موظف وفيَّات

[نافع سلامة]

[align=right]
من السابعة و النصف صباحا حتى الثانية ظهرا ما انفك وجهه من فوق دفتر السجلات ، إلاَّ عندما يرفع رأسه ليسأل التالية أمامه في طبور وصل لحدود أبعد نقطه من باب المستشفى الرئيسي ، و ضجيج الأمهات على اشكالهن و الوانهن و حالاتهن ما بين واقفة فوق صدرها طفل ، و جالسة ترضعه بين حجرها ، و رغائهن ، و عواء الأطفال فوق اكتافهن يشج رأسه ، و يفتك بأُذنيه التي بدت محشوة بقطعتين من القطن الطبي ، برز كل منهما خارج أذنيه بشكل محدب إلى الأمام ، سائلا سيدة وقفت أمامه مُكعَّبة الشكل :
- هاتي البطاقة ، و بسرعة خلصيني .. اسم الميت .. أقصد الزفت المولود آيه .؟
- أنت عامل زي القرموط ليه كده ، و كلك غلبه .؟ ، ما بشويش ، دي عروسة عقبال أملتك .
- أملتي .. !! عروسة .. !! طيب خلصيني يا ام عروسه ، و قولي أسم الموكوسة أ.. أ.. أ .. اقصد المنكوسة .. يوووه .. العروسة آيه .؟
- اسمها تفيدة ، على اسم جدتي الله يرحمها .. و حسَّن ملافظك دي الملافظ سعد .
فهز لها نصفه الكائن فوق المكتب ، و دم قلمه الأحمر بين إصبعيه قد لطخ باطن كفه :
- و تفيدة من ملافظ السعد برضو .؟ يا أم تفيده .! ، فوتي علينا كمان يومين خدي شهادة الوفاه .
- ربنا ياخد أجلك ، زي ما اخد عينيك ، رجل قليل الحَيَا .
كأنها ضربته على عينه العوراء بهذه الجملة ، فتحسسها بيده حزينا :
- غوري و أنتي مؤخرتك عامله زي بابور الزلط ،.. يلا يا ستي أنتي التانية خلصيني ، مدي خطوه لقدام ، و قولي اسم القتيل اللي بيجعر فوق كتفك آيه .؟
- عشماوي .
- عشماوي ..!! أمَّال لمَّا عشماوي لسه مولود مين إلا بيقبَّص في الأروح بالليل و النهار .. أمي .!! يلا .. فوتي علينا كمان يومين ، ها... اللي بعدها .؟
- آه يا غُلْبي يا انا ، تعبانه ، تعبانه ...
فحملق و سرح ناظرا إليها ، فاستعجلته و هي تتنهد و تتوجع ، فوق كتفها طفل تعدى السنة ممسكة به إحدى يديها ، و الأخرى تواسي بها ظهرها المنحني ، قد برزا بطنها كثيرا للأمام :
- خلصني بسرعة و النبي .. تعبانه ، هموت من الوجع ، من صباح ربنا و انا واقفة .
- كَتَّر خيرك .. حِمل من فوق ، و وجع من تحت ، ما قلنالكم نظموا ، نظموا ، يلا .. ( قالها على بابا بِكّ : ما فيش فايدة ) ده شعب مكحوت ، ها ... هتسجلي مين فيهم .؟ إللي ميت فوق كتفك ، و لا الحيِّ اللي جوه بطنك .؟
- الميت يا خويا ، خلي الحيّ لما يجي معاد دفنو .
- ده عمره كبير ، كان فين من زمان .؟ في النَّملية (*) ، و لاكنتم ناسينوا تحت البلاطة .!؟
- لا .. أصلا يا خويا ابوه لسه مطلع البطاقة ، كان هارب من الجيش قبضوا عليه وعملولو بطاقه و دخل الجيش من شهرين ، بيخدم بلده .
- عارف ،أنت هتقوليلي ، بيخدم هناك و ينزل يرد الخدمة الطاق طاقين هنا ، مش كده .؟
- ربنا يديلو الصحة ويمتعو بشبابو .
- طيب يا ستي ام شبابو ، فوتي علينا كمان يومين خدي خدمه من خدماتو
ثم أغلق دفتره ، و وقف فوق مكتبه مواجها لطابور صارخا :
- يلا يا ست أنتي و هي ، اذهبن إلى بيوتكن اطبخن الكوارع ، و كبسن الحمام ، دفتر الوفيات اترس على آخره ، ما فيش فيه مكان لتسجيل نمله مش عشماوي ، دي الأرانب مش بتعمل كده .
و سريعا حمل الدفتر و وضعه بخزانة المكتب ، و خرج متوجها إلى منزله ، و النساء يصحن خلفه ، و عواء الاطفال مازال يطارده ، فبعد أن كاد يستل قطعتين القطن من أذنه ردهما سريعا مكانهما ، فلا تكاد تميز صوتا ، فكلهن يهتفن عليه بندائات مختلفة في آن واحد ، فهذه : يا عم عُود ، وهذه : الواد يومين مش قادرة أسجله .. ، و اخرى : البنت اربعه مش قادرة انزلها ، إلى أن نادت سيدة شابة بمؤخرة الطابور ، كان صوتها حاد و مميز ، فبدا مسموعا من بين جميع الأصوات :
- يا ابوي دكروري ، اعمل معروف نزل لي الواد ، عاوزة اضيفه على بطاقة التموين عشان حصتو في الزيت و السكر .
فنظرت إليها أم تفيدة مستغربة اثناء مسيرتها نحو بيتها فسألتها :
- مين عُود .؟ و مين أبو دكروري .؟
- عُود.. موظف السجلات .
- اسمه عود و ابنه اسمه دكروري .!؟
- أيوه دكروري ، ده كمان باسم الله ما شاء الله عندو حفيظة و محسوبة و فوقية و نتعي و الواد الشقي ابنه كرشه و كمان عِنَبه ، و الواد آخر العنقود ماعرفش سموه آيه .
كان قد أوشك عُود أن يصل لمكان قريب منهما ، لكنه حين سمع أخر كلمة من المرأة عن اسم ابنته عِنَبه إنحنى بعيدا ، و فتح خطوته في المسير ، فألقت أم تفيدة بطفلتها تفيدة فوق صدر المرأة بجوار طفلها ، و جرت خلفه ، فجرى منها هاربا ، و صوت ضحكاته يصدح في الأرجاء ، و هي تجري وراءه منادياة :
- تعالى هنا يا ابوعِنَبه ، و لك عين و البلاوي دي كلها عندك ، يا سبب المصايب ، يا ابو عين واحدة .

[/align]

[زياد السعودي]

خط دامي جميل
بنفس روائي
رافقنا ونحن نتناول
هذه الرائعة
جديدة النافع
في مدينة الحلم

كثير امتنان اديبنا

[نافع سلامة]

كل الشكر لك عميدنا
كنت اود ان اعرف مدى الرمزية في النص لدى قرائتكم
كن بخير
ودي

[نافع سلامة]

شكرا عزيزتي اميمة لمرورك الجميل
تحياتي

[نافع سلامة]

الفاضلة / تهاني محمد
شكرا لك و لروعة مرورك
رمضان كريم

[ريمه الخاني]

لقطه موفقه جدا جدا ورغم الالفاظ العاميه الا انها خدمت النص بشكل ناجح
سعدت بالمرور من هنا
كل المودة والتقدير

[نافع سلامة]

لكِ الشكر أديبتنا ريمة الخاني على مرورك الرائع
رمضان كريم