أيـــــامي - رواية - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: هل تحب الليل؟ (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: في منتصف الحب (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: وحيد بين عيدين - محمد البكري (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: عين الكاميرا (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: بأعلامنا التحفي (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: معايدة للجميع وغزة في الطليعة (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: بائسة (آخر رد :زياد السعودي)       :: إحداثيات* (آخر رد :زياد السعودي)       :: رثاء السيد عثمان فدعق:: شعر:: صبري الصبري (آخر رد :صبري الصبري)       :: بلا معنى / إيمان سالم (آخر رد :خديجة قاسم)       :: صرخة غزاويّ (آخر رد :خديجة قاسم)       :: الا يا غزّ اشتاقك (آخر رد :خديجة قاسم)       :: للحزن جماله أيضا (آخر رد :خديجة قاسم)       :: بين يديك يا قمر (آخر رد :خديجة قاسم)       :: ،، بين يديك يا قمر / نافذة العنقاء خديجة قاسم ،، (آخر رد :خديجة قاسم)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▆ أنا الفينيقُ أولدُ من رَمَادِ.. وفي الْمَلَكُوتِ غِريدٌ وَشَادِ .."عبدالرشيد غربال" ▆ > ⊱ ذاكرة⊰

⊱ ذاكرة⊰ ان التهمهم الغياب ... لن تلتهمهم الذاكرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-08-2007, 11:44 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

Exclamation أيـــــامي - رواية

أيــــــامي





- رواية -



هشام آدم


اللوحة للفنان التشكيلي السوداني: فيصل تاج السر






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 11:50 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

الفصل الأول




من أرتكاتا إلى كوينكا



- جدري وملامح شاحبة -







-






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 11:52 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

-















"ليست الحياة ما نحياها، إنما ما نتذكرها؛ وكيف نتذكرها لنرويها"

غبريال غ. ماركيز






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 11:59 AM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي الفصل الأول

كنا على وشك الرحيل عندما قبّلتني سوليداد فيدل جدتي لأبي وهي تضع في يدي بطريقة سريّة عملة ورقية بائسة. ورغم أنني لم أكن وقتها أعرف قيمتها على وجه التحديد، كما أنني لم أتوقع منها أن تفعل ذلك إلاّ أنني غضبت لأنها لم تجد غير تلك العملة المهلهلة لتعبّر بها عن مدى حبها لي، واكتفيت بالسماح لها بتقبيلي، بشفتيها الرطبتين، دون أن أبادلها القبلات تعبيراً مني عن استيائي البالغ للإهانة التي وجهتها لي. أذكر أنها بكت ذلك اليوم لسبب لا أعرفه، فلم أكن لأصدق أنها تحبني لدرجة البكاء عند توديعي. غير أنني اكتشفت عكس ذلك عندما وصلنا إلى "كوينكا" بعد رحلة طويلة ومتعبة أصبت فيها بالجدري، وربما كانت أمي أكثر المتضررين من هذه الرحلة، إذ كان عليها أن ترعى طفلاً مريضاً، وفتاة مزاجية مشاغبة هي جوانيتا سارجينيو أختي التي تكبرني بعامين. والدي الذي ظلّ في أرتكاتا حيث يعمل في منجم للألماس، كان قد أوصى والدتي في إحدى مكالماتهما الهاتفية السريعة، التي لم تكن تتخللها كلمات عاطفية قط، أوصاها أن تأخذنا إلى حيث مسقط رأسه لنتعرف إلى أقاربنا هناك. كان تصرفه هذا الذي بدافع صلة الرحم يحوي في حقيقته مغزىً بالغ الأهمية بالنسبة له لا يخلو من زهوٍ ذكوري طالما رغب أن يشعر به منذ أن تزوج بأمي في العام 1971. شعرت بسعادة غامرة وأنا أسمع صافرة القطار معلناً مغادرته توليدو فرحتُ ألوّح بيدي لولئك الذين اصطفوا على امتداد رصيف الميناء البري حتى دون أن أعرفهم.


في الفترات القصيرة والمتباعدة التي كنت أفيق فيها من الإعياء كنت لا أرى عبر نافذة القطار غير أرضٍ صخرية مجدبة،متلائمة تماماً مع الحمى التي كانت تتناوشني طوال الرحلة، الأمر الذي كان يوحي لي دائماً بأنني قد أموت من العطش. وما كان يزعجني أكثر من تلك الحمى الجدرية هو صوت صفائح عربات القطار التي توحي لك بأنها سوف تنفصل عن بعضها في أية لحظة، وأصوات عجلاتها الحديدية التي كانت تشبه نبضات قلب مارد عملاق. كانت هذه الأصوات مثيرة للاكتئاب والخمول لا سيما مع الجو الحزائني الذي كان يكتنف القمرة. الشيء الوحيد الذي علق بذهني بقوة من تلك الرحلة هو رائحة جلد المقاعد التي كانت تشبه رائحة وبر القطط إلى حدٍ بعيد. كنت في تلك الفترة محاطاً باهتمام النساء العجائز الأمر الذي جعلني مبكراً أشعر بالتقزز من رائحة كبار السن ومنظر تجاعيد جلودهم وعاداتهم الغذائية التي كانت تبعث في نفسي الرغبة في التقيؤ. ورغم ذلك فقد كنّ أكثر الناس اهتماماً بي. وعلى صعيدٍ آخر فإن ثمة ضغينة أسرية قديمة سبّبها سلوك والدي الاستقلالي المبكّر والذي اعتبره جدي عقوقاً من النوع السافر، عندما رفض أبي أن يسميني على اسمه، وأرسل برقية من سطر واحد "نهنئكم بولادة كاسبر سارجينيو" كان ذلك عام 1974. ولم يحقق له أحد أبنائه حلم أن يحمل أحد أحفاده اسمه الذي لا يوجد إلاّ في الفرنسية القديمة. وكان ذلك سبباً وراء تخفيف غضب جدي على والدي بعد مرور أكثر من خمسة أعوام على ولادتي. غير أن شظايا من ذلك الغضب الأبوي القديم انتقلت بطريقة ما إلى أخوته الذين شهدوا النوبة القلبية التي أصابته عندما قرأ برقية أبي المستفزّة. غير أن الحقيقة هي أنهم لم يكونوا ليطيقوا نجاح أبي في الفرار من جحيم أورفل بودن المتسلط ليعمل في منجم الألماس الأشهر آنذاك، تاركاً إياهم بين قبضة والدٍ صعب المراس، وطبيعة اجتماعية قاسية يصعب معها الطموح. وربما كانت إحدى المآثر النادرة التي أذكرها لوالدي هو رفضه تسميتي بأورفل، إذ كان ليبدو كاسم مهرّج غير معتد النسب "أورفل سارجينيو أورفل."


تشاركنا ذات القمرة سيدة فضولية كثيرة الكلام ترتدي فستاناً أسوداً مرقّطاً بدوائر بيضاء صغيرة، ونظارات تبدو أنها لحفظ النظر، وقفازات سوداء متوافقة مع لون الفستان. اكتشفت فيما بعد أنها زوجة إحدى أصدقاء والدي. لم تكف تلك السيدة - شارلوت كوربن - عن إسداء النصائح لأمي عن الطرق الشعبية المثلى لتطبيبي نظراً لخبرتها الطويلة في هذا المرض الذي أصاب أخويها وابنها مؤخراً، وتعجبت كيف نجت منه! كانت أسوأ تجربة مررت بها في هذه الرحلة عندما تركت أمي أمر رعايتي لهذه السيدة الفضولية وذهبت لقضاء حاجتها.


كانت هي المرّة الأولى التي اكتشف فيها ميل أهلي من القبائل النوركية للعلاجات الشعبية وتصديقها أكثر من العلاجات الطبية الحديثة. كانت نظرتهم للطب - وللتكنولوجيا عموماً - أقل احتراماً، لذا فإن أقرب مشفى كان على بعد مسيرة يوم كامل من كوينكا. من خلال النافذة كنت استمتع بمشاهدة الباعة المتجولين في المحطات التي يقف فيها القطار لمدة لا تتجاوز الربع ساعة على الأكثر. كان منظر المحطات بائساً لدرجة أنها توحي لك بالنعاس، ولولا مرور بعض الوجوه النمطية لخيّل إليك أنها مهجورة. كما أنها لم تكن تحتوي على لافتات تحمل أسماء تلك المحطات، عرفت ذلك من أسئلة السيدة كوربن التي كانت تتدلى من النافذة لتسأل المارة "أية محطة هذه؟" وما زلت أذكر تلك الفتاة النحيلة التي كانت تبيع في سطل تقليدي قديم عصائر بلون أحمر معلّبة في أكياس شفافة، عندما أشرتُ لأمي لشرائها، فتقدمت السيدة الفضولية لتنصحها بألا تفعل لما قد تسببه المشروبات الباردة عليّ وعلى حالتي الصحية من تدهور، ورغم اقتناع أمي بكلامها إلاّ أنني كنتُ قد وصلتُ في كراهيتي لهذه السيدة إلى مراحل متقدمة جداً يصعب معها أن أتقبل منها النصح، أو أن أهزم أمامها وأمام نصائحها الفضولية، واعتبرتُ أن مسألة شراء المشروب المثلّج مسألة عائلية خاصة، ولم يكن أمامي سوى أن ألجأ إلى البكاء معتمداً على كوني مريضاً، ودائماً ما تنجح هذه الخطّة، فالمرضى لهم معاملة خاصة، وهم أكثر دلالاً من الأصحاء. ولكنني لم أكن لأعرف طعم ذلك العصير بسبب مرارة لساني. لا يهم فقد أحسست بنشوة الانتصار على أية حال.


لا أدري لماذا كان يخيّل إليّ أن السيدة كوربن كانت ترمقني بنظرات تبادلني فيه الكراهية من تحت نظاراتها الخفيفة. ظلت الحرب غير المعلنة بيني وبينها مستمرة حتى وصل القطار ظهيرة يوم قائض إلى "كاتوشيا" حيث تجمع عشرات الرجال والنساء الذين قدموا للاستقبال. وكان ذلك آخر عهدي بالدفء الأمومي. كنت أشعر بحزنٍ ووحشة غير منطقيين وأنا أراقب تلك المشاهد الميلودرامية لأُسر حكمت عليها الحرب بالانفصال والتشريد.


كانت لتلك الكلمات المحلية الحزينة، التي كانت أمي والنساء يتبادلنها وقعها المؤثر في نفسي رغم أني لم أكن أجيد اللهجة المحلية بشكل احترافي، حتى أنني كنت أكتفي بالإيماء ولغة الإشارة في كثير من الأحيان لدرجةٍ ظنّ فيها الكثيرون أنني أبكم. أعجبتني الطريقة التي يتحوّل بها الناس من حالة البكاء إلى الضحك ثم إلى القهقهة بدون تدرّجات تمهيدية. ولكنني عرفت فيما بعد أن ذلك يسهل التدرّب عليه. كان عمري حينها لا يتجاوز الثمان سنوات، وكانت ملامح الثراء التقليدية بادية عليّ كما على أمي التي لم تكن تجرؤ على خلع أسوارها الذهبية التي ينوء بها معصمها كأنها حارسة لمعبد بوذي، وكأن ذلك هو البرهان الوحيد الذي يثبت أنها قادمة من أرتكاتا بلد الألماس. ورغم أنني لم أكن أعرف سبباً واضحاً لضرورة أن تبرهن على ذلك، إلاّ أنني بالمزيد من الاحتكاك بالقبائل النوركية عرفت أنهم يهتمون بهذه التفاصيل إلى درجة بعيدة.


كان اللون الأصفر الشاحب هو اللون الأساسي في كل ما رأيته وما أتذكره من تلك المدينة التي تنتشر منازلها على مسافات متباعدة من بعضها تاركة مساحات واسعة كميادين يستغلها الأهالي للمناسبات. كنت وقتها قد تماثلت للشفاء بما يسمح لي بالسير بمفردي. "يا إلهي .. إنه ابن سارجينيو" كانت هي الجملة التي يقولها الجميع عندما تسقط أعينهم عليّ. عندها فقط تكشّفت لي خيوط المؤامرة الذكورية التي مارسها والدي عندما أصرّ على أمي بأن تأخذنا إلى أرتكاتا. لم أشأ أبداً أن يعاملني الآخرون على أنني "ابن سارجينيو" ولكنهم كانوا يفعلون ذلك بغبطة أهلنا البسطاء. وتحملت عشرات القبلات من نساء ورجال لا أعرفهم بأريحية غريبة. ورغم أن كل واحدٍ منهم كان يعرّفني بنفسه إلاّ أنني لم أكن مهتماً بذلك كثيراً. فقط كنت أقرأ في وجوههم سعادة لم تكن متكلّفة، وحياتهم البسيطة كانت سبباً في أن أترك خجلي جانباً وأسأل "أين الحمّام هنا؟" دون أن أخبر أمي سراً برغبتي في التبوّل كما كنت أفعل دائماً عندما أشعر بالخجل من الآخرين. لم تكن ذكرياتي عن "كاتوشيا" ذكريات مثالية، ربما لأنني لم أمكث فيها غير يومين فقط كنا خلالهما في انتظار عربة تقلنا إلى "كوينكا" حيث نهاية المطاف.


كانت الرحلة أشبه برحلات الهجرة غير الشرعية التي كان يقوم بها البعض سراً إلى "لاميمبون" عبر الحدود الغربية، مستخدمين في ذلك وسائل النقل المختلفة. في إحدى جلساتهم المسائية على ضوء القمر، حضرت سيدة ما تزال تحافظ على ملامح أرستقراطية تركها اغتراب قديم لم ينته إلا منذ سنوات قليلة خلت، بينما كانت تمسك في يدها لفّة قماشية وضعت داخله بعض الهدايا التقليدية. قدمته لأمي التي حملتها بأريحيتها ووعدت بتسليم الهدية لصاحبها في "كوينكا".


تحدّث الجالسون عن قضايا لم تكن ذات أهمية لدي، كانت أغلبها تدور حول موتى فارقوا الحياة فترة غياب أمي عن كاتوشيا ورحيلها مع زوجها إلى أرتكاتا، وأناس هاجروا إلى بلاد بعيدة وانقطع ذكرهم بعدها، وأخبار الزيجات الحديثة التي وقعت مؤخراً، ونتاج بعضها الذي أسفر عن مواليد جدد. بينما كنت منهمكاً في مراقبة ورل ضخم كان يحفر لنفسه بكل همّة حفرة في منطقة رملية قريبة. ظننته تمساحاً في بادئ الأمر، غير أنّ أحدهم ربّت على كتفي مطمئناً وهو يقول "إنها المرة الأولى التي ترى فيها حيواناً كهذا .. أليس كذلك؟" وابتسم ابتسامةً جعلتني أخشاه. في اليوم التالي كان جورجينيو أمادو قد وصل في الصباح الباكر بعربته الأشهر على الإطلاق في المنطقة مطلقاً أبواقاً موسيقية لا أزل أتذكرها حتى اليوم. كان أهل القرية يعرفون كل سائق من صوت بوق سيارته، بل وإن الأطفال كانوا يتبارون في محاكاة تلك الأصوات الموسيقية بأفواههم. وكسيدة أرستقراطية تقدمت أمي لتركب في المقعد الأمامي بجانب السائق حيث لا يسمح لغير الوجهاء بالجلوس، بينما أخذ الجميع يفرشون حصائرهم في حوض العربة الخلفي. كانت السيدة كوربن بينهم، الأمر الذي جعلني أشعر بشيء من الشماتة تجاهها. كانت البادرة الأولى واليتيمة التي تحسب لها، أنها عرضت على أمي أن تأخذ أختي جوانيتا وتجلسها معها في الحوض. في مرحلة عمرية متقدّمة عرفت أنّ ما قامت به السيدة كوربن لم تكن إلاّ تقنية تربوية محترفة، فيمكن للبالغين معاقبة الأطفال بتجاهلهم والاهتمام بطفلٍ آخر. وما هي إلا دقائق حتى امتلأت الساحة بالمودعين، وامتلئ الحوض بالركّاب رجالاً ونساء وكأنهم نازحون أفارقة. هذا المشهد الاحتفالي يتكرر كل يوم أربعاء بذات التفاصيل تقريباً دون أن يقلل ذلك من أهمية طقوس الترحيب والتوديع لدى أهالي كاتوشيا.


غرقت قبعات الرجال ومناديل النسوة المودعات مع عليّات البيوت وهي تغيب عن الأنظار وتتلاشى تحت خيط شفقي أحمر، بينما اتجهنا شمالاً إلى كوينكا عبر وادي غوادا لاخارى الحجري الذي كان الأسلاف يعبرون خلاله بقطعان خرافهم إلى مراعي السافانا الخصيبة بينما يستحيل الوادي إلى مجرى نهري جارف خلال المواسم المطرية التي تستمر في بعض الأحيان لأكثر من ثلاثة أشهر. لم تكن بي رغبة فضولية لمراقبة الطريق ومعرفة معالمها ، لذا فإنني لم أر بيوت قبائل البتشو المنحدرة من أصول قوقازية، ولا جبل "عين الشمس" الذي تنفذ الشمس فيه من خلال ثقب هائل في قمته، بل قرأت عنه من رحلات بياتوس ودمنغو فيما بعد.


كنت أتعجّب لمقدرة أمي الغريبة على النوم مع حركة العربة المزعجة التي تسببها وعورة الطريق. كان يخيّل إليّ في كثيرٍ من الأحيان أننا في هودج على ظهر جملٍ عربي، يزيد من هذا الشعور قماشة حمراء منتهية بضفائر مخملية مطرّزة تتدلى من سقف كابينة القيادة يستخدمها أمادوا كزينة لعربته. واستيقظت أمي مذعورة لترسم بيديها علامة الصليب في ميكانيكية تعبّدية خاشعة عندما صاح أمادو فجأةً " لورِد .. لورِد"(1) كنت لا أعرف سر الخشوع الذي هبط فجأة على الاثنين وهما يطلان بنظراتهما على مكانٍ ما في الخارج. أخرجت رأسي من النافذة لأرى، وأنا ابتسم للعدوى الفضولية التي يبدو أنها انتقلت إليّ من السيدة كوربن. لم أجد سوى صرح شبه هرمي عليه علامة الصليب، كان يبدو لي كدير لم يوفق بانيها في اختيار المكان المناسب. التفت إلى أمي لأجدها ما تزال في خشوعها الكاثوليكي فسألتها "ما هذا المكان؟" فأشارت لي بيدها بأن أصمت. ابتسم أمادو وجذبني من ذراعي إليه، وجعلني إلى جواره:


- سوف أحكي لك يا بني .. يقال أن مراهقة كاثوليكية تدعى بيرنيدت سوبيروس أتت إلى غار ماسيبيل(2)- الذي تراه أمامك هناك – معتزلةً الناس والحياة، وطالبت السيدة العذراء بالمثول أمامها إن كانت تستطيع أن تفعل ذلك.
- وهل ظهرت لها السيدة العذراء حقاً؟
- أظن ذلك؟

ورغم أنني كنت أعشق القصص من ذلك النوع الذي يتناول سيرة الغابرين والأسلاف، إلاّ أن رواية أمادو هذه كانت محبطة وتنقصها الكثير من التفاصيل، فلجأت إلى خيالي الطفولي لإضافة المزيد من المؤثرات لقصة أمادو المبتورة.

رغم خصوصية الجلوس في كابينة القيادة الأمامية، ودلالاتها البرجوازية؛ إلاّ أنني لم أكن مرتاحاً لذلك، فلم يكن بوسعي أن أتمدد أو أن أتحرّك أية حركة دون أن ترمقني أمي بنظراتها المتشددة، إذ كانت حريصة كل الحرص على أن نبدو في شكل مهذب أمام الآخرين لا سيما الكبار، وكنت أجاهد كثيراً لأحقق لها هذه الرغبة، غير أنها لم تكن تلاحظ إلاّ الهفوات النادرة.


في مكان ما توقف أمادو وأطفأ محرك سيارته، وأعلن استراحة لنصف ساعة. ترجلنا وبدأ البعض بمطّ جسمه المنكمش بفعل الزحام، بينما جثا البعض على ركبهم غير بعيد للتبوّل. كان البرد قارساً لدرجة أن الرجال كانوا ينفثون من أفواههم أبخرة كأبخرة التنانين الأسطورية، بينما لفّت النساء وجوههن بمحارم قطنية. كانت تعجبني فكرة خروج الأبخرة من الأفواه فولّدت لدي رغبة انحرافية، فكنت أضم سبابتي والوسطى كما يفعل المدخنون المحترفون وأتظاهر بالتدخين. أشد ما أعجبني أنني لم أكن أخاف من أمي وأنا أفعل هذه الحركات. كانت جوانيتا تتوسل لأمي بأن تأخذها معها إلى كابينة القيادة، ليس لنزعة برجوازية، ولكنها – على ما يبدو – ضجرت من مرافقة السيدة كوربن. وأعجبني موقف أمي الصارم، رغم أنني كنت أشفق على جوانيتا أيّما إشفاق. تجمّع البعض في حلقات وبدأوا يتسامرون ويطلقون ضحكات كانت تهتك سكون المنطقة الموحشة. راح أمادو في كل ذلك يرتشف قهوته المسائية من حافظة كان يخبأها معه. كنت استغرب إدمان البالغين على القهوة والشاي وهذه المنبهات التي لم استسغ طعمها يوماً. كان يخيّل إليّ أنها مخصصة للكبار فقط، وأن تناول كوبٍ من الشاي الساخن هي إحدى دلالات البلوغ الأساسية. نحن – الصغار – كانت أمهاتنا يبرّدن لنا الشاي بعملية تكرير مضجرة وأحياناً بإضافة بعض الماء البارد عليه.على أي حال فأنا لم أشرب كوب شاي في حياتي؛ كنت أؤجل هذه المهمة لحين أكبر.


من جهةٍ ما سمعنا صوت فتاة عشرينية وهي تكيل لأحدهم الشتائم، عرفنا فيما بعد أنه حاول التحرّش بها بينما كانت تتبول. خيّم - عندها - سكون متوتر على المكان فيما كان البعض يتندّرون بهذه الحادثة ويتغامزون فيما بينهم. أحسستُ بشفقةٍ ساذجة تجاه الفتاة عندما عاقبتها أمها بصفعة قوية وحكمت عليها بملازمتها طوال الرحلة. لم أعرف سر هذه العقوبة التي أوقعتها الأم على ابنتها الضحية، في حين اكتفى الجميع بتقطيب جباههم للجاني، واستيائهم الذي زال بعد دقائق معدودة. هذه الحادثة جعلت بقية النساء يطبّقن ذات العقوبة على بناتهن. شعرت بأنهن كقطعان ضأنٍ لا حيلة لها غير مصادقة الذئاب التي تمارس دوراً مزدوجاً: حمايتها والتهامها في آنٍ معاً !!


--------------------------------

الهوامش:
( 1 ) Lourdes صرح مخصص للحج إلى السيدة مريم العذراء أنشأ في عام 1858م
( 2 ) Grotto of Massabielle







أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 12:02 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

الفصل الثاني




كوينكا .. الحرية الحلم



- مدينة الأشباح الشريرة والأيول -








-






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 12:11 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي الفصل الثاني

بمزاجية متعالية نهض أمادو وهو ينفض عن بنطاله ما تعلّق به من تراب وهو يقول بطريقة آمرة "انقضت النصف ساعة .. فليستعد الجميع" ربما لم تنقضِ النصف ساعة تماماً، فقد كان حساب الزمن بالنسبة إليه مسألة تقديرية. أخذ الجميع مواضعهم مرّة أخرى، ثم انطلقنا بذات الهدوء القاتل والبرودة التي كانت تتسلل إلى ملابسنا الداخلية دون خجل. ظللت مستيقظاً طوال الطريق،ولم استطع النوم، منعني من ذلك أمادو الذي كان يغني بصوته القبيح أغنية شعبية لم تطربني كثيراً، واهتزاز العربة الذي لم يكف حتى وصلنا إلى كوينكا فجر اليوم التالي.


أول ما رأيته كنّ نساء يحملن دلاء الماء الصفيحية فوق رؤوسهن وهن يراقبن مرورنا من على البعد. وبطريقة احتفالية بدأ أمادو يطلق أبواقه الموسيقية في إشارة إلى وصولنا. استيقظ الجميع على صوت الأبواق، وأخذوا ينظرون من حولهم كأنهم يبحثون عن شخص ما بعينه. كنت أرى في عيني أمي حنيناً مهذباً وهي تلتفت يميناً وشمالاً، جعلني ذلك أحس بأنني أنتمي لهذا المكان بطريقةٍ ما. ما إن سمعوا صوت الأبواق حتى بدأ الناس يخرجون من البيوت. وبطريقة لا تخلو من تعالٍ أيضاً ظلّ أمادوا يدور بعربته في شكل دائرة كبيرة، قبل أن يتوقف تماماً في ساحةٍ رملية.


ذات المشاهد الاحتفالية في كاتوشيا تكررت مرّة أخرى في كوينكا. كنت قد بدأت أشعر بحنين منقطع النظير لأرتكاتا، وتمنيت أن يكون ما أراه حولي مجرد حلم عابر. تفاصيل الاستقبال والكلمات المتكررة والقبلات والنظرات الفضولية والتعليقات الساذجة كانت مرهقة إلى حد الضجر. أخذت جوانيتا تبكي عندما أهملتها أمي وتركتها محاصرة بين فتيات ذوات منظر بشع، بينما كنت محاصراً بفتيان لا يرتدون غير شورتات وفنايل داخلية متسخة. عرفت فيما بعد أن أكبرهم سناً كان خالي سانتياغو إميليو الذي أراه للمرة الأولى. لم أشعر تجاهه بغير ما شعرت به تجاه البقية.


كان الواجب الأكثر قداسة هو إلقاء التحية على كبار السن لا سيما أورفل بودن الذي كنت أخشى مواجهته حاملاً جرم والدي في حروف اسمي، غير أنه كان لطيفاً على عكس ما توقعت. كان قاصاً مغموراً، أو معروفاً على نطاق أرتكاتا فقط. وسمعت أنه ألّف رواية "ما وراء النهر" التي لم أكن قد قرأتها بعد آنذاك. بالإضافة إلى كونه قسيساً في كنيسة الأب خوليو الشهيرة. فوجئت عندما عرفت أنه متزوج من امرأة أخرى تدعى يواماريز روجيليو، أصغر سناً وأجمل قليلاً من سوليداد فيدل. كانت تلك أول مواجهة لي مع جذوري العرقية، وعرفت فيما بعد أن أورفل بودن بتعدديته هذه قد استعدى شريحة واسعة من النوركيين الذين لم يقروا يوماً مسألة تعدد الزوجات هذا، لذا فإن سوليداد جهزت حقائبها وأخذت ابنتها الصغرى دايمتا أورفل، وغادرت كوينكا إلى توليدو حيث تقيم بناتها مع أزوجهن.


كانت توليدو مستعمرة للنازحين من جحيم الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1936 واستمرت لثلاث سنوات، عانت فيها قبائل النورك أشد حالات الجوع ؛ إذ كانوا يأكلون ثمرة البرتقال للغداء بينما يتعشوّن بقشره ليلاً. فيما بعد أصبحت توليدو ذائعة الصيت، كما أنها كانت مقراً لأبناء وبنات أورفل بودن المتزوجين منهم وغير المتزوجين، فلم يكن أحد ليطيق مزاجيته وعصبيته.


بعض أفراد الأسرة الأورفلية المنادين بالوحدة الأسرية وجّهوا انتقاداتهم لسوليداد فيدل التي قسمت الأسرة - برحيلها - إلى شقين بينما أوعزوا ما فعلته إلى أنها محض غيرة نسائية غير واعية. وكان أورفل القسيس قد أنجب من سوليداد وحدها سبعة أبناء. كان أبي أكبرهم ثم تيرا أورفل المتزوجة من ابن عمها فاردون رسل والتي تعيش في توليدو منذ أيام زواجها الأولى. ثم كيوريدا أورفل العشوائية التي تزوجت رجلاً قصير القامة من خارج نطاق العائلة، وأقامت معه في توليدو أيضاً حتى قبل سنوات الحرب الثلاث.


كانت العمة كيوريدا الوحيدة التي مارست التوتمية(3) في عائلة أورفل. واعتبرتها العائلة أول مارقة على النظام الأورفلي الصارم. ثم دوليسينيا أورفل الوحيدة التي بقيت في كوينكا بجانب والدها، ليس محبة له، بل طاعة لزوجها الذي كان يعمل في النقل النهري هناك. ثم سلفادور أورفل عازف الأورغن والمولع بالموسيقى وحياة الترف. ثم سانتوس أورفل الأكثر شعبية بين أبناء أورفل. كان صاحب نكتة، ومرحاً إلى الحد الذي يجعلك لا تصدق أنه أورفلي على الإطلاق. وقيل أنه توفي مسموماً بنبيذٍ فاسد في العام 1989 وهو أول من توفي من أبناء أورفل بودن. وأذكر أن وفاته كانت أكبر فاجعة تلقاها الأورفليون على الإطلاق. وأخيراً دايمتا أورفل التي سوف تكون لي معها قصة عدائية طويلة فيما بعد. ومن يواماريز روجيليو أنجب أورفل أربعة أبناء هم: الدكتور زينون أورفل الذكر الوحيد بين ثلاثة إناث هن: أدونيسا التي أصيبت بسرطان الثدي وتوفيت به عام 1999، وإيميرالد وإسبرانزا وهيرمينيا. هؤلاء كانوا مجرد أسماء أقرأها على شجرة العائلة، ولم أكن أعرف أحداً منهم قبل زيارتي التاريخية لكوينكا فيما عدا العم سلفادور الذي كان يعيش معنا في أرتكاتا حتى وفاة سانتوس أورفل.


كانت مهمتي الصعبة تكمن في التعرف على أفراد العائلة، بل وأن استشعر تجاههم بالعاطفة الأسرية التي لم يكن لها وجود يذكر. كان الفتيان الذين ما زالوا محيطين بي يرمقونني بنظرات لم أستطع تفسيرها على نحو منطقي، وكأنني كائن فضائي ذو ملامح بشرية. ولم يبعدهم عني غير صوت الجد أورفل بودن وهو يتقدم إليّ بعرجة خفيفة سببها له داء النقرس، متأملاً في تفاصيل وجهي الذي يراه للمرة الأولى. وبميكانيكية أبوية قبّلني قبلة واحدة وهو يتساءل:

* هذا هو كاسبر إذن !

ثم تقدمت يواماريز روجيليو التي بدت لي أطيب بكثير من سوليداد، فلم تكن عيناها تحملان نظرات المكر التي كانت تحملها عينا سوليداد. لم أعرف حينها الدافع الحقيقي وراء احتفائها بي. لم أستطع أن أحدد ما إذا كانت أحبتني فعلاً، أم أنها ادعت ذلك إرضاءً لأورفل. هل كانت فعلاً فرحة لرؤيتي، أم كانت تريد فقط أن تظهر لأورفل أن باستطاعتها أن تحب أبناء أورفل من زوجته الأخرى. فيما بعد اكتشفت أن شفتيها لم تكونا رطبتين كما شفتي سوليداد، غير أن لها ذات الرائحة.


دخلت منزل العائلة الكبير، وأنا أحس أنني أعبر من خلال بوابة زمنية إلى عالم قديم، كرّس ذلك الشعور الغبار المتواجد بكثرة على كل شيء. كنت أبحث عن أمي بين الجموع ومن عيني تتقافز نظرات وجلة ومترقبة، عندما فاجأني أحدهم بجملة ناصحة اعتبرتها أمراً "اذهب والعب مع الأطفال بالخارج" كان الصبية يجمعون بعض النقود لدخول المسرح المتنقل الذي يقام كل صبيحة عيد الفصح. فوقفت متفرجاً دون أن أبدي أية رغبة في المشاركة. تقدّم إليّ سانتياغو إميليو وخاطبني بنبرة أكثر جدية "هل تملك نقوداً؟" عندها تذكرت تلك العملة المهلهلة التي خبأتها جدتي سوليداد في جيبي بسرية، شعرت بالخجل من الإنكار ومن الاعتراف في آنٍ واحد. غير أن الاعتراف بحمل عملة بائسة كان أخف وطأة من الإنكار الذي يعني إفلاس فتى أرتكاتا الثري، وكانت تلك طعنة لكبريائي الأرستقراطي المفترض، فأخرجت العملة الورقية على مضض وناولتها إياه. فاكتشفت على الفور أن ما كنت أحمله في جيبي بإهمال ما كان إلا عملة بالغة القيمة لدرجة أن الجميع أعادوا نقودهم إلى جيوبهم. كانت العملة التي أحملها كافية لدخولنا جميعاً للمسرح المتنقل ولشراء مرطبات باردة أيضاً. عندها أحسست بالفخر تجاه سوليداد، وعندها فقط عرفت مقدار محبتها الحقيقية لي.


أطفال كوينكا يتمتعون ببراعة حرفية عالية، إذ يصنعون عربات صغيرة من صفائح الزيت الفارغة، بينما يبحثون في مكب النفايات عن أحذية قديمة يصنعون منها الإطارات. ثم يضعون عصا طويلة منتهية بحلقة دائرية كبيرة مثبتة على العربة تتحكم بتوجيهها. كانت تروق لي كثيراً تلك العربات التي يصنعونها بأنفسهم، وقد بدا ذلك عليّ لدرجة أنّ أحدهم أهدى لي واحدة منها، كانت هي البداية الحقيقية لكسب علاقات ذات طابع حميمي مع البعض.


وقت الظهيرة بينما ينام البالغون، كان يتجمع الصبية في ساحة قريبة وبيد كل واحدٍ منهم عصا عربته، ثم ينطلقون إلى ضفة نهر كويربو . كان منظر النهر بمياهه الصافية مغرياً إلى حد يجعل الصبية يقررون في كل مرّة السباحة بعيداً عن رقابة الكبار الذي كانوا يحظرون السباحة على الأطفال. ولأنني لم أكن أجيد السباحة فقد كنت أكتفي باللعب بالماء في المنطقة الضحلة من النهر قرب الضفة التي تنتشر عليها حصوات كبيرة ملساء وكأنها بيوض طائر خرافي. كنت وما أزال أخاف من السباحة في الماء. يخيّل إليّ أنني كقطعة الإسفنج، ولم أتعلم بعد تقنيات الطفو والإبصار تحت الماء. حتى أنه ما تزال تتملكني مخاوف غير مبررة من المخلوقات المائية.


حكى لي بعضهم قصصاً - كان يتناقلها الكبار ليخيفوا بها الصغار لمنعهم من السباحة في النهر - عن تماسيح أهلكت آلاف الرجال والنساء من أهل القرية، وتسببت في انقلاب العديد من القوارب التي كان يستخدمها البعض لعبور النهر إلى الضفة الأخرى لجلب عشبة "السارجيا" الطبية لمداواة الرمد. ورغم أنني لم أتقدم غير عشر خطوات داخل المياه، إلا أنني كنت أشعر بأن إحدى هذه التماسيح سوف تبتلعني أنا تحديداً تاركةً كل هؤلاء الصبية. كنت – بطريقةٍ ما – أحس بأن تلك التماسيح اللعينة تشعر بخوفي وتهيبي، فكنت أضرب الماء برجلي بقوة لأفزعها. فيما بعد أخبرني سانتياغو أن التماسيح ما هي إلا فصائل نادرة من الديناصورات التي لجأت ذات حقبة إلى المياه، هرباً من الحريق الهائل الذي سببه نيزك طائش فشبّ في إحدى الغابات وتسبب في مصرع العديد من الكائنات. وكيف أنها استطاعت بعد ذلك أن تتعايش مع محيطها الجديد. ورغم أنه ضحك بعد أن تمكن من إخافتي، إلا أنني ما زلت مقتنعاً بتلك الأسطورة بشكل يقيني لا يقبل الجدال.


في المساء، حين يحل الظلام، كنا نقضي الوقت في ساحة رملية واسعة أمام منزل الجد مانويل إميليو (جدي لأمي) المستقر في أرتكاتا. يعيش في هذا المنزل خالاتي: يومايريس وإلدورا إميليو إضافة إلى جدتي لأمي ماريابيلا تانكريدو. لا أذكر أن لي مع إحداهن ذكريات حميمة، وهكذا كان الحال مع أقربائي من جهة أمي. كان الخال سانتياغو إميليو يشرح لنا قواعد لعبة "عيون النمر - Ojos del Tigre " إذ يأخذ عظمة حيوانية قديمة ويرمي بها بشكل عشوائي بينما ندير ظهورنا إلى الناحية الشمالية، ثم نبدأ البحث عن العظمة الضائعة معتمدين على ضوء القمر فقط.


كوينكا هذه المدينة الجبلية المسكونة بالأرواح الشريرة كما تروي ماريابيلا تانكريدو، لم تكن تبدو مخيفة إطلاقاً إذا استثنينا الأصوات الغريبة التي تسمع ليلاً من وادي لاس توركاس. وفي حين تتفق روايات نساء كوينكا على أنها أصوات الأرواح الشرير المحبوسة في مكانٍ ما من الوادي، فإن قلّة من الناس توعز هذه الأصوات إلى مرور الرياح على الوادي الذي على شكل مخروط مقلوب. تقول ماريابيلا أن أرواح شهداء الحرب الأهلية المدفونة في "وادي الشهداء" القريب من الأسكوريال تنتقل ليلاً عبر وادي الريسكو دي لانابا والأودية الأخرى المترابطة كأنها حلقات سلسلة عملاقة، في ثورة غاضبة لا سيما أولئك الذين فصلت رؤوسهم عن أجسادهم. وتقول أن كاهناً - أو مدعياً للكهانة - قد حاصرهم وحبسهم في وادي لاس توركاس حيث مصدر الصوت بعد أن رفضت أن تسكن في تمثال ضخم نُصب خصيصاً لهم – حسب رواية الجدة تانكريدو – وكانت هذه الرواية متداولة بكثرة لا سيما بين أطفال كوينكا الذين لم يكن يسمح لهم بالخروج ليلاً لأي سبب كان.


ما زلت أذكر ملامح العم سانتوس الذي لم أشهد أيام شقاوته التي كان والدي يتندر بها دائماً. كانت ملامحه توحي بدفء محبب كأنه شخص تعرفه منذ زمن بعيد. ويحكى من نوادره أن جلس ذات يوم مع صديقٍ له يحتسيان نبيذاً فرنسياً معتقاً. حاول صديقه تفريغ النبيذ في زجاجات صغيرة، فانسكب بعض النبيذ على الأرض، فصرخ سانتويس في وجهه "احترس!" وللامبالاة رد عليه الآخر "ما هو إلا مجرّد نبيذ، ليس نفطاً يا سانتوس" فرد عليه سانتوس بسرعة بديهته المعهودة "النفط مكان الطبيعي على الأرض، أما النبيذ ففي الرأس!".


يومها عندما ذهبت أمي مع العمة كيوريدا أورفل إلى عزاء أسري تركتني ومورس لونيل في عهدته. وبينما كان منهمكاً في عزف مقطوعة موسيقية شعبية على جهاز البيانو الضخم الذي يحتفظ به في غرفته، وسوس لي مورس لونيل أن نقتفي أثر أمهاتنا، ليس لشيء سوى كسر الأوامر وخلق مغامرة من نوعٍ ما. كان مورس لونيل القادم مع والدته – العمة كيوريدا أورفل - من توليدو قد سبق له زيارة كوينكا من قبل، الأمر الذي جعلني مطمئناً إلى أنه يعرف المنطقة بشكل جيد. في طريقنا إلى أبيلا مررنا بحرش أوسيكبو الذي يعتبر محمية الغزلان الأكثر شهرة على الإطلاق في المنطقة. وبعد مسيرة نصف ساعة على الأقدام وصلنا إلى مقبرة في أطراف أبيلا. كانت شواهد القبور الحجرية المنتهية بعلامات الصليب توحي لي بأن الموتى يخرجون لنا ألسنتهم الخشبية من باطن الأرض. كانت المقبرة موحشة وتدعو للقشعريرة. أحسست بشعر رأسي يقف كأشواك قنفذ متحفّز لقتال. كانت ثمة رائحة غريبة تنبعث من المكان. خيّل لي أنها رائحة الموتى أو ربما كانت رائحة الموت نفسه. وفي جانبٍ ما من المقبرة وقف عشرات الرجال والنساء المتشحون بالسواد وهم يستمعون إلى تلاوات قسيس جاد الملامح ذو لحية بيضاء جعلتني أشعر تجاهه برهبة غريبة. وأمام الجميع تابوت خشبي مكشوف الغطاء، يرقد داخله في سلام رجل لم نتمكن من رؤيته، لا يزعجه صوت القسيس المحشرج، ولا أشعة الشمس التي تسقط عامودية عليه. كانت ثمة تفاصيل جنائزية حرية بالمشاهدة، لذا وقفت أنا ومورس لونيل خلف شجرة بلّوط نراقب مراسم الدفن بكل انتباه، حتى اكتشفتنا عينا امرأة لم تكن منتبهة لتلاوات القسيس على ما يبدو.


عادت بنا أمهاتنا متوعدتين إيانا بعقوبة بالغة القسوة. كانت فكرة الضرب في حد ذاتها ليست مخيفة بالنسبة لي، إذ كنت معتاداً عليه من أبي، ولكنني خشيت أن يفقدني الضرب هيبة واحترام الزائر الجديد ؛ لذا فقد كنت أحاول طوال الطريق أن أوجد لنفسي مخرجاً من هذا المأزق. ولم تخطر ببالي أية فكرة منقذة إلا أمام العم سانتوس الذي تلقى إهانات بالغة من أمي ومن العمة كيوريدا لإهماله في رعايتنا أثناء غيابهما. وبطريقة حازمة اقتادنا إلى غرفته وجلس على سريره وأمرنا بالجلوس أمامه. كان كالقاضي الذي يستمع إلى المتهمين قبل إصدار الحكم. سألنا بغضب "ألم أحذركما من الخروج؟" كانت نظراته لي تحديداً تحمل - بالإضافة إلى الغضب – عتباً من النوع الذي يعني خيبة الأمل. فنطق عفريتٌ ما على لساني:

* لقد غرر بي مورس. كان يصر على الذهاب بينما كنت أمنعه من ذلك، فغافلني وخرج. وعندما خرجت ورائه لأثنيه عن ذلك لم يستمع لي. وبينما أسير ورائه رأيت أنثى أيل في حرش أوسيكبو تضع مولودها. شدني المشهد الذي كنت أراه للمرّة الأولى. ولأن عملية ولادة أنثى الأيل استغرقت وقتاً طويلاً فإنني نسيت ما كنت بصدده. وهذا ما حدث بالضبط. والرب يشهد على ذلك.

كانت هذه أول كذبة أتذكر تفاصيلها. ورغم أنها كانت ساذجة وسيئة الحبكة إلاّ أنها راقت للعم سانتوس كثيراً، واعتبرها كذبة خلاّقة مقارنة لطفلٍ في مثل سني. وكان مورس لونيل ضحية هذه الألمعية إذ تحمّل العقوبة وحده. بالنسبة لي كانت كذبة شديدة الحبكة، ومترابطة لدرجة أنني شعرت بالفخر، وربما كانت تلك البذرة الأولى لموهبة التأليف والسرد القصصي لدي، غير أني لم أعتبرها كذلك حينها، فقد كان الغرض منها هو التملّص من عقوبة وشيكة ليس إلاّ.

إحدى الشخصيات التي أثارت نزعتي الأدبية منذ الطفولة، زنجي يدعى إكسمن دو ريجيلو الذي يعامله الجميع بازدراء واضح. في البدء انتقلت إليّ هذه الازدرائية قبل أن أسمعه خلسةً وهو يقول "لن يستطيع أحد أن يمتطي ظهرك إلا إذا انحنيت!" وعندما فاجأتني التفاتته المباغتة هربت وأنا أشك بأنه يمتلك عيناً ثالثة خلف رأسه. لا أعرف ما إذا كان قد تمكن من التعرّف عليّ، ولكنني أذكر أنني بقيت خائفاً بقية اليوم، وظلت كلماته تلك ترن في أذني حتى اليوم. كنت أرى في عينيه حزناً من النوع الذي لا يموت. وشعرت تجاهه بفضول غريب، لدرجة أنني قاطعت أمي وهي تتحدث إلى بعض النسوة وسألتها عنه، وعرفت منها أنه من سلالة رقيق مجلوبة من غينيا كان تاجر نخاسة شهير قد أُتي بهم في موسم حصاد القطن. لا أحد يعرف قصته على وجه التحديد ولكن الجميع كانوا يستخدمونه لأغراض مختلفة حتى دون أن يدفعوا له ثمن ما يقوم به.

كانت النساء أكثر من يستخدمنه، فقد عرفت أنهن يستخدمنه في جلب الماء من النهر في مواسم الزراعة، وفي تعليف البهائم، وحمل الأمتعة ورفع أعمدة السقوف الخشبية، والحفر للمواقد. وقد قام بعض الرجال بخصيه بعدما اشتدت حاجة النسوة إليه داخل المنازل. العديد من الرقيق السود المستخدمين داخل المنازل تم إخصاؤهم أو بتر أعضائهم التناسلية. بعض النسوة ذكرن أن الجنرال فرانكو هو من أمر بجلبهم لاستخدامهم كدروع بشرية في حربه التي كان يخوضها إبان فترة حكمه. مات العديد من العبيد في تلك الحرب، ونجا دو رويجليو الزنجي الذي فقد إحدى ذراعيه وفر مع زوجته يفييت وابنهما، ويقال أن دو رويجليو هو الاسم الإسباني لدينيس والد إكسمن العننين الأسود.

حكى لي العم سانتوس ببرود عن كيف كان الجنرال فرانكو يتخلص من الجرحى العبيد الذين لا يصلحون للعمل بعد أن انتهت الحرب. مما لا شك فيه أن العم سانتوس كان عنصرياً كغيره من النوركيين الفخورين بأصولهم العرقية. ومما حكاه لي سانتوس عن طرق التخلص من الجرحى السود، أنهم كانوا يتركون الجرح دون معالجة، ويجرّدونهم من ملابسهم، ويغلون أيديهم خلف ظهورهم ويعصبون أعينهم. ثم يصلبونهم أحياء في أعمدة أسطوانية ضخمة في مكانٍ ما في وادي غوادا لاخارى ويتركون شأنهم للنسور التي تسكن أعلى القمم الجبلية. وبعضهم كان يتم رميهم من شرفات عالية على ألواح إسمنتية، ومن يتبقى منهم حياً كان يعاد رميه مرّة أخرى حتى يتأكدوا من موت الجميع، ومن ثم يتم دفنهم في حفرة واحدة في منطقةٍ نائية أو تترك جيفهم للضباع والضواري.

كان دو ريجيلو قليل الكلام، لدرجة ألا أحد يعرف صوته، ولم يره أحد يضحك قط. كان الغموض الذي يكتنف هذا الشخص مثيراً لي لدرجة أنني كنت في كثير من الأحيان أبحث عنه رغم خوفي البالغ منه. فكان يخيّل إليّ أنه سيقتلني لفضولي وتطفلي عليه. ولكنني أحببته بعد جملته التي قالها لي عندما فزعت لرؤيته فجأة وتعللت بأنني لم أتوقع أن أراه "إن من لا يرى إلا ما تظهره الأنوار، ولا يسمع إلا ما تصدره الأصوات، ليس إلا أصم أعمى!" قالها بلكنة إسبانية ركيكة، ولم أفهم ما إذا كان ينعتني بذلك، أم أراد أن يلقنني الحكمة على عجل. كان، رغم بشاعة شكله، حكيماً كثير التهذيب، غير أنه لم يكن يضحك أبداً. قلت في نفسي "من يملك الحكمة لا يضحك."

في ذلك اليوم الذي أنقذني فيه الزنجي من الغرق، عندما انزلقت قدمي على جرفٍ لم أكن أعرف مدى عمق هاويته، رأيته عن كثب. كان وجهه مليئاً بالنتوءات وشفتاه الغليظتان شديدتا الحمرة، وعلى خديه ثمة شعرات صغيرة لا ترى إلا من تلك المسافة القريبة جداً. كنت خائفاً منه رغم أنه أنقذ حياتي، ولم يتركني حتى اطمئن أنني بخير. قال لي بلكنته الإسبانية الركيكة "لا تخف مما لا تعرف، يجدر بك أن تخاف مما تعرف!" كانت نظراته رغم عمقهما المخيف، تحملان حنواً لن أنساه. ومن تلك الحادثة أصبحت لا أفارقه أبداً.

كنت أذهب إليه سراً حيث يتخذ مسكنه في منطقة شبه معزولة. بدأ يخبرني عن قصص أهله وأصدقائه الذين قضوا نحبهم إما على أعمدة غوادا لاخارى الاسطوانية أو من فوق شرفات المدينة، أو تحت سنابك خيل الجنود أو بأيدي التجار. كنت أسمع في صدره أزيزاً مؤلماً وهو يتنفس بصعوبة بالغة حتى رأيت دمعة منتحرة تسقط من عينيه على خده المليء بالنتوءات. وحكى لي عن بلاده التي جاء منها.، ولم يرها إلا عبر قصص الأسلاف. لم أفكر بالمفارقة الغريبة في قصته وقصة والديه، غير أن تعاطفي مع وضع الزنوج في تلك الحقبة جعلني لا أسأله عن تلك المفارقات أو الاهتمام بها.

كان إكسمن دو ريجيلو يملك في غرفته الخشبية البائسة كرتوناً مليئاً بالكتب بعضها بالإسبانية وبعضها بلغات لم أتعرّف عليها. عندما شدني تصميم إحدى الكتب قرأت عنوانه الذي كان بالإسبانية "الطوفان" ابتسمت وأنا أسأله "هل تعرف الإسبانية؟" فأجابني دون أن يلتفت إليّ: "لا أحد يولد عارفاً .. لقد أمضيت أكثر من نصف عمري هنا" شعرت بالخجل وحاولت أن أخرج من هذا المأزق بسؤال آخر "من أين تتحصل على هذه الكتب؟" فقال لي وعلى وجهه ابتسامة هذه المرة "لم اشترها بالتأكيد"

تعجبت كثيراً عندما غضبت أمي لمعرفتها بمرافقتي للعبد الزنجي، وتعجبت أكثر أنها أخبرت جدي ليتولى معاقبتي نيابةً عنها. واكتشفت أن العزلة التي يعيشها إكسمن ما هي إلا عزلة اجتماعية مفروضة عليه من قبل الأهالي بسبب لونه الأسود؟ قلت لها بأنه شخص طيب القلب، على غير ما يبدو عليه، فشدني جدي من أذني بقوة وأسرّ لي بحنق: "لن ترتاح حتى يلوط بك هذا العبد الأسود، وتعود إلينا بعارٍ لا يمحى" كانت جملته تلك مؤلمة بالنسبة إليّ ، ربما أكثر إيلاماً من قرصته تلك. لم أعرف على وجه التحديد ما إذا كان جدي جاداً فيما قاله، أم أنه أراد أن يخيفني منه وحسب. عرفت فيما بعد أن مرافقة الصغار للأكبر منهم سناً أمر مثير للشبهات في كوينكا. ولكنني ظللت على تواصل مع ريجيليو الأسود في السر.

أمسيات كوينكا هادئة في الغالب ما عدا تلك الأمسية التي سمعنا فيها صراخاً أنثوياً قادماً من ناحية غربية. للوهلة الأولى اعتقدت أنها سيدة لربما تعرضت لهجوم من إحدى الأرواح الشريرة، لا سيما وأننا كنا نتحدث عن الأرواح الشريرة تلك الأمسية، وبدا لي هذا الاعتقاد راسخاً لدرجة لم أشأ فيها الخروج لمعرفة الحقيقة. ما دفعني للخروج هو عزم الجميع على معرفة مصدر الصوت. فخرجت معهم لأنني خشيت أن أمكث وحدي. كان الصوت ما زال مسموعاً من ناحية ما. سِرنا بموازاة نهر كويربو. كنتُ خائفاً من رؤية هذه المرأة المصابة بالمس، بل كنت أشعر أن الروح الشريرة التي دخلتها سوف تتركها وتدخلني لمجرد رؤيتي. في حالات الخوف لا يكون هناك إحساس جمعي. الخوف إحساس فردي وحالة ذاتية جداً. كانت صرخاتها تتعالى كلما اقتربنا من مصدر الصوت. وبينما كنت بالكاد أحرّك قدمي، كان الجميع يحثون الخطى. تملكني الخوف بصورة مفزعة. وأخذت أركض حتى لحقت بهم، فلم أشأ أن أتخلف عنهم بمسافة طويلة.

عندما وصلنا إلى مصدر الصوت، كنت أتحاشى رؤية المرأة الممسوسة رغم فضولي الشديد لرؤية ما يجري. وعندما صاح أحدهم "لقد غرق فرانكلين" تبخرت مخاوفي فجأة، وانقلبت دون تدرج إلى شعور بالشفقة. عندها تجاسرت ورفعت بصري إلى المرأة التي كانت تقف على حافة النهر. كانت تحمل الماء بكفّيها وتسكبه على رأسها بهستيريا مخيفة وهي تقول "فرانكلين يا حبيبي لا تمت .. أرجوك" ولكن فرانكلين لم يسمع نداءاتها تلك. كانت تعلّق بصرها بنقطة ما في نهر كويربو الهادئ وقتها. خمّنت أنها النقطة التي رأت فيها فرانكلين آخر مرة. شعرت بغضب شديد تجاه النهر، وكرهت السيولة التي تبتلع أجساد البشر هكذا دون أن ترحم أحداً. كان هدوء النهر مستفزاً. لقد ابتلع النهر جثة طفلٍ لم يكمل عامه التاسع بعد. ربما كان أحد الصبية الذين التفوا حولي عند قدومي الأول لكوينكا. تفرّدت في وضع سيناريو لما حدث دون أن أستوعب ما كانت تقصه المرأة على مسامع الرجال بفزع وبلا ترتيب. قررت أن إحدى تماسيح العصر الحجري كان جائعاً ذلك اليوم.

الرجال الذين خلعوا ملابسهم على إحدى الصخور العملاقة، عادوا جميعاً بعد أن قلبوا النهر رأساً على عقب بحثاً عن جثة فرانكلين. قال أحدهم بصوتٍ لاهث "ربما جرفه التيار إلى مكانٍ بعيد." تلك المرأة المفجوعة لم تكن تهتم كثيراً لتحليلاتهم طالما أن وليدها ما زال مفقوداً في هذا النهر الراقد في خبث أمامها. كانت تضرب بكفيها الماء بهستيريا شغوفة. كنت أتساءل : "ماذا لو كان النهر بذلةً جميلةً لوحشٍ بشع لا يتغذى إلاّ على لحوم البشر؟!" هذه الحادثة جعلتني أكره المسطحات المائية بشكل نهائي وجذري، وأتخذ منها موقفاً مبدئياً. كما كانت تفعل السيدة ، فقد علّقت بصري بتلك البقعة الساكنة من النهر، أترقب أن يخرج أحدهم منها رأسه. سواء أكان فرانكلين أو فرس النهر أو النهر نفسه.

وفي يأس مقيت ردد البعض عبارة مشيئية "لقد غرق الصبي وانتهى الأمر" كانت هي قاصمة الظهر بالنسبة للسيدة النائحة. وبينما بدأ الجمع بالعودة إلى منازلهم، قلّة منا فقط وقفوا لإقناع السيدة بنسيان الأمر. كنت أتساءل "ترى أين زوجها؟" ولماذا خبت نار الحماسة فيهم فجأة؟ وكأن الأمر لا يعنيهم. ترى ماذا سيكون مصير هذه السيدة؟ لم أنتبه إلاّ عندما أمسك كروسفينو إميليو بيدي معلناً خاتمة لتراجيديا كانت قد بدأت للتو "هيا بنا إلى البيت" وبطريقة لا شعورية تملصت من يديه وأنا أقول ببراءة "ولكن القصة لم تنته بعد" فصرخ في وجهي بتعالٍ "ليست فرجة لتقول ذلك" وربما كان ذلك أول مرة أكتشف فيها غباء خالي وعجرفته. قلت له: "ولكن السيدة ما تزال تبكي" كان يخيّل إليّ أنها لن تبرح مكانها طالما أن ابنها لم يخرج بعد.

كانت تلك أول تجربة موت أخوضها عن قرب. كان النهر بهدوئه المستفز يبدو كقاتل أجير يعيد ارتداء سترته المطرية ويغسل دماء ضحيته عن يديه بلا مبالاة. تمنيت أن لو فقأوا عيني المرأة المفجوعة حتى لا ترى قاتل ابنها حراً طليقاً أمامها دون أن يستطيع أحد أن يثأر لها منه.

ذلك اليوم لم أستطع النوم. كانت ذاكرتي تعيد عليّ شريط الحادثة المأساوية باستمرار. وكانت صرخات تلك السيدة ما تزال تسبح في فراغات مسامعي كأنها ذرات غبار عالقة في متاهة فضائية خارج نطاق الجاذبية. كنت أبكي، بينما كان البعض قد أخرجوا قوارير النبيذ، لا سيما العم سانتوس الذي كان يعشق احتساء النبيذ ومات به. لذا فقد كانت النسوة لا يسمحن لنا بالجلوس معهم، ونضطر إما لمرافقتهن وسماع أحاديثهن المملة، أو نلعب في فناء المنزل المليء بالحشرات، ألعاباً سرعان ما كنت أضجر منها.

كانت أمي والجدة ماريابيلا تانكريدو تتسامران عندما دخل أحدهم دون أن يطرق الباب لاهثاً ليفتح الباب على مصراعيه سامحاً بدخول آخرين يحملون على أكتافهم شاباً مصاباً. كان هذا الشاب هو جرسفندور رسل ابن العمة تيرا أورفل. قيل أنه لدغته أفعى سامة. قررتُ أن هذا اليوم يوم نحس!

أسرعت النسوة وجلبن بعض القطع القماشية وربطوا بها فخذ جرسفندور الذي كان يتصبب عرقاً غزيراً. بينما راح أحدهم يفتح جرحين غائرين بمحاذاة اللدغة بموسٍ حاد. كنت أشاهد بصعوبة بالغة إجراءات عملية استخراج السم من قدم جرسفندور القادم إلى كوينكا لقضاء العطلة السنوية. وضع المعالج مادة بيضاء على الجرح فما كان إلى أن أوشك جرسفندور أن يقفز من مكانه لولا أن أمسك به الشباب بقوة، وما هي إلا دقائق حتى خرجت مادة صفراء مسودة كأنها سكر محروق وهي تفور محدثة فقاعات هوائية على جلده. ثم غطّ جرسفندور بعدها في إغماءة عميقة، بعد أن قرمش بعض شرائح الليمون التي أعطتها إياه سيدة من الحضور، وقيل أن الليمون مكافح جيّد للسموم.

كانت أفاعي أحراش أوسيكبو المرقطة تثير خوف النوركيين في قرية كوينكا إذ كانت تهدد حياة أبنائهم بالخطر كلما اضطروا لعبور الحرش إلى القرى المطلة على جبال السييرا نيفادا المغطاة بثلج لا يذوب على مدار السنة. وكان هو منفذ كوينكا الوحيد للعالم الخارجي، حيث أنها محصورة بين نهر كويربو غرباً وسلسلة جبال الرملة شرقاً. وما أثار دهشتي أنني كنت المذعور الأوحد في تلك الأثناء، إذ أن البقية كانوا قد اعتادوا على حوادث اللدغ تلك. كانت ثمة سيدة شاركت الشبان في تطبيب جرسفندور، وكانت تمسك بإحدى ذراعيه، بينما كانت جاثية على قدميها بطريقة قرفصائية، الأمر الذي جعل أطراف فستانها تتدلى دون أن تشعر هي بذلك سامحة لملابسها الداخلية بالبروز بوضوح لا يتكرر دائماً. كنت أظن أن الجميع منشغلون بلدغة جرسفندور، غير أن العم سانتوس أورفل كان قد لاحظ ذلك.

إيزابيل نيرون سيدة متزوجة وصغيرة السن، وربما كانت جميلة بحسب معايير النوركيين الكوينكيين. وهي نسخة مكررة من عشرات السيدات المتزوجات من رجال اضطرتهم ظروف المعيشة القاسية لهجرة كوينكا إلى أرتكاتا أو سيجوبيا أو ماربيا أو حتى إلى لاميمبون غرباً. تاركين زوجاتهم في كوينكا بعد أشهر قليلة من زواجهم. غالبيتهم لا يعودون إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات، ليكتشفوا أنهم أصبحوا آباءً لأطفالٍ ذوي عامين. وبعضهم يكتشف أنه أصبح أباً لطفل غير شرعي. لذا فقد كان الزنا ثاني أكثر ظاهرة متفشية في كوينكا بعد السُكر، وتعاطي النبيذ الذي يصنعونه محلياً بأيديهم. وكان صنع النبيذ من اختصاص رجال كوينكا، في حين تقوم النساء بالأعمال الأكثر أهمية ونفعاً.

لم يكن تقييم النوركيين للزنا بمفهومه الديني جريمة أو خطيئة تجرمها الكنيسة، بل كانوا ينظرون إليه على أنه أمر أقل قليلاً من الطبيعي. ولذا فإنهم لم يكونوا يمارسونه في الطرقات. كان عليهم أن يخفوا ذلك، ولكنهم لم يتوجب عليهم أن ينكروه أبداً. وكما قد تجد أحدهم مرمياً بقرب المذبح بعد أن أسرف في الشراب. كذلك لم يكن الجنس لدى النوركيين خطيئة إلا عندما تكتشف. هذا الاكتشاف الاجتماعي ما جعلني أفهم سر عدم اكتراث الرجال بما فعله ذلك الوغد بالفتاة العشرينية أثناء رحلتنا إلى كوينكا. كانت ثمة مشاعية من نوع غريب وحصري منتشرة في كوينكا، إذ أن أي امرأة هي بطريقةٍ ما لأي رجل فقط إذا وُفّق في اغتنام الفرصة في المكان والوقت الملائمين. والمرأة التي ترفض أو تستغيث كانت تعد امرأة غبية لأنها تفضح نفسها بنفسها.

ذكرياتي عن كوينكا منحصرة في إطار اكتشافي للعناصر الأساسية المؤثرة في الهيكلة الاجتماعية للنوركيين الذين ظلوا فيها ولم ينزحوا كغيرهم إلى أماكن أخرى. كذلك اكتشافي لموهبة الكذب التي أماط اللثام عنها العم سانتوس أورفل وباركها. في تلك المرحلة لم تكن لدي أي نزعة أدبية ، بل كانت مجرد مرحلة اكتشاف وتخزين لا شعورية. على المستوى الشخصي جداً كان الاكتشاف في حدّ ذاته لا يأتي إلا عبر مغامرة تتطلب الخروج قليلاً عن بعض التعليمات الأسرية الصارمة التي كان يفرضها علينا الكبار. ولم تكن نزعتي لحب المغامرة عملية صعبة، بل كان أطفال كيونكا جميعاً يشتهرون بحبهم للمغامرة وكسر التعاليم. ولا أنسى تأثير الزنجي دو ريجيلو فيما بعد على تشكيل الجانب الأدبي لدي.

كان أورفل بودن - الأديب المترهبن - يحاول خرق قوانين الطبيعة البشرية بجعلنا نسخة متكررة عنه، متغاضياً عن الفوارق الجوهرية بين حقبتين متباعدتين زمانياً وثقافياً. لم تكن لدي نزعة إيمانية قوية عندما أصر علينا للذهاب إلى كنيسة العذراء، ورغم ما تثيره الكنيسة من رهبة في قلوبنا نحن الصغار، إلاّ أننا لم نستشعر يوماً جودة التراتيل التي كانت تتلى بصوتٍ كورالي صاخب. فقط في لحظات الملل الحركي كنت أطيل النظر إلى اللوحات الجدارية الضخمة التي كانت تتوسط الكنيسة. كانت تعجبني الرسومات المتقنة لذلك الرجل الوسيم ذو اللحية السوداء والشعر الطويل المصلوب بكبرياء على صليب ذهبي فاخر ولم يغب على الرسّام أن يترك بعض التفاصيل الدرامية على النسوة والأطفال من حوله، وهم يبكون بقداسة.

لم أكن مواظباً على الذهاب إلى قدّاس الأحد الذي كان جدي يحاول أن يرغمنا على الذهاب إليه. ورغم ذلك فإن جدي لم يفتأ يقص علينا في كل مرة قصة أحد الأسلاف الذين سخّر له الرب ذئباً يمتطيه ويستخدمه في رحلاته القصيرة بين القرى الصخرية. كما حدثتني يواماريز روجيليو – زوجة أورفل الثانية – في جلسة ودودة عن الأورفليين الذين عرفوا منذ قرون طويلة بأن أطفالهم الأكثر سذاجة وجرأة في خوض المغامرات بين أطفال النوركيين، يظلون كذلك إلى أن يبلغوا سن الأربعين أو أقل قليلاً ليصبحوا قساوسة ورهباناً بعدها. ورغم أن هذا الكلام لم يكن علمياً إلا أنها أكدت لي بنماذج كثيرة جداً على ما تقوله. وكان والدي إحدى هذه النماذج المصادقة لهذا الخط الأسري القديم.

لم يعرف والدي درب الكنيسة إلا بعد أن أنجب زوريكا أختي التي تصغرني بأربعة أعوام. وسمعت من الجدة يواماريز والعمة التوتمية كيوريدا عن والدي قصصاً ومغامرات لم أكن لأصدقها لولا أنهن أقسمن بالرب وروح القدس على صدقهن. كما أن ثمة نسوة سردن عليّ ذات القصص فيما بعد. ما جعل صورة والدي المتدين تنكسر في نظري وتجعلني أؤمن بأن هنالك عهداً قادماً يتوجب عليّ أنا الآخر أن انتظره. حتى ماريو لوبيز اللقيط الذي عاش في كنف الجد أورفل بودن قارعاً لأجراس الكنيسة، الذي كان يظنه الجميع الأكثر ورعاً وتقوى، لم يكن ذا صلة وثيقة بالكنيسة وطقوسها، حتى ليحكى أنه ذات ليلة تعلق بحبال الأجراس، فجلجلت الأجراس في غير موعدها. وأكتشف العامة أنه ثمل عندما أحاطوا به تلك الليلة، وجلده أورفل بسوط مصنوع من جلد البقر وأمر بحلق شعر رأسه. ومن يومها لم ينبت شعره ثانية. وصار ماريو حليق الرأس قارع أجراس الكنيسة نهاراً، وعربيداً بذيء اللسان ليلاً، إلى أن تجاوز عمره الأربعين وظهرت بعض الشعرات البيضاء على شاربه. ولم يتزوج حتى شاهده البعض يمارس العادة السرية خلف أريكة خشبية طويلة داخل الكنيسة، عندها قام أورفل بودن بتزويجه من أرملة لا تنجب. "بأمرٍ من الرب" هكذا قال أورفل للجميع. ويحكي البعض قصة الخراف التي تسللت وقت القيلولة إلى الكنيسة التي كانت مهملة في فترةٍ ما، وكيف أنها بدأت تقرع الأجراس لصلاةٍ في غير وقتها، عندما بدأت في التهام الحبل، وعلّق البعض أن قرع الأجراس في الكنيسة ما هي إلا مهنة وضيعة، وكذلك كنتُ أراها.

كانت رحلتي تلك إلى كوينكا - والتي صادفت موسم حصاد التوت – ليست بذي بال على الصعيد الأسري، إذ أنني كنت في الثامنة من عمري، وما أن عدت إلى أرتكاتا حتى نسيت كل شيء، ما عدا ما اتسعت الذاكرة لحفظه إلى اليوم. كانت رحلتي تلك أشبه برحلة إلى عالم الموتى والعودة من جديد. إذ لم تكن كوينكا كأرتكاتا زاخرة بالسيارات والدراجات النارية والمباني الزجاجية وشوارع الإسفلت القاتمة. كان ريف كوينكا ساحراً ومخيفاً لكنه لم يستطع أن يحل محل أرتكاتا لدي. ولم تحل القيوط والراكونات الضخمة في كوينكا محل القطط الأليفة التي كنت أعشقها وأهوى تربيتها في المنزل، رغم اعتراض والدي على ذلك. لذا فقد كنت أشتاق إلى منزلنا في أرتكاتا وإلى سريري المصنوع من خشب الماهوجني المحروق بعناية. رغم أنني كنت سعيداً بابتعادي عن والدي الذي لم يأخذ من أورفل بودن غير عنفه وعصبيته المفرطة، بالإضافة إلى أنفه الكبير الذي كان علامة الأورفليين المميزة.

ذلك الصباح الذي أيقظني فيه ذباب لحوح قليل التهذيب، وصوت سقوط رفوف المطبخ الخشبية على قدم جوانيتا، لم يكن صباحاً اعتيادياً على الإطلاق، فقد كان آخر يوم لنا في كوينكا. كنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أراقب أمي وهي تعد الحقائب لرحلة العودة إلى توليدو، بعد أن لفت قدم جوانيتا بشاشٍ طبي واستطاعت جدتي لأمي كفّها عن البكاء بصعوبة. كانت جوانيتا تخاف من منظر الدماء ورائحته، وكانت تبكي لرؤية الدم حتى وإن لم تستشعر الألم فعلياً. بينما لم أعر كل ذلك اهتماماً، وأنا أودع سانتياغو إميليو وبقية الرفاق الذين لم يكفوا عن مناداتي ب"القط الأرستقراطي". ونسيت أن أودع أورفل بودن عندما سمعت صوت أبواق عربة أمادو وهو يدور دورته الاحتفالية في الساحة العامة. وغادرنا كوينكا عصر ذلك اليوم، وحملت معي في جيبي خلسة بعض ثمار التوت التي لم أتذكرها بعد ذلك إلاّ عندما ساحت وتركت بقعة حمراء كبيرة حسبتها أمي جرحاً.

أول ما فعلته عندما وصلنا إلى توليدو أني ذهبت إلى سوليداد فيدل وقبلتها تقديراً وعرفاناً مني بما عرفته من محبتها لي بدليل العملة القيّمة التي اكتشفتها فيما بعد، وكانت سعيدةً بذلك أيما سعادة. كانت سوليداد تكره الأورفليين من غيرما سبب واضح عدا غضبها من أورفل بودن الذي تزوج عليها مخالفاً بذلك عُرف الكنيسة الذي هو قسيسها الأكبر. وكانت ترجو من الرب ألا يجعلني نسخة مكررة من أحدهم، لذا فقد كانت دائماً تكرر جملتها المشهورة "إذا كنت تريد أن يرضى عنك الرب؛ فلا تكن أورفلياً صرفاً" كان ثمة سؤال يدور في ذهني ولم أجرؤ أن أطرحه على أحد: كيف وازن أورفل بودن بين حبه للرب وحبه للنساء؟


---------------------------------

الهوامش:
( 3 ) التوتم أو الطوطم Totem هو في الغالب حيوان أو نبات يوجد اعتقاد جازم لدى القبائل البدائية أنها من نسله. والتوتمية نظام أسري للقبائل








أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 12:43 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

الفصل الثالث




العودة إلى أرتكاتا



- ألماس وقضبان الحديد -







-






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 12:51 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي الفصل الثالث

بعد عودتنا إلى توليدو، بدأ مانويل أوليوس - صديق والدي وزوج السيدة شارلوت كوربن، الفضولية التي رافقتنا في رحلتنا إلى كوينكا - بعمل الإجراءات الضرورية لسفرنا إلى أرتكاتا حيث ينتظرنا والدي هناك. وكان إخلاص أوليوس لوالدي سبباً في أن يحرص على إيجاد حجزٍ لنا على متن طائرة ستقلع في اليوم التالي مباشرةً، في حين تحدث الآخرون عن امتلاء المقاعد على الرحلات الجوية تلك الأيام بسبب عودة الآلاف بعد انقضاء الإجازة والاستعداد لموسم المدارس. لا أستطيع أن أحدد علاقتي بالطيران بشكل قاطع، فأنا لا أخاف الصعود إلى الطائرة، ولكنني أشعر بالتوتر لحظة الإقلاع. كما أنّ هنالك سبباً آخر يجعلني لا أملك الجرأة الكافية لإعلان خوفي من الطيران صراحة، وهو أنني أخاف من الشعور بالعجز. لن يتبقى لي غير المشي على الأرض إذا أضفت على رهبتي من الماء والسباحة، رهبةً أخرى هي رهبة الطيران. على أي حال، فأنا لا أركب الطائرات كثيراً. ولكنني أستطيع أن أحدد علاقتي بأوليوس الذي لم يعجبني إخلاصه بتلك الطريقة المتعجلة، فقد كانت لي رغبة بالمكوث في توليدو لفترة أطول.

يناسبني الجو الملاحي العامر بالفخامة: الإشارات والرسومات الضوئية، وأصوات الرنين التحذيرية، وأقمشة المقاعد الوثيرة، وأرضيات الطائرة المكسوة بسجاد أحمر لم تلمسه الأقدام العارية. يخيّل إليّ أن ملاحي الطائرة يجدون متعة في المشي على تلك السجاجيد حفاة بعد انتهاء كل رحلة. ما لا يعجبني في الطائرة: الوجبات التي يقدمونها لا سيما على متن الرحلات القصيرة. تذكرني بالوجبات التي تقدمها المستشفيات أو تلك التي تتناولها جوانيتا عندما تتبع حِمية غذائية، كلما أحست بسمنة مفرطة. وكانت لا تحس بذلك إلا عندما تضيق عليها ملابسها.

في تلك الليلة، ودعتني توليدو بطريقة احتفالية خاصة جداً جعلتني أضيف إلى قائمة الأشياء التي أخشاها اسماً جديداً عندما طلبت مني أمي باعتمادية كبيرة أن أشتري لها عسلاً من إحدى المتاجر القريبة. كانت تخطط لأن تحمله هديةً لوالدي الذي يعشق العسل كالدببة السمراء الأسترالية. ولأنها كانت على قناعة كاملة بأن عسل أرتكاتا مغشوش ومزيد بالماء فإنها كانت ترى أن خير هدية تحمله لأبي من توليدو هي رطلين من العسل الطبيعي. كنت أتساءل دائماً ما الذي يعجبها في والدي، لدرجة تجعلها تفكر في إهدائه عسلاً !

بخطوات مسئولة ومعتدة خرجت من البيت حاملاً معي وعاءً ذو غطاء خاص. وفي طريق العودة بعد أن اشتريت العسل الذي وضع لي فيه البائع بكرمٍ جم خلية شمعية من النوع النادر بعد أن أخبرته بأن هذا العسل سوف يذهب إلى أرتكاتا خصيصاً، وفي إحدى التقاطعات رأيت كلباً يقف بشموخ على صخرة هائلة بينما كان يرمقني بنظرات مريبة، وكأنه يحاول أن يقرأ ملامحي غير المألوفة لديه. وعلى طريقة الألمان بادر بهجومٍ غير مبرر، الأمر الذي جعلني أركض بهستيريا كمن يحاول الهرب من صاعقة سماوية من النوع المباغت. لم تكن أرض توليدو صالحة للجري المستقيم، فكانت الحفر والتعرجات التي تثخن الشارع تحول دون أن أفلت من بين أنياب ذلك الكلب النازي.

عندما بدأت أسمع صوت زفيره خلفي مباشرة بوضوح تام، كأنه تنين همجي جائع، عندها بدأ الأدرينالين يرتفع لدي، وأدركت بفطنة الخائف أن وعاء العسل الذي أحمله يثقلني بطريقةٍ ما، فرميته أرضاً لأنجو بنفسي. غير أني سقطت غير بعيد من وعاء العسل الذي كان قد تكسر وجرى على الأرض بتثاقل كأنه جدول من الحِمم البركانية. ما جعلني أشعر بالاستفزاز ، أن الكلب أقفل راجعاً عندما سقطت أرضاً دون أن يبدي أدنى مشاعر متأسية أو حتى دون أن يعض قدمي. لم أعرف عندها سبباً منطقياً لمطاردته لي طالما لم يكن العض في نيته! الأمر الذي كان أكثر واقعية هو أنني نجوت من عضة الكلب، لأقع ببلاهة بين يدي أمي التي لم تغفر لي سكبي للعسل أرضاً وكسري للوعاء الثمين، كأنها لم تكن لتبالي لو أن ذلك الكلب الهمجي التهم جزءاً من قدمي في مقابل أن أعود إليها بوعاء العسل. لم يعجبني أسلوبها البراجماتي هذا أبداً، واكتفيت بنظرة معاتبة لها وأنا أقول "المهم أنني عدت إليك سليماً"

أمي بسذاجة نساء عصر النهضة، تعتقد أن الأبناء مجرد مظهر اجتماعي. لذا فقد كانت تفعل ما بوسعها لتثبت للجميع بأن أبنائها هم الأكثر تهذيباً والأقل مشاغبة. لم يكن ذلك سلوكاً فردياً، بل كانت تعاليم والدي الصارمة في الحقيقية هي الجانب النظري الذي تعتمد عليه في كل ما تقوم به دائماً. وهي "أي التعاليم الأبوية" بدورها مستقاة من نهج أسري قديم جداً يجعل الأبناء سلعاً للعرض وليس للاستهلاك.

والدي الذي استقام مؤخراً، أحس برغبة ملحة في إنشاء أسرة محافظة، فكان له ذلك. ولكم كانت تعجبني دقة والدي في عمله. حتى على المستوى التناسلي؛ فقد أنجب من أمي ستة أبناء، حرص على أن يجعل بين كل اثنين سنتين، وبين كل أربعة أربع سنوات. ولا أعلم كيف استطاع أن يحدد ذلك بكل دقة! غير أن هذه المزاجية التناسلية العالية والمنظمة لدى والدي كانت تروق لي كثيراً.

لم تحظ أمي بكفاية من التعليم. عندما أبلغها الجد مانويل إميليو هاتفياً بخاطب يطرق بابها، بينما كانت تقضي عطلتها المدرسية في الريف الفرنسي لدى خالتها الجدة تريسا بيلي. وربما كانت جذور أمي الفرنسية سبباً في احتفاظها باللون الأبيض المائل إلى الصفرة، بينما كان والدي كبقية النوركيين ذو بشرة حنطية مشوبة بالحمرة الهادئة. كانت أمي لا تعرف والدي جيداً عندما تقدم لخطبتها، غير أنها – كما تقول دائماً – كانت تثق بأن جمالها الفرنسي الآخذ كفيل بأن يجذب إليها قلوب الرجال على اختلاف مشاربهم.

وفي إحدى غرف بيت العائلة الصغير بتوليدو كانت ثمة صورة قديمة لوالدي ووالدتي في يوم زفافهما معلقة بعناية على الحائط. يقف فيها والدي وقفة عسكرية ونظرات ساذجة مشدوهة تدل على أنه لم يعتد التصوير الفوتوغرافي، بينما جلست أمي كسيدة بارونية نبيلة بابتسامة دافئة فوق عادية. وبخط يدوي أسفل الصورة على شريط أبيض لاصق كتبت جملة: "حفل زفاف سارجينيو أورفل بودن/ كارول مانويل إميليو – شتاء عام 1971م."

أمي التي أخيراً توقفت عن البكاء على "العسل" المسكوب، كانت قد بدأت في وقتٍ متأخرٍ من الليل في إعداد حقائب السفر، وبأسلوبٍ توددي كنت أساعدها في ذلك، ربما كان ذلك نابعاً من إحساسي العميق بالذنب لما اقترفته ذلك الصباح. بينما نامت جوانيتا في حضن سوليداد فيدل التي ظلت تراقبنا من فوق سريرها النيكلي دون أن تنبس ببنت شفة. تلك الليلة لم أستطع النوم. تناوشتني مشاعر متضاربة ما بين الحنين إلى غرفتي وقطتي التي صنعت لها تحت سريري سريراً من الكرتون وفرشت عليه لحافاً قديماً استأذنت أمي في استخدامه. كان والدي يكره القطط وما تخلفه من روث وروائح. كان دلالها يثير فيه حنقاً غريباً لم أستطع أن أفهمه. قلت "من لا يحب القطط لا يملك قلباً بشرياً!"

لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي بلغ به ضجره من القطة أن أمسكها ووضعها في شوالٍ من ذلك الذي المخصص لتخزين الفحم الحجري، وأفلتها في مكانٍ بعيد. وكم كانت دهشتي عندما رأيتها بعد ثلاثة أيام تقف على شباك غرفتي الأرضية وهي تمارس المواء المتعب بطريقة معاتبة. كان يبدو عليها الإرهاق والجوع، منظرها ذلك جعلني أشعر بكثيرٍ من الأسى تجاهها وبمثله من الغضب على والدي. كنت أشعر بشفقة عظيمة على تلك القطة التي لم تكن تجيد الإفلات حتى من الظرابين التي كانت دائماً ما تنفخ عليها، ما جعل إحساسي بالمسئولية تجاهها يتعاظم أكثر فأكثر.

كانت أمي تقول لي دائماً أن أرواح الموتى من الأطفال تتلبس أجساد القطط وتتمثل بهم. وأذكر أنها قصت عليّ ذات ليلة قصة ارتدعت منها فرائصي خوفاً. كانت تقول القصة:

"أن أماً فقدت ابنها ذو الأربع سنوات في إحدى الطواعين التي كانت قد انتشرت وقتها. وظلت حزينة عليه حتى أصيبت باكتئاب حادٍ أصبحت بعده قليلة الخروج من البيت، بينما كانت بدأت اهتمامها بتربية قطة صغيرة عثرت عليها في مطبخها دون أن تعرف من أين أو كيف دخلت إلى هناك. كان يبدو عليها الجوع، فأطعمتها الحليب وظلت ترعاها وتسلي نفسها بملاعبتها. كانت مشاغبة القطة تشعرها بالمرح الذي افتقدت طعمه منذ رحيل طفلها قبل ما يربو على العام.

ذات ليلة أغلقت السيدة باب مطبخها دون أن تعلم بوجود القطة داخله. وظلت تبحث عنها في كل مكان في أرجاء المنزل. خمّنت أنها قد تكون في مكانٍ ما، وأنها لا بد أن تعود. خلدت السيدة للنوم بعد أن طمأنت نفسها بعودة القطة في ذات الليلة. غير أن حلماً مزعجاً جعلها تستيقظ فزعة وهي تحاول أن تستدرك واقعية ما رأته من عدمه، إذ رأت في منامها أن ابنها يهمس في أذنها وفي نظراته خوف طفولي طازج "أخرجيني من المطبخ يا أمي، أنا محبوس هناك" وبارتياب وقلق باديين، نهضت السيدة بهمة وتوجهت مباشرة إلى المطبخ، وما أن فتحت الباب، حتى فلتت القطة من بين أقدامها مسرعة." ولم تذكر القصة ما فعلته السيدة بالقطة بعد ذلك.

في مطار أرتكاتا المسقوف بالزجاج العازل للحرارة والصوت، والأرضيات الرخامية المغرية للتزحلق. كانت أمي تحاول جاهدة تجفيف ما تبقى من دموعها التي ذرفتها في توديع الأهل بتوليدو. كنت أنا وجوانيتا منشغلين بمتابعة النافورة الموسيقية الموضوعة بأناقة في منتصف صالة الانتظار، بينما كانت أمي تقف جوار الناقل المتحرك في انتظار الحقائب. وبطريقة متحفظة جداً استقبلنا والدي خلف السياج المصنوع من معدن الكروم والمخصص لانتظار المستقبلين. كان يرتدي قبعته المافياوية والتي كانت موضة ذلك الوقت، بينما كان لا يزال يدخن السيجار الكوبي كثيف الدخان كمظهر أرستقراطي عديم الجدوى والذي لا يتوافق مع توجهه الديني. قبّل أمي في جبينها بدون عاطفة جادة، واكتفى بالمسح على شعورنا أنا وأختي، كأننا أشابين، وهو يمسك بالعربة المتحركة - التي كانت تحمل الحقائب - من يد أمي. وكالعادة فإننا نكتفي بأن نرى السوق الحرة من بعيد، دون أن نتسكع فيها لبعض الوقت كما يفعل الآخرون.

في البيت، وبينما كانت أمي تعيد ترتيب الأشياء. اكتشفت أنني أحن بطريقةٍ ما إلى كوينكا. ربما لأن رطوبة الجدران الأسمنتية كانت تحول دون أن نتنفس هواء نقياً كذلك الذي كان يمنحه لنا الرب في كوينكا. تلك النسمات الدافئة القادمة من أحراش أوسيكبو ووادي غوادا لاخارى ولاس توركاس الآهلة بالأيول والغزلان البرية. كما أنني لم أعثر في البيت على أيٍ من القطط التي كنت أربيها تحت سقيفة الدرج المؤدي إلى الخارج. ولم أجرؤ على سؤال أبي عن مصير القطط الثلاث. لا بد أن الشوق عاطفة سالبة وإلزامية، إذ عندما كنت في كوينكا كنت أشتاق إلى أرتكاتا والآن أشتاق إلى كوينكا. ولم أفهم ما إذا كان ذلك شعوراً معمماً أم يخصني وحدي!

ما زاد إحساسي بخيبة الأمل هو أنه كان يتوجب علينا الإعداد للمدرسة مباشرة، الأمر الذي جعلني لا أطمئن لكوني سأعود للمقاعد الدراسية بعد ثلاثين يوماً من الحرية. لم أكن كبقية أطفال أرتكاتا الذين يعشقون الجو المدرسي لما يجدون فيه من متعة الالتقاء بالأصدقاء والشغب الطلابي البريء. كنت على يقين بأن المدرسة أمر ضد الرب وضد البشرية، وهي – بطريقة ما – إصلاحية في شكل أكاديمي تقريباً. فكان مجرد فكرة الاستيقاظ من النوم في الصباح الباكر في شهر أيلول يبدو كالتعذيب الذي يتلقاه السجناء السياسيون في سجن باتورن باي ذو الأسوار العالية الصماء. وما كان يزيد الأمر سوءً هو ربط والدي الدراسة بالإيمان! فلم يكن والدي يحرص على تذكيري بشيء بقدر إنهاء الواجبات المدرسية والذهاب إلى الكنيسة بانتظام وحفظ التراتيل التي كانت تدرّس لنا فعلاً في المدرسة. هذه المرة، كان إحساسي بوالدي مغايراً بعد معرفتي لتاريخه المراهق الذي لم يكن ناصع البياض كما كان يحاول أن يقنعنا به.

كانت الرغبة الجامحة لوالدي هو أن يمحي تاريخه القديم من ذاكرة الآخرين، وأن يبدؤوا بمناداته باسم "الأب" ورغم أنه تحصّل فعلاً على اللقب بمباركة باباوية في إحدى احتفالات التنصيب بالكنيسة إلا أنني لم أكن على قناعة بهذا التنصيب، فقد كان والدي ديماغوجياً(4) من الدرجة الأولى، لاسيما بعد أن أثبت قدرة عالية على حفظ أعداد لا بأس بها من التراتيل والآيات والأدعية الأنجيلية. وكان والدي يحتفظ في غرفته في المنزل بعدة نسخ من الأنجيل من العهدين القديم والجديد. وليس لدي أدنى شك بمدى صدقه في أن يكون رجلاً متديناً، ولكن ما كان يثير حنقي عليه، هو أنه لم يدخل غرفة الاعتراف قط. وكان يعتبر أن تاريخه المشين، تاريخ لشخص آخر غيره. وربما عقد صفقة ما مع الرب ليمحي عنه تاريخه مقابل أن يقيم أسرة ذات نهج كاثوليكي محافظ. وربما أوصاه بابنه كاسبر تحديداً لسببٍ ما. هذا ما كان يخطر لي عندما أجده متشدداً حيال جعلي كاثوليكياً مأدلجاً منذ وقتٍ مبكر.


منذ بداياتي وأنا أحاول أن أجد طريقة ما أسهل للتقرب إلى الرب. طريقة لا تكون مرسومة بأيدي بشرية أبداً. لذا فإنني لم أوفق أبداً في التمتع بالشعور الديني الذي كان يتمتع به الجميع عند وقوفهم أمام لوحة العذراء الباكية تحت أقدام يسوع العاري المصلوب. كنت أرى أن الخشوع قناع من بلاستيك شفاف سرعان ما يذوب بفعل حرارة الحياة المادية خارج جدران الكنيسة. حتى الكنيسة نفسها كانت تغمرني بذات الشعور الذي تمنحه لي المدرسة. وكانت جذوة المشكلة التي نشأت بيني وبين والدي متمحورة حول هذه النقطة تحديداً.

ذات يوم سألت والدي عن كيف سمح الرب بصلب ابنه ، وترك الأشقياء دون عقوبة! وما زلت أذكر كيف قطّب حاجبيه وانتفخت أوداجه - كضفادع بركة الأوراليوس في موسم التزاوج - وهو يصرخ في وجهي زاجراً وكاد أن يصفعني لولا تدخل ابن عمه أرماندو رسل المعتدل ومنعه من ذلك. كانت الهرطقة هي الجريمة التي لا تغتفر من قبل والدي والرب على حد سواء، ولكنني كنت مهجساً بهذا السؤال على أي حال.

لم أشعر في حياتي بشعور استقلالي، فقد كانت حياتي في بيت أبي في أرتكاتا كحياة عمّال مناجم الألماس فيها. ولا تزال قصص الذي ماتوا تحت الأعمدة الخشبية الغليظة ممتلئين بالقهر وأتربة المنجم تذكرني بالمصير الذي ينتظرني في آخر الطريق، ما جعلني أكثر شراسة. ثمة صورة عتيقة كان أبي يصر على تعليقها في غرفة استقبال الضيوف. صورة لأربعة رجال داخل المنجم يرتدون الأفروهولات المتربة، وقبعات من طراز الكاسكتّة. أحدهم يحمل فانوساً زيتياً وقد تدلت حمّالة كتفه أسفل ذراعه، بينما لم يبد مهتماً بهندمة نفسه لحظة التصوير، وكان الآخرون يحملون معداتهم وأدوات الحفر، كان أبي أحدهم بالتأكيد، وكانت على شفتيه المضمومتين بقايا جملة هزلية، وخلفهم مباشرة جدار جرانيتي داكن. لم أكن أعلم سر إصرار أبي على الاحتفاظ بهذه الصورة البائسة. غير أنني علمت فيما بعد أنه أرسل نسخة منها إلى أخوته في كوينكا فخوراً بما يحققه ويفعله في بلد الألماس.

ثمة أسماء ووجوه أتذكرها كلما مررت بشريط ذكرياتي بالصدفة على مرحلة عمرية ما من حياتي: إخيليو نوريس وماريو كانسيليو هذا بالإضافة إلى العم سلفادور أورفل والجد مانويل إميليو الذي ارتبط اسمه لدي بشوكولاته جوز الهند، إذ كان يعمل في مصنع يعمل في صناعة هذا النوع من الشوكولاته. ولم يكن يأتي منزلنا إلاّ وهو يحمل علبة كبيرة تحتوي على 24 إصبعاً من الشوكولاته المغلفة بطبقة من جوز الهند الفاخر.

مانويل إميليو أحد المئات الذين هاجروا كوينكا مبكراً، واختلفت الروايات حول سبب هجرته. فبينما تقول أمي أن والدها هاجر بسبب الطاعون الذي عصف بكوينكا أواخر الخمسينيات. تقول إحدى الروايات التي يتناقلها الرجال الذين عاصروا جدي أيام شبابه، أنه عندما غادر كوينكا إلى مالقة أولاً قبل وصوله إلى أرتكاتا، كان قد ذهب بحثاً عن فاتنة برتغالية كانت بائعة أقمشة متجولة مرّت بكوينكا تبيع الحرير والكتان المطرّز. اشتعل في صدره حبها عندما رآها ذات يوم عند حافة النهر بينما كانت تغسل قدميها مستعينة بصخرة ملساء لهذا الغرض.

مالقة هذه المدينة البحرية التي كانت تسميها بعض كتب التاريخ بالمالكة أو الملكة على حد تعبير إحدى روايات كتب التاريخ المعاصر لأسبانيا، هي أول مدينة يدخلها صناعة تجفيف الأسماك وتمليحها. وتقول إحدى المصادر أن اسم مالقة ربما اشتق من "مالحة" لهذا السبب. وكانت الآثار الفينيقية ما تزال موجودة بها عندما غزتها الجيوش العربية قديماً.

لم ترق لي تلك الرواية التي تحاول وصف مانويل إميليو بالمراهق الذي يركض خلف شهوته الضائعة بين فخذي فاتنة برتغالية عابرة. بينما كانت ملامحه أكثر رزانة مما كانوا يحاولون تصويره. لذا آمنت برواية أمي. وربما لم أكن أرغب بتصديق تلك الرواية الماجنة لأنني لم أشأ أن أكره الشخص الوحيد الذي أحببت هداياه القيّمة، رغم أنه كان يحمل تلك الرائحة الغريبة التي يحملها بقية العجائز .

في منزلنا المكوّن من طابقين، كانت ثمة سيدة عمياء تسكن في الطابق العلوي. زوجها السيد فرانكو ماتيوس الذي كان يعمل في إحدى شركات التغليف. كان عديم الذوق كما يصفه الجميع. رجل حاد الطباع، ذو ملامح متخشبة. كنت أقول في سري أن الرب لحكمة جليلة أفقد هذه السيدة بصرها حتى لا ترى هذا الثور الخشبي الذي تعاشره. ولكنهم أخبروني أنها فقدت بصرها بعد سنتين من زواجهما، الأمر الذي جعلني أعتب على الرب كثيراً. كانت السيدة سابيلا آندروس رغم فقدها لبصرها، عكس زوجها الثوري، منشرحة ومنبسطة الملامح. ولأنها لم ترزق بأطفال طيلة حياتها الزواجية، فقد كانت تحب الأطفال كثيراً وتعشق ملاعبتهم. ولا أنس أنها كانت السبب في إقناع أبي في أن يشتري لي أول دراجة أركبها في حياتي. عندما توفيت سابيلا آندروس بالسل، حزنت كثيراً لدرجة أنني أضربت عن الطعام حتى أنّ أمي أخذتني إلى المستشفى القريبة من منزلنا، وبقيت لثلاث ساعات بتغذية وريدية عن طريق مغذ الجلكوز.

الأطفال يحبون الجميع بطبعهم، فالحب هو الفطرة الإنسانية الأولى، بينما يكتسب الإنسان الكراهية بالتدريج عبر مراحله العمرية المختلفة. والكراهية لدى الأطفال ببساطة تعني التوقف عن الحب. ولأنهم، الأطفال، أكثر شفافية من غيرهم، فهم يستطيعون التفريق بين من يحبهم بصدق، وبين من يتظاهر بذلك. في مرحلةٍ ما يميل الأطفال، بالتعلّم، إلى كراهية البالغين، لأنهم يحاولون فرض سلطتهم عليهم. والأطفال لا يحبون السلطة بطبعهم. الحرية والحب والحركة. هذه هي الحاءات الثلاث التي يتغذى عليها الأطفال إضافة إلى حاء الحليب. فهم بحاجة لحرية تسمح لهم أن يتحركوا ليكتشفوا هذا العالم، وأسراره التي تبعد عن أيديهم فقط بضعة أقدام. وهم بحاجة ماسة إلى أن نحبهم بالدرجة التي تجعلها لا نقرأ حركتهم هذه على أنها "أفعال تخريبية"

إخيليو نوريس إحدى الشخصيات التي ما زلت أتذكرها جيداً في طفولتي. كان والدي يعتمد عليه في الاعتناء بنا أثناء غيابه وأمي عن البيت لوقتٍ طويل. لذا فقد اعتبرته كالقاتل المأجور. ورغم أن مهمته كانت تنحصر في منعنا من إحداث حالات شغب منزلي، أو الخروج إلى الشارع، أو اللعب بالآلات المطبخية الحادة، إلاّ أنه كان يتجاوز كل ذلك إلى منعنا من مشاهدة التلفزيون وحتى إجبارنا على النوم في مواعيد محددة. تولدت لدي مشاعر سالبة تجاه هذا الإخيليو نوريس، الذي كان يمارس علي أنا وجوانيتا سلطوية عالية الامتهان. ولا شك أنه كان يجد متعة في ذلك.

قرأت ذات مرّة في كتاب منزوع الغلاف أن الأبيض ليس لوناً بل هو "اللالون". وعدمية اللون، لون آخر محايد تماماً، لذا فإن البشرية اتفقت منذ القديم على اختيار اللون الأبيض كدلالة للاستسلام والسلام، رغم الفارق الكبير بينهما. كما يذكر الكتاب أنه يصعب على وجه التحديد معرفة اللون الأول في العالم. بينما تذهب بعض النظريات الفيزيائية إلى أن الألوان وجدت لذاتها كلاً على حدا، إلا أنه تم تحديد ألوان "معاصرة" كاللون الأرجواني، والبنفسجي، والقرمزي التي اكتشفها الإنسان بمحض الصدفة. ورغم أن هذه النظرية اللونية مشكوك فيها إلاّ أن لها مدارس تلقى رسالتها رواجاً كبيراً بين فئة كبيرة من الرسامين التشكيليين الذين يؤمنون بعصرانية الألوان لذا فإننا نجد لوحاتهم الأكثر غرابة ورمزية هي التي تتخذ من التلاعب بالألوان عنصراً أساسياً فيها معتمدين في ذلك على "التجديد" الذي هو نقلة نوعية في عالم التلوين. ربما لم يكن ذلك ذا علاقة مباشرة بالأطفال، ولكنني فقط أحسست أن ثمة رابط بين نشأة الألوان، ونشأة المشاعر الإنسانية في تمحورها من الحب إلى الكراهية. إذ تتدرج الألوان من الأبيض "الأكثر صفاءً" إلى الأسود "الأكثر قتامة".

كان إخيليو نوريس "القاتل المأجور" الأكثر قابلية من غيره من الذين فرضوا أنفسهم دون تكليف رسمي من والديّ حتى! الأمر الذي كان يثير شعوري بالامتعاض الشديد من هؤلاء البالغين. بينما كانت التقاليد تسمح بأن يتدخل كل الكبار في تربية وتأديب كل الصغار. وكأننا جراء لقبائل بدائية. الأمر الذي جعلني أكثر حساسية تجاه الآخرين، وأكثر تحفزاً. كانت الحياة في أرتكاتا حياة جامدة رتيبة. وكأنها حياة مسبقة الصنع في قوالب متناسخة بحيث يمكنك تخمين مجريات اليوم التالي لكل يوم. كان أبي شخصاً نمطياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. فلم يكن يعشق التغير، لا سيما الفجائي منه. وهذا ما جعله يبدو أكثر حذراً وتردداً.

لم يكن من الصعب عليّ أن أعرف أنني أنتمي لأسرة أحمسية(5) تميل إلى المسالمة، وربما كانت القبائل النوركية قبائل أحمسية بطريقة ما. وعلى الطريقة النوركية التقليدية فقد كانت أمي تحذرنا من التشاجر مع الآخرين "لا تختلق المشاكل، وإن واجهتها تملّص منها" هذه الطوباوية جعلتني إلى وقتٍ قريب لا أستطيع أن أحدد الفارق على وجه الدقة بين الجُبن والحكمة. ولا زال النوركيون يعتبرونني همجياً مقارنة بمعايير مذهبهم المسالم. وكنت لأقبل بأية قيمة مقابل أن أعرف موقفهم من الحرب الأهلية التي اندلعت في منتصف الثلاثينيات.


كان أبي رغم الفخر الذي كان يخفيه بإنجابي، يعاملني معاملة قاسية، تذكرني بالحياة العسكرية التي كان يعيشها الجيش الإسباني بداية تشكليه، ويعلل ذلك بأنه يحاول أن يصنع مني رجلاً حقيقياً. غير أنني كنت أكيداً من أنه أخفق تماماً في جميع توجهاته. ولقد عرف ذلك عندما أنجب أخوتي البقية، عندها، شعر بحوجته لاقتناء كتب متخصصة عن الأساليب التربوية الحديثة وطبقها عليهم. لقد كانوا أوفر حظاً مني ومن جوانيتا. فقد كانت القسوة هي السمة الغالبة في التعامل الأمر الذي خلق حاجزاً بيني وبين والدي، ما زلت استشعره حتى اليوم. وكالخيط الرقيق الذي لم أستطع أن أراه بين الجُبن والحكمة، كان هنالك خيط آخر يجب عليّ أن أراه بين الخوف والاحترام. ربما الآن أستطيع أن أقرر بأنني كنت أخاف أبي دون أن أشعر بالاحترام تجاهه. ربما ظنّ أن القسوة تجلب الاحترام، وربما لم يستطع أن يفرق هو الآخر بين الخوف والاحترام.

رغم كل ذلك كان السلوك الأبوي يطفو رغماً عنه في بعض المواقف النادرة جداً. وأذكر أنني لم أكن لأصدق تلك الانقلابات المزاجية التي كان يمر بها عندها. فعندما عدت أمسية ذلك يوم من رحلة مدرسية إلى متحف سانت كورت، وجدت الجد مانويل إميليو في انتظاري على درج المنزل، والمشهد الخلفي من ورائه لأناس أعرف بعضهم ولا أعرف البقية. كانت الأنظار كلها تتجه نحوي بشفقة. لم أستطع وقتها أن أخمن سبب وجود هؤلاء بهذه الصورة المتأسية، غير أنني لم أستطع أن أتقدم أكثر، حتى لوّح لي مانويل إميليو بيديه المرتعشتين بأن أتقدم. وعندما فعلت احتضنني بقوة وهو يبكي بحرقة، ورائحة شوكولاته جوز الهند تفوح منه نافثة هذه المرة. كانت نظرات الرجال من ورائه تثير فيني تساؤلات متفاقمة. وكانت دموع مانويل الحارقة تفتفت حجار دهشتي وتحيلها إلى كِسَر من الخوف والرهبة. "أين كنت يا عزيزي؟ هل أنت بخير" كانت اللهفة الأبوية التي سألني بها مانويل لا تقبل القسمة على أكثر من تخمين. عندها عرفت أن ثمة أمراً ما سمعه هؤلاء عني. أمراً جعلهم يظنون أنني لست بخير.

لم يكن لأبي أو أمي أي أثر في المنزل، الأمر الذي زاد من توجسي. وما هي إلا بضع ساعات وعاد أبي يتقدم بخطوات مترددة بينما كانت أمي تمسك بدرابزين الدرج وهي تحاول الصعود. وكأنها خائرة القوى. سقطت أمي على ركبتها قبل أن تكمل صعود الدرج بينما أشارت لي بيديها بعد أن رسمت على صدرها علامة الصليب في امتنان، فارتميت على أحضانها لتبكي ما شاء الرب لها أن تبكي. وجهي الذي بللته أمي بالقبلات والدموع كان الشيء الوحيد الذي تمنى أبي أن يراه قبل أن يجثو على ركبته مخبئاً وجهه بين كفيّه. علمت بعد حين أنهما تلقيا اتصالاً هاتفياً من مجهول يفيدهم بأن الباص المدرسي الذي كان يقلني قد تعرض لحادث تصادم في طريقها إلى متحف سانت كورت.

بعد هذه الحادثة قرر والدي الرحيل من المنزل إلى منزل آخر. وهذه المرة اختار أن تكون الأقرب إلى الكنيسة. كان والدي يتعجّب كيف لم يحترم أولئك الكاذبون هيبة ردائه الأسود ذو الياقة البيضاء، وكان يسمهم بالمارقين، كلما جاء ذكرهم. طوباويته المفرطة التي جعلته لا يتوقع الشر من الآخرين. كثيراً ما كانت أفكار جهنمية تراودني حول الانتقام من أولئك "المارقين" بطريقة تجعلني استعيد دموع أمي التي ذرفتها عليّ هدراً، ولكنني لم أفلح في جميع محاولاتي البائسة أن أفعل. وحققت على المستوى الشخصي رضاً نسبياً بنجاحي تلك السنة بتفوق.

في المنزل الجديد، لم يكن الحظ حليف والدي القسيس الذي تفاجأ بعد أسبوعين من الانتقال، بأن جاره الذي يقطن في الشقة السفلية مباشرة يعمل قوّاداً. وفي مكانٍ آخر كانت القوادة مهنة نبيلة، حيث تقوم على فلسفة التوفيق بين راغبين في ممارسة "الراحة الفطرية" التي ألقاها الرب لدى الجميع. لم أكن أفهم سبباً منطقياً لموقف أبي الغاضب من هذا القوّاد، إذ لم أكن أعرف على وجه التحديد خبايا هذه المهنة، حتى رأيت من خلال فتحة بين خشبة عتيقة ومكيف الهواء ما جعلني أشعر تجاه ماليوني بوبيكا بتقزز لم أشعر به تجاه شخص آخر. عرفت فيما بعد أن ماليوني الأمرد القوّاد كان يقضي ليله في مقهى مولينوس يصطاد زبائنه من الشباب وأثرياء المدينة. كان يملك في بيته ما يزيد عن تسع فتيات تتراوح أعمارهن بين الثامنة عشر والثلاثين. بعضهن كنّ يعشن معه في ذات المنزل، بينما تسكن أخريات في الجوار. ورغم تقززي من منظر العُري الذي رأيته من فتحة التكييف، إلاّ أنني استشعرت نبل هذه المهنة لا سيما وأنها لم تكن بالإكراه، فكل شيء يتم برضا وقبول الطرفين.

ماليوني – مجهول الجذور – كانت لديه عادة احتساء فنجان النسكافيه الساخن في شرفته كل صباح، وهو يقرأ الجرائد اليومية، ويراقب المارة دون فضول. كان لمنظره الناعم والبراق أثره البالغ في كسب علاقات واسعة جداً لا سيما بين الطبقات الأرستقراطية. وعندما أتاحت لي الفرصة ذات يوم الدخول إلى شقته عرفت ولعه باقتناء التحف والتماثيل الخشبية منها والعاجية. في زاوية ما من منزله كان ثمة تمثال جبسي مطلي بدهانٍ خاص لامرأة عارية تحمل دلو ماء أو ما شابه، كان التمثال مصنوعاً بإتقان لدرجة أنني حسبته حقيقياً للوهلة الأولى. والغريب أنه كان يحتفظ في منزله بلوحة كبيرة لصلب المسيح. لم تكن اللوحات التي يقتنيها لرسامين مشاهير، ولكن يبدو أنه كان يختارها بعناية فائقة. على جدارٍ ما ثمة لوحة "العشاء الأخير" ليوناردو دافينشي يبدو أنها مزيفة بوضوح بألوان باهتة وغير مطابقة للوحة الحقيقية. "الحياة هي المتعة، وعلى الجميع أن يستمتع كما يحب!" هذه الجملة التي حفرت بإزميل على طريقة النحت بالحرق على واجهة خشبية ملونة كان موافقاً تماماً للحياة التي يعيشها ماليوني. بينما قد تسمع ضحكات نسائية آتية من جميع أرجاء المنزل المتكلّف. ولسببٍ ما كان ماليوني يعاملني بلطفٍ جم، وهذا ما كسر حاجز نفوري منه بعد حين. كان يناديني دائماً ب"كاسبرو" ورغم أنني في كل مرة كنت أصحح له "اسمي كاسبر يا سيدي" إلاّ أنه كان لا يأبه بهذا التصحيح، ويعتبره تهذيباً طفولياً.

ذلك اليوم، عندما ابتسم في وجهي، اندفعت بحماسة لأسأله. وكنا حينها قد اعتدنا على الأحاديث المطوّلة. أعتقد أنني الوحيد الذي اكتشف الجانب الإنساني لديه، بالإضافة إلى ميله للأطفال والتحدث إليهم. سألته عن صلة القرابة التي تربطه بهؤلاء الفتيات، فضحك حتى كاد يختنق، ولم يرد عليّ. فقط اكتفى بأن مسح على شعري وهو يقول "كاسبرو – أيها الشقي - مازلت في العاشرة من عمرك. غداً تفهم كل شيء" كنت قد أدمنت كراهية هذا المستقبل اللعين. فعندما كنت ألعب كان والدي يصيح في وجهي "غداً عندما تنتهي من الدراسة بوسعك أن تلعب بقية عمرك" ولم يكن هذا الغد ليأتي أبداً. وكأن الرب يخبئه عني تحديداً.
في السنوات القليلة التي قضيناها في هذا المنزل، لم يكن يزورنا غير قلّة من الذين كانوا يجدون في أحاديث والدي الوعظية متعة لا تضاهيها أية متعة أخرى، فهم كمن كانوا بحاجة إلى من يذكرهم بالرب يسوع. بعض النسوة كن يعتقدن أن أبي ينحدر مباشرة من ذرية أحد حوارييه، وكنّ يتعاملن معه باحترام لا يليق بهن. لم تكن تلك الهالة القدسية حول والدي وحول جذورنا الدينية مثار اهتمامي على مدار تلك السنوات، فقد كنت شغوفاً بالمناكفة الطفولية واللعب.



----------------------------------

الهوامش:
( 4 ) الديماغوجية: هي القدرة على كسب ثقة الآخرين عبر التأثير عليهم بالخطاب العاطفي.
( 5 ) الأحمسا: أو مذهب اللاعنف وهو مذهب يدعوا إلى مواجهة الكره بالمحبة وبالمحبة فقط. ويعتبر الماهاتما غاندي مؤسس هذا المذهب المثالي.







أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 07:24 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
كوثر الشريفي
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل وسام الأكاديمية للعطاء
اليمن

الصورة الرمزية كوثر الشريفي

افتراضي

الأستاذ الرائع هشام
أظنني أعد كثيراً بالعودة..
و لكن الوقت يخوننا دوماً.. و في كل شيء..
و لكن أشكرك جداً على وضع روايتك هذه ..
و أعتقد أن ال الفينيق سيقومون بادلاء دلوهم..
و إعطاءك ما تريد ..
و لكن إن أردت نقداً خالصاً.. فيمكنني أن أرسل الرواية إلا ركن "بابل"
و لك ما ترى..

الشكر لثرائك..رعاك الله






[align=center]مُجرد قلم..
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-08-2007, 09:39 PM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

الأستاذة : كوثر الشريفي

افعلي ما ترينه مناسباً فأنا ونصي رهن إشارتك
والتحية لك ولتجاوبك معي






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 02:41 AM رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
أحمد منتصر
أديب

الصورة الرمزية أحمد منتصر

إحصائية العضو







آخر مواضيعي

0 نصائح ذهبية

أحمد منتصر غير متواجد حالياً


افتراضي

سؤال: هل انتهى بذلك نشر الرواية كي أشرع في قرائتها؟.






http://ahmedmontaser.blogspot.com
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 04:47 AM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
كوثر الشريفي
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل وسام الأكاديمية للعطاء
اليمن

الصورة الرمزية كوثر الشريفي

افتراضي

أديبنا هشام
لا بأس.. ستبقى هنا للملاحظات...
الشكر لك لهذا الثراء

رعاك الله






[align=center]مُجرد قلم..
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 09:44 AM رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد منتصر مشاهدة المشاركة
سؤال: هل انتهى بذلك نشر الرواية كي أشرع في قرائتها؟.
الأخ : أحمد منتصر

الرواية من خمسة فصول وهي لم تنته بعد .. فقط تبقى فصلين
يمكنك البدء في قراءة الفصول الثلاث الأولى ريثما أنتهي من نشر
الفصلين المتبقيين. لك التحية والشكر على هذه المتابعة وأتمنى لك
قراءة ممتعة ، وفي انتظار رأيك في هذه الرواية.

(معلومة) :
هذه أولى رواياتي على الإطلاق وآرائكم حولها تهمني جداً

لكم جميعاً الود






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 09:55 AM رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كوثر الشريفي مشاهدة المشاركة
أديبنا هشام
لا بأس.. ستبقى هنا للملاحظات...
الشكر لك لهذا الثراء

رعاك الله
الأستاذة : كوثر الشريفي

لك ما تشاءين .. وأشكرك على هذا الاهتمام

تحياتي وتقديري






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 10:07 AM رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

الفصل الرابع




أماتا دادوريس . . البداية



- نقر على خشب الذاكرة -












-






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 10:15 AM رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

في إحدى مراحلي الأكثر تمرداً والأقل نضوجاً، تعرفت على أماتا دادوريس البتشوية التي حضرت مع أسرتها إلى أرتكاتا دون رغبتها. كانت أماتا القروية حديثة العهد بشوارع الإسفلت والمباني الخرسانية جميلة إلى الحد الذي عالج حيائي المفرط. فلم أستطع ألا أصارحها بحبي في أول فرصة جمعتنا منفردين. وكان ذلك في العيد الحادي عشر لميلاد أختي الصغرى زرويكا التي كانت أول من استنّ الاحتفال بأعياد الميلاد في المنزل، إذ لم هذه التقاليع البرجوازية من تقاليدنا الأسرية حتى جاءت زوريكا. كنا وقتها قد أمضينا شهرين أو يزيد من أول تعارف تم بين العائلتين. ما أعجبني في أماتا أنها كانت تملك أنوثة طاغية، وبشاشةً مستدامة، رغم أنها لم تكن سعيدة بمجيئها إلى أرتكاتا. وكرجلٍ حنطي فإن الفتيات البيضاوات كنّ أكثر إغراءً وجذباً لي من النوركيات المائلات إلى الحمرة. وربما كان ذلك بدافع ميل الذكور لأمهاتهم كما استشفّ سيجوند فرويد(6). وكانت الأنثى الوحيدة بين أربعة أخوة ذكور، ولذا كان والداها يفرطان في تدليلها كيفما اتفق.


في إحدى شوارع أرتكاتا المتعرّقة بمطر الشتاء، كان الشيء الذي لا يتوقعه أبي أن يجد نفسه مضطراً لمرافقة رجل كفيف لا يحمل عصاه وأن يعبر به الشارع المكتظ بالسيارات المتهورة. ظل الكفيف يتلو شعارات الشكر والامتنان على مسامع والدي حتى عبر به الشارع، وتقبل بكل سرور نصائحه الواعظة "لا يجدر بك أن تسير بمفردك دون عصا مرشدة، الرب ليس شرطي مرور!" وقبل أن يفترقا عرّف الكفيف بنفسه، "أدعى دادوريس، ديجو دادوريس. وأنت؟" غيظ والدي الذي تحوّل فجأة إلى ضحك غير منقطع كانت الشرارة الأولى في علاقة أسرية دامت سبعة عشر عاماً. فقد تفاجئ والدي بأن دادوريس ليس بكفيف، ولكنه – كما قال – كان يريد امتحان إيمان القساوسة السلوكي. وكان دادوريس أول من استمع إلى قصة تحوّل والدي من عامل منجم ألماس إلى قسيس كنيسة كاملةً.

كانت أماتا الأنثى الملهمة التي ظلت تهبني القدرة على الكتابة. كنت لم أملك بعد مخزوناً لغوياً يجعلني على قدر أن أهديها أعمالاً من كتاباتي، لا سيما وأنها الأنثى الأولى في حياتي، فكنت اضطر لسرقة ما يناسبني من أعمال كاهيتي(7)، ولوركا(8) ، وأوتيرو(9) ، وثيلايا(10) ساعدني على ذلك أنها لم تكن مهتمة بالقراءة. هذه السرقات لم تكن تتم عشوائياً، إذ تطلبت مني أن أمضي أوقاتاً في البحث عن الأعمال الجيدة بمقاييسي ذلك الوقت، ومناسبة لحالتي العاطفية، أو على الأسوأ يمكن معالجتها بحبكة مصطنعة. فيما بعد، وجدت أنه أصبحت لدي القدرة على المحاكاة، ولم أكن أعرف أن تلك السرقات كانت – بالإضافة إلى فلسفة دو ريجيلو الزنجي، وموهبة الكذب الأولى البذرة الحقيقية لخلق كاسبر سارجينيو شاعراً!


في تلك الحقبة، كنت قد بدأت أعشق القراءة من خلال طوفان الوله الذي وفرته لي رغبتي في سرقة الأعمال لتقديمها لأماتا في المناسبات المجيدة. لم أكن بعد مقتنعاً بجدوى أن أكون متديناً طالما أنني لم أجد إجابة على سؤالي الهاجس "لماذا سمح الرب بأن يصلب ابنه؟ وأين أجد قبر يسوع؟" حتى تلك اللحظة التي صارحت فيها أماتا بتلك الهواجس. كانت – كغيرها – تخشى الخوض في هكذا أمور، وتضع غول الهرطقة بين قوسين، ربما كانت على نحو ما تستشعر رهبة كوني ابن قسيس متزمت. غير أنني استبصرت رغبتها في معرفة الإجابة. كانت تحبذ أن نمضي أوقاتنا في الحديث عن سلالات النباتات العطرية النادرة التي يوجد القليل منها على سفوح جبل عين الشمس، وقدرة تلك النباتات الخارقة على علاج البهاق وأنواع قليلة من الالتهابات الجلدية.

لم تكن علاقتي بأماتا تخلو من مظاهر برجوازية تتمثل في ميلنا إلى قضاء ساعات طويلة في المحادثات الهاتفية التي غالباً ما تصب في كوني متغزلاً بها. وتبادلنا الهدايا السخيفة من غير ما مناسبة. كنت أذهب إلى منزلها ليلاً وأترك لها رسالة غرامية أعلقها خلف زجاج نافذتها المطلة على الشارع، كنت أفعل ذلك بسرية تامة، ولكنها لم تكن ترد على رسائلي، بل تكتفي بالكتابة على الوجه الآخر من الورقة "أحسنت.. يسعدني أنك ما زلت تكتب لي!" لم يكن والدي على علم بهذه العلاقة حتى رأى تلك اللوحة الأبلاكاشية التي حفرت عليها اسمها كاملاً، فأوسعني ضرباً لأنه رأى في ذلك انحرافاً عن الخط الذي رسمه لي طوال حياته، وأردف "لن أسمح لك أن تفسد علاقتي بأصدقائي"

كانت هيمنة والدي الاقتصادية هي من تفرض هيبته على البيت ، وحتى على النطاق الأسري. ففي الوقت الذي كان أبناء أورفل القاطنين في كوينكا يعانون فيها من جميع أنواع الهوان الاجتماعي والأسري، كان والدي يلقى حظوته الأكيدة في العائلة الأبوية ذات التقاليد الصارمة، لا سيما من لدن سوليداد فيدل ذات الشفاه الرطبة، إذ كانت تخصه برسائل على غير عادة الأمهات النوركيات. وكان والدي شديد الاعتزاز بهذه الحظوة، وربما ساعده ذلك على وضع صورة افتراضية لعلاقاته بأخوته الأصغر سناً. فكان يفترض فيهم الطاعة العمياء والاحترام منقطع النظير، لدرجة أنه كان يتدخل في تسمية أبناء أخوته الذكور والإناث على حدٍ سواء. أعجبني سلوك العمة تيرا أورفل المتمرد الذكي حين رفضت تسمية ابنها البكر جرسفندور – الذي لدغته الأفعى السامة في كوينكا - باسم كاسبر الذي اختاره لها، غير أنها سجلته باسم جرسفندور في مكتب سجلات المواليد وفي حفل التعميد الكنائسي(11) غير أنهم ظلوا ينادونه باسم كاسبر إرضاءً له حتى ولدت أنا فأسماني بهذا الاسم، ويبدو أنه كان لسببٍ ما مغرماً بهذا الاسم.


على ضوء فانوس زيتي قديم لم يكن معداً للاستعمالات المفاجئة، كتبت رسالتي التاريخية إلى أماتا دادوريس في الليلة التي انقطع فيها التيار الكهربائي على إثر عاصفة رعدية. جاء في تلك الرسالة:
"حبيبي، وقطتي المدللة أماتا.. أكتب إليك في هذا الجو الرطب، ولا أدري أية رغبة تلك التي ربطت بينك وبين هذا الجو الماطر. ولكنني أحسست برغبة غامرة في الكتابة إليك، حتى وإنني لا أعلم كيف سوف أوصلها إليك. لا بأس فما يهمني أنني أغرق في شعوري بالدنو منك لحظات الكتابة.
ما تزال لدي رغبة ملحة في أن أؤكد على حبي لك في كل مرة، دون أن يخدش ذلك من يقينك بهذا الأمر. ولو تدرين كم أشتهي الجلوس بين يديك والنظر إلى عينيك الزجاجيتين ذواتا اللمعة كطاقم أباريق أمي التي تحتفظ بها منذ انتقلنا إلى كوينكا ولو تستخدمها في أية مناسبة. آهٍ لو تعلمين مقدار حبي لك يا أماتا، ورغبتي في قضاء أسبوع كاملٍ معك نتبادل فيه أحاديث الغرام والكلام عما يخصنا نحن فقط. لا تخافي سيكون لك متسع من الوقت تتحدثين فيه عن نباتاتك المفضلّة! كم تمنيت أن أكون إحداها ولو لساعة!!"

كانت تضايقني اهتمامات أماتا غير المنقطعة بتربية النباتات العطرية، وانشغالها بذلك عني، غير أنها كانت تؤكد لي بأنها تحبني كلما أحست بضجري من اهتماماتها الفارغة، وتصر على إخباري بأن ما يمنعها عن الإفصاح لي بهذا الحب أنها أنثى تحاصرها التقاليد الأخلاقية. ربما كانت محقة فيما تقول، فلم تكن من عادة الفتيات الإفصاح عن مشاعرهن بذات السهولة والجرأة التي يفعلها الفتيان. كانت هوامش الحرية المتاحة للذكور تنعكس سلباً في هذه النواحي تحديداً. بعضهن كن يجدن في كونهن إناثاً ملاذاً جيداً للتنصل من ورطة العلانية. فكان يتوجب علينا أن نعتمد على تفسير ما يصدر منهن من ابتسامات وإيماءات، ما كان يجعل الأمر أكثر صعوبة.

الحب البرجوازي لا يستمر طويلاً، ولكن لم تكن ثمة حلول أو بدائل، وهذا ما ساعد علاقتنا أن تعيش أكثر من عمرها الافتراضي. ولكنني لا أنسى لأماتا أنها كانت المحفز لي للكتابة، وما زالت تحتفظ برسائلي في صندوقها السري الصغير. وبذا فإن علاقتي بها كانت علاقة براجماتية ليس إلا، فقد كنت بحاجة إلى أن تكون لي ملهمة، كما كانت بحاجة إلى أن تستشعر أنوثتها من خلال ما أرسله لها من قصائد وأشعار مسروقة. قلت في نفسي "لا بأس فكلنا كالقمر، لنا جوانب مظلمة" واستشعرت فداحة ما كنت أفعله بسرقتي لأشعار غيري. غير أن ذلك ساعدني في معرفة كيف يصاغ الشعر عموماً. لا بأس قد تكون بداية سيئة لمسيرة أكثر نضوجاً. لم استطع أن أمنع طيور اليأس أن تحلق فوق رأسي تلك الفترة، غير أني لم أسمح لها بأن تعشش فيه أبداً. بطريقة ما أثرت فيني تلك النهاية لفترة طويلة.

في العام 1994م كنت استعد لدخول الجامعة، وكانت تلك أهم لحظات حياتي. كنت أحمل معي بقايا علاقة برجوازية فاشلة، وأسئلة كثيرة أبحث عن إجاباتها وشخصية أطمح بجدية في تحديد ملامحها، وعاطفة لم تعرف بعد مسارها الطبيعي، وعداء أسري اكتسبته من خلال شراستي في المطالبة بنيل الحرية التي أريد. ساعدني على دخول الجامعة أمران ليس لهما أي منحىً أكاديمي، أولهما أنني كنت أنفذ رغبة والدي الذي طمح أن يتباهى بي أمام أصدقائه، وربما أراد أن يثبت للرب أنه رجل قائم بواجباته على أكمل وجه. وثانيهما تشجيع دادوريس لي والذي اعتبرته بدافع الرغبة في التعويض، فقد كان متألماً من كون ابنه الأكبر "انطونيو" فاشلاً في دراسته.

كانت علاقتي بدادوريس تزداد عمقاً كلما قرأت لسارتر وعرفت معنى أن يختزل آلامه وإخفاقاته في نكتة، ويظل يضحك عليها وكأنه يضحك من نفسه. أن تقرأ في الضحكات حزناً من النوع الذي يحاول أن يخفيه، وأن تتذوق طعم الملح في ابتساماته المنهكة. كان دادوريس من النوع الذي يجتر حزنه بمفرده، ويبدو للآخرين قوياً حكيماً بينما يذوب ضعفاً بين يدي من يشعر بالثقة أمامهم. لم يكلفني فيما بعد عناء أن أسأله عن سبب حزنه، فوجدته يحكي لي قصته مع زوجته اندريا سواريه وكيف أن الرب لم يكتف بمعاقبته على خطيئتهما بزواجه منها، بل امتد غضبه ليشمل بؤسه مع أبنائه حتى اللحظة. "انطونيو حليف الرب وسوطه المسلّط على ظهري!" هكذا كان يقول لي دائماً عندما تأتي المناسبة. ومثلما اكتشفت حزنه دون أن يعلم، فقد اكتشفت رغبته في أن يزوجني بأماتا، بيد أنه لم يصرح لي بذلك علانيةً.

في الجامعة، تعرفت على "جهاد عواملة" العربي القادم إلى إسبانيا مهاجراً هو وعائلته. لم أشأ أن أتعرف عليه، فقد كانت لي تحفظات لا حصر لها على مصادقة ذوي الأصول العربية. ورغم أنه كان يتكلم الإسبانية بطلاقة لا توحي بجذوره العرقية، إلا أن اسمه كان كفيلاً بأن يخلق لدي ولدى البعض الآخر نوعاً من الانكماشية تجاهه هذا علاوة على ملامحه العربية التي لا يخطئها أحد. كان هذا العربي منشرحاً ومجداً أكثر مما يجب. وكان ذلك سبب آخر يدعوني إلى تجنبه، فلم يكن يعجبني أولئك المنهمكون في الدراسة. بالإضافة إلى إعجاب أماتا به، لطالما كانت مغرمة بأصحاب اللحى الخفيفة، الأمر الذي جعلني استبعد أية مبادئ لعلاقة معه فيما بعد. لم تكن بدافع غيرة بقدر ما كانت سياسة أتجنب بها الاحتكاك بها ولو بالمصادفة.

في الجامعة، كنت أحس براحة أكبر من تلك التي أجدها في البيت. هنا يمكنني أن أقول وأن أفعل ما أريد وقتما أريد. فليس كلهم يعرفون تاريخ عائلتي الدينية. ونجحت في أن أحجّم علاقتي بأماتا إلى الحد الذي جعلني أبصر غيرها وأن أعيش حياة طبيعية ترضيني. كان همي آنذاك أن أبحث عن نفسي التي كنت لم أجد بعد متسعاً من الوقت والكفاءة للبحث عنها في دهاليز سيطرة والدي الأبوية المظلمة، والتقاليد النوركية المتحجّرة. كانت إسبانيا ذلك الوقت بدأت في اتجاهها نحو الاهتمام بالسياحة بعد النجاح الذي أحرزت في المجال الصناعي منذ عام 1975م ودخولها ضمن قائمة أكبر عشرة دول صناعية في عهد خوان كارلوس. الأمر الذي انعكس بشكل إيجابي حتى على المنشآت غير الحكومية كالجامعات الأهلية ودور التعليم المتخصصة والمعاهد التقنية وحتى فن عمارة الكنائس التي تأثرت بصورة مباشرة بهذه الطفرة الاقتصادية الكبرى.

في واحدة من تلك الرحلات العلمية التي نظمتها الجامعة، لم يعجبني اختيار إدارة الجامعة لذلك العربي لأن يكون المرشد المساعد للبروفيسور خافيير ديلانو. كان نبوغه واطلاعه العميق بالتاريخ والآثار السبب في ذلك، ولكنني لم أكن لاستسيغ إرشاداته الآمرة في كل مرة. عندما وصلنا إلى مدريد العاصمة، توقفت الحافلة أمام إحدى الفنادق المطلة على ساحة البلدية. كانت تلك الزيارة الأولى لي للعاصمة الإسبانية، فطالما بقيت متنقلاً بين الأرياف والقرى النائية. ورغم أنه قالها بابتسامة ودودة ، غير أني قرأتها كرسالة تهديدية سافرة "خذوا قسطكم من الراحة؛ وإلا فلن تتمكنوا من الاستمتاع بالجولة السياحية مساءً" وتوجه جهاد بعدها مباشرة إلى بهو الفندق. كنت أحمل عملة معدنية لا قيمة لها، أمسكها بين أصابعي أقذفها بضربة من ظاهر إبهامي لتقفز وتسقط في كفي مرة أخرى، بينما كنت أتمشى على مهل من مدخل الفندق إلى حيث الزاوية التي وضعت عليها الكتب والأدلة السياحية للمدينة. لم يعجبني إحساس السائح بينما أنا في بلدي، بينما كانت الوفود الأجنبية من سيّاح مكسيكيين وفرنسيين تنتشر في بهو الفندق ذاته. شعرت بامتياز وحيد، سرعان ما اختفى عندما تقدّم نحو صبي يرتدي بذلة مخدّمي الفندق، وأعطاني شارة مكتوب عليها بالإنكليزية "سائح" لأعلقها على رقبتي.

مساءً ، بدأنا جولتنا بزيارة لقصر الشوق، ثم متحف البرادو، ثم انتهينا إلى حيث ساحة ثيبيليس بنافورة مياهها الرائعة. ما أفسد عليّ روعة الاستمتاع بالرذاذ البارد المتناثر منها، تقافز ذلك العربي اللعين وهو يشير بإصبعه السبّابة إلى تمثال في المنتصف لسيدة في عربة إغريقية يجرها ثلاثة أسود "هذا تمثال للملكة جوليا دومتا أشهر المليكات الرومانيات، وهي زوجة الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيريوس. تقول كتب التاريخ أن لها أصولاً عربية، ويعتقد أنها سورية في الأصل" لم تعجبني تلك التلميحات العنصرية منه، فقررت أن أوقفه عند حدّه "قرأت فيما مضى عن ملكة رومانية - من أصول عربية أيضاً - أنها وضعت السم لزوجها الإمبراطور لتظفر بحب عشيقها أحد حراس القصر، ما دعاها لذلك أن الإمبراطور المغدور كان مصاباً بالعجز الجنسي" قلتها وأنا غير متأكد من دقة تلك المعلومات، غير أنني كانت لي رغبة في إهانته. عندها وقف متحيراً، كأنه لم يفهم مغزى الرسالة، وهزّ كتفيه قبل أن يقول: "لم أسمع بهذا من قبل. ربما كانت ملكة أخرى غير هذه!" وأشار إلى التمثال مرة أخرى.

كانت أماتا دادوريس، تجلس متكئة على سلّة خزفية وضعت فيها ساندويتشات المارتديلا ومربى الكرز، وشطائر التفاح وبعض الأكواب البلاستيكية المعدّة للاستخدام لمرة واحدة، ابتسمت في وجهي وفي عينيها بريق لشعورٍ متأسٍ تجاهي. وكأنها أحسّت أن ما فعلته لم يكن إلا بدافع الغيرة. فابتسمت لها بالمقابل، ثم قهقهتُ بصوتٍ عالٍ. عندها شعر جهاد بأنني أضحك عليه، بدا ذلك واضحاً من الحمرة التي اعتلت وجهه الأصهب. ثلاثتنا لم يفهم من بعضنا شيئاً ، وكنّا على اتصال تيليباسي(12) على نحو غريب. كان جهاد قد بدأ في الانتباه لما أفعله وأقوله منذ تلك القهقهة المستفزة. أرهقتني جداً محاولاتي الفاشلة في أن أبدو طبيعياً إذ كان كل ما أفعله يعني لها دوراناً حول محورها حتى وإن لم أقصد ذلك. ربما كانت مشكلتي في أنني كنت أحاول قياس ما أفعله بنظراتها وردود أفعالها. وكم أحجمت عن أشياء كنت أرغب القيام بها حتى لا أقع في مصيدتها الماكرة.


أمضينا في ساحة ثيبيليس وقتاً مقدراً، حتى مللت وبدأت أتساءل سراً "متى يعلن مرشد الرحلة عن موعد عودتنا إلى الفندق؟" ثم نهض الدكتور ديلانو، وأطلق نظرة متفحصة وسريعة على الموجودين قبل أن يعلن "هيا .. حان وقت العودة، تأكدوا بأنكم لم تنسوا شيئاً" كنت أشعر بأن أماتا دادوريس وجهاد يخترقاني بنظراتهما الساخرة، وربما كان كل منا يشعر بالشيء ذاته تجاه الآخرين. لا أدري .. ولكن ذلك الشعور فيما بعد بدا غير مزعجٍ على الإطلاق.

ليلاً .. وبينما أُشعل سيجارة كنت قد بللتها مسبقاً بالكولونيا حتى نشفت، طرق أحدهم الباب بصوتٍ خافت، حتى ظننت أنه كان يُخيّل إليّ. ولكنه كان أعلى درجةً في المرة الثانية. عندما فتحت الباب وجدت ماربيلا ريكولاس الغجرية تقف خائفة ومرتجفة، وكأنها تقف في جو ممطر دون مظلة. كانت ثمة نظرات غريبة في عينيها لم أستطع أن أجد لهما تفسيراً سريعاً. وقبل أن أكمل التحية الحذرة، دفعت بي إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها. "هل أنتِ على ما يرام؟ هل هنالك شخص يطاردك ماربيلا؟" ورغم ما أبديته من بدائية ساذجة، إلا أنني لم أشك للحظة أنني سوف أنعم بليلة جنسية ساخنة، مع فتاة جاءتني على طبق من ذهب. وفجأة تبدد هذا الشعور عندما أجهشت بالبكاء عرفت أن تخميني لم يكن صحيحاً وأن الأمر متعلق برغبتها في الإفصاح عن سرٍ ما. كانت ماربيلا الغجرية قليلة الكلام، تملك شخصية محيرة، فهي رغم جمالها، لا تجيد استخدام مساحيق التجميل التي تتفنن الفتيات في استخدامها لا سيما داخل الحرم الجامعي. ومع التكرار تمكنت أخيراً من حساب مقدار أحمر الشفاه الذي يتوجب عليها أن تضعه. ولم تكن تجيد إقامة العلاقات مع بقية الزملاء حتى مع بني جنسها من الإناث. لم تكن فقيرة، غير أن تاريخها الذي سردته عليّ دون أن أتأكد من مصداقيته، أوحى لي بمدى الألم الذي كانت تعاني منه. ولم أعرف سر إفصاحها لي عن ذلك حتى الآن.

ماربيلا بايومباس فتاة غجرية قادمة من المكسيك. كانت واحدة من ثمانية أطفال ينتمون لعائلة فقيرة تعيش على جمع القوالب الكرتونية وقوارير المشروبات الغازية الفارغة وإعادتها إلى مصادر تصنيعها لتعيد تدويرها مرة أخرى، بينما كانت أمها تعمل خادمة في بيت أسرة برازيلية متوسطة الحال. كانت ماربيلا في إجازة المدرسة تعمل غاسلة ملابس لدى بعض الأسر في الحي ذاته الذي تعيش فيه. وظلت الأسرة تكابد ظروف الحياة الصعبة دون أن تستشعر بأنها سوف تواجه وضعاً أصعب من هذا، حتى توفي والدها بروماتيزم في القلب. كانت ماربيلا التي اختارت طرف السرير لتجلس عليه بغير ارتياح، تنظر إليّ بعينين لم استطع قراءتهما بمنأىً عن القصة التي كانت تسردها عليّ. وجاهدت كثيراً في أن أكون أكثر إنصاتاً وأن أبدي قدراً من الاهتمام بما تقوله. إياك أن تتجاهل كلام فتاة لا سيما عندما تفضي لك بسر! قد لا تكون بحاجة لمساعدتك فعلاً، ولكن أقصى ما تتمناه أو تتوقعه بالضرورة أن تنصت لها فقط.

في طورٍ متقدم من الحوار، عرفت من ماربيلا أن أمها قد اضطرت – بعد وفاة زوجها بأكثر من عام - لبيع أبنائها الواحد تلو الآخر لأسر ثرية كانت بحاجة إلى أبناء وذلك مقابل مالٍ يكفيها لعلاج ابنها الذي أصيب بالعمى عندما بصقت أفعى الجايكندو سماً في عينيه. أنهت ماربيلا كأسها الأخيرة وهي تقص عليّ كيف أنها كانت من نصيب تاجر أخشاب إسباني كان بحاجة لفتاة يلهي بها زوجته منزوعة الرحم، حتى يتفرغ لعمله بدلاً من إضاعة وقته في سماع موشحات العويل اليومية. وقتها لم يكن الطب قد اكتشف أطفال الأنابيب أو أساليب التلقيح خارج الرحم، وهذا ما جعل الأغنياء يستغلون حوجة بعض الفقراء وإغرائهم بالمال مقابل أن يخدعوا الرب الذي ظنّ أنه حرمهم من الذرية. كما لم تكن الرأسمالية قد تمكنت بعد من رؤوس الإسبانيين حتى يستنوا خروج المرأة للعمل. وجال في رأس سؤال اعتراضي عابر: "لماذا كان الفقراء أكثر خصباً من الأغنياء؟" توفيت والدة ماربيلا بسرطان في الاثنا عشر وتركت ثمانية أبناء متفرقين داخل وخارج المكسيك. وبحرقة ذات مذاق مغاير لما قبله، سردت لي كيف تعرضت لاغتصاب من قبل "سيدها" الإسباني لأكثر من مرة.

لم تكد ماربيلا تبلغ الحادية عشر من عمرها حتى بدأت تعاني من تقيحات مهبلية جعل سيدها يدخلها مشفىً تقليدي في ضواحي مدريد، وحتى بعد أن خرجت منه ظل يغتصبها دون أن تدري زوجته، حتى وافق يوم خصبها وحملت منه فأجبرها على إجهاضه. قلت لها "ولماذا لم تخبري زوجته بذلك، أنسيتِ أنكِ ابنتها؟" فقالت بأسى "وماذا كان عساها أن تفعل؟ يمكنهما بسهولة أن يتبنيا طفلاً آخر، ويودعاني الرصيف المقابل. أنسيت أنت أنهما اشترياني بثمن؟" شعرت بأنني بحاجة ماسة لاحتضانها والبكاء معها، ولكنني تخشبت مكاني ولم أفعل. كنت أخشى أن تؤول ذلك على غير مقصده. كانت فكرة أن تبيع الأسرة أبنائها فكرة لا تصدق بالنسبة إليّ، ولكن من لا يعرف الفقر كمن لا يعرف القراءة!

ما زاد حيرتي أكثر أنها كانت ما تزال تعيش معهما، ولكن حيرتي انتهت باحترام بالغ، عندما عرفت أنها مضطرة لذلك حتى تكمل دراستها وأنهما من يدفعان لها رسومها الجامعة. ختمت ماربيلا حديثها بجملة اعتبرتها أشد مأساوية "لقد تلقيت اتصالاً هاتفياً هذا اليوم من سيدي .. وشعرت بغصة قوية. لا تظن أنني هنا من أجل استدرار العطف، ولكنني شعرت بك شخصاً جديراً بالثقة، فلا تخن ثقتي أبداً" وخرجت وهي تحمل في عينيها ذات النظرات الغريبة التي دخلت بها.

عندما غادرت ماربيلا . شعرت بهدوء مخيف، وبرودة في غير موسمها تسري في أطرافي حتى تدثرت بغطاء السرير كليةً وتركت فقط رأسي بادياً. بدأت استرجع ما قالته لي عن أخوتها الذين بيعوا الواحد تلو الآخر، وحاولت أن أعايش تلك المحنة الإنسانية فلم أستطع أن أتصور ذلك. وأحسست معنى أن يبيع المرء قطعةً من جسده حتى يأكل، ويأكل وهو يتألم! فبكيت بحرقة شديدة قبل أن أتذكر كلام إكسمن دو ريجيلو عندما كان يقول لي في غرفته رديئة التهوية "هذا العالم صراع أضداد يا كاسبر: أغنياء وفقراء، أقوياء وضعفاء، قاهرين ومقهورين ، متعلمين وجهلاء. ولكننا حتى لا نملك أن نختار لأنفسنا المكان المناسب." كان ذلك قبل مراحل بعيدة جداً عن قراءتي لكارل ماركس، وتساءلت عما إذا كان دو ريجيلو ماركسياً.

آمنت بقراءات كارل ماركس لفترات طويلة، وحتى الآن أرى أنه كان الأثقب بصيرة في قراءة التاريخ وحركته، غير أني في مرحلةٍ ما ظننت أن ماركس أخطأ التقدير في جانبٍ ما. فالحياة ليست صراع طبقات، بقدر ما هي صراع قيم، حتى وإن كانت هذه الطبقات هي المنتجة لهذه القيم، ولكن القيمة في حد ذاتها لها حركتها بعيداً عن سلطة الطبقة التابعة لها، وهي في حركتها هذه، تصطدم بقيم أصيلة من النوع الذي لا ينتمي لطبقةٍ ما ، وفي حين يبدو الصراع بين قيم طبقة وطبقة أخرى فإن الصراع الحقيقي يكمن في صراع قيم هذه الطبقات مع القيم المحايدة التي لا يعرف مصدرها أحد. وأياً يكن فإن ماربيلا لم تأتِ من أجل أن تعرض لي جسدها كما خُيّل إليّ أول الأمر.

في اليوم التالي، وبينما وقفت مجموعة من طيور أبو الحناء على النافذة، كانت ثمة خيوط ناصعة البياض لأشعة الشمس تتسلل عابرةً رذاذ الذرات العالقة والتي تبدو في مجهر الأشعة وكأنها ذرات غبار تتراقص ببطء غير مرتب ونشاز مقارنة بألحان أبو الحناء، وكأنها يرقات الضوء تتيه من مصدرها في الفراغ قبل أن تنتحر على شيءٍ ما دون أن تختار مكان انتحارها ولا طريقته. ومن الخارج كان صوت صهيل الخيول وهي تجر العربات ، وصوت امرأة وهي تنادي على بائع الخبز، وأحاديث ضاحكة لشبان مارين، ورنين جرس دراجة يبدو أنها كانت مسرعة، وضجيج مختلط وواضح التفاصيل. كان كل ذلك إشارة إلى أننا قرب منتصف النهار. غير أن أحداً لم يوقظني للجولة النهارية. قلت في سري "أتمنى ألا أرى ماربيلا اليوم" عندما يفضي أحدهم إليك بسرٍ ما، تتغير معاملتك معه بطريقةٍ ما

في بهو الفندق، كان الجميع قد بدؤوا في التجمّع كسرب إوز مهاجر. كانوا يتجمعون في شكل مجموعات مسبقة الترتيب، حتى أنني بدأت أعرف أعضاء كل مجموعة منفردة. كانت ماربيلا تجلس في صالة الطعام تتناول قهوة الصباح، فتوجهت إليها وجلست حتى دون استئذان. شعرت بارتياحها الخجول لوجودي بجوارها بينما كانت تركز نظراتها على فنجان قهوتها وهي تمسكه بيديها الاثنتين. "هل نمتِ جيداً ليلة أمس؟" نظرت إليّ بامتنان غريب وهزّت رأسها دون أن تنطق بكلمة واحدة. لم أكن ساعتها أعرف ما يتوجب عليّ قوله، ولم ينقذني إلا صوت البروفيسور خافيير ديلانو "هيا .. فلنبدأ جولتنا لهذا اليوم!" لم أكن أعرف سراً لهذا التناقض الذي بدا في رغبتي الشديدة في الجلوس إليها في حين أنني كنت – صباحاً – أتمنى ألا أصادفها. ولكنني قررت أنها كانت تتوقع مني فعلاً كهذا، ولم أشأ أن أخذلها.

قبل أن نصعد إلى الحافلة، كان مشهد جهاد وهو يضع كفّه على ظهر أماتا ليساعدها على صعود الحافلة، مشهداً أتوكيتياً مهذباً بالنسبة للجميع، غير أنه كان بالنسبة لي كطعنة صدرية بسكينٍ ساخن. حاولت أن أخفي ذلك الإحساس عن الجميع، ونجحت إلا عن ماربيلا التي أحست بذلك فوراً ربما لأنها كانت الأكثر مراقبة لي. إذ ذاك – وبطريقة هزلية لا تخلو من طرافة - همست في أذني "لا بأس .. يمكنك أن تساعدني على الصعود، إذا أحببت" ابتسمت في وجهها بهدوء ، كانت ابتسامة ممتنة أكثر منها موافقة.

في طريقنا إلى أتوشا(13) جنوباً، مررنا بشارع الغرنادة ذو الطابع العربي الواضح، لا سيما ملامح برج سان بيدرو العتيق. كنت في كل مرة أتعجب كيف وصل العرب بجمالهم وخيولهم الهزيلة إلى هنا قادمين من صحراء بلادهم الحارقة. لم أكن لأصدق أن ثلةً من الرعاة البدو قد تكون لديهم نوايا استعمارية إلى هذا الحد، وربما حدا بي هذا التعجب إلى أن أقرأ المزيد عنهم وعن ديانتهم التي كانت قد نالت قسطاً وافراً من اهتمامي، لا سيما وقد اشتمل كتابهم المقدس على ذكرٍ لليسوع. كنت أبحث عن ترجمة إسبانية لكتاب العرب المقدس آملاً في أن أجد إجابة لتساؤلاتي أو هرطقاتي القديمة، ولكنني لم أجد في أرتكاتا ولم اجتهد في البحث إلا بعد تلك الجلسة التاريخية في بلاثا مايور(14) والتي شكلت منحنىً هاماً في مسار علاقتي بجهاد عوالمة.


بعد زيارة قصيرة وسريعة لمحطة أتوشا، توجهنا إلى الريتيرو لتناول الإفطار هناك، كان إفطاراً متأخراً، وقد صادف وجودنا إقامة عروض استعراضية لبعض الفرق الشعبية، والتي عرفنا فيما بعد أنها تقام كل يوم أحد في ذات المكان. وبينما انشغل الآخرون بمشاهدة العروض البهلونية التي كان يؤديها أقزام مكتنزون، كنت كدارسي الحياة الفطرية، أراقب ماربيلا ريكولاس عن كثب. كنت أتسائل هل كانت هذه الفتاة الغجرية صادقة في روايتها؟ ولماذا اختارتني أنا بالذات؟ ولماذا ذلك التوقيت بالتحديد. ولماذا لم تبد رغبة في الحديث معي بعدها؟ هل تراها تتوقع مني أن أفعل ذلك؟ الفتيات يحببن ذلك، ولكنها بالأمس القريب فقط كسرت هذه القاعدة! هل تراها أعادت إصلاح الكسر؟ كانت تربط في شعرها منديلاً أحمراً منقّطاً بنقط بيضاء صغيرة تماماً كما تفعل النساء الغجريات، في أواسط التسعينيات أصبح هذا النوع من المناديل الغجرية صرعة منتشرة لا سيما بين الفتيات الجامعيات. وكانت ترتدي بنطالاً من الجينز الضيّق الذي يبهت عند الركبتين، وقميصاً قطنياً لم استطع أن أحدد لونه على وجه التحديد، غير أنه كان يحمل نقشاً في مقدمته باللغة الإنكليزية "وجهة نظر أخرى." وبينما كنت أبحث عن مفصلٍ ضعيف أكسر عليه طوق الحذر المفروض علينا، مرّ أحدهم أمامي وهو يرمي بنظرة متأرجحة بيننا "لقد أحسنت الاختيار، إنها فتاة مثيرة حقاً، لا تتردد فيمكنها أن تمنحك الراحة في أي مكان تشاء" كنت مندهشاً للجرأة الواثقة التي تكلم بها ذلك الشاب. ولكنني اكتشفت فيما بعد أنه قد مارس معها الجنس لمرات، وكذلك فعل الكثيرون، وهذا لم يجعلني أثق بأنها كانت تكذب في قصتها التي حكتها لي أبداً.


أشارت إحدى الفتيات على البروفيسور خافيير زيارة ساحة بلاثا مايور فوافق على الفور. وهناك، وبينما كنت ما أزال أدرس احتمالات ماربيلا بين كونها ضحية لفقر أرغمها على بيع جسدها كما أرغم أمها لبيع أطفالها من قبل، وبين كونها داعرة محترفة لم تشأ حتى أن تقايض على جسدها بمال، ربّت أحدهم على كتفي بلطف، وعندما التفت وجدته جهاد عوالمة، مبتسماً وهو يطلب الإذن بالجلوس. كنت أظنه يريد تفسير الذي بينه وبين أماتا بطريقة ماكرة، كما هي عادة العرب دائماً، غير أنه فاجأني بقوله "هل تقبل صداقتي إن عرفت أنني أحبك؟" وحتى قبل أن آذن له، وجدته قد فرد صفحة من جريدة يومية قديمة، وجلس.

لقد كان كالصدأ الذي لا تستطيع منعه من الزحف على قطعة معدنية رطبة، فقد تمدد عنوة رغماً عني، ولم أكن أشأ أن أطوّر علاقتي به. قلت لنفسي "ربما بعثه إليك الرب ليجيب عن تساؤلاتك المعلّقة" عرفت أنه لا يتوجب عليّ الخوض في أحاديث دينية منذ الجلسة الأولى، مما عنى لي أن أتحمله في البداية حتى تحين الفرصة المناسبة. لم تكن ثمة حجة منطقية لعدائي له غير إحساسي تجاهه بأنه كان مستعمري في حقبةٍ ما. كانت تلك رجعية بائنة لم استطع معالجتها، وعنصرية متخفية خلف ستار وطني سخيف. وما أثار تعجبني أنه كان يشعر بذلك، ولم يبدي أي استياء حيال ذلك. تعلمت من علاقتي معه بعد تحسنها أنك حين تبغض شخصاً تبغض كل ما يتعلق به بلامنطقية وتصبح هذه اللامنطقية سبباً منطقياً لك أنت وحدك، فقط أنت لا تعرف اللحظة التي توافق انفتاح صمامٍ ما في قلبك يدخل منه اليقين ليحميك من ظلم الآخرين، ومن جرم الكراهية التي لا يحتملها قلب بشري.

تكلمنا عن أشياء كثيرة، ودون شعورٍ مني وجدتني منساقاً لما يقول. كان - عكس ما توقعت - مثقفاً، عارفاً بتلك الهوة الثقافية بين مجتمعاتنا وأسبابها. وتولدت لدي رغبة جامحة في معرفة شيء ما عن البلدان العربية خلاف ما قرأت عنها في صغري، لا سيما في حقبة ما بعد الانحسار الاستعماري. حكى لي عن دمشق وأوغاريت وأبجديتها الأم وعن تاريخ رقصة الدبكة وأنواعها، وتمنيت ساعاتها أن نطبّقها، بل وتخيّلت نفسي وأنا أرقصها كما ولو كانت سهلة بالنسبة لي. وحكي لي عن مملكة ماري الغارقة تحت تلّة الحريري، وإيبلا المدفونة تحت تلّة مرديخ، ومعبد تلال براك وحبوبة، وآرام. وحكى لي عن تاريخها كما لو أنه يحكي لي سيرته الذاتية. كانت ثمة لمعة جذابة في عينيه الماكرتين، اللتان كانتا مصابتين بمتلازمة موتّرة، غير أني لم أستطع إلا أن استمع له، فلقد كان بي ولع بالتاريخ غير مسبوق. ثم أنه توقف فجأة ليقول في تهذيب غير مصطنع "عذراً .. عليّ أن أذهب لأصلي"



---------------------------------------------

الهوامش:
( 6 ) سيجموند فرويد: عالم نفس ألماني هو صاحب مدرسة التحليل النفسي
( 7 ) كاهيتي: مانويل كاهيتي شاعر إسباني صاحب قصيدة "الكلمة الزرقاء للأيام"
( 8 ) لوركا: فريدريكو غارسيا لوركا شاعر ورسام إسباني مجيد صاحب قصيدة "غزالة الموت المظلم"
( 9 ) أوتيرو: بلاس دي أوتيرو صاحب قصيدة "في قشتالة" المشهورة
( 10 ) ثيلايا: غابرييل ثيلايا
( 11 ) Christen هو طقس يقام في الكنيسة لتسمية المواليد الجدد.
( 12 ) Telepathic تخاطري من Telepath أي التخاطر، وهو قسم من علم الميتافيزيقا أو "ما وراء الطبيعة" يدرس الحالات الشعورية المرتبطة بموجات العقل وإمكانية إنشاء نوع من الاتصال من خلال هذه الموجات.
( 13 ) محطة قطار العاصمة الإسبانية
( 14 ) ساحة في مدريد القديمة تعتبر من أهم المعالم السياحية في المدينة.






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 10:51 AM رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

الفصل الأخير




إنسان . . . أم مسخ ؟



- كارسيس التي جاءت متأخرة -











-






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 11:00 AM رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي الفصل الأخير

أحاديث النسوة الأرستقراطيات بعد مغادرة الرجال للصيد، لها طابع خاص. رنين اصطكاك الفناجين الخزفية ودقات بندول الساعة الجدارية العملاقة، وضعية الكراسي والإضاءة كلها تكثيف لخصوصية الحديث الذي لا يخلو من بذاءات النبلاء. وعلى الشرفات - من الخارج – تبدو الستائر المخملية الحمراء راقصات مبتدئات، في صالة الاستربتيز الحديثة على الإسبانيين. بينما تتعالى صيحات الجماهير في ميدان مصارعة الثيران. أتعجب للباس الماتادور وعلاقته باللعبة. دخان باكو ليزدر محضّر الثيران للعبة، وجالب العلف النتن لهذه المناسبة. موزّع بطاقات اليانصيب على الحضور واستهدافه للفتيات والمراهقين. تصفير المومسات في زقاق بيساغرا المناديات للرجال وهنّ يدخنّ التبغ المخصص للإغراء، أنين فتاة تقبّل عشيقها في شغف على سور سانتا لويزا مشهد رومانسي يعد طبيعياً في مدريد عاصمة الجنس والثيران. هكذا خرجت بانطباعي عن مدريد بعد سنواتي الخمس التي قضيتها فيها.



أكثر ما يفسد هذا العالم: النظام والفوضى وهذا ما كان يميّز مدريد عن ضواحيها التي كانت ما تزال تعيش تحت خطوط الفقر ببدائية مريحة. كان الجد أورفل، قد نشر روايته "ما وراء النهر" بعد أن بلغ به اليأس مبلغه. وافقت إحدى دور النشر المغمورة على نشر وتوزيع روايته بعد أن أرغمته على التنازل عن أرباحه. غير أنه اشترط أن توضع صورته على غلاف الرواية وليس خلفه كما كان متعارفاً عليه. بعد مرور عام نفذت النسخ الموزعة من رفوف المكتبات، وطبعت الدار نسخة محدّثة للرواية وبدأت شهرة أورفل بودن في الازدياد، وما أن وصلت أولى نسخ روايته المحدّثة مدريد حتى توفي. كان ذلك في العام 1996 لم أشعر لوفاته بفقد كبير كما شعرت لوفاة مانويل إميليو جدي لأمي الذي كان قد توفي قبله بعامين. كانت ثمة أعوام مرت على الأورفليين لم تشهد أحداثاً غير موت كبار السن. وكانت النساء في كل مرّة يحتفين بطقوسهن عند كل عزاء. تذكرت ذلك القسيس جاد الملامح ذو اللحية البيضاء الذي رأيته في كوينكا، وتوقعت أن يصبح والدي مثله ذات يوم.



عندما وقعت عيني على رواية أورفل على إحدى رفوف مكتبة صغيرة في شارع تاتادورسيا، شعرت بالفخر للحظات، ثم حملت الكتاب، وأنا أنوي أن أخبر صاحب المكتبة بأن مؤلف هذا الكتاب هو جدي. غير أنني لم أفعل عندما عرفت أن سعر الكتاب أقل من سعر ربطة عنق فرنسية. فيما بعد ظلت الرواية بطريقةٍ ما مفتاحاً لحياته الخاصة. إذ يذكر في روايته قصة بوسويل كاستيلّو اللقيط الذي قتل عشيقته عندما حملت منه سفاحاً، وفرّ إلى صومعة غير مأهولة، وظلت لعنات الخطيئة تطارده حتى أوحت له المشيئة أن يعبر نهراً ذكر أنه نهر مسحور، فخرج إلى الضفة الأخرى وقد مُسح نصفه السفلي. ولم يزل كذلك حتى تمثلت له السيدة العذراء وفي يدها وعاء به دم لا رائحة له، وأمرته بشرب ما تيسر منه والاغتسال بما يتبقى، وعندها مسحت على صدره دعت له بالسكينة ، فسكن! ويواصل في روايته حتى تأتي الحقبة التي يتزوج فيها كاستيلّو من سيدة يقال أنها من سلالة الأب يواقيم الفلوري صاحب النبوءة المشهورة(15) لذا فقد انتقل كاستيلّو بزوجته إلى إسبانيا أملاً في أن ينجبا ذلك البطل المسيحي المنتظر.



أصر العم زينون أورفل على سحب الرواية من الأسواق حتى دون أن يستشير أخوته، غير أن صاحب دار النشر لم يكن ليوافق على ذلك لا سيما وأن الطلب على الرواية أصبح متزايداً، وبلغ سعر الكتاب أكثر من 40 يورو ذلك الوقت. لم أعرف سر تهافت الناس على الرواية رغم أنها كانت تتناول أحداثاً ساذجة بطريقة لا تخلو من البساطة المفرطة. لقد أصبح أورفل من أشهر الرواة الإسبانيين بعد وفاته، وتم تكريمه في الذكرى الأولى لوفاته وحضر أبي التكريم متأبطاً يد أمي كأرستقراطي محدث. حاول أن يبدو كنبيلٍ حزين، ولكنه لم يفلح أن يقنعني بذلك. ثم ألقى كلمته التي ظلّ يصوغها لأسبوعٍ كامل. لا أدري ولكنني شعرت بأننا أسرة لا تمتلك تلك العاطفة المقدسة التي كان الرب يوصي أن نبذرها بين الناس. كلنا يرتدي قناعاً واهناً يكاد أن يسقط عندما نعطس. وحتى في خطابه التأبيني لم ينس مهنته القديمة كعامل في منجم، فكان مما قاله: "نحيي اليوم هذا الأب الراحل، لأنه رحل قبل أن نعرف مقدار ما بداخله من جواهر ثمينة، ولكن لا بأس تظل الأحجار الكريمة كريمة طالما أنها مدفونة في شقوق الجبال." كانت أمي تمسح دموعها بأطراف منديل لا يبتل أبداً، وكنت أعلم أنها لن تحزن لموت أورفليّ قط. كنت أجلس في الخلف ترافقني سواريتا ديماتواي صديقة جديدة من ذلك النوع الذي لا تستمر معهن إلا لأسابيع فقط. كانت تحاول إلهائي بحركات قدميها وهي تفركهما بساقي. لا بأس فلم يكن أورفل أحد أقاربها على أي حال. ونمت معها تلك الليلة في شقتها التي بالإيجار.



مرت السنوات الثلاث الأولى دون أن تكون لدي أي علاقات عاطفية صادقة، فيما عدا تلك العلاقة الحذرة التي كنت أمارسها بين الفينة والأخرى مع كارسيس ريكو ماندل. فتاة بطعم الكرز ورائحة البرتقال. فتاة تحمل من الصفاء ما يذكرني بنهر كويربو. كانت الفتاة الوحيدة التي تسللت إلى قلبي بهدوء لم استشعره إلا عندما طلبت استشارتي في علاقة ناشئة في أطوارها الأولى بينها وبين شاب يدعى ألبيرتو جيوفاني. كانت كارسيس من تلك الفتيات اللواتي لا يبتذلن الوقت في الكلام عن ما لا يفيد. وعندما طلبت مقابلتي عرفت أن ثمة أمراً خطيراً يسترعي الاهتمام. ولسببٍ ما أحزنني معرفة ذلك. كثيراً ما نويت أن أصارحها بما أحمله تجاهها من عاطفة، غير أن ما منعني من ذلك هو خوفي الذي لم أكن أملك سيطرة عليه. فكنت أراها فتاة من نوعٍ آخر، نوع لا يمكنك أن تتصور وجوده إلا في محميات إنسانية. رقيقة إلى الحد الذي يجعلك تخاف عليها حتى من نفسها عندما تبكي، أو تحزن. في تلك الفترة، كنت قد قررت ألا أخلص في علاقةٍ ما، حتى لا أعيد ما حدث مع أماتا دادوريس. غير أني كنت أراهن في علاقاتي العابرة على أنني ما أزال شخصاً مرغوباً من الجنس الآخر. ولكنني أحببت كارسيس في صمت حتى تخرجت من الجامعة وأنا أحمل عشقها تمثالاً محنطاً ما يزال طازجاً حتى عدت أدراجي إلى أرتكاتا.



في واحدة من جلساتنا النادرة، حانت لي الفرصة لأشهر بغضائي للسلالات العربية بوضوح عندما كان "جهاد" يتحد ث عن ديانته التي كانت واحدة من أسباب كراهيتي له. فقد كانت كراهيتي التاريخية للعرب ذات جذور تعود إلى ما قرأته عنهم منذ العصور الوسطى عندما شاع في الأوساط المسيحية ظهور دين يستقي طقوسه وتعاليمه من كتابات العهدين القديم والجديد بهرطقة توسم الرب يسوع بما ليس فيه وتحارب المسيحية، وتحارب الثالوث الأعظم المقدّس. كهذا بدأ قساوسة ورجال الدين البيزنطيون الذين سوّقوا لهذه الفكرة لقرون طويلة خطاباتهم لمجمعات الكنائس والأديرة في أوروبا على وجه التحديد. والتاريخ لا يغفل أبداً. لقد كان هذا الدين الجديد بمثابة الكابوس المفزع لرجالات الدين والبابوات. ولكن الدور الأكبر الذي ساعد على نقل هذه التحذيرات إلينا في الغرب كانت حركة المؤرخين الذين وصفوا لنا بشاعة هذا الدين وأتباعه، كما لم يستطع أحد أن يصوّره.


في كتابٍ لثيوفانس يحتفظ به والدي تحدث عن أتباع هذا الدين ووصفهم بأنهم مصاصو دماء يقدّسون القتل بأمرٍ من نبيهم الذي أوعز إليهم أن الجنة لمن يقتل مسيحياً أو وثنياً. وكنت وأنا أتعجب لهذا الفكر - الذي بزغ فجأة في أقاصي الأرض - أن يلاقي هذا الانتشار رغم همجيته ودمويته، لا سيما وأنه ظهر بدون منازع في تلك الحقبة من الزمن. ولكنني قلت في نفسي "هؤلاء غضب من الرب" ولم تخلو كتابات البطاركة من أمثال صفرونيوس والكاثوليكيين من أمثال فريديجاريوس من هذا المعنى، ما أشعرني بأنني أحمل قبساً من روح يسوع الرب ينبأ عن موهبة قسيسية قادمة، بل وأكيدة.


تذكرت كلام الجدة يواماريز روجيليو - زوجة أورفل الثانية - عن الأورفليين وورعهم الأربعيني . وكنت أخمن دائماً تلك النقطة التي تجعلني أنقلب من مسيحي مهرطق إلى كاثوليكيّ متديّن، ولم تكن ثمة أية إشارات لذلك. ساعدني على نبذ ما تبقى من مخلفات أرتكاتا البائدة أن مدريد كانت نافذة منفتحة على العالم، وكنت أرى يهوداً بقبعاتهم السوداء الصغيرة في منتصف رؤوسهم - دون أن أعلم سر ثباتها دون أن تقع - وهم يعبرون شوارع العاصمة غير خائفين ولا متوجسين. تنهدت بعمق وأنا أسبّح "فلتتمجّد أيها الرب في الأعالي!"


عشت أرجوحة فكرية من النوع المرهق، حيث أن عدائي لهذا الدين البربري كان عداءً مقدّساً، ولكنني في السنة الأخيرة لي في مدريد وقعت في يدي بعض المخطوطات والمنشورات الدينية في مكتبة الجامعة عندما كنت أستعد لجمع مراجع مفيدة لرسالة التخرّج. كانت تلك المخطوطات تتحدث عن الخطبة التي ألقاها البابا أربان الثاني في كليرمونت والتي كان يحرّض فيها المسيحيين على عداء المسلمين الذين نعتهم بأنهم "أبناء عاهرات" وأكد في المقابل على حصولهم على مكافأة من الرب لكل من يقتل مسلماً. عندها توقفت عن القراءة وتساءلت "عن أي رب يتكلمون؟" هل يكون الرب يداً يبطش بها كل من استساغ القتل؟ وإلى جانب من يقف هذا الرب؟ كيف يهب جنته للبرابرة مقابل قتلنا، ويكافئنا بذات الجنة مقابل ذات الفعل؟ قررت أن الرب يسخر من الجميع، أو أن ثمة لعبة مصالح في الأمر، ولأنني كنت أكثر احتراماً للرب فإنني لم أضع اللوم عليه.



لم تعجبني ابتسامات جهاد الساخرة ، وأيقنت أنني سوف لن أتمالك أعصابي إذا مضت دقيقة كاملة وأنا ما أزال أمامه، فانصرفت على الفور. كان ذلك الشيء الذي لا أعرفه بدأ يتحرك داخلي، وعرفت أنه لم يكن من الحكمة الانصراف دون أن أسمع منه. في طريق عودتي رأيت كارسيس الحسناء، وهي تقف مع رفيقاتها اللواتي كنّ لا تعجبهن طريقتي التي أتكلم بها، وكنّ أحياناً يعايرنني بالبداوة والبربرية. هي الفتاة الوحيدة التي تجعلك بطريقة غير منطقية تخرج من حالة شعورية إلى حالة شعورية متناقضة تماماً. تشعر أمامها بأنك لا يجب أن تكذب، ولا يجدر بك إلا أن تبتسم. كان ذلك آخر مرة أراها فيها. فقد عدت إلى أرتكاتا بعد تخرجي دون أن أودع أحداً. حملتها في قلبي وأنا سعيد بأن آخر صورة لها في ذاكرتي كانت وهي مبتسمة. كم كانت تأسرني ابتسامتها الوادعة! تمنيت بطريقةٍ ما أن أخطرها بما تعنيه لي حتى وإن لم نكن سنلتقي بعدها، تمنيت أن يغيّر التاريخ والزمان رأيهما فيعودان إلى الوراء بضعة أشهر فقط، ولكنني الآن هنا، أمام مدفئة حجرية تتعالى فيها طقطقات الخشب المحروق ورائحة الكازولين والفحم الأبيض تملئ خياشيمي، وأنا أقرأ في الإصحاح الثالث مقاطع تتعلّق برؤيا يوحنا التي رأى فيها وحشاً بحرياً بسبعة رؤوس يخرج إلى اليابسة ويتوجه صوب قبر الرب. تذكرت تفسيرات يواقيم التي ذكرها في إحدى منشوراته البابوية حينما فسّر الوحش بأعداء المسيح، وأن إحدى الرؤوس تمثل نبي العرب الدموي بينما فسر بقية الرؤوس على أنها سلاطين مسلمون كان أحدهم صلاح الدين الأيوبي والآخر عبد المؤمن الموحدي.


بإهمال أو بحزن، أقفلت الكتاب المقدّس وأنا أتذكر ما كان يحكيه لي الجد مانويل - ورائحة أصابع شوكولاته جوز الهند تعبق منه - عن تلك المجازر التي أحدثها المسلمون في أهل إسبانيا في القرن الرابع عشر ومدى الهلع الذي امتلك قلوب البابوية عندما عرفوا نواياهم في الزحف حيث الكرسي البابوي الروماني في إيطاليا. تحدث مانويل كثيراً عن قسوة الأتراك المسلمين وعن نظام الدوشرمة الذي طبّقوه بكل غيظ كأنما كانت هذه الأرض أرضهم وانتزعت منهم في حقبة ما لا نعلمها. عرفت كيف أنني لم أستطع أن أتصالح مع ذلك العربي، بل وتمنيت أني لم أتركه حياً ذلك اليوم.


كيف يجرؤ أن يتكلم عن ديانته، وما تزال يداه ملطختان بدماء الرهبان الذين قتّلوا والراهبات اللواتي تم اغتصابهن في الأديرة وأطفالهن الذين بيعوا في سوق الرقيق؟ وما تزال كلمات الأب ليونارد الخيوسي التي كتبها بمداد من دم إلى البابا نيقولا الخامس ترن في أذني، كان لا يفتأ الجد مانويل يتلوها عليّ عندما سنحت له الفرصة وتركته ابنته "أمي" أن يثرثر معي، قبل أن تنهي حديثنا بنصيحة ماكرة "هيا كاسبر لا ترهق جدك، اذهب إلى غرفتك ودع جدك ينام"


فقدت أمي سبعة أرطال من وزنها بعد رحيل أبيها، وترك الحزن ظله المشؤوم تجاعيد على وجهها الجميل. والتهم الروماتيزوم قدميها بشراهة، فظلت تعرج في مشيتها عرجة لا تناسب وزنها الجديد. هذا إضافةً إلى ما تركه الشقاء الأسري على ملامحها، وقضاء أكثر من خمسة وثلاثين عاماً برفقة سارجينيو أورفل صعب المراس. كان والدي حينها يحاول استثمار مدخراته من عمله في منجم الألماس بعد تفرّغه للعبادة والمهام الكنائسية في مشروع لتربية الخيول، قلت في نفسي "ربما يفلح في تربية الخيول طالما لم يفلح في تربية أبنائه!" وعلى إثر الصدمات المتكررة بيني وبينه قررت الرحيل والانتقال إلى ماربيا، مدينة الشمس كما يسمونها، وكان لي شغف عجيب بهذه المدينة الساحلية وتمنيت أن أسكن بها منذ زمن. لم أصدق أن الرب حقّق لي هذه الأمنية بهذه السهولة، كما لم يفعل من قبل، فانتقلت إلى ماربيا مع أصدقاء قرروا إقامة معرض تشكيلي هناك. قالوا أن أهل ماربيا يتذوقون الفن التشكيلي، وأن أشهر رسامي إسبانيا يذهبون إليها لشحن خيالهم بين كل عطلة وأخرى. أخذت معي ما اشتريته من كتب وودعت أمي والمستيقظين من أخوتي مساءً وحملت حقيبة سفر رياضية، وتوجهت إلى محطة القطار، حيث انطلق بي صباحاً إلى ماربيا المدينة التي لا تغيب عنها الشمس..



لم تكن لي خطط مهنية قبل وصولي ماربيا، غير أنني قررت ألا أعود إلى المنزل إلا في المناسبات العائلية إكراماً لأمي التي حزنت كثيراً لقراري هذا. وفي أيامي الأولى في ماربيا أحسست برغبة جارفة إلى العزلة، فاستأجرت شقة من غرفة وردهة صغيرة وحمام ومطبخ، رغم أنني لم أكن بحاجة إليه. وصنعت مكتبة صغيرة من بقايا أخشاب بلوط مهملة، وضعت فيها كتبي التي لم تشمل الكتاب المقدس هذه المرة. لي قناعة لا أعرف منبعها أن التدين لا يشترط وجود دين. يجب أن يحاسب الناس على أعمالهم لا على اتباعهم لدين ما بعينه من عدمه. ماذا لو أن شخصاً ما في جهةٍ ما من الأرض، لم يسمع بالرب يسوع، ولكن سيرته كانت يسوعية بطريقةٍ ما؟ هل يعذبه الرب بالنار؟ ألا يكفي بأن أكون صادقاً لأدخل الجنة؟ أولئك الوثنيون هل يعرفون الله أم لا يعرفونه؟ ما هو الأهم، المعرفة أم العبادة؟ حيّدت علاقتي بالرب فترة بقائي في ماربيا، وشعرت براحة نفسية عالية، لا تتوفر في الغالب إلا على صدر أمي، عندما كنت أرتمي بين أحضانها أشكو إليها من بالغين كانوا يوسعونني ضرباً عندما كنت في العاشرة من عمري. لا أدري .. ولكنني شعرت بأن الرب يتابعني بعينين معجبتين، وأنه يفهم ما أريد أن أقوله.



الحياة في ماربيا، رغم السكون النفسي الذي احتواني فيها، لم يكن إلا مجرد حياة روتينية، حياة هادئة حد الضجر. كنت أذهب إلى شواطئ ماربيا التي أغرقها المستثمرون العرب بالمشاريع السياحية والفنادق الفخمة. كنت لا أكره شيئاً غير رائحة الرأسمالية البغيضة التي كنت أشتمها في دخان السيجار الكوبي في يد غليظة، أو رائحة موكيت إيطالي ممتد من رواق ملهىً ليلي إلى الشارع البائس، كان الحرس يمنعون الفقراء أن يطئوه بأحذيتهم المتسخة، قلت "كان لا بد أن ينظفوا الشوارع أولاً!" ثمة أماكن لا يستطيع الفقراء دخولها، ليس لأنهم لا يحملون ثمن ما يقدّم فيها، ولكن لأنه لم يكن يسمح لهم بالدخول إليها أصلاً. كان عليك أن تبيع نصف ممتلكاتك حتى تدخل صالة الإستربتيز أو أن تستغني عن مدخراتك الشهرية مقابل أن تشاهد فتاة عارية ترقص في حلبة يتوسطها عامود نيكلي ماجن اللمعة.


ذلك اليوم تلقيت رسالة قصيرة من والدتي على هاتفي المحمول تقول فيها بأحرف مختصرة: "احضر في عطلة نهاية الأسبوع .. هنالك مفاجأة" لم يكن لدي أدنى تخمين عن ما قد تكون عليه تلك المفاجأة، غير أنني قررت أن أعود إلى أرتكاتا في قطار السبت رغم ازدحامه في مثل هذا اليوم من الأسبوع. لم يكن المنزل يوحي بمفاجأةٍ من أي نوع، فقد كان الجميع اعتياديين ما خلا أمي التي أمسكت بقميصي وسحبتني قبل أن أحيي بقية أفراد الأسرة. أجلستني إلى جوارها، وأبدت اهتماماً وهي تقول "لقد وجدت لك عروساً" لم تكن من عادة النساء الإسبانيات أن يفعلن ذلك، كما لم يكن هذا الموضوع مطروقاً على المستوى الأسري من قبلي. التهمت أمي دهشتي بأن أخرجت من حقيبتها اليدوية - التي يبدو أنها وضعتها بقصد في ذلك المكان - صورة لفتاة يبدو عليها الثراء، بعينين ماكرتين، وابتسامة تساند ذلك المكر، ولم تعطني فرصة لسؤالها "تدعى ساريسيا أرماندو، الابنة الوحيدة لأرماندو بومنت لا بد أنك تتذكره" أرماندو بومنت أحد الفارين من حوائط أرتكاتا الجرانيتية، وجحيمها التقليدي. كان باحثاً عن نفسه عندما صادف أنجيفن لاخاري - والتي يعني اسمها بالفرنسية "ملاك النبيذ" - وهي تستحم في نهر التاخو في توليدو حيث تعتاد النساء على الاستحمام يومي الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، ولأن أهل توليدو جميعهم ذوو قربى فلم يكن أحد يجرؤ على اختلاس النظر إليهن أو الاقتراب من النهر في تلك الأيام من الأسبوع. كان أرماندو عابر طريق عندما فعل، ولم تجذبه من النساء العاريات غير أنجيفن. وتزوجا بعد ذلك بأشهر. أنجبا ساريسيا المدللة التي لم يُكتب لها الدلال لفترة طويلة عندما توفي دارسيا متأثراً بحمى أصابته ومكثت معه لأسابيع قبل أن يغرغر. كانت ساريسيا في العاشرة من عمرها آنذاك.


أذكر أنني التقيت ساريسيا - التي أكبرها بعامين - في توليدو أثناء رحلتي من أرتكاتا إلى كوينكا ولعبنا سوياً ذات مرة. إضافة إلى قرابة من نوعٍ ما تربط بيننا. ثم أنها اختفت واختفى ذكرها ولم نعد نسمع عنها شيئاً. تبسمت في وجه أمي:
* آنسة كارول مانويل، أنا لا أفكر بالزواج الآن.
- ومن قال بأننا مستعدون الآن لتزويجك، فقط فكّر بها الآن .. إنها تناسبك تماماً
* ومن قال لك أنها تناسبني، إنها مكتنزة وأنا لا أحب المكتنزات.
- أنا أمك وأعرفك أكثر منك.
* أمي .. لا يمكن أن ..
- أيها الأخرق إنك حتى لم تلاحظ استدارة ثديها بعد.
* وهل سيغيّر ذلك من الأمر شيء؟
- أيها القسيس الصغير، لا تكن مثالياً .. هل تراك ستتزوج من فتاةٍ لا تثيرك؟
* كلا ولكن ..
- كلما أثارتك كلما تمتعت بعلاقة جنسية جيدة.
* ثم ... ؟
- العلاقات الجيدة تنتج ذريةً صالحة
* أرى أنك وأبي لم تظفرا بعلاقة جنسية جيدة أبداً !!

أثناء عودتي إلى ماربيا، كنت أحاول تحميض نجاتيف ذكرياتي القديمة مع ساريسيا في توليدو، فبالكاد كنت أتذكرها بين مجموعة ممن مروا على شريط ذاكرتي. لا أذكر عنها غير أنها كانت أول من امتلكت دراجة بعجلتين في حيّنا. بينما كنا جميعاً نزهو بدرجات ذوات أربع عجلات، عجلتان رئيسيتان، وعجلتان صغيرتان تساندان العجلة الخلفية. ولا يأتي ذكر الدراجات إلا وتقفز إلى مخيلتي سابيلا آندروس العمياء - زوجة فرانكو ماتيوس "عديم الذوق" - التي كانت تسكن الطابق العلوي لمنزلنا في أرتكاتا. كنت استغرب الطريقة التي يتم بها حفظ الذكريات واستعادتها مرة أخرى، هل هي أرشفة من نوعٍ ما؟ فلماذا إذاً لا نتذكر كل شيء؟ على أي أساس تتم هذه الأرشفة يا ترى؟ هل هنالك أولويات للأرشفة أم أنها عشوائية؟ لماذا لا أكف أبداً عن طرح هذه الأسئلة المعتوهة؟ قلت لنفسي "ربما أحب ساريسيا بالإيحاء!"


عندما مرّ الصبي بائع الجرائد، وكنت لا أهوى قراءتها، اشتريت جريدة "لانوفا إسبانيا" حتى أتخلص من زحام تلك الأسئلة وأقطع الطريق الطويلة إلى ماربيا. في الحالات النادرة التي أقرأ فيها الجرائد لا أهتم إلا بالصفحتين الأولى والأخيرة، إضافة إلى الكاركتير الذي ينشر في الصفحات الداخلية كنت أمرر عيني على المانشيتات العريضة دون قراءة التفاصيل. وسرعان ما شعرت بالملل، فغطيت وجهي بالجريدة، وغفوت. لا أدري ما إذا كان القدر أم دعوات أمي من دبّر لمقابلة بمحض الصدفة بيني وبين ساريسيا في إحدى عطل نهاية الأسبوع، في مدينة أكسبو الترفيهية مع أخوتي. كانت أرض المدينة الترفيهية في العام 92 معرضاً للمخترعات التكنولوجية، إلا أن تم بناء المدينة الترفيهية بعد انتهاء المعرض بأمر من محافظ المدينة آنذاك. توقفت عند عربة بائع الآيسكريم عندما ألحت جوليا "أصغر أخوتي الإناث" في طلب آيسكريم بنكهة الفانيليا. تصادف وجود ساريسيا هناك. تعرّفت عليها للوهلة الأولى من عينيها الماكرتين رغم أنها كانت تبدو أكثر رشاقة. إلا أن صورتها كانت قد انطبعت في مخيلتي ولم تفارقها أبداً. اقتبست جراءة أبناء العاصمة، ووجهت إليها تحية مهذبة، ردت عليها بمثلها. عرفتها بنفسي وحاولت تذكيرها، فكانت دهشتي لا توصف عندما عرفت أنها ما تزال تتذكر تفاصيل ذكرياتنا المشتركة، بل وأنها راحت تسرد عليّ أحداثاً لم أتذكرها قط. عرفت منها أنها تقيم مع أمها أنجيفن في شقة مستأجرة، وأنها تعمل في شركة سياحية كبرى. ما شدني إليها أكثر هو كفاحها المناقض للدلال الذي افترضته فيها. كثير من فتيات توليدو احترفن الرقص في الملاهي الليلة في مدريد أو عملن في مهن وضيعة. وقلّة منهن من استطاعت إجادة اللغة الإنكليزية كما فعلت ساريسيا. قررت أنها فتاة مناسبة.



كان شبح كارسيس يلف حول عنقي كأليافه الناعمة، قلت في نفسي "لا بد أنها تزوجت الآن!" أحسست أنني أخونها بطريقةٍ ما. ولكن لم تكن هنالك بارقة أمل في أن أراها مجدداً. القلب لم يكن شاغراً ولكن طوفان ساريسيا كان أكثر عنفاً مما توقعت. فلم يدم على تعارفنا غير أسابيع حتى تقدمت لخطبتها. صارحت ساريسيا بمشاعري تلك، فأوعزت لي بأنه لا جرم عليّ. ربما كنت أحاول الوقوع عوضاً عن محاولات مقاومة الوقوع. كان الوقع أسهل رغم أنه لم يكن الأفضل. ساريسيا التي عرفتها غير تلك التي سمعت عنها من أصدقاء مشتركين. فهي فتاة جميلة بالمعيار النوركي، ومعتدة بنفسها إلى الحد الذي يجعلك تراها أجمل مما هي عليه. تخفي - بمهارة - خلف جرأتها رقة أنثوية لا تتلمسها إلا عندما تعانقها بلطف. كقطة سيامية عنيدة، تتدلل عندما تفرط في دلالها، وتكشّر عن أنيابها عندما تخافك. كانت بحاجة إلى الأمن، منذ أن افتقدته بوفاة والدها في العام 86 ، كانت تخاف من شيء ما، أو ربما كان الخوف هو عاطفتها الأكثر بروزاً، لذا فإنها كانت تواجه خوفها بحدة مضادة. حاولت أن أكون ملاذها بقدر ما تبقى لي من شجاعة انتهكتها فتاة سابقات، وعاطفة ابتذلتها خلال قصصي الغرامية العابرة.


في أرتكاتا، حيث كان من الصعب تخمين الموعد الذي تكون فيه ساريسيا متفرغة لمغامرة عاطفية، كانت الأمور بدت أكثر سوءً من ذي قبل، لا سيما بعد أن أغلقت معظم شركات السياحة العربية أبوابها على إثر حادثة الرسوم الكاريكاتورية التي تناولت نبي العرب. ما ساعد على تجديد دماء العداء غير المعلن بين المسيحيين والمسلمين. كانت المنطقة الأوروبية تغلي بشدة، لا سيما وأن أغلب عائداتها تأتي من صادراتها للبلاد العربية. وبعد المقاطعة الشهيرة لكل منتجات الدول التي ساهمت - ولو بالصمت - في نشر هذه الرسوم، أو الترويج لها، فقد عانت إسبانيا كغيرها من هزّة اقتصادية عنيفة. كما أن انسحاب هذه الشركات قد ساهم سلباً في خمول السياحة. كنت استعجب من كل تلك الضجة التي قام بها المسلمون لنبي مات قبل أكثر من ألف عام. تساءلت "ترى هل هذا حب أم هوس؟" الأمر دفعني لأن أعرف أكثر عن سبب غضب هؤلاء المسلمين لمحب رجل ما هو إلا مصاص دماء بدوي! ولحسن الحظ فإن هذه الوعكة الدينية قد ساهمت في نشر كتب بالإسبانية تتناول سيرة هذا النبي، وكانت عكس ما توقعت. فمضيت أقرأ في سيرته حتى وصلت إلى اللحظة الأخيرة التي سبقت موته فوجدتني أبكي كأنني فقدت صديقاً مقرباً. لم أقرأ عن شخصية مثيرة بقدر ما قرأت عن محمد نبي العرب. فأحسست تجاهه باحترام كبير. وتمنيت أن يكون ما قرأته عنه صحيحاً وغير محرّف.



في تلك الفترة، عانت ساريسيا من بطالة انعكست على سلوكها العاطفي معي، كان ذلك مبرراً لا سيما في بداياته، ولكنه مع مرور بعض الوقت، أصبحت أكثر ضيقاً لا سيما وأنني لم أكن مهيئاً نفسياً لمثل ذلك في مرحلةٍ ما، حيث عانيت في تلك الفترة من تراكم ديون، وأصبت بنوبات متكررة من الإحباط. كانت لي معارك اعتبرها البعض هامشية، غير أنها كانت مفصلية بالنسبة لي. كنت على وشك أن أفقد وظيفتي في شركة تصنيع ألعاب الأطفال. عندما دخلت على رئيسي المباشر وطالبت بزيادة أجري ورفقائي في العمل. كنت مجرّد مراقب إنتاج، ورغم بُعد ذلك عن تخصصي الأكاديمي إلا أنني لم أجد بديلاً أفضل منه. كان الأمر بالنسبة لي كدوامة هوائية تنقلني تدريجياً من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس، وما كانت محاولات للخلاص إلا عبثاً وهدراً للوقت. قلت "العمّال هم أكثر إخلاصاً في العمل من صاحب العمل، فهم يحضرون إلى المصنع منذ السادسة والنصف تماماً، وتوضع لهم آلة لمراقبة الزمن ورغم ذلك لم تسجّل هذه الآلة اللعينة أي حالات غياب لأحدهم، بينما صاحب العمل لا يأتي إلا في العاشرة ، ويلقي أوامره ونواهيه على مسامعنا ويشرب فنجان قهوته البرازيلية ويتابع نشرة أخبار السي أن أن على تليفزيونه البلازما المسطّح، ويجري مكالمات هاتفية فارغة وينصرف" كان إحساسي بالظلم لا يعادله شيء غير عبء مشاكسات ساريسيا، وتجدد خلافات مع والدي بسبب جموح رغبته في جعلي قسيساً قبل أن يموت.



كنت أتساءل "ما هو دور الرب في مثل هذه المواقف؟" ودون أن أعتمد عليه كثيراً، كنت أحاول جاهداً للخروج من مأزقي مستفزاً عاطفة ساريسيا نحوي، ولكن كل منا كان بحاجة لمن يتكئ عليه. مرت سنة وأنا وساريسيا ننعم بعلاقة من ذلك النوع الذي تبذل فيه كل ما تستطيع من تجمّل، ورغم المناكفات أو المشاحنات التي تنقطع بيننا في كل مرة، إلا أنني حاولت بقدر ما أستطيع أن أخلص لها كما تفعل، ونجحت حتى ذلك اليوم الذي تلقيت فيه اتصالاً من بيلي غارسيا أحد رفقاء الجامعة القلائل الذين تواصلت معهم بعد تخرّجي أخبرني فيها ضمن مجموعة من الأخبار السارة عن وجود كارسيس وزوجها في أرتكاتا.


فكرت أنه خبر يفيد في توطيد علاقتي بساريسيا، غير أنه لم يكن كذلك. كان الرب يوعز إليّ بخيانةٍ إحداهما. لم أحب فتاة بعمق بقدر ما أحببت كارسيس، ولكنها تزوجت. قلت "هل يغيّر ذلك من الأمر شيء؟" لقد أحببتها حتى دون أن تعلم هي بذلك. الحب لا يشترط انتظار مقابل، هي عاطفة متدفقة لشخصٍ ما، لسببٍ ما يكون الحظ حليفك إن وافقت قبوله، وإلا فلا شيء يمنعك من محبته. متى كان الزواج أمارة للحب، الزواج كثلاجة الموتى، يحافظ فيها على الجثث التي لا حياة فيها. أحببت كارسيس لأنها رقيقة ووادعة وجميلة وتملك من الصدق ما يكفي لأن تجعلك إنساناً صادقاً. ما يجب أن يدفعني للتوقف عن محبتها هي أن تنتفي هذه الصفات. ساريسيا جذابة ومكافحة وتستحق الاحترام. كما أنه لا ذنب لها بتاريخي العاطفي الفاشل هذا. لذا قررت أن أتعامل مع الواقع كما هو: كارسيس صديقة متزوجة، وساريسيا حبيبة مناكفة.


في أول اتصال هاتفي لي مع كارسيس، شممت عبق السنوات الخمس التي قضيتها في مدريد، وتذكرت ملامح أشخاص لم أتوقع أن أتذكرهم يوماً. وما زالت كارسيس محتفظة بصوتها الملائكي الناعم :

* من على الخط؟
- صديق قديم
* من مدريد؟
- ربما .. هل تتوقعين شخصاً بعينه؟
* في الحقيقة أتمنى أن تكون كاسبر سارجينيو
- ولم ؟
* فقط هو الوحيد الذي انقطعت أخباره منذ 98

كان مذاق هذه المكالمة مختلفاً. حاولت فيها المستطاع أن أبقى على الحياد. كنت أعلم أنها تكن لي احتراماً من نوعٍ ما، ولم أشأ أن أخون ذلك الإحساس بتصرفٍ أرعن. في ذات الوقت، كانت خلافاتي مع ساريسيا قد بلغت حد انعدام الثقة بيننا. لا سيما وأنها توقعت أن أكون يسوعياً مخلصاً. ضعفت أمام جبروت الرأسمالية التي كانت تسحقنا بأيدٍ غليظة. وهنتُ، عندما هانت كل القيم التي حلمت بتحققها في بلدٍ ارتمت في أحضان الرأسمالية بكل قوة. ثم كان سقوطي الأخير، عندما حنيت رأسي للمرة الأولى أمام حوجتي للمال. بصقت على نفسي كثيراً في المرآة، حتى أنني في ليلةِ نحس كسرتها بمطفئة تبغ خزفية.


لم أستطع أن أحكم ما إذا كان ظهور كارسيس مجدداً سبباً في عدم احتمالي لمناكفات ساريسيا المتكررة. أم أنه اليأس والقهر الذي كنت أعانيه. وفي أول فرصة قررت إنهاء علاقتي بها دون ندم. ما آلمني أكثر هو مصارحة كارسيس لي بالمحبة بعد تسع سنوات من لقاءنا آخر مرّة. عندها شعرت بمرارة لم يزل طعمها ككائنات حيّة تفرز عصارتها على فمي. أخبرتني أنها تزوجت زواجاً تقليدياً بعد أن انقطع رجائها بعودتي، وأحسست بالجرم الفادح حيال ذلك. كان كلانا يخبأ عن الآخر أمراً دون نشعر. وبقدر ما أحسست بالحزن والألم، بقدر ما كنت سعيداً بأنني كنتُ مقدراً لديها.


عانيت كثيراً في احترام قدسية علاقتها بأسرتها، وشعرت بالخيانة، غير أنها أخبرتني أنها لا تريد أكثر من أن أكون على اتصالٍ بها، ولم أكن بحاجةٍ لأكثر من ذلك. قلت لها" أريد أن أكون طبيعياً" فقالت: "عليك أن تحلم بي كل ليلة، وأن تقبلني بحرارة، وأن تحتضنني بقوة، والأهم من ذلك كله، أن تحبني كما أحبك." كان الألم يعتصر قلبي عصراً، كلما سمعت ضحكتها، أجنحة من النوع الذي لا يُرى كانت تعيدني عندها إلى أيام مدريد العاصمة وميدان ثيبيليس وشارع الغرنادة وقصر الشوق وأصوات باعة البائية المتجولين في حي الموريريا، وجلسات العشبة المخدرة في حقول البابيو والمورة.


أصبحت علاقتي بكارسيس أكثر إلاماً بعد تصريحها الأخير. حاولت أن أحذر ولكنها، أخذتني من يدي كطفلٍ صغير، وخطت بي أولى خطواتي نحو عشقٍ من نوع آخر. عشق من النوع الذي لا يحتمل نهايات منطقية أبداً. كنت أشعر معها وكأنني لم أعشق أنثى من قبل، وكانت تنسى أسرتها الصغيرة عندما كنت أكلمها خلسة دون أن يعرف زوجها بذلك. لم أشأ أن أضيع مرة أخرى رغم أنني عرفت منذ البداية أنني قد ضعت فعلاً. وفكرت ذات يوم فيمن أكون، وذهلت للنتيجة التي توصلت إليها، فلم أجد نفسي سوى خاسر متبجح، فقد خسرت ساريسيا وكارسيس ووالدي ونفسي قبل كل ذلك. ولم أزل أبحث بين الكتب المقدسة عن إجابات لأسئلتي المهرطقة. عرفت عندها أنه يجب عليّ أن أبحث عنها في مكانٍ آخر.



ساريسيا الآن في مكانٍ ما، ربما تشعر برضىً أكثر مما لو أنها استمرت معي، وربما تزوجت برجلٍ يتمتع بالموهبة اليسوعية التي كانت تنشدها في فتى أحلامها، لا أحمل لها أي ضغينة الآن. ولكن فقط وددت أن لو عرفتني كما أنا، فأنا مختلف بطريقةٍ ما. وكارسيس مع زوجها وأطفالها، حتى وإن لم تكن سعيدة. ربما لم تشعر بعدم السعادة تلك إلا عندما ظهرت مجدداً في حياتها، يبدو أنه لم يكن يتوجب عليّ أن أفعل. ابتسمت في بلاهة وأنا أخمّن سخرية الأقدار. وأنا هنا في ماربيا أعيش في شقة من غرفة وردهة صغيرة وحمام ومطبخ لا أستخدمه. عرفت أن هذا العالم، يسير بطريقةٍ منطقية غير مرضية، وأننا كقطع الشطرنج تحركنا يد ماهرة يهمها النتيجة وليس التفاصيل. ما نحن إلا تفاصيل هامشية على رقعة الشطرنج. بدّلت ملابسي ونمت، وغالباً ما أنام بسروالٍ داخلي فقط، وقبل أن أنام كتبت بخط واضح جداً على ورقة صفراء "كارسيس .. لقد أتيتِ متأخرة" وعلّقتها على خزانة الملابس، ربما تراها يوماً ما بعد موتي



-----------------------------------------

الهوامش:
( 15 ) تقول نبوءة الأب يواقيم الفلوري وتابعه أرنو أن بطلاً مسيحياً سيخرج من إسبانيا ليحررها من المسلمين ويعيد مجد المسيحية ويعيد بناء قبر الرب في جبل صهيون.






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 11:02 AM رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

-



النهاية













-






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 12:33 PM رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي

ننتظر اكتمال فصول الرواية
وبهذا
تكون هذه ثاني رواية
تٌفرد
في مدينتنا الحلمة
بعد رواية وائل وجدي
فلآدم
كل الود






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 02:19 PM رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

الأخ : زياد السعودي

تحية عاطرة أيها الجميل .. الرواية انتهت بانتهاء الفصل الخامس

وأنا في انتظار أن أسمع قراءات وتعليقات الأخوة والأساتذة الكرام هنا

لك وللجميع التحية والتقدير






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 03:41 PM رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي

تقبل مني اولا وافر المودة والاحترام

ومن ثم
اقول
احيانا يستدعي البوح
بوح اخر قديم جديد ليس هذا المهم

هنا مثلا
بين اوراق رواية ادم

وجدتني
استحضر

موسم الهجرة الى الشمال

للمبدع الطيب الصالح

لا اعني تشابه الاسلوب
فهنا تميز اديبنا
في ادارة الدراما
وحركة الشخوص
والمضامين الهائلة
ونسقها المتناغم مع التسلسل
الدراماتيكي للاحداث
ليضعنا امام رواية
تستوقف
دخول رائع الى حيثيات المكان والزمان
ثم التعريج على الشخوص
حيث اتخذت اديبنا موقع الراوي بلا حياد طبعا
ليرسم لنا تفاصيل دقيقة
جعلت من المكان والشخوص والاحداث
دراما خطية غنية .


اللغة الشعرية بما تحتويه من تصوير
سكنت مواطن عديدة في الرواية
ومنحتها بريقا يخطف !!

الحواشي التي اوردها اديبنا
اعطتنا مفتاح اخر
غير التشويق
للولوج الى تفاصيل الرواية

تذوقت الرواية
وكنت قد تذوقت حرف الوارف ( هشام ادم )

ليس لي ما اسجله على الرواية

لكن اسجل على ادم مغتنما هذه المساحة
اننا للان
لم نلمس تواجده على صفحات الاخرين
ذلك التواجد الذي يحمل اثراءا
هو ديدن اديبنا


لك الود
ومرحى ببهي بوحك






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 05:15 PM رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

الأخ العزيز : زياد السعودي

قراءة متعمقة للرواية .. وفيها الكثير من الحرفية في التناول النقدي
لقد استمتعت فعلاً بهذا التعليق العميق .. وأشكرك عليه.

فيما يختص بمشاركاتي مع بقية الأعضاء ، فأنا لدي مشاركاتي
في بعض الموضوعات هنا ، ولكنها قليلة وذلك نظراً لضيق وقتي
حيث أنني استخدم خدمة الإنترنت المتوفرة في مقر عملي ...
وتعلم أنني لا أكون قادراً - بناءً على ذلك - على المتابعة اللصيقة
والفاعلة التي ربما ترجوها مني ... ولكنني لا أدع شيئاً جيداً إلا
اطلع عليه ، ولا أخر يستحق التعليق إلا فعلت.

ولي مداخلاتي المتواضعة جداً في بعض موضوعات الأستاذ
عبد الله عبد اللطيف المحامي والأستاذة ناهد دوغان وغيرهما

فتقبل اعتذاري عن هذا التقصير غير المتعمّد

وللجميع العتبى






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-08-2007, 06:38 PM رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
ياسمين عبدالله
عضو أكاديميّة الفينيق
عضو رابطة الفينيق الأدبية
تحمل وسام الأكاديميّة للتميز
الكويت

الصورة الرمزية ياسمين عبدالله

افتراضي

.
.
مرحبا أستاذ هشام آدم
خلقت للفينيق سماء جديدة
للفينيق الفرح أنك هنا ...وأن حروفك البديعة تنسج هنا القصة والرواية واليوميات و الإبداع بما حفِل لنحتفل بك بيننا .
.
.
ساعود هنا ، بعد أن أطبعها على ورق ، مازلت لا أحب القرءة من هذه الشاشة ....سأعود ...فاغفر إن تأخرنا ولن نفعل إن كان الوقت ملكنا .

كل الاحترام والود .
.
.






  رد مع اقتباس
/
قديم 28-08-2007, 11:38 AM رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
هشام آدم
عضو أكاديميّة الفينيق
السودان

الصورة الرمزية هشام آدم

افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسمين عبدالله مشاهدة المشاركة
.
ساعود هنا ، بعد أن أطبعها على ورق ، مازلت لا أحب القرءة من هذه الشاشة ....سأعود ...فاغفر إن تأخرنا ولن نفعل إن كان الوقت ملكنا .

كل الاحترام والود .
.
.
الأستاذة : ياسمين عبد الله

أنا أعاني من ذات الداء الحميم .. القراءة الورقية أكثر إمتاعاً وأكثر صدقاً بكل تأكيد
سوف تكتمل سعادتي عندما تعودين محمّلة بما خرجتِ به من هذه الرواية. وأنا في
انتظارك وانتظار قراءات الأخوة والأخوات في هذا المكان. فلك ولهم جميعاً التحية

تقديري اللامتناهي






أتشرف بزيارتكم لمدونتي فضلاً أنقر هـنــا
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:15 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط