سلسلة إبحارات فكر بشرى بدر في نصوص الفينيقيين نقداً ودراسة وقراءة وتحليل - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: رفيف (آخر رد :صبري الصبري)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-06-2010, 04:48 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سلطان الزيادنة
عضو مؤسس
أكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع الأدبي والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية سلطان الزيادنة

افتراضي سلسلة إبحارات فكر بشرى بدر في نصوص الفينيقيين نقداً ودراسة وقراءة وتحليل



1. بين يديّ .. نصّ / قمحة / إبراهيم سعيد الجاف

قمحة

استردني

استردني ايها المطر

وحدي

وحدي اكتملت للمقاتل

حين عدت

مكتظا بالنهايات

في وجهك تهاديت


لوجهك


تاركا تلاواتي

سبيات

في موقد الحنين

مسرفا


أسترسل هبوبي


أتبوب انحدارات أثري

مستأرضا خطواتي

ذاهبا

أسيل جذوري


فأنا أنباني


الرماد حدودي

وفاجأتني ترهاتاتي

وهنيهات الصخب

مباحا

حين تساقطت مباحا

وأنا أخطو

نزهات خانتها السواقي

استردني أيها المطر

استردني ايها المطر

من فوهة في وجهي لفوهة في وجهك

فأنا من وجهك

ألج الفرح واكتمال الفصول

مدى اقترحني

جرجروا زمانه من ميازيب السطور

كذبا

كذبا احترفت

النوم بين ذئبين

متدليا فوق الليل


موصودا بالزمان



فاملأني ترابا


فاملأني ترابا


فاملأني قمحا


فاملأني قمحا


واستدرج جسدي


لاستمطار المنافي


وألبسني


الأول من بقيتي


والآخر من بقيتي


حتى أجيء الرماد


وأجمعني متوكئا


مداخل السلب


وأتبنى قمحة


أنحل فيها فصولي




إبراهيم سعيد الجاف



****************************



ضوء على النصّ :

ما شدّني للنصّ هو كثرة الخلاف فيه و الرفض له شعراً .. و كأنّنا نسينا

أنّ مجال الأدب مفتوح لكل إبداع ، و منفتح على كلّ جديد مادام لا يخرج

عن الضوابط الـّتي لا تعني قيوداً تحكم الجميع بالتزامها و بتزمـّت ..

و لكلّ ٍمنهج و خَطـَه لذاته أو سار فيه على خطا غيره ... و ألاّ أستسيغ

مشية الآخر لا يمنحني حقّ إخراجه عن دربه أو أن أقحم في خطابه مفردات

لا تليق بموقع الأدب و لا الأديب .. و للشاعر أيّ شاعر أن ينهل من المناهل

الـّتي ارتأى فيها الصفاء .. فيوسـّع مداركه و يطرح رؤيته الجديدة للأمور طرحاً

واضحاً أو من وراء غلالات الصور البعيدة و الرموز العميقة .. و ليس لنا سوى

سوى المرور بإبداعه .. فإذا ما راقنا شكرنا و أبدينا الإعجاب و إذا لم يصادف

أثراً فينا نطلب توضيحاً أو نحاول أخرى أو نمرّ دون تسفيه و قدح ..

و للـعـدل أقول : إنّ النصّ الأغنى هو الـّذي تتعدّد قراءاته و تتشـعـّب رؤاه ..

فإذا ما أعاد الفرد منـّا قراءته بعد حين كشف فيه جماليـّات غابت عنه في القراءة الأولى ..

و بعيداً عن الاتـّهام بالتكتـّل أو المحاباة أرى أنّ نصّ الجاف فيه مضامين تختلف

دلالاتها من قارئ لآخر .. و قد سبقه كثيرون في هذا المجال من أمثال أمل دنقل و محمود

درويش في بعض نصوصه .. و يبقى لكلّ شاعر معجمه الخاص و عالمه الشعريّ

الـّذي لا يمكننا ولوجه إلاّ بامتلاك دلالات مفردات معجمه ..

و الشاعر إبراهيم الجاف شاعر لعصر ربـّما سيأتي و ربـّما لن يكون .. لكنـّه يحاول

سبق عصره و الخروج عن الاعتياد .. فإذا أردنا المحاولة معه فليكن .. و لكن ليس

لنا أن نضع في دربه الحجارة .. و نغلق عن صوته الأسماع .. و بخاصـّة إذا رأينا

أنّ كثيراً من الشعراء يغربون إغرابه و معظمهم من اليمن .. و هذا لعمري يبـشّر

بتوهـّج أقوى لشعر العرب و امتداد أوسع لمساحة انتشاره ...

و حتـّى لا يؤخذ كلامي من باب الدفاع عن الشاعر الجاف .. أقول : إنـّه كان أوّل

من تلقـّى حرفي بالنقد ( الجاف ) .. و أنا لا ألتزم موقفاً معه و لا ضدّه و لكنّ التزامي

مع الحقّ و الإنصاف ليس إلاّ ...

و من قراءتي في نصـّه رأيت أنـّه ينقل لنا حالة وجدانيـّة فيها من التمرّد على المألوف

ما فيها .. هي حالة عطاء متفرّد رمز إليه بالقمحة .. و قد أجحفته الأرض حقـّه و انتقصت

قيمته فأراد العودة إلى أصل العطاء و أمه .. إلى المطر .. و من هنا نجد قوله :

استردني
استردني أيها المطر
وحدي

صعود فيه التفرّد و الحركة المعاكسة لقانون الأشياء ..

و عطاء لم يكتمل إلاً في القتال و الفداء لكنّ البشر أشبعوه موتاً

و أثقلوه بالنهايات بدل أن يكون فعل ابتداء لخير قادم و جمال ..

و هذا ما أستـشفـّه من قول القمحة :

وحدي اكتملت للمقاتل
حين عدت
مكتظا بالنهايات


ثمّ تتوالى الصور المكثـّفة و الموشـّاة بالغموض لنرى القمحة عطاء

لا يليق تكامله إلاّ مع المطر لذلك تريد العودة إليه تاركة ترجّيها العناصر

الـّتي لم تدرك أبعادها .. و رافضة تواصل حنينها إلى من يعي قيمتها ..

لذا و بحركة معاكسة أيضاً تعيد جذورها للمطر فيصير الأعلى أرضاً بعد

أن عافت أرض البشر الـّتي حاصرتها بصخب و رماد أعقمها ..

ثمّ بالخيانة استباحتها .. و غيّرت مجراها و منعت عنها الحياة ..



في وجهك تهاديت
لوجهك
تاركا تلاواتي
سبيات
في موقد الحنين
مسرفا
أسترسل هبوبي
أتبوب انحدارات أثري
مستأرضا خطواتي
ذاهبا
أسيل جذوري


فأنا أنباني
الرماد حدودي
وفاجأتني ترهاتاتي
وهنيهات الصخب
مباحا
حين تساقطت مباحا
وأنا أخطو
نزهات خانتها السواقي


و لا عجب بعدئذ أن نرى تكرار نداء مخلـّصها المطر ليبرز إلحاحها

على العودة إلى العطاء كلاّ .. لتتكامل معه بشكل جديد يفتح أبواب فرح

يأمل به الشاعر بعد أن ملّ الأمان الكاذب و عاش الخوف و الحصار و ضيق

الأرض على قمحته .. لكنّها عودة للولادة من جديد في أرض تضمّ من شرّدهم

زمن العقم و الظلم .. ولادة تنحل فيها القمحة الفصول و الزمن بما يوافق طموحها .


استردني أيها المطر
استردني ايها المطر
من فوهة في وجهي لفوهة في وجهك
فأنا من وجهك
ألج الفرح واكتمال الفصول
مدى اقترحني
جرجروا زمانه من ميازيب السطور
كذبا
كذبا احترفت
النوم بين ذئبين
متدليا فوق الليل

موصودا بالزمان
فاملأني ترابا
فاملأني ترابا
فاملأني قمحا
فاملأني قمحا
واستدرج جسدي
لاستمطار المنافي
وألبسني
الأول من بقيتي
والآخر من بقيتي
حتى أجيء الرماد
وأجمعني متوكئا
مداخل السلب
وأتبنى قمحة
أنحل فيها فصولي


و أخيراً .. بقي لي أن أقول : هكذا وصلني النصّ .. و ربّما يصل لقارئ

آخر برؤية أخرى .. تكون أغنى بالدلالات .. و بخاصّة أنّ فيه من الجماليات

ما لم أورده هنا .. إذ اكتفيت بإبراز خفايا الدلالات ..

و يبقى لكلّ رأيه كما قلت في البدء و لكن لي أن أشكر الجاف على طروحاته ..

و ليس لنا جميعاً إلاّ أن يـشدّ بعضنا على أيادي بعضنا الآخر ..

ليكون الحوار لقاءً لقطرات الفكر لا تناثراً لها في الـشتات ..

و ربّما كان في تاريخ الأدب تذكرة .. فلكم هوجم أبو تمام .. و لكم هوجم

محمد الماغوط يوم قال ( أتنفس في حذاء محارب ) و كلاهما ما فهما لبعد حين ..


2. دراسة في نصّ إدريس سراج / ترنيمات لطائري المهاجر

ترنيمات لطائري المهاجر ... للشاعر إدريس سراج ..


يبني شاعرنا النصّ على صراع بين طرفين :

( طائر روحه أو ذاته المترفـّعة و هي ذات من صنعه ) و بين الذات البشرية المفطورة

على حبّ الدنيا بما فيها ..


شجرة الكلام
معقل الريش
كبر الطير و لم يعد قادرا على البكاء .
كبرت عيناه و استقر بهما الحزن
يحوم حول أعشاشه القديمة
و ينثر ريشه العزيز
على سواد القبور .
على أنثاه الغائبة .
أقمت له في عيني نافذة
و أعددت الأكفان لمصرعه المحتمل


يقدم الطرف الأوّل في الصراع .. حيث مشهد البداية ما كان إلاّ بعد حين

طويل من بكاء جفـّف الدمع فما بقي غير الحزن .. و قد غادر الإلف أليفه و ألقاه على عتبات الألم

و الذكرى .. و في أرض جفاف بعد أن كان ريّان الروح في غابة من عطاء ..

في هذا المشهد يسود النفس الاستقرار على حال .. لكن هناك نذير بتغيـّر ما ..

مانلبث أن نراه حين يقول :


مرت أولى الفصول
مر آخر النشيد .
و كنت على مشارف البهاء
لما استكان بالوريد عطش غريب
سفر جديد .
بالباب فاتنات
يرقصن لرحيلي
يشيعنني
لكابوس ينتظرني في أول الطريق
في أول الحزن .


إذ يستيقظ الطرف الثاني / الذات البشريّة / ليصرع الأوّل بكلّ ما تقدّمه مفاتن

الدنيا من مغريات .. و ما يجيش في النفس من رغبات .. لكنّ الحذر ما زال يمنحه قدرة

السيطرة على رغباته .. فثمـّة توجـّس من صحوة يرى فيها أنّ ما كان محض كابوس ..

وهذا كفيل بجعله لا يستجيب لارضاء ما طلبته تلك الذات .. و التوافق بين الذاتين ما زال

هو السائد لأنّ لديه ما يقيه التهافت .. ففي قوله :


يخرج الطير الى أوقاتي
يمدني بصبر الأثقياء
و يهمس في حزني
سور الرحيل .
أنا هنا أو هناك
حصاري واحد
و المياه شاهدة على خصوبة الفكرة
ثم ها أنا
قد أتيت ظلا لجناحه المرتعش
و كان صوتي يتبعني
عجوزا يلهث .
أباركه في سري و أقاوم شهوتي للبكاء .
أنثاي العذاب
كيف السبيل الى مقام اللذة ؟
و أنا الدهشة لا أنتهي
أنا السؤال .
أيتها السماء الخفيضة
هبيني حزنك البديع .
كي أسيج حلمي بغمام بسيط
وأصرف عيني عن ملابسات المساء


نجد طائره قادماً من روحه ليبعث فيه الصبر و يذكره بوفاء عهده

فيه .. فيكون للطائر ما أراد .. لكن الحيرة تبقيه في حالة نجده فيها

ينزو ما بين تعاليم طائره و بين مقام يرضي ذاته البشرية ..

بما يراه فيها من دهشة .. حالة يلجأ فيها إلى البكاء .. فلا يجدي ..

فيلوذ بالسماء علـّها تمنحه حماية من ليل يحاصره .. و رقية حزن

تقيـه من تطلـّع لنشوة فرح .. حالة يتصاعد فيها صراع النفس

بين الطرفين .. و تتنازعه مشاعر متعدّدة :

.
أصوات رفيعة تحاصر كفي
فأوزع صمتي على كل النوافذ التي
سخرتني لأحلامها الملتهبة
و هذا الطائر يعود الى عيني
يعبث بكل الصور التي
أحميها من دعابات النسيان .
أيها الطائر
من تكون تلك المرأة التي تصيح بي
تبكي هجرتي و ترحل ؟
انظروا جيدا
ليكن هذا الرخام شاهدا على عذابها .
تحمل المدينة لمدادها القاتم
و ترسم أرصفة لكل المستضعفين
و لكل من خاب ظنه في العشب .
مزقت صوري و أعدت تركيبها
سقطت عيوني من كل الصور
و علا اللغط .
طائري من شباكه الصغير
ينذب هوائي
و أنا الذي
وعدت عينيه بكل الشموس و الأغاني .

أنثاي الغمام
لم أنت بديعة هذه الليلة ؟
هل نشوة ؟
أم وردة على نعشي المحتمل ؟
ثم من بعض القول الذي غنوا :
هل صادفك هذا الحلم العنيد ؟
هل لك هذا الطائرالوحيد ؟
لأكن أشد من الكلام
لأكن السراب الذي
يدثرني
من كل الرغبات المميتة .
خفف من نورك أيها الورد
فالليل دعابة ماكرة .
يدخل الطير الى حفلي الغريب
انه المستبد السعيد .
أخاتله
و أروض المكان على الغناء .
ثم ان المدينة
لن تحرم كل هؤلاء اليتامى
من البكاء العميم

و يصل التأزّم أشدّه فها هو ذا بـدء تمزيق بعض الأحزان الذكريات ..

لكنّ الحياة الحلم و التّي كانت تناديه تطلّ بوجهها تندب وحدته .. و

تبتعد عنه .. و تضمـّه إلى قافلة الحرمان مع الكثيرين .. و كانّه ما

إن اتخـّذ قراره حتّى خاب أمل طائره .. فراح يندب فرحاً كان موعوداً

بتحقـّقه .. و يبدأ اللغط من حوله عمّ اقتـرفه .. و عمّ جعله ينصر

الدنيا الحلم .. و يبقى هو في بحث عن مبرّرات في حذر و خوف ..

و يقيم تصالحاً بين طرفي الصراع .. إلى حين نجد الأوّل قد استبدّ

و تحكـّم .. مع بعض عزاء للنفس بأنّ الحياة لن تقسو في الحرمان

على اليتامى فيها .. فالبكاء وحده شيء من نعمة ..

و هناك أمل يلوح من بعيد يرى فيه شيئاً من اخضرار .. و هذا

ما يدعوه و بكلّ هدوء إلى أمر طائره بالرحيل و لو لحينٍ يتسـنّى

له فيه بعض دنيا على الرغم من الجرح الذي ما غادره بعد ..

و لكن أنـّى يكون له ذلك و هو في هذا الواقع من الضيق و الطعنات

و الهزائم و الخيبات الموروثة .. و في هذا الندم على ما ضـُيـّع من

إرث مجـد .. و كانّ الشاعر هنا يعلن أن لا سبيل للوصول إلى دنيا

فرح كانت ذات حلم .. فهو و إن توافق مع أحزانه و ذاته لبلوغ

الخلاص فثمـّة معوّقات أخرى من خارج ذاته ستكون له بالمرصاد ..

و لاتبقي له سوى امتطاء الريح و صيحة و نشيد لا يعرف متى تكون

خاتمته .. و لا أين يكون قراره بهذه الروح الفريدة و الشريدة ..

و هكذا ترتدّ النفس من صراع إلى صراع .. و تتـّسع دائرة الاغتراب

و البحث .. ليكون ما بدأ به النصّ هو نفسه ما انتهى به من حيرة

و قلق و نـشدان خلاص .. فتتحقـّق للقصيدة الوحدة بأنواعها ..

و تعود الذات إلى سجنها الـّذي حاولت منه الانفلات ..





ثمة ثقب في آخر الحلم
أسحب منه العشب و أنتهي .
خذ أوراقك أيها الطائر
و ضعني في مفترق الجرح
يدلني أرقي على واحات جديدة
من الرقص و الكلام .
هذا مهرك يتها العزلة
سقف واطئ
جلد خنزيرة ثكلى
رمح
خنجر
وسيف بلا غمد
لجد مهزوم
باحدى حروب الأندلس
ثم أوراق ارث
أنا الذي أهدرته .
أعلو كالريح
و أصيح كالمدى
ثم أرقص منتهاي القديم
فلربما أكون الطير الشريد .
اذن كيف ينتهي هذا النشيد ؟


أخوتي : ما كتبته هو قراءتي النصّ الـّذي حوى غنى و إثراء في

الدلالات و الجماليات .. و لو أردت الكشف عنها لضاقت المساحة

عليها .. لذلك اكتفيت بإلقـاء ضوء بسيط .. تاركة للقارئ البحث عن

المزيد ليذوق متعة الاكتشاف و التحليل ..

و مستميحة العذر من الشاعر إن كنت قصـّرت أو أخطأت ..

كلمة أخيرة :

نصّ أجمل ما فيه هو هذا التكثيف للمعاني و الصور الـّتي تقف خلفها دلالات كثيرة ..

و هذه الوحدة التي حقـّقها في المضمون و الشكل ..

ليكون ما فيه من صراع يرسم حالة الذات الشاعرة و حالة الكثيرين من

الأبناء اليتامى في تلك المدينة الـّتي ستبقى محض وعـد لن يتحقـّق

ما دامت الروح تردع و الواقع يصفع ..




3. دراسة في نصّ زياد السعودي ( عتمة و رصيف )


الأخ المكرم زياد السعودي :

في نصـّك يـُقرأ الكثير من أرق يسكن معظمنا .. فكأنّنا قرأنا ذواتنا

في غربتها و مواجعها و حنينها .. فهاهي ذي الذات البكر بكارة

الريف تأمل بالخير فلا يرتدّ عليها الأمل إلاّ بريح الشرور .. لتصلب

على عتبات أمل آخر بألم الخوف من أن يكون كسابقه في الخيبة ..


كُلّ يومٍ
على مَشارفِ القريةِ
تُسلِمُ عَينيْها
لدربٍ لا ياتي بغير الريحْ
كلّ ليلةٍ تجْتَرُّ حُلمها المسْلوخ
على جدرانِ الأمل
علّها تستريحْ



فإذا ما ارتحلت الذات إلى المدينة بدأت معاناة أخرى أشـدّ وجعاً ..

فما عاد الأمر فقدان حلم و إنـّما هنا نفقد ذواتنا و نغترب عنها ..

فلا نقبل بأن نكون على هامشها الـّذي اعتادت لوكه .. و ما نحن

بقادرين على انتساب إلى مكانها الملوّث و زمانها الأشوه ..

و تبقى حالنا كحال الطهر / المطر الباحث عمـّا يليق به ..


وانا الغريبُ
الذي أدْمَنتْهُ أرصفةُ المدينة
كما المطر
أنسابُ هنا باحثا عني ...


و على غربتنا فيها و اغترابنا عن ذواتنا .. تطحننا مواجع الحنين

إلى أرض يستيقظ في ذاكرتنا عنها صور معاناة سوداء .. فنصبح

كمن فرّ من ظلام إلى ظلام .. و كمن استجار من الرمضاء بالنار ..

خيبة واقع و خيبة حلم تتآمران علينا و لا فرار أمامنا إلاّ إلى إلى

الانغماس في وباء المدينة و رخص المدينة و عهرها .. فنحبل بالحرمان

و نتخم بآلام الفقر في أمثالنا .. و ننزف في زواياها و مع كلّ نزيف منها

و كلّ غرق فيها نفقد من قيم الريف المخزونة شيئاً فشيئاً .. و تتساقط أوراق

نقائنا الموروث و المطبوع في أزقـّة وبائها ... دون أن يرحمنا ألم ما يسودها

من تنافر و تمايز و تمييز .. ومن ازدحام خلط الحابل بالنابل ليزداد أخو الجهالة

نعيماً و تـُثخن ذواتنا بآلام جديدة على آلامنا ... ليتأزّم الحلم فينا من جديد..



وأتجمعُ هناك لأُرسلَ اشواقي
نحو جنوبٍ أشدُّ قتامةً مني ...
أُغرقُ في التدخين
واملأ احشائي قهوةً رخيصة
احبل بالجوع
وصحنُ الفولِ أهزوجةُ الفقراء ...
اتقيأ مخزون القرية
على كل منعطفٍ و انحناء ...
اصطدمٌ بملايين الاجسادِ
عمالٌ واغنياء
وسادةٌ اغبياء
يراوِحُني ظمأٌ عميق
لخبز الطابون وعناقِ زهرةٍ برية
تفرُّ من ذاكرتي المتعبةِ الخشبية
اغاني الحَصَاد
" ودقةِ المهباش "
يصفرُّ القمحُ في خيالاتي
وتُطاولُ أهدابهُ الفضاء




حـلم يكون باختيارنا .. إذ نقطف من ذاكرة الماضي / الريف ما هو جميل فقط ..

و كأنّ الذات تعالج ذاتها بذاتها .. فلا تستضر إلاّ مواسم الحصاد بفرحها و خيرها

الوفير .. و نقرة المهباج و رائحة الهيل و الأصالة ... ذاكرة بعيدة نقيّة و لكنّها

لا تفيد في إنقاذنا من أن نبقى ننزو بين حاضر يـشدّنا ( المدينة و زحام مغرياتها

الدنيويّة و نساؤها ) و ماضٍ نـشدّ نفوسنا إليه ( عطاء الريف و علاقات الودّ

و مواويله و عفاف الحبّ الأوّل المختلف طعمه عن حبّ المدينة ) و هذا الصراع

يثقل على النفوس فتروح لا هثة للبحث عن إيّ مستقـرّ لها لتهدأ ..



تشُدني اصواتُ الباعةِ
ويجذبُني عطرُ النساء
يا ازقةَ المدينة
امنحيني جحراً
القي فيهِ جسدي
فقد اعياني حملُهُ
كُلّ يومٍ كُلّ ليلة
دربٌ ..حلمٌ.. وريفية تحملُ جرتها
وتغني :
" روح جاي ..يا وليد العم
يا مزود بقليبي الهم "
"



و نرضى به و لو كان المستقـرّ وكراً من أوكار المدينة بعد أن عـرّتنا من

كلّ ما يجعلنا صالحين للعودة إلى نقائنا الأوّل و تركت شطوبها و شروخها فينا

أفلا يجدر بنا إذاً على الأقلّ أن نقدّم اعتذاراً لابنة العمّ / و قد صارت هي و الزمن

الجميل سواء / اعتذاراً نظهر فيه أنّنا هنا بتنا بلا أثواب أهل ودّ تسترنا و بلا

أحذية تصلح لأن تعيدنا ( حفاة عراة أمام حساب النفس بصدق ) .. اعتذاراً

نبيـّن فيه ما آلت إليه حالنا في مدينة تقتاتنا و لا نقتات فيها إلاّ من أحلامنا

العجاف .. مدينة تصبح مدنيـّة زائفة استبدلناها بحضارة اكتفينا بعرضها على

الغرب مقابل لـذّة تنقذنا من وطن يستهدفنا فيبيعنا المرض و السواد و يصادر

حريـّاتنا إذا كنـّا بلا / من يعـرّفنا في حاشيته / .. وطن ينزع عنـّا حتّى أرصفة

تشرّدنا ويلقينا على عتبة المجهول و اللا انتماء بلا هـويّة ..

بلا اسم فهنا لا أحد يعرفنا إلاّ رقماً من أرقام ..

بلا عمر فشهادات ميلادنا لا وجود لها هنا و المعاناة وحدها هي الـّتي تؤرّخ

أعمارنا ... و بلا عنوان لأنّ المكان نبذنا و ما بقي لنا سوى الحـلم برصيف

جديد نواصل اغترابنا فوقه .. و يواصل سحقنا بتـشرّدنا جديد و أوجاع جديدة .



يابنة العم
يعوزُني الحذاء
أنا فارسٌ مجهدٌ
يتأبطُ احلامهُ
ويَجْترُّها في العتمةِ الفَ مرةٍ
خيلي هرِمةٌ
باتت تنقلُ السياح الى المدرج الروماني
مقابل علبة تبغ تخلو من النفط
اعتقلوني
بتُهمة التسكع ُ بعدَ منتصفِ الليل
دونَ ال التعريف
اعتقلوني اعتقلوا الرصيف
سالني المحققُ
"اسمك "؟
......."سنك "؟
.........."عنوانك "؟
اسمي؟
نسيته !!
فلا احدَ يناديني ..
..........سني ؟
بعددِ تجاعيدِ جبيني
.............عنواني؟
الرصيفِ الذي يَمْتطيني




أخي المكرم .. لن أقول المزيد .. ففي النصّ جماليّات أخرى تستحقّ

الوقوف لعلّ أهمـّها تكثيف الصور الـّتي توقظ الكثير من المعاني ..

و تزخر بالدلالات و الدهشة ..

فقط أقول : شكراً على إبداع منحني متعة القراءة

لأجد الكثير من الذوات المتألـّمة هنا .. و لأرى مدينتك تمتدّ من أوسع

الأمكنة / الوطن / إلى أضيقها / الملتقى / ..

و لكن اسمح لي أن أناديك باسمك زياد .. فلقد عرفتك و عرفت ذاتي ..

لك تحيّة احترام و تقدير و دمت في استقرار على قمـّة العطاء .




4. قراءة في نصّ سلطان الزيادنة (سكنتني يا تيسير)

الفقرات :
1) من هو تيسير ؟.
2)قراءة في نصّ سلطان الزيادنة في رثاء تيسير .. بقلمي .
3) كلمتي للقارئ .. و أبيات لي مهداة للشاعر سلطان .
4 ) قصيدة لي ( بشرى بدر ) مهداة لروح الشاعر تيسير سبول .
====

1) : من هو تيسير ؟

هو تيسير سبول شاعر أردني كان لخيبات العصر على أصعدة مختلفة أثرها السلبي عليه .. مات منتحراً ..
عرفته من خلال حروف شاعرنا سلطان عنه في رثائه و في تقديم شذرات
من شعره يحكي فيها عن الصورة الشعريّة عنده .

///

2): قراءتي في نصّ سلطان الزيادنة في رثاء تيسير ..

يحملُ العاشِقُ في غُربَته
مَوتَه ، تاريخَه ، عُنوانَه
وعَذاباً كامِناً في دَمِه
وحُضوراً أبَدياً كانَه.

عَبدِ الوهَّاب البَياتي

إهداء :
إلى روحه التي تَسكُنني
بِكُلِّ وَجَعِها ورُؤاها
إلى تَيسير سَبول

هي مقدمة يهيـّئنا السلطان من خلالها لتلقـّي الخبر الحزين مجيباً عن السؤال

قبل أن نسأل عن علاقته بالمرثيّ .. فهو الوريث الشرعيّ لآلامه كلـّها و الجـسد

الـّذي تبنـّى روحـه و مواجعها بعـد الرحيل .. ليعلن ذلك في العنوان ..

سَكَنْتَني يا تَيْسير

بعـد المقـدّمة و العنوان يأتينا النبأ / مضى / بفعل تمّ ثباته و ما فيه شكّ .. فعل

تفـرّد بسطر لعظمة الحدث .. و مطلع يذكـّر بفخامته و إدهاشـه بمغايرة المألوف

في الرثاء مطلع أبي تمـّام في الرثاء ( كـذا .. فليجلّ الأمر ..).. ثمّ يمضي بنا

ليعـرّفنا بالراحل ..


مَضى
مِلءُ حُروفِه نَدى
ونَشْرُ
روحِه في الدُّنى
دَفْقُ طيبٍ
ماجَ بِهِ المَدى
مَضى
لمَّا وَعاهُ أخيراً
ضَميرُ الثَّرى
نبياً غَريبَ المَلامِحِ
جاوزَ تُخومَ النهايةِ
و من خَبَرِ السّماءِ
ما ارتَوى


و في التعريف به نجـد مناقبه فهو ذو الحرف الأجمل و الوارف العطاء و مسك

روحه قد ملأ الكون طيباً فحملته أمواج الأثير عبر فضاءات الزمان و المكان ..

و قد عرف ضمير الثرى قدره و طهره فآثـر ضمـّه إليه تـشرّفاً بقداسـته

و هو الـ/ ما أدركها البـشر لاختلافه عنهم بالروح الأقرب إلى صفاء الأطهار ،

و بالإلهام الـّذي كان يـستمدّه من يقين تجاوز فيه الحجب و بات يستقيه من

السماء ..

و هنا نلحظ الجدّة أيضاً في معاني الرثاء فالشاعر يعرض عن صفات

الكرم و المروءة و غير ذلك من المطروق .. و يمدحه شاعراً بحرف متميـّز و

إنساناً اسـتحقّ صفة الإنسانيّة بجدارة و جاوزها إلى مراتب أعلى من كمال

أوشك معـه الوصول إلى النيرفانا .. ولا تخفى هنا ملامح الصوفيـّة الواضحة

الأثر في المعاني ..

* أمـّا ما يوقفنا من الجماليـّات فأكتفي بالإشارة إلى هذا التكرار في ( مضى )

تأكيداً للخبر من جهة و إبرازاً للشعور الـّذي غطـّى مساحات الحزن في نفس

الشاعر من جهة أخـرى .. و هناك جمال التصوير و أختار الأجمل من الصور

في رأيي و هي ( ضمير الثرى ) فالاستعارة هنا فيها دهـشة الجديد و فيها

عمق دلالة على نفور من البشر و قد افتقـدوا الضمير فما عرفوا قيمـة من

كان بينهم بينما التراب الجامـد امتلكـه و عرف به قـدر من اختـار ...

و لا ننسى جماليّة الألف و ما فيها من مـدّ توزّع بين حنايا الحروف و الأبيات

فإذا ما قرأت انطلق مع كلّ منها نفـَساً يحمـل شـحنة من آآآآه النفس

المفارقة لصاحبها .. و تموّج هذا الحزن بتموّجات توزّعها المموسق الحزين ..

مَضى
لا شَمسُ الحَبيبةِ
وشَمتْهُ
بنَضارِ ذَهَبِها
يَوما
ولا صَدْرُها الدافئُ
لإرتعاشاتهِ الخَجلى
احتَوى
قَضى
وما فاهَ بَعْدُ بِآية
غَفا
فاعَدُّوا له مَسكَناً
في عُيوني
أُسقيهِ من روحيَ
شَهيَّاتِ الرّوئ

و يتابع الشاعر التعريف بالراحل لكن من وجوه أخرى تروي بعض عذاباته ..

فهو من عاش الحرمان من أن يمنحه الحبّ ما يستحق .. إذ لا الحبيبة وهـّجت

أنثـاها في جـسده و لا اسـتطاعت يوماً أن تحتويه و تمنحه الدفء و الأمان

و الـريّ العاطفي و الجسدي الـّذي يريـد .. و هو من ارتحل باكـراً و قبل

أن يتـمّ رسـالة له في الحياة أو يحقـّق شـيئاً من مطامحـه ..

و قـد أغمض جفنيه .. فليعـلن الـشاعر إذاً أن نومه لن يكون إلاّ فيـه

حيث أسكن طيفه في العين و نـذر الروح لإحياء أمنيات ما استطاع تحقيقها ..

* و الموقف هنا من الجماليات إضافة إلى جماليّة الصور و تعدّد دلالاتها ..

و ما أشرت إليه من فائدة توزّع حرف المـدّ .. المـُوقف هو هذا التدرّج بالفعل

مضى ... قضى ... غفـا ... و كأنّ الشاعر يوصل لنا قناعته بأنّ ارتحال

الفقيـد قضاء كان لكنـّه محض غفـوة .. و ما كان ارتحاله غياباً كاملاً

و كيف يكـون كذلك و قـد لبـس الـشاعر روحـه و صار امتداداً له ؟!!


* ثـمّ بعـد التعريف بالراحل و ماكان من حياته و حلوله في الـشاعر يأتينا

الأكثر إدهاشـاً في القصيدة و هو انقلاب الرثاء و تبادل الأدوار ..

فالراحل عاش في حياته موتاً أورثـه للـشاعر الـّذي سيعيش إرث الموت

لإحيـاء أمنيات الراحل .. و إذاً لا عجب في أن نرى الراحل جسداً يرثي

من بقي في الحياة يعيش ما فيها من موت .. يذكر بعض ملامحه فيقول :


قال تيسيرْ
سَقَطْتُ وَتَدري
مِثلي سَتذوي
عصافةً في بَيْدَرٍ
تُغَنّيها مَواسمُ الهَجيرْ
- لُحونَ وَداع


أنت تدري أنّ رحيلك لن يكون إلاّ مثل رحيلي .. حدث شبه خـاوٍ كسقوط قـشّة

في بيدر تـشيّعها فصول احتراقات في الحياة أنضجت فيها المواجع ..


وأنتَ صَديقي
وتَدري
أنْ عبثاً نصفَ آية
أو قداساً يُرَتِّلُهُ
يَرَاعْ


و أنت تدري أنّ حياتك بعدي محض عبث و قد فارقتَ نصفك بي و لن تكتمل

قداسة روحك .. ثمّ لا جدوى من قدسيّة تظلّ حبيسة الورق .. لأنّ فعلها قد فقد

نصفه ، أجل أنت دوني قداسة غير مكتملة ، و محض رثـاء لا قيمة لوجوده ..



فِملءُ البَسيطةِ
بُغَاثٌ استَنْسَرَت
وعبيداً تسيدوا
و رُعاعْ
وأنتَ صَديقي
وتدري
أنَّ خَيطَ العَتَمَةِ
أبداً ما كان
خَيطَ شُعاعْ


ثمّ انظر إلى هذا الواقع الـّذي غادرته و ما فيه من الظلم في المجالات كلـّها ..

و الزيف الـّذي علـّى الأسفل و سـفـّل الأعلى ، و تأمـّل في أصل الأشياء

و المراتب .. ثمّ تذكـّر حقيقة أيقـن بها كلانا و هي أنّ الظلام ما كان في

يوم نـوراً و لـن يكون ..


اشقياءٌ نحنُ
إسْتَحَلْنا
فرائساً للحقيقةِ المُرَّة
ولأيامٍ حُبلى بالضياعْ
طَيبونَ نحنُ
لكنَّهمُ الأحِبَّة
أشاهوا الوجوهَ عنّا
أمساخاً كأنَّا
أو ضِباعْ


أ لـست موقناً متلي أنّنا ما تنفـّسنا إلاّ شـقاء لا يـُطاق ، و ما كنـّا إلاّ

بين براثن وحـش الحقيقة الموجعة و ألم الاغتراب في حياة نبذتنا فرحاً و

فما عشنا سوى الضياع في دروبها حزناً ..؟!!

ألـست موقناً مثلي بأنّنا نلنـا منها الأكثر إيلاماً حين أنكرنا الأحباب و أداروا

عنـّا الوجوه و أغفلوا عن طيبة فينا و جمال فما رأونا إلاّ قبحاً و نقصاً و كياناً

أشوه و تجسـّد وحشيّة ؟؟!!!



حَنانيك صَديقي
لستَ بِمُسْمِعٍ
مَنِ استَطابَ مَقامَهُ في القَاعْ
فَجَعَتني اللَيالي صَديقي
ولا بدَّ أخيراً
من نِهايةٍ و وَداعْ
ما نحنُ وتدري
إلّا بعضُ إنسراحِ لَحظاتٍ سارحِة
تَنْسّلُّ كئيبة
في بَردِ الطُّرقات
تَبحَثُ عن حَفْنَةِ دفءٍ
في قَهوةِ فنجانْ
أبداً ما كانْ


ثمّ بعد ذلك أ ترثي و تحزن لرحيلي ؟!! ألا تدري أنّ ما نقضيه فوق التراب هو

الفجيعة ذاتها تتالى واحدة بعد أخرى علينا .. و أنّني آثرت الخلاص منها

بالسكن تحت الثرى ؟!! ثمّ إنّ لكلّ أمـر نهاية و ما عمرنا سوى قصير زمن

منفلت من قيود الخلود في النهاية .. قصير زمن نعيش فيه كآبة الحياة و نحن

في دروبها نفتـّش عن دفء نـستعيض به عن قسوتها و قارس حرمانها

و نرتضي بالقليل القليل منه .. و مع ذلك ما كان لنا .. ولا أراه سيكون ..

* و الجماليات الـّتي سكنت هذا العرض أكثر من أن تحصى .. فعلى صعيد

المضمون أشرت إلى تبادل الأدوار بحيث صار الميت يرثي الحيّ و لا يغفل أحد

دلالة ذلك .. ثمّ هناك هذا الانتقال الأكثر من رائع و دون أن يشعر القارئ

من رثاء الفرد إلى رثاء الإنسانيـّة جمعاء .. لأنّ كلاً منـّا يعيش هذا الموت

أو جزءاً منه في حياته .. إضافة إلى عميق حكمة وردت فيه بعضها كان من

تأمـّلات الشاعر و جديداً مثل : ( خيط العتمة أبداً ما كان خيط شعاع ... عبث

نصف آيـة ) .. و بعضها كان مأخوذاً من القدماء لكنّه جاء بحلـّة قشيبة

صاغها الشاعر مثل : ( لا بدّ من نهاية و وداع ... ما نحن إلاّ بعض انسراح

لحظات ..) ...

و على صعيد الأسلوب لا يفوت أحداً جمال الصور و الانزياحات الـّتي بلغت

أشـدّها في قوله : ( وتَدري أنْ عبثاً نصفَ آية أو قداساً يُرَتِّلُهُ يَرَاعْ ) ..

إضافة إلى جمال اللغة و انسجام الألفاظ مع المعاني و لإيحائها بالمشاعر

[ ستذوي .. هجير .. وداع .. قدّاس .. فرائس .. أشقياء .. عتمة .. برد ]

مع بروز العين في القافية و قد جاءت ساكنة ما يشعرك أثناء القراءة بهذا الألم

الـّذي يقف في الحنجرة تشنـّجاً يطبق عليها ليبقى الحزن حبيس الصدر ..

و يسيطر شعور القرف من دنيا عافتها النفس لما فيها من سواد ...


و ما دام عرض الحال كذلك فلتأت الخلاصة الـّتي أريد إيصالها لك :


هي اللاجَدوى صديقي
وجعٌ مقيمٌ
وحقيقةٌ جارحِة
فلا تبكِ عليَّ
فَجوفي ظَلامٌ
وأمواهي جِدُّ مالحِة
فإذا ما عنّ لك في الجَدْبِ
أغراسُ أملٍ فاعلم:
أنَّ اليومَ لغدٍ
ليس إلا.. البارِحَة
إلّا.. البارِحَة


حياتنا الدنيويّة هذه محض عدم .. و دائم ألم .. و موجع حقيقة ..

فلا ترث من رحـل عنها و لا تحزن إلاّ على من بقي فيها ..

فما عـرفـت فيها إلاّ اليأس و العـقم الـّذي لا يـُنبت فرحاً أو أملاً ..

و كـن على ثقة بأنّ غير ذلك لن يكون لك .. فكلّ الزمن تشابه ، و كما

اليوم هو الأمل الخائب للماضي كذلك سيكون الغـد الأمل الخائب

ليومك هذا .. و كما تتحسّر اليوم على ماض جاء حصاده اليوم تعساً

أراك غداً في حـسرة على حاضر لن يأتي حصاده إلاّ تعـساً ..

فلا تحزن .. لا تبك .. لا ترثِ إلاّ بقاءك في الحياة ..


* و لا يخفى هنا جمال عرض الخلاصة بالصور الرامزة ( أمواه مالحة )

و تكرار لفظ صديقي لتأكيد دلالة تلازم بين الراثي و المرثيّ .. و إبراز

الحزن المتبادل و الألم الموحـّد بينهما .. إضافة لتكرار ( ليس إلاّ البارحة )

لتعزيز حقيقة واحدة لا غير و هي أن لا أسف على حياة غدها من مثل

يومها ألماً .. حياة جامدة ... حياة هي الموت نفـسه .


//

3) كلمتي للقارئ .. و أبياتي للشاعر سلطان ..

ــ القارئ الكريم .. أتمنـّى أن أكون قد قدّمت بعض الإضاءة على النصّ ..

و أمـّا الإثقال بالحزن عليك فما هو ذنب الشاعر و لا ذنبي إنـّما هو واقع


الحال الـّذي يعيـشه معظمنا سـواء واجهنا حقيقته أو تغافلنا عن و جوده ..

و قد قـدّم لنا الشاعر سلطان الزيادنة في هذا النصّ قدوة للوفاء للصديق

و رثاء لكلّ غـال علينا .. و خفـّف عـنـّا الحزن للموت لكن ليـس بالطرق

المعتادة و إنـّما بأن جعلـه الحدث الأجمل حيث هو خلاص من مـوتنا ..

كما أعطانا نموذجاً للإبداع الوجداني التأمـّلي في شـعـر لن أقول فيه سـوى

أنـّه خالـد لخلود أثـره في النفـس و لعميق حكمته و بهاء حلـّته ..


ــ و أمـّا أنت يا الشاعر الـسلطان فلن أقول لك سـوى كلمات أتمنـّى أن

تقرأها لتعـلم عظيم ألم نكأته و بليغ حزن تركته بهـذه القصيدة :


عدني بأنـّك يوم ينعـاني الرحيلْ

ستقول : مرّت من هنا أنشودةٌ ..

و يمـامة في حـزنـها سـرّ .. و شـجو في الهديلْ

و اذكـرني حـرفاً نـاءت الـروح بــه

اجـعلـني ذكـرى ... و التـذكــّر ــ يا بنيّ ـــ

على المـدى صبـرٌ جميـلٌ ... مـن عليـلْ

يـا حـزنك المـزروع في روحي طـعـاناً لا تـزولْ

قـد جـاد غـيـثك .. مثلـما رطـب النخيـلْ

و أتاني شـعرك كي يبـرّد حرقتي

يـسقيني مـن ألـم تعتـّق في المواجع خمرةً

قـد عـشت في أعنابها شـمس احتراق .. في العنـاءْ

و أتيتني من مثـل دائي .. كي تقـول :

و ذا الـدواءْ ..

عـدني إذاً كي أقتحـم مـوتي هنـا

كي أبتـدئ طعـم الحيـاة على الـ/ هناك َ.. على الهنـاءْ

عـدني إذاً مـن بعض طبـّك بالـرثاءْ

//

4) قصيدة بشرى بدر مهداة إلى روح تيسير ..


يا أنت يا تيـسيرُ هات الـروح عـنـدي

مـنْ سـكنتـه .. لا أحـدْ

قـد رثّ ثـوبي .. إنـّني بالحـبّ أجـدرُ مـن أجـَـدّ

يا آآهُ .. لو تدري اشـتياقيَ للحيـاة على هـواكْ

خـذني .. و ألـق ِالكـلّ منـّي في مـداكْ

ها قـد نضجـْتُ على المـدافـن ها هنـا

و أنـاي تنـزعُ للتكـوّر في أنـاكْ

تيـسير إنـّي لـستُ أجهـلُ مـَن تكـون

فلقـد حللـْتَ سـحابـة ً.. تبكي بقـاءنا في المكـانْ

يا قاتلي رحمـاكَ ..

دعْ كلّ الحلـول على الـزمانْ

و إليـك صـدريَ و الـعيـونْ

اُحلـلْ بنبضي .. هـاكَ روحيَ مـسكنك

فلعـلـّني .. أفــديـه منـك بكـلّ أوردتي و أمـددها إليكْ

لا تحـسبَنـّي في اتـّقاد الـزهـد منـّي يـوم أدعـو كي تجيء

لا تحـسبنـّي بصـوت أنثـى .. إذ أنادي

يا رمـادك اشـتعـلْ .. و كـن الـولادة رغـم أنـف المـلح

أو ظـامي الـرمـالْ

ما كنـت امـرأة العـزيز .. و لـستما مـن مثل يـوسـف في الجمـالْ

لكنـّني من روح يعقـوب الـّذي أدمـاه سـرٌّ في الغيـابْ

تيـسيرُ .. ردّ عليّ قمصـان الحـروف .. فإنـّنا

قـد أرهـق الطحـن النـوايا .. و اعتـرانا الارتيـابْ

هبـْه لنـا ... لقـسيم روح .. للمـواجع في العيـونْ

ثـمّ اعتصـرْ .. مـنْ شــحّ أزمنـة المـسرّة ربـعَ كأس ٍمــن فـرحْ

و عليــه لا ... لا تنتصـرْ

أحـزانـه من مثـل شـهقـتنا إذا حـان اللقـاءْ

تيـسير .. كـم يحـلو .. و كـم يحـلو الـشهيقْ

دلـّلـني يا تيـسير عنـدك .. مثـل أمّ ٍ.. مثـل أخـتٍ أو صـديـقْ

و اتـركـْه سـلطاناً لحـزن ٍكـان فينـا ها هنـا

فـلـربـّما الـمـوت هنـا

و بغيـر حـزنـه ... غيـر حــرفـه لا يليــقْ






5. محاولة في دخول عالم قصيدة ( أفيقي من عتمة الرأس ) للشاعر وهاب شريف


استيقظي من عتمة الرأس

برجاء صِـيغ بلهفة الأمر يبتدئ شاعرنا قصيدته عل في الاستجابة خاتمة لبرد ٍ يشرع بعده الأبواب لدفء

تمنحه أنثى يراها تقتات بحلم استعادة ما سلبه الزمن من خضرة .. أنثى يصوّرها لنا في بحث المحال عن

الماء .. بينما الماء قريب منها .. لكنّها المشغولة عنه بما يزدحم فيها من عالم الوهم ( المعتم ) و الـّذي أعاد

الأنوثة إلى إطار المتاع إرثاً مستفيقاً من زمن الجاهليّة ..

استيقظي من عتمة الرأس وصيري ابتداءً لمستقبل مضرّج بالدفء، نجمة الشبّاك تغفو تحت اهدابي المثقوبة بالضوء البارد وهي تحلم بالصحاري التي ترتدي وجه الربيع رغم غفوة تستله، آية تبحث عن كيان يتأمل حيرتي التي تأثّرت بالتوابيت حتى استعارتها لثوب لا يطيق خيوطه، من اين تاتي لنشيجي الارصفة؟ لقد ازعجّتها من زحامي لها وعقّد تها من مماطلتي لحقدها! ثقوب الوجه الليلي الكاره للضوء الالكتروني المشنوق باحداق الغرفة، تستنّجد بالجدران الباحثة عن لون تشتاق اليه في حضن الضجيج الغبيّ الذي يفيق أذى الجاهلية.

يعيد النداء مؤكـّداً دعوته و مبرزاً القلق من بقائها سادرة في بعدها عنها و هي الـّتي حلـّت في المكين منه ..

يعيده أمراً ( استيقظي ) لتعي كم هي فيه .. و من درى مواجع الطهر من عهر انتهك البشريّة و أنهك

الإنسان لا محالة سيدرك في أيّ أين حلـّت تلك الأنثى فيه .. و لا بدّ سيستشعر مدى الدفء الذي تسنبله في

الشرايين شوقاً إلى تسام فيها وبها .. حاضرة فيه و حضورها يستعصي على ذاكرة الغياب .. كما العنكبوت

لا يخطّ على ذاكرة الرمال إلاّ بصمة حلم بأنّه فعل .. و ما ..

استيقظي فمكوثك في وجعي اقسى من جرح الكرة الارضية ذات الجرح الموبوء بالاصوات المبحوحة بالعهر ذراعاك جحيم من الفة سنبلة تجتاح حياتي في الله.. انا العنكبوت الذي ما نسج على مرآة غيابك سوى حلم ما دوّنت دبابيسه في ذاكرة الرمل التافهة ..

مكوث لها في الجرح ما عاد يرضي .. فقد بات مؤرّقه أن تكون في فكره ما استدعى منه نداء آخر لتصحو

من ضياع في دوّامة الأخلاق و الوفاء .. فـذا زمن المدن الـّتي لا تعي من الوفاء إلاّ الانتشاء باحتراق

الأوفياء فيه .

يا قلق القمر الازرق نم تحت رأسي استيقظ من تيهك اخلاقا تدري من امر الدنيا.. ان الوفاء دم يسيل يثمل منه المنفيون في تفاصيل المدن المختلفة.

و كأنّي بالشاعر قد رأى دهشة القارئ في سؤال : تلك هي لديك .. فمن أنت ؟

لينتقل إلى فصل فيه توصيف الاحتياج و قد عاف المبذول إفطاراً و هام بتفرّد الماء طهراً .. فلقد جازارتقاءً

ما كان يلبّيه بتسام ٍ عن دنيويّ .. و عكاز صبره و تحمـّله هو احتمال أن يفوز بصبوة الروح قبل الجسد ..

لي حصان علمته ان يجوع لكنه ابحر في الماء وعاف الحقل، نهضت صبحاً من فرح قديم ورداء الماضي ملتصق بي فاستنجدت بتقوى الله لكي ازعه، لم يبق لديّ سوى القفص الحجريّ استأجره مني عود الصبر وقيثار قد يأتي..!!

و باستحضار صور حبّ من زمن مضى نرى الذات في تلوّن العشق و تلوّعه في النزو بين نداءات الجسد

و نداءات الروح لـ نون تحقـّق المعادلة المشتهاة .. معادلة هي الأصعب تدفعه للبحث في أروقة الحكمة عمـّا

يحيل الإغراق في الماديّ تطهيراً يسمو به إلى الروحانيّ المبتغى .. و هنا لا يدرك واحدنا مدى ما يصطرع

في الذات الشاعرة إلاّ إذا أدرك صعوبة خروج الجرم من عنق زجاجة دون أن تكسر و دون أن يصاب

باختناقات التأويل .. لذلك يسارع إلى إعلان براءته ممّا يقترفه دنس الموتى من البشر ..دون أن ينسى

حسرته في الزمن الشحيح بمطر يسقي الرجاء .. الكريم باتـّهام الماء .. هي حسرة لا تخلو من لوم هذا

الجدب الـّذي أحال الروح بوتقة اتـّقاد من لهفة و توق و انطفاء من يأس في آن ..

اشتاق لكل الطوابع التي جمعتها في طفولتي لكن اين رسائل نون؟ اوراق بيضاء عذراء شربت حبرها مراهقة السنوات، كان بيتا ذلك الوجع الخرافي اللطيف، ضيّعني في غفلة عن شغفي وحين شرعتُ في البحث عن سقف اصفر اخدع به بردي وجدت في حروفي القديمة فرحا يسألني ان احزنه!! السفر كان جدولاً يكبر في افاقي وعندما اصبحت عيناي لعبة خضراء كرهت ان اسافر عن ظنوني وتلك الاسماك لا زالت تستفز حبي لها،
انا قادم ايها النهر من ضلعك الذي حولته في مساء نحس الى عود اغني مع غربته خشب الحنين.
ايتها الاسفنج الناريّ الحنطيّ صهرت اللوعة في عطش مساماتك في زمن الحلم ودوّنت اسمي الرجل الخسران..
الاسفنج الاسفنج الاسفنج، يا ألَق القيثار الملعون استفحل في مخيلتي النسيان وساقي تتمنى اشرعة دون شلل،
يا حمورابي اترك لي حكمتك الابهى انّ انكسار المرايا التي تتقيّأ ذنوبها يدعو للغفران وللرحمة،
اخجل من اسمال السفهاء الموتى دنّست المرعى والشاطيء والطين.. الطين جفّفت بدمع حروفي ظَمَأه..
نضبتْ ايتها الغافية في صلواتك انهار الكحل ستبقى عيناك المرآة.. المرآة حساب يرمي غيمي بالهمّ المثقل بالهفوات،
يا صوت الرمل المبحوح اهدأ من نزع الريش الواثق عن جلد العصفور ومن اخصى النيران وصيّرها، الكانون المتناقض؟!


و في تصاعد تدريجيّ نرى الشاعر يوغل في الـ / أنا ليجوب بنا في آنائها ألماً و حبّاً و حزناً و عوزاً .. الـ /

أنا الـّتي باتت أسيرة لهفة المواجد لأنثى فيها من قداسة الماء ما يرويّ جفاف طينه و يمنحه ألقاً يوهـّج

ارتقاءات الروح في معارج الكمال ..

وجعي شطْآن محبة وانا وطن للكمثرى مكتئب احتاج اذا ما جنّ الليل الى امرأة تمرح تلقائيا وتجيد النكته، تأخذ من خدّيّ الوهن الحنطيّ المتفتح سيقاناً لطيوف الهمّ... يأسرني هذا الوجدانيّ المتفاني الراضع من نار الشهوة ومض النشوة والمتقمّص عصفورة شباك ابحث عن طلعتها القرآنية كلّ صباح تمسح عن طيني عطش سبوت الرمل التافه ايتها القلق المتضارع والمتجدد هل ترشفني بملوحتها اللمياء الثلجيّة هل ترمقني بالكحل الوقح الذائب
في شوق الفطرة تسقيني ألقاً يتألّه احلى مما يتقّد الخبزُ؟

هو ذا ما كان فمن يترجم هذا الوجود الكلـّي في احترابه ؟!! من يستطيع الإحاطة بذروة الـ / أنا إذ يصيح

قهرها : انا عاصمة الكبت وجوعي أسطوريّ .. و إذ تتسارع نبضاتها و تنزو حروفها في مضارعة

استمرارية المعاناة و ثبات الصير و الصمت إخبار في الاسمية لنلقانا في لهاث السؤال تلو السؤال ..

و الصورة تلو الصورة في تلاطم أمواج قصيرة يحاكي وقعها مدى انكسار الذات في بحر الخيبات

توهها في حصار اللا أدري .. ؟!!

وحده الشعر قادر على ذلك فهو مؤرّق اللا وعي و ثرثرة أسرارها .. و لأسرارها مرارة لا تدرك إلاّ

بالتأمـّل .. و عفوية حاول الشاعر مواراتها فانتصر عليه الحزن و قال .. و قال .. و قد أصغيت و ثملت ..

و ما كان الثمل انتشاء عابراً بقدر ما كان ارتواء بنصّ أراني أخرج منه مشدودة إليه بحبال من ليت و لو ..

أمنية هو المكوث بين الحروف أطول .. حيث الجنان الوارفة من جماليات النصّ انزياح مفردات و دهشة

تصوير و عمق دلالة ناهيك عن الخلق الجديد للـّغة من رحم الإبداع ..

أمنية يقع محالها في قيد هيهات لحروفي المحدودبة أن تحيط بعالم لا محدود بلهفته و روعته ..

لذلك سأخرج من النصّ تاركة لكم التأمـّل و متعة اكتشاف الأكثر .. و خروجي يكون ظالماً ما لم أردّد مع

الشاعر صوت النداء الأجمل :

"سنبلة الوجد افيقي في ذاكرة العطش المسكونة في جلدي .."

بلى أفيقي من عتمة الرأس .. قد سكنت جرحه .. فكوني تحت رأسه .. كوني نون الكون الجديد

هو ذا النـداء الأخير لك فأفيقي قبل انطفائه .. لأنّ النبوّات لا تكرّر .

يا الألم الشيطانيّ الخبرة هلاّ تتركني احلم عذّبتي هذا الضيف الأزلي الشعر ورغماً عن ثغري يكتبني ياللرفقة ياللوحشة
ما عندي وجيبيني غير هويّة تلك الرعشة يالمواويل غناءٍ ريفيٍّ يا مدناً حيرى للدهشة.. انا عاصمة الكبت وجوعي اسطوريّ يشتمني النهر المترف تطردني آلهة الفقر أسافر في احشاء القلق اللامحدود شراعي حلم الخيمة في ان تهجرها الأنواء اللامعقولة طقسي الصبر طقوس الصمت ورأسي جمر تناقض اهلي صدري ألق يتأوّه من ديناصورات الفرح المنقرض اساطين الهجرة للموت فأين أروح وأين انام وأين اموت؟ أنا لا احفل حتى بالاحلام الساعة لست اطيق الآمال
ولا أتمنى غير حياة لا اعرف حتى كيف تكون..
نسيت معايير الفرح الاستقرار الازليّ وكيف يكون وهل حقاً كنت افكر فيه وهل كنت افكر يوماً أن أنشر هذي الخيبة في حبل غسيل السنوات وهذا الاحباط العلقلم لا.. لا.. لكني عدت حزيناً من أسفاري لا أملك الا قلباً يستنزفه الحبُّ الفطريّ وعقلا تنهشه ديدان المدنيّة.. فانتهزي عفويّة اشواقي وهبيني النرجس جذلان وداد يا بهجة نحل علّمني كأبٍ بدويٍّ أتعاطى الصبر على شفتي وردٍ كرصيفيْ جمرٍ يغري، أدمنني، أتجمّل من الق في شمس الاعشاب بقايا امل يتنفس في صدري، سنبلة الوجد افيقي في ذاكرة العطش المسكونة في جلدي، يا معنى ان انضح حرفاً شبقاً بنسيج دمي السلفيّ الفورة،
يعبث في أوتار الباقي من اعصابي فيفرّقُها الناي على أعتاب حروفي تلك الافواه الطفلة..



6. قراءة في قصّة ( حين تشعّ الأنوار ) لروضة الفارسي

القصّة للكاتبة روضة الفارسي

حين تشــــــــــعّ الأنـــــــــــــوار

في العنوان تشويق لذلك الحين + ملاءمة للفكرة الأساس في القصّة .

تتلاعب الرياح بخصلات شعري التي تلامس دموع عينيّ المحمرتين، وترتطم أمواج البحر
الثائرة بالصخور محدثة هديرا، ثم ينتشر الزبد الأبيض على الصفحة الزرقاء
مصدرا وشوشة خافتة تتوحّد مع أصوات أخرى مختلفة وأكثر ارتفاعا...

وصف الطبيعة ما كان حشواً و عبئاً على القصّة و إنّما موظّفٌ في علاقة اتّساق
مع الشخصيّة .. و هذا يُحسب للنصّ ..

بجانبي يقف شاردا حزينا متأملا الأمواج التي تنثر علينا رشات الماء من حين لآخر.
في الأفق البعيد تبدو سفينة في الامتداد الأزرق، وأنتبه لأخرى تظهر أكبر حجما
بأشرعة ملونة وصواري عالية... سرب من النوارس يتطاير بعضها والبعض الآخر يسبح...
على بعد أمتار ينتظر صياد ممسكا خيط صنارته بصبر وصمت...
أحاول ابتلاع غصّتي وكأني لا أحمل كل تلك الأوجاع في كياني وكأني
متماسكة أمام هذا الوضع الجديد الذي ينتظرني لم يعد هناك من منفذ.

رشات الماء لم تكف للصحوة من نزوة فكرة عارضة ملوّنة بإغراءات قرّبت سفينة
و أودعت في البعيد أخرى .. سرب النوارس كما الأفكار في أكثر من اتّجاه تطفو فكرة
و تطيرأخرى و تغوص ثالثة .. حال كما حال الصيّاد في صمت و صبر و ترقّب في انتظار
خروج السمكة / الكلمة ..
الترقّب سيّد المشهد هنا .. و التصوير بشقّيه المستمدّ من الواقع أو من الخيال جاءت
أشياؤه كلّها موظّفة ببراعة لترسم الشخصيّة نفسياً قبل لحظة كان فيها القرار ..
و حين وهم أو تظاهر بالتماسك " لاحظ : أحاول + و كأنّي + و كأنّي " كان القرار الكلمة :

ســ نــــ فــــ تـــ ر ق ...

قرار مكتوب برجفة الذات في مواجهة مجهول سيكون و برواسب نفسية ما زالت
مشدودة للماضي بدليل بقاء الإحساس بألم الآخر و قراءة عينيه و الشعور بما يعتريه
من صراع ( ربّما هو الحبّ المتجذّر و ربّما هي العشرة ) بربّما التشويق تتركنا الكاتبة
للأحداث لتجيبنا عن ذلك و عن سؤال آخر : هل سيكون أو أنّ ما بينهما سينتصر
على الجديد ؟؟ ذروة القصّة حيث الصراع فيها يوازي الصراع في ذات القارئ
و يتركه في لهفة و قول : أمّا بعد ..

تبوح عينا رياض إليّ بأشياء وأشياء، رغم المجهود الذي يبذله لإخفاء مشاعره
ويطلق صدره زفرات بمرارة كبيرة وبهدوء ظاهري يخبّئ ما بداخله من صراع .
نتّفق أن تبقى البنتان مبدئيا معي...
ينصرف حاملا معه الذرة الباقية من الأمل...

جاء الجواب بانكسار القارئ انكساراً يشبه حزن رياض بل و ظهرت إشارة إلى
البنتين تضيف إلى الحال القديم سبباً آخر للقوّة أوحى بأنّ اندفاع الآن كان أقوى ..

مع تحرّك خطواته تكتئب السماء وتتوحّش الأمواج وتنوح النوارس... تحملني ساقاي
إلى أن أجدني في الطريق بين السيارات غير مكترثة لأصوات منبهاتها ولا لتحرّش بعض المارة...
في المدة الأخيرة اختفى الصبر وضاقت الروح... أين أنا من تلك التي تراقب
صفاء روحها باستمرار... دائمة التيقظ لمصيدة الوسواس الذي يحرمني السعادة؟؟؟
استيقظت داخلي أوجاع آلمتني كثيرا في الماضي، وكنت أظن أنها لن تعود...
من جديد ظهر الجرح الذي سبّبه لي حبيبي يوما فأنتج تعكّرا أخلّ بعلاقتنا
ولمس جراحا مرهفة خفيّة بداخله أيضا.
بيد مرتبكة أدير المفتاح وأدخل البيت متّكلة على الذي كان وعده مأتيّا...
تخرج سارة وريمان من غرفتهما مرحبتين. ثم تسألاني عن أبيهما فأجيب
بأنه في بيت صديق له تقول عيناهما أشياء كثيرة ولكنهما تكتفيان بأن تعودا
إلى دروسهما بصمت.
تنتقل قدماي من غرفة لأخرى دون القيام بشيء محدد...
يخيّم الحزن على كل الستائر والأثاث. تزداد الكآبة حين تقول لي بنتاي تصبحين
على خير ماما و تطفئان ضوء غرفتهما.
عليّ الآن أن أجد منفذا للخروج من هذا الاختناق. أقول بصوت مسموع
" يا رب أعنّي. "

في الوضع الجديد يحكي الوصف كلّ أشياء الذات و تتوضّح بعض أمور ( عمر البنتين
ودلالته + الأسباب الّتي أدّت للفراق + العجز عن مواجهة البنتين + صمتهما يدلّ على
لوم ذات يفيق فيها + انطفاء ضوء الغرفة + أشياء البيت تشابه داخلها في الحزن
لكنّها في مكانها بينا هي في ضياع و فراغ و اختناق ...
السفينة الّتي اختارت توشك على الغرق فكانت استغاثة أخيرة .. يا ربّ ..
•تخرجنا الكاتبة من صراع لتدخلنا آخر و ببراعة إدارتها الأحداث توجّه ذهنيّة
القارئ لينسى التفكير بأمر رياض و ينشدّ لمتابعة الشخصيّة الرئيس ..

الطقس ربيعي ولكني أحس بحرّ يكتم أنفاسي، حين أخرج للشرفة أجد الإناء
الذي تركته البارحة حين أمطرت قد امتلأ. أصبّه فوق جسمي وأقفز مرتعشة
مصدرة صيحة غير مكتومة أتجه بعدها بسرعة لآخذ حمام دافئ.
أفتح جهاز التلفاز أتنقل بين المحطات... ما أطول هذه الليلة...
نفس البرامج التي تؤكّد عمق نوم هذه الأمة... أينما نتّجه نجد إشهارا
يبرمجنا على الانبهار بهم واللهفة على ما يصبّون فينا من أدوية مضرّة،
ومأكولات تزيدنا غفلة فيصعب علينا الوصول إلى اليقظة و الوعي....
قد تمتلئ قلوبنا بأنوار الله يوما فنعي ونقرأ كتبا تذكرنا بما أوصانا به الأنبياء...
إنهم يستمرون هناك في التخطيط بإحكام لعدم يقظتنا وللفتنة بيننا والاستمرار
في نهب أراضينا وخيراتنا والقضاء تدريجيا علينا في حين نملأ عقولنا بالشوائب
ونُخْلي المسؤولية عن أنفسنا...
أغلق الجهاز... أتنفّس بعمق... كلنا مسؤولون عمّا وصلنا إليه...
مثلما أنا مسؤولة مع رياض عن الافتراق...

علاقة تضادّ قامت بينها و بين الطبيعة ( اختلاف عن البداية يشي بتغيّر الأمور )
+ الاغتسال بالمطر + إقحام الخاصّ في العام و ما دلّ عليه من طبيعة البشر في
محاولة البحث عن أيّ مشجب نعلّق عليه ما كان و من كوننا لا يمكن أن ننفصل عن
محيطنا و لا بدّ من التأثّر به ..
•هنا حالف التوفيق الكاتبة في مضمون القصّ و جانبها في أسلوب عرضه أحياناً
حيث نجد الإطالة في عرض الحال العام + المباشرة في طريقة عرضه + إقحام
الدين مصدر هدي وحيد جعلهم يحاربونه و كنت أتمنّى ألاّ يبالغ في ذلك الأمر على
حساب الإنسان من جهة و تمدّد أحداث القصّة من جهة أخرى ..

أدخل غرفة البنات فأجدهما في نوم عميق. أغطيهما جيدا،
ثم أعدّ لنفسي كوبا من النعناع، وأتجه لغرفة النوم... أتمدّد على الفراش، ينبعث
الوضوح في داخلي مضيئا الروح مذيبا كل رواسب الفكر فيختفي الحزن والكآبة.
أترشف ما بقي من النعناع ثم أنام.
إنها ليلة عيد ميلادي، أنا ورياض نحتفل، أمامنا كعكة مرطبات جميلة
تزيّنها شموع مختلفة الألوان... نحاول أن نشعل الشموع فلا نجد قدّاحة...
يحاول رياض بكل لهفة أن يستعير ممّن معنا في الغرفة قداحة،
لكنهم يتأسفون لعجزهم عن مساعدتنا... نتحسر كثيرا على سوء الحظ
ومع هذا أقول بيقين بأن الله لن يتخلى عني.
فجأة تشعّ الكعكة بأنوار مذهلة مبهرة ساحرة ونستمع
لصوت جميل مصدره غير مرئي يقول... " فناديناها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا "...
أحسّ حضورا قدسيّا يلمسني وتنبعث من حولي موسيقى لا متناهية تشرق بقلبي.
أفيق من حلمي على رنين المنبّه... حالة فرح تغمرني، أوقظ بناتي بمنتهى الرقة كعادتي...
بعد خروجهما إلى المعهد أنزل إلى الحديقة وأزرع نبتة لبلاب باسم زوجي وأتأمل النباتات
التي تبدو اليوم أكثر نضارة. عندما أعود إلى الداخل أشغّل
المسجّل فينبعث صوت فيروز الملائكي بأغنية نحبها أنا و زوجي كثيرا:
"سنرجع يوما إلى حينا"...
أسمع القفل يتحرك... يدخل حاملا باقة ورد يتقدم نحوي بعيون تلمع حبّا،
فأتجه صوبه وقلبي يكاد يخترق صدري...
فإذا نحن الحب الذي يشع بأنوار هذا الكون وبعظمة هذا الوجود

بدء الحلّ و قد نضج الصراع و و ضحت الرؤية .. و الحلّ جاء بين الحلم و اليقظة ..
حيث صورة من الماضي تفيق تقوّي اليقين بأنّ شموع الفرح و الخلاص لن يشعلها
لنا الآخرون .. نداء يا ربّ يأخذ هنا زمكانيّة جديدة .. ثمّ نراه مجاباً بإيحاء أتت
به الآية و أخشى الخوض هنا في دلالة اختيار آية دون غيرها لكنّ الكاتبة ما سمحت
بطيّ الخوف فصرّحت بالحضور القدسيّ و إشراقاته في الروح .. ( العنوان ) ..
بعدها ينساب الحلّ كما الماء و تتبدّل الأحوال و للألفاظ هنا أن تحكي ( فرح .. رقة ..
نضارة النبات .. حتّى البنتين نجدهما الآن تلتصقان بياء المتكلّم " بناتي " و رياض
يستعيد ما هو عندها فتقول :" زوجي " ..) و كلّ ذلك مواءمة جيّدة وظّفت اللغة لتوصيف الحال
الّتي معها جاء الحلّ .. فكان اللقاء و عادت المياه إلى مجاريها مع عودة السفينة من امتداد
الأزرق البعيد ..
و أرى الكاتبة هنا موفّقة في أشياء كثيرة مثل الصفو و ظهور عمر البنتين ( في المعهد )
و ذلك يؤسّس لنصرة العودة و الانتصار على نزوة عارضة ..

لكن ثمّة مبالغة في إظهار فكرة ( الحلّ هداية و هديّة من السماء ) ما جعل الخاتمة تأتي
كمعجزة في زمن لا تروق فيه فكرة المعجزات لكثيرين .. و لأنّ ذلك كان على حساب
كثير أشياء كان بالإمكان الاتّكاء عليها ليأتي الحلّ منطقياً مثل الكامن فيها من حبّ أشارت
إليه في البدء + فقدان الاستقرار في البعد و دلالته + طول العشرة المستنتج من عمر الفتاتين
+ وجودهما الّذي ما كان فاعلاً و مؤثّراً في الأحداث فكان محض حلقة في إطار ..

في آخر المطاف لا بدّ من القول :

في عالم القصّة كثير أشياء ما زالت قابلة للتحليل و تسليط الضوء على جمالها .. من عموميّة المكان و واقعيّة الموضوع
الّتي إن تناقضت مع الحلّ عندي فقد تكون حقّقت مواءمة عند غيري .. و يبقى ذلك خاضعاً لما أرادته الكاتبة و الّتي رأيتها
تمتلك أدوات القصّة كاملة و تديرها ببراعة أتقنت فيها بناء الأحداث و الحبكة و توظيف اللغة وصفاً و سرداً لخدمة ما تريد قوله ..
و إن ذكرتُ بعض الشوائب فذلك لا يعني إلاّ أمنيات أردتها أن تكون لتحقّق القصّة وجودها الّذي تستحقّ في ذهنيّة أكبر عدد من القرّاء ..

فالشكر الشكر لك كاتبتنا روضة الفارسي ..

و في طريق النجاح أراك ثابتة الخطا تسيرين من ألق إبداع إلى ألق إبداع آخر





7. رحلة في قصيدة سلطان الزيادنة "ما قالته الجراح وأبي"



ما قالته الجراح وأبي


ليس الشَّقيُ بطيّبٍ في عَيشِه= مهما تكلّفَ حِكمَة الصبّارِ

في البدء كانت الكلمة و كلمة القصيدة عنوان عرّفك بأهل الدار و مدخل أنبأك بالأين الّذي وطأته عينك

فذا دار الشقيّ الّذي مهما حاول تصريف الحياة بازدراء مرار الصبر لن تمنحه الطيّب سواغ عيش ..

مدخل وضع بيد القارئ مفتاح الخيار فمن شاء تابع و من شاء خرج مغلقاً الباب و قد أدرك الغاية في البداية ..

و أحسب أنّ لا أحد سيخرج دون متابعة أغراه بها هذا المفتاح التشويق الّذي أكاد أجزم باختلافه عمّا عهدناه في مقدّمات القصائد ، فلا دعوة و لا إرغام بأمر قف أو أصغ إنّما هو الدخول هنا بعين الإرادة ناهيك عنالتلهّف لجمال معهود في أشعار ربّ الدار .. تدخل ليكون الاستقبال بما يليق :



عـزَّ الزَّمـانُ بقطـرَةِ لِقفـاري = واستوطَنَ الظَّمأ الأثيـمُ ديـاري
والعمرُ يحمِلُنـي علـى رمْضائـه = أنّى أسيرُ أرى نَزيـفَ جـراري
مِلحُ العيونِ على الدروبِ قَصائدٌ= صمَّاءُ قد نطَقت بِصمتِ الـدّارِ
والآن يكسو الموتُ لونَ قصائدي =والحزنُ يُبكـي مُقلَـةَ الأوتـارِ








فلا توهمَنّ ما كان هو محض ذم للزمان ببخله لأنّك إذما تأمّلت ستدرك أن اختيار الفعل

( عزّ ) لعب دوراً في حسن الاستقبال و أخذ أبعاداً أخرى في تركيبة الجملة ، فذا الشحيح الّذي ضنّ به الزمان على الشاعر هو ما يحفظ للزمن عزّته لتكون القطرة مدار صراع بين قفار الشاعر و زمن ما عاد فيه من المستحقّ سواها .. فيهبها الشاعر مؤئراً حفظ الزمن عزيزاً ..

أ تهيّأت الآن في الذائقة دلالات خطرت هنا فيها الأبعد من ذمّ و المقارنة بين بخل و إيثار و فيها التعليل للقادم في الشطر الثاني حيث وضح مأثم الظمأ الّذي استوطن فوطّن الشاعر مجموعه في دياره ليكفّ عن الزمن جرمه ؟ و ما ذلك كلّه بجديد مشكوك فيه بل هو عتيق كيقين الفعل الماضي و ثبوته .. و نخرج من البيت الأوّل و نحن نقول : جواداً و أكثر كنتَ مع الزمن فهل ربحت تجارتك ؟

بذا السؤال نتابع لندرك جحود الزمن المعروف بشكل أعمق ،، فقد امتلكنا الدراية بما كان من الشاعر ،

و هاهي ذي أنباء ما ردّه الزمن إليه تتوالى بيقين اعتماد الإخبارفي الجمل و مدلول الألفاظ المختارة


لتؤدّي :

حمل و إرغام على الرمضاء / نزف في شتّى الدروب روحاً و عيناً و نبضاً و ثواني و ... / صمت الذات من كظم مواجع ما أبقت من ماء العين سوى ملح يترجم الذات فيا للملح ترجماناً لطويل النزف و عقيمه و موجع حرقته / ثمّ موت يلبس الأشعار لونه ليكون النغم نشيج وتر فيه صدى حداء و دمعة بكاء /





و سلطان يدري أنّ بعض السامعين سيحسبونه في تهويل مرضيّ لا ينظر فيه إلا للنصف الفارغ من الكأس

فيوقف كلماته لتقول : مهلاً و لست أقول إلاّ ما كان ، فالجسد الماثل أمامكم تراكمات لأحداث أشقت الذات

و صاغت العمر كتاباً صفحاته بين اللوعة و الذكرى و أنّى بحثت فيه ستجد صدق ما قلت ، و ليس إلاّ .. :



أطوي الأسى فوقَ الأسى بِلفائفي = دُنْيا مِـنَ اللّوعـاتِ والتِذكـارِ



و ربّ نظرة إلى اللفائف تجعلنا ندري المهد نقطة انطلاق لمسيرة الآلام في عمر يحاول سريعاً في البيت التالي تقييده بالدنيويّ مبقياً على خيط أمل لا يملك من نسيجه شيئاً فينسله من يأس التسليم بحتم المصائر، و يسيّر مراكبه في متلاطم الشقاء بمجاذيف التصبّر، لكن .. و لكن هنا تذكّرني بالمثل القائل :

" رضينا بالهمّ و الهمّ ما رضي بنا " و كأنّ الحزن أقسم أن يكتمل فيه فيكسر كلّ تصبّر ليغرقه في أسى يرضي ربابنة القهر و يستعين بالريح الّتي تحمل في دلالتها ظلم أفعالها فتوقع النوى محرقة كلّ صارية كان منها احتمال أن نحتمل ازدراء المصاعب على مضض ..



لَكِنَّ مَوْجَ الهـمِّ حطّـم دفّتـي = وتَكفَّلت ريحُ النّوى بالصَّـاري



وهنا لا بدّ من وقفة للتأمّل في جماليّة الانتقال من غرض إلى آخر دونما شعور بانقطاع معنى أو قول

نقطة انتهى لنبدأ حديثاً آخر .. فمن صفعات النوى يتّخذ الشاعر جسر العبور إلى حديث الراحلين و ليس لك أن تعرض عن المضيّ معه ، نعم كان الدخول بإرادتك لكنّك هنا خطوت أولى خطواتك بلا شعور فوق الجسر و لا رجوع .. لا رجوع .. بل هو السؤال عن النوى و من طوى .. فيأتيك الخبر الحزين جواباً :


كلُّ الوجـوهِ الماضيـاتِ أَحِبَّـةٌ =ولَّوا ليكتبَ بُعدُهـم أشعـاري
ناشدتُهم والرّيحُ تَعصِفُ في دَمي = والقلبُ لا يقوى عَلى الأسفـارِ


جوابٌ يأتي راسماً لك عجزه في ردّ الموت عنهم مستعطفاً بضعف قلبه في تحمّل آثار الرحيل و ضجيج آلامه في الدماء .. و لكن هيهات يا سلطان هيهات .. فما بقي لك ملكٌ إلا في الوفاء لمن أنت من أقمارهم الضياء :


إنَّ الْوَفَاْءَ لِنبضِ قلبـي يَقْتَضِـي = ذكرَ الضّياءِ لسالـفِ الأقمـارِ


تشبيه ضمني طرفاه هو و هم في جهة و الضياء و الأقمار في الأخرى و لاح من طيّه عبق الذكر الطيّب للراحلين و عطر الإنسان إذا أخلص في الوفاء .. و مثل سلطان يخلص فانظر إليه في هذه الحركة :


ودّعتُ سَعـدي بعدَمـا سبَّلتـه = وَمضيت وَالصَّمتُ الكئيبُ إزاري

أسلموا الودائع فودّع و أسبلوا فسبّل عيون السعد عن حياته ( و الصورة تحلّق في الوجدان بروعة تستحضر معها كثير جلال و ترنيمة الحداء في لحن " سبّل عيونه ") و بهذا الجلال يمضي و قد ائتزر الصمت لا كظماً للمواجع هذه المرّة و إنّما كآبةً و غرقاً في سواد يرضي ما أراده الحزن من اكتمال و لا عجب فهو من أرضى قبله الزمان و حفظ عـزّة وجهه بأخر قطرة تمسك عليه الفرح .. فإذا أردت تفصيلاً لمشهد المؤتزر بصمته و حزنه أتتك الصور البيانيّة لترسمه بألوان المشاعر و ما في الذات من عتمة و شحوب و ذبول و إحجام أمل جديد :



لم أدرِ هل عَتـمٌ ألـمَّ بشمعتـي = فأنـاخَ ،أم ليـلٌ أزاحَ نهـاري
حتّى كروم النورِ غـارَ بريُقهـا = والنجم قطَّبَ وجهَـهُ للسّـاري
والشمسُ في أجفانِها لمَّـا يَـزلْ = وَسَنٌ يغالبُ صَحوَهـا المُـدّاري


و الاستفهام هنا غرضه التقرير بـ/ نعم قد أناخ العتم و متى أناخ فلا تأمل بقدوم نهار أو أن يكون لك حصّة

من نور تحكي الصورة كم هو عهد كرومه بتلألؤ العناقيد إلاّ على المحزون فقد ابتلعت فيض نورها

و ضنّت بالغيض من بريق عسى .. فسرى ليلاً و بدر الهداية رشاد يملكه لكن لا نجم يبتسم في سمائه


مانحاً أملاً و حتّى شمس النهار خالفت ديدن صحوتها فبقيت في وسن الأجفان ..

في غلبة التشخيص على الصور هنا ترتسم لك أشياء الكون شخوصاً أحكموا أمرهم و اتّخذوا قرارهم بحرب

الذات الشاعرة فأطبقوا عليها .. و رموها في جبّ اليأس ..

{ فيا يوسف ناج مخلّصك .. و منه خذ اليقين و حبل النجاة .. }

حلقة غابت لفظاً و اختزلتها / و إذا / الّتي لبست عكسها انسجاماً مع أضداد القصيد و خرجت عن الفجأة ليكون حضور الطيف ناجماً عن مناجاة بالدمع كانت ، و يدركها الحسّ المرتحل في القصيد من درايته بحياء الشاعر و عزفه عن الاسترحام بالبكاء :



فإذا بطيفِ أبي يَفيضُ بِحالكـي = تحكي طيوبُـه عاطِـر الأزهـارِ
فسَمعتُ مِنْ أبتي كلامـاً بيّنـاً =كالفجرِ شقشقَ في دجى الأسحار


استحضار طيف الأب هنا من بين الراحلين يحكي كثير أشياء منها الوفاء و منها ما يمثّله الأب في الوجدان و الذهن فهو السند و المعتمد و الصدر اللا يضيق و .. كلّنا يطرق هذا معرفة و شعراً لكن السلطان يريد التفرّد لأنّ من استحضره فردٌ في كثير أشياء أقلّها نورٌ يعادل بحجمه حلكة الذات الشاعرة و قد عرفناها ،

و طيبٌ يختزل عطور الزهر ، و حديثٌ بيّنة كلماته و مبيّنة ، و حكمةٌ تغلغل في الذات و فيها تبدأ حركة

الشروق بشقشقة لاءم لفظها انبعاث النور من العمق و تدريجيّاً بشكل تصاعديّ متسايراً مع كلّ عبارة للأب ..


فلله درّ يشقشق هنا و ما أدّت .. و لننظر إلى بوادر الفجر و كيف يتّضح النور خيطاً بعد خيط و بيتاً بعد بيت

من الحكمة الأبويّة :



لا يأسَنُ البحرُ الرَّحيـبُ بِمائـه = مهما تجنّـى الشَّـطُّ بالأكـدارِ
وإن امرؤٌ عدَّ السماحـة مَغرَمـاً = اسودَّ قلبـه واستـوى بالقـارِ
قل للجَبانِ وقـد تلكـأ خانعـاً = أبـوردة تكفـي أذى البتّـارِ ؟!
أيام تَركنُ للخضوعِ ، وَتستقـي = خَمرَ النَّدامةِ مِن قُطوفَ العـارِ
عَجباً لمن أخـذَ الهـزالُ بِعزمِـه = أنَّى يطيـحُ بغاصـبٍ جبَّـار
وإنِ امرؤٌ فَقَدَ الإبـاءَ فمـا لـه = في العزِّ بَعد هَوانـه مِـن جـارِ
يا من أضـاع سُمـوّه بَهوانـه = وبما يَحـطّ الـرّوح مـن أوزارِ
مَن غـرّه وَثَـنُ الحَيـاةِ بزيفـه = مَلأ اليديـنِ بفائـضِ الأصفـارِ

و كأنّي بالابن هنا كما نحن في ذهول من غزير المضمون و سريع التوالي للحكمة فواحدتها تأخذ بعنق الأخرى لندرك أنّ ما في الذات الشاعرة كان معلوماً عند الأبّ بأبعاده كلّها فالحال العام للوطن ليس ببريء من جرم اقترفه الزمن بك يا بنيّ ، هو الركود و قلّة مائنا في الخلق ما جعل بحرنا يأسن و غلّب أقذار الشطّ عليه .. و انظر إلى السماحة في غير مكانها و ما عادت به على النفوس ، و إلى الخنوع الّذي دفع جباننا إلى اتّقاء أظلاف الوِرد بالورد ، و هل تساقي كؤوس الندم على ما ارتكبه ذلّنا من عار كافٍ لمحوه ؟ ثمّ كيف بعزيمة نقتل حميّتها و نضعفها نأمل الانتصار و دحر الغاصب ؟ و هل لامرئ أهان نفسه بالرضوخ أن يطلب الإجارة من جوار ؟ لقد ضيّعت أمّتنا رفعة كانت و أثقلت الروح بهوان صارت إليه ، و أوقعنا الجهل في حبال حياة هي محض قشور زيف و من استعبدته فعبدها فلن يعود منها إلاّ صفر اليدين ، فأدرك .. أدرك ..

أبتاه ، و إنّي أردتك يد خلاصي و أراك تغرقني بيقين ما أنا فيه من آلام .. فكيف قرأتني ؟

و علامَ يكون قراري ؟




أما الإياس مِنَ الحَيـاة فحِكمـةٌ = وتَطيبُ فـي ديمومـة الإعسـارِ
فاسلمْ بنفسكَ أن تَرومَ سعـادةً = وكفاكَ حُرّاً ما بهـا مِـن نـارِ


قد كنت في جبّها قبلك ثمّ معك .. فاعلم يا بنيّ أنّ يأساً أنت فيه هو الخيار الصحيح و الوحيد ما دام العسر يأتينا تلو العسر بلا انقطاع .. و جنّب نفسك عقيم السعي عن فرح و حريّ بإنسانك أن يشرف بنيران مواجع

تنضج سموّه و تحفظه حرّ إنسان ..

(وكفاكَ حُرّاً ما بهـا مِـن نـارِ ) شطر عليه أرى المتنبّي يقف بحسرة ليتني و أمنية لو ملكته بهذا التكثيف


و العمق ، و عنده أجد الابن قد نال مباركة الأب لأحزانه فانتشى بحرّ نفسه و رضا الطيف عنه ،، و لكن

هم اللائمون قد تكاثروا عليّ منكرين عليّ الحزن و ما أنا فيه من تشاؤم .. فما تقول لأقول ؟



ولقد أقـولُ لطامـعٍ بسُلافهـا = ترجو الحَلاوَةَ مِن جَنى المـرّار؟!.
ما بينَ فَرحَةِ مَولـدٍ و رَحيلُنـا = نَبكي بِلا عَينينِ حُكـم الـذّاري
فَعَلامَ يَخْشَى الْمَرْءُ أوبة روحـه = والموت يخرقُ أحصنَ الأَسـوارِ؟!
والموتُ كلٌ لا منـاصَ يذوقـه = مهما استطالت غَفوةُ الأقـدارِ
بينَ الأحبّة قـد يُلاقـي حَتفَـه = فِي مَحضرِ التسبيـحِ والأذكـارِ
وَ تَمُوتُ آلافُ الخيـامِ غريبـةً = مَنْسِيَّـةً بمَـواطـنِ الأغـيـارِ



أخبرهم بـ / لا جدوى رجائهم الضدّ من ضدّه ، فكيف يأملون الحياة من زمن ميّت و محكوم من بدايته

بالموت ؟ و لمَ يركبهم الخوف من موت هو مجرّد انتقال روح بينما الموت الفعليّ استباح كلّهم و ما حوله


ثمّ إنّهم يدركون أنّه بالغهم و لو كانوا في بروج مشيّدة ، و أنّ كلّ إنسان فان ، و ما الإمهال يعني الإهمال

تلك حقيقة إنسانيّة لا خلاف عليها أ لم يحكِ طرفة ذلك المصير : لكالطِول المرحى و ثنياه باليد .. و ألم يأتهم

التوكيد في كتب السماء .. ؟ ثمّ تأمّل في الموت يسوّي بين فرد يقضي بين أهله و ما يتلون و بين كثيرين

خيام تموت عرياً و غربة و قد نسيها الأهلون .. فخذ قرارك و قد امتلكت الأسباب و حجج الدفاع ، و دعني

لأعود حيث كنت بلهفة إليه و بشعور رضا لكوني تركت في ذاتك امتدادي :



فانشر جَناحَك للحيـاةِ مودِّعـاً = واقرأ عليهـا سـورَة الإدبـارِ
والآن أمضي فالرّحيـلُ يَشدُّنـي = وعزاءُ نفسي أنْ يَطيبَ بِـذاري



و ربّما للوهلة الأولى نحسب ألاّ جديد .. فالمعاني مطروق معظمها و الأسلوب اعتمد في العرض على تركيب

الصورة بما عهدناه من أدوات الخيال .. و على مواكبة جدليّة الحياة مع جدليّة التضادّ في الطباقات


و المقابلات .. لكن في نظرة ثانية ندرك أنّ جديداً كان في حبكة الأشياء السابقة كلّها مع تطعيمها بخزين الثقافة الأدبيّة و الدينيّة مع شموليّة الحكمة بحيث أقامت الصلة بين الوجدانين الذاتي و الجماعي إضافة إلى شعريّة تدري كيف تنزل اللفظ في مكانه الصحيح .. كلّ ذلك إذا أضفناه لغزارة الحكمة و عميقها يضع أيدينا على بساط جمال خيوطه معروفة لكنّ تداخلها في الحبك هو المدهش الجديد .. و لعلّنا نلمس إشعاعات اللفظ في مكانه إذا عدنا إلى بعض الألفاظ محاولين استبدال أخرى بها :

( تجنّى ، استوى بالقار و ليس على ، جار ، وثن الحياة ، ديمومة الإعصار ، الذاري ، الأغيار .. إلخ )

و أمّا باقي الجماليّات فأحسبها واضحة وضوح البيّن الّذي أتى في حديث الطيف و شقشق جماله و نوره في الذات الشاعرة و الذوات القارئة ليدرك الجميع أيّ وهم دعوناه حياة ..

إضافة إلى دهشة الحبك نقف على جديد أورد بعضه السلطان من قبل و يضيف إليه في هذا القصيد ،، أمّا ما ورد عنده

فهو تحوّل غرض الرثاء عن معانيه المعهودة ( تعداد مناقب الراحل و تعظيم الفجيعة و تصوير حال الحزن و البكاء )

ليدور في دائرة إنسانيّة أرحب بمواجعها فإذا الفجيعة خلاص و إذا البكاء لبقاء في دنيا الأصفار و إذا المناقب يستشفّها القارئ دون أن يذكرها الشاعر و أمّا الجديد فهو تكثيف كلّ ذا لنكون بإحساس الغربة يركبنا اليأس و نرى الموت دعوة من ظلام نحن فيه إلى عالم الضياء حيث يقين النجاة ،، هو الراحل نراه طيفاً يرثينا ، فنبكينا ، و نتعلّق بحواشي ثوبه في نداء :




أنسيتني أبتـاهُ حـيَّ مواجعـي = وجَمعتَ من لُجَجِ الدروب نِثاري
فأكْرِمْ بِطَلِّ سحابكم مـن زائـرٍ = مـا هـلَّ إلاَّ مُطفـئـاً لأواري




أبتي ، أ هو الرحيل أم هو التخلّي عنّي لأبقى أتنفّس الألم و قد باركته و أثريته بيقين أطفأ ما كنتُ فيه إذ أدركتُ أنّي على صحيح الدرب .. ؟؟ ربّما هما معاً .. إذاً أصغ لآخر حروفي هنا :


وَإليك مِنْ روحي التَّحِيَّةُ كُلَّمَـا = ناحت ملوّعة عَلَـى الأشجـارِ
وسَقَاكَ ربي مِـن مَعينـه رَحمـةً = وأنالَكَ السُّكنى مَـع الأبـرارِ





أمّا أنا فأصغي إليه و هو يسترحم و يدعو له بالجنان ، فأسأل : أينقض الشاعر هنا ما قلتُه عن لا تقليديّة

معاني الرثاء ؟ ليكون الجواب من آنية الدراية بكون سلطان لا يليق بإنسانه أن يغضّ الحرف عن رفع التحيّة


للطهر الراحل و لا يمكن له إلاّ أن يجدّد ولاءه لدوام حزن يشارك فيه الحمائم ،، ثمّ يستمطر الرحمة راجياً

الفردوس مسكناً لراحل زاره طيفاً و ارتحل و ما لمثله غياب في المرّتين ..







كيف يكون ذا و قد رأيناه يغادر مملكة الأحزان و قد ترك لها سلطانها يعتّق الإرث بملكة الإبداع و يحسن

ضيافة زوّارها فيقريهم كثير جمال مزجه خمر آلام ، و عزفه دفقات شجن في الكامل من النحيب ، و ريّه

رويّ يحكي انبعاث آه تصادرها هدرة المواجع في الراء لتكسرها و تردّها إلى عمق ذات منها كانت و إليها المآل ..

و كما كرم القرى كان حسن الاستقبال .. و كان الختام .









فما عسى متواضع زائري أن يقول بعد هذا سوى كلمة أدوّنها على باب الخروج :



كنتُ هنا .. و قد رأيت و دريتُ و رُويت ..

فتبّاً لك يا زمن ..

و رفقاً بابنك أيّها الطيف ، و لك من دعائي ضعف ما طلبه لك ..

و أمّا أنت شاعرنا فالرحمة الرحمة لذاتك و قد تركتها نهبة لسياط الأوان

و كفى حرّك عزاءً درايةٌ بالضمائر و موهبة تنير البصائر ..

و ثمّة أمنية تمنّيتُ لو قلتَها :



أبتاه عذراً ، يوم رحتَ تركتني = لثقوب سقف حمايتي و جداري
و لقد بذرتُ جنايةً لكنّني = لا ، لست أتركهم بذا التيّار
علّمتني أنّ الفناء و موتنا = سيّان ، فاتركني أصوغ قراري
إذما مضيتُ يعيش بعضي إنّما = يحيا بموتي في الحياة صغاري





8. في عالم ( خبز و ياسمين ) للكاتب جمال الجلاصيّ






أوّلاً : مشاهدات ..






==========








قبل ولوج عالم القصّة أرفع باقات الشكر لكاتبها .. ثمّ نفتح باب الدخول بقبضة من دلالة الخبز و كمشة من دلالة الياسمين .. لنرى الكاتب و دون مقدّمات سرديّة كثيراً ما تتكئ عليها القصص لتمهيد الذهنيّة القارئة للدخول في عالم القصة













[COLOR=#ff0000]
بالتدريج أقولُ :












[SIZE=5]نجد الكاتب يرفع الستارة أمامنا فجأة ،، خطوة فقط و نكون في عالم القصّة ،، و في الحقيقة تلك براعة استهلال قصصيّ قرأت منها أنْ لا حاجة للممهّدات فالعالم الجديد ليس غريباً عنك عنّي فهو قريب من واقع معيش جغرافيّته امتداد خريطة الأناس البسطاء و زمانه مفتوحة نوافذه على ذات يوم كان أو يجري الآن أو نحلم أن يكون و ربّما كلّ ذلك معاً .. خطوة أخرى .. و نجدنا في المشهد نمسك الخيوط الأولى للعالم هنا نسمع نداء الأمّ و نتعرّف الشخصيّة الأولى متابعين تحرّكاتها ...









[SIZE=5][COLOR=#ff0000]
إذاً نحن في حارة شعبيّة بهموم عيشها الّتي يتسيّد فيها الفقر و الاحتياج و يمدّ سلطته على الطفولة مصادراً بعض حقوقها و زاجّاً بها في دوّامة الإعالة ،، و لا حاجة بنا للسؤال عن الأب فتغييبه ما كان نقصاً في الأحداث لأنّ كونه على قيد الحياة أو عدم كونه أمرٌ لا يعنينا فمتطلّبات الحياة معجزة في وجوده و أكثر إعجازاً في غيابه و في الحالين تدفع الطفولة قسطاً من ثمنها ،، و قبل أن تغمرنا السوداويّة في تلك الحارة يبادر الكاتب إلى عرض الوجه الآخر لها فأناسها طيّبون و من يستطيع منهم لا يتوانى عن مدّ يده لمساعدة الآخر بطريقة لطيفة لا تذلّ إنسانه .. و العمّ رابح من هؤلاء لخفّة حمله في الإعالة بدليل الخبزتين لا غير ..









إذاً .. لنا أن نتفّس بعض الأمان إذاً فنحن بين أهلينا و وجه شادي ليس بغريب و قد عرفنا منه بعض ملامح فهو ابن الخامسة عشرة وكلّ ما في تلك المرحلة ندركه دونما








حاجة للكاتب و من تلبيّته نداء الأمّ و ردود أفعاله مع الآخرين نعلم كونه مطواعاً و ربّما فيه نضج يفوق عمره الزمنيّ في جانب من شخصيّته ،، أقول في جانب لأنّها في جوانبها الفيزيولوجيّة خارجة عن إرادة المحيط في إنضاجها " و الحمد لله " فنراه متحفّزاً لكلّ الإثارات الجنسيّة العابرة و المختزنة في ذاكرته من مشاهدات السينما أو التلفاز و يعيشها دونما معطيات علميّة ثابتة فيها ( يسرح بخياله ) لكنّ ذلك يبقى مختلفاً عن اختلاجات قلبه بفطرة مكوّناته الطيّبة و بلا وعي " لماذا " يعرف أنّ ما تأخذه إليه الغريزة يقرّبه من خطيئة مرفوضة يعدّها جرماً و أنّ ذلك مختلف عن نقرات قلبه حين يسمع صوت ربيعة .. الّتي تحمل تجاهه الشعور ذاته و من حوارهما نعي التشابه بينهما .. فأمّها تخيط أو تنظم عقود الياسمين لتبيعها ابنتها و أمّه تصنع الخبز ليبيعه شادي و كلتاهما في حال يستدعي مساعدة الأبناء لتحصيل لقمة العيش .. شادي و ربيعة متوحّدان في البيئة و في الهمّ و في نبض القلب و في الحلم أيضاً ففي كلماتهما








ما يؤكّد السعي إلى متابعة التحصيل العلميّ و كلٌّ منهما يحثّ الآخر على ذلك .. تهدّد









فيرتبك و الصدق سمة مشتركة بينهما .. و الدرب واحد و هما في تكامل لا غنى للفرد منهما عن الآخر ،، يحميها في عالم الغرباء عنهم ( الحانة ) و لو بدمائه ، و هي بيقين الخوف من هذا العالم تترك له أمرها و تكتفي بما يخبرها هو عن دائرة المجون و ما فيها ،، مبيّناً و بلفتة ذكيّة من الكاتب أنّ هؤلاء ليسوا في الحانات فقط بل يعيشون بيننا و عليها دوام الحذر .. بينما في المقهى الشعبيّ حيث كلّ شيء ظاهر للعموم يتركها تتحرّك بشكا عادي و آمن فليس هناك ما يدعو للخوف ذاته و مقهى الشاطئ لا يختلف في كثير أمور عن الحارة الشعبيّة بوجود الطيّبين إنّما هنا عالم أوسع و جنسيّات أكثر و اقتدار ماديّ أكبر يحكيه الفرق بين ملاليم الحلاّق و دولار السائح ..









ينتهي الواجب و تُسدّ حاجة الإعالة و يبقى للذات حاجاتها أيضاً ،، و تلبيتها تكون بهذه المساحة الزمنيّة القصيرة الّتي تُسترق من شوط الأعباء ، مساحة يقضيانها على ثابت أرض في قسوة الواقع ( صخرة ) لكن يملأانها بجميل خيال لا ينفصل عن كونه معبّراً عن أمنيات فهي مليكته الآمرة و هو الشاعر الّذي يتّخذ حروفه وسيلة للتعبير عن هيامه بها ،، و هنا لا بدّ من الإشارة لأمرين : الأوّل علاقة الطبيعة بالشخوص و الحدث بشكل متناغم و كأنّ الطبيعة تسعد بكلّ فطريّ يحاكيها ،، و الثاني مقدرة الكاتب الشعريّة حيث كان المقطع رائعاً بمفرده منسجماً مع أحداث القصّة و موظّفاً لخدمة مضمونها و كشف









هدفها و ممهّداً للخاتمة بقرار جماعي ( ضمير جماعة المتكلّمين في نغنّي ) أنّ لا شيء قادر على إيقاف الربيع ،، تضيق الحياة و تثقل الأعباء و يضجّ القهر في جنباتها









مصادراً الطفولة و قاطفاً السلام و الجمال و الزهر و .. و .. و لكن الفجر آت و الربيع مستمرّ .. و من هذا القرار ننظر بعين المباركة و بسمة الرضا إلى مناوشاتهما الطفوليّة و كأنّ كلّ منهما يريد بحياء أن يأخذ من الآخر كلمة تشعره بأنّه ساكن القلب .. و قد كان ذلك بقراءة الحركات و كلمات العتب الحاني .. و بخطوات الفرح كانت العودة إلى الحارة بما منحته له من طمأنينة و بما منحه لها من حماية و أمان ..








عودة لمتابعة حمل المسؤوليّة فما زالت قفّة الخبز بينهما و هي في آن معاً صلة تربط بينهما و عثرة تقف في وجه طفولتهما .. لكنّ الروحين ملتصقان و الجسدان ملتصقان في ظلّ واحد و في الأمنيات ..










ثانياً : نظرة على العناصر القصصيّة








====================









الموضوع : مادّته الأوليّة من الواقع " بيئة معيشة أو معايشة " لملم منها الصور و أضاف إليها من معرفته و خياله ليكون عالماً مستقلاً بذاته يشبه الحياة لكن لا يحاكيها حرفيّاً .. و محتواه يصنّف العمل قصّة قصيرة اجتماعيّة إنسانيّة تحلّل بعض جوانب المجتمع و الحياة البشريّة .









الفكرة : ( الربيع مستمرّ و الفجر آت ) و قد بيّن الكاتب من خلالها وجهة نظره في الحياة و كانت بمثابة المحور الّذي عليه و لأجله بنيت القصّة ،، و أمّا التعبير عنها فلم يكن بأسلوب مباشر طالما وضع القصص في إطار الوعظ و الإرشاد و عطّل فيها حركة الأحداث ، إنّما كان من خلال توظيف عناصر القصّة لهذا الأمر فالشخصيّتان الرئيستان بعمر الربيع .. و لا تذمّر و لا ردود عنيفة على ضغوط الحياة بل متابعة الطريق بهدوء و تصميم ،، ثمّ المقطع الشعريّ وسيلة تعبير أخرى عن الفكرة الهدف ،،








ثمّ هناك الرمزان الأروع الخبز و الياسمين و تلك براعة تحسب للكاتب في العنوان و جعل الشخصين مرادفين للخبز و الياسمين و الخبز مهمّة شادي لكن لا غنى له عن ياسمين ربيعة ليستمرّ .. و في تكاملهما سؤال لكلّ قارئ : ماذا تحتاج في الحياة أكثر ؟ و هل لعالم مهما كان أن يبنى دونهما معاً ؟ و السؤال يتعدّى حدود القوميّات ليكون دعوة للإنسانيّة جمعاء كما الصرخة الشعرية كانت صرخة للإنسانيّة جمعاء فيها الأمل للمظلوم و التحدّي للظالم ..









العمل القصصي : و فيه الحدث القصصي و هو ما رأيناه من مواقف و أعمال و حركات و أقوال نسّقها الكاتب بالتصميم الهرمي التصاعديّ .. و لم يعتمد طريقة الخطف خلفاً إلاّ في استحضار حلقة من الماضي للمساهمة في رسم الشخصيّة نفسيّاً و بيان عاديّة الحدث ( لا تزال تذكر كيفتخاصم مع أحد السكارى حين حاول ... إلخ )









كما فيه الحبكة القصصيّة و لا يخفى على قارئ كونها هنا محكمة و مرتّبة بحسب منطق الحياة ،، و إن افتقدنا فيها إلى الذروة فذلك لأنّها بمجملها ذروة لمعاناة احتياج سابقة ( تتخيّلها من واقع ما تقرأ ) و منها بدأ الكاتب ليكون الصراع بين الواجب الأكبر من العمر الزمني و نداء القلب الملائم للسنّ ..








و في الحبكة من تلاحم العناصر و تكاملها ما يشي بامتلاك القاصّ أدواته و براعته في إدارتها لتكون عالماً بحدّ ذاته تدخله و تخرج منه تاركاً بعضك فيه و متمنّياً أن تكون في بعضه .. فمن منّا لم ير في شادي و ربيعة صورة من مصادرة طفولته و شقائها ؟!! و من منّا لا يرغب في استعادة براءة الحبّ ليكون ربيعة أو شادي ؟!!









البيئة : و قد أشرت إليها سابقاً ،، و واضح اتّساع دائرتها الإنسانيّة الزمكانيّة ، و أمّا مكوّناتها الاجتماعيّة و الأخلاقيّة فمتغلغلة في ثنايا القصّة و هي جزء من شخصيّاتها و بينها و بينهم علاقة تأثير و تأثّر ظهرت في التربيّة و علاقة اتّساق و تعاطف ظهرت في التربية و في انسجام الطبيعة الخارجيّة ( الموج ) مع الحدث و الشخصيّة .








إضافة لكون الكاتب اتّخذها وسيلة من وسائل الإقناع بواقعيّة القصّة فأطلق المسميّات على عناصرها ( المراح ، دكان الحلاق ، الحمام ، إطلاق المسمّيات على الحلاق و الجار و مقهى الشاطئ و اسم الفيلم ... ) ..









الشخصيّات : و منها الثانوية و قد أسهمت في العمل القصصي ككلّ و في رسم شخصيّة شادي و ربيعة ..








و كذلك منها الرئيسة و قد توزّعها اثنان شادي و ربيعة بتغليب شادي في المساحة القصصيّة ربّما لأنّه الخبز .. و قد اتّبع الكاتب في رسمها الطريقة التمثيليّة حيث تركها تكشف عن مقوّماتها النفسية و الاجتماعيّة و الخلقيّة من خلال حوارها و حركاتها و علاقاتها بباقي الشخوص ..








و لم يقحم ذاته ليرسمها و إنّما تركها تتصرّف بعفوية ملائمة لمكوّناتها ..








و إن كان ثمّة ما يستدعي أمنية تقول : لو كان المقطع الشعريّ متلائماً مع صفات شادي العلميّة و العمريّة لكان أفضل .. ذلك أنّ النضوج الفنّي في الشعر لا يتناسب و النضوج الفكريّ و اللغويّ عند شادي .. اللهمّ إلاّ إذا أراد الكاتب أن يقول : إنّ الشخصيّة فوق العاديّة في هذا الجانب .. و ربّما لو عبّر عن الفكرة ببساطة أكثر أو بأغنية ما أو بمحفوظ قرأه شادي و اختاره أقول : ربّما كان ذلك أفضل لبناء القصّة ،، لكن في الحقيقة لا أتنازل عن جماليّة المقطع ..









الأسلوب : و قد وزّع الكاتب النسيج اللغويّ للقصّة بين السرد ( يخرج .. يسير .. تطلق تنهيدة .. إلخ ) و بين الوصف و قد وجدناه مركّزاً و موظفاً ( يسود المكان صمت إلاّ من صوت الأمواج الهادئة تزيد اللحظة شفافية وشاعرية ) و كان بلغة خصبة واضحة و لم يطل فيه بحيث يبعد بنا عن القصّة أو يعطّل حركتها .. و بين الحوار الّذي كان هنا بين الشخصية و الآخرين غالباً و بينها و بين الذات قليلاً ..








و قد أدّى وظائفه في تسيير الأحداث و تحليل الشخصيّة و إقناع القارئ بحيويّة المواقف و واقعيّة القصّة ،، كما حقّق شروط نجاحه في بساطته و رشاقته دون أن يثقل بطويل العبارات و في التحامه بالعمل القصصي و ملاءمته للشخصيّة " اللهمّ إلاّ ما جاء من شعر " ..









أخيراً : ليس لي إلاّ قول : مهما جالت أبصارنا و كتبت حروفنا نبقى أعجز من أن نحيط بعالم متكامل و القصّة عالم .. نقلت منه ما رأيت و لا بدّ أنّ فيها رؤى أخرى قصّرت عنها .. و ما عزّز تقصيري جهلي بدلالة ما جاء بالفرنسيّة فتمنّيت ترجمة لها ،، و عدم القدرة على تكوين تصوّر عن تفاصيل ذاكرة " عصفور السطح " سواء كان فيلماً أو كتاباً أو غير ذلك فتمنّيت أيضاً حاشية بشأنه ..









و أمّا القول الأوّل و الأخير فهو كلمات شكر أرفعها للكاتب المكرم جمال الجلاصي الّذي عبقر الآن ليرسم ملامح أجمل للآتي .












 
/
موضوع مغلق

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:13 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط