الأحمر والأبيض - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: بلا معنى / إيمان سالم (آخر رد :خديجة قاسم)       :: صرخة غزاويّ (آخر رد :خديجة قاسم)       :: الا يا غزّ اشتاقك (آخر رد :خديجة قاسم)       :: للحزن جماله أيضا (آخر رد :خديجة قاسم)       :: بين يديك يا قمر (آخر رد :خديجة قاسم)       :: ،، بين يديك يا قمر / نافذة العنقاء خديجة قاسم ،، (آخر رد :خديجة قاسم)       :: عبير (آخر رد :عبدالرحيم التدلاوي)       :: وجبة (آخر رد :عبدالرحيم التدلاوي)       :: منكم العنوان (آخر رد :عبدالرحيم التدلاوي)       :: رثاء السيد عثمان فدعق:: شعر:: صبري الصبري (آخر رد :صبري الصبري)       :: رثاء السيد عثمان فدعق:: شعر:: صبري الصبري (آخر رد :صبري الصبري)       :: عين الكاميرا (آخر رد :احمد المعطي)       :: جرد _قصيدة قصيرة_ (آخر رد :ناظم العربي)       :: بأعلامنا التحفي (آخر رد :ناظم العربي)       :: هل تحب الليل؟ (آخر رد :ناظم العربي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▆ أنا الفينيقُ أولدُ من رَمَادِ.. وفي الْمَلَكُوتِ غِريدٌ وَشَادِ .."عبدالرشيد غربال" ▆ > ⊱ ذاكرة⊰

⊱ ذاكرة⊰ ان التهمهم الغياب ... لن تلتهمهم الذاكرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24-08-2014, 01:40 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
رشيد الميموني
عضو أكاديميّة الفينيق

الصورة الرمزية رشيد الميموني

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

رشيد الميموني غير متواجد حالياً


افتراضي الأحمر والأبيض

الأحمر و الأبيض

مد ساقيه مستسلما لبرودة الموج المتكسر في دعة ، متابعا حركته الدائبة بين مد وجزر، بين كر و فر يصاحبها خرير ذو رنة شجية، وألقى نظرة شاملة على الأفق في توجس وحذر ، وكأنه يخشى أن يتجلى عن مارد أو إعصار أو جماجم أو دم . كل شيء ممكن ، و لا شيء يوحي بالاطمئنان . البحر الأبيض ، البحر الأحمر ، البحر الأسود . ألوان لم يعد لها طعم . ربما لأن بحر الظلمات صار أعظم شأنا بحلفه ، والهادي أشد سطوة بأساطيله .. أما هذه البحيرة ، مرتع أمجاد فنيقية و قرطاجنة ، فلم يعد بياضها يجديها نفعا . صارت كعروس عارية من طرحتها ، مجردة من برنسها ، وكأنها تحسب ألف حساب للحظة المكاشفة حين تأزف الساعة ويصعق العريس لفقدان عذريتها ، كما صعقت الأخريات لعذريته هو.. عاجز، أبله ، مجذوب . كل النعوت تلقاها بالصمت ، باللامبالاة.. بالرضا أحيانا ، وبالدهشة والانكار تارة أخرى . هل هو أبله حقا ؟ إذا كان الأمر كذلك ، ماهي مقاييس البله عند الآخرين؟.. ربما تكون سحنته تشي بذلك . جحوظ عينيه ؟ غلظ شفتيه ؟ مشيته المترهلة ؟ قلة كلامه ؟.. أن يتكلم وحيدا ويشير ويعبس ويبتسم متى عن له ذلك ؟... كل هذا – قال له معلمه يوما- قد يحدث حين تتوالى المصائب على الانسان ، وينسى نفسه للحظات ، فيطلق لها العنان كي تنفلت من رقابة صارمة وكبت حديدي قاهر ، لا يخلصه من براثنه سوى التحلي بالقوة اللازمة و الكافية لاسترداد الوعي كاملا ، وإلا أوغل في متاهات البله والجنون إلى ما لا نهاية ، وربما إلى غير رجعة... القوة.. و لا شيء سوى القوة . حتى هذا اليم الذي كان يعني له فيما مضى القوة والجبروت ، هاهو يستكين عند قدميه في خنوع ، بينما تعزف مويجاته الكسيرة لحنا شجيا في ذل وخشوع لا مثيل لهما .. وهاهو يصبح ويمسي ويبيت في ترقب ووجل خشية على بياضه ، أو ربما فرقا على أن يستفيق يوما وقد أفرغ من مائه .
وفي حركة لا إرادية تغوص أصابعه في الرمل . يأخذ حفنة منها . يرفع قبضته متأملا انسيابه على ركبتيه في لذة شبقية . وينتبه إلى أن ذلك
يغبر سرواله الجديد ، بل كل بذلته التي ارتداها في الصباح دون أن يدري لماذا . أو ربما يدري ولكنه نسي أهمية هذا اليوم وخصوصيته ... ماذا يفعل هنا في هذا المكان المعزل من الشاطئ ؟ وماذا يقولون عنه الآن وعن غيبته ؟ لا شك أن الجارة تكاد تميز من الغيظ لاختفائه ، أو على الأصح لهروبه .. كم تثير حنقه هذه المرأة البدينة التي لم تكن تطيق حتى النظر إليه فبالأحرى التحدث إليه .. تنعته بشتى النعوت.. فهو الأبله والمعتوه والمجذوب و الأطرش و الحيوان... وهاهي تسعى ‘ليه بابنتها قربانا لزفاف لم يدر قط بخلده . قالت له يوما متجاهلة نظرات الاستغراب وهي تعلو محياه عقب تغير معاملتها الجافة له :
- اسمع يا ابني .. لن أجد عريسا أنسب لابنتي منك ، فأنت رجل و لا كل الرجال .
يضحك ضحكته البلهاء و قال وهو يمسح أنفه بكمه :
- تريدين الاستيلاء على مالنا.. أنا وأمي ؟
بجهد جهيد تسيطر على فورة غضبها وتطلق ضحكة كالفحيح قائلة :
- أعوذ بالله .. أمك هي التي ارتضت ذلك ، وفاتن غيرت رأيها ... سامحك الله .
أطرق هنيهة... عرفت الأفعى أين تصيبه بسهمها . كلامها كاف لجعله ينظر إلى الأمر نظرة مغيرة... لا شك أن البله انتفى عنه ما دام الجميع يروم وده ، وينشد موافقته... الجميع ؟ كلا.. الفتاة تعلن صراحة عن رفضها التام ، وتواجهه في حدة :
- اسمع... لا تعلق آمالا على ما يقال.. أنت إنسان طيب ، لكن الزواج قسمة ونصيب .
لم يحس قط في حياته بجرح أشد إيلاما مما أحدثته تلك الكلمات في نفسه . بل إن سخرية الجيران من غفلته وغبائه كانت أخف وطأ ... حقا ، لم يكن يطمع فيها أبدا ، لكنه شعر بشيء حاد يخترق ضلوعه ويدمي قلبه .. هل خلق للمعاناة والهزائم ؟ .. و أمه ؟ .. لم اختفت هذا اليوم ، وأمس ، وأول أمس ، حتى لم يعد يذكر آخر مرة رآها فيها ؟.. كيف تختفي في وقت هو في أمس الحاجة إليها ؟.. هل اختارت وهيأت ودبرت ، لتبتعد وتتركه نهبا للظنون وفريسة للحيرة ؟.. ربما ندمت على ذلك وهي التي كانت تبتهج أيما ابتهاج لتأكيده لها أنه لن يفارقها أبدا ولو ظل طول حياته أعزب . قد تكون خجلة من اعترافها له بندمها ..." سامحتك يا أمي.. لتظهري فقط .."
يشعر بحاجته للبكاء ، ويلتفت حواليه حذرا من أي رقيب ، ثم يطلق العنان لدموعه ، ساخنة . يحس بملوحتها وهو يلعق شفتيه اليابستين، وينتبه إلى الظلام يطبق على الأفق ، و البحر قد استحال لونه إلى خضرة قاتمة . يمسح جفنيه بكمه وينهض متثاقلا في إعياء ، ويخطو نحو الطريق . تلفحه ريح شرقية باردة . تغوص قدماه في الرمل بينما ربطة عنقه الحمراء ترفرف وراء رقبته ... ما العمل الآن ؟.. الكل ينتظره . سيجد في استقباله الجموع الحاشدة ، وستنطلق الحناجر بالزغاريد والتهليل و التكبير . وسيقتحم هذه الحشود ليتسلم قربان جارته ، في نصاعتها و زينتها وبهائها ... أخيرا استسلمت .. لكن لمن ؟.. لأمها ؟.. لأمه ؟ .. لصمته الحزين ؟.. أم أنها خشيت العنوسة ؟.. سيجلس إلى جانبها ، ثم يأخذها إلى الحجرة التي ضمته و أمه سنين ... ينتفض فجأة ويحس برأسه يغلي غليانا ، ودون أن يشعر ، يأخذ في الجري بكل ما أوتي من قوة ، وقد اشتد الطنين في أذنيه حتى يكاد يصمهما ، بينما كلمات الجارة تتردد كالصدى :" هذه فاتن.. هي لك .. و أنت لها .. هكذا أرادت أمك .."
أخيرا يتوقف لاهثا . ينظر إلى الطريق الذي نأى عنه وقد اصطفت مصابيحه المتوهجة . كل شيء موحش ، والبحر لم يعد يبدو منه شيء. الظلام في كل مكان ، ويتغلغل حتى في أعماق نفسه . ويدب الخوف إلى قلبه . فالمكان المقفر المحاذي للماء عادة ما يكون مرتعا خصبا " لأهل المكان" . هكذا تردد دائما جارته ، أو على الأصح صهرته .
يدير ظهره للبحر ويحث خطاه نحو الطريق المتلألئ . وحين يصل إلى مدخل الدرب تبدو له النجمة المرصعة بالمصابيح فوق الباب الحديدي ..و أناس هنا وهناك يتمازحون و يقهقهون . لم يتعرف على أحد . تغير الدرب وتغير المنزل أيضا . ولم لا وقد تغير الناس .. جارته .. فاتن ابنتها . ألم تقل له بالأمس القريب فقط وهي تستجمع شجاعتها و كأنها تعتذر عما بدر منها من جفاء ، لكن دون أن تتنازل عن كبريائها :
- الحقيقة أني لا زلت على موقفي منك .. لكن هذا لا يمنع من أن نتزوج مادمت لم ألق منك سوى اللطف ..وما دامت هذه إرادة أهلنا .
تغيرت فاتن كما تغيرت أمها . كل من حوله تغيروا . من كان فقيرا غني ، ومن كان وضيعا سما . أليس هذا من علامات الساعة ؟.. و أمه.. حتى هي لم تعد كما كانت ، حريصة عليه ، كثيرة الهواجس والقلق لدى غيابه . كيف هان عليها تسليمه وهي التي كانت تثور لذكر زواجه ولو مزاحا ؟ .. أين هي الآن ليسألها ؟... لا ، بل لتشد أزره في محنته هذه ... سيان موقفها منه وتخليها عنه .. فقط ، لتظهر وتمسك ذراعه لتنفث فيه القوة التي هو أحوج ما يكون إليها الآن .
يأخذ في استعراض الوجوه ويتفحصها بإمعان ، بينما تتعالى صيحات التبريك والتلميح :" مبارك عليك يا عريس الهنا.. هذه ليلتك .. همتك يا بطل.. والله فحل ولا كل الفحول . ".. يستمر هو في مشيته مشدوها ، مسترقا السمع علة يجد من يخبره أين هي ، و أين تنزوي .. دون جدوى . يزيد شعوره بالأسى و الوحدة ، فيتضاعف خوفه ، ويعود ليتمعن في الوجوه فلا يتعرف عليها... من أين أتوا ؟.. ألا يكون تهليلهم وتكبيرهم لأمر لا يخصه ، ويكون هو دخيلا ؟.. كلا.. ها هو يصل أخيرا حيث فاتن تقتعد الكرسي الذهبي . ينظر إليها فيريعه احمرار
شفتيها إلى درجة الغثيان . لكنه يبتسم دون أن يدري لماذا . هل لأنه تذكر فجأة البهلوان الذي كان يزور مدرسته كل أسبوع ؟ أم عرائس القصب التي كان ينافس فاتن على اقتنائها في صباهما ؟... كان يختطفها منها ويجري بعيدا ، فلا يردها ، أو على الأصح ، لا يلقيها أرضا إلا عندما يلمح أمها مهرولة نحوه وهي تزمجر وتهدد وتتوعد وتدعو بالويل و الثبور... يبتسم لها من قلبه رغم ما يشعر نحوها من نفور . فهي على كل حال زوجته على سنة الله ورسوله ، وقد كانت صريحة معه .. ثم إنها من اختيار أمه ،وهي تشبهها في كل شيء تقريبا ، فإذن لن يعيش تحت سقف واحد مع غريبة .
كم يكون مر من الوقت ؟.. بدا له الليل طويلا ، وشعر بحاجته إلى الراحة . لم يصادف في حياته ليلة أطول من هذه ، ولم ينتبه إلا وهو ينقاد صحبة الفتاة وسط جموع تدفعه دفعا إلى السلالم حتى كاد يقع. التفت وراءه مرات ومرات إلى أن نبهه المصور وضغطت فاتن برفق على ذراعيه . تناهى إليه صوت امرأة تصيح بنبرة أقرب للسخرية منها إلى الشفقة :" مسكين.. يتيم التقى مسكينة.."
ود لو ينفلت من لحصار الخانق المضروب حوله و ينقض على هذه الوقحة التي تجرأت على مثل هذا الكلام.. لم ينعته أحد قط باليتم رغم فقد أبيه وهو لا يزال صبيا.. كانت أمه الأب و الأم في آن واحد وبشهادة الجميع ، فما لهذه الثرثارة تهذي ؟..."أهكذا يا أمي تدعين أحقر الناس يمسني بلغوه، بل ويمسك أنت ؟"
الزغاريد تتعالى، والغيطة تزعق ، و الطبل يدوي فيصيبه الدوار ويتماسك حتى لا يقع ، ثم يسرع الخطى جارا العروس وراءه ، مقتحما باب الحجرة و الصفير يلاحقه مصحوبا بالصياح والقهقهة .. وحين يوصد الباب ، يسود الصمت وتهمد الحركة فيشعر و كأنه يستيقظ من حلم مزعج . ينظر حوله فيلفت انتباهه لون الحجرة الأحمر، واختفاء السريرين ، في حين توسط الحجرة سرير واحد عريض أعد بعناية . يلتفت إلى العروس الجالسة في وجل على حافته فيعاوده الغثيان لرؤية احمرار شفتيها . لولا هذا الاحمرار لخالها أمه . هل يسألها عنها ؟.. لكنه متعب الآن ويود لو يرقد بقية الليل وجزءا من النهار .. قال وهو ينزع ربطة العنق :
- هل أنت متعبة مثلي ؟
- نعم.. قليلا .
بدت في ردها كمن يجهش بالبكاء . شعر بالشفقة نحوها ونظر مليا إلى فستانها الأبيض وهو يخطف الأبصار بنصاعته .. يعلم الله كم كلف أمها اقتناؤه.. هكذا هي.. تريد أن تبدو بمظهر يفوق مستواها فقط لتباهي جاراتها .. ولكن ما ذنب الفتاة ؟.. ينظر إليها ويهم بإزاحة النقاب عن وجهها لكنه بتوقف ويرهف السمع ناظرا إلى الباب حيث انبعثت حركة و ما يشبه الهمس :
- ترى من يكون هناك ؟
- دعك من هذا ...
لهجتها صارمة.. انتفت عنها تلك الرنة الباكية .
- ربما تكون أمي ..
- أمك ؟
- نعم ، أمي .. مالك؟.. ألم تلاحظي أني لم أرها منذ مدة ؟
تنهدت فاتن بعمق وتأملته طويلا في صمت . لاحظ في عينيها أشياء تود قولها ، لكنه لم يفلح في سبر أغوار تلك النظرات . رثاء ؟ حيرة ؟
- ما لك لا تردين ؟
- اسمع.. أنت الآن رجل ، و لا يجدر بك أن تتصرف كالصبيان .
- وهل في اشتياقي لأمي ما يعيب ؟ أنت لم تفارقي أمك ولو للحظة .
تنهدت من جديد وعضت شفتها كأنها تمسك نفسها عن قول شيء مثير . وبعد تردد قالت بلطف :
- اعتبرني منذ الآن أمك و أختك .. وزوجتك..
- لا – قالها بحدة وهو يضع يده على فمها – لا تعودي لمثل هذا الكلام .. هل فهمت ؟
أبعدت يده بعنف و هبت واقفة قائلة بصوت حاولت أن يبقى منخفضا :
- ماذا جرى لك ؟ أجننت ؟
- بل أنت التي أصاب عقلك الجنون حتى تتفوهي بهذا الكلام القبيح .
- كلام قبيح ؟.. أيها الأبله .. متى تفيق من غفلتك ؟
- لست أبله ولا مغفلا .. و لكني أراك قليلة الحياء و تلزمك التربية من جديد .. لكن .. خسارة .. فأمك التي كان يجدر بها تربيتك لم تعمل إلا على اللعب بعقل أمي حتى وافقت على هذا الأمر .. سامحك الله يا أمي .. تعالي وانظري ما اخترته لي ...
تقدم نحو الباب فاستوقفته قائلة في هدوء وهي تصر على أسنانها غيظا :
- اسمع.. لقد تحملتك فوق طاقتي .. ألا فاعلم أن عودة الموتى إلى الحياة هي من سابع المستحيلات .. و إذا كنا قد رأفنا بك كل هذه المدة فلأننا كنا نعمل بوصيتها قبل أن...
- لا..
لكنها لم تتوقف .. كانت تتكلم وتتكلم بصوت أشبه بالهمس، محاذرة أن يصل إلى الخارج ، وهو ينظر إليها مشدوها ، ثم يلتفت إلى الباب . يعود الطنين ليملأ أذنيه وتتعالى الزغاريد وصوت الغيطة وقرع الطبول والتكبير يصم الآذان .
- لا..
- كل الناس يفقدون أحبتهم .. يبكون ويحزنون ويندبون ثم سرعان ما ينسون ...
- لا..
سكتت هذه المرة وقد راعها صوته . لم يكن طبيعيا . كان أشبه بزئير .. برغاء.. بخوار . لكن ما أرعبها أكثر ، هي نظرات عينيه الزائغة .. الفاقدة لكل تعبير آدمي كأنهما قطعتين من حجر .. ظل ساكنا برهة ثم تقدم نحوها وقد احدودب ظهره وانتفش شعر رأسه واحمرت عيناه . توقعت أن ينفجر باكيا فحن قلبها وعن لها أن تعتذر له .. ربما تكون البداية.. فهو لم يألفها بعد ، وهي لم تألفه أيضا.. لكن من يدري ؟ لعل العشرة تؤلف بينهما . مدت يدها لتمسك بمعصمه ، فانتزع يده منها بعنف حتى كادت تسقط . وقبل أن تستعيد توازنها ، تراءى لها بقامته الفارعة يحجب عنها نور المصباح الأحمر ، بينما مقص الخياطة الضخم يعلو فوقها ثم يهوي .
كل شيء تم سريعا وبصمت . حتى هي لم تكلف نفسها عناء الصياح ، بل ندت عنها فقط صرخة مكتومة كانت كافية لتصل إلى الآذان المتلصصة من وراء الباب . أما هو فاندفع كالثور الهائج لينتهر النسوة المشرئبات بأعناقهن نحو الداخل غير عابئات بثورته . وبجهد جهيد تمكن من منعهن من ولوج الحجرة ، ثم أوصد الباب . غير أن إحداهن اغتنمت فرصة انشغاله بالأخريات ومسحت ما علق ببذلته من بقع حمراء بمنديل أبيض واختفت مطلقة زغرودة مجلجلة ، بينما انسلت رفيقاتها ، الواحدة تلو الأخرى مزغردات وقد علت محياها إمارات البشر و الرضا .
الفجر قريب ، والأفق لا يزال مظلما . يخطو نحو الموج المتكسر مستسلما لبرودته ، غير آبه لهيجانه المدوي وخريره الدائم . يحس بربطة العنق تكاد تخنقه ، فيزيلها ويرمي بها بعيدا ... انتهى كل شيء . أصوات المؤذنين تعلو وتخفت . بعد قليل سوف يطلع النهار . أين المسير؟ .. كل الأبواب صدت في وجهه ، وكل الوجوه تنكرت له فلم يعد يعرف أحد أو يطمئن إلى أحد . الآن فقط صار حقا وحيدا .عاش أبله فليبق أبله حتى يموت كذلك ... ترى هل من السعادة أن يكون المرء معتوها فلا يعاني مما يحدث من حوله ؟ .. أليس جميع المعتوهين أصحاء الأجسام و بدناء ؟.. هو أيضا كذلك ، ولكنه يعاني ويكابد في صمت ، بينما الآخرون يصرخون ويجادلون رغم أن ذلك لا يفيد في شيء .. فالمسخ و الخنوع الذي طال الجميع لن يخفيهما احتجاج أو تنديد أو شجب أو حتى فورة غضب عابرة وربما مصطنعة .. هو الوحيد الذي أتى غضبه بنتيجة . و بعد قليل سيندفع الحشد إلى الشاطئ، لا ليزف فوق الأعناق ، فذلك زمن قد ولى ، وولت معه زغاريده و أهازيجه وغيطته وطبله . ولن يكون هناك تهليل ولا تكبير .. أو ربما سيكون تهليل و تكبير من نوع آخر ، وسينعت هو الآخر بآخر صيحات الفزاعة المتولدة في هذا العصر.. إذن لن يكون وحيدا كما خيل له .
يحس بنشوة تسري في جسده ، و أخذ يتمشى وقد تورد الأفق ولاحت له معالم الشاطئ الغافي كمارد جبار . وبدت الأمواج كأذرع تمتد نحوه لتوقظه من سباته . يستمر في مشيه ويداه في جيبه ، تاركا الأمواج تضرب ساقيه و تبلل ركبتيه ... يشعر الآن بانتعاش عند فخذيه و خاصرته . هنا كان يستحم مع أمه وهو لا يزال فتى يافعا ، فتدفعه مشجعة إياه على السباحة غير عابئة بتوسلاته كي تتركه يلهو عند انكسار الأمواج، فتعلو ضحكات المستحمين ويثير ذلك انتباه الصبية فيندفعون نحوه يحاصرونه من كل جانب ويرشون عليه الماء ، ثم يدفعونه دفعا إلى أن تنهرهم أمه فيتفرقون كفئران فزعة . عندئذ تحضنه فيحس بالسعادة والطمأنينة .." كنت أعلم يقينا أننا لن نفترق .. ولو إلى حين ."
وفي لحظة ، ينتبه من شروده و يلتفت نحو الشاطئ الذي صار ينأى عنه شيئا فشيئا ، فتتراءى له ربطة العنق الحمراء تتلاعب بها الريح وقد علقت بجذع شجرة يابس . وعند أحد الكثبان تبدو طلائع حشد عظيم يهرول مشيرا إلى ربطة العنق . تأمل الجموع قليلا و البرودة تغزو صدره ، ثم استدار نحو الأفق وقد استحال تورده إلى حمرة قانية .






  رد مع اقتباس
/
قديم 24-08-2014, 03:22 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
علي الحسن
عضو أكاديميّة الفينيق
إحصائية العضو







آخر مواضيعي

علي الحسن غير متواجد حالياً


افتراضي رد: الأحمر والأبيض

الأستاذ رشيد الميموني

قصة جميلة، ولغة الوصف كانت بهية ودقيقة، ولو أنها أتت في بعض أوصافها لسمات البطل النفسية بشكل مباشر، بمعنى لو تم وصف السمات النفسية للشخوص دون أن تصرح بشكل مباشر لكان أفضل كما قال الناقد المصري الدكتور سعيد شوقي، أي أن تجعل المتلقي يشعر بذلك دون أن تصرح بشكل مباشر..

هذه بعض الملاحظات دون أن يقلل ذلك من جمال ورعة نصكم أخي العزيز






  رد مع اقتباس
/
قديم 24-08-2014, 04:20 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
رشيد الميموني
عضو أكاديميّة الفينيق

الصورة الرمزية رشيد الميموني

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

رشيد الميموني غير متواجد حالياً


افتراضي رد: الأحمر والأبيض

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة علي الحسن مشاهدة المشاركة
الأستاذ رشيد الميموني

قصة جميلة، ولغة الوصف كانت بهية ودقيقة، ولو أنها أتت في بعض أوصافها لسمات البطل النفسية بشكل مباشر، بمعنى لو تم وصف السمات النفسية للشخوص دون أن تصرح بشكل مباشر لكان أفضل كما قال الناقد المصري الدكتور سعيد شوقي، أي أن تجعل المتلقي يشعر بذلك دون أن تصرح بشكل مباشر..

هذه بعض الملاحظات دون أن يقلل ذلك من جمال ورعة نصكم أخي العزيز
الأخ العزيز علي
أولا دعني أهنئ نفسي على هذا المرور البهي والتجاوب الرائع مع قصتي المتواضعة ..
ملاحظاتك وربما ملااحظات إخوة آخرين سيكون لها حتما الأثر الإيجابي في توجيه مسيرتي القصصية ..
شكرا لك من كل قلبي ..
محبتي دون حدود






  رد مع اقتباس
/
قديم 24-08-2014, 04:59 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
روضة الفارسي
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
تونس
افتراضي رد: الأحمر والأبيض



الأستاذ رشيد أنت أديب كبير والقراءة لك متعة صرفة

الحيقيقة أستاذ رشيد وجودك معنا هنا في الفينيق مكسب وفخر أضف أني من قرائك الأوفياء وأنتظر ما تنشر بتوق

كل التحايا والتقدير

روضة






  رد مع اقتباس
/
قديم 24-08-2014, 05:20 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
رشيد الميموني
عضو أكاديميّة الفينيق

الصورة الرمزية رشيد الميموني

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

رشيد الميموني غير متواجد حالياً


افتراضي رد: الأحمر والأبيض

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة روضة الفارسي مشاهدة المشاركة


الأستاذ رشيد أنت أديب كبير والقراءة لك متعة صرفة

الحيقيقة أستاذ رشيد وجودك معنا هنا في الفينيق مكسب وفخر أضف أني من قرائك الأوفياء وأنتظر ما تنشر بتوق

كل التحايا والتقدير

روضة
العزيزة روضة ..
ماذا بقي لي من قول أمام هذه الالتفاتة الرقيقة منك ؟
وكيف يمكنني إيجاد كلمات تفيك حقك من الشكر والامتنان ؟
كنت دائما بالقرب من حرفي وكلماتي ، ألمس منك كل التشجيع ..
وهذا حفزني للمزيد من العطاء ..
فلك من المودة أصدقها ..
ومن الورود ابهاها ..
ألف شكر ومن أعماق القلب .






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:29 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط