لكنني أرى أن الأحتكاك المباشر بالحياة الثقافية من شأنه أن يحفزَ الشاعر ويجعلهُ في حالة توهج دائم والأبتعاد عنها يورثُ الأحباط ولهذا يحاولُ الخرساني مد جسور التواصل مع الذين يشاركونهُ همَ الكتابة ِ :
( أشتهي أن أحاصرَ النوم
كي أهدم َ حصنـَك ِ العنيد
أركضي قليلا ً
إلى البحر
حتى يذوب ُ المساء ُ
أحملي معك ِ قامتي
وفجري بها كلَ شئ
لعل َ شعركِ العذب
يكتبُ
قصائدي
للسواد ...)
تحيلُنا العنوان ـ سقوط مردوخ ـ إلى التراث البابلي حيث يتربع ُ مردوخ على العرش لكن يتضح فيما بعد أنه ليس سوى صورة لديكتاتورسقط َ (بعدما شربَ البحرُ سوادَ العيون ..تاركا ً أهداب النخيل يكحلها الرصاص .. ) كما يقول في نصه ـ مذاق لمائدة معلقة ـ وبسخرية مريرية .
ولعل ما يميز نص الخرساني هذه القدرة العالية على الأختزال الباهر،إنه ُ يقتصدُ باللغة إلى أقصى حالات الأقتصاد، فتراهُ غيرَ معني بالصيغ البلاغية التي أثقلتْ جسد النص الشعري ، وما تزال تثقلهُ ، إنهُ يتسللُ مباشرة ً إلى المعنى ليقشره ُ من أغلفته ِ اللغوية ويكسوه ثوبا ص خفيفا ًليشفَ عما تحت من جمال ٍ...
( نسافرُ مع الغيوم
لنقطفَ المطر ..)
وهكذا يقطفُ حسن الخرساني الثمارَ وهو يتجولُ في البستان الكبير ليخرجَ منه ُ بسلة ٍ صغيرة ٍ مليئة ٍ بما لذ وطاب ...
( المتنبي شارع ٌ مجنون
لا تقتلوا جثتـَه ُ بالكتب ..)
----------
( أخيرا ً
سرقَ الأربعون
نصبَ الحرية ..)
----------
( الغربة ُ تمطرُني
مثل عباءة ٍ حبلى بالسواد ..)
---------
(كولمبس
يمارسُ التثاؤب
تحت أثداء الدجلتين )
----------
ويبدو الخرساني مثقلا ً بالهم العراقي الممتد في العمق الرافديني من خلال استدعاء بعض الرموز البابلية ... مردوخ ... حمورابي ....تسكنُه ُ الأماكن ..شارع الرشيد ... ساحة التحرير ... ماء دجلة ...وبغداد التي يصفها
بـ ( عمامة الموت ) . وفي غربته ِ يستدعي كل هذه المباهج حيث تتفجر ُ في كيانه ِ مشاعر الحنين ففي ( عطل غائم ) يقول :
( أخرج ُ من باب ٍ واحد
أشاهد ُ بكائي
ملقى على التراب
أشاهدُ
رحيلي يدخلُ
من باب ٍ واحد
ومن باب ٍ واحد
تمطرُ أنوثة ُ السماء
وتغسلُ وجهي ..)
وللذات حضورُها الكثيف في نصوص الخرساني بشتى صورها ، الذات المقموعة ... الذات المحطمة ... الذات المتسامية ...فحين يبتلع دبيب الظلام المشتعل بالحب يقول ُ لقطرة ِ شمس في نص ( أنهار ) ،
( وأنا ...
أنا من يبتلعُني ؟
أنا
مغيث ُ الكلمات ..)
وقد يتحول هذا الحضور إلى جلد للذات ففي قيامة هادئة يقول :
( أنا بكاء ٌ مجفف
سليل الرمال )
هذه الخيبة ُ تشقُ أكثرَ من مجرى وتنتحلُ أكثرَ من صفة ٍ وتأجذُ أكثرَ من دلالة ٍ ، فالأنا قد تكون ردا ً على عوامل الأحباط التي تحيط بعالمه ِ من نسيان وتهميش وهو المتكئ على أرث ٍحضاري وثقافي كبيرففي نص ( المعنى أتفاق جارج أطار المحسوسات ) يقول :
( ينتحل ُ الناسُ صفتي
بأنني
شبق ُ الفراتين ِ
لحظة تهشمي )
وقد يعود ُ إلى الوراء بعيدا ً حيث أرض الجنوب المغمورة بالضوء والمياه والبردي والسماء المرصعة بالنوارس فيقول في ( مزاج مهذب ) :
( أمنحك ِ النوارسَ كلها
وأثداءَ البردي ..
لماذا .. ياضوئي الجميل
أنت ِ ؟
لماذا أمنحُك ِ
وأنا
بلا مملكة
و...
أنا قمحُك ِ المقوس
قمحُك ِ المثقوب
تحت شفاه ٍ باردة ٍ )
إن مجموعة ( سقوط مردوخ ) تجربة ٌ تستحق ُ التأمل وتؤكد ُ أن الشاعرَ حسن الخرساني رغم قلة منجزه إلا إننا لا يمكن تجاوزه ُ لأن لديه رصيدا ثريا ً من الألم الذي يقطرهُ تقطيرا ً.
عبدالرزاق الربيعي ..