يونس يهذي روحه ! - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)       :: مناصرة من خلايا مشاعري (آخر رد :غلام الله بن صالح)       :: رسالة إلى جيش العدوّ المقهور (آخر رد :نفيسة التريكي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 عَمّــــــــون ⋘

🌿 عَمّــــــــون ⋘ مكتبة الفينيق ...... لآل فينيق

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-05-2017, 05:50 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
د. نديم حسين

فينيق العام 2011
عضو تجمع أدباء الرسالة
يحمل وسام الأكاديميّة للابداع الادبي والعطاء
عضو لجان تحكيم مسابقات
شاعر/ شاعرة الوهج 2011 / شعر الرسالة /الومضة الشعرية / الومضة الحكائية
فلسطين

الصورة الرمزية د. نديم حسين

افتراضي يونس يهذي روحه !

يونسُ يهذي روحـَهُ !

د. نديم حسين
أول كتاب صدر في العام 1975

(هذيانٌ في حضرةِ الرُّوحِ ، وبَوحٌ على قارعةِ سيرةٍ ذاتيـَّةٍ )

ولَكَم دُعيتُ بأَمرِ سلطانِ الزمانِ إلى حِبالِ المشنـَقـَة !
متكـَرِّمـًا ومُكـَرَّمـًا ، وعلى قميصي زنبـَقـَة !
وتركتُ دعوتـَهُ على حـَبلِ الغروبِ مُعلـَّقـَة !
فبـِدايـَةً ،
لم تُغرِني أبدًا حبالُ المشنقـَة !!
ونهايـَةً ،
تجِدونني مترابِطـًا معَ مولِدي برُؤى البُزوغِ المـُسْبـَقـَة !!.


د. نديم حسين

( ا )
( بـِطاقَةُ هُويـَّةٍ )

يونس الجبليُّ هو مواطنٌ جبليٌّ صالِحٌ منذُ ولادتهِ الأولى . يعطشُ حـَدَّ الموتِ ولا يشربُ ماءَ وجههِ . يجوعُ ولا يطرحُ في المزادِ ملامحهُ ، لأنَّ أحدًا لا يملكُ ثمنـًا لعيونِ الصـَّقر !
يونسُ الجبليُّ هو مواطنٌ فيهِ غرابَةٌ مُفرطةٌ في عاديـَّتـِها . هو كل واحدٍ منـَّا حين يهـمُّ بروايةِ قصـَّة حياتـِهِ الخاصة في مضافةِ كينونتنا العامـَّةِ ، فتنثرهُ تفاصيلُها يمنـَةً ويسارًا دونَ أن تقـْطَعَ خيطَ حياتهِ ، وهو من " هنا " حتى غدٍ ما ، يدَّخرُ الوطنَ القابِعَ في " وقفِ التنفيذِ " لليومِ الأبيضَ . يدَّخرهُ في قريحتهِ ، ولا يملكُ " ميليشيا " قـَلـَميـَّةً مسلـَّحَةً تحمي ظَهرَهُ من خناجرِ الأوغادِ وأولادِ الحَرامِ والعاطلين عن الفِعلِ وعن الإبداعِ ، لكنهُ يملكُ ذاتَهُ الحَلال ، ويملكُ ما تملكُ الجبالُ . لا يروقُهُ أن يرى تاريخَهُ شحـَّادًا فاقِدًا للذِّراعِ ، يلوبُ من بابٍ لبابٍ مُستَعطِيـًا وارثيهِ ساعةً واحدةً من القراءةِ . ولا يُسعِدُهُ أن يرى جغرافيـَّتَهُ بائعةً متجوِّلـَةً تطرحُ للبيعِ جبالَها وسهولَها من أجلِ لقمةِ بقاء ! لم يـَغـِبْ يونسُ فيهما أو عنهما للحظةٍ واحدةٍ . قرأ تاريخه عُمرًا ، وقدَّمَ لجغرافيتهِ رغيفَ قلبهِ ، وراحَ يكـِشُّ الخنازيرَ البـرِّيـةَ والجـُوِيـَّةَ عن عنبِ روحهِ وعن عناقيدِ دمـِهِ . ومنذُ جيلَينِ وحبلِ سُرَّةٍ وذاكرةٍ يرافقُ هذا اليونسُ فجرَهُ النبيذِيَّ إلى أقبيةِ عمرِهِ ، لعله يكتُبُ صحوةً قَمـْحِيـَّةً ، ولعلـَّنا نقطفُ خِلسةً ، وعلى ضوءِ لياليهِ المـُقمرَةِ من بستانهِ اليَوميِّ خبزَ حزنهِ الدَّهريِّ !! فليغفِرْ يونسنا لنا جوعَ روحنا . وليغفِرْ لنا حرارةَ جسدهِ العاليةَ .. وهذيانَ روحِهِ !.

( ب )
( كلُّ ما تبقـَّى )

( 1 )

لستُ طامِعًا بمادَّةِ الأرضِ ، فهل أخرجُ للحظةٍ يتيمةٍ من كيميائِها ، من جزيئاتِ الجبالِ والسهولِ والتلالِ لأدخلَ في دهرِ العسل ؟ متطفِّلاً على النحلِ المقيمِ في سنـَّةِ الورودِ ؟ أنفجرُ إذا شئتُ مثلَ حديقةٍ موقوتةٍ تزخرُ بما يأتي في ساعةِ الصفرِ من شظايا الورودِ وعطرِ الشظايا ، وأذهبُ للحظةٍ واحدةٍ بعيدًا عن جغرافيَّةِ البلادِ ، أذهبُ إلى بلادِ القلبِ ، فأُدركُ أن أن دمي يكونُ أُحُدِيـًّا تارةً وتارةً بَدْريـًّا ، وعروقي أشبهُ ما تكونُ بالخنادقِ الأسطوانيةِ ، وأرى دمي يركضُ في الخنادقِ ، يتبعثرُ في طرقاتِ القلبِ يهوي أحيانًا من أعالي جبالِ جبهتي كماءِ شلال الشروقِ ، فيصيرَ قلبي شمسًا ، مطعونةً تنزفُ نورَها ، لا بأسَ ، لكنهُ يصيرُ شمسًا ! ويهوي دمي حينًا مضَرَّجـًا بحُمرتهِ إلى قلمي .. وفجأةً يكتظُّ بدني بالزمن الربيعيِّ الذي من شأنهِ أن يأتي لصباحي بعصافيرَ كثيرةٍ ، فيصيرُ بدني ويصيرُ دمي بحاجةٍ ماسَّةٍ لوسادةٍ ما .. لحلمٍ ما .. وربما لحلمِ يقظةٍ ما .. وكأن حلم يقظتي بحاجةٍ لطفلٍ يعدو خلفَ السنونو ، يطيرُ صوبَ الجنوبِ دومًا ، ويدمن الإقامةَ في الجنوبِ ، في جنوبِ أيِّ شيءٍ – الدفءُ والجنوبُ توأمانِ – أو يسير حافي القدمينِ في حقلِ سُكـَّرٍ وألغامٍ ، ويذهبُ مع أرجوحةِ القلبِ إيابًا وذهابًا ، ثمَّ يمضي إلى سِرِّي ولا يؤوب !!
إذًا ، ليسَ لي إلاَّ أن توسـِّدَ مرارةَ قلبي صخرةٌ في حقلِ سُكـَّر ، علني أسمعُ نبضيَ النعسانَ أكثَر !!
تقتربُ السماءُ مني ، تأتي إليَّ بمحضِ إرادتها ، تلتصقُ ببدني ، تتركُ في كفـِّي إيصالاً بصلواتٍ كثيرةٍ وتهمسُ المطر !
لا بأسَ عليكَ إذا أنتَ نمتَ قليلاً يا ولدي الوطن . يتكلم المطرُ بصمتٍ ، لعلهُ يتوغَّلُ أكثر في حكاياتِ الخُضرَةِ ليقولَ فيما يقولُ غدَ الورودِ والثـَّمَر . ويوقظك الربيعُ الآتي بضجيجِ عطرهِ ، وترسم الريحُ الربيعيةُ منطقَها بفرشاةِ الغصونِ وألوانِ العطورِ موقِظَةً من صيامِ المزهريةِ رمضانَها .. كاسِرةً زجاجةَ عطرٍ في حضنِ الأبتثيـَّةِ .. ( ويرى حلمُ يقظتي أن الأمطارَ تتوزَّعُ بالتساوي على الوديانِ والبحارِ والبخارِ ، كما تتوزعُ أحزانُ البلادِ بالتساوي على عَينـَيِّ طفلٍ صغير وحزين ! )
نَم قليلاً يا ولدي الوطن ، يكتظ بدني بأوجاعي ولم يعُد فيه مغزَّ إبرةٍ لوجعِ صحوةٍ أخرى . قل لي يا ولدي : هل يجلسُ قلبي المحـِبُّ ثقيلاً على صدرِ هذا العالَم الحاقد ؟ أيكون دمي نقيضًا للحمرة واسمًا آخرَ – مزوَّرًا – للبرقوقِ البـَريّ ؟ هل تجلبُ صحوتي كل هذا القَدْرِ من الشموسِ المفقوءَةِ والورودِ الذبيحةِ ؟
_ عفوكَ يا صديقي يا أبا الطيِّبِ ، عفوَكْ !
ربـِّيَ اللهُ . وكانَ! اللهُ يومَ أنْ صُغتَ العجائبَ ربـَّكْ !
فقُلْ حزني ، وكُنْ قلمي ، كما صغتُ في سالفِ الأزمانِ حُزنـَكْ !.


( 2 )

حسنًا ، في حفلة الرقصِ على الحبالِ هذه لا مكانَ لي . صغيرةٌ حلبةُ الرقصِ هذه ، والحالُ هذه ، صغيرةٌ على قدمـَيَّ . ويُشغِلُ الرقصُ الحواسَّ الخمس ، وأنا جاورتُ حبل سرتي تسعةَ أشهرٍ قمريةٍ ، وكان عليَّ أن أراقصَ ما تبقَّى من عمري حاسَّةً شمسيَّةً تُعرَفُ بالسادسةِ . ولكنني حين أيقنتُ أن هذا العالمَ بحرٌ أسودُ يبدأ ملوحتهُ من عتَبَةِ داري ، وأن ليلتي مقمِرَةٌ ، صممتُ على نهاري واقتنيتُ مدمِّرة ، وابتدأتُ إبحاري ألفَ مرةٍ ومرَّةٍ " من الآنَ فصاعِدًا " إلى شاطئٍ خلتُهُ ينتظرني !
قالوا : سمكُ القِرشِ أقوى !
قلتُ : بل ذراعيْ !
قالوا : حِلفُ الماءِ المالحِ والرياحِ العاتياتِ ..
قلتُ : بل شِراعيْ ..
وقلتُ : ضيـِّقٌ أفُقُ زنودكم وعقولكم !
قالوا : ربما ، لكن جيوبَنا تتسعُ لورقٍ أخضرَ كثيرٍ !
قلتُ : يتسعُ قلبي لخضرةٍ تخفقُ في أوراقِ أشجارِ بلادي كلها .. وتقطُرُ منـِّي .. ويتسعُ قلبي لجنونِ ربيعٍ آخرَ ، أمـَّا جيوبُكم فبحرٌ أسودُ يبدأ موجَهُ من عتبَةِ داري .. وتضيقُ شراييني من شدَّةِ ما أصرخُ ، وتتسعُ جيوبكم ! تؤجلونَ ذواتكم ، تؤجلونَ كل شيءٍ إلى الغـَدِ ! حتى الوطن تؤجلونهُ إلى الغدِ فتتسعُ جيوبكم للخضرةِ المؤقَّتةِ في الورق المؤقَّتِ !
لا بأسَ يا سيدي الربيع ، يمرُّ الخريفُ يوما ما على جيوبهم ، تغيِّرُ الفتوحاتُ الخارطةَ ، ولا تغيِّرُ الفتوحاتُ حدودَ وجهي !.
_ صديقي المطر ، ربُّكَ الواهبُ ربـِّيْ .
لكَ حُبـِّيْ ..
آخِرةُ البحارِ مّذهَبُك ،
وبدايةُ الترابِ مَذهـَبيْ !.

( 3 )

يميلُ العالَمُ للأصفرِ ، وتبقى الحدودُ خطوطَ حِدادٍ على الخارطة ، وتخرجُ العواصفُ من الاستعمالِ ، ولا يبقى لي إلاَّ أن أُنزِلَ وجهي إلى منتصَفِ صاريةِ العمرِ حِدادًا عليَّ !
نامي إذًا قليلاً يا جبالي ، نامي يا مُرهَقَةَ العلُوِّ ، يا مؤرِّقَتي . لم يبقَ في سهولِنا المحروقةِ سوى بضعِ وريداتٍ على فستانِ طفلةٍ يتيمةٍ .. ورجالُ الإطفاءِ انكَبـُّوا على إطفاءِ شهواتِ نسائهم ، وذهبَ الربيعُ في إجازةٍ مفتوحةٍ ، نامي إذًا كثيرًا يا جبالي !
هل هو رثاءُ الصحوةِ ؟ لا أعلَمُ . ولكني أعلمُ أن وطني المحروقَ يفيضُ عن رمادهِ نبوءاتِ عزاءٍ ، والعزاءُ هو القناعةُ القسريـَّةُ بالقليلِ . والتنازل التلقائيّ عن شيءٍ ما مُكتـَمِلٍ : الكثيرُ المشروعُ ، أو حلمُ يقظةٍ ما ! العزاءُ كلامْ !
_ ما رأيُ صاحبِ الجلالَةِ الحسامْ ؟
_ تُحـَوَّلُ أوراقُ هذا العالَمِ ( يقولُ الحسامُ الذي ضُبِطَ متلبـِّسًا بجريمةِ قتلي ) تُحَوَّلُ إلى مُفتي الجمهوريةِ !
يا إلهي ! أينامُ الحسامُ في قبضَةِ ملكٍ جمهوريٍّ ؟ إذًا توسـِّدُ مرارةَ قلبي صخرةٌ في حقلِ سُكـَّرْ !!
لكنني يا سيدي " الجُملُكيُّ " أخافُ أن يأخذَني الما بينَ بينَ ( وطنُ الزئبقِ ) ، فأكونُ قد فتحتُ في جدارِ بيتي للريحِ والكآبـَةِ المُقيمَةِ ، وبيديَّ ، بابـًا وعُذرَينْ !!
هل تُراني أضيعُ مثل رسالةٍ بلا عنوان ؟ لتتسلـَّمَني طرقٌ تتسعُ لخطـًى كثيرةٍ ، خطـًى تقصُرُ وتبتعدُ ، تبتعدُ وتصمتُ ، تصمتُ وتنطفئُ كجمرةٍ تسقطُ سهوًا في مياهِ بحرِ التيـْهِ ؟!
هل تراني أُدَجـَّنُ مثل الطرقاتِ الوعرةِ البريـَّةِ التي تُساقُ عنوةً إلى مناخِ الجبالِ ؟ بلادِ العلوِّ الموجِعِ القسريِّ ؟!
حسنًا ، لا يبقى لي إلاَّ أن ألـفَّ صوتي بحزنٍ مؤقَّتٍ ، لأُنزلـَهُ إلى منتصَفِ صاريةِ الحنجرةِ !
ثمـَّةَ عصفورٌ يُداوِمُ في صندوقِ ساعةِ الحائطِ ، في عـُشِّ نغمةِ " البَياتِ " . وثمـَّةَ عصفورٌ يُدلي على أغصانِ الشجرِ ببياناتِ نوتاتـِهِ ، ولم يتبقَّ لغابتي إلاَّ الانسحابُ المؤقتُ إلى شريعتِها !.
إذًا أغنـِّيْ !
مـُدَّ لي يديكَ وأَعـِنـِّيْ !
أغني – لا أصرخُ ولا أموتُ تمامـًا – سأُغنـِّيْ !
إنَّ المـا بينَ بينَ ، شوارعٌ من ماءٍ وملحٍ وإسفَلتٍ ، أسوَدُ يبتدئُ سوادَهُ من عتباتِ داريْ !.

( 4 )

هل كُتِبَ عليَّ أن أكونَ كالمطَر ؟ وهو في العادةِ يروي قصَّة الهطولِ ، النزولِ إلى ترابِ الكرةِ الأرضيةِ الواطئِ ! ينزلُ ، والنزولُ هنا نزولٌ عندَ رغبةِ القدَر وهيبة الخضرةِ في عيدِ الشجر ، ينزلُ هذا التراكم القـَطـْريُّ العجيبُ في العادةِ لترتفعَ أشياءٌ أخرى .. هل كُتـِبَ عليَّ أن أشابهَ المطر ؟
ترتوي الأرضُ ، فتنمو حولَ قبري الزهورُ وتسرقُ الأشجارُ قامتي . أصيرُ ماءً ، أتبخرُ أو أتراكَمُ في أحسنِ الأحوالِ لأذهبَ في مهمةٍ قسريَّةٍ إلى البحرِ ، وأنا شخصيا أكرهُ البحرَ ، لأنني ببساطةٍ شديدةٍ مخلوقٌ جبـَليٌّ وُلـِدَ على سفحِ جبلٍ وضاجع التلالَ يوميا فأنجبَ الترابُ قامتَهُ – العـُلـُوَّ - ، هل كتبَ عليَّ أن أكونَ كالمطر ؟ لأنامَ بين صخرتينِ ، مساحةً مائيـَّةً ، مستنقعًا يلـُمُّ حولَهُ الباعوضَ والقصَب ، أو نبعـًا يأخذ وجههُ من عطشِ عابِرٍ ما في سبيلٍ ما ، نبعًا يظلُّ مُلقـًى على قارعةِ الطرقِ الوعريةِ مخَضـَّبا بخضرةِ العشبِ البَهيميِّ !
أم تُرى كُتـِبَ عليَّ أن أكونَ كالحجَر ؟! سليل حجرٍ وصخرةٍ ، والد النار الأولى – شرارة وجمرة – حفيد الحجر الأكبر ، فإمـَّا أن أستلقي بسكونٍ مفزعٍ في الظلِّ ، في القيظِ ، تحتَ الترابِ ، فوقَ القلبِ إلى الأبدِ ، أو أن يُلقى بي على حدودِ أيِّ شيءٍ – والحدودُ خطوطُ حدادٍ على الخارطةِ ، أو أن أُقذَفَ بأيِّ يدٍ على أيِّ يدٍ لأكونَ قابلةَ الجروح ؟!
لا ، لن أخلعَ روحي ولن أكون شيئـًا مباحًا للـَّمسِ العشوائيِّ . حسنًا ، عليكَ أن تشبِهَ شيئًا ما ، لتأخذَ صفاتِ شيءٍ ما ليكتملَ فيكَ " الأَحدٌ " ما !
وجذعُ الزيتونةِ طريقٌ معبـَّدٌ بتجاعيدهِ الخشنةِ وتُثقِلُ مساماتهِ طموحاتُ الثمارِ والأغصان المعرَّضَةِ لعِصـِيِّ الآدميينَ برِضاها ، ثمَّ يدَّعي الآدميونَ بكل ما فيهم من صفاقةٍ ونفاقٍ بأن وجعَ الزيتونِ مادةٌ قابلةٌ للتصديرِ ، وبخاصةٍ إذا لـُفـَّتْ بعنايةٍ تجاريةٍ بغلافٍ ملائمٍ ومزركشٍ من السلام !! إذًا ، شجرةٌ مضروبةٌ بشهوةِ الربحِ تصلحُ لأن تكونَ رمزًا للسلام !!
أمـَّا العشبُ يا سيدي ، حباكَ اللهُ من لدنهِ وإيـَّانا ، بقامةٍ مديدةٍ ، العشبُ يُهمـَلُ ، يؤكـَلُ أو يُبادُ !
ربما عشبٌ ينمو بين خطـَّي سكةِ الحديدِ الحجازيـَّةِ !
يا لها من فكرةٍ عجيبةٍ ، أيكونُ أكثرَ الأماكنِ أمانًا للعشبِ مكانٌ يقبَعُ بين فكـَّي سكة الحديد ، حتى لو كانت حجازيةً ؟ العشبُ يا صديقي قامتُهُ قصيرةٌ وجِمالُ الحجازِ جوعى ورقابُها طويلةٌ .. ولا تمـُرُّ القطاراتُ فوقَ سكة الحديد الحجازيةِ .. أمـَّا القنفذُ فيعيشُ تحتَ الخطى .. !
توقَّفْ يا يونس التعيسُ عن هذه الرحلةِ التي لا تصلُ بكَ إلاَّ إلى ذاتِكَ البخاريَّةِ ! تمـَنَّ أن يُلامسَ خدَّكَ لطيفُ ملاكٍ ، وأن تتزوجَ المرأةَ الأولى في الكهفِ الأوَّلِ ، وأن تلعبَ موتكَ حتى نهايةِ الشوطِ الثاني ، وأن تخرجَ إلى دروبٍ صُمـِّمـَتْ للرجوعِ فقط ، وهذا يكفيك !
حسنا ، حسنا ، إصغِ إليَّ قليلاً ، فلطالما أحببتُ أن أرفعَ بنفسي هوائيَّةَ مرناتي فوقَ سطحِ داري .. أتدري لماذا ؟ لأنني ، وببساطةٍ ماسَّةٍ ، كانت وما زالت بي حاجةٌ هي الأخرى ماسَّةٌ لأن أرفعَ شيئًا ما فوقَ سطحِ داري . هو جوعٌ وليسَ مجرَّدُ تمـَنٍّ . كان هاجسًا يتملَّكني الليلَ الطويلَ وينزوي في دهاليزِ روحي طوالَ النهارِ ، أن أرفعَ بيديَّ شيئًا ما ، يعبثُ بالرياحِ فوقَ سطحِ داري !
ضاعَ كلُّ شيءٍ إذًا !
لا. لم يضـِعْ شيءٌ ، فالجبالُ والتلالُ والسهول وأشجارُ السنديان والوديانُ جميعُها وقلبي ونُدبات البيارات ما زالتْ تتشبـَّثُ بوجهِ الخارطة !
تغيـِّرُ الفتوحاتُ لون الخارطة ولا تغيـِّرُ الفتوحاتُ وجهي !
إذًا ، تُصِرُّ على حيرتي ، فماذا يُقلِقُكَ ؟
أمتلكُ الخارطةَ وهي تمتلكني .. وليست لي سلطة بعدُ على الجغرافيا .
إذًا ، عليكَ بالتاريخِ !
أقرفُ ، عفوًا ، من التاريخِ لأنه يفقِدُ طزاجتَهُ حين يكون معلـَّبًا في الذاكرة . وهو بدون روحي وبدني المُعافين ، يصيرُ مجرَّدَ تبنٍ أبجديٍّ يلتهمهُ زندٌ حيوانيٌّ فقط . وإني لتاركهُ للذين يدبُّون على اثنتين من بعضِ البشر . ثمَّ إنَّ ولائي يكونُ لأَحفادي ولا يكونُ كلُّهُ لأجدادي !.
وأين ترى بدنك وروحك المعافَين ؟
في الخارطة . وهذا ما يُقلقُني !
حسنًا ، تزورُني الأَرضُ بين نغصةٍ وأُخرى ، نحيا قليلاً ثُمَّ نفترقُ كثيرًا .
وماذا بَعدُ ؟
لا شيء. قبلَ موتي بصرخةِ ولادةٍ واحدةٍ ، جاءت الأرضُ لتزورني كعادتها ، وكنتُ جائعًا فأَكلتُها !..

(5)

أَمـَّا أنتَ يا ولدي الوطن ، لا ترتعش بردًا أو خوفًا أو جوعًا ! أكونُ إذا شئتَ بُردتَك . وأكونُ سيفَكَ . وأكونُ إذا ما شئتَ قمحَكَ . سأفرشُ لكَ حضنًا صغيرًا في حلقِ أسَدٍ إذا ضاقَت بفراشكَ البلَد !
وفي الزاويةِ القائمةِ بيني وبينكَ أعيشُ قريرًا ، أشحذُ عمري على زاويةٍ حادَّةٍ ، لعلَّها تنفرِجُ . وأنادي خديجةَ :قومي خديجةُ ، قومي إلـَيّ !
يشُدُّ شذا راحتَيكِ يدَيّ !
عساهُما أن تُرجِعاني إليّ ! .
ولكنْ ، هل يأتي قبلَ أن يهبِطَ الظلامُ وجهُكِ ؟
على أية حالٍ ، أقايضُ موتي بصوتي ، لعلَّ رياحًا جديدةً تأتي مع الكانونينِ ، لتحمِلَ إليَّ مطرًا من شتاءٍ آخرَ ، لعلني أصيرُ للربيعِ سابِقَةً فيأتي شَرعًا ! وأخيطُ بدلةً قُماشُها من شراعِ سفينةٍ للقراصنةِ تحطَّمت منذُ قرونٍ على شواطئِ " عكـَّا " .. . ألبسُ البدلةَ عسى أن تبحرَ في شوقِ عرسي " عكـَّا " ..
هل تتزوَّجُ مدينةً ؟
رفضتْ وجهي كل الإناثِ ، فنمتُ فوقَ المقاعدِ العامَّةِ كلها ، في الحدائقِ العامةِ كلها ، تحتَ نيرِ العهودِ " الميمونةِ " كلها .. والليلُ الأَعمى يحميني ، عسى أن تأخذَ " عكـَّا " بيَدي لأغنـِّي !

( 6 )

حينَ نغنـِّي لا يتبقـَّى لدينا وقتٌ للجوعِ . وأنا عندما أغنـِّي تصبحُ عينايَ أكثرَ صفاءً ، ونظري أشدَّ حـِدَّةً . وأعلـِّقُ حنيني على كل الشجر المتاحِ في بلادِ عـكـَّا !
- وتوغـِلُ في التساؤُلِ : وماذا بعدُ ؟
- خـُذ ، بـَعدُ ، كل أوراقي واترُك لي نسخةً واحدةً عن حياتي .
- جاءَ الخريفُ !
- أهلاً بك يا سيدي الخريف . خُذ كل أوراقي وليكـُن من بَعدِكَ الشتاءُ والرياحُ التي تجبي من قامتي العـُشبيـَّةِ ، وبنـَهـَمٍ فريضةَ الانحناء . ونحن يا سيدي تشرينْ ، نأكلُ واقفينْ ، لا كراسي لدينا ، ولا مصطبةٌ لدينا تحملُ الكراسي ، ولا وطنٌ لدينا يهبُنا مصطبةً ! نؤجـِّلُ الوطنَ إلى الغـَدِ دائما ، فتتـَّسِعُ جيوبُنا للخضرةِ المؤقـَّتةِ في الورقِ الزائـِلِ ..
- يا سيدي تشرينْ ، نموتُ جالسينْ ، لأننا لا نملِكُ دافـِعًا قويـًّا – حتى الآن – للانتصابْ !!
- حسنـًا ، لكل قاعدةٍ استثناءٌ كما تعلَمُ ، تنتصبُ ذاكرتُنا في برهةِ المضاجَعةِ ، لكننا نموتُ جالسينْ !!.

( 7 )

- أنا البِنتُ " عـَكـَّا " ، هل تذكُرني ؟
- مدينةٌ لم أنـَم فيها ، لم أضاجـِع صحوتـَها ، لم أتسكـَّع في أزقـَّتِها ، لا أذكرُ اسمَها !
- ولكنني قريبةٌ !
- أنتِ قريبةٌ مني كـُلَّ البـُعدِ عنـِّي . أنتِ تتنفـَّسينَ على مرمى أملٍ ويقظةٍ وحـُلمِ يقظةٍ .. تتكلـَّمينَ أحيانـًا في منامي ، وتصمُتينَ كثيرًا في صَحوتي ، وأحيانـًا تُشاطرينـَني مِقعَدي في حافـِلـَةِ الركـَّابِ المسافرةِ منكِ إلى " حيفا " ، وأُقسـِمُ أني أحبـُّكِ من " حيفا " حتى المَشيب ، وأعودُ إلى بيتي وحيدًا ، معذَّبـًا عندَ المغيب ، أطردُ العناكبَ المستوطنـَةَ في فتحاتِ نايي القديمِ ، لعلـَّني أعزِفُ أو أُغنـِّي .. أسعِفيني " عكـَّا " بيديكِ لأُغنـِّي !

( 8 )

حبيبَتي " عسقـَلانْ " ،
تحيةً جبليـَّةً وبـَعد ،
أعترفُ دائـِمـًا ، " من الآنَ فصاعِدًا " بأنني فتـًى جبلـيٌّ ، وبأنني أكرهُ ذلكَ المخلوقَ العجيبَ جارَكِ – أكرهُ البَحرَ ، فلقَد أمسكتُ بهِ متلبـِّسـًا بتسرُّبـِهِ إلى قطعةِ الأرضِ الوحيدةِ التي أمتلكُها ، وإلى أزقـَّةِ بلدتي الوحيدةِ التي تمتلـِكـُني ، وإلى جـَيبي ومـَعـِدَةِ طفلتي ، مصوِّبـًا زرقاوَيهِ نحوَ دمي ، فخُذيهِ عنـِّي !
معذِرةً إذا كنتُ قد أزعجتـُكِ في هذهِ الساعةِ المتأخـِّرَةِ من الزُّرقـَةِ !

( 9 )
سقطَ الوطنُ مَغشـِيـًّا عليهِ بنوبةِ قلبٍ ، يا غرفةَ الإنعاشِ يا قلبي الحزين !
وأراهُ يذوبُ بعدَ سقوطهِ كالثلجِ لتسكنَ غابةٌ بكل تفاصيلِها في قلب هذا العالم ، ولتسكن عاصفةٌ ما !
يا ولدي ! يا وطني ! سألعبُ الدورَ الرئيسيَّ في مسرحيةِ حلـمكَ ، وأرسمُ ملامحكَ المشـِعـَّةَ على سـَوادِ ظـِلـِّي ، والشمسُ قويـَّةٌ .. أمـَّا أنتَ ، فقد سقطتَ مضرَّجـًا بدمي ، وأخذتَ تذوبُ كالثلجِ ، عساكَ أن تكونَ لمرةٍ أخرى – للمرة الأخيرةِ – ملكوت أرضٍ آمنتْ بك ! يا بلدَ التلالِ الكنعانيةِ .. ووجهي .. والبحيرة !
حسنـًا ، أنا زرعتُ الأشتالَ السامـَّةَ بكلتا يديَّ ونضجت سمومـُها حتى أضحت غابةً بكل تفاصيلها ، وحينَ كبـُرتُ ، تجوَّلتُ فيها ، فتـُهتُ فيها ، ولكنني زرعتُ الأشتالَ بكلتا يديَّ ، وابتدأتُ رحلتي .. وأنا بحاجةٍ لنهايةٍ ما ، وأفضـِّلُها سعيدةً !.

( 10 )

طفلٌ وطنـيٌّ مثل كل الأوطانِ ، يبحثُ عن والديهِ ، طفلٌ ابنُ دميتهِ ، ابنُ شيخوخةِ لبورقِ الملوَّنِ ، حفيدُ مخابئـِهِ الكثيرةِ العتيقة . طفلٌ " وطني " ، يبحثُ في حزني عنـِّي ، يبحثُ عن حلـمٍ ما ، ويقظتي تغـطُّ في نومٍ عميق !
( بحثت الشرطةُ عن طفلٍ تائِهٍ في الحديقة العامَّةِ ، فتعثـَّرَت بجثـَّتَي عاشقينِ وورد كثيرٍ وشظايا حلمٍ كسيرْ ) .
حسنا ، يؤجـِّلُ ذلك الطفلُ عالَمَه المـُقبـِلَ ، يخططُ لرجولتهِ بدقـَّةٍ ، وينتظرُ والدَهُ الوطن طويلاً على مفتـَرَق الارتعاشِ خوفـًا والموتِ شوقـًا إليهِ !
هو طفلٌ يجلسُ على مفترَقِ طرقٍ مـأ ويغنـِّيْ :
أحلـُمُ ،
أصمـِّمُ على حـُلـُمي
وأكونُ حينَ تضعـَفونَ ،
أقوى من الإنسِ ،
من الجـِنِّ ..
ومـِنـِّيْ !
لا وقتَ للجوعِ حينَ نغنـِّيْ !!

( 11 )

قليلٌ من دمي يكفي لأخجلَ من فمي إذا انسحبتْ ملامحُهُ إلى دربِ الرياح..
قليلٌ من شفـَتـَيَّ ،
وماءِ وجهي ،
وعـُشبِ روحي ،
يكفي لكي لا تخرُجَ أغنامي على كـلأ البلاد !!

( 12 )

لـَكِ القـُطبانِ !
بينهـُما حـَلٌّ وسـَط .. وجـهٌ وسـَط ..
ليس في الحـَمـْلِ حـلٌّ وسط ، حملت بك الجبالُ تسعةُ أشهـُرٍ ، فكانت هامـَتـُك !
ليس في الموتِ حـلٌّ وسط .. ثكلتكَ ساحاتُ البلادِ ، ثكلتْ معصـَمـَك !
ليس في الصـَّوابِ حل وسط .. إلاَّ جنونُ رُشدك ، فهاتِ أَبعادَكَ ، عـُدَّها واقرأها ثُلاثـًا :
طولـُكَ عمقُ البِحارِ ملتـَصـِقٌ بما تروي الجبالْ ..
عرضـُكَ رقعـَةٌ ممنوعـَةٌ ، لا تـُكسـَرُ ، لا تـُفرَشُ إلاّ على مصطبةٍ بدارَةِ الحـَلالْ ..
عـُمقـُكَ –
في الحـَملِ عـُمقٌ !
في الموتِ عـُمقٌ !
وفي الصـَّوابِ عـُمقٌ !
خـُذْ إذًا أبعادَكَ انشـُرها على حبـْلِ المـُحالْ !.

( 13 )

حسنـًا ، لستُ طبـَّالاً ولهذا لا يصلـُحُ جـِلدُ وجهي وجهـًا لدَفّ !
ولستُ غزالاً ولهذا أمـُدُّ يدي ببـُطءٍ ، أجمـَعُ ما تيسـَّرَ من أشلاءِ يقظـَةَ حـُلمي ، أطفو على سطحِ ماءِ ليلتي الحزينةِ ، وقاعُ البحرِ يطفو على سطحِ ماءِ وجهي ، فأعشقُ الجبالَ وأثـَمـِّنُ عاليـًا علوَّها !
وقليلٌ من ماءِ وجهي وعشبِ روحي يكفي لكي يتخثـَّرَ المفتاحُ في ثـَقبِ بابي ، فلا أغادرُ حوشَ داري ، حتى لو نامَ قريرًا على ساعـِدِ البـَردِ في حوشِ داري شبابي !
ولكن ساعةَ يدي تنزفُ وقتـًا كثيرًا ، وتسطعُ النجومُ كعيني ذئبٍ جائعٍ في وحشةِ ليلي ، وتجدُني ، من الآنَ فصاعدًا ، أعيشُ بين أصابع المصائبِ ... أحصيها ، ولو إلى حين ، وأنقـَعُ قلبي في مرارةٍ مركـَّزَةٍ وأُلقي بسـِري إلى أعماقِ بئري الصامتةِ .. ( أخافُ قلبي لأنه يثرثرُ نبضـَهُ ) .. وأبتلعُ من شدَّةِ الـدُّوارِ ووجعِ الرأسِ أيامي كأقراصِ " الأسبيرينْ " ، ويتواطأُ حوشُ بيتي معي ، فتراهُ حزينـًا ، كئيبـًا .. وتكادُ تلمسُ نشيجـَهُ !
بالمناسبة ، هل أخبرتـُكَ يا " زيدُ " بأن أمي انتقلتْ إلى جوارِ ربـِّها وتركت قلبي وحيدًا ، وتركت طفلتي وحيدةً ؟!
قولي ، حلـَّفتـُكِ أمـَّاهُ ،
بربِّ معابـِدِ القُدسِ ،
أما رحيلـُكِ قسوةٌ ،
في ليلةِ العُرسِ ؟!
وكنتُ قد قررتُ الزواجَ من المرأة الأولى ، في الكهفِ الأولِ ، لكي تفرحَ أمي ، ولكي أفرح حين أرى مداعبتَها لأطفالي ، فأجلسُ في ركنٍ قـَصـِيٍّ من بيتنا – بيتها القديمِ – لأُعيدَ لها شبابَها ، ولأَستعيدَ طفولتي .
إذًا هيـَّا قومي لنبني حائطـًا وحديقتينِ ومئذَنةً ، قومي لنـُطلـِقَ اسمـَنا على رأسِ الزمانِ !
لكن أمي انتقلت إلى جوارِ ربها وتركت طفلتي وحيدةً .. ورُغمَ كل شيءٍ يا ولدي الوطن ، رغم كل شيءٍ ، ترنيمةً تبقى البلادُ فوقَ مَهدي ، وخطوةً عائدةً لتوِّها من مـَوعِدِ الشـَّهدِ .. مع الجموعِ العائدهْ .. لأظلَّ أحبُّ البلادَ ولو كانت مـُكـَفـِّنتي ولـَحديْ .. ويظلُّ وجهي فوقَ شـَذا ثراها ، يظلُّ أنصـَعَ شاهدٍ على نبوءةِ شاهِدَةْ !

( 14 )

ظـَهرُ الجبلِ مـُنحَنٍ .. وظـَهري .
ثقيلٌ هذا العلوُّ ثقيل ، فإمـَّا أن تبتعدَ عنهُ وإمـَّا أن تسقطَ عنهُ . وبالمناسبة ، ثـِقْ بأن من يجاوِرُ الجبالَ ، فإمـَّا أن يتقمـَّصَ قاماتِها ، وإمـَّا أن يجازفَ بانهيار علوِّها على رأسه ! وفي الحالاتِ كلها ، فإنـَّهُ يسبحُ في لانهائيـَّةٍ زرقاءَ ، وأنت تكرهُ البحرَ ، أو تنحني لتقبـِّلَ ظلـَّكَ الأسودَ ، فيصبح رأسُكَ وما في رأسِكَ في مستوى غبارِ الطرقاتِ التي يجوسُها رعاةُ المواشي والمواشي ، وتسقطُ أجنحةُ الفراشاتِ محتجـَّةً عن كاهـِلِ الربيع ، فيفقِدُ الربيعُ ذاكرةَ الخرير واللون وينكمشُ داخلَ فـُلـَّةٍ مؤقـَّتةٍ ويستسلمُ للرمادي القادمِ ، فيركض الربيع حافيَ القدمينِ في مسارب القلبِ الوعريـَّةِ أو في حقلِ سـُكـَّرٍ وألغامٍ ، ليغسلَ الشتاءُ خطاهُ ، فتبيـَضُّ وتسوَدُّ خارطةُ فصولك !.

يتبع ...






 
/
قديم 10-11-2017, 09:32 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
د. نديم حسين

فينيق العام 2011
عضو تجمع أدباء الرسالة
يحمل وسام الأكاديميّة للابداع الادبي والعطاء
عضو لجان تحكيم مسابقات
شاعر/ شاعرة الوهج 2011 / شعر الرسالة /الومضة الشعرية / الومضة الحكائية
فلسطين

الصورة الرمزية د. نديم حسين

افتراضي رد: يونس يهذي روحه !

( 15 )

حسنًا ، يتفتـَّتُ الربيعُ في طريق عودته إلى أولى الوردتين وثالث العذابين القديمين !
يتفتت الصخرُ سائرًا في طريق الرمال ، تتفتت يدايَ في طريق عودتهما القاتلة إلى النصلِ المغروسِ في ظهر بلادي .. أتفتـَّتُ !!.
خلفَ الجبالِ تنامُ المعاركُ ، خلف التلالِ تنامُ الوهادُ . خلف الأشعة تمشي ما تلدُ الأشعةُ من ظلال .. وخلفي تسيرُ ثمارُ صيفي .. وسيفي .. أتفتتُ !!
- أتراكَ ترحلُ ؟
- نعم ، أرحلُ عن زماني وأرحلُ في مكاني . وإن كنتُ قد أضعتُ غدي لفترة وجيزةٍ ، فذلك لأنني ألفيتُ عينيكِ أمسينِ جميلين ..
- لا بأس عليَّ وعليكِ . أرجعُ أمسينِ إلى الوراءِ لكي أتقدَّمَ غدًا واحدًا إلى الأَمام ْ .. والسـَّلامْ !!.

( 16 )
ها أنذا ألصق طابعا بريديا يحمل وجهك على رسالة جبهتي ، يركلني زماني وحنيني إليك إلى جوف صندوق البريد ، ولذا فإني أقف أمامك الآن بكامل قامتي ..
لقد أوجعني ختم موظف البريد – حزني – ترك شيئا على جبهتي أشبه ما يكون بزبيبة الصلاة .. وتقاضى أجره كاملاً ! وصول بدني إليك عـدًّا ونقدًا .. وحبا !.

( 17 )
تقولُ بدايةُ الطريقِ : مرَّ من هنا !
ويقولُ منتصَفُ الطريقِ : ومن هنا مرَّ !
وآخر الطريقِ يقولُ : لم يصـِل بعدُ !.
أمـَّا امتدادُ الطريقِ فيقولُ : يمرُّ الزمنُ بسرعةٍ وتتباطأُ خطواتهُ حـدَّ النفاذِ ... الانطفاء !.
( 18 )
_ ماذا حدثَ هنا ؟
_ لا شيء . كنا بشرًا ، ونحن اليومَ بشرٌ . كنا بذرةً عذراءَ تزوجها الشتاءُ وأخذها من يدها وقادها إلى زفافِ الثمر . ونحن اليوم بذرة عذراءَ تنتظر الشتاء !
كنا شعبًا لا يؤمِنُ بالخرافةِ .. ينقصنا اليومَ إذًا سيفُ الخلافة .. وشيءٌ من النظافة !!
كانت جرَّتـُنا كبيرةَ السن حكيمة ، ماؤها من زمزم .. كثُرت آبارُ نفطنا فصرنا نشرب الويسكي ، لم يتبقَّ في جرتنا ماءٌ ، ربما خرج الماء إلى التقاعدِ .. من الاستعمال .. أو حرمتهُ القوانين .. والضيوفُ كثرٌ .. عمـَّا قريبٍ نصيرُ صغارًا ، نلهو بأباريقِ النفط الصغيرةِ ، ونشرب الويسكي " السادَةْ " من أقداح صغيرة ، ويصيرُ حلمنا كبيرًا على وسادتنا ، لكن زمزم لم تفطم عطاشَها بعدُ .. وذات يومٍ سيرجعُ المطر كمن فاتهُ أن يلخـِّصَ الشتاء ، يطلب حقَّ الكلام في جلسة طارئة للجامعة العربية ، لا يُعطى حق الكلام ، يلمُّ قطراته ويمضي في طريقه إلى البحر .. وأنا أكرهُ البحرَ كثيرًا !!
_ هل تفهمينني الآن أكثر ؟
هجرتُكِ في الزمان تاركـًا عينـيَّ خلفي ، تحـدِّقانِ اعتذارًا في وجهكِ المتدفقِ إلى البحرِ _ بحركِ _ وأنا أكرهُ البحر !!.







 
/
قديم 18-12-2021, 10:48 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
د. نديم حسين

فينيق العام 2011
عضو تجمع أدباء الرسالة
يحمل وسام الأكاديميّة للابداع الادبي والعطاء
عضو لجان تحكيم مسابقات
شاعر/ شاعرة الوهج 2011 / شعر الرسالة /الومضة الشعرية / الومضة الحكائية
فلسطين

الصورة الرمزية د. نديم حسين

افتراضي رد: يونس يهذي روحه !

( 19 )

اكتمل شحوب الصحراء وما عاد يكفيني يومان أخضران آخران .. ولوعةُ الزعفران . لذا تجدينني حزينا ، ويصيِّرني الحزن عاشقا لفرحكِ ، أيتها المُفارَقَة الجميلة البديهية .
- لماذا يكون عليكَ دائما أن تحزنَ لتحبّ ؟
ألا يكون من حقكَ أن تحبَّ لتُحبّ ؟ أو أن تحب لتفرح ؟!
- لست أدري ، وحبي مرتفعٌ إلى منتَصَف صاريةِ قلبي . أتدري ؟ أدركُ أحيانا بأني قد خُدعتُ ، أجل خُدعتُ وقبلي أدركتْ ذلك يمامةٌ عششتْ في ثقبٍ فتحتهُ قذيفةٌ في جدار غرفة نومي . ولكني لم أُقتل بعدُ .. والدليل على ذلك هو هذا التكدُّسُ المخيفُ لأعقاب السجائر في منفضتي ، وأحاديث ليلة البارحة على طاولة صُبحي ، وتكدُّس الهديلِ في أروقة قلبي النازف !! إذًا ، فأنا لم أُقتل بعدُ والسلام !.
- ما رأي صاحب الجلالة الحُسام ؟
ذات مرةٍ أفقتُ منكِ نظرتُ حولي ، فرأيتُ قليلاً من سماء ، وخياما حادَّةً لونها رماديّ وتُشيرُ بقمتها إلى الكثيرِ من السماء !
- إذًا ، لم يعـُد قاتلي إلى مكان الجريمة لأنه لم يُبارحهُ بعد !!.

( 20 )

أملٌ واحدٌ وألف مصيبةٍ ، فهل تُراهُ يصمدُ الأمل ؟ ورحلةُ الألفِ ضَياعٍ تبدأُ بحقيبة .. وأملٌ برئـَةٍ واحدةٍ وحقيقةٍ واحدةٍ :
كل ما يصيرُ في غدٍ صخرًا ما زالَ طريـَّا .
كل من يصيرُ في غدٍ رجلاً ما زال فتيـّا .
كل ما يصيرُ في غدٍ إرادةً ، ما زالَ بكاءً هادئًا فوق الوِسادة .
كل ما يصيرُ في غدٍ صرخةَ أُمـَّةٍ ، ما زالَ همسًا يليقُ برهبةِ العبادة .
أما أنا ، فأُناوِبُ كل ليلةٍ على شرفة هذا الوطنِ الهلاميِّ ، تحتَ القمرِ المناوبِ ، فوقَ ليلِ الشارع المناوب ، وحين تكثُرُ الغيومُ وتهدأ الرياحُ ، أنامُ ملءَ جفنَيَّ ، فتندفعُ إلى ظَهري الرماحُ ، فأصرخ بشدَّةٍ يا ولدي الوطن! لأنهُ إذا ما عطِشَ الصدى ، نضبَ ماءُ الصمتِ وبقيتْ في الوادي حجارةٌ كثيرةٌ .. وجثَّتي ، أو رايتي والحجرْ !!


( 21 )

تكونُ النكبةُ ، أية نكبةٍ ، قبلَ النكبةِ بثانيةٍ واحدةٍ مجرَّدَ تراكُمٍ أبجديٍّ مقيت .
وبعد النكبةِ ، أية نكبةٍ ، بثانية واحدة تصبح النكبة اكتظاظ لحمٍ بشريٍّ وحزنٍ بشري وكوابيس بشرية ، يُلقي بثقـَلهِ على صدرِ نومي .
كنتُ قبلَ النكبةِ - نكبتي بمن حولي ، بثانية واحدة مجرد مولودٍ آخرَ وزغرودةٍ أخرى : " جاءنا اليوم صبيّ " . وبعدَ النكبةِ - نكبتي بآكليْ لحمي وسُمعتي ، بثانية واحدة ، صرتُ أعرف شمال أوروبا جيدا ، وأعرف أن النكبةَ ، وهي اندلاقُ نكبة غيري على مُضارعي ، هي أنثى الضباب الذي يلفُّ خارطتي ويلف بدني وروحي المُعافاة .
إذًا ، ألبسُ بحذرٍ شديدٍ زماني وأنهضُ مبكرا لأسافر إلى حيفا . وكنتُ قد طلبتُها للزواج ، فوافقت ولم يوافق ذووها . وكانت تستلقي كل يوم على سفوح الكرمل ، كفلاّحةٍ كرمليـَّةٍ ، تغمس قدميها الصغيرتين في ماء بحر مالحٍ ، يعلـِّقُ ماءه المالحَ على ضفيرتيها . وذات مرةٍ حاول البحر أن يشربَها ، فمات عطشًا .. ومنذ ذلك الحين تُلهِبُ ظهرَ حيفا صخوره الحادةِ كألسنة اللهبِ .. تُلهبه بألوان الربيع كلها !!
لقد أقضَّ مضجعَ هذا المخلوق الأزرق اللئيم منظرُ برتقالةٍ تقعُ على خطِّ العرض 48 ، وهي تجالسُ شابـًّا في الثلاثين من عمره على شرفة العالَم ، تبحثُ معهُ المساءَ ، وتلخـِّصُ الظهيرةَ !!.

( 22 )

أيها الكرملُ ،
أيها النتوءُ الثديـِيُّ من قميص نوم حيفا ، وكأن الشاطئَ يُشيرُ بإصبع اتهامٍ ما نحو عالـَمٍ ما ، ولا يكون العالَم بالضرورة خارجَ حدودٍ بعينِها ، لأنه يقبعُ أحيانًا حزينًا وبائسًا ومُظلِمًا في حدودِ حيفا !
إذًا ، تُرسلُ جغرافيةُ البلادِ نهدَ حيفا إصبعَ اتهامٍ ما .. وتظلُّ حيفا قلعةً ما .. وتكونُ القلاع في العادةِ موحشةً ، باردةً ، تتربَّعُ على عرش ما تـلِدُ من تداعياتٍ ، ثُلاثية الظلام والوحدةِ والقصص التي تأتي من الماضي ، عن غائبٍ أو غائبٍ حاضرٍ . أمـّا في هذه الأيام التي يأكلُ الناسُ فيها بعضهم بعضا بالسكين والشوكةِ والمِلعقةِ ، وفي مكانٍ أقرب من مرمى النبالِ وكُراتِ الحديدِ التي اعتادت على قذفِها المدافعُ القديمةُ البطيئةُ الخَرِفة ، في هذه الأيام تصبحُ حيفا قلعةً مفتوحةً على ثُلاثية النُورِ والضجيجِ وحكاياتِ الحاضرِ الحاضر ، فيوجِّه العالـَمُ _ هذا العالـَمُ ، إلى صدرها العاري نبالَهُ وقذائفَ لافـَتِهِ البَحريـَّةِ .
يكرهُ هذا العالـَمُ الشيخوخةَ ، يكره شيخوختهُ ، ولذا فإنك تراهُ يمارسُ لعبةَ الحربِ ، فلعلهُ يموتُ في عـزِّ شبابهِ !
إذًا ، تخرج القلاعُ من نبالِها وأسوارها إلى ساحةٍ يحتفل العالـَمُ فيها بعيدِ ميلادهِ ، معلـِّقًا على شجرة عيد ميلادهِ مصابيح ملوَّنة ، ذريـَّةً . وينزل المهاجمون والمدافعون في فنادق من فئـةِ الخمسةِ نجومٍ والتي تلوذُ بأكتافِ الجنرالات . ولا تبعُدُ الخناجرُ عن صدور الأعداءِ سوى بُعدِ صدور الأعداء عن أكـُفِّ زملائهم الأعداء الجالسين قِبالتهم في حفلة " كوكتيل " الخناجرِ هذه . فما هي حاجتهم إذًا إلى أسوار القلاع التي تصعـِّبُ وتعقـِّدُ لعبة الموت ؟! حيفا قلعةٌ لم تعُد بها حاجةٌ لأسوارها .. خلعتْ كل أسرارها وذهبت لتستحمَّ في البحر القريب ... البعيد !
حيفا قلعةٌ صاخبةٌ وعاريةٌ !
والقلاعُ ، يا حماك الله من شرِّ القاعِ ، توحي بالأسرارِ ، ولكنْ ، ما هي حاجتُنا اليومَ للسريـَّةِ ما دامَ أجملُ الموتِ أوضَحـُهُ ؟ أمّا أرواحُ القتلى وأشباحهم فهي عطرُ القلاع .. وحيفا قلعةُ الورودِ الحصينة !
حسنًا ، سأنسى للحظةٍ واحدةٍ أحلام الوهادِ ، لتُوسـِّدَ رأسي قمةُ جبلٍ عالٍ وحكيمٍ _ ربما أسمّيهِ كرمِلاً _ حيثُ أنامُ ويكون ليلي هادئًا وطويلاً مثلَ حنينٍ موجِعٍ . وبقدرِ ما أُدركُ أن الخريفَ هو مقبرةُ الألوانِ ، يشتدُّ حبّي للربيع . وحين يقتربُ السيدُ أيلول بخطاهِ الثقيلةِ من أقحوانتي ، تترقرقُ عينايَ بالخوفِ فتذرِفُ ارتعاشًا ، لأنني أتذكَّرُ فجأةً أنه في الصيفِ الماضي نامَ شابٌّ ما على سريرٍ أبيضَ ونام آخَرُ على حدود النارِ ونامَ ثالِثٌ في إطارٍ أسوَدَ وواحدٌ رابِعٌ سيولدُ ميتًا في آخر اجتهتداتِ الشمس ، في الصيفِ القادمِ الأخيرِ ، ويقولُ الصيفُ : كل صيفٍ وأنتم ميتون ! وتظل حيفا قلعةً ما ، بُردتُها الميناءُ _ تعرَّتْ من أسوارِها ونبالِها ، ونزلاؤها جميعًا من النوارسِ .
هل النورَسُ طائرٌ مُهاجرٌ ؟!
_ لا أعلَمُ الكثيرَ عن الطيور ، أمّا ما أعرفهُ حقَّ المعرفةِ فهو كراهيةُ الطيور للأقفاصِ . إلاّ إذا كان القفصُ فضاءَ الكَونِ كلـِّهِ ! ، فيُصبح مقبولاً لكون الخروجِ منهُ أو عليهِ خروجًا على السماءِ ، وليس صُدفة أن يكون رداءُ السجناءِ مخطـَّطًا ، وكأنما أسوارُ السجن باتت لا تكفي ، فيرسم السجّانُ قفصًا من الألوانِ على ثيابٍ تزاولُ بدنَ السجينِ .. وأقسى السجونِ هو الذي يكون بلا جُدرانٍ !!! وسجينٌ في اليـَدّ أسوأُ من مائةٍ قُتِلوا في معركة " الشجرةْ " .. ولكنْ ، هل يُدركُ عطرُ حيفا خطوطَ الطولِ والعَرضِ التي ترسُمها أرواحُنا وأشباحُنا على ثيابِ الكرةِ الأرضيةِ لنبقى سجناءَها في الحياةِ والممات ؟
وتبقى حيفاءُ قلعةَ الوردِ الحصينةِ !!.

( 23 )

عن شفتَيكِ تسقطُ البِحارُ
والأنهارُ
والأمطارُ
فاقطفي يُنبوعيْ !
ومن عينيكِ تهربُ الأقمارُ
والأشجارُ
والأشعارُ
فارتجِلي شُموعي !
نضبتْ دموعُكِ يا حزينةُ فاستعيني على الأحزانِ ببقايا من دموعي !
إجعلي أيامَكِ في كل يومٍ ، من جديدٍ ، كـرَّةً في إثـرِ كـَرَّة ، إرفعي حملَ السنينِ ، تجِدي حمل السنينِ ينقلب مثقالَ ذرَّة ، طيـِّري زنديكِ في فضاءِ إرادتِكِ ، واخلعي ثوبَ المداراتِ - تُضحينَ حـُرَّة !
حاولي قسَماتِكِ ما بينَ مرَّةٍ ومرَّةٍ مليونَ مرَّةْ !

( 24 )
لا شئ لي ولكِ يا بنيَّتي سوى دمي وابتسامتِكِ الساحرة ، لا شئ سوى الأقدار الساخرةْ !
جئنا إلى هذا العالمِ كأنما صدفةً ، وجُبناهُ دونما بطاقة هُويةٍ ، وقد وُزِّع الكثير منها على الكلاب الضّالةِ ، فما تبقّى لنا منها اثنتان . وتتسعُ أرض بلادنا لإسمينا وعُنوانَينا وصورتَينا بالأسود والأبيض على الأقلّ ، وبرُغم كل شئ أقولُ : لا عليكِ ، يجمعنا الظلُّ يوم القيظِ ، فننام جميعًا يوما ما تحت شجرة واحدةٍ ، ونأكلُ من ذات الثمر . أمّا عالمُنا هذا فعيناهُ ضيـِّقتانِ كنافذتَي دبابةٍ يقودها في طريقه إلى روضة الأطفالِ أو إلى ملجأ العجَزَة ، وقلبُهُ وعقلهُ ضيـِّقانِ ... وكذاكَ عمرُهُ .
واعلمي يا بنيَّتي أنـّي أتممتُ بناءَ البيتِ ، فهدمتهُ أيدي اللصوصِ ، لماذا ؟ لأنني غيرُ مرَخـَّصٍ . أما ما أدهشني حقا ، فهو هذا التشابُهُ الغريبُ المعذِّبُ بين البيت المهدومِ جزئيـًّا والمَبني جزئيا !! هو عزاءٌ ، ربما ، والعزاءُ هو القناعةُ بالقليل المتبَقّي ،










 
/
موضوع مغلق

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:28 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط