العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▆ أنا الفينيقُ أولدُ من رَمَادِ.. وفي الْمَلَكُوتِ غِريدٌ وَشَادِ .."عبدالرشيد غربال" ▆ > ⊱ مَطْويّات⊰

⊱ مَطْويّات⊰ للنصوص اللاتفاعلية ..

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 09-01-2019, 12:28 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
محمد عبد الغفار صيام
عضو أكاديميّة الفينيق
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


محمد عبد الغفار صيام غير متواجد حالياً


افتراضي "ابن خطيئة"

"ابن خطيئة"

هضيمةُ حقٍ تلك القرية قريتنا!
مذ ذاك العهد البائد وهي ترزح كرهاً، لا طوعاً تحت حصارٍ حلقيٍّ مستحكم؛ حيث يطوقها ذاك الرَّشَّاحُ الآسن، ذو الماء العطن الأسود، والرائحة الزنخة المخزونة، ناهيك عما يركز في قاعه، أو ما يلفظ فوق السطح من رمم نافقة منتفخة، أو ما يرتع فوق ضفافه من غابات البوص الشامخ والمتهدل؛ فأضحت حلفاه البرية مرعىً ثراً لعوالم منها الزاحف واللادغ، العاقر والطائر...
وكأنَّ الأقدار قد أهدت لابن الرَّشَّاح حينما حصرت تلك القرية المسكينة ـــ إلا من ثغْرٍ متهالك على هيئة نخلاتٍ أربع ـــ مقبرةً شَبِقةً نهمةً، تبلع من أهل القرية من يلمح فيه بصيصاً من ضجرٍ مخنوقٍ، أو وشاية عين تمنِّى النفس بفعلٍ ثوريٍ أهوج.
أما ابن الرَّشَّاح هذا؛ فيروى ثقات الأجداد:
" إنه كان أول ما كان مضغة لحمٍ حمراء، ملقاةً في حضن الجسر المعشوشب، بجوار "السنطة" المعوجة، انتبهت قريتنا ذات صباح، وقد ألفاه البعض هناك يتوسد احدى الحيات الرقط! يطلب غوثاً بأنينٍ مكلومٍ، أضعف من نبضات تذوي".
واختلفت في أمره كلُّ الروايات فالسذَّج من أهل القرية قالوا:
"لا شك هو ابن الحية الرقطاء".
أما الجبناء فقد قالوا:
"هو فضلة شيطانٍ ماكرٍ، أو فقس الجِنِّية".
لكن العقلاء بقريتنا قالوا:
"هو ابن خطيئة، هو ابن خطيئة!"
وأيَّاً ما كان القول أو القائل، فقد كفلته الأيدي؛ لتكلأه بعين الرهبة لا الرغبة؛ استجداءً للأمن المرجو من تلك الجنية، أو طلباً للسلم من ذاك الشيطان!
فاستبقت أيدى الناس كي ترعى هذى الروح الغضَّة، والتقم بفيه الرَّخو كلَّ الأثداء لم يترك بيتاً في القرية إلا واسترضع أهله؛ حتى نضجت تلك المضغة، طفقت تحبو في ساحات الدور، تتهافت أيدي النَّاس لتطعمها خير موائدها، تلبسها من نسج الأيدي الخصبة المعطاءة.
شبَّ ابن الرَّشَّاح في كلِّ الدور، على خبز القمح المروىِّ بعرق البسطاء؛ فأضحى جسداً عبلاً مفتولاً تشهد ذراته أن القرية قد أدت واجبها نحوه.
حتى إذا ما أنس في نفسه قوة، و تغشَّاه نضجٌ وفتوةٌ، انسل من القرية ليلاً؛ إذ راقه أن يرجع للمهد الأول، متجها نحو الجسر، واستوطن كوخاً من قش، شيده في بطن السنطة المعوجة، لم يأبه بعض الناس، أما البعض الآخر فتوجس خيفة؛ ظناً أنَّ الشيطان الغاضب يسترجع ولده، وانغمستْ قريتنا في خوفٍ وهميٍ أجَّجه الجبناء من السذج، وتساءل أهل القرية:
"من يأمن بعد اليوم غدر الشيطان، أو كيد الجنية ؟"
وارتقبت قريتنا اللعنة المنتظرة!
عبثاً حاول شيخ الجامع أن يصرف أهل القرية عن تلك الأوهام، يقنعهم أن الضر أو النفع من الله، لكن السذَّج تركوا المسجد وانصرفوا هرباً؛ خشية أن تسقط فوق المسجد لعنة!
لكن ابن الرَّشَّاح استمرأ جبن الناس، ضخَّمه الرعب الساري في الأوصال؛ ففرض على الناس خراجاً مما تنبت أرض القرية، وأسس في الكوخ القش عرشاً من وهم، ونصَّب نفسه ملكاً يحكم تلك الأشباح المقهورة، يمتص دماها عنوة، وانساق الجبناء كشويهات عجفاوات!
حتى انشقت دار بالقرية عن "سلمان" أحد الفتية الشجعان، لم يسمع يوماً للأوهام، أو ينسق وَجِلاً كالأنعام، يوم الجمعة التالي صلَّى، والتقم الآذان بصرخة سبٍ للذل، وتسلح مزهواً بعصاه، ونادى في الجمع الخانع بالصوت الهادر:
"إني اليوم لقاطع رأس الأفعى!" ويمَّم نحو الرَّشَّاح رائده غضب عارم، غايته كوخ الظالم، والعرش الوهم.
استجمع "سلمان" كل عذابات الجور المكبوتة، وشمر عن زندٍ عبلٍ مفتولٍ، ونخس بعصاه عرين الملعون، فانشق الكوخ عن ذاك العلجِ الثائر يرفع كفاً تسحق حجراً من صوان، لكن فتانا لم يمهله، أطبق فكيه، جحظت عيناه، وامتشق عصاه، وبسمل منتصباً منتفشاً وتمطى كالوتر المشدود، فخر الظالم مقهورا ًيتلوى دونما لمسٍ أو مسٍ!
كبر "سلمان" فتانا واستأنف لكمه، اثخنه بصفعٍ لا يرحم، ودحرجه ركلاً حتى بلغ بجثته شفير الرَّشَّاح، فقدمه برفسةِ قدم لا تخطيء قرباناً للماء,
لكن الملعون تماوت كالثعلب، وبرز إلى الجسر الآخر يرعد ناراً، يرهج غضباً من طرفٍ يتوعد!
واندفع الجمع الثائر يدعس كوخ القش، وقد أدهشهم "سلمان" فتاهم الساجد شكرا لله، بعصاه المبروكة، حتى قال السذج:
" لا شك بأن المبروكة من تلك الليمونة الخضراء بضريح الشيخ منصور، شذَّبها "سلمان" وهذَّبها، وأبقاها لليوم الموعود!
وعاشت قريتنا تنهل من شهد الأمن دهوراً، حتى وأد القدر المحتوم بسمة قريتنا، ومات فتى الفتيان، مات فتى القرية سلمان!
* * * * * * *
فلترقد بسلام يا أبتِ، متَّ وعاد ابن الرَّشَّاح أضخم مما كان، عاد بجعبة حقدٍ لا تنفد، عاد إلى السنطة المعوجة، أسس كوخاً ـــ هذي المرة ـــ من خشب السنطة الصلب، كشَّر عن أنياب زرق، أنفذ في القرية أمره، فرض خراجاً يغصبه عنوة، هتَّك أعراض النسوة، واتخذ من المجرى الآسن مقبرة شبقة نهمة، تبلع من يلمح فيه بصيصاً من ضجر مخنوق، أو وشاية عين تمنِّى النفس بفعلٍ ثوري أهوج!
اتجهت رمقات الناس إليَّ؛ أزكاها شبهاً موروثاً لم أسع قطُّ إليه، تستجدى نصراً كالنصر الغابر، يحدوها أمل عارم أن تسترجع عبري أمجاد النصر الأول.
قالت أمي وقد حرضها الأمل الساكن في قسمات السحن المقهورة:
"انصر قريتنا يا ولدي"، وطفقت تلهبني بسياط الثورة، تتفنن في وخز النخوة المستترة:
* أيسرك أن تترك علج الرَّشَّاح يمرح في جنبات القرية؟ ينهش أعراض النسوة؟ يقذفنا الواحد تلو الآخر؛ لنطفوا في الماء الآسن رمماً تشكو ظلمه؟
صرخت أدمدم:
ـــ كفاكِ وخزاً في الجرح الدامي، لماذا أكون القربان التالي؟
* أنت بحوزتك المبروكة؛ لكنَّ رجال القرية عُزَّل!
وساقتني باستجداءٍ مخجل حتى الحجرة المهجورة، وقد رقدت مبروكتنا المشهورة، تلك التي حسمت بالسِّر الباتع أولى الجولات.
بعزم مصنوع، ومَضاءِالمكروب نضَّيْتُ المبروكة عن مرقدها، وخرجت أجوب القرية، أمسح ـــ مزهواً ـــ كل شوارعها، أردد كلمات السر:
"إنِّي اليوم لقاطع رأس الأفعى!"
فتمخضت القرية عن جيش جرار يهتف لي، واستبقت أيدى الأشباح المقهورة ترفعني فوق الأعناق، تجترُّ شعارات العهد الأول، تترنَّم بأناشيد النصر، حتى إذا ما لاح الرَّشَّاح ألقتني الأيدي إماماً أخطو نحو الحلبة وحدي، إذ بدت الخطوات تتثاقل خذلاناً من خلفي!
واجهت عرين الملعون القابع في كوخ الوهم، بفتحة باب تفغر فاها، تلفح منها هبات زئير العلج الرابض، والحشد البشري الخائر يرقب حلبتنا عن بعد!
عاجلت الكوخ بضربة غيظ مكبوت؛ فتهشم صدر المبروكة مغبراً؛ على إثر السوس السارح داخلها! واندفع الوغد بجثته الجبارة يزأر مندفعاً مغتاظاً، نافرةً أوداجه كخراطيم الماء المنتفخة، وابتلع شهيق استعداد للزود فتضخم ضعف ما كان، واستل ذراعاً طوَّحه لأعلى مفترشاً كفاً لم أشهد مثله قط! فرفعت بقايا المبروكة وتمطيت منتفشاً ممتشقاً كالوتر المشدود، فاستل عصاي بكفه يسحقها! وحينما عبس وحدَّق في الجمع الخائر، صفق أهل القرية بحرارة، وسقطت أمي كمداً ميتة!
أضحى التصفيق المتوالي صفعاتٍ تشوى خدَّيَّ، وركلاتٍ تدقُّ عظامي، وارتفع التصفيق يدمدم رجعه كالرعد، فساخت قدماي المهزولة، وبت كشاة مسلوخة، فأوثقني بجلبابي في السنطة المعوجة، وأمر الجمع الخائر أن يحثوا فوقي من طين الرَّشَّاح الآسن ليبقى طقسا يوميا يقربهم له! وبت وحيداً مقهوراً مغلولاً في السنطة المعوجة يتغشَّاني عجزي وذلي، وباتوا يبتاعون الأمن الزائف منه بحثو الطين الأسود فوقي، ويبثون الشَّكوى في السر وبالليل ومن خلف الأبواب، وما زال " ابن الرشاح" يحكم قريتنا المقهورة!







  رد مع اقتباس
/
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:53 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط