(أضواء منسيّة ـ روضة الفارسي / رقم الايداع : ر.ف / 9 / 2011) - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ 📜 ▆ 📜 دار العنقاء 📜 ▆ 📜 ▂ > 🔰 سجلات الايداع>>>

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16-08-2012, 12:42 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني

الصورة الرمزية المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني

افتراضي (أضواء منسيّة ـ روضة الفارسي / رقم الايداع : ر.ف / 9 / 2011)

القناديل الصغير
ـــــــــــــــــــــــــ

تنطفئ الأضواء إلاّ نور أزرق خافت في البهو، ويعمّ السكون... في غرفة الأطفال تلمس الستائر السماوية خشب الأسرّة البنية... بعض الدمى وعدد من اللعب الوبرية... تحت إطار سورة يس فراش ينسدل عليه شعر ابنتي نور الطويل مغطّيا الوسادة، بجواره سرير روزا الفارغ، فقد تركته وآثرت النوم مع أخيها بيرم في فراشه... قالت لي هذا الصباح ونحن نتجول في الشارع... ماما لماذا تبدو وجوه الكبار دوما عبوسة في حين وجوه الصغار تفيض فرحة؟...
أدخل بيت الصالة مبتسمة... معك الحق يا روزا، الصغار محتفلون دوما، ودوما نحن نتشبث بالشقاء... أتأمل خشب الأثاث و أتحسّس المكتبة... كأنها حنّت لأصلها وكأنّ قلبي يسمع همسها لشجرة المشمش المطلّة من النافذة: قد كنت مثلك يوما أرقص مع النسيم وتسقيني الأمطار فأهديها عطري... يطل الهلال محملا بالبشائر ملمِّعا للقلوب، قد فاتني إشراقه في ليلته الأولى... البارحة وأنا أنتظر إطلالته تساقط البرد على زجاج المنزل كان لإيقاعه نغمات تنعش الروح لكني لم أسمعه، فقد أحدث صغاري أصوات ابتهاج بهذا الحدث... كان عقلي مشوّشا فبدا لي احتفالهم إزعاجا أفسدت احتفالهم، لم أسامح نفسي فنحن عادة نفرغ فيهم أوجاعنا القديمة لا نبالي بأحاسيسهم وكثيرا ما نقمع فرحتهم... غدا ستظهر الأيام نتيجة الطفل الذي أعطيناه الحنان جيدا ولم نهمشه... قالت لي نور حينها وهل هناك أهم من هذا الجمال لنحتفل... ليلتها فتّشت عن العطب الذي حرمني الاحتفال معهم. أنرت مصباحي الداخلي على الجرح وتصالحنا...
يشتدّ الليّل سوادا ووقارا ويزداد إشراق الهلال ولمعان النجوم... أخرج رأسي من الشباك لأستمتع أكثر ببهجة الهلال الذي أفيض عشقا به، ولأملأ رئتيّ بعطر الحديقة...
أتمدّد في فراشي، وأغمض عينيّ أرى في بادئ الأمر ظلاما ثمّ شيئا فشيئا ينساب نور أخضر خفيف من داخلي ما يلبث أن يتحوّل قوس قزح إلى أن أحسني مسترخية في اطمئنان فوق مياه بحر تتقاذفني الأمواج
عند شروق الشمس ألمح من الشرفة سربا من الحمام يتطاير بجمال وسحر فوق المسجد المقابل و مراكب مختلفة الألوان والأشكال فوق رقرقة البحر الساحر الصافي شديد الزرقة... تنتشر رائحة الورود البيضاء ويفوح النعناع تحتها... أجهّز فطور الصباح واتجه لعصافيري الصغيرة، فقد قرب وقت الذهاب إلى المدرسة... أدخل الغرفة فأجد نور مستيقظة وقد كتبت بحروف كبيرة على ورقة بيضاء: مرحبا بك أيها الصباح الجديد...



أضواء منسية
ــــــــــــــــــــ

يضع الفيزيائي الياباني على ماء حنفية أوراقا كتب عليها بكل اللغات شكرا... ثم يعيد التحديق بالميكروسكوب: بسحر ونقاء يتشكل الماء بلمعان كريستالي، متحديا منسجما فقد عادت له الحياة... ثم يضع قطعة موسيقية قرب عيّنة أخرى فتستفيق من ركودها وترقص بتناغم و إشعاع بنفس جمال الماء الذي يتدفق
من الشلالات أو العيون الجارية.
يشع من عيني العالم الحكمة والذكاء، ويظهر على وجهي ووجه صديقتي الذهول والجمود. ننسى أننا أمام جهاز كبيوتر ونحلق في عوالم أخرى، ربما أن الرحمان قد صبّ طاقة سحر فينا فجأة فصرنا نطير مثل الفراشات و تسري بجوهرنا الأضواء والألوان..
تدخل خالتي عزيزة حاملة طبق القهوة.
- مرحبا يا غالية يا ابنة الغالية.
أجتهد لأفيق من الدهشة. أمد يدي إلى الفنجان مبتسمة شاكرة...
تحرك هديل يدها لإغلاق الجهاز، فقد انتهى الجزء الأخير من هذا البرنامج...
شاردة تأخذ القهوة من يد أمها.
ـ مرة أخرى الحمد لله على سلامتها يا خالة.
ـ الحمد لله يا جيهان،لقد كانت رحلة قاسية قضتها ابنتي بين مخالب الأدوية الكيميائية والمستشفيات . كانت من حين لآخر تتلوى ألما ولا تتصوري حالتي آنذاك، فما كان يحدث لها كان أصعب من طاقة صبر أي أم، ولكن رحمة الله واسعة...
_ رغم كل ما مرّ بي كنت على يقين بأن الله لن يتركني، يئس الأطباء من حالتي وفضّلوا أن أعود إلى بيتنا، وذات يوم، وبعد أن هدأت نوبات الأوجاع كنت أبحث عن شيء يسليني فوجدت بين كتبنا القديمة كتابا، كان له الفضل فيما أنا عليه اليوم من نعمة.
أنا لا أنكر أن الأطباء حاولوا معي وكانوا معي بمنتهى اللطف والإنسانية ولكني شفيت بسبب صحوتي.
أقول وروحي تستعذب صوتها ورقتها:
ـ نحتاج عند الضرورة لطبيب متمكن، و المهم أن ينطبق عليه معنى إنسان.
أحمل أصيص القرنفل الذي أهديته لصديقتي بمناسبة شفائها...
أَضعه في الحديقة التي تفوح رغم ضيقها وضجيج المدينة...
حبات رذاذ تتناثر مداعبة شجرة البرتقال فتشاركها زهراتها المرح
والذوبان ناشرة عبيرا ينعش كل الكائنات... أستنشق الروائح الرقيقة الناعمة التي تخترقني وتنتشر فيّ، فأحس بلذة وانتعاش. أسمع صوت هديل
ـ ها قد جهزت نفسي لمرافقتك إلى الريف الجميل.
أتحرك فتتفرق العصافير المتجمعة لالتقاط قطعة الخبز المبللة أعتذر للطيور أني أزعجتها دون قصد... ثم ألتحق بصديقتي التي تقول بصوت رنان:
ـ جيهان، ما رأيك بفستاني؟
تهمس خالتي لي:
ما أبعد شبح البارحة عن ضياء اليوم ، عادت لها الحياة وشعّ فيها البريق والنور من جديد
أقترب من صديقتي وأقول:
ـ أووو... فستان جميل. كم أنت فاتنة هذا اليوم
تقول خالتي لي وكأنها تتوسل:
ـ بنيّتي، جيهان أرجو أن تسعد هديل بهذه الرحلة وأن تنسى كل البلاء الذي مرّ بها.
ـ لا تحملي أي همّ خالتي، سنتسلى ونسعد جدا فهديل ترتاح في بيتنا كثيرا.
نهم بالخروج
ـ سلما على عائشة و محمد.
في الطريق إلى محطة القطار نضحك ، نغني، نقرأ الشعر . نحس بالنصر والحرية، كلتانا تدرك أننا الآن نرى بعيون الوعي نحن نرفض أن يبرمجوننا، نرفض أن نردد كالببغاوات مقولات الأغبياء أو ننساق وراء تجار السموم.
تقول هديل:
ـ انظري هؤلاء الناس، كم هم متعجلون، ترى لو زار أحدهم الموت هل سيطلب منه أن ينتظر حتى يكمل مشروعه أو صفقته "؟؟؟
بعضهم يأكل أكلات سريعة متوترا غريبا عن نفسه، وبعضهم يمضي مهموما منشغلا، معتقدا أنه الوحيد الذي يحمل هموم الدنيا...
أضحك بمرارة وسخرية :
ـ أيها الناس، يا خلفاء الله على الأرض، هيا املئوا البطون بما لذ وطاب من عفن، فالمستشفى الجديد قد اكتمل بناؤه.
عند وصولنا لقريتنا تعترضنا مساحات شاسعة من الخضرة
ترعى خلالها قطعان من البقر الملوّن والأغنام، في حين ترسل الشمس خيوطها
على السنابل المنحنية قليلا بقرب البحيرة المزركشة بالبطّ تحيطها الألوان والروائح.
على صوت رقرقة المياه نشرب من العين الجارية القريبة المسيّجة بالهضاب...
تتقاطر حبات الماء من يدَيْ صديقتي عند الشرب. أتنفس بعمق
ابتهاجا بهذا السحر وفرحا بانتشاء هديل التي لم تفارق وجهها الدهشة والسعادة...
أنتبه أني لم أعلم أمي بوصولنا كي تقوم بواجب الضيافة...
ولكني أتذكر أن في غرفة المؤونة قمح وبقول وتمر وبعض الخضر...
وهذا فقط ما نحتاج كي نحافظ على صحة ونقاء أجسادنا....



حين تشــــــــــعّ الأنـــــــــــــوار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تتلاعب الرياح بخصلات شعري التي تلامس دموع عينيّ المحمرتين، وترتطم أمواج البحر
الثائرة بالصخور محدثة هديرا، ثم ينتشر الزبد الأبيض على الصفحة الزرقاء
مصدرا وشوشة خافتة تتوحّد مع أصوات أخرى مختلفة وأكثر ارتفاعا...
بجانبي يقف شاردا حزينا متأملا الأمواج التي تنثر علينا رشات الماء من حين لآخر.
في الأفق البعيد تبدو سفينة في الامتداد الأزرق، وأنتبه لأخرى تظهر أكبر حجما
بأشرعة ملونة وصواري عالية... سرب من النوارس يتطاير بعضها والبعض الآخر يسبح...
على بعد أمتار ينتظر صياد ممسكا خيط صنارته بصبر وصمت...
أحاول ابتلاع غصّتي وكأني لا أحمل كل تلك الأوجاع في كياني وكأني
متماسكة أمام هذا الوضع الجديد الذي ينتظرني
لم يعد هناك من منفذ.
ســ نــــ فــــ تـــ ر ق ...
تبوح عينا رياض إليّ بأشياء وأشياء، رغم المجهود الذي يبذله لإخفاء مشاعره
ويطلق صدره زفرات بمرارة كبيرة وبهدوء ظاهري يخبّئ ما بداخله من صراع .
نتّفق أن تبقى البنتان مبدئيا معي...
ينصرف حاملا معه الذرة الباقية من الأمل... مع تحرّك خطواته تكتئب السماء
وتتوحّش الأمواج وتنوح النوارس... تحملني ساقاي إلى أن أجدني في الطريق
بين السيارات غير مكترثة لأصوات منبهاتها ولا لتحرّش بعض المارة...
في المدة الأخيرة اختفى الصبر وضاقت الروح... أين أنا من تلك التي تراقب
صفاء روحها باستمرار... دائمة التيقظ لمصيدة الوسواس الذي يحرمني السعادة؟؟؟
استيقظت داخلي أوجاع آلمتني كثيرا في الماضي، وكنت أظن أنها لن تعود...
من جديد ظهر الجرح الذي سبّبه لي حبيبي يوما فأنتج تعكّرا أخلّ بعلاقتنا
ولمس جراحا مرهفة خفيّة بداخله أيضا.
بيد مرتبكة أدير المفتاح وأدخل البيت متّكلة على الذي كان وعده مأتيّا...
تخرج سارة وريمان من غرفتهما مرحبتين. ثم تسألاني عن أبيهما فأجيب
بأنه في بيت صديق له تقول عيناهما أشياء كثيرة ولكنهما تكتفيان بأن تعودا
إلى دروسهما بصمت.
تنتقل قدماي من غرفة لأخرى دون القيام بشيء محدد...
يخيّم الحزن على كل الستائر والأثاث. تزداد الكآبة حين تقول لي بنتاي تصبحين
على خير ماما و تطفئان ضوء غرفتهما.
عليّ الآن أن أجد منفذا للخروج من هذا الاختناق. أقول بصوت مسموع
" يا رب أعنّي. "
الطقس ربيعي ولكني أحس بحرّ يكتم أنفاسي، حين أخرج للشرفة أجد الإناء
الذي تركته البارحة حين أمطرت قد امتلأ. أصبّه فوق جسمي وأقفز مرتعشة
مصدرة صيحة غير مكتومة أتجه بعدها بسرعة لآخذ حمام دافئ.
أفتح جهاز التلفاز أتنقل بين المحطات... ما أطول هذه الليلة...
نفس البرامج التي تؤكّد عمق نوم هذه الأمة... أينما نتّجه نجد إشهارا
يبرمجنا على الانبهار بهم واللهفة على ما يصبّون فينا من أدوية مضرّة،
ومأكولات تزرع فينا أمراضا خطيرة
أغلق الجهاز ثم أدخل غرفة البنات فأجدهما في نوم عميق. أغطيهما جيدا،
أعدّ لنفسي كوبا من النعناع، وأتجه لغرفة النوم... أتمدّد على الفراش، ينبعث
الوضوح في داخلي مضيئا الروح مذيبا كل رواسب الفكر فيختفي الحزن والكآبة.
أترشف ما بقي من النعناع ثم أنام.
إنها ليلة عيد ميلادي، أنا ورياض نحتفل، أمامنا كعكة مرطبات جميلة
تزيّنها شموع مختلفة الألوان... نحاول أن نشعل الشموع فلا نجد قدّاحة...
يحاول رياض بكل لهفة أن يستعير ممّن معنا في الغرفة قداحة،
لكنهم يتأسفون لعجزهم عن مساعدتنا... نتحسر كثيرا على سوء الحظ
ومع هذا أقول بيقين بأن الله لن يتخلى عني.
فجأة تشعّ الكعكة بأنوار مذهلة مبهرة ساحرة ونستمع
لصوت جميل مصدره غير مرئي يقول... " فناديناها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا "...
أحسّ حضورا قدسيّا يلمسني وتنبعث من حولي موسيقى لا متناهية تشرق بقلبي.
أفيق من حلمي على رنين المنبّه... حالة فرح تغمرني، أوقظ بناتي بمنتهى الرقة كعادتي...
بعد خروجهما إلى المعهد أنزل إلى الحديقة وأزرع نبتة لبلاب باسم زوجي وأتأمل النباتات
التي تبدو اليوم أكثر نضارة. عندما أعود إلى الداخل أشغّل
المسجّل فينبعث صوت فيروز الملائكي بأغنية نحبها أنا و زوجي كثيرا:
"سنرجع يوما إلى حينا"...
أسمع القفل يتحرك... يدخل حاملا باقة ورد يتقدم نحوي بعيون تلمع حبّا،
فأتجه صوبه وقلبي يكاد يخترق صدري...
فإذا نحن الحب الذي يشع بأنوار هذا الكون وبعظمة هذا الوجود...



رقصة مع الأيـــــام
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

في الغرفة الوحيدة ينام الرضيع فوق السرير الحديدي الكبير بعد أن قضى زمنا في بكاء متواصل يدمي القلب. أجلس على الحشية مقابلة الحوش مسندة ظهري إلى الحائط منتظرة الفرج. على يميني خزانة قديمة وعلى يساري طاولة فوقها تلفاز معطب بجانبه بعض كتب جبران.
تنعكس الشمس على مرآة الحائط الخارجي فتعطي ألوانا مختلفة . تهلّ روائح شجرة المشمش التي زرعها أبي رحمه الله، حاملة حنينا، وموقظة أوجاعا لتزداد غيمة الحزن اتساعا. تعود الذكريات لتتركّز في داخلي، فأرقص مع عبثية الزمن... ها أنا في السنة الماضية مثقلة البطن بهذا الرضيع النائم الآن... في هذا الزمن الحاضر الماضي أخبر زوجي بدلال أنّي أشتهي توتا، وفي الحال يذهب ويأتيني بأشهى وأطيب توت. ترقص في داخلي الذاكرة فإذا أنا أستعيد نبأ وفاة زوجي، وأعيش الفاجعة من جديد.
تدفع أمي الباب متثاقلة حزينة، فأعترضها بكل أمل ونقف تحت الشجرة. تسألني إن كان رائد قد تحسّن، فأخبرها أن حاله على ما هي عليه... التهاب الحنجرة سبّب له حرارة مرتفعة، وأن دواء المستوصف لم يعط أي نتيجة، تضيف بمرارة أنها ترجّت صاحب المزرعة التي تعمل بها أن يقرضها ولكنه لم يرحم دموعها ولا رجاءها..
كيف لمثله أن يرحم أمثالنا وكل وقته مليء بالمشاريع. في قريتنا الكل يتحدث عنه وعن حسناته. فقد ساهم في بناء الجامع واشترى له ثريات فخمة وزرابي باهظة الثمن... يظهر في كل مجمع واجتماع ليستمع إلى إطراء الناس ويستمتع بمدحهم لإيمانه وأخلاقه وكرمه...
تقفز قطتنا من فوق شجرة المشمش على كتفي تتمسح عليّ فأبادلها لمسات الحب مبتسمة رغم الألم. ثم ألمس يد أمي بحنان... كل منّا تنظر للأخرى بكل شفقة وبحزن يقارب اليأس لضيق ذات اليد والعجز عن المساعدة...
كيف يمكننا الحصول على نقود تمكّننا من حمل الرضيع إلى الطبيب ونحن نكاد لا نملك عشاء ليلتنا.
- سأذهب الآن للصلاة وبعد ذلك سنرى ما يمكن فعله.
- سأتوضأ وألحق بك لنصلي معا لعل الله يفرج كربنا.
إثر الدّعاء تتذكر أمي أن عمي الهادي قريبها في الضّيعة المجاورة يريد شراء حمار فتقرر أن تذهب إليه... بعد ساعات يعودان معا ويتجهان إلى الحمار...إثر حوار قصير يبدأ عمي الهادي بعدّ النقود و يسلّمها إلى أمي، ثم يبدأ بجرّ الحمار الذي يحرن ناظرا إليّ برجاء ألّا أترك الرجل الغريب يأخذه بعيدا عن بيته.
نأخذ رائد إلى الطبيب فيحقنه بمضاد للحرارة ثم يكتب وصفة الدواء ويطمئننا على صحته.
يسدل الليل جناحه الأسود وتأتي نسائم الصيف محمّلة بالانفراج. أشرع في إرضاع صغيري الذي تحسن وعاد يقبل على مصّ ثديي بعد أن رفض تناول أي شيء لمدة يوم كامل.
أذكر الرزاق و أتفاءل خيرا لعلّه يفرج هذه الضائقة المالية. منذ حين جاءت جاراتنا لزيارة الصغير، كل منهن جاءت بهدية. فاجتمع لدينا البيض والدجاج وبعض الغلال.
الصحن اللامع في السماء يرمقني بنظرات خلابة لا تقاوم، والحفيف الهامس بالأمل يفتح طاقة للفرح والفرج. مع توحّد الطبيعة المبهج أعود للنور الذي بداخلي. يأتي صوت الناي من كيان جارنا القريب تداعب نغماته أعماق روحي وتبعث في كل الوجود ذبذبات كونية ساحرة فيقربني أكثر إلى الكائن الذي بداخلي وبالتالي إلى الوهّاب العليم.
تُحكم أمي غلق الباب، ثم نتمدّد على ذلك السرير العتيق يتوسطنا الصغير طامعين في النوم بعد ليلة ويوم من العذاب. تأتيني صورة وجه الحمار وعينيه تتوسلان أن لا أترك الغريب يأخذه فتخنقني العبرة.
تقول أمي بصوت واهن.
- لماذا تبكين وقد تحسن ابني كثيرا؟
- ...إنما أبكي الحمار.
- آآآه يا ابنتي ما أشد قسوة الحياة... سأذهب غدا بإذن الله للهادي وأتوسّل إليه أن يعيد لي الحمار على أن أسدّد له الدّين بالقسط.

نفيق على صوت ضجيج... نقفز منزعجتين لقد أضاء النهار وها هو الحمار منهك القوى محملا بالأشواق قد أفلت من رباطه وعاد إلى صاحبتيه.




خفايا وأحلام
ــــــــــــــــــــ

بجهد كبير أفتح أجفاني المثقلة متحسسة ثوبي المبلّل بالعرق و حين أرفع عيني أرى أطفالي وزوجي محيطين بالسرير محدّقين بي... يقترب مني زوجي ويقول:
- الحمد لله على سلامتك عزيزتي ...الطبيب غادر الآن، وأوصاك بتناول الدواء بانتظام. يصمت قليلا ثم يضيف: ممنوع مشاهدة الأخبار منعا باتا وبإمكانك التنزه ابتداء من هذا المساء... لقد أصبت بانهيار عصبي وأنت بحاجة أكيدة إلى الخروج.
أبذل جهدا كي أبتسم ثم أقول بصوت خافت:
- لا تقلق سأحاول ...
عندما يقفل الباب وراءه يلتصق أطفالي بي، ويسألونني بكل اهتمام عن حالي وعن إمكانية مساعدتهم لي... أحتضنهم بحنان مجتهدة لرسم ابتسامة على شفتيّ ثم أقول:
- لا تنزعجوا فقد شفيت والحمد لله...
يوشوش كبيرهم :
- لنترك ماما بمفردها فهي تحتاج الهدوء والسكينة...
ينظرون إليّ مبتسمين ثم يخرجون ... أدير عيني في أرجاء الغرفة، على النافذة المقابلة للسرير ستائر سماوية و على اليمين إطار آية الكرسي وتقابلها لوحة للغروب في الريف الصيني يغلب عليها الأحمر القاني، فوق السرير تماما خريطة فلسطين في إطار مذهّب هدية من أبي عند ولادة ابني البكر كتب عليها بحروف لامعة "عائدون" ، وعلى الكومودينو توجد صورة الزفاف الكبيرة بجانبها "كتاب الأسرار" للكاتب أنور الخيام.
يتملكني حنين للمس الكتاب و شوق لحياة حقيقية غير هذه الحياة وأحسّ ألما ممزوجا بلمسات ريشة ناعمة بين أضلع القلب... أراقب رقصات صدري و نغمات أنفاسي التي تصدر حفيفا عذبا يلطّف أركان قلبي الملتهبة...
أمد يدي بحنان وأفتح الكتاب وأهمس: "إن الحماقة هي الترداد، ترداد ما يقوله الآخرون... لماذا نتشبث بالأواني و نكرر كالببغاء تفاسير لِمَعَانٍ قيلت منذ زمن بعيد ونبرمج أنفسنا على أنها الحقيقة المطلقة"...
تدق نبراس الباب وتدخل حاملة باقة ورد قطفتها من حديقتنا تقدمها لي مبتسمة، أشكرها باسمة، ثم تخرج موصدة الباب وراءها. أعود لكتاب أنور الخيام
اقرأ أيها العربي لتعرف نفسك وتقرأ عدوك الذي اطمأنّ لغفلتك، اقرأ الكتب التي توصلك إلى المعاني التي بقلبك.
ألمس بنعومة الورود الندية التي تعطر كامل الغرفة فأحس رغبة جامحة للخروج.
على عزف ناي " لويز فريليو" القريب جدا إلى قلبي أشرع في تغيير ثيابي... أخبر بُدوري الصغيرة أني خارجة للنزهة وأن غيابي لن يطول... تتحرك خطاي وأصداء الموسيقى ما زالت تتردد بذهني وتنعش روحي ممزوجة بحروف الخيّام، ذلك الكاتب الحكيم الذي لم نقدّر علمه قط.
أسير طويلا، لكني أحس قطرات المطر تلمسني أقف تحت شجرة ، طائر يحط على غصن وينشد بلغة لا يفهمها إلا من كان أخا لكل الكائنات:
ـ أرقصي يا مطر... بللي وجه الأرض... افتحي القلوب الصماء... أيتها المياه المقدسة اسألي العرب لم أقيم للغش نصبا ومعالم؟؟ و كيف حُجبت الحقيقة وانزوت في خبايا الظلمات؟؟.
أحاول أن أنادي الطائر لكنه يطير بعيدا... يتوقف المطر عن النزول أواصل السير، بقايا آلام في رأسي ووجع في زندي من تأثير الحقن... أحاول أن أعيش اللحظة و لا أتذكر ولكني الصور البشعة تعود بإصرار وبأكثر بشاعة. دمّر العدو جزيرة العزة. أحرق بوحشية أطفالنا و أشجارنا وديارنا أمام صمت كل العالم...
تعاودني حالة الإغماء فأخاف أن أقع مغشيّا علي ولكن هذه المرة لن يسعفني أحد لخلاء الطريق. أحاول أن أتماسك، أدعو الله ليجعل لي مخرجا... يا رب اشفني، وفرّج كرب جزيرتنا... أتنفس بعمق وهدوء إلى أن أحس حالي قد تحسن، فأمضي مرددة بصوت خافت مقولة شاعر الحياة أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
أمرّ أمام المقهى الذي يداوم عليه زوجي فأرقب جموع الرجال وسط غيوما كثيفة من دخان الشيشة والسجائر بعضهم يلعب الورق والبعض الآخر يشاهد مقابلة كرة القدم. يحدّقون بانتباه شديد وحماس كبير... سيزايدون بين الشوطين في عدد ضحايا الفسفور الأبيض الذي يحرق بلا رحمة جزيرتنا الأبيّة، وكل منهم سيستند إلى قناة تلفزية ويؤكد صحّة أرقامها، ثم سيواصلون الشوط الثاني من مقابلة كرة القدم بنفس الحماس الذي كانوا يناقشون به أرقام شهدائنا... وأكثر.
ها أني أبلغ الشاطئ. نغمات البحر تبعث السكينة بروحي الظمأى للحب والأمل... بعض الغيوم بدأت تحجب الشمس من جديد. يا رب أناجيك بقلب يملؤه الشجن بحق حبات الرمل والفجر والنجم و قطرات المطر أنقذ جزيرتنا و أنقذني من هذا العذاب.
أجلس على صخرة أتحسسها هامسة "ترى كم مضى من زمن وأنت تعيشين هنا تحت حرارة الشمس ولفح الريح وقطرات المطر؟ أيتها الحبيبة، ترى ما حال الشجر والحجر هناك في بلد يُدمّر؟ أنادي:
أنور ـلم تركتني وحيدة... تعال.
أضع رأسي بين كتفي في حين تسيل الدموع الحارقة على وجهي. فجأة أحس يدا تلامس شعري بحنان لم أعهده.
- ما بك حبيبتي ...ما بال هذين العينين الجميلتين محمرتين؟
- أنت... أنور الخيام... ماذا تفعل هنا.
بصوت دافئ مرتعش يهمس:
- ها أنا ذا حبيبتي قد سمعت نداءك...
- هل سمعت ندائي رغم أن زمني غير زمانك وأرضي بعيدة جدا عن أرضك؟
- نعم لقد سافرت في الأزمنة وركبت ظهور الأمكنة كي أكون برفقتك ... أنا متألم جدا لألمك... حاولي أن تقتلعي الفرحة من الحياة كوني فرحة متناغمة كزهرة ترقص مع النسيم.
أبتسم بسخرية
ـ ما أسهل هذه الكلام وما أقسى فجائع وخيبات الحياة... قلتَ ذات مرة أن الدنيا حنفية تحوي السم والحلاوة أي والله أيها العزيز هي كذلك بل ان سمها اكثر من حلاوتها بكثير.
تتسارع دقات قلبي. وترتبك شفاهي العطشى وهي تقول: أحتاج الحب... أحتاجك... و لديّ هموم كثيرة... لقد دمّروا جزيرة العزة.... كم حلمت أن أراها. أضع رأسي فوق كتفه. يضمّني بقوة فأودّ لو يتوقف الزمن هنا والآن.
يمسح دموعي و يداعب شعري بمنتهى الهدوء والحنان... ثم ندخل الماء فتلمسنا الأمواج...و تجتمع الغيوم وتبدأ برش قطرات مائها على البحر والصخر وفوق نيران قلبينا فجأة تأتي موجة كبيرة تفرق بيننا فما يعود أحدنا يبصر الآخر ... أسمع صوتا يقول
- جميلتي... لتحرسك عيون السماء.
يبتعد الصوت تدريجيا إلى أن يختفي تماما..
أودّع الصخرة و مياه البحر. وعلى نغمات أمواجه أسير عائدة للمنزل تعاودني حالة حمى والإحساس بالغثيان وأحس بحالة فَقْدٍ تمزقني... يعترضني طفل ويسألني:
- ما بك سيدتي هل تبحثين عن شيء؟
- لا... لقد أضعت... الرجل... الحقيقي.
ينظر لي باستغراب ثم يمضي.
أمتطي سيارة أجرة فلم تعد لدي قدرة على الرجوع سيرا كما جئت. أدخل البيت يعترضني أبنائي فرحين...
- سامحوني أحبائي لأني تركتكم وحيدين.
يقول باسل بصوت يمتزج فيه الحب والذكاء:
- لا عليك ماما... نحن نراجع دروسنا... المهم أن تكوني بخير. هل استمعت بالنزهة؟
- تضيف فدوى
ماما، أكنت تبكين؟
- لا أبدا... إنها حبات رمل البحر دخلت عيني.
بعود أطفالي إلى غرفتهم ... فدوى تراجع الحساب... باسل يقرأ كتاب "عائد إلى حيفا" نبراس ترسم وتسأل أخيها من حين لآخر أن يشرح لها ما قرأه فيجيبها باسل بهدوء وصبر.
بعد برهة تنادينا نبراس لترينا ما رسمت:
تقول بصوتها الملائكي... لقد رسمت فلسطين, أشكرها مبتسمة متوجعة,,, يعود أب أطفالي فنجتمع قليلا يحسب من يرانا أننا عائلة سعيدة,,, ينام الصغار وأتمدد حذو زوجي النائم شاخصة ببصري للفانوس الأزرق ... صوت المطر يعود من جديد، أسترجع هطول المطر هذا النهار، وأراني تحت الشجرة فأسمع صوت ذلك الطائر من جديد::
ـ أرقصي يا مطر... بللي وجه الأرض... افتحي القلوب الصماء... أيتها المياه المقدسة اسألي العرب : لمَ أُقيمت للغش نصبا ومعالم؟؟ وكيف حُجبت الحقيقة وانزوت في خبايا الظلمات؟.



مـــا زال بوسعنـــا
ـــــــــــــــــــــــــــــ

يأتي المساء مثقلا بالوحشة، متواطئا مع الغربة والأحزان... ها أن الساعات البطيئة تمرّ ثاقبة القلوب وعيناي معلّقتان بمرجانة، عنزتنا البيضاء الممدّدة أمامنا تصارع الآلام والموت.
يظهر لمعان الغرفة وأناقتها حين تشعل أمي سبع شموع مختلفة الألوان على نية الشفاء، فتشارك الشموع قلوبنا النبض والحياة. وتتصاعد رائحة البخور معطرة كامل المنزل مخترقة الفضاء دون حدود.
برجفة، ألامس العنزة التي شربت هذا الصباح مياها ملوثة صرفها مصنع قريب من منزلنا، وأتحسس وبرها الناعم ووجها اللين البريء.
في هدوء هذا الليل يكوّن النهر والشجر والريح وحدة لنحيب واحد، يشاركهم عزف كمان حنون ينبعث من بيت جارنا القريب... أساعد أمي في محاولة جديدة لسقي العنزة منقوع بعض الأعشاب الجبلية، مع دعائنا يستجيب الوجود هذه المرة فتستسلم للشرب.
أقف مناجية، داعية، ملصقة وجهي ببلّور النافذة مستنشقة الوحشة وانكسار الروح... ها إن ظلمة الليل تحتضن النّهر وأغصان الأشجار. وها أن السماء تزركش حرير لباسها الأسود بلآلئ غاية في السحر والجمال... مع انقطاع صوت الكمان تتجلّى أصوات الطبيعة بكائناتها الليلية مع سعال أمي الذي يشتدّ.
أدير وجهي لها، ثم أقترب منها قائلة:
- سلامتك يا ماما، هل عاودتك النوبة؟... ارتاحي حبيبتي.
- أنا بخير عزيزتي... ربما لأني متألمة جدا من أجل مرجانة، وممّا يفعل أصحاب المشاريع بنا...
- أغلب هؤلاء، يا ماما، لا يهمّهم سوى أرباح صفقاتهم... ارتاحي يا غالية، لنا ولها الذي لا يخلف الميعاد... تنطفئ إحدى الشمعات فأشعلها، فتعود فيها الحياة من جديد.
الآن تهدأ الريح...
بخجل شديد أعود لفتح النافذة كأن ليس من حقي أن أنعم بشم رائحة أمي الأرض ولا سماع حفيف أشجارها ولا برؤية جمالها.
أبحر في رحلة داخلية، فأرى ما لا يُرى وأسمع ما لا يُسمع، تتحسّسني الأرض وتهمس لي بصوت رقيق عذب بنبرة حزن ظاهرة:
" كان بوسعي أن أساعدكم يا أحباء ولكني لن أستطيع، قد يكون الأمر مفزعا حبيبتي ولكن إذا استمر الإنسان بهذا الجشع وهذا الانشغال بالمكاسب الآنية، فإننا سنصل نقطة اللاعودة حيث أتحطم وتتحطمون معي."
أتنهّد، فيُخرج صدري نفسا حارقا من روح متألّمة. تهدهدني رقصتها المتواصلة بنا... أبكي فترضعني من حنانها... من رحيق صدرها... تتكاثف غيوم التوتر في رأسي فتصنع لي من حفيف أشجارها ملحمة موسيقية كي أهدأ، ومن أعشابها الخضراء فراشا كي أرتاح.
يا لشدّة كرمها وعطائها ويا لشدّة حماقتنا وجحودنا...
أفيق من الدهشة، أبتعد عن النافذة، ماما تناديني:
- نور... نور... ما بك؟ هل قلت أماه؟
- لا يا ماما...
- قلت أمي هل لديك أم أخرى تكلمينها؟...
- لا... أمي... لقد شردت قليلا لا أكثر!
- اقتربي يا حبيبة نفسي وانظري، لقد استجاب جسم مرجانة للعلاج،
و بدأت تتماثل للشفاء...

أقفز فرحا وأصرخ " الحمد لله "... تلوح على وجه أمي الذي كان منقبضا أنوار وتردّد معي مغمضة العينين مرتعشة الصوت " ألف حمد وشكر لك يا رب."
بعد قليل تقف العنزة وكأن ذلك الشّبح الممتد الذي كان في الغرفة لا يشبهها ولا علاقة لها به.

مع فتح التلفاز و إتمام العشاء نسمع طرقا للباب نقول معا:
- من بالباب؟
- أنا منار.
تقول أمي: إنه منار جارنا، افتحي.
بابتسامتي المعهودة أفتح الباب فإذا هو وزوجته رابعة بصحبتهما رجل ذو وقار ووسامة، يبدو من ملامحه أنه أوروبي يشعّ من عينيه الاحترام والرجولة.
بارتباك أقول: تفضلوا.
يقول منار
- هذا صديقي كاستر من النرويج...
- مرحبا، مرحبا.
تستقبلهم أمي بترحاب ونجلس خمستنا.

تلتفت رابعة إلى أمي وتقول:
- أخبريني كيف حالك يا أميرة؟ و ما هي أخبار ابنك ضياء؟
- اتصل منذ أسبوع وقال إنه سيزورنا خلال عطلته هذه السنة مع عائلته. تجيب أمي بعد تنهيدة طويلة... ثم تواصل: آه... كم أفتقده...لكن يبدو أن جوّ فرنسا ناسبه وأعجبه.
- لا يا أميرة إنها الحياة تجرف و مسؤولية العمل تشغل.
- نعم، أعانه الله.
ثم تنظر لي خفية، فأقوم من مكاني لأقدّم للضيوف كؤوسا من عصير الأجاص الطازج...
بابتسامة عريضة يقول منار: شكرا يا نوارة إنشاء الله نشربه يوم تخرجك.
مبتسمة أقول: بالشفاء...
يضيف منار: لقد أحضرت لك أوراق المبيت الجامعي.
تقول أمي: لا حرمنا الله منك يا منارنا فأنت تعوّض حنان المرحوم أبيها و ضياء الغائب...
- لا شكر على واجب نحن عائلة واحدة...
أعود للجلوس بنفس المكان بجانب كاستر.
أهمس لرابعة:
- أظنّ أني سمعت صوت كمان مدهش ينبعث من بيتكم...
تنظر إلى كاستر مبتسمة هامسة له... ينظر لي باسما لامع العينين ثم يقول بلغة إنكليزية:
- هو أنا آنستي، أتمني أني لم أزعجكم.
أجيبه بنفس لغته.
- بالعكس لقد بعثت الأمل في نفوسنا.
أتأمل خفية ذلك الشعر الكستنائي المنسدل، وتلك العينين الجميلتين اللتين تُظهران نبله وإنسانيّته...
يلتفت إليّ ويسألني برقّة: علمت أنك في الجامعة، فماذا تدرسين؟
- إخراج سينمائي في سنتي النهائية ... أضيف، أنا أيضا لديّ عود...
- أتحسنين العزف؟
- قليلا... عزفك ساحر، وقد وجد قلبي مكانا للاستمتاع به رغم أني متألمة من أجل عنزتنا.
- ما بها؟
- كادت أن تتركنا إلى الأبد بسبب المياه الملوّثة...
- والآن؟
- هي بخير.
تتركّز الأعين على الموسيقى التي تخرج من الشاشة لا يستطيع حرفي وصفها فكم حلمت أن يسمع سحر الموسيقى عبر صفحات القصص... موسيقى تترنم بكل الذبذبات وتهز كل أركان الروح تزيل عنها كل صدأ وخوف ويأس، مع صور غاية في الجمال تأخذ النفس إلى عالم سام عميق فتكُون بحضرة الدهشة شيئا يشبه الجنة فتذوب كقطرة في بحر الوجود ... " بيتنا " شريط وثائقي شارك في إنجازه ثمانية وثمانون ألف شخص... رحلة في عالم الأرض منذ خلقها إلى الآن.
يقول منار
- صديقي كاستر عضو في جمعية دولية لحماية الطيور المهاجرة، وينتمي لمنظمة دولية لمناهضة العولمة والحد من الاستعمال المفرط للمواد الكيميائية في الزراعة...
أقول وأمي:
- تشرّفنا
.. تضيف رابعة: " التلوث شمل كامل هذا الكوكب الذي احتوانا ولم نع بعد أننا المسؤولون على الضرر الذي ألحقناه به و بأنفسنا."..
يطلب منار من أمي أن ترفع صوت التلفاز.
فنسمع أحد المشاركين في هذا العمل الإنساني الضخم يقول بصوت رنان ..خمسون ألف طير يموت سنويا نتيجة تلوّث محيطهم الطبيعي، وخمسمائة شخص يموتون يوميا نتيجة تلوّث مياه الشرب، وقرابة المليار شخص لا يملكون ماء صالحا للشراب.
يواصل الجميع التحديق بالتلفاز، والاستماع إلى الموسيقى المدهشة التي تصاحب البرنامج.
يضيف منار بتأثّر بالغ:
- كم ستدوم هذه الجنان الخضراء كم ستتحمل الأرض؟ وكم سنة سيصمد الماء إكسير الحياة؟
يضيف كاسبر:.. أسمعت؟ خمسون ألف طير يموت سنويا، نتيجة تلوث محيطها الطبيعي...
تقول أمي
- إنه لمؤسف أن نرى الفقراء ينبشون في مزابل العالم مفتشين عمّا يبقيهم أحياء، بينما يرمي الآخرون أطنانا من الأغذية والخيرات فقط كي لا تنخفض أثمانها... كم نحن بحاجة لبرامج أو كتب من هذا النوع...
يقول منار: من سيدفع الثمن حقيقة هم أبناؤنا وأحفادنا الذين لم يشاركوا في الدمار.

يصمت الجميع إلى آخر الشريط الوثائقي الذي يُخْتَتَم بكلمات متفائلة رائعة:
" لم يعد بوسعنا التشاؤم الآن والبكاء عما حدث مازال أمامنا حلول لإنقاذ الأرض و كل الكائنات... فماذا ننتظر"؟؟؟

ينهض منار مستأذنا للانصراف.
تقول أمي: انتظروا، سأسكب لكم الحليب الممزوج بالكاكاو.
تبتسم رابعة قائلة: شكرا حبيبتي يجب أن نذهب الآن...
يودّعوننا ويغادرون. نطمئن على صحة مرجانة، ثم ندخل في رحلة نوم عميق.

حين يشرق الصباح على قريتنا أحسّ رغم كل شيء بسكينة تعانق النفس ... أقدّم لأمي كوبا من الزعتر الجبلي كي يخفّ سعالها ثم أخطو أمام البيت... مرجانة ترعى العشب وكأن شيئا لم يحدث... أرواح الأشجار تترنّم رغم أن طائرة رشّت عليها منذ أسبوع مبيدا كيميائيا... ما زال في شجرة التفاح غصن يزهر ويرقص رغم أن سائقا متهورا كسّر أغصانها...
في شروق الشمس يبدو النهر أكثر رقرقة ولمعانا وعلى ضفافه يقفز المُهر منتشيا لمداعبة أمه... تحت شجرة السرو دجاجة تشرب مع صيصانها... أتأمل طريقة شربها مبتسمة داعية أن لا يأتي ذلك الزمن الذي تفتش فيه جميع الكائنات على قطرة ماء فلا تجدها ...

أنتبه أن كاستر يقف أمامي، أبتهج بقدومه.
- صباح الخير.
- صباح النّور.
- جئت لأودّعك، ولأهديك هذا الكتاب " الأرض الأخيرة " اقرئيه، سيعجبك ...
تنظر روحي إلى أعماقه فأتأكّد كم هو إنسان بكلّ المقاييس.
- لا أدري إن كانت تكفي كلمة شكرا؟...
- لو أراد القدر... لو شاء الله .. لو شئنا... سنلتقي... إلى اللقاء يا أحلى نور...
- ليحرسك العليّ القدير.
أتأمل قامته الفارهة التي تبتعد شيئا فشيئا، وأنا أحتضن الكتاب مضيفة كاستر إلى قائمة الناس الحقيقيين... يبتسم قلبي لكل الكائنات كي تحسّ أني أشاركها الاحتفال، وموسيقى برنامج البارحة لا تغادرني، والصوت المصاحب لها لا يبارح مخيّلتي... لم يعد بوسعنا البكاء عمّا مضى... هناك حلول فماذا ننتظر؟؟؟ أفكر بشرب القهوة مع أمي.
قبل الدخول إلى المنزل أشيّع عيني للسماء فأرى بعض الغيوم بدأت تحجب الشمس فأنتظر إشعاعها من جديد، ثمّ أبصر طيورا تطير على شكل رقم سبعة عابرة بحورا شاسعة وجبالا بعيدة.



في نهر حواء
ــــــــــــــــــــ

يبرز نصف القمر من وراء الجبال، يداعب ضياؤه الأشجار الوارفة التي تسترنا تحت أوراقها الراقصة الحنونة. تخرج من صدر البستان زفرات حب وتناغم مع كل من حولها من كائنات...
نجلس فوق العشب الناعم الندي محاولين عدم إيذائه أو إزعاجه... أميل برأسي عن صدر بشّار قليلا فتبقى بعض خصلاتي الشقراء الطويلة متشبّثة بقميصه... تتجه عيناي لتأمُّل العشب و أصابعي لتتحسّساه، فيستنشق صدري خضرته ونداوته إلى أن أصبح جزءا من العشب... يعود للإمساك بيدي بحنان فأرفع عيني أنظر في أعماقه فتبوح عيني بكل سرائر نفسي لروحه... وأغوص في جوهره فأرى ما يقرأه على صفحات قلبي وأقرأ كل ما تجيش به روحه من فيض عشق وشجن.
يقول بتنهيدة عميقة:
- إذن سيعود أبو ابنتك؟
أصمت لحظة ثم أقول ببرود وقلق:
- نعم، لقد أخبرنا صديق له بأنه قرر العودة أخيرا... ربما انفصل عن زوجته أو خليلته لست أدري... خمس سنوات مضت على هجرته... ويبدو الآن أنه ضجر وقرر العودة...
نقف من جديد تحت الشجرة يتحسس بشار جذعها. وأداعب أوراقها. يسود صمت وتنعشنا نسائم الصيف ...
أبتلع غصتي وأتذكر قصتي مع رامز بمرارة فيمرّ الماضي أمامي لثوان كشريط قصير...
كنت يوما حبه الوحيد... وكانت حياتنا تنساب كمياه الجدول الرقراق الصافي، تمتلئ فيها سماؤنا بالورود مختلفة الألوان والأشكال، المشعة بالأمل والحلم... إلى أن جاءته فرصة عمل في أمريكا... ظننّا أنها ستدوم سنة واحدة، وكانت أملا كبيرا لتحسين وضعيتنا المادية الصعبة، فافترقنا مكرهين متوجعين ... وحاولت الصبر ودعوت الله أن تمرّ الأيام بلمح البصر... وانتظرت أن يحضر لولادة ابنتنا بحنين الكائنات للمطر... كان في الأسابيع الأولى يتصل بي باستمرار، وبعدها بدأت المكالمات تقلّ والمبررات تكثر... شكوت للعادل المقتدر، و إلى الشجر والقمر والحجر... وانقضت أيام وأشهر صعبة ....وفي يوما ما ... وفي حين كنا نتهيأ للاحتفال بعيد ميلاد إشراق الأول بعث يعلن أنه قرر الانفصال ... ولم تمر أشهر حتى تم له ما أراد... وعاد لأمريكا وكأنّ ذلك الحبّ ما كان، وكأنّ أحلامنا وعشقنا وآمالنا ما كانت إلا سفينة من ورق... تعذبت... تجرّعت روحي مرارة فمرضت وعشت تحت تأثير المسكّنات. وكان شقائي سببا في تعاسة والدي الحبيبين، وفي تقصيري في حق الرضيعة البريئة إشراق ...وفي يوم ما نهضت وأصبحت أخرى... امرأة أكثر نضجا وحكمة... عرفت أن العالم ليس رامزا... واختفى حبه تدريجيا، ثم إلى الأبد... تعلمت أن الحياة جميلة وتستحق أن أتمتع بها وأن أتناغم مع كل ذرة ساحرة منها وأن أطّلع على جوهرتي الداخلية، حيث وجدت قوة خفيّة جعلتني أكثر إبصارا و تمرّدا على كل ممنوع...
يد بشار على وجنتي لها تأثير البلسم على الجرح ...
- أين ذهبت حبيبتي... أتعلمين... بياض وجهك يُغنينا عن القمر...نحن إذن نسهر على ضياء وجهك ... فيك شبه من النجمة السينمائية. نادية لطفي.. لا... حبيبتي أجمل...
يداعب بعض خصلاتي شعري وينظر بحنان،ويواصل هامسا:
- نادية أرجوك لا تحزني
- حبيبي أنا بخير... لكن يجب أن أعود الآن، سيعود أبي من المسجد وسيسأل عني أمي.
تتحرك خطانا باتجاه العودة. تتشابك أيدينا، يرافقنا القمر ووشوشة الشجر مع نسائم محملة بروائح الريحان. يقول بشار
- تعالي نرقص قليلا في هذا التناغم!
- نرقص هنا؟ ألا يكون هذا جنونا؟
- تعالي... ومتى كنا عقلاء؟
يمسك بخصري ونرقص معا وندور فيشاركني الفستان الرقص والطّواف... أحس بالنّشوة القصوى... أرفع عيني فأرى النجوم وقد تحولت إلى لآلئ مشعّة تتساقط بنعومة فوقنا وحولنا تشاركنا الرقص فيُرصَّع قلبي زمرّدا وأقمارا ويحضن الليل الساكن جسدينا بكل حنان ووقار، ويسدل شعره الأسود ليخفينا عن الأعين فلا تنعم بما نشهد من تناثر اللآلئ حولنا وشعاع الفؤاد برنّة السحر وروعة الانصهار...
فجأة يلملم المنطق ما نحياه من سحر فأتوقّف عن الرقص، وبرجفة أقول:
- انتظر، يجب ألا ندخل معا للحيّ.
يمتزج خفقان قلبه مع صوته يقول:
- أعرف ذلك يا قرّة العين... لقد حفظت الدّرس... سأنتظر هنا. لكن لا تذهبي قبل أن تريحي قلبي وتعديني بالزواج.
أسأله وأسأل نفسي في آن بمرارة خفية
- نتزوج؟ ... كيف؟ وزوجتك وأطفالك؟
- قلت لك وأعيدها للمرة الألف ... إننا منفصلان منذ زمن ونحن نعيش شكليا زوجين... أما الحقيقة... فحياتنا معا مستحيلة... قلت لك أن زوجتي على علم أننا سننفصل وتعرفين أنّني واضح ولا أخفي شيئا.
تنطلق زفرات مريرة من صدري ثم أقول بصوت خافت:
- لا شكّ أنها تتألم وأن قصتي معك زادت في عمق الهوة...
- ليس لك أي دخل يا نادية... تعلمين هذا... قولي أنك حننت لرامز...
- أهذا رأيك بي ؟ إذن تصبح على خير...
- انتظري لا تغضبي أرجوك أعذري غيرتي عليك.
أبتسم متنهدة
- لا . لا يمكنني أن أغضب منك ... عليّ الذهاب الآن...
أودّعه وأعبر الحيّ متسللة ثم أدخل مبتسمة للمنزل.
- مساء الخير ماما...
أدير عيني في أرجاء الصالة
- أين إشراق؟
- أمي لماذا تصمتين؟
يسود الغرفة الصمت لثواني أقترب منها وأمسك يدها قائلة
- أمي تكلمي... صمتك يقتلني...
- أتسألين عن إشراق، إنها في غرفتي... ومتى كنت تهتمين بها ... ثم تعود لصمتها القاتل لا تقطعه إلا وقلبي يكاد يخترقني.
- اسمعي يا نادية يجب وضع حد لانحلالك واستهتارك.
- ماذا فعلت يا أمي حتى تكلمينني بهذه الطريقة؟
- تعلمين جيدا ما أعنيه... ما عادت تخفى على أحد علاقتك بابن حمزة.
أتلعثم... يجف حلقي... وبصوت خافت مرتبك أقول:
- ماما أنا... أنا... أحبه...
- ماذا تقولين؟ أجننت يا فتاة ؟إنه متزوج و له زوجة رصينة ليت كل النساء تحتذي بها.
- قال بأنهما سينفصلان وزوجته لا يحبها.
- لا تعيدي لي هذا الكلام الأحمق وإلا سأخبر أباك وسنتبرأ نحن الاثنين منك.
تسكت أمي وتظل ملامحها وعيناها تتكلم وترتجف شفتاي ينشف كل الريق من فمي ويتحول رأسي إلى بركان يغلي وقلبي إلى شعلات من نار تتطاير.
- ألم تفكري ماذا سنقول لزوجك إذا سمع؟

تتصاعد الدماء إلى رأسي و تتناثر الدموع من مقلتي أقول بغصة واضحة وبنفاذ صبر:
- ماما أرجوك لا تقولي زوجك... لقد كان زوجي أما الآن فلا شيء يجمعني به.
- لا شيء يجمعك به؟ أجننت؟ وتلك النائمة هناك ابنة من تكون؟
- هي ابنتي أنا فقط... أين كان طوال هذه السنين حين كنا في أمسّ الحاجة إليه؟
تخفض أمي من صوتها قليلا وتقول
- إنه... رجل وقد أخطأ، وسيعود الآن ليصلح كل شيء.
- رجل... ألأنه رجل يخلف العهد ويتركنا طوال هذه السنين بكل أنانية ... أتسمّين هذه رجولة؟ ماذا إن كنت من تركته وابنته طوال هذه المدة لأنني أحببت آخر هل سيغفر لي المجتمع أو هو.؟.. هل سيتقبلني بكل بساطة لأصلح الخطأ كما تقولين.؟؟.. يا رب لماذا جرت تهيئة الرجل من قبل المجتمع دائما على الأنانية والطغيان؟؟؟ أما نحن النساء فنحاسب حتى إن أحبّت قلوبنا... وكأن ليس لحواسنا حق بأن تنعم بسحر حب يُحييها؟؟؟
نسمع الباب يقفل وخطوات أبي
- ما بأصواتكما عالية هذه الليلة؟
تسبقني أمي للكلام
إننا نتحدث عن... عن الرحلة... هناك رحلة ستقام بالحي
ونادية ضجرة وتريد الذهاب...
- أَمِن أجل هذا تتجادلان؟ نعم من حقها... ولماذا تعارضينها اذهبي بنيتي ولا تحملي هم المصاريف.
أدخل غرفتي، أحكم غلق الباب أرمي جسدي على الفراش
أتصل برباب ابنة خالتي وجارتي راجية حضورها لتكون برفقتي الليلة، ثم أبدأ رحلة بكاء مريرة.
انتصف الليل...
أنا ورباب نتسامر... موسيقى حفلة "تاج محل" للفنان "ياني" تنشر سحرا متفردا بالبيت وانتشاء...
تقول برقة:
- مدهش عازف الناي في هذه فرقة.
- كثيرا... كل فرقة "ياني" تشبع الروح فيتجلى الوجود ليبدع من خلالها... يُسكر أرواح مبدعيها فتسكر أرواحنا بنشوة سماوية ورنّات سحرية ونحس أننا محلقون في الفضاء ثم نطير إلي اللا نهاية. تكلّمت بهدوء وقد استعدت توازني.
تبتسم رباب وتقول:
- تماما يا توأم الروح أنا وأنت هناك في الفضاء الآن... هل أضيف لك بعض الليمون؟
- لا حبيبتي... لقد أرهقتك الليلة
- لا تقولي هذا، نادية نحن أختان.
تتسلل رائحة الورد العربي والياسمين والفل من نافذتي مضيفة الدهشة لقلوبنا العطشى، وتسري في أجسادنا نسمة صيف باردة.

- رباب... أحبه يا رباب.
- أعلم... و رامز ماذا ستقولين له؟
- رامز لن أرجع له طبعا.
- كنت متأكدة من ذلك. أعرفك متمردة وستحاربين من أجل بشار.
أقول وأنا أتنفس مرارة الأوجاع وسحر اللذة:
- لا أدري... ما أعرفه أني أعيش أروع قصة حب... أرغب بالنوم الآن.
- نعم. أنا أيضا... تصبحين على خير.
مساء الغد، نقف تحت شجرتنا المعتادة في حين تتجمع الطيور في السماء معلنة الرجوع لأوكارها وتغلق الزهرات أجفانها حتى تتمتع بالسكينة ويزيد نصف البدر من شعاعه وتتنفس روحه بروح كل الحياة... وتمر برهة من الزمن و كلانا صامت يراقب أنفاس الآخر وتحرك صدره وكل خفقة في القلب تنادي روحه.
ومع مضي السرب الأخير من الأطيار يقول بشار:
- تكلمي يا نادية، لقد طوى الليل جناحيه وعاد كل كائن إلى مضجعه... ماذا قررت؟ بللي ظمئي بكلمة واحدة.
مع توهج المشاعر يمتلئ الفضاء بضوء الحب الذي لا يبصره إلا العشاق ومع فيض القلب أتكلم بصوت يقطعه البكاء.
- اسمع يا حبيبي وضعنا معقد جدا... يمكنني أن أتحدى المجتمع وعائلتي رغم أن ذلك سيسبّب لي مرارة كبيرة ومع هذا حبنا يستحق التحدي، لكن الأمر المهم أن زواجنا يمكن أن يشقينا... يمكن أن يفتر هذا الحب يوما لأسباب خارجة عنّا... يمكن أن تتعذب لأنك حرمت أطفالك منك أو من أمهم ولن تسامح نفسك أبدا وسأشقى أنا بذلك.
برجفة في الذات يقول:
- لا تقولي هذا يا حبيبتي سأكون على صلة دائمة بأطفالي وقد تكون علاقتي بهم أحسن لأني سأكون سعيدا وأعيش مع من أحبّ.
- أنت تحبني الآن وتجهل ماذا سيحصل للحبّ غدا فنحن جميعا لا نملك سوى هذه اللحظة...
- ربما بالنسبة لغيري... ليس كل الناس سواسية...
ولم أرد أن أضيف شيئا فقد أجهش بالبكاء وبدأت أتلاشى.
لم يسبق أن رأيته بهذه الحالة، فقد دُرّب الرجل ألاّ يبكي، وكأن البكاء يقلل من الرجولة. وقد آثر المجتمع أن يثقل كاهل الرجل بالهموم محروما من نعمة البكاء...
أتساءل من أين أتيت بهذه القسوة؟ هل كان ذلك بدافع كلام أمي البارحة، أم الصدمة التي تلقيتها يوما، أم الخوف من الآتي...
أجمع قواي وأمسح دموعي وأداعب بأصابعي المبللة وجهه الغارق في الدمع ثم أقول بصوت متقطع:
- اسمع يا بشار سوف لن نقرر الآن شيئا سنخفف تدريجيا من تلاقينا ونلقي بأنفسنا بحضن الوجود ونلتحف بحب هذا الحضن الأعظم والأسمى، سنترك الحياة تقرر عنا، وحدسي يقول بأن خيرا سيحصل.
نسير كأننا نطأ قلوبنا وقد فاحت روائح الرياحين وداعبت أشرعة القلب وبدأ بياض النهار يتوارى وراء ظلمة الليل ويعده بالعودة بالإشعاع قريبا ويهمس له أن من حكمة الوجود ألا تستقر الحياة على حال...



من القلب إلى القلب
ــــــــــــــــــــــــــــــ

الطائرة الآن في علوّ شامخ، والبحار والجبال والمباني على الأرض غدت صغيرة جدا...
أذيب خوفي بتلاوة بعض الآيات وبدعاء السفر كما أفعل كل صيف عندما تطأ قدماي الطائرة.
بجانبي يجلس رجل يقرأ مقالا في مجلة أمريكية كتب على غلافها بحروف بارزة:
" يزرعون السرطان في المساحيق واللباس والأدوية ويرسلونها لأمة الوسط".
أراقب صدري الذي يعلو وينخفض متيقظة لأفكاري، بين كل فكرة وفكرة هوة، تماما كما بين النّفَس والنّفَس. تتجلى أمام بصيرتي شاشة العقل، ما زال يعكّرها بعض القلق.
ضاقت بي نيويورك حدّ الاختناق،وفاض بي الشوق إلى العائلة والوطن. لم أصبر أسبوعين،
لم أنتظر غسان وعدنان ولديّ، لذلك حرمت لذة السفر برفقتهما.
تعود عيناي للمجلة وأسأل مبتسمة:
ـ عفوا ... سيدي، هل يمكنني أن أعرف أين تصدر هذه المجلة؟
ينظر إليّ الرجل ذو الملامح الوقورة الطيبة وبلطف، يقول:
ـ بكل سرور سيدتي... هي مجلة أسبوعية تصدر من أوكالاهوما...
ـ ولكنها غير معروفة...
ـ فعلا... كما كل شيء قيّم... يقع التعتيم عليه قصدا...
يبتسم قائلا:
ـ أنا دجونسون أمريكي
أقول برقة:
ـ أنا تسنيم ، تونسية ،مقيمة بأمريكا منذ عشرين سنة.
ـ ليس مهما من أي بلد نكون، المهمّ أننا إخوة في هذا الكون وأننا نحترم معتقداته وكائناته.
ـ نعم، أنا مسلمة وأحترم كل الديانات... فديننا في جوهره حب واحترام لكل الديانات...
ـ وأنا أحبّ العرب والمسلمين وأحترمهم...
يضيف بعد صمت قصير:
ـ أسرار كثيرة موجودة بالكوفة وبأرض الكنانة والشام والقدس وبغيرها من بلاد المشرق،أصل الحضارة، والعقل الصهيوني يريد أن يستولي على أراضيكم لعدّة أسباب أهمها تلك الأسرار الموجودة عندكم والتي تساعدهم إلى حدّ كبير في السيطرة على العالم...
ـ نعم، وللأسف فإن الحديث عن هذه العلوم ممنوع في أمتنا العربية... لا أتذكر أني سمعت أحدا يتكلم عن علم التشفير الذي يحيك به الصهاينة مؤامرتهم بمهارة ... السلاح الأقوى الذي يستعملونه ضدنا، والذي يجعلنا نغطّ في النوم وننساق وراء فِتنهم ونتشتت أكثر فأكثر.
ـ هل تعلمين أن هناك مؤامرة تحاك بإحكام لسلبكم العلماء؟
أقو ل وقلبي يرسل نظرات احترام وإعجاب:
ـ أجل... ذلك أيضا مشروع من مشاريعهم التي ينفذونها بإتقان...
المؤسف أن صورتنا غدت الأبشع في العالم، وأصبحنا كأننا وحوش خرجت من الأساطير.
ـ أنا أعلم أنكم لستم إرهابيين، وأن الإرهاب منبعه ساسة بلدي وتجّار السلاح الذين يحرصون دائما على إيقاد الحروب.
ـ شكرا على رحابة صدرك وصدقك، قلّة من يتحدثون بمثل صراحتك
ـ الحقيقة لا تحب التضليل ولا الخوف... شكرا لك أنت على جمال روحك، وعلى وعيك.
تحط الطائرة بباريس يهديني" دجونس" المجلة ويودعني مبتسما، وأبقى أنظر عبر النافذة البلورية المدورة إلى ألوان هذه المدينة الفاتنة الساحرة وأضوائها، مسترجعة فنونها وإبداعاتها ، مصغية إلى أصوات كل حضاراتها وكأن كل من سكن هذه البقعة الأرضية منذ نشوئها يسكنني الآن وهنا.
تحلق بنا الطائرة في الفضاء من جديد أغمض عيني منتشية... أحس نورا يوحدني وكل سكان الأرض بل مع كل الكائنات وأن بذرة الوجود تشق طبقة الطين القاسية وتخضرّ ثم تتفتّح زهراتها ويخرج عبقها وعطرها.
أفتح عيني على صوت المضيفة وابتسامتها البلاستكية:
ـ مرحبا سيدتي، ماذا تشربين؟
ـ قهوة دون سكر لو سمحت.
أشرب رشفة ثم أنام ولا أفيق إلاّ والطائرة تحطّ على مدرج مطار تونس قرطاج الدولي.
بحنين كبير أنزل سلالمها مستنشقة عبق البلاد. تبحث عيناي عن احتمال
وجود أحد أفراد عائلتي رغم أني آثرت ألاّ أخبر أحدا بقدومي حتى يسعد الجميع بالمفاجأة.
أغادر المطار متلهفة للحصول على تاكسي، ولكن كلما أتت واحدة سبقني غيري إليها.
مضت حوالي عشرين دقيقة وأنا أنتظر، وبدأت أتوتر. فجأة تتوقف
أمامي سيارة حمراء تنزل منها امرأة غاية في الجمال والأناقة وتتجه نحوي باسمة، ثم تقول:
ـ تسنيم.. أنت تسنيم؟ أليس كذلك؟
ـ نعم... من؟ لا. لا أصدّق نور الهدى؟ نور الفنانة ساحرة الجماهير، أمام عيني، يا لها من مفاجأة...
تقترب مني أكثر ونشرع في العناق.
ـ يا للصدفة الغريبة يا سونة، من كان يصدق أننا سنلتقي بعد كل السنين، مازلت كما أنت تتقدين أنوثة وجمالا...
ـ ماذا أقول عنك أنت إذن يا معبودة الملايين؟؟؟
ـ أخبريني ، كيف تعيشين؟ كيف حال فؤاد ؟ وهل لديك أطفال؟ انتظري...
اركبي السيارة وسنكمل الحديث، تذهبين إلى العائلة؟ هل مازالت تقطن بقرية الجِنان؟
ـ نعم... طبعا...
ـ إذن، سأصطحبك إلى هناك، وسأسعد برفقتك وبرؤية العائلة بعد كل هذه السنين.
ـ أنت تخجلينني يا نور الهدى...
ـ ليس بين الأصدقاء خجل ولا كلفة، كم أنا سعيدة بلقائك.
بعد أن نركب السيارة أتنفّس بعمق وأقول
ـ فؤاد بخير ولدينا ابنان عدنان وغسان في الجامعة سيتخرجان السنة القادمة ،
سيلتحقان بي بعد أسبوعين إن شاء الله... نقطن بأمريكا وستكون عودتنا النهائية بعد سنة.
ـ ما شاء الله .تنظر لي بكل حب ثمّ تضيف
ـ وماذا عن حياتك وفؤاد
ـ حياة كأغلب حياة الأزواج تبدو في الظاهر هادئة سعيدة ولكن الحقائق والخفايا لا يعلمها سوى أصحابها وعالم الأسرار. وأضيف وقلبي يتألم:
ـ نور... لا تتصوري ماذا فعل بي نبأ محاولة انتحارك ظننت لا سمح الله أنك... ولم أجد أي وسيلة للاتصال بك والاطمئنان عليك
تغمر صفحة وجهها سحنة من الألم والكمد ... تقول
ـ كانت أياما قاسية كئيبة مررت بها... رغم الشهرة والمال والجمال وآلاف المعجبين، كنت تعيسة وحيدة، لأن المحيطين بي إنما يعجبون بصورة صنعها المنتجون، وليس بنور الهدى الإنسانة... كنت حينها مجرد صوت جميل، . أعيش في توتر دائم حتى أكون المطربة الأفضل وأن تكون حفلاتي الأروع وألبوماتي الأكثر رواجا، ودائما في حالة خوف وقلق وتشتت. إلى أن كانت ليلة مسرح الحمامات منذ أكثر من سنة... فشلت الحفلة وتحاملت عليّ الصحافة وتخلى عني الجميع.
تصمت قليلا ثم تقول
ـ للفشل مذاق الوحل.
وفجأة ننفجر ضحكا حتى تدمع أعيننا، ونحن نتمعن من النوافذ الحقول والروابي و مساحات الأراضي التي تعدّ مهرجان حصادها. ـ كم قلوبنا بحاجة إلى الضحك... أكملي أختاه .
ـ آه يا تسنيم، عشت ليلتها اللحظة الفاصلة بين الحياة فوق الأرض والحياة الأبدية لكني لم أغادر هذا العالم ، وكان ما حصل لي دافعا غيّر رؤيتي للحياة.
عرفت أني لا أعرف، وأن الشهرة فقاقيع ورغوة صابون، أنا اليوم أغني بطريقة جديدة.أنا قصبة فارغة ينفخ فيه الوجود أتفهمينني سونة؟
ـ نعم حبيبتي طبعا.
يسود الصمت برهة، وأحس أننا بين يدي نبض الكون الأبدي نبض ليس له اسم أو صفة أو عنوان .
تواصل مبتسمة:
ـ أصبح لميلادي تاريخ آخر، بعد أسبوع سأبلغ سنة من العمر، ذلك هو عيد ميلادي الحقيقي،وأنت المدعوة الوحيدة، سأسعد بذلك كثيرا، سنسهر معا في "مقهى سيدي بو سعيد
حيث كنا نجلس منذ سنين طوال".
تتابع السيارة سيرها وأم كلثوم تشدو رائعة الخيام.
يدغدغ وجهي نسيم الفجر فأفيق نشيطة متفائلة، أستحمّ لأجد أمي التي يطير قلبها فرحا قد جهزت لي طبقا به خبز وعسل و زبدة وبيض . آكل تحت إصرار أمومتها ثم أخرج للبراري،
أتمدد قليلا فوق الأرض، ألمسها، أتنفسها، ثم أقوم لأرتع وسط الدجاج والبط والإوز والخرفان والمعزات والحمام، فتتطاير الطيور بعضها انسجاما معي وبعضها احتراسا
من هذه الزائرة الغريبة.
لا أدري كم يكفني من الوقت لأصف هذا أسبوع الذي أقضيه مع أمي وأخوتي. ففي النهار نتجول في الحقول أو على ضفاف النهر، أو نزور الأحباب. وفي الليل نشرب الشاي ونأكل البطيخ الأخضر ونحن نتسامر تحت الياسمينة التي تنشر فينا عطرها وتسقي أرواحنا مبتسمة راقصة. قبالتنا شجرة الخوخ تنشينا بأنفاسها الندية هفهفاتها تحكي ذكرياتنا الخوالي وطفولتنا الزاخرة بالمغامرات والمرح . في حين تنحني شجرة التفاح ممتنة لليد التي غرستها منذ سنين طوال. مترحّمة على أرواح الغالين .
تداعب خيوط الشمس وجه الصباح فتلبسه تاجها الذهبي، يرن الهاتف وأنا أقطف تفاحة من الشجرة. تذكّرني نور الهدى بالموعد الذي ما غاب عن فكري، ألبس فستاني الوردي، وأحرّر شعري فينسدل طويلا ليّنا .
أخذ معي هدية وأقصد العاصمة حيث نلتقي هناك كما اتفقنا. تسير السيارة باتجاه سيدي بوسعيد. وأنا فرحة فرح الطفلة يوم العيد، لكن الحياة التي تحوي الجمال والنور هي نفسها تحوي الظلام والشر.
ففي الشوارع تزدحم الحيطان بالصور الإشهارية أوقف بصري عندها فيقتحمني بالضيق .
تحسّ نور الهدى بتوتري فتسأل:
ـ ما بك؟ هل تشكين من شيء؟
ـ المعلقات. صور معلقات الإشهار شحنتني بطاقة سلبية وسلبتني كل نور.
ـ سونة. ما الذي جعلك تنظرين إليها؟
ـ فعلت ذلك دون وعي، كنت أتوهم أني أنظر إلى الوطن. لم أنتبه...
ـ يا لأحلامنا التي صعب تحقيقها. إنهم يصرّون على تدميرنا راشدا وطفلا .
هل لاحظت أنه نادرا ما نسمع أحد يتحدث عن هذه المخاطر؟
ـ نعم. رغم أنها تكبّل وعينا وتجعلنا ندفع أي مبلغ لشراء أي شيء،
وتجعلنا أسرى الطمع واللهفة والغفلة الدائمة.
ـ علمت أيضا، بعد صحوتي طبعا، أن أحلّل مليّا الرموز التي يضعونها على سلعهم.
ـ نعم. هناك علامات ورموز تجعل من طاقة النور والحب الكامنة في الجنس هوسا وهاجسا دائمين. خطة محكمة لنسهو عن كل شيء ضاع منا. معك حق نور
ـ لا حدود لخطورة وبشاعة هذه العلامات المشفرة.
ـ لا حل إلا بالقراءة، قراءة العلم الذي ينفع.
يسود الصمت، تعاودني حالة الفرح، تتحرك السيارة فتدخل النسائم لترقص على صوت موسيقى بحيرة البجع المنبعث من مسجل السيارة فيتمايل شعرنا تناغما.
نبلغ المقهى والبحر ينتظر أن تكمل الشمس غوصها في حضن الجزء الآخر من الأرض.
تنصهر روائح النارجيلة والفل والياسمين مع رائحة البحر وعطر نور الهدى.
بعد أن نجلس أشتري عقدين من الياسمين والفل، أطوّق جيد صديقتي بعقد ياسمين فيفيض جمالا لبياض فستانها وسواد شعرها الحريريّ، وألبس عقد الفل فتتعطر روحي حدّ الثمالةّ.
يأتي النادل بالمشروبات ثمّ بكعكة عيد الميلاد. تشعل نور الهدى شمعة. ثمّ نقطع الكعكة ونقدم للنادل والزبائن المنتشين بمشاركة الفنانة المشهورة فرحها واحتفالها.
الأمواج تداعب بعضها وتحمل السلام إلى أقصى البحار واشتياقي للغائبين الذين سيأتيان بعد أسبوع.
يطلّ الهلال، أتفاءل خيرا لأن إشراقه الأول لم يفتني هذا الشهر. يرمقني بحب
ونتناجى بأسرار اعتادتنا واعتدناها. فجأة تعاود عقلي غيوم من الأفكار.
كيف يمكنني أن أقضي سنة أخرى في الغربة وقد نفذ صبري؟
هل يتأقلم زوجي سريعا هنا؟ هل سيتحمل ولداي اللذان نشآ في أمريكا الحياة في تونس؟
هل ستحل الزرقة مكان السواد الذي يغطي السماء والبحار؟
أعي فيختفي شلال التساؤلات، أنا لا أملك سوى الحاضر،
ولا أعلم بعد لحظة واحدة ماذا يمكن أن يكون.



يوم في حينا
ـــــــــــــــــــــ

الحيّ يستيقظ رويدا رويدا: العمّال يركضون وراء الحافلات،
أو يتّجهون سيرا نحو مقالع الحجارة، والمزارع المجاورة...
أصوات الأواني تبدأ بعزفها غير المنتظم في المطابخ ...
بعض المكانس تبدأ بالحراك... هنا بيت الصالة وغرفة نومي وأخي...
أُبعد عني الغطاء فيتململ قطّنا كاري وأجلس على فراشي متأمّلة بحنين وأسًى فراش أخي المقفر،
ثم إلى مكتبتنا التي تحتضن كتبنا والتلفاز...
أصابع الشمس الذهبية تعبر زجاج النافذة فتبعث في القلب اطمئنانا وحياة.
أفتح الباب وأقف قليلا في الباحة: أوراق التين تتطاير، تتلامس ثم تتساقط احتفالا
بقدوم الخريف وتعانق أغصانها أغصان شجرة البرتقال التي تستقبل أجنّة ثمارها
أما شجرة الرمان فقد أثمرت حتى عادت أغصانها تلامس الأرض.
تتصاعد رائحة القهوة من المطبخ مع زفرات أمي ودعائها من فوق السجادة:
" يا ربّ فرّج كرب ابني وأطلق سراحه، رباه لقد ثقل الصدر وجف الدمع يا رحيم،
أنت العالم بحالي والغني عن سؤالي".
أعود مسرعة إلى سريري ، أبكي بكاء مرّا. تنظر عيناي مرة أخرى إلى المكتبة
أمسك رواية " غربتنا " وبين صفحاتها رسالة كتب على ظرفها "ربيع المقراني
السجن المدني المرناقية."
ترتعش يداي وهي تفتح الرسالة التي أقرؤها للمرة السابعة:

أختي العزيزة رنيم
السلام عليك
أرجو أنك بخير، مع أني لا أظنك كذلك.
أختي آسف أني خيّبت ظنّك و أن الحياة أخذتني إلى منعرج وممرّ ضيّق للغاية
ربما أنني من جعل الحياة تمر بهذه الممرات الموجعة.
شقيقتي الغالية، الآن اختفى الزائف مني والحقيقي يتطلب بعض الوقت كي ينجلي،
لأن ما فقدته في سنين عديدة ليس من السهل أن يعود لنصاعته بسرعة،
فقدت بوصلتي فضاعت كل الاتجاهات. الآن اكتشفت أن الذات التي أعطاني
إياها الآخرون والمخدرات هي ذات مزيّفة. اطمئني أختي أجاهد كي لا يحجب
المزيّفُ الحقيقيَّ.
أتذكرين يوم قلت لي إن الرأس المثقلة بالشوائب هي مرتع للشياطين.
صدقت يا حبيبة، لقد عبّأت فكري بالغضب على الأب الذي يقسو أحيانا ولا يتفهّم نفسيّتي،
والحقد على الفقر الذي أجبرني على ترك مدرسة الفنون الجميلة والدراسة في شعبة قصيرة،
والعتب الكبير على النظام التعليمي الذي يصرّ على حشونا بالمعلومات
ونحن بحاجة قصوى لعلم يساعدنا على الغوص في خبايا هذه الروح و أسرار هذه النفس .
تركت الدراسة منذ سنتين لأبحث عني لكن أسفي على نفسي التي ظلت بتعاسة وغربة قاتلة.
أختي العزيزة كيف هي الجامعة والأصدقاء؟ هل تأقلمت مع هذا الوجع الجديد؟
وكيف حال قطّنا كاري؟
هنا أيضا وجدت قطة رغم أنها أنثى إلا أني سمّيتها كاري!
أقنعي والدي أن لا يضيف مليما واحدا للمحامي، حمّلته أكثر مما يحتمل بكثير،
أعلم الوضع جيدا.
أنزف وجعا لأني السّبب في تعاستكم. أرانا كثيرا، في اليقظة وفي النوم،
ونحن صغارا نلعب الغميضة مع أطفال الحي، يوم لم يكن بيننا وبين المولى سوى كل كشف ونور.
وأتذكر كثيرا أحلام البراءة: حُلَمُنا أن تتعلمي العزف على البيانو وأن أرسم في العطل.
لكن العطل كما تعلمين أقضيها في المقلع حيث الصخور والرمال بانتظاري
كما المسحاة والحقول بانتظارك.
آسف أني دمّرت كل شيء كان علي أن أصبر أكثر.
قولي لوالديَّ أن يصفحا عني
سلامي للجميع
ربيع

في المطبخ أجد أمي قد طهت الفطائر. ألقي تحيّة الصباح مبتسمة وكأنّ الحزن والخوف
من الآتي لا يسكناني وتردّ التحية وهي تخفي الرّعب والاختناق. أحس بقلبها الحزين
الحنون يفتش عن لمسة حب مني، فتتوسل روحي لها أن تفتح باب قلبها
وتنزع عنه غطاء اليأس وتثق بالذي يجعل لمن يحتمي برحمته مخرجا .
ألمس وجه أمي الأصفر ورموشها الذابلة، أحضنها ثم يلحق بنا أبي يعلو سحنته
الهم والكدر بدل الصرامة والوقار، فأَلْحَظُ غياب كل الستائر الذي كانت تحجب حنانه
و حبّه فيتوجّع قلبي رثاء لحاله... نحاول أن نستقبل اليوم بأمل رغم كل شيء،
نفطر شاردي الذهن ثم نرتشف القهوة وكل منا مشفق على الآخر.
اليوم أوّل أيام عطلة الخريف. بعد قليل تتجه أمي للسوق لشراء بطانية وخضر
ولحم لإعداد الطعام لزيارة ربيع الغائب عن هذا المنزل منذ شهرين.
ويذهب أبي ليتفق مع صاحب سيارة لكرائها، فالمرناقية تبعد عن حي الإشراق
حوالي خمسين كيلومتر، وأمي لا تقوى هذا الأسبوع على ركوب الحافلات.
في هذا الصّباح طائر يحوم مغردا فوق بيتنا، أحيانا يقترب مني ربما
أنه ينشد الارتواء أو يحمل البشرى أو يذكّرنا أننا موصولون بالوجود إلى أبد الآبدين.
أبتسم له مستمتعة بحفيف جناحيه، تأتي طيور أخرى تطير و تحط على شجراتنا.
أشرع في العمل المنزلي متفائلة بقدومها، أغسل الأواني وأنظف المطبخ
في حين يكثر الحراك في الحي، الأطفال يتجمعون للعب والباعة المتجوّلون
يشرعون في الصياح لإشهار سلعهم. أدخل بيت النوم فأجده مرتّبا
أعود لبيت الصالة حاملة معي فنجان القهوة التي أعدت تسخينها.
أتوقف قليلا لسماع هتاف و ضجيج أحسبه في بادئ الأمر معركة
فإذا هو عدد كبير من الشباب يهيّئون تفاعلهم وانفعالاتهم استعدادا
للمباراة التي ستقام اليوم في الملعب الأولمبي بالمنزه بين قطبي الكرة التونسية.
أنفض الغبار عن الأثاث وأمسح الأرضية باذلة مجهودا كبيرا كي لا يصل لي ضجيج الشارع،
أسقي الشجرات والنباتات المزروعة في المزهريات الصغيرة مصغية بانتباه لزقزقة العصافير.
حين أكمل المسح، أتأمّل اخضرار النباتات ولمعانها، وجمال الشجرات الثلاث فيدخل الأمل قلبي،
يدخل العطر والنسائم النديّة، فأكون كورقة شجرة البرتقال الشابة المقبلة
على الحياة تنبت النجاح والسعادة والحب اللامتناهي وأكون كالرُمَّانة
في جمالها وتوهّجها وامتلاء لبّها بالخير،
وأكون كورقة التّين المتحدية للخريف والتي صنعت بمفردها منذ وقت قصير
مهرجانا للاخضرار والعذوبة بظلالها و لذّة ثمارها وهي الآن ترسل أوراقها رسائل
حب و أمل واحتفال.
تعود أمي من السوق. أساعدها في إعداد الأكل لأخي وتحضير لوازم الزيارة.
وبعد الفطور أراجع محاضراتي، حتى تشي الشمس بموعد غروبها ثم يهمس الليل بوقار أنه حلّ
فتغمز النجوم على صفحة سواده أنها تلألأت و تجمّعت وأعدّت ضياءها للسهرة،
شيئا فشيئا يشتد الظلام ويشتدّ عناد النجوم أن تزيح بنورها ولو قليلا من ظلامه .
نجتمع في الصالة ونجتهد لنتعشى لكن بعد دقائق أرفع المائدة و لم ينقص منها إلا القليل.
أرتدي شالا وأخرج إلى المطبخ لطهي الشاي، فالطقس بدأ يبرد والرياح بدأت تحرّك الأشجار.
أسمع طرق الباب و أنا أضع الإبريق على الموقد، إنها خالتي وزوجها ...
أسلم عليهما باسمة ثم يتجهان إلى بيت الصالة.
أضع الفناجين الخمسة على الطبق وأسكب الشاي الخفيف المنعنع وأعود للصالة.
أرحّب مرّة أخرى بالخالة وزوجها وأسألهما عن الأحوال، وأنا أقدّم الشاي.
تقول خالتي: شكرا، بإذنك يا الله نفرح قريبا بإطلاق سراح ربيع.
تجيبها أمي والغصّة تملأ حلقها: حفظك الله لي يا الغالية.
يقول زوج خالتي: الحمد لله على ما يعطي من ابتلاء، اِحمدي الله أنهم تأكدوا
أنه لا يستعمل المخدرات للتجارة إنما يتعاطاها فحسب. أَنسيتِ ابن منير التومي
الذي قبضوا عليه وهو بصدد البيع وحكم عليه بعشرين سنة
ولم يكمل السنة حتى قضى أجله في السجن.
ـ آه يا أخي الحمد لله على كل حال! لا أدري ماذا حصل للحي هذه السنوات الأخيرة؟
يقول زوج خالتي: أما سمعتم ما حصل هذه الليلة إثر المقابلة، ولد عمّار الذي يهيم
بنادي الترجي الرياضي ضرب بسكين ولد صالح جاره
الذي عيّره بهزيمة فريقه بعد انتهاء المقابلة. والمسكين الآن طريح الفراش
في المستشفى تحت العناية المركزة بين الحياة والموت.
يقول أبي: أصبح الحيّ يضم أكثر من ستة آلاف ساكن فيهم عدد كبير من الشباب
بين الستة عشر والسادسة والعشرين، وهم يدمنون الحشيش و يتفنّنون بالسرقة
و يعشقون العراك بالسكاكين.
تقول أمي بأسى: غاب المسكن والسكينة وحلّ الركض الدائم وراء لقمة العيش ،
غاب الأب العائل الحامي والأم الحانية المراقبة ليحل محلّهما أبوان يجدان الوقت
لكل شيء إلا لفهم نفسية أطفالهما وإشباعها بالحنان.
تقول خالتي: نقمع رغبات أطفالنا ونعنّفهم و نهمّشهم ونلجم آراءهم والآن نتساءل
متعجبين من أين يأتي كل الإجرام وهذا العنف!!!
يتعرّج بنا الحديث مجالات شتّى حتى تقف خالتي قائلة: لقد جلبت الحلويات
التي يحبّها ربيع صنعتها له بيدي، خذيها له أختاه وبلغيه سلامنا.
ينظر لي زوج خالتي ويقول: رنيم ستذهبين مع أبويك هذه المرة؟
نعم. أقول مبتسمة.
يودّعاننا وينصرفان، ويدخل والداي في إثرهما إلى غرفتهما، وأبقى وحيدة،
داعية أن تمرّ أيام الكرب بسرعة .
يعود إلى ذاكرتي كلام أستاذ وإنسان حقيقي: كلّنا مسؤولون عن هذا الوضع المتردي
وهذه الغربة الذاتية، كلنا أفردا وأسرا وأنظمة..."
تشتد الرياح في الخارج، ليست بي رغبة في المطالعة ولا حتى في مشاهدة التلفاز.
أتأمل حال الدنيا التي تسبح بنا في نهر يحمل الشوك والعطر. تخرجني من حالة التأمل
خربشات القط على الباب. أفتح له مبتسمة معاتبة: الآن تعود من تسكّعك أيها الشقي!
تعلم أني وحيدة!
ينظر بعنين شاسعتين وكـأنّه فهم ما أعنيه، ثم يقفز بخفة إلى فراشي،
أقف على العتبة أتفقد ما فعلته الرياح بالشجرات الثلاث، الثمار لم تصب
بأذى فقط كثير من الأوراق على الأرض... أحمد الله أن في بيتنا هذه الشجرات الثلاث
التي أتخذها ملجأ لي.
أغلق الباب وأتمدّد على فراشي، فيقترب كاري من وجهي متمسّحا مُصدرا صوته
الباعث على الهدوء والطمأنينة... فأمسح على رأسه مغمضة عينيّ، استعدادا للقاء
الغد وقد امتزج بداخلي الفرح والوجع والخوف والأمل، شيئا فشيئا يبرز الضوء
الخفيف في بصيرتي فأغرق في عالم جميل ملوّن لا يحدّه وقت ولا فكر ولا زمان.



منهــــــل الحياة
ــــــــــــــــــــــــ

أدير صفحات الألبوم فترفرف حولي أجنحة الذكرى و تأخذني إلى زمن بعيد: صور تعيدني إلى شبابي وأيام زفافي وأخرى لأيام خالدة مع الراحل زوجي وابنتنا الوحيدة ندى. أطيل النظر في صورة ابنتي وهي عروس فيعود لي قوامها بذلك الفستان الأبيض وصوتها الخافت في المطار: " أغادر لأوّل مرّة وطني، لكن رفقة زوجي الذي أحبّه يا أمي، تعلمين كم هو طيّب، انتبهي لصحّتك، لا تحزني، سويسرا بعيدة، لكن الطائرات ستجعلها قريبة جدّا، سأكون قربك متى احتجتني يا أغلى الناس."
... عشرون سنة مضت على إقامة ندى خارج الوطن لكنها كانت تحضر كل عيد. منذ حين رنّ الهاتف وأخبرتني ابنتي متحسرة أنها لن تستطيع المجيء هذه السنة.
شيء ما يلمع في أعماقي ينبّهني أن أقاوم كي لا يبتلعني وحش الحزن، أنتفض من الغمّ رغم وجع الكلى الذي تضامن مع وحشة الفراق و أنتزع الفرح من فكّ الكمد.
أشعل الفانوس الأزرق وأبخّر الغرفة، فيمتزج النور برائحة العطر، ويرقص دخان البخور حتى يختفي في رحم الفضاء. شيئا فشيئا يتغيّر لون الحزن من الأسود الدّاكن إلى رمادي فاتح مبيضّ.
ينتصف الليل وأنا لا أهدأ ولا أنام، أتنقّل داخل الغرفة دون وعي. سرير يكسوه لحاف فستقيّ تجاوره طاولة الليل فوقها صورة ندى صحبة حفيدي الضاحك ، وعلى الطاولة الأخرى فانوس أزرق وصورتان: صورة أخذت لي قبل أيام، وصورة أيام شبابي . على النافذة ستائر سماوية مزركشة بزهرات وردية. بقية الغرفة مكسوّة بأوراق حيطان زاهية الألوان. في الركن المقابل للسّرير كرسي وطاولة عليها حاسوب بجانبها مكتبة صغيرة بها تلفاز وكتب بعضها من تأليفي.
أحسّ أن الحزن يسيطر أحيانا، ومع ذلك تداعب روحي أجنحة ناعمة خفية، أوجاع الكلى تعاودني طورا وترحمني أحيانا.
الليلة شديدة البرودة و الأمطار تداعب الشباك. السّنة الماضية في ليلة تشبه هذه، وصلني بريد إلكتروني يعلمني أن روايتي الأخيرة ستنال جائزة، خمنت أني في السبعين من العمر و أنهم ربما أرادوا أن يكرموني. وفي الغد ذهبت لأستطلع الخبر فعلمت أنها مجرّد دعابة من أحد ثقيلي الظلّ. عدت يومها وابتسامتي الساخرة تحاول كبح الألم الحقيقي في قلبي. علمت حينها أني لم أتعلم أن الإنسان عدوّ ما يجهل وأن الحقيقة تجرحه وتفزعه. كيف خطر لي آنذاك أنّه يمكن أن تمنح لمثلي جائزة؟ ومتى كنت أهتم؟ عشت طوال عمري لا أتوقّع شكرا ولا أنتظر تكريما. البعض عشق كتاباتي كثيرا والبعض كفّرني وكثيرون قالوا امرأة مجنونة.
في سكينة هذا الليل، ونقر المطر يسكر الروح، أغمض عينيّ مانحة لنفسي بعض التّأمل مستسلمة لقوة غير مرئية. ثم أفتح أجفاني والحاسوب وأشرع في الكتابة :
" وقفا يتأملان هذا الكوكب الغريب و الناس المختلفين. احتضن كل منهما الآخر بكل حنان وحبّ. خطرت بباله أسئلة كثيرة وتراءت له صور و تجسّدت في ذهنه معان لحيوات ماضية، وتساءل إن كان قد اجتهد كما يجب طوال تلك الحياة كي يوقد قنديله الداخلي.
وبدت لها ملامح الناس يوم الفاجعة وهي تستغيث وتطلب رحمة ربّهم كي يمنحهم بعض الوقت لإصلاح ما دمّروا،وتساءلت أين هي ومن هذه المخلوقات المختلفة الطّيبة.
وقالا معا: " لقد تحطّمت الأرض بنا ونحن الآن في الجنة."
وقال بألم شديد: " لطالما توسّلت الأرض إلى الإنسان أن يعي ما يصنع به و بها ولكنه كان منشغلا بالشوائب والقتل والّنهب والّنزاع."
خيّم عليهما حزن حين علما أنها فقدا كلّ المقربين ولكن أيادي السكينة ظلّلت قلبيهما تمنحهما الاستسلام والطمأنينة.
لم يشاهدا ترابا تحت سيقانهما كانا يطآن حبّات بحجم الحصى الصغيرة بلون اللؤلؤ، حبّات شديدة الليونة والضياء و كانت الطيور المزركشة تحوم مرتّلة أنغاما، وزهور مختلفة الألوان تنشر روائح لم يستنشقا مثل عبقها من قبل، اقتربا من جماعة من سكان الكوكب وقالا بلغة لا يدريان أين تعلماها ولكنهما يعلمان أنها لغة كونية: " السلام عليكم."
التفت الجمع وردّوا التحية بمنتهى الّلطف
قال:" يا أخوتي أين نحن الآن؟"
قال أحدهم وكان يرتدي ثوبا أخضر ووجهه يضيء حبّا ولطفا: "أنتما في كوكبكما، مرحبا بكما والحمد لله على سلامتكما"
قالت أميرة: " إذن نحن لسنا في الجنة؟
قال رجل يرتدي ملابس بيضاء: "لا يا أختي أنتما في كوكبنا وهو الآن كوكبكما. لقد هلك أغلب سكان الأرض وكنتما من النّاجين مرحبا بكما بيننا هيا تفضلا بالجلوس".
و بعد قليل أُحضر الطعام المختلف اللذيذ فأكلا شاكرين حامدين. ثمّ جاءتهما فتاة بارعة الجمال ترتدي ملابس وردية وقالت: " سترتاحان هنا." ثم وقفت مع الرجل ذي الملابس البيضاء الذي قال: تعاليا معي لأريكما بيتكما.
سار الأربعة وهم يطؤون تلك الحبات الساحرة المتلألئة حتى بلغا بيتا جميلا تحيط به حديقة ساحرة ويحاذيه نهر لامع جذاب. قال الرجل بلطف:" هذا البيت وهذه الحديقة وهذا النهر لكما والسباحة فيه ممتعة للغاية." فقفزا فرحا. سكت الرجل الطيب برهة ثمّ أضاف: " لكن سأنبهكما لأمر، هذا النهر يمنحكما سمكا مباركا ذهبي اللون وكثيرا من الخيرات، تمتعا هنيئا، فقط، اجتهدا لتنظيفه باستمرار، فإن سهوتما عن ذلك فسيزول النعيم وتحلّ اللعنة.
ثم ابتسما بوداعة الأطفال وذهبا.
قالت أميرة: "حبيبي محكومان بالجهد وتنظيف الغبار للمحافظة على بريق الروح."
قال أمير: "هذا أمر بسيط... نجتهد لنحيا بسعادة. " قالت أميرة : " ألا يكفي أني بذلت جهدا كبيرا حين كنا في الأرض كي لا يتراكم الغبار عن روحي." فردّ أمير: " حين نبعد الغبار نصل إلى القنديل الداخلي عندها وعندها فقط نتّحد مع الله الأحد."
وقالت أميرة: " الحقيقة أنّ الحياة هناك تعاستها أكثر من راحتها بكثير. ثم لطالما اتبع البعض من يقول أنه وسيط للآخرة ولكن الله ليس بحاجة لوسيط لم يعرف النور أبدا، و من يرى الشمس لا يبالي بضوء الكبريت... وهل يمكن لكبريت منطفئ أن يفسّر النور؟؟؟ "
بدأت أميرة بالقفز والضحك ولحق بها حبيبها ولمست أنامله شعرها وداعبت أنفاسها أنفاسه وتلامس الصدران والشفاه وانصهرت الأرواح.
تراجعت أميرة خطوة إلى الوراء و بدأت تطوف و تغني بانتشاء:
عرائس السعادة هنا
تشدو، تطوف بنا
تسكب السحر فينا
هذا البيت لنا
هذا الحقل لنا
هذا النهر لنا
عرائس السعادة هنا
قال: " حبيبتي هنا لا قوانين ولا قوالب بشرية ولا اختلافات ونزاعات حول من يملك الحقيقة المطلقة... ومن دينه الأفضل، هنا حياة مع الحيّ دون فصل."
وأضاف لّما ابتعدت: " تعالي أستقي منك وتستقي مني لقد طال بنا العطش."
ثم قفز الحبيبان في النهر فانتفضت المياه"...
أحس قطراته تلمسني .
أشعر الظمأ، أتوقف عن الكتابة أتجه للمطبخ ، أشرب وأضع إبريق شاي على الموقد. أوجاع الكلى هدأت تماما. أسكب الشاي في فنجان، وأتجه للحاسوب علّني أضيف شيئا، ولكني أشرب ما في الفنجان ثم أغلق الحاسوب، أتجه لفراشي وأمضي في رحلة نوم عميق.
يطلّ النهار على الطابق الثالث في عمارة قديمة بالمدينة وتشرق الشمس باعثة أنفاسها الدافئة، مشرقة في القلوب المظلمة وأقف في الشرفة أتمعن أصص الورود البيضاء والحمراء المبتلّة بمطر البارحة مستسلمة لدفء القرص البرتقالي. أمسح بساط الشرفة وأسجد للمولى شاكرة للنعم طالبة الصحة والستر ولمّ الشمل، ثم أحضّر لنفسي فنجان قهوة، أضعه أمامي وأهمس لنفسي همسا اعتادني واعتده. سأنتظر يا مهجة القلب، علّهم يسعفوني براتب المعاش فأحظى بمحادثتك طويلا عبر الإنترنت. أيا ندى هل تذكرين صباحات الدفء وليالي الصّيف حين كنا نجلس هنا؟ أتذكرين أيامنا قبل زواجك .حين كان شعاع نفسك يملؤني وروحك تسقيني؟ أتذكرين ليالي رمضان وتحضير المائدة وإعداد الحلويات للأعياد والسهر ضاحكتين والتأمل بالوجود حين كنا نستشعر أن حمام الفرح يطوف بنا؟؟؟ آه يا حبيبتي ذكريات كأنها البارحة؟
بخار القهوة يلاعب خيوط الشمس، تلمس شفاهي الفنجان لكني أسمع طرقا على الباب، جارتي التي تسكن في الطابق الرابع صحبة ابنتها شهد في ضيافتي.
ـ صباح النور, حبيبتي" ربى الجمال".
ـ مرحبا بك أختي، أفتقدك جدا.
ندخل غرفتي ونشرب القهوة المعطرة الساخنة. يخترقني بريق الحب في عينيها وهي تهمس بحنان:
ـ كيف حالك حبيبتي؟ ماذا عن ندى؟
ـ لن تتمكن من القدوم هذا العيد، وأحوالي بائسة.
ـ لا بأس، لا بدّ أنه لديها مشاغل، إن شاء الله ستأتي لاحقا.
ـ إن شاء الله. كنت أصبّر النفس على أمل إطلالتها. فقد تأزمت حالتي منذ أن طلب منا صاحب العمارة الخروج. لم أنم ليلتها. كيف سأتحمل فراق بيت قضيت فيه كل هذه السنين، ربّيت فيه ابنتي وكتبت فيه كتبي التي هي بمثابة أبنائي، بيت تحمّل معي الشوك والمرارة والحلاوة والفرح.
ـ أنا أيضا أختاه لا تفكير لي هذه الأيام سوى قسوة هذا الفراق، البيت الذي أحببناه جدا وشاركنا بأجمل الذكريات.
ـ نحن نتحدث عن الحنين والحب والذكريات، لكن صاحب العمارة لا تهمه هذه الأشياء، كان يؤجرها بثمن ضئيل والآن سيهدمها ويعيد بناءها ليحظى بوافر الأموال.
ـ سيحظى بوافر الأموال ونصبح بالشارع. فلن نجد شققا في متناولنا أبدا... أنا تحديدا سأغدو في الشارع، كيف لامرأة بهذا العمر أن تتحمل.
تقول شهد: لن تكوني في الشارع يا خالة، سنكون معا في الفرح والشدة.
وتقول شهرزاد: سيدبّرها العلي القدير. اسمعي أختي، غدا العيد نقضي الجزء الأول من النهار معك وتقضين الليل معنا.
أوشك على البكاء حين يهمّان بالخروج لكني أنظر لهما والدموع بأحداقي تحكي الكثير أهمس بلطف: نعم اتفقنا.
أنظر إلى المرآة والأحزان تكتم أنفاسي: " غدا سأوصي شهرزاد أن تحتفظ بكتبي بعد رحيلي فربما يأخذ الله هذه الأمانة ويصبح لكتبي قيمة بعد مماتي". يتجه بصري لوجه يشبهني تماما فأشفق على نفسي و أواسي حالي. أنبش في أعماق الروح، فتعدو بسرعة البرق سنين مضت يتخللها تعب عذب وزمن من عصارة الروح وهبتها للإبداع واستقت منها نفسي وكان حلمي أن تستقي منها نفوس أخرى وتستغلها الإنسانية ، وتمرّ أمامي أسماء حملت بذرة الإبداع وعملت كي يفيض فيها إشراق الوجود فكان الجمال والحقيقة والحكمة . مبدعون حقيقيون عاشوا حتى فارقوا الحياة وقد غمرهم التهميش والتعتيم ولكن إبداعهم ينبض الآن بيننا، يهبنا الضياء في عتمة هذه الأيام.



عرايا تحت الشمس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمسة أخيرة باللون المائي أضيفها فيستدير وجه الشمس ثم تشرق اللوحة
وتبرز فيها امرأة وابنها عرايا فوق العشب. الأم بوجهها البدر و عينيها الواسعتين.
شعر طويل فاحم يغطي جزءا من جسدها الأبيض وشفتان قرمزيتان تبتسمان ابتسامة حزينة.
يستند لها ابنها بوجهه الملائكي وعينيه الزرقاوين التي تنظر إلى السماء في طمأنينة استسلام،
قطرات ندى تنساب من أوراق الوردة الجورية التي تحاذيهما، بعض الفراشات والعصافير
والشجرة تصدر أصواتا مع عناصر الطبيعة .
الوقت ليلا وفي اللوحة صباح صارخ البهجة. لا أدري في هذه اللحظة إن كنت هذه المرأة
أم الشمس أم الوردة، الذي أدركه أني داخل اللوحة وأني محبة متسامحة،
وقد نسيت تماما أن شريك حياتي ممن لا يتزعزعون عن نمط عيشهم الميت.
بفرح طفولي أدخل الصالة:
ـ عادل لدي مفاجـأة...
لكنه لا يراني، فأكرّر:
ـ عادل عادل أتسمعني؟؟؟
أخيرا ينتبه لوجودي.
ـ لقد أكملت اللوحة...
ينظر زوجي لكلينا بلا مبالاة ثم يقول بتصنع وبعينين أزعجهما ضوء شمس الصورة:
ـ آه جميل جميل. ثم يدير وجهه ليتابع الفيلم الأمريكي الذي يتقد دماء وعنفا.
أعود لغرفة النوم وقد انتصر الهمّ على الفرحة الكبيرة، ولم أستطع هذه المرة
لا الاسترخاء ولا الصلاة ولا النوم...
تمر ساعات ثقال تفانت في القبض على صدري وشرع السواد الذي غمرني
في وشرب كأس الفوز والانتصار، إلى أن أتت رحمة الله فرشّت روحي ببعض سرّه،
أصل إلى جوهري ثم أستسلم للنوم...
نحن في شهر فيفري الجو بارد، أحيانا تبرز الشمس من السحب، أفطر وأريج فطور الصباح ،
النشوة الكونية تغمرنا، والحب والصفاء يعبئ المكان.
تحمل صغيرتي محفظتها وتودّعني بكل حنان وطيبة ذاهبة للمدرسة وأشرع في أعمالي المنزلية.
بعد ذلك أحمل الطعام للطيور في الحديقة فتعترضني أسراب من البط والإوز بتوق،
حين أنثر الحَب بسعادة أسمع طرقا على الباب.
ـ صباح الخير.
ـ صباح الخير، آه نورهان!
ـ هي بعينها.
ـ يا مرحبا، يا مرحبا... والله مفاجأة من حوالي سنة لم أرك رغم أن المسافة
بيننا لا تفوق الخمس كيلومترات.
ـ والله معك حق، أنا مقصّرة، أعترف، لكن صدقيني دائما أحن لتلك الأيام الخوالي
أيام المعهد، ولصاحبة الصوت الساحر شمس الخميري.
أضحك مبتهجة. ثم ندخل معا إلى الصالون نشرب القهوة ونواصل الحديث:
ـ نورهان كيف حالك؟ وما هي أخبارك؟
ـ أنا بخير جدا؟ بعد أسابيع سأتزوج. وقد جئت لأدعوك.
ـ صحيح؟ هذا خبر مفرح. ألف ألف مبروك. أرجو أن العريس هو ذاته ياسين حبيبك.
ـ هو بذاته
ـ ألفين مبروك.
ـ وأنت ما هي أخبارك؟
ـ الحمد لله على كل شيء. ابنتي الآن في السنة الخامسة ابتدائي وهي صديقتي،
وأنا أرسم وهذا كل شيء.
ـ ترسمين؟ هذا رائع. أعلم كم أنت فنانة ورقيقة وجميلة منذ طفولتك...
بالمناسبة الرسام جوهر يوسف اشترى منذ أشهر بيتا بجوارنا يبدو أن جوّ ريفنا راق له.
ـ أحقا؟
أصمت قليلا ثم أقول:
ـ ليتني أقابله ليعطيني رأيه في لوحتي!
ـ تحبين رؤيته؟ اليوم الخميس. هو يكون بالبيت يوم الأحد. إن شئت تعالي
إلى منزلي وسأدلك على بيته. شمس أعتذر الآن فأنا على عجلة من أمري الآن سأراك قريبا أكيد.
تضع الاستدعاء على الطاولة وتنصرف.
يأتي صباح يوم الأحد، دافئ مشمس، أضع اللوحة في ملف وأعبر
حقول اللوز والمشمش متنعّمة بروائحه وبرؤية أغصان الأشجار الي بدأت
تبشر ببعض الأوراق الصغيرة الخضراء , يزعج فرحتي أحيانا بعض الناس
الذين يأكلهم الفضول لمعرفة وجهتي وما الشيء الذي بالملف ثم أمتطي سيارة أجرة.
أبلغ بيت صديقتي، أبقى برفقتها قليلا تنبهني مستغربة أن أحد فضولي قريتي
يتبعني متخفيا... أبتسم غير مهتمة. تودعني نورهان واعدة بزيارة قريبة .
أطرق باب الرسام جوهر يوسف بيد مرتجفة وبعد قليل تطلّ امرأة لا أدري
إن كانت زوجة الرسام أم قريبته
أقول بصوت متلعثم منهك
ـ صباح النور, عفوا إن كان الرسام جوهر يوسف هنا فأنا أريد مقابلته لو سمحت...
تجيب وقد امتزج بوجهها الاستغراب والطيبة
ـ هو هنا... حسنا سأخبره
أقف وقلبي يرتجف وفكري يعاتبني، كيف أعرض نفسي لهذا الإحراج.
شجرة التوت التي بالحديقة التي بدأت أغصانها تخضر وتنبؤ بولادة جديدة،
روحها تؤنسني وتمنحني طاقة تحدّ وقوة.
ويظهر بهالة الوقار والطيبة وبنور وجهه ونبل روحه يقول:
ـ مرحبا آنستي, سيدتي. هل من خدمة أقدمها؟
لا أدري كم دق قلبي من مرة في الثانية ، ولا كيف تم ابتلاع ريقي
ـ أستاذ، الحقيقة أنا محرجة جدا... منذ أيام رسمت لوحة وقد أحسست
أني وضعت فيها شيئا مختلفا عمّا رسمته في لوحاتي السابقة ...
قلت أريك إياها لو يسمح وقتك...
ـ تفضلي إن شئت إلى الداخل.
ـ آسفة لا أستطيع...
ـ طيب أرني إياها
أبعد الملف عن اللوحة فيتمعن ذاهلا مأخوذا.
وتمضي دقائق وكلانا صامت... فقط أصغي لروحه السابحة في بحر لم أتوصل إلى الغوص فيه،
و بصوت خافت وهادئ جدا يقول:
_ إن الرسم الذي يمنح النفس جمالها وللحقيقة عمقها هو الإبداع بعينه...
أرى في عراء الأجساد الحقيقة الخالية من كل الحجب والزيف...
الشمس هي الأم العظيمة الغفورة وهي الحق التي يبهج الروح الجميلة
ويصدم النفوس المظلمة...
أرى الطهر، الحنوّ، والأمل، والحب ... الألوان متناغمة وساحرة تجعلنا
نحلّق في عالم حقيقي أبدي سامي، عالم حكمته أن نكون متصلين بالوجود
وأن الإبداع يأتي من هناك ليعبر من خلالنا . اسمعي يا...
ـ شمس.
ـ واسمك شمس أيضا! يا شمس هذا يسمى إبداعا حقيقيا. ولكن هل تكفي هذه الكلمات
إلى وصف هذا الجمال وهذا العمق... أعيديها لي قبل الخامس من مارس
لأن يوم خمسة مارس سيقام معرض لي وستكون هذه اللوحة برفقة لوحاتي.
أعود إلى بيتي وأنا أرى كل الأرض جنانا وكل عبادها ملائكة، ما أجمل
أن تجد الروح روحا تشبهها وتشاركها السباحة في العالم الأسمى...
حيث السكينة وشعاع الأنوار... ما أعذب أن تقدرك نفس شاسعة
تؤمن أن الفن يأتي من الكل ليخرج منا ويفهم جيدا أننا قطرات ننصهر
في بحر شاسع هو الوجود، هو الله . أضحك بسخرية حين أسترجع وجه
خالي شكري حين رأى لوحتي أمس، لقد قال أني خيبت أمله، وأن هذه اللوحة
دعاية للكفر والدعارة، في حين كانت عيناه تأكل جسد المرأة المرسومة.
الليل يخيم، وبرده يمحو دفء النهار تماما والشربة تكاد تحضر...
أريج تدرس في غرفتها و فجأة مفتاح الباب يتحرك...
ـ مرحبا عادل.
ـ .........
ـ عادل هل هناك أمر أخبرني؟
يصمت ثم يقول:
ـ هناك مصائب تحدث وأنا الطرطور المغفل الأعمى
ـ ماذا حصل؟
ـ ماذا حصل؟ أنت قولي لي ماذا حصل بينك وبين عشيقك جوهر
يوسف اليوم حين ذهبت لبيته؟
ـ عشيقي؟!!! لقد ذهبت لأريه لوحتي وكنت سأخبرك.
ـ كنت ستخبريني؟ ولماذا لم تخبريني قبل الذهاب؟؟
ـ لا أدري وأنا هنا مخطئة فقد كان من الأحسن أن أخبرك آسفة جدا.
ـ خبر علاقتك بالرسام ملأ القرية وعائلتك أيضا على علم، فقد كنت
الآن عندهم لأطلعهم على حقيقتك.
يأخذ اللوحة والغضب يتطاير من عينيه.
ـ هذه اللوحة التي تشهر بعهرك وتجعلني أضحوكة بين الناس لن ترينها بعد اليوم...
ـ عادل... عادل... أعطني لوحتي أرجوك... عادل عادل.
لكنه يذهب دون أن يدير ظهره.
لم أستطع كبت الشهقات ولا اهتزاز صدري. أنتبه أن أريج تمسح دموعي فأحتضنها...
تقول بصوت متأثر متقطع:
ـ ماما لا تبكي أرجوك. أنا أعلم أن لديك أحاسيس رقراقة، وطِيبة نادرا
ما توجد في هذا الزمان... ماما لا عليك أنت أم صالحة وأبي أيضا يحبك فقط
هو غاضب الآن. هي غمامة وستنتهي... ثقي أنك فنانة... أنا أخبر أصحابي
دائما أن أمي فنانة في الغناء والرسم...
ـ حبيبتي ... أريج...
أحتضنها ثم أنهض لإطفاء الموقد.
تمر دقائق من القنوط والألم والحيرة، وأتمعن وجه ابنتي الذي اصفرّ كثيرا
وذبل وهذه المرة أنا من تقول:
ـ حبيبتي ...غمامة صيف وستزول، سيهدأ أبوك وأكيد سيعود ...
هل يمكن لأب أن يبتعد عن ابنة بهذا الجمال وهذه الرقة؟
تحاول ابنتي أن تجلس على مكتبها ولكن جرس الهاتف يرن.
صوت جاف خالي من أي حب يقول
ـ ألو
ـ ألو...مرحبا
ـ أهلا... منى كيف حالك وحال أبي وأمي
ـ والله حالنا لا يسر....
ـ هل هناك مشكلة لا سمح الله؟
ـ نعم... أنت... لا تصورين حال والديك بعد أن سمعا بفعلتك.
ـ آه الآن فهمت... أنت أختي الكبرى وأحب أن تفهميني...
ـ لا أريد أن أفهم شيء، هناك من شاهدك تخرجين من بيت ذلك الرسام...
ـ ولكن أنا...
ـ اتصلت بك لأقول انسي أنه لديك عائلة
ـ وأمي هل صدقت أمي؟؟؟
تقطع منى المكالمة بلا أدنى رحمة.
أحاو ل طويلا الاتصال بأمي و أخيرا تجيبني وبعد أن ينفذ صبري
ـ ماذا تردين مني اللآن؟؟ يا للعار لا أصدق أنك شمس ابنتي العاقلة
الرصينة نحن مصدومون، نحن في مصيبة ؟؟ لماذا فعلت ما فعلت ؟
زوجك كنز، فلماذا حطمته؟ وأبوك، والله سيموت أتفهمين سيموت؟
ـ ماما أنتم مخطئون جدا... أمي أريد أن أكلم أبي
ـ دعي أباك وشأنه وأرجوك لا تزورينا... ثم تقول بصوت متقطع به بعض الحنان ...
أقصد زورينا بعد أن تهدأ الأمور...
ويشتد الضيق بصدري والألم برأسي حتى كاد ينفجر وتركض بأعصابي
الأشباح وتشتعل النيران بعروقي ثم تتراخى عضلاتي وتلف بي البيت.
وحين ينتصف الليل أجدني مبللة بالماء وماء الزهر وقد جلست ابنتي قبالتي
ممسكة بيدي مرعوبة الفؤاد شاحبة الوجه محدقة بعينين جامدتين و يأتي الصباح
وتسوق لنا الأقدار نورهان فتكون أحسن عون في أيام المرض والشدة تداوم
فيها ذهابا وإيابا من قريتنا لقريتها لمدة ثلاث أيام. وفي اليوم الرابع
وفي حين كنت ألح على صديقتي للذهاب للنظر في مصالحها مدعية
أنني قد تماثلت للشفاء، إذ بالهاتف يرن.
ـ ألو من ؟
صوت يتكلم بهدوء ورقّة
ـ أنا عبد الرزاق زميل زوجك... الحقيقة قابلته البارحة وحدثني عن كل شيء...
لو سمحت أريد أن أساهم في إزالة خلافكما
بصوت حزين وخافت أقول.
ـ أهلا بالأستاذ عبد الرزاق. أشكر إنسانك... أريد أن أوضح
أن علاقتنا من قبل فاترة جدا فقد اكتشفنا أننا على طرفي نقيض.
ـ أدرك ذلك جيدا، لكن وجود طفلة بينكما لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار...
ـ آه... لا يكسر روحي إلا ذلك الأمر
ـ أولا أريد أن أبشرك أن اللوحة ستعود لك
ـ أحقا؟ أقول بفرح أزاح الغم فجأة.
ـ نعم... الحقيقة عادل باعني اللوحة منذ أيام ليسدد بعض ديونه وكنت أجهل أنها لك...
والبارحة علمت وسآتي قريبا مع عادل وأعطيك لوحتك.
تخنقني العبرة.
ـ لا أدري ماذا أقول أنت إنسان شهم نبيل... نكاد نفقد هذه القيم
ـ اسمعي أختي، أنت إنسانة حقيقية ومبدعة في زمن يهمّش فيه الإبداع الحقيقي...
وامرأة نقية في وقت لا يدفع فيه سوى الشرفاء ثمن الفساد والجهل والفتن والأحقاد.
ـ شكرا أخي العزيز... قصّتي هذه تذكّرني كم هي شعوبنا لعبة في أيادي من يزرعون داخلهم الفتن.
مازلنا نغط ونتلهّى وتنطلي علينا الحيّل، قلوبنا عمياء عن الحقيقة لا تبصر بنور
الكائن الداخلي، لذلك لا غرابة أن نظلم من قبل الأنظمة المستبدة
أو العدد القليل من الصهاينة. لا غرابة أبدا أن نقهر كل هذا القهر.

ومثل كل الأشهر تتعاقب أيام فيفري بأوجاعها الكثيرة ولحظات فرحها القليلة.
ويأتي أول يوم في شهر مارس، وتتسلل شمس صباحه الدافئة إلى المطبخ،
أوهم نفسي كالعادة أن القادم أحلى وأنا أنظر عبر الزجاج إلى أريج تمشي
متبسمة صحبة أبيها وقد حمل عنها المحفظة... ثم أشغل سنفونية لموزار...
وألمس الفرشاة... وأبدأ في رسم لوحة جديدة...



أيها الأحياء تحت التراب سلاما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى أرواح شهداء الحرية في كل الوطن العربي[/left][/overline]
أستيقظ على أصوات الرياح القوية تحدث الهلع في كل ما تحت قبضتها وتمدّ
مخالبها لشبّاك غرفتي تفتحه، فتظهر شجرة اللوز المزهرة مرتبكة مذعورة
وقد سقط عنها عدد من الأزهار. أجراس رأسي تدق بسرعة، والألم يجعلني
أنهض من السرير بصعوبة شديدة لأحكم غلق الشباك... الطقس شديد
البرودة رغم أن مارس قد هلّ منذ أيام... في الأمس القريب لم أكن أرى
في الرياح هلعا ولا في صوتها رعبا... كنت أشدو مع ترنيماتها وأتناغم
مع جنونها الجميل... أوجاع الحلق تلازمني مع أمراض أخرى أبت أن تتخلى عن مواساتي .
في حقيبتي المعلقة حذو السرير مرآة أخرجها لأرى بقايا وجهي...
العينان الواسعتان النضرة أصبحت ذابلة ذاهلة، البشرة ناصعة البياض
غدت شاحبة صفراء ... والشعر الجميل بهت لونه وانطفأ لمعانه واشتاق لمداعبة مشطه.
يقتحم غرفتي صوت خالتي:
_ كيف حال ثُريّا اليوم؟
_ على ما هي عليه. تجيبها أمي
_ يا لسخرية الأقدار... البارحة لحقت ليلى بابنها بعد شهرين من وفاته. ماتت حسرة وحزنا عليه...
المسكينة كانت تستعد للاحتفال بزواجه من ثريّا هذه العطلة... والآن هما تحت التراب.
ـ آآآآآآآآآه حسرتي على شبابك يا عزيز. تقول أمي بحزن شديد، وتضيف محاولة إخبات صوتها، مسكينة
ابنتي، ما كدنا نهنأ باستفاقتها قليلا من فجيعة حبيبها حتى عاودتها الأزمة إثر موت أمه...
زهرة، ثريّا تموت يوما بعد يوم... ابنتي ستضيع أخبريني ماذا أفعل؟ آه أخيتي، رافقيني إلى المطبخ ،
سأعدّ قهوة بماء الزهر.
ـ إيه أختاه ليس بيدنا إلا الدعاء... سأشرب معك قهوة وأغادر لأزور ابن فاطمة... قيل أنه خرج البارحة
من المستشفى، أخرجوا من صدره الرصاصة، ونجا بأعجوبة والحمد لله... ليت "عزيز" نجا أيضا،
المسكين كان أيضا في مظاهرة سلميّة حين أطلقوا عليه النار.
أُحس أن نيران الرصاص تخترقني الآن وتمزقني.
أفتح النافذة وأطل لعلّي أجد متنفّسا، لكني لا أجد إلا ما خلّفه دمار الرياح التي مازالت تدوّي... أطلق
زفرة طويلة آملة بإفراغ خباياي لكن صدأ الحرقة يحجب لؤلؤ القلب... أخاطب نفسي أرثيها وأرثي من
ترك دنيانا للأبد: البارحة يا حبيبي رقدت حذوك أمك الحنون وقد كانت تحمل داخلها روحك وروحها معا.
كنتُ يا حبيبي ألتقي بها فأستنشق عبيرك فيها وتشم عطرك بي، ولكن البارحة شاءت العناية الإلهية أن
أودّعها هي أيضا وإلى الأبد، وقد حمّلتها سلامي الكبير وشوقي اللامتناهي إليك وبعض الورد الأبيض الذي
تعشقه... اليوم مرّ على قتلك شهران تماما يا حبيبي...
تنتابني نوبة من السعال فأغلق النافذة. وأتّجه إلى المطبخ مثقلة الخطى مرتعشة العضلات، بصوت أبحّ
ألقي على أمي تحية الصباح.
ـ كيف حالك ماما ثريّا؟ تقول أمي بحنان:
ـ بخير.
ـ فجر اتصل، تقول بعد صمت وتنهيدة، يسأل عنك ولكنك كنت نائمة وجوالك مغلق، كان حاضرا أمس بجنازة
المرحومة حين أغمي عليك.
ـ شكرا له ... كم الساعة الآن ماما؟
ـ أكثر من العاشرة بقليل.
_ أمي أنا مختنقة أريد الخروج.
تصمت ولكني أستمع لقلبها يصرخ وجعا، ثم تقول:
ـ حبيبتي... مرضك لا يلائمه البكاء ولا الخروج للبرد.
_ ليس بيدي يا أمي.
ـ تدرين؟ فجر يذكرني بالمرحوم عزيز كثيرا... تقول وهي تقترب منّي.
ـ نعم .... وأنا أيضا... فهو صديقه الوحيد... لكن ربما فجر لا يشبه عزيز لكننا نراه
كذلك لأننا نحب أن نراه فيه.
_ ربما بنيتي... أرجوك ثريّا كلي صحن محلبية قبل الخروج
_ لا ماما أرجوك...
ـ إذن أسكب لك كأس زعتر ممزوج بالعسل هو مغذّ وشاف
ـ شكرا ماما أتعبك دائما
ـ لو كان لي يا حبيبتي، ما تركت أشواك القدر تلمس خصلة من شعرك لكن ...
ـ أعرف يا حبيبة قلبي لكن تلك هي الحياة...
أرتدي شالا أبيض فوق فستاني الأسود
تقول أمي وهي تتمعن في جسمي الذي هزل كثيرا: ماما تقصدين المقبرة؟
ـ لا ماما أقصد البحيرة.
في هذه البلدة القريبة من العاصمة تنام المنطقة الأثرية أوتينا محاذية لبحيرة كبيرة وجميلة.
تهدأ حركة الرياح بعد أن أمالت أعناق الأشجار وأسقطت الكثير من ثمارها.
أحرّك قدميّ متأرجحة القلب، يأخذني الخيال بعيدا فكأني برفقة عزيز نتحد، نتناجى، نغنّي.
أبلغ البحيرة حيث كنا نلتقي دائما وقد أنهكني المسير وضيّق أنفاسي...
صوت الناي القريب يذيب القلب...أتنفس الصعداء مغمضة العينين علني أنعم ببعض الراحة
لكن الزمن يقفز بي إلى الثالث من ديسمبر الماضي... كان حينها الجو دافئا هادئا،
والسماء والأرض تتناجيان حين قلت لعزيز:
_ تأمل الطبيعة كم هي جميلة ومتناغمة مع الوجود. أنصت لها... شمّ عبيرها... وحده الإنسان يدمر ويخرّب
وينهب ويقتل وينزعج جدا من فهم نفسه ... همّه دائما المال والسلطة و العالم الخارجي.
_ حبيبتي، عبّاد السلطة والمال يسخرون من هذه القيم وهذا العالم الجميل الذي تتحدثين عنه... هم
مستعدون لسحق كل البشر للمحافظة على كراسيهم وأموالهم.
_ هذا الدكتاتور نحن من صنعناه وذاك العدوّ نحن من سمحنا له باقتحامنا...
قال لي حينها وهو يمسك خصلة من شعري وعيناه تضطرم حبا:
_ هناك شموع صغيرة اليوم تحاول إنارة الظلام الشاسع ربما الغد أجمل حبيبتي . لكن دعينا من هذا الآن.
اليوم عيد ميلادك سنشعل الآن شمعتنا ونشم الورد الأبيض ونغنّي.
أنتبه أني أبتسم متوجعة وحيدة جالسة أمام البحيرة أنظر إلى وجهها الذي تعلوه موجات كنت يوما أُسحر
بجمالها.أرمي بصري في عمقها علني أظفر ببعض الانفراج مفتّشة في داخلي عني لكن اليأس الذي يجثم
على صدري يحرمني الوصول إلىّ... تنفرد بي أشباح التعاسة فتعبث بي كما تشاء. أحاول أن أدندن بأغنية
كان يغنيها لي عزيز "الأماكن كلها مشتاقة لك"، لكن حنجرتي تؤلمني وصوتي يتمنّع عليّ.
أحسّ فجأة يدا تلمس كتفي يقفز قلبي وأقول:
_ عزيز... وسرعان ما أنتبه أن عزيز غادر هذه الحياة إلى الأبد ولن يعود...
يقول فجر بصوت حزين...
_ ثُريّا كيف جئت إلى هنا وأنت بهذه الحالة؟
_ فجر؟ كيف علمت أني هنا؟
_ أمك... أظن أنها لا تستحق أن تعذبيها كل هذا العذاب
_ أنا لا أقصد ... أنا أحترق، أنا أموت .أٌقول باكية
_أعلم. يقول بأسى شديد. وأحس بك جيدا لكن تلك مشيئة الله أختاه... أرجوك... فكري فيك و في عائلتك
ـ نعم... هيا نعود.
ـ أنا أيضا أفتقده جدا... تعلمين أنه صديقي الوحيد وأنهم أصابوه
وهو بجواري ومات وهو في حضني. يقول وفي صوته حزن كبير.
نسير قليلا ثم نقف بحذو المسرح الأثري الروماني. العازف ما زال ينوح بنايه وما زالت الطبيعة تستعذب
حزنه الممزوج بالأمل.
_ هل أنت مواظبة على دواء الحنجرة والضغط؟ يقول فجر
_ قليلا...
_ عديني بأنك ستواظبين.
أصمت قليلا ثم أقول: أعدك
يسود الصمت قليلا: غدا صباحا أعود إلى مدينة بوسالم، تلاميذي بحاجة لي...
_ بهذه السرعة.
ـ لقد غبت كثيرا عن المعهد بسبب الثورة وبسبب موت الأعزّاء ...
أنت أيضا يجب أن تعودي إلى عملك، إنه قريب أما أنا فمدينة بوسالم بعيدة، يبتسم بطيبة ويواصل:
ولكنها جميلة بأناسها الطيبين.
_ أعدك أخي أني سأحاول أن أشفى وبعدها إن شاء الله سأعود لتلاميذي.
نواصل السير صامتين... الرصانة والرجولة تغمران وجهه الشاحب الصامت
الذي يخفي كمّا هائلا من الحزن والألم ربما الصمت أبلغ من الكلام فكثيرا ما كانت الكلمات خالية
من المعاني وكم وُجدت معاني بين الكلمات.
أفتح الباب الخارجي ببطء. التلفاز مفتوح، أصوات أبويّ وأخي وأصوات الملاعق والصحون ...
أدخل الصالة على صوت أخي يوسف معلقا على مجازر طاغية من طغاة هذا الزمن التي ينقلها التلفزيون.
_أنظرا ما يفعله العربي بأخيه العربي...
_ كل لحظة هناك قتلى و كل لحظة هناك أمل أن النصر اقترب على أعداء الشعوب...
ويصمت فجأة حين ينتبه لدخولي ويغّير القناة مرحّبا بي:
_ أهلا ثريا، كيف كانت النزهة؟
_ السلام عليكم... نزهة جميلة. أقول باسمة... يوسف هل هدأت الأمور الآن في معهدكم ...
_ اليوم الأمور هادئة لكن الغد لا أعلم ما يخفون هؤلاء أتباع النظام القديم... لقد خربوا ونهبوا
وروعوا وقتلوا بلا رحمة
_ كم أثبت بنو بلدنا شجاعتهم وشهامتهم وتآزرهم... بإذن الله ستفشل مخططات هؤلاء ... تقول أمي ثم
تضيف: اجلسي حبيبتي لنأكل معا، سأجلب لك الشربة فهذا الكسكسي لا يلائم حنجرتك .
_ أكملي فطورك ماما، سأسكب لنفسي.
نفطر و نشرب الشاي ثم أبقى مع يوسف أشاركه مراجعة دروس الفلسفة تشجيعا له فالامتحانات على
الأبواب... تطل علينا أمي من حين لآخر حاملة غلالا أو عصيرا وقلبها يستبشر خيرا بهذا التطور
الملحوظ الذي منّ به الله على ابنتها.
بعد الغروب أصعد إلى السطح... المسرح الأثري والبحيرة بالكاد أراهما... أضواء سيدي بوسعيد تتلألأ في
شموخ وتحد. أهمس لنفسي: "ها قد نجحت الثورة تُرى هل ننجح في أن نحب بعضنا ونتفاهم ولا نقع في فخ
الفتن؟؟" ثم أتجه ببصري للسماء راجية ألا تحجب شوائب الدنيا عني أنوار الله ... أحس بتعب شديد... أنزل
السلالم ...ألقي بجسدي على السرير أنام وكأني لم أنم منذ سنين.
يتململ الصباح فاتحا أجفانه فتشرق ضياء على الأرض.. أفتح الباب الخارجي، فألمح فجر مارا بعجالة
أمام منزلنا حاملا محفظته. نبتسم سويا للصدفة الجميلة ونتبادل التحية...يوصيني بنفسي ويعدني بأننا
سنكون دوما على اتصال ... يسلم ويبتعد... أهمّ بالبكاء لكني أتماسك وأتمعن بخيوط الشمس الحالمة
الفرحة وهي تشقّ السحب ثم أرى حمامتين: إحداهما سوداء والأخرى بيضاء تطوفان وتتسابقان ، أحيانا
تعلو السوداء وتتوارى البيضاء وأحيانا تختفي السوداء وتشرق البيضاء.




الصّنوبر الأبيض
ـــــــــــــــــــــــــــــ

تخترق الكون رائحة الأرض المبلّلة التي تتابع رقصتها الدائمة بنا،
وتتناثر الثلوج فوق بيتنا المنزوي المشرف على التلال....
تحت شجرة الصنوبر، ألمس جذعها الذي تغمره الثلوج كريش ناعم،
وأحس لمسات الثلج شفافة على شعري تداعبه...
يجتاحني الحنين فأستحضر أمي بوجهها الوردي اللين
وشعرها الأشقر الطويل وعينيها الزرقاوين،
كم كانت ترفض لعبي مع الثلج ... أحاول أن أتذكر
"روزان" و " ماريا " أختيّ التوأمين... ترى كيف أصبحتا؟
كم تمنيت أن أراهما بالميدعة المدرسية والحقيبة !!!
وأبي الغالي... هل زال غضبه عني؟ هل مازال مصرا أنه أصاب
حين خيّرني بين عائلتي أو الزواج بمن أحبّ...
أشاهد الصنوبرة منتظرة جوابا... لا تجيب ولكنها تنشر عطورا....
" أيتها الصنوبرة ليتني كنت مثلك دون دين أو طائفة!
فليس بينكم من يقول أنا الأفضل...
تختلف ألوانكم و أشكالكم... تسبّحون و تزهرون فقط...
يا عزيزتي إن الله يحبنا دائما مهما كانت الطريقة
التي اخترناها للتعبير عن حبّنا له "...
أمسح دموعي وأمسك حفنة ثلج، أنثرها بعيدا...
على أغصان شجرة البرتقال تختبئ العصافير من البرد
مرسلة زقزقة خفيفة تتجاوب معها روائح عطرة يبعثها
الإكليل والزعتر التي تنبجس من تحت طبقة رقيقة من الثلوج...
أعود إلى المنزل تتبعني القطة المبللة.
الحساء مازال يغلي على نار هادئة وبيرم لا يزال نائما،
أوقد المدفأة فتركض القطة وتقبع بقربها...
يفيق بيرم فأسرع نحوه وأشرع في إرضاعه،
يشرق بداخلي ضوء ينسيني كل آلامي...
أحس النبض المتواصل للأكوان مع دقات كياني...
الأشجار الآن بيضاء تماما...
تتصاعد روائح الإكليل والزعتر من النافذة فتنعشني أكثر...
القدر على الموقد يحدث أنغاما...القطة تستمر في بعث موسيقى حنونة...
يعود بيرم مرة أخرى للنوم مستسلما منسجما مع الوجود...
أغطيه وأدخل المطبخ فأجد الحساء جاهزا...
يدخل أحمد، ينزع معطفه المبلّل، يقبّل ابننا بكل حب،
يلامس شعري الذهبي وأتنسّم عطر النرجس في ثيابه،
تنظر روحي إلى أعماق روحه،
فيحس كلانا أن تلك اللحظة هي كل ما نملك...




مرآة الروح...
ــــــــــــــــــــــــــ

الآن وجهي على بركة صغيرة في حديقتنا...
منذ حين كان المطر ينهمر على كل شيء، وكان وجهي مرفوعا باتجاه السماء
فتتقاطر المياه من وجنتيّ ومن شعري المنسدل على كتفي.
كان الصوت يخرج من كياني داعيا مبتهلا فترى روحي قطرات المطر حبات لؤلؤ...
في مياه البركة وجهي...ثم فجأة أرى فيها القمر...
تغمرني حالة حب فأقفز فرحة حتى تلمس قدماي ماء البركة، فيغيب القمر...
أحزن لضياعه... إنه هناك في السماء منير مستدير... وإنه هنا مشعّ في قلبي...
فلم نتشبث عادة بالظلال وننسى الحقيقة؟
في صفاء السماء تبدو النجوم أكثر لمعانا...
أنسى كل شيء أشارك الكائنات الاحتفال...
لحواسي أن تبقى متيقّظة كي لا تتسلل الأفكار التي تحاول تعطيلها...
لكن الأفكار جرفتني نحو الماضي، وجعلتني أستعيد خيبات من أحباء,
وجراح الأقربين بالغة الألم.
أحس لمسات رقيقة على ساقي ... إنها ريحانة ...
بعد أن أجلب لها بعض الجبنة من الداخل، تصعد درجات السلم بكل خفة...
ثم تدير لي رأسها لتقول بعينييها شكرا... عادت بي الذاكرة إلى صباح هذا اليوم...
حين أهانتني جارتي دون أي داع. تصاعدت الدماء إلى رأسي غيظا
فوعدت نفسي بمقاطعتها نهائيا... ..أدخل المطبخ وأضع الإبريق على الموقد...
بعد لحظات أجلس على السرير حاملة بيدي كوب ينسون ساخن فأجد ريحانة متكورة فوقه...
من خلال الزجاج أرى لقمر بوضوح وألمح شجرة الزيتون التي تحركها الرياح فترقص في صبر واستسلام...
تخيلت لو كنت تلك الشجرة. وتذكرت ما قاله أحد الحكماء عن إحساسها
ويقظتها وفزعها لو مر بها أحد الحطابين...
أنظر مرة أخرى إلى المستدير المشع في السماء فيحضرني وجه أبي الروحي حين قال:
"إذا أردت أن تبلغي الصفاء عليك بالمجهود المتواصل يا ابنتي..فان الوجود ليس بعيدا،
إنه قريب جدا ويغمرنا حينما نكون غير غافلين"... .
في الصباح أقوم نشطة... طاقة بنفسجية تغمرني...تسبقني ريحانة إلى الشرفة...
ألمح جارتي تلك..أبتسم لها ونقول معا "صباح الخير"...
تنزل ريحانة إلى الحديقة فألحق بها... رائحة الحبق تغمر المكان..
أوراق الزيتون تبدو أكثر حسنا .. ورق التوت أشد خضرة...
العشب النديّ يضفي على الأرض سحرا ...
و تزهر أغصان اللوز فيزهر قلبي معها...
تنظر لي ريحانة مستعدة للقفز على كتفي..مازال صوت من داخلها يرسل نغمات حب...
تغوص عيناها في روحي فلا أغدو أميّز إن كنت روضة أو ريحانة...



عدد النصوص : ( 14 ) نص





المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
أكاديمية الفينيق للأدب العربي

أضواء منسيّة ـ روضة الفارسي
المادة محمية بموجب حقوق المؤلف عضو تجمع أكاديميّة الفينيق لحماية الحقوق الابداعية
رقم الايداع : ر.ف / 9 / 2011
تاريخ الايداع : 19 - 6 - 2011








  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:27 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط