية موت أمل. وتسرد عبلة هذه التجربة، بكثير من الحزن، قائلة: "نظر طبيب معهد السرطان إلى تحليل الدم الأخير، ودون أن يدري شيئاً عمّا نعرفه قال: للأسف الشديد لقد أكدت التحاليل إصابتك بالتراتوما، وهو أمر صعب، لم نكن نريده، لكننا سنبذل ما لدينا من أحدث طرق للعلاج". كانت ردة فعل عبلة على كلام الطبيب قوية جداً، ما اضطر الأطباء إلى إخراجها من الغرفة. بينما واصل أمل حديثه مع الطبيب: "لماذا كنتَ قاسياً معها إلى هذا الحد. كان يمكن أن تخبرني وحدي". لقد كان أكثر ما يخشاه دنقل ليس الموت، وإنما بكاء أمه وعبلة عليه.







المتخيل الشعري عند أمل دنقل
عبد السلام المُساوي



للصورة الشعرية وظيفة تعبيرية بالأساس، لذلك فهي مشحونة بالمشاعر والأحاسيس والدلالات، وهي صياغة فنية تمنح المعنى المجرد شكلا حسيا يمكّن حواس الإنسان الظاهرة والخفية من التفاعل معها تفاعلا إيجابيا عن طريق تلقّ مفتوح يتجدد باستمرار، كما تنص على ذلك المناهج الحديثة كالأسلوبية والسيميولوجيا وجماليات التلقي. وإذا كان القدماء قد ركزوا مفهوم الصورة الشعرية في منظومتين بلاغيتين هما المشابهة والمجاورة، اعتمادا على استقصاء الأوجه البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل.. فإن المحدثين جعلوا المفهوم مواكبا للفتوحات الإبداعية المستجدة بما عرفته اللغة الشعرية من إبدالات وتحولات. ومعظم التعريفات الحديثة أجمعت على تفرد الصورة الشعرية بطابع الإبداعية والخلق القائم على التقريب بين المتنافرات في سياق توحد عناصرها المتباعدة في بوتقة شعورية واحدة. وحسب صبحي البستاني، فإن الصورة الشعرية ((تخترق الحدود المرئية لتبلغ عمق الأشياء، فتكشف عما تعجز عن كشفه الحواس)) (1) وإذن، فهي تقنية لغوية خاصة تضطلع بوظيفة إنشاء علاقات جديدة بين كائنات العالم وأشيائه، وذلك بنقل المعاني من الحياة إلى اللغة. وهو نقل يعتبره صلاح فضل محتاجا إلى جسارة شعرية (2) أي إلى قدرة إبداعية كبيرة تتمكن من بناء علاقات جديدة تدفع بالمتقابلات إلى الحد الأقصى من الائتلاف والتعايش الدلالي.
إن الصورة الشعرية ليست إطارا أو قالبا جاهزا تُصبّ فيه المعاني لتأخذ أبعادا جديدة، كما أن علم البيان بطبيعته التقليدية لم يعد قادرا على استيعاب توجهات الصورة الشعرية المعاصرة، فلا بد من تحيينه وتعضيده بإواليات مستحدثة لعله يكشف عن الجغرافيا الجمالية التي أضحت الصورة الشعرية تأوي إلى أفيائها. لذلك نرى أن قواعد البلاغة تظل مفتوحة دائما على التجدد والمسايرة اعتمادا على المتحقق النصي الإبداعي. وقد كانت القواعد تستخلص دائما من النصوص، وفي هذا الاتجاه ينبغي أن يسير أي توجّه منهجي يروم تحليل الصورة في الخطاب الشعري. ثم ((إن البلاغة المعاصرة ينبغي ألا تنبني من توجيهات تؤدي إلى صناعة وجه بياني، بل ينبغي أن تدرس هذا الوجه من زاوية نفسية، وتعمل على الكشف عما يعتمل داخل روح القارئ في اللحظة التي يدخل إليها هذا الوجه، ويتحلل داخلها منميا فيها طاقة الإحساس. وباختصار: بحث طريقة عمله ليحدث فينا الشعور بالانبهار الذي هو أثر ناتج عن العمل الفني.)) (3)
قد يكون حصر دراسة الصورة الشعرية في تجربة شاعر واحد أنجح بكثير من التوزع على تجارب مختلفة، لأن ذلك من شأنه أن يتيح للدارس مراقبة الصيغ اللغوية المتنوعة المعبر بها من قبل هذا الشاعر، ومن ثم يسمح ذلك باستخلاص أنظمة بناء الصورة الشعرية لديه، والوقوف على حدودها التعبيرية الممكنة مع قياس وظيفتها وتأثيرها، بالرغم من أن الصورة الشعرية ((تستعصي على كل تحليل لأنها في الحقيقة ليست بنتا شرعية للعقل فقط، بل هي نتاج يتداخل فيه الحدس والعقل والانفعال ومركبات غريزية منبثة في الضمير العام للعقل البشري..)) (4) وهو استعصاء ناشئ عن غموض فني ضروري ومقصود، لا يلغي إمكانية تحليل يروم بناء انسجام ما تفرق من أجزاء، وما تقابل من دلالات. وهذا التحليل ينبغي ألا يكتفي بالوقوف عند حدود الأوجه البلاغية (تشبيه، استعارة، مجاز مرسل... )، فهذه الحدود حسب رجاء عيد ((قد تهدمت، لأنها حدود اصطنعها منطق التطابق مع الواقع الخارجي للأشياء بدون مراعاة لمنطق الواقع الداخلي الممتد عبر حركة النفس وخيالها الخبيء والذي يقيم علائق بين الأشياء لها شكولها اللامتناهية.)) (5)
هكذا، إذن، تحتل الصورة مكانا أساسا في تكوين شعرية النص، إذ عن طريقها يتم التمييز بين الكلام العادي والكلام الفني بفعل خلخلتها للمألوف، وقدرتها على رفد اللغة بالدلالات العميقة التي لا سبيل إلى اختزالها في أية قراءة محتملة. لقد اعتبرها جان لوي جوبير J.L. JOUBERT نتاجا للنظرية السوريالية حول الإلهام. كما رأى فيها العلامة المميزة للشعر المعاصر (6) . أما أندريه برتون A. BRETON فقد عرفها اعتمادا على تحديد بيير ريفردي Pierre REVARDY الذي يقول: ((الصورة نتاج محض للفكر، إنها لا تـولد من التشـبيه ولـكن مـن التـقريب بين حقيقتين متباعدتين. وكلما كانت العلاقات بين الحقيقتين موضوع التقريب متباعدتين، كانت الصورة قوية ومحققة لشعرية عالية.)) (7) قد يكون اوكتافيو باث O. PAZ أكثر الشعراء تدقيقا في فهم طبيعة الصورة، وما تنطوي عليه من قدرات هائلة في جعل الكلام منفتحا لمعانقة التجربة الفنية للشعراء، حيث يقول: ((إن التجربة الشعرية يتعذر تبسيطها في الكلام، ومع ذلك فالكلام هو الذي يعبر عنها. إن الصورة توفق بين الأضداد، ولـكن هذا التـوفيق لا يـمكن شـرحه بكلـمات، إلا أن كلـمـات الصـورة كفّت عن أن تكون مجرد كلمات... الصورة، هـكذا هـي مـلاذ ميـئوس مـنه ضـد الـصمت الذي يخـيم علـينا كلـما حـاولنا التعبير عـن التـجربة الـمرعبة لـما يحـيط بنـا ولمـا نوجـد علـيـه.)) (
نستنتج من هذه التحديدات أن لغة الصورة الشعرية ليست لغة عادية، وأن الكلمات فيها ليست مجرد كلمات؛ أي أن تلك الكلمات لم تعد تستجيب للمعنى العرفي المتفق عليه في معاجم البشر، بل غدت في السياق الجديد أشكالا مفتوحة على الدلالات السيميولوجية التي قد يقصدها الشاعر أو يسمو بها القارئ إلى آفاق واسعة، وهو يعيد خلقها من جديد. وربما كان هذا هو المقصد الذي يريده محمد لطفي اليوسفي حين يقول: ((الكلمة ليست مجرد لفظ محدد للمعنى، بل هي عبارة عن مستقر تلتقي فيه كثيرة من الدلالات. إنها، بتعبير آخر، عبارة عن حيز يتواجد فيه أكثر من احتمال، غير أن الاستعمال المتعارف أي طريقة توظيف الكلمة في سياقات معتادة، هو الذي يجعل دلالة ما تطغى على كل الاحتمالات. وعندما يعيد الشاعر تركيب الكلام يكون قد أدخل الكلمة في شبكة من العلاقات تجبر ذلك الحشد الدلالي على البروز. هنا بالضبط يتنزّل الشعر. إنه يحرر الكلمة من المواضعة الاصطلاحية، ويصبح نوعا من الكلام يكسر القواعد ويتجاوز السنن، ليؤسس تبعا لذلك، آفاقا جديدة مليئة بالرؤى والاحتمالات.)) (9)
وإذن، فقد عوضت الصورة الشعرية كثيرا مما يسم لغة التداول من عجز التعبير عن مختلف الحالات والمشاعر، وتم لها ذلك التعويض بواسطة العلاقات الجديدة المُقامة بين الكلمات في سياق تراكيب مراهنة على تلـقّ مختـلف، وهـو تـلقّ يرى أن ((ومـضات اللـغة الشـعرية تـشع بأنـوار عـنيفة وهـي تكـشف عـن السـر المرتبـط بالشـرط الإنسـاني.)) (10)
إن اللغة الشعرية التي تجعل من الصورة أساسا لها، تصبح وسيلة تواصلية مسعفة في التعبير عن أية حالة أو رؤية تعبر وجدان الشاعر وذهنه؛ بل تمكنه من طريقة سحرية في الإيحاء بالشيء الذي يجعل المتلقي قادرا على التقاط الإشارات وتحويلها إلى دلالات قد تضيق أو تتسع حسب طبيعة مرجعية المتلقي، وقدراته على التأويل.
والشاعر أمل دنقل من الشعراء القلائل الذين أدركوا أن الخيال الشعري هو البؤرة المركزية لكل خطاب يسعى لأن ينتمي إلى حقل الشعر، شريطة ألا تستثمر مساحة الحرية المتاحة في عوالم الخيال الفسيحة في المزايدة على المعاني والدلالات؛ إذ أن الصدق الفني هو المعيار الذي ينبغي أن يعتد به في التمييز بين الخيال الإبداعي المؤسس على صدق التجربة في المعيش والمرجعي، وبين الخيال المجاني الذي قد يمنح أدواته لتجارب مزيفة ومفتعلة، وهو السائد في معظم ما ينتج اليوم من شعر. فشتان ما بين شعر يدعوك لتلمس جدوى الإبداع وضرورته للحياة، وما بين آخر يغريك بخطوط سراب خادع دون أن يكون متكئا على سند رؤيوي حقيقي. وقد نظر الشاعر أمل دنقل إلى الفن الشعري بوصفه ضرورة حيوية مساهمة في تغيير الواقع سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي؛ لأن هذا التغيير رهين بما يمكن أن يحدثه القول الشعري من تأثير هائل في النفس والشعور تمهيدا للتأثير الهائل الذي سيمتد إلى محيط المشاعر، وهو المجتمع والوطن والأمة. لذلك جاءت أشعاره محققة للرهان الحيوي فكان صوت الإنسان المقهور وردارا لكل ما يتهدد الأمة العربية في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد، كما جاءت محققة للرهان الجمالي من خلال تحويل الواقع الكائن والواقع المستشرف إلى متخيل شعري تذوب فيه حدة الواقع وتندمج بأطياف الحلم. وعموما فقد جعل أمل من الصورة الشعرية أداة لغوية وجمالية بالغة الإيحاء. وهي في الغالب تتأرجح عنده بين ثلاثة أنماط أساسية: الصورة الحسية والصورة الذهنية والصورة الرمزية.. وذلك تبعا للعلامات اللغوية والسياق الدلالي الذي تحضر فيه هذه العلامات.

الصورة الحسية:

ولهذا النمط علاقة وطيدة بمفهوم الصورة الشعرية ككل بالشكل الذي ترسخ في الدراسات البلاغية القديمة والحديثة، باعتبار أن الشاعر ميال إلى التعبير عن العوالم الشعورية المجردة بطريقة تجعله يستثمر مدركات العالم وأشياءه الحسية للقيام بمهمة الأداء، وذلك بإعادة تشكيلها وفق ما يتصوره من معان ودلالات تعجز اللغة المباشرة عن الإفصاح عنها. ففي هذا المستوى تقدم المدركات المجردة في صورة مظاهر محسوسة عن طريق الاستعارة التي تتخذ مجموعة متنوعة من المواقع النحوية؛ فهي قد تكون اسما أو فعلا. ومعلوم أنه إذا وردت في صيغة الفعل، فإنها تمنح الصورة كثافة ودينامية إضافية بما يلقيه الفعل في روع المتلقي من إيهام وحركية، مثلما يقع في هذه الصورة:

الصيف فيك يعانق الصحوا
عيناك ترتخيان في أرجوحة... (11)

ففي هذه الصورة يتخلى "الصيف" عن مفهومه الزمني والطبيعي ليتحول إلى كائن حي يمارس السلوك البشري، والمتمثل هنا في "يعانق". ذلك أن العناق سلوك محسوس نلحظه بحاسة البصر. وإذا ما نظرنا إلى الشيء المعانَق (المفعول به)، فإن درجة التوتر تتصاعد مما يشي بانزياح كبير بين الطرفين. ف "الصحو" كينونة طبيعية ضوئية لا جسد لها، ومن هنا فهو لا يحتمل العناق، ومع ذلك فقد أتاحت العناصر الاستعارية في سياق تركيبها، للعين أن ترى مشهدا لن يتحقق إلا بسحر من الخيال الشعري يذروه في بؤبؤها.
وقد تحضر الصورة الحسية بشكل يجعلها متوسعة، وذلك لاستثمارها لعدد من المكونات البلاغية التي تساهم في نموها نموا عموديا عن طريق التفاعل الحاصل بينها في نسق تعبيري ذي منحى سردي درامي، يستغل إمكانيات حدث أسطوري رمزي لإفادة موقف سياسي معاصر:

الأرض ما زالت، بأذنيها دم من قرطها المنزوع
قهقهة اللصوص تسوق هودجها.. وتتركها بلا زاد
تشد أصابع العطش المميت على الرمال
تضيع صرختها بحمحمة الخيول (12)

إن الأرض بوصفها عنصرا جغرافيا طبيعيا تصبح قادرة على التحول إلى مفهوم حسي آخر، بما تدره عليها الأوجه البيانية والمكونات الشعرية الأخرى من صفات وحالات. فالاستعارات (أذنيها قرطها هودجها تشد صرختها...) تضعنا أمام صورة جديدة تبدو فيها الأرض كامرأة قد نكلت بها أيدي اللصوص، وانتزعت ممتلكاتها، وتركتها ملقاة بلا زاد. وإذا كانت الاستعارة هنا تعمل على تشخيص الأرض، وتقدمها على هيئة امرأة، فإن ذلك التشخيص بشكل واع أو غير واع يذكر بأحد الأبعاد الدينية والأسطورية القديمة، التي كانت تعتقد بالمنزع الأمومي للأرض. وهذا وحده يخفف من حدة التباعد الاستعاري بين الطرفين (الأرض المرأة)، فينحصر الاجتهاد الشعري حينئذ في محاولة نفي الأمومة عن الأرض، وتقديمها في صورة عروس مخذولة.
وبالإضافة إلى هذه الصورة المركزية، هناك صور جزئية متفاعلة معها، تعمل من جهتها على تأثيث المجال، وإثراء المستوى الدرامي للموقف. فمن ذلك "قهقهة اللصوص تسوق هودجها"، وهذه الصورة قائمة على أساس المجاز المرسل، لأن الفعل "تسوق" مسنود للقهقهة وليس إلى اللصوص، مما ينبئ بحالة اللصوص وهم ينفذون جريمتهم. ومن ذلك أيضا "تشد أصابع العطش"، حيث يتحول العطش باعتباره حالة غريزية إلى كائن حي بواسطة التجسيم الذي يتحقق بإسناد "الأصابع" إليه.
وتتحقق الصورة الحسية بانتقال الكائن المحسوس إلى الشيء المحسوس كذلك، بواسطة وجه بياني هو التشبيه:

الخيول بساط على الريح..
سار على متنه الناس للناس عبر المكان
والخيول جدار به انقسم
الناس صنفين:
صاروا مشاة.. وركبان (13)

يعترضنا في الصورة تشبيهان، وقد ساهم غياب الأداة ووجه الشبه في جعل علاقة المشابهة بين الطرفين جد قريبة، لأن درجة الانزياح بينهما ضعيفة لوجود العناصر الدالة المشتركة بينهما، ثم لأن الصورة أساسا تحقق انتقالا من محسوس إلى محسوس (الخيول بساط على الريح) و(الخيول جدار). وما يلاحظ هنا أن الصورة الحسية التي يحققها المشبهان بهما (بساط على الريح) و(جدار) لا تتم إلا على أساس لفظي، لأن المفهوم موغل في التجريدية والرمزية. فبساط الريح يستند على مرجع أسطوري لا وجود له في الواقع. أما كلمة "جدار" فواضح أنها على المستوى الرمزي تشكل فاصلا بين شيئين مختلفين، ولا تدل على الجدار المادي. ومن هنا نجد أنفسنا أمام مفاهيم تجريدية تعرض بطريقة حسية.
وقد تجتمع في المقطع الواحد المتجانس دلاليا صور حسية يتم فيها تشخيص المكان عن طريق منحه سلوكات وخصوصيات بشرية، ويتحقق خلال ذلك تشييء الكائن الحي عن طريق تعويضه بالشبيه:
كان النشيد الوطني يملأ المذياع منهيا برامج المساء

وكانت الأضواء تنطفئ..
والطرقات تلبس الجوارب السوداء
وتغمر الظلال روح القاهرة
والدم كان ساخنا يلوث القضبان
هذا دم الشمس التي ستشرق، الشمس التي ستغرب (14)

يتأكد التشخيص هنا بواسطة الاستعارة المضاعفة "الطرقات تلبس الجوارب السوداء"، فالاستعارة الأولى مكنية "تلبس" والثانية تصريحية "الجوارب السوداء" إذ تعوض مشبها هو "الظلام". وهكذا تتحول الطرقات/المكان إلى امرأة. وفي الصورة الثانية "وتغمر الظلال روح القاهرة" نجد أنفسنا أمام تشخيص قائم على نقل المكان من حالة جمود إلى حالة حركة وحيوية، وذلك عن طريق زرع الروح فيه. وتتصاعد درجة الانزياح أكثر بجعل "الظلال" وهو معطى حسي يغمر "الروح" وهو معطى تجريدي. أما التشييء فيتمثل في تحويل الشخص الذي تدل عليه القرينة اللفظية "دم" إلى "الشمس"، بواسطة الاستعارة التصريحية. ورغم ما يلاحظ على هذه الاستعارة من ابتذال واستهلاك، ذلك أن الشمس ترسخت في التراث الشعري العربي كاستعارة نمطية دالة على المدح، فإن القرينة "دم" تقوم بدور تجديدها وإكسابها توهجا خاصا. حيث تبدو "الشمس" البعيدة قريبة تنزف دما، وتتحول إلى جثة "تأكلها الديدان". ولعل الحرص على تأكيد التشخيص والتشييء في هذه الصور الجزئية يأتي لخلق علاقات التفاعل بين الكائن والمكان، في سياق تبادل المظاهر والخصوصيات. فكلاهما يتلبس بالآخر، ويترتب عن ذلك تعميق النفس الدرامي، وانصهار الصور الجزئية كلها في بؤرة الصورة المركزية.
وقد يستبد التشبيه بكل أطراف الصورة، في نسق يوحي بالإيغال في التقليدية، ولا يخفى الدور البياني الذي يلعبه التشبيه في إبراز الجوانب الحسية من الصورة، خاصة إذا كانت العلاقة بين المشبه والمشبه به قريبة لتحقق العناصر المشتركة بينهما. إلا أن المسألة قد تأخذ مسارا آخر في حالة وجود انزياح بينهما، الشيء الذي يعطي للتشبيه فاعلية في خلق المفاجأة، ودينامكية في رفد الصورة بعناصر التخيل الابتكاري:
قلت لها في الليلة الماطرة:

البحر عنكبوت
وأنت في شراكه فراشة تموت
وانتفضت كالقطة النافرة (15)

حيث يصادفنا في هذا المقطع ثلاث تشبيهات تختلف نوعيا، فالأول بليغ، والثاني مرسل، والثالث مفصل. وتواردهما بهذا الترتيب له ما يبرره فنيا ودلاليا. فعلى مستوى التراكم اللغوي لكل جملة تشبيهية، نجد حركة تصاعدية من الأقل إلى الأكثر، بالنظر إلى عدد كلمات كل جملة، مما يمنح الصورة في كليتها مسحة إيقاعية ممتدة. وعلى مستوى الدلالة يتم الإفصاح عن الحقيقة بشكل تدرجي يراعي سياق البوح وكمية الجرعة في كل جزء من أجزاء هذه الحقيقة.
وهناك الصورة الحسية التي يتعدد فيها المشبه ويتفرد المشبه به، وينتج عن ذلك اختزال للعناصر في بؤرة واحدة، مما يتسبب في تضييق المجال المرئي للصورة:

أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة !
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح !
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى.. أضرحة (16)

تؤكد هذه الصورة مبدأ التكثيف والاختزال من أجل بلورة المعنى المراد توصيله، والمتجسد في فداحة القتل. ومن أجل بلوغ هذا الهدف، يتم اللجوء إلى خرق المألوف بواسطة تحجيم المعنوي "سقط الموت"، وتشييء الإحساس "انفرط القلب كالمسبحة"، ودمج الخلص في العام (المنازل أضرحة/ والزنازن أضرحة/ والمدى أضرحة)، وإذا كان خرق المألوف هو الغاية المستهدفة في الممارسات الشعرية الحديثة، فإن عدة عناصر بلاغية وغير بلاغية كانت مسئولة عنها في الصورة التي نحن بصدد تحليلها. فالبلاغية تتمثل في استعارتين فعليتين وأربع تشبيهات. أما غير البلاغية فتتجلى في المستوى المعجمي والأسلوبي؛ ذلك أن الأول يهم جانب انتقاء مفردات تحقق قدرا من الشعرية أثناء اجتماعها في بنية واحدة. أما الثاني، فيهم جانب ترتيب عناصر الصورة، وظاهرة التكرار في جزئها الأخير. إن حسية هذه الصورة راهنت على الانتقال من المتخيل إلى المرئي، وذلك بإعادة تشكيل المفاهيم المجردة (الموت الحزن) تشكيلا يمنحها مظهرا ماديا، ونسف تعددية المكان (المنازل الزنازين المدى) من أجل خلق مكان واحد متجانس وهو المكون من الأضرحة.
وقد تميل الصورة إلى تقرير حسية مفرطة، معتمدة على مجموعة من الاستعارات التصريحية المتجانسة التي تقوم ببناء مشهد تمثيلي مكتمل، تدل القرينة اللفظية على المشهد الحقيقي الذي يرمز إليه، يقول الشاعر أمل دنقل في سخرية مريرة:

كنت في المقهى، وكان الببغاء
يقرأ الأنباء في فئران القمح،
وهي تجتر النراجيل، وترنو إلى النساء (17)

إن قارئ هذا المقطع سيتصور أن الأمر يتعلق بقصة تعليمية تعتمد شخصيات متخيلة كما في كليلة ودمنة أو بمشهد من الرسوم الكرتونية التي تخاطب عقول الأطفال.. ولكن ما إن يصل إلى القرينتين اللفظيتين "يقرأ الأنباء" و"تجتر النراجيل" حتى يدرك البعد الرمزي الذي يفيده طرفا الصورة (الببغاء فئران القمح). ومن ثم يشرع في البحث عن المعادل الموضوعي لكل طرف. ف "الببغاء" لن يكون إلا إنسانا مقلدا أو مأمورا بقراءة ما يلقى إليه من "أنباء" دون أن يفكر في فهمها أو معارضتها. أما "فئران القمح" فهم رجال مستهلكون لما يجدون بين أيديهم دون أن يكلفوا أنفسهم بذل الجهد، لأنهم يكتفون ب "اجترار النراجيل" و"الرنو إلى النساء". من هنا ندرك أن المتخيل الشعري في هذه الصورة يعكس مشهدا يوميا مشوبا بكثير من العبثية والإحباط لانعدام التواصل بين "الببغاء" و"فئران القمح".
ولا شك أن قراء الشعر يعرفون جيدا قدرة الشاعر الكبير أمل دنقل على تحويل المشاهد اليومية المألوفة إلى لوحات شعرية باذخة يفيض بها خياله المبدع بما اشتهر به من نزعة السخرية السوداء التي بقدر ما تخلق من تسلية وفرجة مضحكة، فإنها بالقدر نفسه تتيح إمكانية الإجهاش بالبكاء إشفاقا على واقع الناس المؤلم وعذاباتهم التي بلا حد.

الصورة الذهنية:

إذا كنا في المستوى السابق قد حاولنا تلمس مفهوم الحسية في الصورة الشعرية من خلال تحليل عينة من الصور الممثلة لها في شعر أمل دنقل، ووفقنا في تلمسنا ذاك بين التحليل البلاغي والدلالي، فإننا سنعمل في هذا المستوى على مقاربة الصورة الذهنية؛ أي التجريدية، وذلك بتطبيق معطيات التحليل على مجموعة من الصور التي افترضنا تجريديتها مسبقا اعتمادا على مؤشرات محمولاتها المعنوية، موضوعية كانت أو شعورية، بالنظر إلى الانتقال إلى المستفاد من مفردات الصورة وتركيبها. ذلك أن الانتقال المقصود هو الذي يتم من المفهوم الحسي إلى المفهوم التجريدي أو من التجريدي إلى تجريدي آخر. وتلعب الاستعارة المكنية دورا لافتا في بلورة هذا النمط من الصور، وخاصة الاستعارة الإسمية التي ترد في تركيب نحوي مكون من مضاف ومضاف إليه. وتشتد حدة التجريد حينما يضاف المحسوس إلى المجرد أو يعاد تشكيل أشياء الطبيعة والواقع، وجعلها تتبادل الأدوار فيما بينها، وتعير خصائصها لتستقبل خصائص غيرها، يقول الشاعر أمل دنقل:

على محطات القرى..
ترسو قطارات السهاد
فتنطوي أجنحة الغبار في استرخاءة الدنو
والنسوة المتشحات بالسواد
تحت المصابيح، على أرصفة الرسو
ذابت عيونهن في التحديق والرنو
علّ وجوه الغائبين منذ أعوام الحداد
تشرق من دائرة الأحزان والسلو (1

تجتمع كل الانزياحات الواردة في هذا المقطع على خرق نظام اللغة، مرة باستعارة محسوس لمجرد، ومرة أخرى باستعارة محسوس لمحسوس مع وجود شبه معنوي. وبالنظر إلى علاقة الانزياحات بالدلالة المستهدفة، نلاحظ أنها لا تكتفي بالعمل على تغيير المعنى والحد من مباشريته، وإنما تتعدى ذلك إلى تعميق الانفعال بهول مشهد انتظار الغائبين. وهنا تكمن أهمية الانزياح المؤسس على الاستعارة الناجحة؛ تلك الاستعارة التي يقول عنها جان كوهين Jean COHEN: ((إن الاستعارة الشعرية ليست مجرد تغير في المعنى، إنها تغير في طبيعة أو نمط المعنى، انتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي، ولهذا لم تكن كل استعارة كيفما كانت شعرية.)) (19)
وهناك الصورة الذهنية التي تنبني بواسطة رص المعطيات المرجعية المتناقضة في تركيبة واحدة، فتذوب خلالها حدة المفارقة، لأن هذه المعطيات المتناقضة عندما تدخل إلى حيز المتخيل، تجد المناخ الفني الذي يجعلها تأنس إلى بعضها البعض، وتعمل على تشكيل صورة مرئية على أنقاض المعاني الممعنة في التجريد:

يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الإسكندر الأكبر:
لا تخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إلي
لأنكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إلي
لربما: إذا التقت عيونكم بالموت في عيني:
يبتسم الفناء داخلي.. لأنكم رفعتم رأسكم.. مرة ! (20)

لا شك أن المتخيل في هذه الصورة يوجد في موضعين: "إذا التقت عيونكم بالموت في عيني" و"يبتسم الفناء داخلي" ويكون الأساس البلاغي المؤدي إلى الوظيفة الشعرية مجازا مرسلا في الموضع الأول، واستعارة مكنية في الموضع الثاني. ذلك أن الشاعر يستدعي الموت بوصفه سببا لإفادة الأثر المسبب، وهذا هو المجاز المرسل، لكن فاعليته الفنية لا تبرز إلا عند دخوله في سياق تركيبي، يجعل شحنته المجازية تسري عبر الكلمات المجاورة، وربما امتدت إلى أقصى نهاية المقطع. أما الاستعارة المكنية في "يبتسم الفناء داخلي" فتلغي الحدود بين الحسي والمجرد، وتخلق حالة من التفاعل المتبادل بينهما، ليتولد عن ذلك مشهد غرائبي يُري ما لا يُرى ويؤسس لموقف نادر يتبدى الإنسان فيه منسجما مع فنائه.
وعلاوة على ذلك، فإن معنى المقطع لا يمكن أن يصار إلى تأويله إلا بالمرور على الدلالة المركبة في "يبتسم الفناء داخلي". فإذا كان مضمون الخطاب الموجه إلى "الأنتم" من قبل مرسِل يفترض أنه ميت بدلالة عبارة "الموت في عيني" عليه يتمثل في طلب رفع العيون، فلأن الغاية المستهدفة هي "ابتسام الفناء" وهي نتيجة، إذا اقتصر على الأخذ بملفوظيتها قد توقع الفهم المنطقي في تناقض مؤكد. ولكن بسبر الأبعاد المجازية المرمي إليها في "ابتسام الفناء" يتضح أن المقصود بالابتسام ليس الفناء، وإنما الطرف المجاور له، وهو روح المرسِل.
لقد عرف الشاعر أمل دنقل بميله الكبير إلى أسلوب المفارقة في تصوير مختلف الحالات الخاصة والعامة ربما لأن علاقته بنواميس الوجود ومعطياته تتجسد في ذلك الموقف المتشكك في التوازن والعدالة، يقول من ديوان "أقوال جديدة عن حرب البسوس":

خصومة قلبي مع الله
قلبي صغير كفستقة الحزن.. لكنه في الموازين
أثقل من كفة الموت
هل عرف الموت فقد أبيه
هل اغترف الماء من جدول الدمع
هل لبس الموت ثوب الحداد الذي حاكه.. ورماه ؟ (21)

يتحدد الموقف هنا في تحجيم الموت ثم تشخيصه من أجل مواجهته، لأنه يستحيل مواجهة الشيء المجرد. فالتحجيم يتمثل في تحويل الموت إلى مادة قابلة للوزن "كفة الموت". والتشخيص ينتج عن إعارته مجموعة من الأفعال والسلوكات البشرية "عرف" و"اغترف" و"لبس" و"حاك". أما المواجهة فتبرز في القيام بالحد الأدنى الذي يستطيعه الإنسان العاجز أمام جبروت الموت، وهو الاستنكار الذي يستفاد من حرف الاستفهام "هل".
إن ذهنية هذه الصورة تتجاوز معاداة الموت إلى مخاصمة المتسبب فيها، وهو "الله" في لغة أقرب إلى العتاب الكسير منه إلى التنديد القوي.. مما يجعل لغة هذا العتاب تشي بمسحة صوفية تساهم في تخصيب البعد التخييلي للصورة.
وقد تتجسد ذهنية الصورة في الانتقال من اليأس كمرجع إلى المستحيل كمتخيل، يقول الشاعر:

سيقولون:
ها نحن أبناء عمّ
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيف في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم (22)

تشتمل هذه الصورة المحورية، المتضمنة في المقطع، على صورتين جزئيتين، تدل على الأولى عبارة "واغرس السيف في جبهة الصحراء" والثانية تدل عليها عبارة "يجيب العدم". وكلتاهما تستندان إلى مرجع معنوي تعمل الأوجه البلاغية على تسييجه بالغموض الفني المطلوب. وتتمثل هذه الأوجه في الاستعارة المكنية الدالة على التجسيد والتشخيص. فالتجسيد تحققه استعارة الجبهة للصحراء. أما التشخيص فتحققه استعارة "يجيب" للعدم. وبالرغم من الحسية التي تستشف من الصورة الأولى، فإن سمة التجريد تبدو غالبة عليها إذا ما أوردناها في السياق التركيبي: "واغرس السيف في جبهة الصحراء" فتخرج الدلالة من مفهوم خاص معلوم إلى مفهوم عام مجهول. وينشأ عن ذلك بعد رمزي توحي به كلمة "الصحراء" كدال. أما الصورة الثانية فتبقى مفتوحة على المزيد من التجريد في انتظار "أن يجيب العدم"!. ذلك أن شرط المشاهدة ينتفي هنا، مما يتطلب المرور بعدة مراحل إدراكية قبل أن يتمثل "العدم" في صورة شخص يهم بالإجابة:

العدم
(تجريد)

إذ لابد من قطع مرحلتين على الأقل للوصول إلى الصورة البصرية، تتجلى الأولى في ما توحي به كلمة "يجيب" من تشخيص، ونستعين هنا بحاسة السمع. وتتجلى الثانية في ما نتوصل إليه من تأويل وتخييل، لنعطي للصورة السمعية هيئة مشاهدة.

الصورة الرمزية:
يمكن تصنيف الصورة الرمزية في ثلاثة أنواع بالنظر إلى طبيعة الرمز، فهو إما أن يكون مفردا، أي عبارة عن كلمة دخلت العرف الاصطلاحي في ثقافة معينة، لتنوب عن شيء أو تمثل شيئا آخر كما يقول الناقدان أوستن وارين ورينيه ويليك (23) .. أو يكون مركبا أي يأتي مركبا في إطار حكاية دالة، أو يكون تمثيلا لموقف معين Allégorie، وفي هذا الصدد تكون الصورة ناهلة من منبع أسطوري أو ديني أو تاريخي. وهكذا تمر الصورة الرمزية بمرحلتين، تتأسس الأولى على الإدراك المباشر اعتمادا على الوجه البلاغي الموظف ولما كان هذا الوجه البلاغي واردا في إطار الرمز، فإنه يتم الانتقال من الإدراك المباشر Dénotationإلى الإدراك الإيحائي Connotation الذي يفجر الرمز، ((فالصورة يمكن استثارتها مرة على سبيل المجاز، لكنها إذا عاودت الظهور بإلحاح، كتقديم أو تمثيل على السواء، فإنها تغدو رمزا)) (24) .
ويشكل الرمز المفرد أعلى نسبة في الحضور داخل المتن الشعري لأمل دنقل، نظرا لوفرة الرموز المعجمية في الشعر. ولما كان الأمر كذلك، فإننا سنكتفي بالتدليل على نماذج قليلة مما يتحقق فيه التوهج ويسمو بالمتخيل إلى ذروة الإيحاء. فمن الرموز المستعملة لأداء موقف اجتماعي نتوقف عند هذه الصورة:
من يجرؤ الآن أن يخفض العلم القرمزي
الذي رفعته الجماجم
أو يبيع رغيف الدم الساخن المتخثر فوق الرمال (25)
إن هذه الصورة تعطي للحسي المشاهد مكانة كبيرة، وذلك لورود دالين رمزيين تغلب عليهما طبيعة لونهما. وهما "العلم القرمزي" و"رغيف الدم". وثمة رمز آخر تشتمل عليه الصورة وهو "الجماجم". وكل هذه الرموز الثلاثة تأتي في سياق دلالي متجانس يفيد مدلولا واحدا، هو الثورة والتضحية بالنفس:

الصورة الرمزية: (العلم القرمزي/رغيف الدم / الجماجم )
الرمز : (الأحمر الغامق/الدم/الموت)
الدلالة الرمزية : (التضحية/التضحية/التضحية)


ثم إن الصورة بكل عناصرها تأتي في إطار وحدة تركيبية متناسقة، يلم أطرافها الأسلوب الاستفهامي المفيد للإنكار؛ إنكار خفض "العلم القرمزي" الذي رفعته "الجماجم"، إذ ليس من السهولة تقويض أسس الثورة التي تحققت بثمن باهظ.. وإنكار بيع "رغيف الدم" رمز المكتسبات التي تحققت أيضا ببذل النفس.
إن الحسية المؤسسة من قبل بلاغة اللون أو رمزية الدم في هذه الصورة لا تفيد المدلول عن طريق المشابهة كما يحدث في الاستعارة، وإنما تفيده صورة اللون القرمزي كأيقونة دالة على الدم. وصورة الدم ذاتها كرمز دال، تتم بطريقة عقلية تبعا لكلمة الدم المعجمية المتفق على رمزها إلى الثورة أو التضحية في الثقافة الإنسانية. وهكذا يقوم الرمز بالتمرد على اللغة المعيارية، ويحقق انزياحا كبيرا وعوالم من الإيحاءات المفتوحة.
وقد تستدعي الصورة الرمزية الواحدة مجموعة من العناصر الرمزية الكافية لتأدية الموقف، دون أن يتعلق الأمر برمز مركب ما دامت تلك الرموز متسمة بالتباين والاختلاف، يقول الشاعر:

أحببت فيك المجد والشعراء
لكن الذي سرواله من عنكبوت الوهم
يمشي في مدائنك المليئة بالذباب
يسقي القلوب عصارة الخدر المنمق
والطواويس التي نزعت تقاويم الحوائط
أوقفت ساعاتها
وتجشأت بموائد السفراء (26)

يتعايش في هذا المقطع رمزان، هما "العنكبوت" و"الطواويس" مع عناصر بلاغية أخرى تتمثل في الكناية "مدائنك المليئة بالذباب" والمجاز المرسل "القلوب". وتتعاون كلها في بناء صورة متنامية أفقيا. ونلمس هذا التنامي في تداعي المعاني وتطور الموقف في إطار المعطى البلاغي لخدمة المعطى الرمزي.
إن الرمزين "العنكبوت" و"الطواويس" يمثلان ركني الصورة باعتبارهما منتجين للحدث. ومعلوم أن "العنكبوت" رمز لمن ينسج شراكا لتقع فيه فريسته. وإذا كان هذا "الشراك" منصوبا في "مدائن مليئة بالذباب" فعندئذ تتضح مرموزية العنكبوت والذباب، وتتجسد في علاقة التوازي بين عالم الحشرات وعالم الناس.. إذ استعير الأول للثاني لإفادة ثنائية المستغِل/ المستغَل (بكسر العين في الأول وفتحها في الثاني). وهذا العنكبوت نفسه يتحول إلى الطاووس، الذي يرمز إلى الإغراء والعجرفة المنطوية على فراغ وخواء، لإنتاج الجمود الذي تدل عليه عبارتا "نزع التقاويم" و"إيقاف الساعات".
وقد تأتي الصورة الرمزية المفردة لمعانقة الهم الكوني المتمثل في الموت بوصفه حقيقة أزلية يواجهها الإنسان في حياته. ولما كان الموت مفهوما تجريديا، فإن الصورة تعمل على تجسيده حسيا في هيئة رمزية ولكنها مرئية:

ها هو الرخ ذو المخلبين يحوم..
ليحمل جثة ديسمبر الساخنة
ها هو الرخ يهبط
والسحب تلقي على الشمس طرحتها الداكنة (27)

وهكذا نلاحظ أن الشاعر قد رمز إلى الموت ب "الرخ"، وإلى المفهوم الذي يقع عليه حدث الموت ب "ديسمبر". وكلا الرمزين وردا في شكل صورتين بلاغيتين، فيمكن اعتبار "الرخ" استعارة تصريحية للطرف الغائب الذي هو الموت، و"ديسمبر" مجازا مرسلا لكونه جزءا من الزمن؛ إلا أن الصورتين في حد ذاتهما تصبحان مركبتين بإسناد عبارة "ذو المخلبين" للأولى، وتعيين الجثة للثانية. لأن المخلبين يعنيان شراسة الدال الرمزي وفتكه، ومن هنا حصول المشابهة بين الرمز الاستعاري وبين المرموز إليه. وهي مشابهة تخيلية وهمية، نجد لها حضورا في التراث الشعري العربي، كما في قول الشاعر المخضرم أبي ذؤيب الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع

إن التنصيص على وجود المخلبين بالنسبة للرخ قد قلل من الشحنة الإيحائية التي يحققها الرمز، وأوشك أن يخرجه من بعده الرمزي إلى مجال الاستعارة؛ وبالرغم من ذلك، فإن معطى آخر يجب أن نوليه اهتمامنا، وهو كون الرخ طائرا خرافيا لا وجود له في الواقع. وهذا ما يجعل إسناد المخلبين إليه من قبيل تحسيس المجرد وإمداد الصورة بما تتطلبه من عناصر المشاهدة. أما بالنسبة لرمزية "ديسمبر" فإن إضافته إلى "الجثة" قد خرجت به من دائرة الترميز الذهني للزمن لكي يصبح عنصرا حسيا مشاهدا بالإشارة إلى شكل الجثة وملموسها كونها ساخنة .
وإذا تجاوزنا هذا التصنيف البلاغي إلى مقاربة الصورة بالنظر إلى عناصرها الدلالية، فإننا نجد انسجاما كليا بين العناصر الرمزية المنفذة للحدث: "الرخ" باعتباره فاعلا، و"ديسمبر" باعتباره مفعولا به، وبين الفضاء الذي تحقق فيه الحدث، ويتمثل في السواد المترتب عن "إلقاء السحب لطرحتها الداكنة على الشمس".. وهو فضاء يوحي بالجو المناسب لحدوث الموت وشيوع الحداد. وعلى كل حال فإن هذه الصورة الرمزية تختزل حقيقة الكون وحتمية المصير، ويمكن أن نجسد ذلك في هذه الخطاطة


وقد يميل الشاعر إلى الإكثار من توظيف الصور الرمزية التمثيلية، فيستثمر أسماء تاريخية وأسطورية وأدبية على نحو لافت للنظر؛ وفي معظم الأحيان تتوازى مدلولات هذه الصور مع دوالها الرمزية، وحينئذ تكون كل عناصر الحكاية الموظفة عبارة عن استعارات رامزة، يقول أمل دنقل على سبيل المثال :

من يفترس الحمل الجائع
غير الذئب الشبعان (2

ففي هذه الصورة نصادف عالمين متوازيين. أحدهما يدرك من المعنى الحرفي المباشر، وثانيهما يؤول من خلال الأبعاد الرمزية للدوال. فالعالم الأول هو عالم الحيوانات، وفيه تظهر شخصيتان: الحمل والذئب، ويدور بينهما حدث واحد، هو "افتراس الذئب للحمل". أما العالم الثاني، فهو عالم الناس بما يشتمل عليه من علاقات نفسية واجتماعية. وهناك صفتان مرتبطتان بشخصيتي العالم الأول، وهما: الشبع للذئب، والجوع للحمل، مما يساعد على تأويل الموضوع المرموز إليه بكيفية مقنعة ولا تحتمل الافتراض. ذلك أن الذئب الشبعان لا يمكن أن يرمز إلا إلى الإنسان الطامع والمتهافت، والحمل الجائع يكون على النقيض من ذلك رمزا للإنسان الضعيف المستَغل.

خاتمة:

لقد كان المتخيل الشعري عند أمل دنقل مكونا أساسا في تجربته المتميزة، فهو الذي أعطى للشعر المعاصر من خلاله مذاقا خاصا، وجعل القصيدة متمكنة من تحقيق أهدافها في الإمتاع والإقناع.. الإمتاع الذي هو تذوق لجماليات التحول الذي شهدته الكائنات والأشياء والمفاهيم في شعره، والإقناع الذي نعني به قدرة شعر أمل دنقل على النفاذ إلى إدراك المتلقي ووجدانه وترك بصماته فيهما. لقد كان متخيله في المرتبة الوسطى بين الإظهار والغموض، على عكس التجارب المباشرة عند بعض الرواد وعلى عكس الإبهام عند بعض دعاة الحداثة.. كما كان هذا المتخيل آخذا من البلاغة العربية لمسة الوجه البلاغي كمدلول أول وممعنا في العمق الرمزي والإيحائي كمدلول ثان، ومن ثم لم يخطئ شعر أمل دنقل قلوب قرائه.. فآمن هؤلاء القراء بضرورة الشعر وجدواه مثلما آمن شاعرنا الكبير قبلهم بذلك. ولأنه عاش الحياة في أدق نبضاتها فقد تغنى بتفاصيلها غناء جعل الأشياء الصغيرة واليومية تنتفض بضربات فرشته الشعرية الباذخة، فكان أمل دنقل رغم حرصه على الوزن أقرب شعراء التفعيلة إلى قصيدة النثر








دنقل... أبرز الشعراء العرب في عالم مابعد كارثة العالم السابع والستين
د / جابر عصفور لجريدة البيان



أمل دنقل (1940 - 1983) واحد من أبرز الشعراء العرب في عالم مابعد كارثة العالم السابع والستين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها، فأعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بماتنطوي عليه من انجاز ودلالة، ابتداء من ديوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) الذي لفت اليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى الى هزيمة يونية 1967، مرورا بديوان (تعليق على ماحدث) عام 1971 الذي كان استمرارا لاتجاه الديوان الأول،

وكذلك ديوان (العهد الآتي) الذي صدر عام 1975 والذي وصلت فيه تقنية الشاعر الى ذروة اكتمالها. وأخيرا ديوان (أوراق الغرفة 8) في عام 1983 وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، وأشرفت على طباعته بنفسي في (هيئة الكتاب) مع تقديمي له، وصدر بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته، وتولت عبلة الرويني الاشراف على طباعة ماأتمه من (أقوال جديدة عن حرب البسوس) الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة التي أشرفت عبلة الرويني على أكثر من طبعة لها.
هذه الأعمال القليلة، نسبيا، تنطوي على عالم توازى خصوصيته وأهميته في تاريخ الشعر العربي المعاصر، فهي أعمال شاعر وصل بالمحتوى السياسي للشعر الى درجة عالية من التقنية الفنية والقيمة الفكرية، وذلك الى الحد الذي يمكن أن نقول معه أن شعر أمل دنقل هو المجلى الحداثي للتمرد السياسي في الشعر العربي المعاصر. هذا التمرد قرين رؤية قومية دفعته الى اختيار رموزه من التراث العربي، والتعبير بها عن هموم العرب المحدثين، وذلك بما يجعل من هذه الرموز مرايا ينعكس عليها التاريخ الحديث بما يبين عن هزائمه خصوصا من الزاوية التي تبرز تضاده مع أمجاد الزمن العربي القديم، أو من الزاوية التي تبرز المشابهة بين انكسارات الحاضر وانهيارات الماضي وفجائعه. وقد اقترنت هذه العودة الى الرموز التراثية بصياغة أقنعته من الشخصيات التاريخية ذات الدلالات المضيئة في هذا التراث القادرة على اثارة الشعور واللاشعور القومي لجماهير القراء العرب.
ويتميز شعر أمل دنقل بخاصية بارزة تتصل بمحتواه القومي من هذا المنظور، فهو شعر يتحدث - في جوانبه الحاسمة - عن الصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي يجعله شعرا صالحا لهذه الأيام التي نعيشها في ظل الهيمنة الأمريكية والغطرسة الإسرائيلية، كما يجعل منه شعرا جديرا بأن نسترجعه ونستعيده مع شعورنا الغالب بالوجع الفلسطيني، ومع احساسنا بالعجز عن الدفاع عن حقوقنا العربية واسترداد ماسلب منها. والحق أن شعر أمل دنقل تتكشف قيمته على نحو اضافي مع مانعانيه، ومع كل مايؤكد لنا صدق هذا الشعر في تعبيره عن الهزائم المتلاحقة التي يمر بها العرب، خصوصا بعد أن استغلت اسرائيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وأقنعت أمريكا بمساعدتها في محاربة الارهابيين الفلسطينيين. وأقبلت أمريكا على مساعدتها، غير عائبة بالتفرقة بين الارهاب الذي يقوم على دعاوي باطلة، وينتهي بتدمير كل شيء، والكفاح الوطني من أجل الاستقلال. وكانت النتيجة أن أصبح الفلسطينيون الذين يقاتلون من أجل استقلال وطنهم، ومن أجل استعادة حقوقهم السليبة، ارهابيين مطاردين من إسرائيل ومن راعيتها الكبرى أميركا.

هكذا، نعاني نحن العرب في هذه الأيام حالاً أشبه بحال الهزيمة، فإسرائيل تعربد في الاراضي المحتلة، وترتكب من المذابح مايندى له جبين الإنسانية، وما من قوة عربية تستطيع أن تواجهها، أو ترد على عدوانها، الأمر الذي ترك مرارة الهزيمة العربية على كل الألسنة. ولذلك لا يملك المرء سوى تذكر قصائد أمل دنقل عن الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصا أن ذكراه التاسعة عشرة تلح في هذه الأيام، فقد توفى في الحادي والعشرين من مايو سنة 1983.

وأتصور أن القصيدة الأولى التي ترد على الذهن من شعر أمل، في هذا السياق هي قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) وهي قصيدة دالة في ادانتها للأنظمة التي أوقعت الهزيمة بشعوبها، ودالة على أن الهزيمة تتخلق في الداخل قبل أن تأتي كالعاصفة الجائعة من الخارج، ودالة على أن الشعوب المحكومة لا تملك سوى البكاء عندما تشعر بهوان وضعها، ولكن من الزاوية التي تجعل من بكائها تمردا على كل من تسببوا في هزيمتها

والواقع أن قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) أهم قصائد أمل بعد هزيمة العام السابع والستين. جذبت الأنظار إليها والى شاعرها، وذلك عندما أعادت الى الاذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الابداع الذي كان يحذر من الخطر القادم في العام السابع والستين فلم يصدقه أحد الا بعد أن حدثت الكارثة. واذ أكد (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر، فإنه أكد الهوية القومية لشعر أمل دنقل من حيث وصل الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى امكانا للمستقبل الا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات وتتجاوز مافي الحاضر من ثغرات.

ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع الى طبيعة الصوت الذي ينطقه القناع بها، فهو صوت المواطن العربي البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، يصمت كي ينال فضلة الأمان، كأنه عبد من عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة. وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد سوى التوجه الى (زرقاء اليمامة) التي هي مثله بمعنى من المعاني، كي ينفجر في حضرتها بالكلمات التي تقول:

أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والاعضاء
اسأل يازرقاء
... ...
كيف حملت العار
ثم مشيت، دون أن أقتل نفسي، دون أن أنهار
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة.

هذا العبد الذي ينطق في القصيدة كان يجسد صوت الشاعر من ناحية، وصوت المواطن العربي المسكين الذي مزقته الهزيمة من ناحية ثانية. ولذلك اتحدت جماهير القراء بصوت هذا العبد العبسي البائس الذي دعى الى الميدان والذي لا حول له ولا شأن، فانهزم وخرج من جحيم هزيمته عاجزا، عاريا، مهانا، صارخا، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه. وإذا كان صوت هذا العبد العبسي شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة، العرافة المقدسة،
شاهد على مايمكن أن يفعله الشعر في زمن الهزيمة، خصوصا من حيث هي صورة أخرى من هذه العرافة: يرى ما لا يراه الآخرون ويرهص بالكارثة قبل وقوعها، وينطق شهادته عليها وقوعها، ويتولى تعرية الأسباب التي أدت إليها، غير مقتصر على الإدانة السلبية في سعيه الى استشراف أفق الوعد بالمستقبل الذي يأتي بالخلاص.
ولذلك كان بكاء هذا العبد في حضرة زرقاء اليمامة، مثل شهادته، علامة على أسباب الهزيمة التي ترتبت على غياب الحرية والديموقراطية عن قبائل (عبس) العربية، من العصر الجاهلي الى العام السابع والستين، حين كتبت هذه القصيدة، كما كان هذا البكاء تأبينا لزمن مضى، وإدانة لأخطاء زمن لم يخلف سوى الكارثة، وبحثا عن زمن يأتي بخلاص من هذه الكارثة.
وأعترف أنني كلما طالعت شاشات التليفزيون الأجنبية والعربية، ورأيت المذابح البشعة التي ارتكبها الإسرائيليون في حق الشعب العربي الفلسطيني، في رام الله أو نابلس أو جنين أو طولكرم وغيرها من الأماكن الفلسطينية العزيزة، شعرت بالهزيمة والانكسار والعجز ووجدت نفسي استعيد الصوت الصارخ في قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) من عجزه ومحنته، ومضيت مثله أسأل عن السواعد المقطوعة التي ظلت ممسكة بالرايات العربية المنكسة، وعن جثث الأطفال ملقاه بين الخيام، وعن وقفة المرأة الفلسطينية بينما الدبابات الإسرائيلية تمضي فوق حطام منازلهم التي هدمتها القذائف الغادرة، فأقول لنفسي الى متى نحمل - نحن العرب - هذا العار؟ الى متى؟!








صور جلد الذات عند أمل دنقل

عادل أبو الأنوار

حين انتهى الجيل الأول من التأسيس لمبادئ الواقعيّة وشعر التفعيلة ,من أمثال نزار قباني من سوريا, وبدر شاكر السيّاب من العراق ,وصلاح عبد الصبور من مصر, بدات الفروع تنمو من الأصل الواقعي, فظهرت تنويعات فكريّة عدّة على وتر الواقعيّة , وكان من العلامات البارزة في هذا الصدد شاعران لو لم يتوفّيا في ريعان الشباب لرأينا منهما الكثير , وهما الشاعر اللبناني (خليل حاوي) الذي انتحر احتجاجا على الاجتياح الاسرائيلي للبنان , والشاعر المصري (أمل دنقل) الذي توفي في الثامنة والثلاثين من عمره بعد أن غيّر وجه الحياة الشعريّة في مصر .
كان (أمل ) من الجيل الثاني في المدرسة الواقعيّة , ذلك الجيل الذي شهد النكسة العربيّة في عام 1967 وانهيار الروح القوميّة التي ظهرت في خمسينيات القرن العشرين , فحمل هذا الجيل على عاتقه مسؤولية وطن ضلّ بعد هدى وخارت قواه بعد عزّة , وبينما جنح البعض مثل( خليل حاوي) الى استقراء الواقع والاستغراق في وصفه والتعامل مع معطياته المؤلمة, اتخذ ( أمل دنقل ) منهجا منفردا وهو استنباط العوامل التي تسببت في هذا الواقع من خلال مضامين قصائده التي تفور بروح الثورة والرفض التام لكل الموازين المقلوبة , ولم يكن جلد الذات مألوفا في هذه الأيّام, فكان افراط ( أمل ) فيه سر تفرّده وتفوّقه على أبناء جيله في ذلك الحين.
فنجده مثلا في قصيدة ( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ) من الديوان الذي يحمل العنوان نفسه , يتخذ من شخصيّة زرقاء اليمامة معادلا موضوعيا للضمير العربي الذي تم اخراسه من قبل النظام , ويجعلها السوط الذي يجلد به ذاته العربيّة التي يعتبرها سببا في النكسة , فنجده يقول :
كيف حملتُ العار ..
ثم مشيت؟ دون أن أقتل نفسي ؟ دون أن أنهار ؟!
ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنّسة ؟!
تكلمي أيّتها النبيّة المقدّسة
تكلّمي .. تكلّمي ..
فها أنا على التراب سائلٌ دمي
وتصبح زرقاء اليمامة هي النبوءة التي لم يصدّقها أحد الا بعد فوات الأوان :
أيتها العرّافة المقدّسة ..
ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار
فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوار
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار ....
فاستضحكوا من وهمك الثرثار
وحين فوجئوا بحد السيف قايضوا بنا..
والتمسوا النجاة والفرار .
وتمضي مسيرة جلد الذات كنوع من المقاومة السلبية , فنجد قائد ثورة العبيد ( سبارتاكوس) بعد أن عُلّقَ على مشنقة العقاب دافعا ثمن ثورته يقول في سخرية نادمة , أو في ندم ساخر :
فقبّلوا زوجاتكم.. اني تركت زوجتي بلا وداع
وان رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلا ذراع
فعلّموه الانحناء
علّموه الانحناء
الله .. لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال لا!
والودعاء الطيبون ..
هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى
لأنهم لا يشنقون!
وحين تأتلف النفس مع هذا النوع من جلد الذات يصبح جلد الذات قائدا وصديقا يسدي النصائح والأوامر في بعض الأحيان , وهكذا يصرخ الضمير قائلا:
لا تصالح على الدم حتى بدم
لا تصالح ولو قيل رأس برأس
أكل الرؤوس سواء ؟
أرأس العدو كرأس أخيك ؟
أعيناه عينا أخيك ؟
وهل تتساوى يدٌ سيفها كان لك
بيد سيفها أثكلك ؟
وحين تسير الأحداث فى طريق مغلق ، لايجد الشاعر حلا سوى طىّ جميع الصفحات وأغلاق كتاب التاريخ الذى لم يعد له جدوى .
ويختلف جلد الذات عند أمل دنقل عن غيره ، فهو ليس نبرة خطابية ، وانما سخرية مريرة ومزحة تدعو للبكاء ولا تدعو للضحك ، ويتجلى هذا النمط فى ديوانه الأخير ( أوراق الغرفة 8 ) :
( جبل التوباد حيّاك الحيا ...... وسقى الله ثرانا الأجنبي)
( وطني لو شغلت بالخلد عنه ...... نازعتني لمجلس الأمن نفسي)
ويتّخذ من ( صلاح الدين ) رمزا للتاريخ المهمل في عصر ينضح باللامبالاة والعقوق للأجداد :
نم ياصلاح الدين
نم تتدلّى فوق قبرك الورود
كالمظلّيين !
ونحن ساهرون في نافذة الحنين
نقشّر التفّاح بالسكين
ونسأل الله القروض الحسنة!
فاتحة : آمين
ويرحل الشاعر ( أمل دنقل ) بعد أن ترك لنا علامة فارقة في الشعر العربي المعاصر , تاركا لنا سؤالا لم نجب عنه حتى الأن : الى أين نحن ذاهبون؟






البعد القومي فى شعر أمل دنقل

أمل دنقل (1940 - 1983) واحد من أهم شعراء الستينيات في مصر، فالمكانة التي يحتلها في تاريخ الشعر العربي المعاصر، والتي ترتبط بالإنجاز الذي حققه على المستوى الإبداعي، تجعل منه واحدا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها.
أعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بما تنطوي عليه من إنجاز ودلالة، ابتداء من ديوان "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" الذي لفت إليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى إلى هزيمة يونيو 1967، ومرورا بديوان "تعليق على ما حدث" عام 1971 الذي كان استمرارا لاتجاه الديوان الأول، وكذلك ديوان "العهد الآتي" الذي صدر عام 1975 والذي وصلت فيه تقنية الشاعر إلى ذروة اكتمالها، وأخيرا ديوان "أوراق الغرفة (8)" عام 1983، وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، شأنه في ذلك شأن "أقوال جديدة عن حرب البسوس" الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة.

رموز من التراث العربي
هذه الأعمال القليلة نسبيا، تنطوي على عالم شديد الخصوصية والأهمية في تاريخ الشعر العربي المعاصر، فهي تقدم لنا شاعرا وصل بالمحتوى القومي للشعر إلى درجة عالية من التقنية الفنية والقيمة الفكرية في وقت واحد، إلى الدرجة التي يمكن أن نقول معها إن شعر أمل دنقل هو المحلي الحداثي الأخير، للرؤية القومية في الشعر العربي المعاصر، هذه الرؤية القومية التي دفعته إلى اختيار رموزه من التراث العربي، وصياغة أقنعته من الشخصيات الرمزية الثرية في هذا التراث، والقادرة على إثارة اللاشعور القومي لجماهير القراء العرب. ومن هنا كان ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" علامة مؤثرة، فالأقنعة التي ينطوي عليها الديوان، والأصوات الناطقة في القصائد، ذات ملامح تراثية، وصلت بينها وبين القراء وصلا حميما، وزاد من أهمية هذا الوصل ما تميزت به قصائد هذا الديوان من تقنية فنية عالية، جعلت من الشاعر أمل دنقل واحدا من أهم شعراء العرب الشباب.

لقد احتوى هذا الديوان على قصائد "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و "حديث خاص مع أبي موسى الأشعري" و "من مذكرات المتنبي في مصر"، وكلها قصائد تلح على إثارة المعطيات التراثية الكامنة في وعي المتلقي ولا وعيه على السواء، أو تستغل المخزون الشعوري للمتلقي كي تدخل به إلى عالم الشاعر، فتؤهله للاتحاد بشخصيات الشاعر ورموزه. وتضمنت هذه القصائد "الأقنعة" الشهيرة التي عرف بها أمل دنقل وأصبحت علامة له. و "الأقنعة" رموز، في هيئة أشخاص تراثية في الأغلب يختفي وراءها الشاعر، فينطق صوتها الذي هو صوته ويجسد من خلالها، وبواسطتها، تجاربه ونظرته إلى العالم، على نحو يتباعد عن الذاتية المباشرة التي كانت سمة للشاعر الرومانسي، ويؤكد موضوعية الإبداع والتلقي على السواء، فالقناع يتيح للشاعر خلق موازيات رمزية تجسد نظرته إلى العالم، ويوصل صوته عبر وسائل مراوغة، ويتيح للشاعر اكتشاف تجربته خلال آخر يشبهه بأكثر من معنى، وفي الوقت نفسه، يتيح القناع للقارئ الاتحاد بشخصيات الشاعر، والاستجابة إلى صوتها الذي هو صوت الشاعر، والتفاعل مع موقفها القديم الذي يسقط نفسه على الموقف المعاصر الذي يعاني منه الشاعر والقارئ على السواء.

هكذا كانت قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" واحدة من القصائد اللافتة بعد هزيمة العام السابع والستين، فقد جذبت الأنظار إليها وإلى شاعرها على السواء. وأعادت إلى الأذهان مأساة "زرقاء اليمامة" التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الإبداع الذي كان يحذر من الخطر القادم فلم يصدقه أحد. وإذ أكد "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" التشابه بين الماضي والحاضر، فإنه أكد الهوية القومية لشعر أمل دنقل من حيث وصل هذه الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى إمكانا للمستقبل إلا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات وتتجاوز ما في الحاضر من ثغرات.

صوت المواطن البسيط
ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع إلى طبيعة الصوت الذي ينطقه القناع بها، فهو صوت المواطن البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، يصمت كي ينال فضلة الأمان، كأنه عبدمن عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة. هذا العبدالذي ينطق في القصيدة كان يجسد صوت الشاعر من ناحية، وصوت المواطن العربي المسكين الذي مزقته الهزيمة من ناحية ثانية. ومن هنا، اتحدت جماهير القراء بصوت هذا العبد العبسي البائس الذي يبكي في حضرة زرقاء اليمامة، هذا العبد- عندما وقعت الواقعة، وتخاذل الكماة والرماة - يدعى إلى الميدان وهو الذي لا حول له ولا شأن، فماذا يفعل سوى أن يبكي بين يدي زرقاء اليمامة، عاجزا، عاريا، مهانا، صارخا، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه. وإذا كان صوت هذا العبدالعبسي (الصورة الموازية للمواطن العربي البسيط) شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة، العرافة المقدسة، شاهد على ما يمكن أن يفعله الشعر، فالشعر - الإبداع - صورة أخرى من هذه العرافة، أو قناع لها، قادر على أن يرى ما لا يراه الآخرون، وأن يستشرف أفق الكارثة أو أفق الوعد بالمستقبل. وبكاء هذا العبدفي حضرة زرقاء اليمامة مثل شهادته علامة على أسباب الهزيمة التي ترتبت على غياب الديمقراطية عن قبائل "عبس" العربية، من العصر الجاهلي إلى العام السابع والستين، حيث كتبت هذه القصيدة.
وإذا كان تأثير القصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" يرجع إلى طبيعة قناعها، والاتحاد الشعوري واللاشعوري الذي يقيمه القناع بين صوته وصداه عند القارئ، فإن الجوانب الأخرى من نجاح القصيدة ترجع إلى بقية خصائصها الأسلوبية، حيث تتجاور الصياغة العربية المحكمة مع الإيقاعات الإنشادية، وتتآلف لغة الصورة التي تخاطب العين مع النبرة التي تخاطب السمع وتتوازى التضمينات الشعرية القديمة مع الإشارات السياسية المعاصرة، ويتقابل الموقف السياسي الذي يسعى إلى تأكيد حق المواطن العربي في صياغة مصيره مع صوت الشاعر الذي يؤكد دور الشاعر في تحرير الوطن والمواطن.

رحلة الأقنعة
ولقد كانت هذه القصيدة، في الوقت نفسه، بداية رحلة الأقنعة التي انطلقت بصوت أبي موسى الأشعري، في قناعه الذي يؤكد دلالة الموقف الذي يدين جميع الأطراف، فيخلع الجميع كي يسترد المؤمنون الرأي والبيعة، وصوت المتنبي الموجع في قناعه الذي ينطق لغة السخرية، بعد العام السابع والستين، على هذا النحو:

ساءلني كافور عن حزني
فقلت إنها تعيش الآن في بيزنطة
شريدة.. كالقطة
تصيح كافوراه.. كافوراه
فصاح في غلامه أن يشتري جارية رومية
تجلد كي تصيح واروماه.. واروماه
لكي تكون العين بالعين
والسن بالسن

واستمرت الأقنعة في قصائد أمل دنقل ودواوينه اللاحقة تؤكد البعد القومي لشعره، وتؤكد صوت المواطن العربي البسيط الذي يجسد القناع التراثي، في شعر أمل، همومه وتطلعاته وأحلامه. وتجاوب الصوت التراثي في "فقرات من كتاب الموتى" مع القناع الذي انطوت عليه قصيدة "الحداد يليق بقطر الندى" في الديوان الثاني "تعليق على ما حدث". وتجاوبت أقنعة الديوان الثاني مع "أوراق أبي نواس" و "رسوم في بهو عربي" في الديوان الثالث "العهد الآتي"، حيث الإفادة من التراث العربي الأدبي تتجاور والإفادة من التراث الديني الإنساني في تأكيد معنى "العهد الآتي" الذي يحل محل "العهد القديم". وتتجاوب أقنعة الديوان الثالث مع أقنعة الديوان الرابع الذي غدا كله أقنعة مستعارة من سيرة "المهلهل" أخي "كليب" المقتول. ومع الأسف لم يتح للشاعر الوقت لكتابة هذا الديوان "الأقنعة" فقد دهمه المرض اللعين بعد أن فرغ من القصيدتين الأوليين، أو القناعين الأولين، فنشر القصيدة الأولى بعنوان "لا تصالح" والثانية بعنوان "أقوال اليمامة". وقد احتلت القصيدة الأولى مكانة تعلو على المكانة التي احتلتها قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" وذلك لارتباطها بتجسيد موقف عربي قومي من الصلح مع العدو الإسرائيلي.
وظلت القصيدة، منذ أن نشرت، معلقة من المعلقات القومية التي يتناشدها الباحثون عن الكرامة الوطنية. وتقوم القصيدة على عشر وصايا كأنها معارضة موازية للوصايا العشر التي خلفتها الديانة الموسوية، وهي وصايا تؤكد ضرورة الحفاظ على الحق العربي، وعدم الصلح مع العدو الغادر، وتأكيد معنى الثأر الذي هو ثأر جيل فجيل:
وغدا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملة
يوقد النار شاملة
يطلب الثأر
يستولد، الحق من أضلع
المستحيل
وكان أمل يريد أن يصوغ أقنعة لبقية الشخصيات الأساسية في حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة، جساس وجليلة والمهلهل وغيرهم، وذلك ليصوغ من هذه الحرب موازيات رمزية للواقع العربي المعاصر، ويصوغ من شخصياتها موازيات مماثلة لاتجاهات الحاضر. ولم يتحقق من حلم أمل سوى قصيدة "لا تصالح" التي تستحضر الملك كليب في ساعاته الأخيرة، وقصيدة اليمامة التي كانت ترفض السلام مع قاتل أبيها الذي يرمز للمجد العربي القتيل، أو الأرض العربية السليبة التي تريد أن تعود إلى الحياة مرة أخرى. ولكن إذا كان مشروع هذا الديوان لم يكتمل فإن ما تحقق منه يكفي لإبراز حلم أمل دنقل القومي، وهو حلم يتجسد في وطن عربي ترفرف عليه أعلام الحرية والعدل والتقدم، ويستعيد فيه المستقبل عظمة الماضي وأمجاده.
كعنقاء قد أحرقت ريشها
لتظل الحقيقة أبهى
وترجع حلتها في سنا الشمس أزهى
وتفرد أجنحة الغد
فوق مدائن تنهض من ذكريات الخراب
هذه المدائن التي تنهض من ذكريات الخراب هي المدائن العربية التي ظل أمل دنقل يغني لها، ابتداء من القاهرة العجوز إلى كل العواصم العربية. وفي سبيل مستقبل هذه المدائن، ظل شعر أمل يلازم خاصية لم تفارقه قط، هي خاصية الرفض بمعانيه المتعددة، الرفض السياسي لتراجع أنظمة الحكم والهزائم المصاحبة لديكتاتورية حاكميها. والرفض الاجتماعي لصور النفاق التي تمزق الحياة وتعوق التقدم.والرفض الفكري لكل ما يشد العقل إلى قيود التخلف، أو التقاليد الجامدة. والرفض الوجودي لكل ما يحرم الإنسان من أن يمارس حضوره الفاعل في الوجود.
روح رافضة
ويلفت الانتباه، في هذا السياق، أن القصيدة الأولى التي لفتت الأنظار إلى شعر أمل دنقل، قبل أن ينشر ديوانه الأول بسنوات، كانت بعنوان "كلمات سبارتكوس الأخيرة"، وهي قصيدة تقوم على قناع سبارتكوس محرر العبيد في الإمبراطورية الرومانية. والقناع منسوج من بعض الأفكار التي أكدها طه حسين عندما كتب دراسته الشهيرة بعنوان "ثورتان"، مقارنا بين ثورة العبيد في روما وثورة الزنج في البصرة. ومنسوج من ملامح سبارتكوس التي رسمتها الرواية العالمية الشهيرة التي كتبها الروائي الأمريكي هوارد فاست والتي عالجتها السينما العالمية في فيلم شهير بعنوان "سبارتكوس". وقد كتب أمل قصيدته في أبريل 1962، في أعقاب استفتاء شعبي شهير في مصر، بما يؤكد معنى الرفض الحاسم الذي يعلق من يقول "لا" على مشانق القيصر، في مقابل الذين ينالون الأمان ممن يقولون "نعم" لكنهم - في النهاية - معلقون في مشانق الخنوع، وذلك بالمعنى الذي ينطقه هذا المقطع الذي يتوجه فيه سبارتكوس بالخطاب إلى الخائفين:
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الإسكندر الأكبر
لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إليّ ل
أنكم معلقون جانبي على مشانق القيصر
وإذ تنطلق بداية القصيدة من المأثورات الرومانية الخاصة بعوالم الأرباب الوثنية، وتتخذ منها مهادا يؤسس دلالة رفض الاستبداد في الحكم. وإذ تؤكد البداية الذين لابد أن يقولوا "لا" في وجه من يقولون "نعم"، فإنها تؤكد الصوت المتحرر الذي يدعو إلى تحرير الأفراد من سطوة "القيصر" الذي يسلب شعبه حريته، فيتحول الشعب إلى عبيد، أرقاء، يحتاج إلى من يقوده إلى الثورة، ومن ينطق له باسم الثورة من خلال قناع يذكر الحاضر بمعناها الأبدي الدائم. وحين يؤكد سبارتكوس معنى الثورة على كل قيصر جديد، في نفوس المظلومين، فإنه يؤكد الدور الذي يقوم به الشعر والشاعر في رفض كل ما يغتال أحلام المظلومين.
هذا الروح الرافض يتلهب في شعر أمل دنقل، دائما، ولا يكف تلهبه عن التوقد، فهو شعر التمرد الذي يأبى الخنوع. بقدر ما استمد هذا الروح من نسغ التمرد في الحاضر، ظل متوهجا بالرفض إلى آخر لحظة من حياة الشاعر.
الاقتراب من وجدان الجماهير
ولا شك أن هذا البعد السياسي الذي تميز به شعر أمل دنقل هو الذي أكد صلة الشاعر بالجمهور، وجعله حريصا على تأكيد الطابع الإنشادي للقصيدة، كأنه لا يكتب القصيدة إلا ليلقيها في محفل جمعي، وكأن جانبا من بناء القصيدة نفسها لا يفهم إلا في ضوء تلقيها الجماعي، ومن هنا، كانت قصيدة أمل تتميز برموزها القريبة من وجدان الجماهير، وصورها الشعرية البسيطة ومقاطعها القصيرة الحادة، والإيقاعية العالية، وغير ذلك من الخصائص البلاغية التي تلازم كل شعر يتجه إلى الجماهير العربية ليدفعها إلى تغيير عالمها.
وفي هذا المجال، يتباعد شعر أمل دنقل عن الغرابة والتعقيد والاستغراق في العوالم الذاتية أو اللغة اللامنطقية التي تنفر من الوضوح، إلى آخر ما يتميز به بعض الشعر الذي يغالي في نزعته الحداثية التي تبعده عن الجماهير. إن شعر أمل دنقل على النقيض من نزعات الحداثة المغتربة، ينطوي على المعنى الواضح، والبناء المنطقي، والخطابية التي لا تفارق نسيج صياغته دون أن تقلل من شاعريته المتميزة. وقصيدة "لا تصالح" خير مثال على هذا النوع من الشعر، فهي قصيدة تستبدل بالصورة المركبة المعقدة الملتبسة الصورة البسيطة الواضحة، وبالكلمات المتنافرة الكلمات المتسقة منطقيا، وبلغة الاستعارة لغة التشبيه، وبالكتابة التي تدنو من النثر المقاطع الإيقاعية، ذات النغمة البارزة، والقافية التي لا تفلت الوقع الموسيقي، بل تكثفه، وتضبط تدافعه. وأخيرا، تستبدل القصيدة بالمثيرات الفردية المثيرات الجمعية، على نحو يحمل المتلقي إلى حالة شعورية تتناسب وطبيعة الهدف القومي من شعر أمل دنقل الذي كان أكثر أبناء جيله استجابة إلى الجماهير العربية وأكثرهم قدرة على تحريكها. ولذلك احتضنته هذه الجماهير ورعته منذ أن أدركت مرضه، وساندته، وظلت حانية عليه تقديرا منها لدوره في حياتها.
حرص على التجديد
ولكن هذه الصلة بالجماهير لم تنس قصيدة أمل دنقل ما عليها من حق للشعر. إن الصنعة تتجاور مع العفوية، والأصالة تقترن بالمعاصرة، والحرص على النغمة الإيقاعية القديمة يتناغم مع الحرص على التجديد، وعين الشاعر التي لا تمل من النظر إلى عالم المدينة تتضافر مع أذنه التي لا تمل من الاستماع إلى النغمات والأصوات في هذا العالم. ولذلك فإننا نستطيع أن نلمح في شعر أمل دنقل تجاورا لافتا بين الحداثة والتقاليد، خصوصية العالم الأدبي وجمعية العالم الجماهيري، الاستغراق في التقنية والعفوية التي تخفي هذه التقنية.
ومن المؤكد أن شعر أمل دنقل لا يدخل في باب المناسبات بالمعنى الذي تنتهي به القصيدة بانتهاء المناسبة. إن غوص هذا الشعر في تجاربه. وتجسيده اللحظات الجوهرية في الواقع، وصياغته الأقنعة النموذجية التي تتحول إلى موازيات رمزية، وخلقه شخصيات إبداعية لا يمكن نسيانها، على نحو ما نجد في "يوميات كهل صغير السن" و "سفر ألف دال"، وقدرة هذا الشعر على صياغة جداريات بالغة الحيوية لمشاهد المدينة وعالمها، وأناسها الهامشيين، ولغة هذا الشعر المنسوجة باقتدار يجتذب العين والأذن ويمتعهما في آن واحد، والإحكام البنائي الذي يخلف لذة عقلية في ذهن المتلقي، كلها خصائص تتجاوز المناسبة، أو المناسبات، وتضع أمل دنقل في مصاف الشعراء الكبار الذين يتجاوز شعرهم اللحظة التاريخية التي أوجدته لأنه عثر على العناصر الباقية في هذه اللحظة.
ونضيف إلى الخصائص السابقة ما يتميز به شعر أمل دنقل من تراكيب حدية، وعوالم تجمع بين المتقابلات في صياغات لافتة. وذلك هو السبب في أن المفارقة والتضاد هما الخاصيتان البلاغيتان الأثيرتان في هذا الشعر. التضاد الذي يضع الأشياء في علاقات متدابرة، والمفارقة التي تستقطر السخرية من التقابلات المفاجئة. إن قارئ أمل دنقل لن ينسى المفارقة التي تنبثق حين تتجاور الأشياء بغتة، ويبرز التقابل بين العناصر على نحو ساخر، موجع نقرأ معه:
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي... أبدا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
ولقد كان شعر أمل، بهذه اللغة التي تؤكد السخرية من خلال المفارقة، يجسد التضاد الذي تنبني عليه علاقات الواقع المختل، الواقع الذي دفع الشاعر إلى أن ينطق بلغة أقنعته المستعارة قائلا: "مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود".






قصائد لأمل دنقل:

ضد من

في غُرَفِ العمليات,

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ,

لونُ المعاطفِ أبيض,

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات,

الملاءاتُ,

لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن,

قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ,

كوبُ اللَّبن,

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!

فلماذا إذا متُّ..

يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..

بشاراتِ لونِ الحِدادْ?

هل لأنَّ السوادْ..

هو لونُ النجاة من الموتِ,

لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ,

***

ضِدُّ منْ..?

ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ - اطْمأَنْ?!

***

بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء..

الذينَ يرون سريريَ قبرا

وحياتيَ.. دهرا

وأرى في العيونِ العَميقةِ

لونَ الحقيقةِ

لونَ تُرابِ الوطنْ!


زهور

وسلالٌ منَ الورِد,

ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه

وعلى كلِّ باقةٍ

اسمُ حامِلِها في بِطاقه

***

تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ

أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ - دهشةً -

لحظةَ القَطْف,

لحظةَ القَصْف,

لحظة إعدامها في الخميلهْ!

تَتَحدثُ لي..

أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين

ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ, أو بينَ أيدي المُنادين,

حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ

تَتَحدثُ لي..

كيف جاءتْ إليّ..

(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)

كي تَتَمني ليَ العُمرَ!

وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!!

***

كلُّ باقهْ..

بينَ إغماءة وإفاقهْ

تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ

وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ...

اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!

فقرات من كتاب الموت

- 1 -

كلَّ صَباح..

أفتحُ الصنبورَ في إرهاقْ

مُغتسِلاً في مائِه الرقْراقْ

فيسقُطُ الماءُ على يدي.. دَمَا!

وعِندما..

أجلسُ للطّعام.. مُرغما:

أبصرُ في دوائِر الأطباقْ

جماجِماً..

جماجِماً..

مفغورةَ الأفواهِ والأَحداقْ!!

- 2 -

أحفظُ رأسي في الخزائنِ الحديديّهْ

وعندما أبدأُ رِحلتي النهاريّة

أحمل في مكانِها.. مذياعا!

(أنشرُ حوليَ البياناتِ الحماسيّةَ.. والصُّدَاعا)

وبعد أن أعودَ في خِتامِ جولتي المسائيّة

أحملُ في مكان رأسي الحقيقيّه:

.. قنّينيةَ الخمرِ الزُجاجيّه!

أعودُ مخموراً الى بيتيَ..

في الليلِ الأخيرْ

يوقفُني الشرْطيُّ في الشّارع.. للشُّبْهه

يوقفُني.. برهه!

وبعد أن أرشُوَهُ.. أواصل المسير!


صفحات من كتاب الصيف والشتاء


- حمامة

حين سَرَتْ في الشارعِ الضَّوضاءْ

واندفَعَتْ سيارةٌ مَجنونةُ السَّائقْ

تطلقُ صوتَ بُوقِها الزاعقْ

في كبدِ الأَشياءْ:

تَفَزَّعَتْ حمامةٌ بيضاءْ

(كانت على تمثالِ نهضةِ مصرْ..

تَحْلُمُ في استِرخاءْ)

طارتْ, وحطَّتْ فوقَ قُبَّةِ الجامعةِ النُّحاسْ

لاهثةً, تلتقط الأَنفاسْ

وفجأةً: دندنتِ الساعه

ودقتِ الأجراسْ

فحلَّقتْ في الأُفْقِ.. مُرتاعهْ!

أيتُها الحمامةُ التي استقرَّتْ

فوقَ رأسِ الجسرْ

(وعندما أدارَ شُرطيُّ المرورِ يَدَهُ..

ظنتُه ناطوراً.. يصدُّ الطَّيرْ

فامتَلأتْ رعباً!)

أيتها الحمامةُ التَّعبى:

دُوري على قِبابِ هذه المدينةِ الحزينهْ

وأنشِدي للموتِ فيها.. والأسى.. والذُّعرْ

حتى نرى عندَ قُدومِ الفجرْ

جناحَكِ المُلقى..

على قاعدةِ التّمثالِ في المدينهْ

.. وتعرفين راحةَ السَّكينهْ!


خمس أغنيات إلى حبيبتي..!

على جناح طائر

مسافر..

مسافر..

تأتيك خمس أغنيات حب

تأتيك كالمشاعر الضريرة

من غربة المصب

إليك: يا حبيبتي الاميره

الأغنية الأولى

مازلت أنت.....أنت

تأتلقين يا وسام الليل في ابتهال صمت

لكن أنا ،

أنا هنـــــــا:

بلا (( أنا ))

سألت أمس طفلة عن اسم شارع

فأجفلت..........ولم ترد

بلا هدى أسير في شوارع تمتد

وينتهي الطريق إذا بآخـر يطل

تقاطعُ ،

تقاطع

مدينتي طريقها بلا مصير

فأين أنت يا حبيبتي

لكي نسير

معا......،

فلا نعود،

لانصل.

الأغنية الثانية

تشاجرت امرأتان عند باب بيتنا

قولهما علي الجدران صفرة انفعال

لكن لفظا واحدا حيرني مدلوله

قالته إحداهن للأخرى

قالته فارتعشت كابتسامة الأسرى

تري حبيبتي تخونني

أنا الذي ارش الدموع ..نجم شوقنا

ولتغفري حبيبتي

فأنت تعرفين أن زمرة النساء حولنا

قد انهدلت في مزلق اللهيب المزمنة

وانت يا حبيبتي بشر

في قرننا العشرين تعشقين أمسياته الملونة

قد دار حبيبتي بخاطري هذا الكدر

لكني بلا بصر:

أبصرت في حقيبتي تذكارك العريق

يضمنا هناك في بحيرة القمر

عيناك فيهما يصل ألف رب

وجبهة ماسية تفنى في بشرتها سماحة المحب

أحسست أني فوق فوق أن اشك

وأنت فوق كل شك

وإني أثمت حينما قرأت اسم ذلك الطريق

لذا كتبت لك

لتغفري

الأغنية الثالثة

ماذا لديك يا هوى

اكثر مما سقيتني

اقمت بها بلا ارتحال

حبيبتي: قد جاءني هذا الهوى

بكلمة من فمك لذا تركته يقيم

وظل ياحبيبتي يشب

حتى يفع

حتى غدا في عنفوان رب

ولم يعد في غرفتي مكان

ما عادت الجدران تتسع

حطمت يا حبيبتي الجدران

حملته ، يحملني ،

الى مدائن هناك خلف الزمن

اسكرته ، اسكرني

من خمرة أكوابها قليلة التوازن

لم افلت

من قبضة تطير بي الى مدى الحقيقة

بأنني أصبت،....اشتاق يا حبيبتي


مقابلة خاصة مع ابن نوح

جاء طوفانُ نوحْ!

المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً

تفرُّ العصافيرُ,

والماءُ يعلو.

على دَرَجاتِ البيوتِ

- الحوانيتِ -

- مَبْنى البريدِ -

- البنوكِ -

- التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين) -

- المعابدِ -

- أجْوِلةِ القَمْح -

- مستشفياتِ الولادةِ -

- بوابةِ السِّجنِ -

- دارِ الولايةِ -

أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ.

العصافيرُ تجلو..

رويداً..

رويدا..

ويطفو الإوز على الماء,

يطفو الأثاثُ..

ولُعبةُ طفل..

وشَهقةُ أمٍ حَزينه

الصَّبايا يُلوّحن فوقَ السُطوحْ!

جاءَ طوفانُ نوحْ.

هاهمُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينهْ

المغنونَ- سائس خيل الأمير- المرابونَ- قاضى القضاةِ

(.. ومملوكُهُ!) -

حاملُ السيفُ - راقصةُ المعبدِ

(ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ)

- جباةُ الضرائبِ - مستوردو شَحناتِ السّلاحِ -

عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ!

جاءَ طوفان نوحْ.

ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ.

بينما كُنتُ..

كانَ شبابُ المدينةْ

يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ

ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.

ويستبقونَ الزمنْ

يبتنونَ سُدود الحجارةِ

عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره

علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!

.. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ

السَّكينهْ:

"انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!"

قلتُ:

طوبى لمن طعِموا خُبزه..

في الزمانِ الحسنْ

وأداروا له الظَّهرَ

يوم المِحَن!

ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا

(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)

نتحدى الدَّمارَ..

ونأوي الى جبلٍِ لا يموت

(يسمونَه الشَّعب!)

نأبي الفرارَ..

ونأبي النُزوحْ!

كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ

كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ

يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينه

وردةً من عَطنْ

هادئاً..

بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ

.. وأحب الوطن!


الآخرون دائماً

لا تنظروا لي هكذا ،

إني أخاف..

لست أنا الذي سحقت الخصب في أطفالكم ،

جعلتهم خصيان

لست أن الذي نبشت القبر ،

كي أضاجع الجثمان

لست أنا الذي اختلست ليلة

لدى عشيقة الملك

فلتبحثوا عمن سيدلي باعتراف

الآخــــــــريــــــــن

( 1 )

هذا الصبي في فراشه اضطجع

وفي كتاب أحمر الغلاف

تجمدت عيناه في سطور :

***

((...وفجأة....ساد الظلام ...))

(( غالب لوبين نفسه......))

(( أشهر روجر مسدسة:

هل أطلق الرصاص بوبين ...))

(( ..ومزق الرصاص هدأة السكون ..))

(( صوت ارتطام جسم في الظلام ..))

(( صوت محرك يدور في نهاية الطريق ..))

.....وهب من فراشه يطارد الشبح

فشبح رأسه في قائم السرير..

تحسس الدماء في جبهته،

ثم انبطح

ليطلق الرصاص خلف المجرمين..

( 2 )

صديقتي .. شدت على يدي ،

وقالت: لن أجيء غرفتك

لا بد أن نبقى معا إلى الأبد..

ولم أرد

لأن ثوب العرس في معارض الأزياء

نجمة تدور في سراب

لم أزل أدق بابا بعد باب..

وخطوتي تنهيدة،

وأعيني ضباب..

حتى وصلت غرفتي في آخر المطاف

وهرتي تلد..

مواؤها عذاب أثنى ليلة المخاض

أنثى وحيدة تلد..

وأخلد الجيران للسكون

وقطهم جاف على نافذة بين

يلعق في فروته الناصعة البياض

يلعق عن فروته عذاب هرتى المتحد

.. سعت إليه ذات ليلة،

ولم تسله ثوباً للزفاف

لأن ثوب العرس في معارض الأزياء

نجمة تدور في سراب

(3)

بلقيس ألهبت سليمان الحكيم

أنثى رمت بساطها المضياف للنجوم

لكن سليمان الحكيم..

يقتل غيلة أمير الجند

لأنه يريد أن يبنى بزوجة الأمير

وزوجة الأمير تغتال ابن بلقيس الصغير

لأنها تريد أن يكون طفلها ولي العهد

لكن ولي العهد قال لي

بأنه حين يفع

بلقيس راودته ذات ليلة عن نفسها

لم يستطع

أن يمتنع

..كانت غلالة من الحرير

تهتز فوق مشجب المساء

سألته:

هل تستطيع يا صديقي الإفشاء

عن ابن بلقيس ..أبوه من يكون؟

قال: أنا ما قلت شيئا،

ما فعلت شيء

الآخرون.........................

***

لأنني أخاف

لا تنظروا لى هكذا،..فالآخرون

هم الذين يفعلون

الزيارة


يقال لم يجئ..

وقيل: لا .. بل جاء بالأمس

واستقبلته في المطار بعثة الشرف

وأطلقوا عشرين طلقة- لدى وصوله-

وطلقة..في كبد الشمس

(لذا فإن الشمس لم تشرق علينا ذلك الصباح)

*

.. وقيل.. قيل إنه بعد مجئيه انصرف!

فلم يطب له المقام.

وقيل معشوقته هى التى لم ترض بالمقام

ثارت.. لأن كلبها الأثير لم يحتمل الحر..

فعافت نفسه الطعام

(أصدرت السلطات مرسوماً بأن يكف الطقس عن حرارته!!

لذا فإن الشمس لم تشرق علينا هذا الصباح)

*

من منكم الذي رأى صورته تنشر في صدارة الصحف

يقال إن أذنه مقطوعة الصوان!

هل شظيه في الحرب؟!

هل خنجر لأمرأة غيور؟

أم.. شده سيده منها مؤنباً..

ما فاقتلعتها يده في الجذب؟!

وقيل إن أنفه ملتهب من الشراب

ويدمن النساء في نداوة الشباب

(فهومن الفرسان في هذا المجال:

قرر أن ينضم باسم شعبة للأمم المتحده..

حين رأى موظفاتها بديعات الجمال ! )

أنّى مشى..تحوطه حاشيه من النساء

يكسفن وجه الشمس أو يخسفن القمر

(لذا فإن الشمس لم تشرق علينا هذا الصباح )

***

ظللتُ أصغي للذي يشيع

حتى تهدلت على أذني أقاويل الوشاة

لكنني...حين أويت في نهاية المساء

عثرت في الراديو على محطة تغدق فوقه الثناء

تقول عنه..انه لولاه..ما تساقط المطر

ولا تبلور الندى...ولا تنفس الشجر

ولا تدفأت عاصفير الشتاء

..كان المذيع لاينأى يقول

يصفه بأنه حامي حمى الدين المنيع

وانه ينهج في حياته نهج الرسول

****

ترى ..أكان صدقا ما تتناقل الشفاه ؟!؟

أم كان صدقا مايقوله المذيع؟



الخيول

(1)

الفتوحات فى الأرض – مكتوبة بدماء الخيول

وحدودُ الممالك

رسمتها السنابك

والركابان : ميزان عدل يميل مع السيف

حيث يميل

***

اركضى أو قفى الآن .. أيتها الخيلُ :

لستِ المغيرات صبحا

ولا العاديات – كما قيل – ضبحا

ولاخضرة فى طريقك تُمحى

ولاطفل أضحى

إذا مامررت به ... يتنحَّى

وهاهى كوكبة الحرس الملكى..

تجاهد أن تبعث الروح فى جسد الذكريات

بدقِّ الطبول

اركضى كالسلاحف

نحو زوايا المتاحف..

صيرى تماثيل من حجرٍ فى الميادين

صيرى أراجيح من خشبٍ للصغار – الرياحين

صيرى فوارس حلوى بموسمك النبوى

وللصبية الفقراء حصاناً من الطينِ

صيرى رسوماً ... ووشماً

تجف الخطوط به

مثلما حفَّ – فى رئتيك – الصهيل !

(2)

كانت الخيلُ - فى البدءِ – كالناس

برِّيَّةً تتراكضُ عبر السهول

كانت الخيلُ كالناس فى البدءِ

تمتلكُ الشمس والعشب

والملكوتِ الظليل

ظهرها... لم يوطأ لكى يركب القادة الفاتحون

ولم يلنِ الجسدُ الحُرُّ تحت سياطِ المروِّض

والفمُ لم يمتثل للجام

ولم يكن ... الزاد بالكاد

لم تكن الساق مشكولة

والحوافر لم يك يثقلها السنبك المعدنى الصقيل

كانت الخيلُ برِّيَّة

تتنفس حرية

مثلما يتنفسها الناس

فى ذلك الزمن الذهبى النبيل

***

اركضى ... أو قفى

زمنٌ يتقاطعُ

واخترتِ أن تذهبى فى الطريق الذى يتراجعُ

تنحدرُ الشمس

ينحدرُ الأمس

تنحدر الطرق الجبلية للهوَّة اللانهائية

الشهب المتفحمة

الذكريات التى أشهرت شوكها كالقنافذِ

والذكريات التى سلخ الخوفُ بشرتها

كل نهر يحاول أن يلمس القاع –

كل الينابيع إن لمست جدولاً من جداولها

تختفى

وهى ... لاتكتفى

فاركضى أو قفى

كل دربٍ يقودك من مستحيل إلى مستحيل !!

(3)

الخيولُ بساط على الريح

سار – على متنه – الناسُ للناسِ عبر المكان

والخيولُ جدارٌ به انقسم

الناس صنفين :

صاروا مشاةً وركبان

والخيول التى انحدرت نحو هوة نسيانها

حملت معها جيل فرسانها

تركت خلفها : دمعة الندى الأبدى

وأشباح خيل

وأشباه فرسان

ومشاةٍ يسيرون- حتى النهاية – تحت ظلال الهوان

أركضى للقرار

واركضى أو قفى فى طريق الفرار

تتساوى محصلة الركض والرفض فى الأرض

ماذا تبقى لكِ الآن ؟ ماذا ؟

سوى عرقٍ يتصببُ من تعبٍ

يستحيل دنانير من ذهبٍ

فى جيوب هواةِ سلالاتك العربية

فى حلبات المراهنةِ الدائرية

فى نزهة المركبات السياحية المشتهاة

وفى المتعة المشتراة

وفى المرأة الأجنبية تعلوكِ فى ظلالِ أبى الهول

( هذا الذى كسرت أنفه *** لعنة الإنتظار الطويل )

إستدارت – إلى الغربِ – مزولة الوقت

صارتِ الخيلُ ناساً تسيرُ إلى هوَّةِ الصمت

بينما الناسُ خيلٌ تسيرُ إلى هوَّةِ الموت !!



الوقوف على قدم واحدة!


كادت تقول لى ((من أنت ؟))

.. .. .. ..

(.. العقرب الأسود كان يلدغ الشمس ..

وعيناه الشّهيتان تلمعان ! )

_أأنت ؟!

لكنّى رددت باب وجهى .. واستكنت

(.. عرفت أنّها ..

تنسى حزام خصرها .

فى العربات الفارهة !

***

أسقط فى أنياب اللحظات الدنسة

أتشاغل بالرشفة من كوب الصمت المكسور

بمطاردة فراش الوهم المخمور

أتلاشى فى الخيط الواهن :

ما بين شروع الخنجر .. والرقبة

ما بين القدم العاربة وبين الصحراء الملتهبة

ما بين الطلّقة .. والعصفور .. والعصفور !

***

يهتزّ قرطها الطويل ..

يراقص ارتعاش ظلّه ..

على تلفّتات العنق الجميل

وعندما تلفظ بذر الفاكهة

وتطفىء التبغة فى المنفضة العتيقة الطراز

تقول عيناها : استرح !

والشفتان .. شوكتان !!

***

(تبقّين أنت : شبحا يفصل بين الأخوين

وعندما يفور كأس الجعة المملوء ..

فى يد الكبير :

يقتلك المقتول مرتين!

أتأذنين لى بمعطفى

أخفى به ..

عورة هذا القمر الغارق فى البحيرة

عورة هذا المتسول الأمير

وهو يحاور الظلال من شجيرة إلى شجيرة

يطالع الكفّ لعصفور مكسّر الساقين

يلقط حبّة العينين

لأنه صدّق _ ذات ليلة مضت _

عطاء فمك الصغير ..

عطاء حلمك القصير ..


الملهى الصغير


لم يعد يذكرنا حتّى المكان !

كيف هنّا عنده ؟

و الأمس هان؟

قد دخلنا ..

لم تنشر مائدة نحونا !

لم يستضفنا المقعدان !!

الجليسان غريبان

فما بيننا إلاّ . ظلال الشمعدان !

أنظري ؛

قهوتنا باردة

ويدانا - حولها – ترتعشان

وجهك الغارق في أصباغه

رسما

( ما ابتسما ! )

في لوحة خانت الرسّام فيها ..

لمستان !

تسدل الأستار في المسرح

فلنضيء الأنوار

إنّ الوقت حان

أمن الحكمة أن نبقى ؟

سدة !!

قد خسرنا فرسينا في الرهان !

قد خسرنا فرسينا في الرهان

مالنا شوط مع الأحلام

ثان !!

نحن كنّا ها هنا يوما

و كان وهج النور علينا مهرجان

يوم أن كنّا صغارا

نمتطي صهوة الموج

إلى شطّ الأمان

كنت طفلا لا يعي معنى الهوى

و أحاسيسك مرخاه العنان

قطّة مغمضة العينين

في دمك البكر لهيب الفوران

عامنا السادس عشر :

رغبة في الشرايين

و أعواد لدان

ها هنا كلّ صباح نلتقي

بيننا مائدة

تندي .. حنان

قدمان تحتها تعتنقان

و يدانا فوقها تشتبكان

إن تكلّمت :

ترنّمت بما همسته الشفتان الحلوتان

و إذا ما قلت :

أصغت طلعة حلوة

وابتسمت غمّازتان !

أكتب الشعر لنجواك

( و إن كان شعرا ببغائيّ البيان )

كان جمهوري عيناك ! إذا قلته : صفّقتا تبتسمان

و لكن ينصحنا الأهل

فلا نصحهم عزّ

و لا الموعد هان

لم نكن نخشى إذا ما نلتقي

غير ألاّ نلتقي في كلّ آن

ليس ينهانى تأنيب أبي

ليس تنهاك عصا من خيزران !!

الجنون البكر ولّى

و انتهت سنة من عمرنا

أو .. سنتان

و كما يهدأ عنف النهر

إنّ قارب البحر

وقارا .. واتّزان

هدأ العاصف في أعماقنا

حين أفرغنا من الخمر الدنان

قد بلغنا قمّة القمّة

هل بعدها إلاّ ... هبوط العنفوان

افترقنا ..

( دون أن نغضب )

لا يغضب الحكمة صوت الهذيان

ما الذي جاء بنا الآن ؟

سوى لحظة الجبن من العمر الجبان

لحظة الطفل الذي في دمنا

لم يزل يحبو ..

و يبكو ..

فيعان !

لحظة فيها تناهيد الصبا

و الصبا عهد إذا عاهد : خان

أمن الحكمة أن نبقى ؟

سدى

قد خسرنا فرسينا في الرهان

***

قبلنا يا أخت في هذا المكان

كم تناجى ، و تناغى عاشقان

ذهبا

ثمّ ذهبا

و غدا ..

يتساقى الحبّ فيه آخران !

فلندعه لهما

ساقيه ..

دار فيها الماء

مادار الزمان !!



استريحي !


استريحي

ليس للدور بقيّة

انتهت كلّ فصول المسرحيّة

فامسحي زيف المساحيق

و لا ترتدي تلك المسوح المرميّة

و اكشفي البسمة عمّا تحتها

من حنين .. و اشتهاء .. و خطيّة

كنت يوما فتنة قدسّتها

كنت يوما

ظمأ القلب .. وريّه

***

لم تكوني أبدا لي

إنّما كنت للحبّ الذي من سنتين

قطف التفاحتين

ثمّ ألقى

ببقايا القشرتين

و بكى قلبك حزنا

فغدا دمعة حمراء

بين الرئتين

و أنا ؛ قلبي منديل هوى

جففت عيناك فيه دمعتين

و محت فيه طلاء الشّفتين

و لوته ..

في ارتعاشات اليدين

كان ماضيك جدار فاصلا بيننا

كان ضلالا شبحيّه

فاستريحي

ليس للدور بقيّة

أينما نحن جلسنا

ارتسمت صورة الآخر في الركن القصيّ

كنت تخشين من اللّمسة

أن تمحي لمسته في راحتي

و أحاديثك في الهمس معي

إنّما كانت إليه ..

لا إليّ

فاستريحي

لم يبق سوى حيرة السير على المفترق

كيف أقصيك عن النار

و في صدرك الرغبة أن تحترقي ؟

كيف أدنيك من النهر

و في قلبك الخوف و ذكرى الغارق ؟

أنا أحببتك حقّا

إنّما لست أدري

أنا .. أم أنت الضحيّة ؟

فاستريحي ، ليس للدور بقيّة


فى انتظار السيف


وردة فى عروة السّرة:

ماذا تلدين الآن ؟

طفلا .. أم جريمة ؟

أم تنوحين على بوّابة القدس القديمة؟

عادت الخيل من المشرق،

عاد (الحسن الأعصم ) والموت المغير

بالرداء الأرجوانىّ ، وبالوجه اللصوصى ،

وبالسيف الأجير

فانظرى تمثاله الواقف فى الميدان ..

(يهتّز مع الريح .!)

انظرى من فرجة الشبّاك :

أيدى صبية مقطوعة ..

مرفوعة .. فوق السّنان

(..مردفا زوجته الحبلى على ظهر الحصان)

أنظرى خيط الدم القانى على الأرض

((هنا مرّ .. هنا ))

فانفقأت تحت خطى الجند ...

عيون الماء ،

واستلقت على التربة .. قامات السنابل .

ثم..ها نحن جياع الأرض نصطف ..

لكى يلقى لنا عهد الأمان .

ينقش السكة باسم الملك الغالب ،

يلقى خطبة الجمعة باسم الملك الغالب ،

يرقى منبر المسجد ..

بالسيف الذى يبقر أحشاء الحوامل .

***

تلدين الآن من يحبو..

فلا تسنده الأيدى ،

ومن يمشى .. فلا يرفع عينيه الى الناس ،

ومن يخطفه النخّاس :

قد يصبح مملوكا يلوطون به فى القصر،

يلقون به فى ساحة الحرب ..

لقاء النصر ،

هذا قدر المهزوم :

لا أرض .. ولا مال .

ولا بيت يردّ الباب فيه ..

دون أن يطرقه جاب ..

وجندى رأى زوجته الحسناء فى البيت المقابل)

أنظرى أمّتك الأولى العظيمة

أصبحت : شرذمة من جثث القتلى ،

وشحّادين يستجدون عطف السيف

والمال الذى ينثره الغازى ..

فيهوي ما تبقى من رجال ..

وأرومة .

أنظرى ..

لا تفزعى من جرعة الخزى،

أنظرى ..

حتى تقيئي ما بأحشائك ..

من دفء الأمومة .

***

تقفز الأسواق يومين ..

وتعتاد على ((النقد)) الجديد

تشتكى الأضلاع يومين ..

وتعتاد على السوط الجديد

يسكت المذياع يومين

ويعتاد على الصوت الجديد

وأنا منتظر .. جنب فراشك

جالس أرقب فى حمّى ارتعاشك_

صرخة الطفل الذى يفتح عينيه ..

على مرأى الجنود!


شبيهتهـا !!


انتظري !

ما اسمك ؟

يا ذات العيون الخضر و الشعر الثري

أشبهت في تصوّري

( بوجهك المدوّر )

حبيبة أذكرها .. أكثر من تذكّري

يا صورة لها على المرآة ، لم تكسر

حبيبتي – مثلك –

لم تشبه جميع البشر

عيونها حدائق حافلة بالصور

أبصرتها اليوم بعينيك

اللّتين في عمري ..

طفولة .. منذ اتّزان الخطو لم تنحسر

***

يا ظلّ صيف أخضر

تصوّري

كم أشهر و أشهر

مرّت و لسنا نلتقي

مرّت .. و لم نخضوضر

الماس في مناجمي

مشوّه التبلور

و الذكريات في دمى

عاصفة التحرّر

كرقصة ناريّة من فتيات الغجر

................................

لكنّني حين رأيت الآن صورة لها

في مهجري

أيقنت أنّ ماسنا ما زال

حيّ الجوهر

و أنّنا سنلتقي

رغم رياح القدر

و أنّني في فمك المستضحك المستبشر

أغنية للقمر

أغنية ترقص فيها القرويّات

في ليالي السّمر

***

يا ظلّ صيف أخضر

تصوّري

كم أشهر و أشهر

مغتربا عن العيون الخضر و الشعر الثريّ

قالت


قالت : تعال إليّ

واصعد ذلك الدرج الصغير

قلت : القيود تشدّني

و الخطو مضنى لا يسير

مهما بلغت فلست أبلغ ما بلغت

وقد أخور

درج صغير

غير أنّ طريقه .. بلا مصير

فدعي مكاني للأسى

وامضي إلى غدك الأمير

فالعمر أقصر من طموحي

و الأسى قتل الغدا

***

قالت : سأنزل

قلت : يا معبودتي لا تنزلي لي

قالت : سأنزل

قلت : خطوك منته في المستحيل

ما نحن ملتقيان

رغم توحّد الأمل النبيل

... ...

نزلت تدقّ على السكون

رنين ناقوس ثقيل

و عيوننا متشابكات في أسى الماضي الطويل

تخطو إليّ

و خطوها ما ضلّ يوما عن سبيل

و بكى العناق

و لم أجد إلاّ الصدى

إلاّ الصدى



بكائية ليلية


للوهلة الأولى

قرأت في عينيه يومه الذي يموت فيه

رأيته في صحراء " النقب " مقتولا ..

منكفئا .. يغرز فيها شفتيه ،

و هي لا تردّ قبلة ..لفيه !

كنا نتوه في القاهرة العجوز ، ننسى الزمنا

نفلت من ضجيج سياراتها ، و أغنيات المتسوّلين

تظلّنا محطّة المترو مع المساء .. متعبين

و كان يبكي وطنا .. و كنت أبكي وطنا

نبكي إلى أن تنضبّ الأشعار

نسألها : أين خطوط النار ؟

و هل ترى الرصاصة الأولى هناك .. أم هنا ؟

و الآن .. ها أنا

أظلّ طول اللّيل لا يذوق جفني وسنا

أنظر في ساعتي الملقاة في جواري

حتّى تجيء . عابرا من نقط التفتيش و الحصار

تتّسع الدائرة الحمراء في قميصك الأبيض ، تبكي شجنا

من بعد أن تكسّرت في " النقب " رايتك !

تسألني : " أين رصاصتك ؟ "

" أين رصاصتك "

ثمّ تغيب : طائرا .. جريحا

تضرب أفقك الفسيحا

تسقط في ظلال الضّفّة الأخرى ، و ترجو كفنا !

و حين يأتي الصبح – في المذياع – بالبشائر

أزيح عن نافذتي السّتائر

فلا أراك .. !

أسقط في عاري . بلا حراك

أسأل إن كانت هنا الرصاصة الأولى ؟

أم أنّها هناك ؟؟


الموت في لوحات (2)

شقيقتي " رجاء " ماتت و هي دون الثالثة .

ماتت و ما يزال في دولاب أمّي السّري

صندلها الفضّيّ!

صديرها المشغول ، قرطها ، غطاء رأسها الصّوفيّ

أرنبها القطنيّ !

و عندما أدخل بهو بيتنا الصامت

فلا أراها تمسك الحائط .. علّها تقف !

أنسى بأنّها ماتت ..

أقول . ربّما نامت ..

أبحث عنها في الغرف .

و عندما تسألني أمّي بصوتها الخافت

أرى الأسى في وجهها الممتقع الباهت

و أستبين الكارثة !

الموت في لوحات (3)

عرفتها في عامها الخامس و العشرين

و الزمن العنّين ..

ينشب في أحشائها أظفاره الملويّة

صلّت إلى العذراء ، طوفّت بكلّ صيدليّة

تقلّبت بين الرجال الخشنين !

.. و ما تزال تشتري اللّفائف القطنيّة !

.. ما تزال تشتري اللّفائف القطنيّة !

... ... ... .. .. ...

و حين ضاجعت أباها ليلة الرعد

تفجّرت بالخصب و الوعد

و اختلجت في طينها بشارة التكوين !

لكنّها نادت أباها في الصباح ..

فظلّ صامتا !

هزّته .. كان ميّتا !!

الموت في لوحات (4)


من شرفتي كنت أراها في صباح العطلة الهاديء

تنشر في شرفتها على خيوط النور و الغناء

ثياب طفليها ، ثياب زوجها الرسميّة الصفراء

قمصانه المغسولة البيضاء

تنشر حولها نقاء قلبها الهانيء

و هي تروح و تجيء

... ... ... ... ... ... ...

و الآن بعد أشهر الصيف الرديء

رأيتها .. ذابلة العينين و الأعضاء

تنشر في شرفتها على حبال الصّمت و البكاء

ثيابها السوداء !


الموت في لوحات (5)

حبيبتي في لحظة الظلام ؛ لحظة التوهّج العذبة

تصبح بين ساعديّ جثّة رطبه !

ينكسر الشوق بداخلي ، و تخفت الرغبة

أموء فوق خدّها

أضرع فوق نهدها

أودّ لو أنفذ في مسامّ جلدها

لكن .. يظلّ بيننا الزجاج .. و الغياب .. و الغربة !

.. ... ... ... ... .... .. ...

وذات ليلة ، تكسّرت ما بيننا حواجز الرّهبة

فاحتضنتني .. بينما نحن نغوص في قرار التربة

تبعثرت في رأسها شرائح الصورة و النجوم

و اختلطت في قلبها الأزمنة الهشيم

لكنّها و هي تناجى

سمعتها تناديني

باسم حبيبها الذي قد حطّم اللّعبة

مخلّفا في قلبها .. ندبة !!


مزامير (1)



أعشق أسكندريّة ،

واسكنريّة تعشق رائحة البحر ،

و البحر يعشق فاتنة في الضفاف البعيدة !

***

كلّ أمسية ؛ تتسلّل من جانبي

تتجرّد من كلّ أثوابها

و تحلّ غدائرها

ثمّ تخرج عارية في الشوارع تحت المطر !

فإذا اقتربت من سرير التنهّد و الزرقة

انطرحت في ملاءاته الرغويّة ؛

و انفتحت .. تنتظر !

و تظلّ إلى الفجر ..

ممدودة – كالنداء

و مشدودة – كالوتر

... ... ...

و تظلّ .. وحيدة !!


مزامير (2)

قلت لها في اللّيلة الماطرة

البحر عنكبوت

و أنت – في شراكه – فراشة تموت

و انتفضت كالقطّة النافره

و انتصبت في خفقان الريح و الأمواج

( ثديان من زجاج

و جسد من عاج )

و انفلتت مبحرة في رحلة المجهول ، فوق الزّبد المهتاج

ناديت .. ما ردّت !

صرخت .. ما ارتدّت !

و ظلّ صوتي يتلاشى .. في تلاشيها ..

وراء الموجة الكاسرة )

... .... ....

( خاسرة ، خاسرة

إن تنظري في الغريمة الساحرة

أو ترفعي عينيك نحو الماسة التي تزيّن التاج ! )


مزامير (3)

لفظ البحر أعضاءها في صباح أليم

فرأيت الكلوم

ورأيت أظافرها الدمويّة

تتلوّى على خصلة " ذهبيّة "

فحشوت جراحاتها بالرمال ،

و أدفأتها بنبيذ الكروم .

... ... ... ....

و تعيش معي الآن !

ما بيننا حائط من وجوم

بيننا نسمات " الغريم "

كلّ أمسية ..

تتسلّل في ساعة المد ، في الساعة القمريّة

تستريح على صخرة الأبديّة

تتسمّع سخرية الموج من تحت أقدامها

و صفير البواخر .. راحلة في السواد الفحميم

تتصاعد من شفتيها المملّحتين رياح السموم

تتساقط أدمعها في سهوم

و النجوم

( الغريقة في القاع )

تصعد ... واحدة .. بعد أخرى ..

فتلقطها

و تعدّ النجوم

في انتظار الحبيب القديم !


كلمات سبارتكوس الأخيرة



( مزج أوّل ) :

المجد للشيطان .. معبود الرياح
من قال لا " في وجه من قالوا " نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال " لا " .. فلم يمت ,
وظلّ روحا أبديّة الألم !
( مزج ثان ) :
معلّق أنا على مشانق الصباح
و جبهتي – بالموت – محنيّة
لأنّني لم أحنها .. حيّه !
... ...

يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الاسكندر الأكبر :
لا تخجلوا ..و لترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلقون جانبي .. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إليّ
لربّما .. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ
يبتسم الفناء داخلي .. لأنّكم رفعتم رأسكم .. مرّه !
" سيزيف " لم تعد على أكتافه الصّخره
يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق
و البحر .. كالصحراء .. لا يروى العطش
لأنّ من يقول " لا " لا يرتوي إلاّ من الدموع !
.. فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق
فسوف تنتهون مثله .. غدا
و قبّلوا زوجاتكم .. هنا .. على قارعة الطريق
فسوف تنتهون ها هنا .. غدا
فالانحناء مرّ ..
و العنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى
فقبّلوا زوجاتكم .. إنّي تركت زوجتي بلا وداع
و إن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلا ذراع
فعلّموه الانحناء !
علّموه الانحناء !
الله . لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال لا !
و الودعاء الطيّبون ..
هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى
لأنّهم .. لا يشنقون !
فعلّموه الانحناء ..
و ليس ثمّ من مفر
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد !
وخلف كلّ ثائر يموت : أحزان بلا جدوى ..
و دمعة سدى !
( مزج ثالث ) :
يا قيصر العظيم : قد أخطأت .. إنّي أعترف
دعني- على مشنقتي – ألثم يدك
ها أنذا أقبّل الحبل الذي في عنقي يلتف
فهو يداك ، و هو مجدك الذي يجبرنا أن نعبدك
دعني أكفّر عن خطيئتي
أمنحك – بعد ميتتي – جمجمتي
تصوغ منها لك كأسا لشرابك القويّ

.. فان فعلت ما أريد :
إن يسألوك مرّة عن دمي الشهيد
و هل ترى منحتني " الوجود " كي تسلبني " الوجود "
فقل لهم : قد مات .. غير حاقد عليّ
و هذه الكأس – التي كانت عظامها جمجمته –
وثيقة الغفران لي
يا قاتلي : إنّي صفحت عنك ..
في اللّحظة التي استرحت بعدها منّي :
استرحت منك !
لكنّني .. أوصيك إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشّجر !
لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانقا
لا تقطع الجذوع
فربّما يأتي الربيع
" و العام عام جوع "
فلن تشم في الفروع .. نكهة الثمر !
وربّما يمرّ في بلادنا الصيف الخطر
فلتقطع الصحراء . باحثا عن الظلال
فلا ترى سوى الهجير و الرمال و الهجير و الرمال
و الظمأ الناريّ في الضلوع !
يا سيّد الشواهد البيضاء في الدجى ..
يا قيصر الصقيع !
( مزج رابع ) :
يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء
منحدرين في نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد ..
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد .
و إن رأيتم في الطريق " هانيبال "
فأخبروه أنّني انتظرته مديّ على أبواب " روما " المجهدة
و انتظرت شيوخ روما – تحت قوس النصر – قاهر الأبطال
و نسوة الرومان بين الزينة المعربدة
ظللن ينتظرن مقدّم الجنود ..
ذوي الرؤوس الأطلسيّة المجعّدة
لكن " هانيبال " ما جاءت جنوده المجنّدة
فأخبروه أنّني انتظرته ..انتظرته ..
لكنّه لم يأت !
و أنّني انتظرته ..حتّى انتهيت في حبال الموت
و في المدى : " قرطاجه " بالنار تحترق
" قرطاجه " كانت ضمير الشمس : قد تعلّمت معنى الركوع
و العنكبوت فوق أعناق الرجال
و الكلمات تختنق
يا اخوتي : قرطاجة العذراء تحترق
فقبّلوا زوجاتكم ،
إنّي تركت زوجتي بلا وداع
و إن رأيتم طفلى الذي تركته على ذراعها .. بلا ذراع
فعلّموه الانحناء ..
علّموه الانحناء ..
علّموه الانحناء

قصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة

أيتها العرافة المقدَّسةْ ..
جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة !
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !!
أسأل يا زرقاء ..
عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدارْ !
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسي ؟ ! دون أن أنهار ؟ !
ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة ؟ !
تكلَّمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. باللهِ .. باللعنةِ .. بالشيطانْ
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان ..
تلعقَ من دمي حساءَها .. ولا أردُّها !
تكلمي ... لشدَّ ما أنا مُهان
لا اللَّيل يُخفي عورتي .. ولا الجدران !
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..
ولا احتمائي في سحائب الدخان !
.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين .. عذبةُ المشاكسة
( - كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادْق
فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادقْ
وحين مات عَطَشاً في الصحراء المشمسة ..
رطَّب باسمك الشفاه اليابسة ..
وارتخت العينان !)
فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان ؟
والضحكةُ الطروب : ضحكته..
والوجهُ .. والغمازتانْ ! ؟
* * *
أيتها النبية المقدسة ..
لا تسكتي .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ "اخرسْ .."
فخرستُ .. وعميت .. وائتممتُ بالخصيان !
ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها ..
أردُّ نوقها ..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ
دُعيت للميدان !
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن ..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،
أدعى إلى الموت .. ولم أدع إلى المجالسة !!
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. تكلمي ..
فها أنا على التراب سائلً دمي
وهو ظمئً .. يطلب المزيدا .
أسائل الصمتَ الذي يخنقني :
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "
أجندلاً يحملن أم حديدا .. ؟!"
فمن تُرى يصدُقْني ؟
أسائل الركَّع والسجودا
أسائل القيودا :
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "
أيتها العَّرافة المقدسة ..
ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار !
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار ..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار !
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا ..
والتمسوا النجاةَ والفرار !
ونحن جرحى القلبِ ،
جرحى الروحِ والفم .
لم يبق إلا الموتُ ..
والحطامُ ..
والدمارْ ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،
وفي ثياب العارْ
مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة !
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ ... عمياءْ !
وما تزال أغنياتُ الحبِّ .. والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ .. والأزياءْ !
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء .. الأبله.. المموَّها.
في أعين الرجال والنساءْ !؟
وأنت يا زرقاء ..
وحيدة .. عمياء !
وحيدة .. عمياء !

الورقة الأخيرة

الجنوبي

صورة


هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي
هذه الصورة العائلية
كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس
أتذكر
سال دمي
أتذكر
مات أبي نازفاً
أتذكر
هذا الطريق إلى قبره
أتذكر
أختي الصغيرة ذات الربيعين
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها
المنطمس

أو كان الصبي الصغير أنا ؟
أن ترى كان غيري ؟
أحدق
لكن تلك الملامح ذات العذوبة
لا تنتمي الآن لي
و العيون التي تترقرق بالطيبة
الآن لا تنتمي لي
صرتُ عني غريباً
ولم يتبق من السنوات الغربية
الا صدى اسمي
وأسماء من أتذكرهم -فجأة-
بين أعمدة النعي
أولئك الغامضون : رفاق صباي
يقبلون من الصمت وجها فوجها فيجتمع الشمل كل صباح
لكي نأتنس.

وجه

كان يسكن قلبي
وأسكن غرفته
نتقاسم نصف السرير
ونصف الرغيف
ونصف اللفافة
والكتب المستعارة
هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء
ولكنه يعد يومين مزق صورتها
واندهش.
خاض حربين بين جنود المظلات
لم ينخدش
واستراح من الحرب
عاد ليسكن بيتاً جديداً
ويكسب قوتاً جديدا
يدخن علبة تبغ بكاملها
ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي
لكنه لا يطيل الزيارة
عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب
وفي غرفة العمليات
لم يصطحب أحداً غير خف
وأنبوبة لقياس الحرارة.

فجأة مات !
لم يحتمل قلبه سريان المخدر
وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات
عاد كما كان طفلاً
سيشاركني في سريري
وفي كسرة الخبز، والتبغ
لكنه لا يشاركني .. في المرارة.

وجه

ومن أقاصي الجنوب أتى،
عاملاً للبناء
كان يصعد "سقالة" ويغني لهذا الفضاء
كنت أجلس خارج مقهى قريب
وبالأعين الشاردة
كنت أقرأ نصف الصحيفة
والنص أخفي به وسخ المائدة
لم أجد غير عينين لا تبصران
وخيط الدماء.

وانحنيت عليه أجس يده
قال آخر : لا فائدة
صار نصف الصحيفة كل الغطاء
و أنا ... في العراء

وجه

ليس أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصباً، بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد.

ليت "أسماء"
تعرف أن أباها الذي
حفظ الحب والأصدقاء تصاويره
وهو يضحك
وهو يفكر
وهو يفتش عما يقيم الأود .
ليت "أسماء" تعرف أن البنات الجميلات
خبأنه بين أوراقهن
وعلمنه أن يسير
ولا يلتقي بأحد .

مرآة

-هل تريد قليلاً من البحر ؟
-إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي
البحر و المرأة الكاذبة.-سوف آتيك بالرمل منه
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً
فلم أستبنه.

-هل تريد قليلاً من الخمر؟
-إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين :
قنينة الخمر و الآلة الحاسبة.

-سوف آتيك بالثلج منه
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً
فلم أستبنه
بعدما لم أجد صاحبي
لم يعد واحد منهما لي بشيئ

-هل نريد قليلاً من الصبر ؟
-لا ..
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة و الأوجه الغائبة.


زهور


وسلالٌ منَ الورِد,

ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه

وعلى كلِّ باقةٍ

اسمُ حامِلِها في بِطاقه

***

تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ

أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ - دهشةً -

لحظةَ القَطْف,

لحظةَ القَصْف,

لحظة إعدامها في الخميلهْ!

تَتَحدثُ لي..

أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين

ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ, أو بينَ أيدي المُنادين,

حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ

تَتَحدثُ لي..

كيف جاءتْ إليّ..

(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)

كي تَتَمني ليَ العُمرَ!

وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!!

***

كلُّ باقهْ..

بينَ إغماءة وإفاقهْ

تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ

وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ...

اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!

الطيور


(1)

الطيورُ مُشردةٌ في السَّموات,

ليسَ لها أن تحطَّ على الأرضِ,

ليسَ لها غيرَ أن تتقاذفَها فلواتُ الرّياح!

ربما تتنزلُ..

كي تَستريحَ دقائقَ..

فوق النخيلِ - النجيلِ - التماثيلِ -

أعمِدةِ الكهرباء -

حوافِ الشبابيكِ والمشربيَّاتِ

والأَسْطحِ الخرَسانية.

(اهدأ, ليلتقطَ القلبُ تنهيدةً,

والفمُ العذبُ تغريدةً

والقطِ الرزق..)

سُرعانَ ما تتفزّعُ..

من نقلةِ الرِّجْل,

من نبلةِ الطّفلِ,

من ميلةِ الظلُّ عبرَ الحوائط,

من حَصوات الصَّياح!)

***

الطيورُ معلّقةٌ في السموات

ما بين أنسجةِ العَنكبوتِ الفَضائيِّ: للريح

مرشوقةٌ في امتدادِ السِّهام المُضيئةِ

للشمس,

(رفرفْ..

فليسَ أمامَك -

والبشرُ المستبيحونَ والمستباحونَ: صاحون -

ليس أمامك غيرُ الفرارْ..

الفرارُ الذي يتجدّد. كُلَّ صباح!)

(2)

والطيورُ التي أقعدتْها مخالَطةُ الناس,

مرتْ طمأنينةُ العَيشِ فَوقَ مناسِرِها..

فانتخَتْ,

وبأعينِها.. فارتخَتْ,

وارتضتْ أن تُقأقَىَء حولَ الطَّعامِ المتاحْ

ما الذي يَتَبقى لهَا.. غيرُ سَكينةِ الذَّبح,

غيرُ انتظارِ النهايه.

إن اليدَ الآدميةَ.. واهبةَ القمح

تعرفُ كيفَ تَسنُّ السِّلاح!

(3)

الطيورُ.. الطيورْ

تحتوي الأرضُ جُثمانَها.. في السُّقوطِ الأخيرْ!

والطُّيُورُ التي لا تَطيرْ..

طوتِ الريشَ, واستَسلَمتْ

هل تُرى علِمتْ

أن عُمرَ الجنَاحِ قصيرٌ.. قصيرْ?!

الجناحُ حَياة

والجناحُ رَدى.

والجناحُ نجاة.

والجناحُ.. سُدى!

شجوية


لماذا يُتابِعُني أينما سِرتُ صوتُ الكَمانْ?

أسافرُ في القَاطراتِ العتيقه,

(كي أتحدَّث للغُرباء المُسِنِّينَ)

أرفعُ صوتي ليطغي على ضجَّةِ العَجلاتِ

وأغفو على نَبَضاتِ القِطارِ الحديديَّةِ القلبِ

(تهدُرُ مثل الطَّواحين)

لكنَّها بغتةً..

تَتباعدُ شيئاً فشيئا..

ويصحو نِداءُ الكَمان!

***

أسيرُ مع الناسِ, في المَهرجانات:

أُُصغى لبوقِ الجُنودِ النُّحاسيّ..

يملأُُ حَلقي غُبارُ النَّشيدِ الحماسيّ..

لكنّني فَجأةً.. لا أرى!

تَتَلاشى الصُفوفُ أمامي!

وينسرِبُ الصَّوتُ مُبْتعِدا..

ورويداً..

رويداً يعودُ الى القلبِ صوتُ الكَمانْ!

***

لماذا إذا ما تهيَّأت للنوم.. يأتي الكَمان?..

فأصغي له.. آتياً من مَكانٍ بعيد..

فتصمتُ: هَمْهمةُ الريحُ خلفَ الشَّبابيكِ,

نبضُ الوِسادةِ في أُذنُي,

تَتراجعُ دقاتُ قَلْبي,..

وأرحلُ.. في مُدنٍ لم أزُرها!

شوارعُها: فِضّةٌ!

وبناياتُها: من خُيوطِ الأَشعَّةِ..

ألْقى التي واعَدَتْني على ضَفَّةِ النهرِ.. واقفةً!

وعلى كَتفيها يحطُّ اليمامُ الغريبُ

ومن راحتيها يغطُّ الحنانْ!

أُحبُّكِ,

صارَ الكمانُ.. كعوبَ بنادقْ!

وصارَ يمامُ الحدائقْ.

قنابلَ تَسقطُ في كلِّ آنْ

وغَابَ الكَمانْ!



مقتل القمر


وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس

في كل مدينة ،

(( قُتِل القمـــر ))!

شهدوه مصلوباً تَتَدَلَّى رأسه فوق الشجر !

نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره!

تركوه في الأعواد ،

كالأسطورة السوداء في عيني ضرير

ويقول جاري :

-(( كان قديساً ، لماذا يقتلونه ؟))

وتقول جارتنا الصبية :

- (( كان يعجبه غنائي في المساء

وكان يهديني قوارير العطور

فبأي ذنب يقتلونه ؟

هل شاهدوه عند نافذتي _قبيل الفجر _ يصغي للغناء!؟!؟))

..... ........ .......

وتدلت الدمعات من كل العيون

كأنها الأيتام – أطفال القمر

وترحموا...

وتفرقوا.....

فكما يموت الناس.....مات !

وجلست ،

أسأله عن الأيدي التي غدرت به

لكنه لم يستمع لي ،

..... كان مات !

****

دثرته بعباءته

وسحبت جفنيه على عينيه...

حتى لايرى من فارقوه!

وخرجت من باب المدينة

للريف:

يا أبناء قريتنا أبوكم مات

قد قتلته أبناء المدينة

ذرفوا عليه دموع أخوة يوسف

وتفرَّقوا

تركوه فوق شوارع الإسفلت والدم والضغينة

يا أخوتي : هذا أبوكم مات !

- ماذا ؟ لا.......أبونا لا يموت

- بالأمس طول الليل كان هنا

- يقص لنا حكايته الحزينة !

- يا أخوتي بيديّ هاتين احتضنته

أسبلت جفنيه على عينيه حتى تدفنوه !

قالوا : كفاك ، اصمت

فإنك لست تدري ما تقول !

قلت : الحقيقة ما أقول

قالوا : انتظر

لم تبق إلا بضع ساعات...

ويأتي!

***

حط المساء

وأطل من فوقي القمر

متألق البسمات ، ماسيّ النظر

- يا إخوتي هذا أبوكم ما يزال هنا

فمن هو ذلك المُلْقىَ على أرض المدينة ؟

قالوا: غريب

ظنه الناس القمر

قتلوه ، ثم بكوا عليه

ورددوا (( قُتِل القمر ))

لكن أبونا لا يموت

أبداً أبونا لايموت !



من أوراق "أبو نوّاس"


" ملك أم كتابة ؟ "

صاح بي صاحبي , و هو يلقى بدرهمه في الهواء

ثمّ يلقفه ..

( خارجين من الدرس كنّا .. و حبر الطفولة فوق الرداء

و العصافير تمرق عبر البيوت ،

و تهبط فوق النخيل البعيد ! )

... ... ... ...

" ملك أم كتابة ؟ "

صاح بي .. فانتبهت ، ورفت ذبابة

حول عينين لامعتين ..

فقلت : " الكتابة "

.. فتح اليد مبتسما ؛ كان وجه المليك السعيد

باسما في مهابة !

***

" ملك أم كتابة ؟ "

صحت فيه بدوري ..

فرفرف في مقلتيه الصبا والنجابة

و أجاب : " الملك "

دون أن يتلعثم .. أو يرتبك

و فتحت يدي ..

كان نقش الكتابة

بارزا في صلابة !

... ... ...

دارت الأرض دوراتها ..

حملتنا الشواديف من هدأ النهر

ألقت بنا في جداول أرض الغرابة

نتفرّق بين حقول الأسى .. و حقول الصبابة .

قطرتين , التقينا على سلّم القصر ..

ذات مساء وحيد

كنت فيه : نديم الرشيد

بينما صاحبي .. يتولّى الحجابة !!

نائما كنت جانبه ؛ وسمعت الحرس

يوقظون أبي !

خارجيّ

أنا .. !

مارق

من ؟ أنا !

صرخ الطفل في صدر أمّي

( و أمّي محلولة الشعر واقفة في ملابسها المنزليّة )

إخرسوا

واختبأنا وراء الجدار

اخسروا

تسلّل في الحلق خيط من الدم

كان أبي يمسك الجرح ،

يمسك قامته .. و مهابته العائليّة !

يا أبي

اخرسوا

و تواريت في ثوب أمّي ، و الطفل في صدرها مانبس

ومضوا بأبي تاركين لنا اليتم متشحا بالخرس

... ... ... ...

كلّ ما كنت أكتب في هذه الصفحة الورقيّة

صادرته العسس

... ... ... ...



... و أمّي خادمة فارسيّة

يتبادل سادتها النظرات لاردافها ..

عندما تنحني لتضيء اللّهب

يتندّر سادتها الطيّبون بلهجتها الأعجميّة 1

***

نائما كنت جانبها ، ورأيت ملاك القدس

ينحني ، و يربّت وجنتها

و تراخى الذراعان عنّي قليلا

و سارت بقلبي قشعريرة الصمت

- أمّي ؛ و عاد لي الصوت

و أمّي ؛ و جاوبني الموت

أمّي ؛ و عانقتها .. و بكيت

و غام بي الدمع حتّى احتبس !

***
... ... ...
لا تسألني إن كان القرآن

مخلوقا أو أزليّ

بل سلني إن كان السلطان

لصّا .. أو نصف نبيّ
... ... ...

كنت في كربلاء

قال لي الشيخ أن الحسين

مات من أجل جرعة ماء
... ... ...

و تساءلت كيف السيوف استباحت بني الأكرمين

فأجاب الذي بصّرته السماء

إنّه الذهب المتلأليء في كلّ عين

... ... ...

إن تكن كلمات الحسين

و سيوف الحسين

و جلال الحسين



سقطت دون أن تنقذ الحقّ من ذهب الأمراء

أفتقدر أن تنقذ الحقّ ثرثرة الشعراء

و الفرات لسان من الدم لا يجد الشفتين ؟ !

***

مات من أجل جرعة ماء

فاسقني يا غلام صباح مساء

اسقني يا غلام ..

علّني بالمدام ..

أتناسى الدماء



العشاء ..!


قصدتهم في موعد العشاء

تطالعوا لي برهة ،

ولم يرد واحد منهم تحية المساء !

......وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة

في طبق الحساء

........ ....... .........

نظرت في الوعـــاء :

هتفت : (( ويحكم ....دمي

هذا دمي .....فانتبهوا ))

........لم يــأبهوا !

وظلّت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة

وظلت الشفاة تلعق الدماء !


بكائية ليلية


للوهلة الأولى

قرأت في عينيه يومه الذي يموت فيه

رأيته في صحراء " النقب " مقتولا ..

منكفئا .. يغرز فيها شفتيه ،

و هي لا تردّ قبلة ..لفيه !

كنا نتوه في القاهرة العجوز ، ننسى الزمنا

نفلت من ضجيج سياراتها ، و أغنيات المتسوّلين

تظلّنا محطّة المترو مع المساء .. متعبين

و كان يبكي وطنا .. و كنت أبكي وطنا

نبكي إلى أن تنضبّ الأشعار

نسألها : أين خطوط النار ؟

و هل ترى الرصاصة الأولى هناك .. أم هنا ؟

و الآن .. ها أنا

أظلّ طول اللّيل لا يذوق جفني وسنا

أنظر في ساعتي الملقاة في جواري

حتّى تجيء . عابرا من نقط التفتيش و الحصار

تتّسع الدائرة الحمراء في قميصك الأبيض ، تبكي شجنا

من بعد أن تكسّرت في " النقب " رايتك !

تسألني : " أين رصاصتك ؟ "

" أين رصاصتك "

ثمّ تغيب : طائرا .. جريحا

تضرب أفقك الفسيحا

تسقط في ظلال الضّفّة الأخرى ، و ترجو كفنا !

و حين يأتي الصبح – في المذياع – بالبشائر

أزيح عن نافذتي السّتائر

فلا أراك .. !

أسقط في عاري . بلا حراك

أسأل إن كانت هنا الرصاصة الأولى ؟

أم أنّها هناك ؟؟



الفارس


لا تنتظري أن يبتسم العابس

فالفارس ليس الفارس

مدي بإنائكِ

عبر السلك الشائكِ

مدي طرف ردائكِ

حتى يصنع منه للقلب ضمادا

ويسد شقوق البرد القارس

تتوالى كل فصول العام على القلب الباكي

لم يستر روحه عبر الأشواك سوى رؤياكِ

فعيناكِ الفردوسان: هما الفصل الخامس

عيناكِ هما

آخرنهر ٍ يسقيه

آخر بيت يأويه

آخر زاد في التيه

آخر عراف يستفتيه

فأريحيه

أريحيه على الحجر البارد

ليرتاح قليلا

فلقد سار طويلا

وقفي كملاك الحب الحارس

حتى لا يفجئه الموت

قفي كملاك الحب الحارس






أمل دنقل في مكتبتنا عمون:

1.مقتل القمر

تحميـــــــــــل

2.الأعمال الشعرية الكاملة

تحميـــــــــــل

3.مختارات

تحميـــــــــــل






صوتيات لأمل دنقل


لاتصـــــــــــالح






البكاء بين يدي زرقاء اليمامة


سفر التكوين



الكمان بصوته الحياني


الموت في لوحات




مزامير





في انتظار السيف



لا وقت للبكاء




حبيبتي



حديث الغرفه رقم 8







جديد لم ينشر




فيديو نادر لاخر ايام امير شعراء الرفض .. امل دنقل











إعداد:

سلطان الزيادنة

عبير محمد

زياد السعودي







 
/
موضوع مغلق

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:58 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط