جزء من رواية (رحلة الشك ) - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: الأصمّ/ إيمان سالم (آخر رد :إيمان سالم)       :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :أحلام المصري)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: طيور في عين العاصفة* (آخر رد :أحلام المصري)       :: جبلة (آخر رد :أحلام المصري)       :: إخــفاق (آخر رد :أحلام المصري)       :: ثلاثون فجرا 1445ه‍ 🌤🏜 (آخر رد :راحيل الأيسر)       :: الا يا غزّ اشتاقك (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: الأزهر يتحدث :: شعر :: صبري الصبري (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: الادب والمجتمع (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: مقدّّس يكنس المدّنس (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ ⟰ ▆ ⟰ الديــــــوان ⟰ ▆ ⟰ ▂ > ⊱ تجليات ســــــــــــردية ⊰

⊱ تجليات ســــــــــــردية ⊰ عوالم مدهشة قد ندخلها من خلال رواية ، متتالية قصصية مسرحية او مقامة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-2014, 08:26 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
محمد السويجت
عضو أكاديميّة الفينيق
افتراضي جزء من رواية (رحلة الشك )


جزء من رواية ( رحلة الشك)
تأليف :- محمد عبد اللطيف السويجت


(1)
بيده بقايا غصن شجرة يابسة ينبش به الأرض كئيبا حزينا منكفئا على ذاته ، هكذا يبدو لناظريه بيد انه ينتزع من الذاكرة حلما لذيذا خاطفا لم يستطع الاحتفاظ به بل أضاعه بغمرة طيش وسوء تصرف وانجراره وراء آراء مرضى النفوس والمرجفين حسدا منه وغيرة لما حباه الله من خير ونعمة لم يكن يحلم في يوم ما أن ينالها أو أن يشم أريج عطر ذلك القدّ المياس ، جالسا القرفصاء بعيدا عن نزلاء زنزانته مطأطئ الرأس خشية أن يكلمه أحد منهم فيقطع ما اعتاد عليه من تذكر ماض اشرأب بحلوه ومرّه امام عينيه ، يرنق أجفانه في الحالتين يبتسم مرة وتترقرق عيناه بالدموع مرة أخرى وقد تفيض مقلتاه بها فتحرق حرارتها وجنتيه بكمه يمسح مدامعه ويلتفت يمنة ويسرة هل رآه من أحد ؟ .... يحفر بقشته أخاديد في التربة اليابسة، يحدث نفسه بصمت لائما اياها بحرقة وندامة ،هي ندامة الكسعيّ أو الفرزدق واِنَّ ما فعله أنكى وأسوء من فعلتهما ....
ـــــ ممن وعمن أعتذر ؟!! أ من الله وقد اقترفت يداي ذنبا عامدا متعمدا أم من البشر ؟ وهل من شيم الرجولة والمروءة أن أقابل الاحسان بالجحود ؟ ثم ما عملتُ أنا لهذه العائلة سوى ما فرضه عليّ الواجب وليس لي عليهم أيّ فضل ، هم منحوني أغلى ما يملكون وكنت على خلاف ظنهم تماما .
أطال جلسته غائبا عمن حوله حتى اذا ما دقّ البوق مؤذنا بالدخول لم يكن ملتفتا اليه ، ناداه أحدهم :- معاذ ، انتهى وقت الاستراحة ، انهض .
نهض معاذ متثاقلا دون أن ينبس ببنت شفة ، تحرك باتجاه زنزانته ولجها ليرتقي الاسرة ويجلس على سريره الكائن في الطابق الثالث على الجهة اليسرى... في كل زنزانة أربع عمارات من الأسرة وتتكون العمارة من ثلاثة طوابق ، كل طابق بسريرين مع ممر بين العمارتين المتقابلتين لا يزيد عرضه على متر واحد ينتهي الى باب الزنزانة .
مدّ معاذ جسده المتعب على فراشه تاركا زملاءه يخوضون في أحاديث شتى كُتَلا وجماعات متفرقة على أسرتهم ، تدثّر بعد أن أخفى رأسه تحت بطانيته مظهرا رغبته في النوم الا انه ذهب مع أحلام الأمس يناجيها كعادته بألم ووجع ....
كان معاذ حسن القامة لا بالطويل ولا بالقصير ربع الجثة حنطي البشرة تعلو وجهه سحنة حزن وكآبة يبدو قليل المعاشرة بعيد عن مخالطة نزلاء القفص عامة وليس أبناء زنزانته فقط نافرا لا يرغب في الحديث أصلا واِنْ سُئل أجاب بايجاز وقد يختزل جوابه بكلمة واحدة وربما يكتفي بالإشارة جوابا، ما طرح موضوعا للنقاش قطّ ولا أشترك معهم في حديث، أكثر ما تراه ملتحفا بطانيته غارقا في ذكرياته مستقصيا مفردات حياته باحثا في طياتها عن كل ما يدعو الى التأمل والتجربة.... فاذا بلغه الدور في واجبات الزنزانة نادوه ، هبط مسرعا لتنفيذ ما عليه من واجب ثم يعود حيث كان دون أن يناقش ولا يظهر مللا وعجزا ..
شرع جاره في تشويه صورته والاساءة اليه في حديثة مع نزلاء القفص ناعتا اياه بالرجل المعقد تارة ومتهمه بالتيه والكبر تارة أخرى لما يمتلكه من درجة وظفية عالية أو حزبية عندما كان حرا خارج الزنزانة ولم يكتفِ بذلك بل راح يسمعه كلمات لاذعة قاسية اثناء حديثه داخل الزنزانة على لغة ( اياك أعني واسمعي يا جارة ) .. كل هذا لم يحرك منه ساكنا ولم يرد عليه بكلمة ، كان يخشى الرد لا عيب فيه انما مخافة أن يخونه التعبير وتأخذه العاطفة الى ما هو أسوء ، من هنا لم يعر لجاره المهذار أذنا صاغية ولم يعطه أي اعتبار فان فعلها نظر اليه شزرا واستدار الى الحائط اشارة منه بعدم الرغبة في الحديث معه وأن الحائط أشفق منه عليه مما زاد من حقده وضغينته ... دخل معاذ القفص مع الوجبة الأخيرة وكان نصيبه أن يلج الزنزانة رقم (4) وقد ضمت هذه خليط من النزلاء منهم القتلة والسراق وممن اعتاش على النصب والاحتيال وتزوير الوثائق كما فيها عدد لا بأس به من الأبرياء الذين زُجّ بهم الى هذا المكان للعقوبة لا لذنب ارتكبوه ولا لجناية ساقهم القدر اليها انما حلّوا ضيوفا بتهمة دبّرها لهم عميل أو ما يسمونه اليوم بــــ(المخبر السري) في جرائم وتهم سياسية هم في غنى عنها .....


(2)

أحبّ معاذ الليل في وحشته وكم تمنى أن يمتد به ويطال العمر كله ، فلا حاجة له بصبح يأتي يحمل معه ثقل المأساة وما جنت يداه ، يقيناً ان القدر عاقبه و يا لها من عقوبة؟!! . لم يتركه سادرا في غيه حاملا أوزاره ، فقد رماه في زنزانة اسمنتية رهيبة تزيد من لهيب الصيف حرارته ومن صليل الشتاء بردا وانجمادا ، لو تركوا فيها خرافا لهلكت في يومين.... هاهو يخلو مع ذاته في سكون رهيب لا يعكر عليه تذكارَ ماضيه شيءٌ سوى شخير نزيل أو صرير أسنان نائم يضاعف من تشائمه ، لقد ثمل من كأس همه ولم تزل في الكأس بقية يتجرعها في أيامه السود المقبلة ... ليس في الزنزانة يقظٌ سواه ، جميع من فيها قد استجابوا لسلطان النوم الا هو عتا وتكبّر وأعلن العصيان عليه فلم يكحل أجفانه وسن وكأنه أخذ من النوم نصيبه واكتفى .
طفق يحدث نفسه ويُقلِّب بمقلة متعبة حزينة صفحات أمس ما انفكت تلاحقه لعناته ليتجذّر ذلك الحزن في ذاته :-
ــــــ أنا الذي رسمتُ لحياتي مستقبلها، كنت أتطلّع لمستقبل زاهر وادع ، أسعى جاهدا الى تغيير واقع مرّ أعيشه لأخرج به وعائلتي من ذلك القمقم الأسود الى سماء الله الواسعة ، من حيٍّ متعب متهالك عبثت به الأيام وأدمته المحن ، أكثر ساكنيه يعيشون تحت خط الفقر ، منهم من لا يجد قوت يومه .... وكم رأيت بعيني أطفالا صغارا حفاة الأقدام يرتدون ثيابا بالية قديمة يبحثون عما يسد رمقهم ويُهدّئ ثورة الجوع في أمعائهم في قمامة الحي الفقيرة وقد لا يجدون كسرة خبز مرماة في طياتها الخاوية .....والدي أدّى رسالته وذهب الى دار حقه تاركا خلفه عائلة كبيرة في بيته الصغير ، ذلك عشهُ الذهبي كما يزعمون ، كان يخرج صباحا ليعود وقد غادرت الشمس سماءنا وهوت الى المغيب لتصبغ المشرق بحمرته ، يعلو بعدها صوت المؤذن معلنا وقت صلاة المغرب.. بعد قليل يدخل علينا البيت منهكا تعبا ، أضناه اليوم بعمله من أجل أن يقدّم ما عليه من واجب لهذه العائلة الكبيرة ، لم يكفه أجر يومه ، ربما استدان من جيراننا قبل نهاية الشهر ما يديم به حياتنا أملا في أن نكبر ونعينه على نوائب دهره وصروفه ولكن ذلك لم يحدث فقد سارع اليه المنون واختطفه من بيننا على حين غفلة ..... بحثنا بعد وفاته في ديلابه الحديدي الخاص علّنا نجد شيئا ادخره لمثل هذا اليوم فلم نجد لديه الا بقية راتبه الشهري ..... كنت أرى أمي وأخي الكبير في هم وغم وحيرة وموقف أكثر حرجا من محنتهم بفقده وقد حضر من أقاربي من يريد مالا لتغطية نفقات الدفن ومراسيم الفاتحة والبيت خاو لا شيء فيه... أرسلوا من يستأجر السرادق والأواني ومتطلبات المأتم لتبدأ المراسيم ... ليس في قدرة بيتنا أن يكون ملاذا ومأوى ومنام للقادمين من أهلينا للمشاركة في العزاء لمدة سبعة أيام بلياليها فما فاض منهم توزّع على بيوتات الحي حتى اذا ما انتهت الفاتحة وقوِّض المأتم بسرداقه أثقلنا حجم الاسرف والتبذير بحجة أن العشيرة يجب أن يكون لها موقفا متميزا أمام الآخرين وهذه سمعة طيبة لها ولصاحب النائبة لكنهم عادوا الى ديارهم ولم يشاركوا الا بالشيء النزر والقليل كما فعل عامة الناس قياسا لما صُرف . وعليه رحنا نستدين من ذوي المروءة ليكون عبءا آخر على كاهل أخي الأكبر فيما بعد . كيف يوفق بين صرفيات العائلة وايفاء ديون المتفضلين علينا من راتبه الزهيد ...كنت آنذاك طالبا في الصف الثالث المتوسط عزمت على أن أترك المدرسة وأشتغل عامل بناء مع جيراننا المقاول البسيط (الحاج حسين ) أخفف عن أخي شيئا من صرفيات العائلة ولا أكون أنا وأمي وأخواتي أرقاما ثقيلة عليه فيما هو فيه من عوز وفاقة ناهيك أن الطالب - في هذه المرحلة الدراسية - يحتاج الى مصاريف اضافية ، أجور نقل في الذهاب والاياب الى المدرسة التي تبعد عن حينا 4 الى 5 أميال تقريبا وكذلك صرفيات الكتب و القرطاسية وما تطلبه ادارة المدرسة منا بين فترة وأخرى ... انقطعت عن الدوام ورحت أشتغل مع الحاج حسين وقلبي يعتصر وعيني تذرف الدموع حزنا وألما لما أنا فيه من مسؤولية مبكرة أدت بالضرورة الى تركي المدرسة وضياع مستقبلي الدراسي .
بعد وجبة العشاء خاطبني أخي بلغة تحمل من الهم والمسؤولية الكثير ، أراد بذلك أن يخفف عني ما أحمله من هم على كاهلي وما أشعر به من ضياع قال :-
ــــــــ معاذ ، أنا أخوك الأكبر وأنا المسؤول عما يحدث ، ذهب الوالد وأنا الآن مكانه ، كما كان يدبّر أمور العائلة أنا قادر ان شاء الله على انجاز ما كان يفعله .....
ــــــــ (قاطعته) أخي ،الحمل ثقيل ، لا تسطيع لوحدك أن تتحمل اعباء العائلة ونفقاتها ، أنت رجل متزوج ، وفي ذمتك مسؤولية العائلة والأطفال ، وعائلتك ليست بالقليلة ، انتم ثمانية أفراد ، على الأقل أحمل عنك مسؤولية أمي وأخواتي ، هذا قدري في الحياة وأنا راض ،والله المعوض.
ــــــــ أنا فرح يا معاذ بقرارك هذا ، ومرتاح جداً لحسن تصرفك ورأيك ..... الصحيح، الفارق بيني وبينك من العمر كثير ، انا الأول في العائلة وأنت ما قبل نهاية العنقود كما يقولون .. هذا يعني أنت مدرك وواع لما نحن فيه من ضيق وأزمة وظرف اقتصادي صعب ولكن - يا أخي – هذه الأمور لها حلّ ويمكن مناقشتها والوصول بها الى رأي صائب وصحيح.
ـــــــ الحمد لله ، أنا مدرك لما أفعل ، وأرى من واجبي أن أتصرف هكذا.
ـــــــ بارك الله فيك ، لكن يا معاذ ، لم يبق من العام الدراسي سوى شهرين فقط وعليك أن تعود الى المدرسة ، الى الرَحْلة ، ما أحلى الجلوس عليها ، وتُكمل هذا العام مع زملائك وأنت طالب جيد ما عرفت الرسوب والفشل في الامتحانات من الأول الابتدائي الى الآن ،ومن المتميزين دائما ، واذا جاءت العطلة الصيفية أخرج الى العمل وأسأل الله أن يبارك في عملك ، وأنا ممن يبحث لك عن عمل في العطلة ، و اذا كان لابد فبامكانك استغلال أوقات الفراغ والعطل الرسمية بحيث لا تؤثر على دراستك . اما الآن فعليك أن ترجع الى المدرسة ولا أسمح لك بالعمل اطلاقا .......
أردت ُ أن أتكلم منعني وقال ( بلهجة آمرة ) :- ترجع يعني ترجع . لا أحب أن ترفض طلبي، نحن جميعا نقتسم اللقمة والله هو الرازق .
لا يدري كيف غلبه النوم وقد امتد به السهاد حتى أدرك ان الليل يسحب أذيال كلكله هاربا من الصبح الى مكمنه ليعود من جديد عند الغروب واذا بجلبة وحركة داخل الزنزانة توقظه وأصوات نزلائها يدعوه للتهيؤ فقد حان وقت التعداد الصباحي ....


يتبــــــــــــــــــــــع






  رد مع اقتباس
/
قديم 06-06-2014, 11:37 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
روضة الفارسي
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
تونس
افتراضي رد: جزء من رواية (رحلة الشك )


مرحبا أديبنا محمد، سرد آسر أشكرك إذ أثريتنا وأثريت الركن

كل التقدير

روضة






  رد مع اقتباس
/
قديم 28-06-2014, 11:28 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
محمد السويجت
عضو أكاديميّة الفينيق
افتراضي رد: جزء من رواية (رحلة الشك )


(3)

قطع معاذ سلسلة أفكاره على أثر سماعه حديثا دار بين اثنين من نزلاء الزنزانة ، كانا قريبين منه ، راح يرهف السمع ويجتهد في التقاط ما كان همسا أو خافتا متشوقا لسماعه ، وهو ملتحف ببطانيه مدعيا بأن سلطان النوم قد أسره قبل فترة ، ربما كانا يخشيان أن يوقظاه أو كراهة أن يستمع النائم لجزء من أسرار حياتهما ..... قال مصعب ( بحسرة غائرة في أعماقه ) :-
ـــــــ ثقْ ، يا نعمان ، ما أثّر في حياتي ، وغيّر مسيرتها تأثيرا سلبيا شيءٌ أكثر من الشك ، وما زلت أقول يجب أن أشك في كل شيء حتى يثيت لديّ الدليل بصحته أو بطلانه .
ـــــــ لك الحق أن تشك ولكن ليس في كل شيء كما تقول ، هناك بديهيات يمكن الجزم بصحتها ، والشك فيها مضيعة للوقت وتسويف لحقيقتها وهدر للطاقة ثم انها قد ثبتت عند من سبقونا مثلا كروية الأرض .
ـــــــ لا ، لا . أنا لا أتفق معك ، لا يكفي أن يرى شمس الحقيقة زيد من الناس بل الآخرون هم بحاجة ، ولهم الحق في رؤيتها ، التسليم بما يقوله الآخر وبلا تحقيق خطأ ،ألم يكن ديكارت صائبا في قوله ( الشك قبل اليقين ).... اترك ديكارت . الامام الغزالي قبله بكثير قال :- ان الشكوك موصلة للحقائق . كان يُدرِّس الفلسفة الاسلامية ويأتي بأدلة يعتبرها البعض قطعية في اثبات الحقيقة المطلقة ولكنه في الوقت ذاته كان يحمل بذرة الشك الى أن ألقى الله في قلبه نور الايمان بعد سفره الى بيت الله في مكة .
ـــــــ مصعب ، أخي، أرجوك لا تخلط الأوراق، الغزالي وديكارت كانا يبحثان عن الحقيقة وفق منهج و بحث علمي ، وهذا ما يسمى بـــ ( الشك المنهجي العلمي ) ، اما الشك الذي نقع نحن فيه ،أنا و أنت والآخرون، هذا شك ارتيابي في حالات وظواهر شائعة بين الناس ، هذا النوع يورث الهم والنكد ، ما من شاك أو كثير الشك الا وتجده مهموما كئيبا حزينا قلقا ، ربما يكون زميلنا ( وأشار بيده الى معاذ ) من هؤلاء ، شكّه هو الذي أوصله الى ما هو عليه الآن .
ــــــــ هل وقع نعمان في يوم ما في حالة شك من هذا النوع ، كن صريحا .
ــــــــ ليس المهم أن أقع أو لا أقع ، ولكن يُفترَض بالانسان اذا ما انتابه شكّ في جانب من حياته أو في موضوع ما ، عليه أن لا يكون على عجلة من أمره ويصدر قراره القاطع والحاسم بناءً على شكه انما عليه أن يتحرى الحقيقة ويبحث عن الدليل حتى يثبت لديه صحة ما ذهب اليه أو عدمه ...
ــــــــ واقعا ما تقوله مثال أو حالة مثالية ، ليس لها حيّز أو مجال في الواقع المعاش . هي بعيدة كل البعد عن الواقع . كلنا نشك في أمور حياتنا ثم نتخذ القرار بسرعة وبلا روية ، حقا كان ذلك أم باطلا ؟
ــــــــ مصعب، أرجو أن تفهمني ، أنا مثل غيري ، مثلك يا أخي ، أقع من خلال اختلاطي مع الآخرين في مطبات تدعو الى الشك ، ولكن مع نضج تجربتي الحياتية استطعت أن أصل الى حلول لبعض المشكلات قبل تفاقمها ، اما في شبابي في نزقي وعدم ادراكي تصرفت خطأ واتخذت قرارت سريعة ندمت عليها فيما بعد . الذي أريد أن أقوله في هذا المجال ،اذا استطعت أن تخرج من دائرة الشك الى اليقين ،هذا شك بسيط وهي حالة سليمة وصحيحة يقي المرء بها نفسه من أن يقع في الخطأ ، وهو من باب الاحتراز والحذر اما عندما يكون الشك صفة وسمة ملازمة لصاحبها لا يستطيع الخروج منها اضافة الى ذلك لا يملك الدليل المقنع لصحة شكه هذا مرض وصاحبه مريض ولابد من علاجه .
ــــــــ أريد منك مثلا واحد ، قصة غرامية ، موقف مع صديق .
ــــــــ نعم ، في حياتي حالة أو حالتين ندمت فيما بعد على القرار الذي اتخذته بحقهما ، أنت قلت أن الشك يغيّر مسيرة حياة الانسان .هذا صحيح ،في وقتها كنت ظالما وكثيرا ما عدت ألوم نفسي ، ولكن أيٌّ منا لا تغلبه العاطفة ويغيب لديه العقل عند المواقف الصعبة والحرجة مع قلة التجربة الحياتية ، ولسنا بأنبياء ، نحن عاطفيون وكفى
ــــــــ أسمعني موقفا أو قصة واحدة كنت فيها قليل التجربة . نقضي به الوقت المتبقي...
ــــــــ في حياتي مواقف صعبة أكثر مما تتصور ، حياتي العملية والعاطفية
ــــــــ اتركنا من حياتك العملية جانبا ، وتحدث عن الجانب العاطفي منها لنفهم ما جنيت ، وهل أوصلك الشك الى الجريمة ؟
ـــــــ بالتأكيد ، لا ، ولكنني شعرت بفشلي في الحب وعدم قدرتي على ديمومة علاقاتي الغرامية ، فشلتُ أكثر من مرة ، احيانا ألوم نفسي كنت أنظر الى الحب كمن ينظر الى الكون من خلال كوة صغيرة أو من ثقب ابرة ...مردُّ هذا الفشل وهذه النظرة التشاؤمية في اعتقادي الفقر وضعف الحالة الاقتصادية ثم ليس لي ولا لعائلتي مركز اجتماعي متميز تهفو له قلوب الفتيات انما انا رجل عادي بسيط في خضم هذا المجتمع ورقما ضائعا بين آلاف الأرقام المنسية .
ـــــــ تحدّث ، يا أخي ، لم يبق لدينا من الوقت الا القليل ، سيأتي الجندي ويقطع علينا الحديث....
ـــــــــ (بحسرة ) كنت شابا في السابعة عشرة من العمر طالبا في الثانوية ، كانت طالبة تسكن في الشارع العرضي من حينا في الدراسة المتوسطة ، رشيقة القوام ،مصقولة الترائب ، بيضاء كاعب ، لها شعر أسود فاحم تجعله ضفيرة واحدة يتدلى على كتفيها حتى يتجاور بغضبه الردفين ، تتهادى في مشيتها كالغزال ، لسهام عينيها وقع في قلبي يعجز القلم أدراك كنهه أو صفته ،عين ريم قاتلة .
ــــــ نعمان ، دعْ عنك وصفها ، تجدها الآن عجوز شمطاء يمشي وراءها عشرة أطفال
ــــــــ حبّها قلبي واشتدت اليها جوارحي وألفتها روحي حتى أن صورتها لم تفارق أجفاني ، تراني في ظهيرة الصيف الحارقة وفي الشتاء القارص أقف عند عمود الكهرباء المقابل دارهم منتظرا عودتها من المدرسة أُمتعُ ناظري بحسن ذلك القوم الرباني تسقيني من ملاحتها كأسا أروي به قلبا ظامئا ملتاعا ليهدأ ما كان ثائرا في أعماقه من وهج ووجيب .... لم أحاول مشاكستها واعتراض طريقها كما يفعل العاشقون من الشباب يومذاك حفاظا على سمعتها وانا أريدها زوجة طاهرة نقية وزاد يقيني في امتلاكها أن والدتها جاءت بيتنا يوما وطرحت قضية زواجي من ابنتها وطلبت من الحاجة الوالدة أن تعطيها نيشان(فوطة مثلا ) لتكون دليل على ملكيتها اما المهر يؤجل حتى تخرّجنا واكمال الدراسة وتكون البنت في حل أمام أبناء عمومتها . وألحت على الوالدة في هذا الموضوع وهذا دليل على رغبة الأم في اقتراني بابنتها . كنت فرحا بهذا التجاوب ايما فرح ولا سيما قد جاء هذا التجاوب من الطرف الآخر مما يسهل عليّ مهمة الخطبة مستقبلا ..عشتُ على هذا الأمل وقتا طيبا بيد انه ليس بالطويل . ولكن منظرا رأيته كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ، منظرا غرس في ذهني بذرة الشك ، بنيت عليها ألف قصة وقصة من نسج الخيال فكان الجفاء والبعاد . وذهب كل فرد منا الى سبيله ، نعم ، التقينا معا في نقابة واحدة فيما بعد كأننا غريبان ، ما خفق لها قلبي ولا ارتعشت يدي كما كان يحدث لي سابقا .
ـــــــ ما هذا المنظر ؟ وكيف قُلِبتِ الأمور رأسا على عقب ؟
ـــــــ ( بحسرات متتابعة ) خرجتُ يوما صباحا في وقت ما اعتدتُ أن أخرج فيه ولكن طُلِبَ مني التسوق في ذلك اليوم ، لبيتُ طلب العائلة .كانت الأرض موحلة على أثر زخات مطر خفيفة أرسلتها الرحمة الالهية لنا الليلة السابقة ، واذا بي أرى في نهاية الزقاق الطالبة بلحمها ودمها ، الطالبة المحترمة تقف عند الرصيف متظاهرة بقشط ما علق من وحل وطين على حذائها على مقربة متر أو أقل من ذلك ، كان شاب يقرأ دروسه تحت عمود الكهرباء نهارا واعتقدت حينها جازما انهما كانا يتحدثان أو يتناجيان وهي تمسح حذاءها بطرف الرصيف تمويها وتضليلا وقد أطالت الوقوف بقربه . لا أخفيك كأنَّ نارا اشتعلت بجسمي واعترتني رجفة ورعدة وأخذني صداع حاد ، طويت دور الزقاق حتى نهايته وهي مازالت واقفة وبجنبها الشاب واسمه ( عبد الرزاق) كان وسيما جميلا لا عيب فيه تتمناه هي وغيرها من بنات الحي اضافة الى ذلك وضعه الاقتصادي فوق الوسط ، هو بالتأكيد أفضل لها مني في هذا الاتجاه ...... انهارت بذلك أمالي وترقرقت الدموع في عيني وحمدت الله اني عرفت حقيقتها في بدء الطريق وقبل أن تدخل في ذمتي. وهنا اتخذت قراري وعملت به وهذا هو الخطأ بعينه ولم أملك دليلا مقنعا على عدم نزاهتها اعتمادا على هذا الوهم ...
ـــــــ كيف كانت حالة البنت عندما رأتك ؟
ـــــــ ما ان رأتني حتى أسرعت الخطى ، اقتربت مني أرادت أن تحدثني ربما تعتذر ، لم أمهلها انحرفت عن الطريق باتجاه السوق وذهبت هي الى مدرستها ..... بعدها ما رأتني أراقب عودتها ولا أنتظرها عصرا فوق سطح الدار بحجة القراءة أراقب طلعتها عن قصد أو غير قصد حتى يئست حيث مات الحب والخيال العذب بكرا في روحينا ... ولم أعد أثق بفتاة بعدها لسنين حتى شاء القدر و ألتقيت بـــ ( عبد الرزاق ) في جلسة شبابية كان موضوعها وعمودها الفقري كمادة (الحديث عن العلاقات الثنائية بين الجنسين) وتطرق الجالسون الى تجاربهم في هذا الاتجاة ، خطر ببالي ذلك المنظر المشؤوم ، رحت أحدث عبد الرزاق متطفلا لأستشف منه الى أين وصلت علاقته معها ؟!
ــــــ أما أنت يا عبد الرزاق، هنيئا لك بها .
ــــــ (أجابني مستغربا ومستفهما ) :- عن أيّ فتاة تتحدث ؟!
ــــــ (بابهام ) :- عنها هي .
ــــــ (ضاحكا) من هي؟
ــــــ الطالبة ، الآن هي جامعية ( فعلا رأيتها مع الوجبة الجديدة في المرحلة الأولى في الوقت الذي كنت أنا في المرحلة الأخيرة في الكلية ) .
ـــــــ أنا لي علاقة حب مع فتاة جامعية ؟!
ـــــــ ( مازحا) نعم ، هل نسيتها تماما ؟
حلف لي بأيمان غليظة أنه ليس له أي علاقة بفتاة جامعية ولا حتى طالبة ثانوية ... ثم أخذت أثير فيه الرغبة وأصف له الفتاة دون ذكر اسمها ، انبهر الرجل ولم يصدق ما ألصقته به من كذب وبهتان وتهمة باطلة . وقال لي بالحرف الواحد :-
ـــــــ والله ، لو كانت لي علاقة مع طالبة جامعية بهذه الصفات ، والله مستعد أن أبيع أهلي من أجلها وأخرج معها ان رفضوا زواجي منها ...
عدت الى نفسي ألومها ، ولكن بعد خراب البصرة ، انّ ما رأيته من الفتاة ربما كان موقفا بريئا في حين كان عبد الرزاق منشغلا بقراءته يتخطى قربها ولم يكن للفتاة في ذهنه حضورٌ اطلاقا ، انما كان بالنسبة لي وهم وشك تراءت أمام عيني حقيقة بنيت عليها قراري حطمت به قلبي وخسرت الفتاة ......بعد ذلك انتقلنا من حينا الى آخر ثم الى ثالث ولم أسمع عن الفتاة أي خبر حتى ألتقيت يوما بمدرسة من أقاربنا ، تحدثنا عن التدريس وما يلاقيه الكادر التعليمي والتدريسي من صعاب واذا بها تذكر الفتاة وما تعانيه من مشاكل ومتاعب ، وهي أحدى ملاك مدرستها فقد تزوجت رغما عنها من ابن عمها ، ليس لديه تحصيل علمي، لم يستطع أن يتخطى الدراسة الابتدائية أصلا ويشتغل عاملا كاسبا هنا وهناك وقد فرض وعائلته عليها حكما ثقيلا يجسّد فيه رغباتهم بكل ما يحمله الواقع العشائري من سمات ، على سبيل المثال ليس من حقها زيارة أمها العجوز الا للساعات مرة واحدة فقط في كل سنة و برفقة زوجها حصرا ...
فُتِحَ باب الزنزانة واذا بصوت خشن جلف يرتفع عاليا في أرجائها طالبا منهم الهبوط من أسرتهم والتهيؤ للذهاب الى المغاسل حيث أن نوبتهم حسب الدور في تلك الليلة الأخيرة وقد حان وقت الذهاب ، انقطع الحديث على أمل أن يلتقوا فوق السرير ذاته في النوبة الأخيرة التالية والتي تصل لهم بعد أحدى عشرة ليلة بقدر عدد الزنزانات وبذلك يكون لهم متسع من الوقت للحديث في هذا الموضوع ........ في طريقهم الى المغاسل كان معاذ يلتصق بهم على غير عادته محاولا أن يتأكد هل لحديثهم صلة ....
يتبــــــــــــــــــع






  رد مع اقتباس
/
قديم 05-07-2014, 12:37 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
روضة الفارسي
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
تونس
افتراضي رد: جزء من رواية (رحلة الشك )



سرد جميل وحوار ملفت أتمنى لك حظا سعيدا


تحياتي






  رد مع اقتباس
/
قديم 08-07-2014, 06:21 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
محمد السويجت
عضو أكاديميّة الفينيق
افتراضي رد: جزء من رواية (رحلة الشك )

(4)
ليس من ديدن معاذ ولا من عادته أن يجلس بعد وجبة العشاء منتظرا الدور في الذهاب الى المغاسل ، وفي الوجبة الأخيرة حصرا ، حيث اتخذ من جدار الزنزانة متكأً له ورمى بطانيته جانبا وراح يُجيل الطرف يمينا وشمالا صامتا لا يتكلم ـ راغبا فيما يبدو سماع ما يدور بينهما من حديث ولمتابعة ما دار منه سابقا . حان موعد اللقاء واجتمعا على مقربة منه في الطابق الثالث على الجهة اليمنى على سريري مصعب ونعمان اما جاره المهذار فقد هبط من سريره الى الأسفل ليشارك الآخرين سمرهم . شرعا يكشفان عن بعض صفحات حياتهما الخاصة وما فيها من اخفاقات ونجاحات اذ يشكل بعضها حجم وثقل ثروتهما الثقافية والتربوية التي تدرّعا بها في مواجهة صعاب اليوم ، قد يجد السامع فيها تجربة أضافية تفيده في حياته فالذي يستفيد من تجارب الآخرين هو الأذكى أما من أستفاد من تجربته قيل عنه ذكي ... فهل استفدا هما من تجاربهما ؟ .... خاطب مصعب نعمان قائلا :-
ــــــــ لم نُكمل الحديث بعد ، لدي رغبة في معرفة مصير الطالبة المسكينة
ــــــــ قلتُ لك ما عندي ، انتهى بها الأمر بعد اكمال دراستها أن تتعين مدرسة ، وتزوجت من هذا الأمي أبن عمها مجبرة ،عاشت في بيت لا يفهمها ، انما وضعوها في قوالب جامدة توارثوها أبا عن جد وهم يقدسون ذلك الموروث ، كان حديثهم دائما ، كان جدي يفعل كذا ، وجدتي تعامل كناتها بقسوة وبالعصا ، ليس من حق زوجة الأبن أن تعترض عليها ولو بكلمة والا كان مصيرها الشارع بعد الضرب المبرح منها ومن رجال البيت و..و..و... بالتأكيد فيه من المنغصات الكثير ولكنها بنت عفيفة ونبيلة تحملت كل ذلك من أجل أبنائها وبناتها ... المهم في تجربتي المرة هذه ، لو، وما أصعب هذه الكلمة ! . لو كانت من نصيبي ربما تغيرت حياتي بشكل أفضل وما وصل الحال بي الى هذا القفص ، احتمال كبير دفعتني الى اكمال دراستي وتخلصت من خدمة الاحتياط العسكرية كما حدث لزملائي ( قاسم وعلاء وخالد و غيرهم ...) ... ارتبطت انا بعائلة، بزوجة تراني البحر الذي تعيش فيه وهي سمكة ان انحسر عنها ماء البحر ماتت وان تركته ماتت كذلك ، وانا لها بمثابة الهواء الذي تستنشقه .....
ــــــــ كانت عاقبتك أذن على خير ، وخيرا ما وجدت .
ـــــــ هذه ارادة الله ، ولله فيها حكمته ... تحكمّ الشك في ذهني لأبتعد عنها (وبحسرة )
أن بعض الظن أثم ، هذا ما تفعله الظنون ..
ــــــ ابتعد انت عن هذا الحديث ، هذه أخطاؤنا ، والله بريء منها وسوف يحاسبنا عليها ، ليس وحدك من وقع في هذا المطب السيء ، انا كذلك لي حكاية في هذا الموضوع بنيت فيه قراري على الشك ولم أبحث عن الحقيقة .. وان كانت حالتي أخفُّ من حالتك كثيرا
ـــــــ ( مبتسما ) لدينا وقت وأسمعني مغامراتك الغرامية .
ــــــ معاذ الله ، ليس لدي مغامرات في هذا الموضوع ، وما عرفت الغرام والهيام كما تحدّث عنه مجانين الحب ،قل عنه اعجاب او انجذاب أو ارتياح لفتاة ما.
ــــــــ ليكن ما يكن اعجابا ، حبا . المهم أن نقضي الوقت المملّ والمُتعِب بسماعها .
ـــــــ كانت لي بنت عم حسنة ، جميلة لا عيب فها ،أوقفها عمي زوجة لي منذ صغرنا ولم يعترض على قراره أحد وقد اتفقت العائلتان على ذلك وكنت أنا مرتاحا لها وهي كذلك ، وليس هناك من يعكر صفو هذه العلاقة ، ونحن نعيش الوئام والود ... كبرنا وكبر حبنا وكنت كثير الترداد الى بيتهم وأتذكر تحدثنا مرات عن عشنا الذهبي مستقبلا من باب المزاح والالفة وفي أحد زياراتي وجدتها تقرأ قصة لنجيب محفوظ ويحضرني الآن اسمها ( قصر الشوق ) من ثلاثيته المشهورة ، مددتُ يدي لأخذها ، امتنعت واصفر وجهها وسحبت يدها وجسمها الى الخلف ، وكانت أمها جالسة ، دفعني الفضول للمطالبة بها لتصفحها ، ناولتنيها عن غير رضا , طفقت أقلب صفحاتها ،رأيت بداخلها ورقة كتبت بشكل نظامي فتحتها لأقرأ ما فيها واذا بها رسالة غرامية خالصة ،الى الآن أذكر عبارات تلك الرسالة فقد حفظتها على ظهر قلب تقول فيها ( حبيبي، بعدك آلمني ، وجمر فراقك آذاني ،ومازلت أناجيك ليلا كمن يناجي النجوم والقمر ، ونهارا كمن يناجي الشمس والشجر . أنت سمائي التي ألتحف بها وأملي الذي أعيش من أجله .فكن معي متسامحا سهلا ، أنا لك لا لغيرك ...) .
قرأتها صامتا فلما أنهيتها بان على وجهي الكدر والضيق ، سألتها :- لمن هذه الرسالة ؟
أخذت تقسم بأيمان غليظة لا علم لها بهذه الورقة وان القصة لزميلتها استعارتها منها اليوم ، حاولت أن أغلق الموضوع مخافة أن يتسع قلتُ لها :- مرة ثانية تأكدي واعملي الصحيح....
استفسرت الأم عن ما في الورقة ، أجبتها :- لا شيء ، موضوع عادٍ.. وضعت الورقة في جيبي ولم أعدها الى القصة واحتفظت بها زمنا وأخيرا مزقتها اذ لا فائدة منها ....
كانت هذه الورقة ناقوس خطر في حياتي ، ابتعدت عنها كثيرا وقللت زيارتي الى دارهم وكثر عتابهم ولم ينفع وعزمت على ترك موضوع الزواج منها وأبلغت عائلتي بذلك بأن ليس في نيتي الاقتران بابنة عمي اطلاقا وعندما يسألوني عن السبب أراوغ ولم أقل الحقيقة أبدا . وقد كنتُ أخشى بذرة الشك هذه علينا معا أن تستمر بعد زواجنا وتنمو وتكبر مساحتها في كياني بفعل وساوس الشيطان والنفس أمارة بالسوء وللشر سطوته ربما لا أجد في نفسي القدرة على ردعه وصده وبذلك تسودّ أيامي ويتكدر عيشي معها ثم أجعل من هذا الشك أداة لعقوبتها مستقبلا ولو تزوجتها وفعلت هذا كنت بمثابة القاتل المحترف وعليه تركتها تعيش حياتها بعيدا عن الشك والريبة سواء كانت كاذبة فيما تدعي أم صادقة ؟
ـــــــ عملك هذا سليم ، وبارك الله فيك ، ما دمتَ تشك في نزاهتها وحبها لك فلماذا تتزوجها زواجك منها سيكون بمثابة عقوبة وأيّ رجل نبييل يرضى أن يعاقب فتاة شابة على وهم وشك بعد أنْ قَبِل بها زوجة ؟ اذن ، الأولى الابتعاد عنها وعليها أن تختار من تشاء
ـــــــ هنا المشكلة ،البنت بقيت تنتظرني سنينا معلنة صراحة انها لا تتزوج غيري مما دفع بي الى الزواج من فتاة أخرى ومع ذلك بقيت بعد زواجي سنة كاملة حتى رزقت بطفل مع كثرة خطابها تزوجت بعدها من رجل غريب . واقعا أنا لم أكن معها كمجنون ليلى حبا وتعلقا ولكن هناك ثمة انجذاب وتفاهم واتفاق في الرؤى وما عرفت الغرام في حياتي اطلاقا .
ـــــــ مصعب ، نعود لما بدأناه ، هل شكك هذا صحيح ؟ وهل مازلت عند قولك يجب أن نشك في كل شيء ؟
ـــــــ لا أدري ، عقلي يقول ان الشك في مثل هذا الموضوع مدمّر وغير صحيح ، ولكن العاطفة والموروث الاجتماعي الذي أحمله يقول لي لو عاد عُدْ في شكك اليه .
ــــــــ أنت لم تخسر شيئا رفضت واحدة وتزوجت أخرى وخير من أن تعيش حياة قلق وشك وريبة وتؤذيها معك تركـتها لحالها ... وما كنت عاشقا كما تقول .
ـــــــ يا نعمان ،لولا هذه الورقة ، لتغيّر في حياتي كل شيء وأصبحت أنا أكثر أمانا وطمأنينة ... ولكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن .
ـــــــ اسمع ْ ، يا مصعب حكايتي الثانية . وكيف فعل بي الشك ؟ ولم أتعظ من المرة الأولى في أن أتخذ قرارا قبل التحري والتحقيق في صحة ما أرى أو أسمع مع يقيني أن السمع والبصر يحتملان الخطأ والوقوع فيه .
ـــــــ تكلم ، يا أخي ، فقد أدركنا الوقت ، قريبا يدخل علينا الجندي الزنزانة .
ـــــــ بعد تجربتي الفاشلة مع فتاة الحي الطالبة والمدرِّسة فيما بعد ، أستغفر الله ان كنت أسأت اليها أو كنت سببا في ايذائها .. أصبحت كالجمل الجموح نافرا بعيدا في اقامة علاقات حب وغرام وحتى علاقات زمالة مع أي فتاة طالبة أو غير طالبة . لا أخفيك ، واقعا كنت أنظر الى الطالبات بل النساء عامة نظرة حقد وحنق أرى في ضحكتهن المكر وفي ملاحة وجوههن الغدر والخديعة واذا تهادين في مشيتهن وماس عود البان من قامتهن رأيت فيه الخيانة وعدم الوفاء وأنا على هذه الحالة في النظرة السوداوية اليهن سينينا تجاوزت أصابع اليد الواحدة .
وكانت على أشدها في السنة الأولى والثانية من حياتي الجامعية ، وزاد الطين بلّة ، ما سمعته من طلاب السنوات المتقدمة من أن الطالبات هنا يستغلن الطلاب ويجعلن منهم ألعوبة أو جسرا للعبور واجتياز الحياة الجامعية ثم يضربن بعلاقاتهن معهم عرض الحائط فلا أمان لهن ولا وفاء وأكثروا التحذير من كيدهن . من هنا رسمتُ لنفسي خطوطا حمراء في علاقاتي مع الآخرين لا أسمح أبدا لطالب أو طالبة باختراقها وكنت أتعامل معهم تعاملا رسميا الى حد بعيد ...... في السنة الرابعة بالتحديد خفّت عندي حدة هذه النظرة ورأيت اني قد بالغت فيها كثيرا ،رحت أحدث بعض الطالبات وأشاركهن في الذهاب الى مطعم الطلبة أو البهو لتناول الشاي وأستمع أحيانا لما يحدث بينهم من مناكفات بسيطة و قد أتدخل في حل خلافات بين الطلاب أو بينهم والطالبات ...وأنا في هذه الحالة لفت انتباهي تصرفات وحركات طالبة تقيم في القسم الداخلي للجامعة ، هادئة واثقة من نفسها معتدلة في لباسها وفي تعاملها مع الآخرين ،لا تبالغ في أحاديثها كما تفعل بعض الطالبات عن أسرتها ووضعها الاقتصادي ومع ذلك هي قليلة الكلام بالقياس الى كثير من الطالبات ، أضف الى هذا
رشيقة القوام حسنة الصورة ، لا يعيبها ولا ينقصها شيء ، فيها تكتمل صفات الحسن والملاحة . جذبني اليها كل ذلك رحت ألتقيها في قاعة الدرس ونقضي فترات الدروس الشاغرة نتخطى أحيانا في حديقة الكلية أو أروقتها وأغلب ما كنا نتحدث عن مفردات المنج الدراسي وشؤون الطلبة وليس للحب في لقاءاتنا سبيل ..... وأذكر أن والدها زارها في الكلية يوما فعرّفتني به ودار بيني وبينه حديث طيب ووصاني بنهاية اللقاء بابنته خيرا وان أساعدها اذا ما احتاجت شيئا من ملازم دراسية أو كتب لكونها طالبة غريبة وليست من سكان المحافظة ولها علينا حق الضيافة وحسن المعاملة . أخذ اعجابي بها ينمو شيئا فشيئا حتى بلغ ذروته وبات صداه يدوي في ذاتي حبا وهوى واضحا يقرّه خفقان قلوبنا عند اللقاء وتفسره العيون و اللحاظ الشاردة وقد سمعت همسا من الطلبة ممن يتهمني واياها بحب جديد نشأ في القسم ولقبونا بالعشاق الجدد .عشت في هذه الفترة صراعا قاسيا أحدث نفسي فيه بين الاقدام ومفاتحتها بحبي لها صراحة وبالتأكيد سيكون مشروع الزواج هو الأس الذي أعتمد عليه في الحديث وبين الاحجام عن ذلك وترك الأمور تسير على ما هي عليه كزميلين وحسب . واخيرا ارتضيت أن أضع روحي على نار هادئة من حبها الى وقت مناسب ،ما دامت القلوب شاهدة على حبنا لسبب بسيط ، لو أني فاتحتها بمشرع الزواج ،هل أستطيع تحقيقه بعد التخرج مباشرة ؟ هذا مستحيل ثم ما ذنبها أن تصبر خمس سنين على الأقل وحتى بعد مرور هذه الفترة لا أستطيع أن أوفر لها أبسط متطلبات العيش الكريم ...لابدّ من تلبية نداء العلم ، والخدمة العسكرية لا يمكن تحديدها وانما ترتبط بالأوضاع االاقليمية والمحلية قد تزيد ولكن لا تنقص ، والجندي المكلف لا يكفي راتبه معيشة يومين وعليه يكون عالة على أهله بعد تخرجه من جديد واذا انهيت الخدمة العسكرية عليّ أن أنتظر سنتين أو أكثر حتى أوفّق الى تعين في وظائف الدولة ،ولو تمّ تعييني على سبيل الفرض لا الحقيقة براتب (50 خمسين دينار ) الى كم سنة أحتاج لتحقيق مشروع الزواج ... وأنا في دوامة هذه الأفكار بين جوهرة يصعب عليّ افتقادها وبين صعوبات قد تواجهني مستقبلا ..... ذات يوم ذهبت الى الجامعة مبكرا كعادتي بينما أسير في شوارع المدينة واذا بزميلتي ذاتها هي هي، بلحمها ودمها ، ذاهبة الى الجامعة أيضا مع اثنتين من الطالبات . وضع الكثيرون على أحداهن علامات استفهام متعددة في الجانب الأخلاقي ولم أرها طيلة السنوات الماضية تسير معها في أروقة الجامعة . اما الثانية من طالبات القسم الداخلي... فعلا أزعجني ما رأيت ورحت أتساءل ما الذي أخرجها من القسم ليلا ؟ وهل قضت ليلتها مع هذه الطالبة المتهمة من قبل حتى الطالبات بشرفها . كيف سمحت لنفسها أن ترافقها الى حدود المبيت ؟ هذه الأسئلة وغيرها أزدحمت في ذهني سببت لي صداعا وكآبة وأثقلتني بهمّ لا مناص منه ..وخطر ببالي فشلي في تجربتي الأولى حتى أعدت الكرة من جديد وعليه أنا أستحق هذا وأكثر لأنني لم أستفد من تجربتي السابقة . بعد انقضاء المحاضرة الأولى خرجت أتخطى في أروقة الجامعة ما ان رأتني حتى جاءت مسرعة استقبلتها ببرود وشرعت توضح لي موقفها من ضيافة الطالبة السيئة البارحة وانها ألحت عليها كثيرا حتى أخجلتها مما دفعها الاستجابة لطلبها وكانت برفقتها فلانة من طالبات القسم ، كانت وجبة عشاء ، لم تسمح لهما بالعودة الى القسم وقضتا الليلة معها .
ــــــ ( اجبتها بعدم مبالاة ) هذا رأيك وخير ما ترين، ثم أنت تقدرين أمور حياتك وتحددين وتقيمين طبيعة تلك العلاقات .
عظم عليّ أمرها ، وكان رأيي فيها انها خانت أمانة أهلها بتركها القسم الداخلي للبنات والمبيت في الخارج مهما كان السبب ، دعوة العشاء غير مقنعة لمبيتها لو قَبِلت وجبة الغداء لكان أفضل وأسلم لها عاقبة ..لم أقتنع بما قالته وقررت أن أقتل هذا الحب المبكر في روحي الظمأى حددت علاقتي بها حتى نهاية العام الدراسي ثم ذهب كل منا الى سبيله . ولم أرها بعد ذلك أبدا .
ـــــــ لم تكن عاشقا وانما كنت معجبا وانهدّ هذا الاعجاب عند أول موقف سلبي في نظرك ، في نظري ، كان بامكانك أن تقف على الحقيقة وتناقشها بجد وان لا تهمل وجهة نظرها وتصحح لها الخطأ وقد تستعين ببعض الطالبات ..أراك قد أخطأت في تقدير الموقف
ــــــــ ربما أخطأت في سرعة اتخاذ القرار،ولكن قراري كان بناءً على الرصيد الأخلاقي الذي أمتلكه ،نعم ، وضعت قدمي على العتبة الأولى من الاعجاب حتى شعرت اني أحبها فعلا ... لكنها ذهبت مع الريح ( قال جملته الأخيرة بحسرة ) ....
فتح باب الزنزانة، انقطع الحديث ، وخرجوا جميعا الى المغاسل برفقة الحارس الجندي

يتبـــــــــــــــــــــــــع






  رد مع اقتباس
/
قديم 21-08-2014, 11:04 AM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
محمد السويجت
عضو أكاديميّة الفينيق
افتراضي رد: جزء من رواية (رحلة الشك )

تابـــــــــــــــــــع

(5)

أدرك معاذ أن ما يفعله بعيد عن الصواب ، ويحمل في طياته متاعب ومخاطر جمة ، قد تؤثر مستقبلا على جسمه تأثيرا سلبيا، وأشدُّ ما يخشاه أن ينال من عقله فيغدو اضحوكة بين السجناء وما أكثر أولئك السذج البلهاء الذين يسعون الى تحويل السجين البسيط والفقير الى قرد وألعوبة يتفننون في الضحك عليه تصغيرا لشأنه واستهزاءً بشخصيته بحجة انهم بحاجة الى قضاء أوقات فراغهم الصعبة . ليس من المعقول أن يبقى على ما هو عليه من الانطواء والانكفاء على ذاته حزينا كئيبا لا يحدّث أحدا ولا يحدّثه أحدٌ . قد اتخذ من سريره مأوى و ملاذا ومن بطانيته طاقية اخفاء سحرية يغيب فيها عن أعين الناس متنقلاً من حاضره الى ماضيه يستقرئ مفرداته المرة كاشفاً عما بدر منه من أخطاء وهنات ...
ما حصل له بالتأكيد حصل ويحصل لآخرين أمثاله وليس هو الأول من أخطأ ، ألم يرد في المأثور " ان ابن آدم خطّاء " فعلام هذا الحزن اذن ؟ . نعم ، لا مجال لرأب الصدع ، فقد خسر كل شيء وذهب الزمن بحساباته ..... توقف قليلا مع ذاته محاولا اقناعها في اتخاذ قرار لمّا ينضج أن ينبذ الكآبة جانبا ويتعايش مع زملائه بما يخفف عنه ثقل المأساة .......
سرعان ما ارتسمت على مقلتيه سحابة الأمس بما حوته من آلام وأشجان حيث لم يجد القدرة في نفسه على اختراق الماضي ونبذه وطمسها من الذاكرة فما زالت ماثلة أمام عينيه بكل تجلياتها ملاحة وحسنا ورقة وعاطفة لا تفارق قامتها الميساء عينيه ولا تخفت نبرات صوتها الرخيم في أذنيه ...... عاد الى مخدعه واندس بين طيات بطانيته من جديد الى عالم تحطمت على جنباته أقفال زنزانته الحاقدة وذابت عنده الأسلاك الشائكة وذُرّ في عيون حراسه من الجنود غبار العمى فلم يعد يبصره أحد حينئذٍ حلق بأمان في عالمه الخاص يعاتب نفسه عما حدث ..... بالأمس كان يلهو ويلعب مع أبناء منطقته صبيا في الشوارع والأزقة ضاربا هذا معتديا على ذاك حتى تمكن من أن يتزعم جماعة منهم عُرفوا باسمه فيما بعد " جماعة معاذ " لم يسلم من شروره عصافير السماء فكم شكاه الجيران لأبيه ، كان يرمي بالحجارة شرفات المنازل والجدران وحتى أعمدة الكهرباء وأسلاكها اذا ما شاهد حمامة أو عصفورا واقفا هناك ، لا يدري أين تقع حجارته ، على آنية الجيران فتحطمها أو على رؤوس النسوة والأطفال والشيوخ فتشجها وتسيل دماؤها ، هو لا يعبأ بما يحدث ، وطالما ناله من أبيه ضرب مؤلم و شديد تعهد له عندها أن لا يعود لهذه الأعمال ولا يضرب عصفورا بحجارة ولكن ما أن يذهب الألم حتى ينكث عهده ويعود لما كان عليه من جديد ، لم يلتزم بعهد وميثاق اطلاقا منذ صباه ..... كان على هذه الحالة مشاكسا مشاغبا في الحي و المدرسة لا يرجى خيره . توفي والده وهو على العتبة الأخيرة في الدراسة المتوسط فأيقظ فيه مروءته ورسم لحياته طريقا آخر ، طريق الجد والمسؤولية حيث كان يعتمد في مصرفه اليومي على والده ، ليس بمقدور أخيه أن يعطيه ما كان يعطيه والده وأن يوفر له ما يحتاجه من متطلبات الدراسة وأمور حياتية أخرى ، مرتبه البسيط لا يسمح له بذلك ، وهو يحاول بشق الأنفس أن يديم حياته وحياة زوجته وأطفاله ،من هنا يجب على معاذ أن لا يُحمّل أخاه حملا ثقيلا ويرهق كاهله وان يتحمل هو مسؤولية أمه وأخواته .. ترك مقاعد الدراسة وبعد طلب أخيه عاد اليها شريطة أن يعمل في العطل وأوقات الفراغ على أن لا يؤثر على سير دراسته .
أعجب الحاج حسين عمل معاذ وكذلك جديته و اخلاصه وفكّر أن يجعله من معيته ويعلّمه أسرار مهنته وفنونها ويعدّه لأن يكون في المستقبل القريب سيد هذه المهنة ومن رجالاتها وفي الطراز الأول وسوف تدرُّ عليه مالا كثيرا ، كان الحاج حسين يخرج صباحا به وجماعته الى المسطر يبحث عن عمل هناك فاِن جاء من هو بحاجة الى عملهم واصطحبهم معه (مقاولا كان أو غيره) حمدوا الله وشكروه على نعمائه والا عادوا من حيث جاءوا صفر الأيدي يندبون حظهم العاثر .. ارتباط معاذ بمدرسته وحرصه على اكمال دراسته كان ذلك يزعج الحاج ويؤذيه ، هذا يعني ان مكانه سيكون شاغرا أو أن يحتله من هو أقل كفاءة منه وحرصاً ، وفي رأي استاذه الحاج حسين ان مستقبل معاذ في البناء وليس في المدرسة ، فقد أخذ من المدرسة ما يكفيه تعلم القراءة والكتابة وهو الآن قادر على قراءة المكتوب ( الرسالة ) وكتابتها دون أن يستعين بأحد،وهذا يكفي في رأيه ،فاذا طلب منه معاذ اجازة ليوم أو يومين لقراءة دروسه استعدادا للامتحان أرعد وأبرق وغضب عليه وكان يقول له(بسخرية ):-
ــــــــ مدرسة ، أبوك ، أخوك نفعتهم المدارس ، ابني المهنة المهنة ذهب ، هذه المهنة أفضل لك وتحصل منها على خير كثير ... خذ بنصيحة عمك حجي حسين ، اترك المدرسة .
ــــــــ استاذ ، على الأقل أحصل على الشهادة الاعدادية .
ــــــــ شهادة ، يا شهادة ورقة ترميها في بيتك ، ابني خذ كلامي ...والا تخسر
ــــــــ (يحدّث نفسه بصمت وحسرة ) صحيح يا حجي حسين ـــ الله يرحمك ويغفر لك ــــ انا الخاسر ، لو كنت أخذت كلامك ما حصل لي الذي حصل وبالتأكيد تغيرت مسيرة حياتي وأصبحت رجلا أخر يختلف عن معاذ تماما وان احتفظ باسمه فقط .
كان الحاج حسين جادا في تعليمه البناء ليخلق منه بناء ماهر ( أسطى ) ، وكثيرا ما يسمح له دون غيره من العمال أن يبني سافا ( سطر من الطابوق أو أكثر ) وكان يراقب بناءه ويصحح له اخطاءه ويرشده الى الاسلوب الأفضل وكان دائما يمنيه بمستقبل وادع يجني منه الكثير اذا التزم بهذه المهنة ......


يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــع






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:24 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط