العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > ☼ بيادر فينيقية ☼

☼ بيادر فينيقية ☼ دراسات ..تحليل نقد ..حوارات ..جلسات .. سؤال و إجابة ..على جناح الود

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-07-2020, 02:35 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الفرحان بوعزة
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


الفرحان بوعزة متواجد حالياً


افتراضي 36 ـــ قراءة تحليلية لقصة: /اضطهاد/ للكاتب بلال الجميلي/ العراق

قصة: اضطهاد
خرج من السجن، نظر للسماء، أيقن أنه لا يزال محبوسا.

دلالة العنوان/ اضطهاد
تعني كلمة "اضطهاد" إساءة المعاملة النظاميّة لفرد أو مجموعة من قِبل فرد أو مجموعة أخرى، ولا تخلو هذه المعاملة مُعامَلَةً قاسِيَةً، أَيْ قَهَرَهُ وَجارَ عَلَيْهِ، وبالغ في إذايته. وللتوسيع، فإن كلمة "اضطهاد" تعني تجاوز الحدّ في السُّلطة ومعاملة قهريّة تعسُّفيَّة، وانتهاك المبادئ الدستوريَّة وخاصَّة ما كان متعلِّقًا بحماية حقوق الإنسان، أما في علم النفس فإنها تدل على عَرَض من أعراض الاضطراب النفسيّ يفسِّر فيه الفرد عدم نجاحه أو إحباطه.(1)
وأنواع الاضطهاد متعددة، له جذور في التاريخ القديم والجديد، ويتجلى الاضطهاد لأسباب عديدة وبأشكال مختلفة: بسبب العرق أو الانتماء إلى فئة معينة. كما يتم الاضطهاد بسبب اللون والرأي والدين. ويمكن أن نتساءل: ما نوع الاضطهاد الذي يعاني منه البطل؟ أهو اضطهاد منفرد أم اضطهاد
جماعي بسبب من الأسباب التي ذكرناها سابقا؟ ذلك ما سوف نكتشفه من تحليل محتوى القصة.
تفكيك الخطاب في القصة الومضة
خرج من السجن،/ للسجن دلالات متعددة، فالسجن هو مكان جغرافي مغلق حسب التصور الذهني، تتحرك فيه الشخصية بضوابط مختلفة على تحركها خارج أسوار السجن، كالبيت والشارع والمقهى، والمكان بصفة عامة نوعان: إما فضاء موضوعي، وإما فضاء مفترض. ففعل " خرج" يدل على أن السارد لا يقصد مكانا متخيلا، بل يعني به مكانا محددا واضح المعالم، رغم أن جغرافيته مجهولة لكثير من الناس إلا من داخل السجن وعاش فيه مدة. واختار السارد فضاء "السجن" لما يحمل من حمولة قمع الحرية. وهو محفز لربط العلاقة بين القارئ والقصة مقربة وقابلة للتصديق أكثر.
وقد قال أحد النقاد: "إن تعدد الأمكنة في الرواية أو القصة ينقسم حسب نوع الإقامة. فهناك إقامة اختيارية وإقامة إجبارية؛ وأما الاختيارية فيمكن الإشــارة إلي: فضــاء البيوت، البيت الراقي، البيــت المضاء، البيــت المظلم والبيت الشــعبي، وأما الإجبارية فمنها: فضاء الســجن، الزنزانة، فضاء الفســحة، فضاء المزار.... وإن أماكن الإقامة الإجبارية تشكل مادة خصبة للسرد، مثل معالجة (فضاء السجن) بوصفه عالما مفارقا لعالم الحرية خارج الأســوار."
فالخروج من السجن ليس محددا بزمن ما، ولم يذكر السارد سبب دخول الشخصية للسجن، فالخروج من السجن هو انتقال من المغلق إلى المفتوح، من فضاء السجن المغلق، إلى فضاء الحياة العادية كمكان مفتوح. " وقد أشــار يوســف حطيني إلي الأماكن المفتوحة التي تشمل الأحياء والشوارع والساحات وما يشبهها، والأماكن المغلقة كالمقاهي والفنادق وغيرها" وقد يتحول الســجن بانغلاقه إلی مكان مفتــوح عند بعض المبدعين كمكان للتخطيط والتفكير والتدوين لأحداث خارجية عن السجين، من تشغيل الذاكرة، وتداعي الأفكار، إذ ذاك يخرج فضاء السجن من الانغلاق إلی آفاق أخری يجعله مفتوحا.(2)
مع المدة، تتأقلم شخصية السجين مع طبيعة الحياة في السجن، في البداية تكون رافضة، وقلقة. ومع الأيام تتحول إلى شخصية تتقبل الوضعية الجديدة، فتجتهد لتتكيف معها، حرصا للبقاء على قيد الحياة.
فالكاتب سكت عن حقبة زمنية للسجين وهو داخل السجن، تجاوز عنها على أساس أن السجن هو أداة لمنع الحرية. كما أنه اختصر تلك المعاناة في العنوان "اضطهاد" لكن، أهو اضطهاد ابتلي به خارج السجن، فرفض الظلم والإذاية، فلم يتقبل تلك المعاملة فدافع عن نفسه، فكانت النتيجة سيئة بعدما دخل إلى السجن؟ أم أنه لقي معاناة كبيرة، واضطهادا واسعا وهو داخل السجن؟ كل تلك الأحداث تركها السارد مجهولة في هذا النص القصير جدا، دافعا القارئ أن يفهم مجرى الأحداث من خلال تجربته وسماعه وثقافته.
نظر للسماء،/ في بعض الأحيان يكون السجن محفزا لتكوين شخصيته، وجعلها شخصية جديدة عن طريق التكوين الجسمي والذهني، فكم من مقهورين في السجون تحولوا إلي كتاب ومبدعين وهم داخل السجن، وكم من سجين تحول إلى كاتب شهير بعد خروجه من السجن، والأمثلة كثيرة وشاهدة على ذلك في العالم، مما أضيف للأدب جنسا أدبيا جديدا تحت تسمية "أدب السجون"
بطل القصة لم يكن من هذا النوع، فماذا يحمل معه أثناء خروجه من السجن، ولعله من السجناء البسطاء الذين اقترفوا جريمة ما، إما عن طريق العمد أو الخطأ، مما يؤكد على أن سجين القصة عانى من اضطهاد داخل " السجن" وكان الاضطهاد طويل المدة، وربما قصير المدة خارج السجن.
السماء التي نظر إليها السجين، هي نفس السماء التي كانت تعلو وتكون سقفا للسجن، لكن الاختلاف يوجد في دلالة النظر، فداخل السجن يرى سماء أثناء الاستراحة كفضاء محدود، يمتد إلى الأعلى، بينما السماء التي يراها بعد خروجه هو فضاء واسع وغير محدود. توزعت نفسه بين المكان الضيق والمكان المفتوح، فنظره إلى السماء لا يقتصر على شعوره بالحرية، بل يمتد نحو خطاب مولد داخل نفسية السجين، لكن السارد غيبه لإثارة القارئ وتحفيزه للتأويل المطابق للحالة النفسية للسجين.
أيقن أنه لا يزال محبوسا./
اختار السارد فعل"أيقن" لكي لا يترك الشك للقارئ، بأن البطل علم بأمره وحالته بعد خروجه من السجن، فهو علم بحقيقة خروجه من السجن بعد إنعام النَّظر والاستقراء والاستدلال، وهو النظر إلى فضاء السماء الفسيح. فرغم يقينه أنه خرج، فإن حالته الأولى لم تتغير. يقول السارد:"أنه لا يزال محبوسا".
فالكثير يقع في الخلط بين "ما يزال" و"لا يزال" في الكلام، وتجدهم يضعون كلا منهما مكان الآخر،
وما يزال: تفيد الديمومة والاستمراريّة، وهي بمعنى "كان" التي تفيد الاستمراريّة كما في قوله تعالى: "وكان الله غفورا رحيما " أي ما يزال الله غفورا رحيما، والمراد الديمومة والاستمراريّة.
و"لا يزال" لا تفيد الاستمراريّة في الأزمنة الثلاث، بل تفيد الاستمراريّة إلى زمن التكلّم، أو إلى وقت ما في المستقبل. وعليه فإن " لا يزال" لا تفيد الاستمراريّة المطلقة بخلاف " ما يزال" (3)
فالجملة السردية / أنه لا يزال محبوسا./ تفيد أن البطل يشعر لحظة خروجه من السجن أنه لا يزال داخل السجن، لكن هذا الشعور سرعان ما يتغير بمجرد مرور زمن معين، وابتعاده عن السجن مستقبلا. صعب على هذا المسجون أن يحس بطعم الحرية بعد ما ترك باب السجن وراءه، يلزمه أياما وأياما حتى يندمج في المجتمع، وتتحول شخصيته الذهنية والفكرية والجسمية نحو التكيف الطبيعي الذي كان عليه قبل دخوله السجن.
فلو قال السارد" أيقن أنه ما يزال محبوسا" فإن المعنى يتغير، وتحل دلالة جديدة ب استعمال "ما يزال". أي أن السجين رغم أنه حر وطليق، ما زال يحس أنه مسجون في مجتمعه، وأن فكرة وجوده في السجن ستعيش معه دوما، فما دام أن هناك رقابة على سلوكه وتفكيره وإبداء رأيه، ورغم أنه يعيش في فضاء المجتمع الواسع، فإنه يحس بالمضايقة والاضطهاد الدائم والمستمر.
بناء وتركيب
اعتمد السارد على توليد فضاء من الواقع الممكن: فضاء ضيق /السجن بسمائه المحدودة الرؤية، وفضاء واسع / المجتمع بسمائه اللامحدودة، والقاسم المشترك بين المكان الأول والثاني هو حبس الأنفاس والحركات والتصرفات رغم شعوره بالتخلص من الفضاء الضيق / السجن/ ..
فالسجن ليس فضاء انتقال وحركة، إنه مكان إقامة إجبارية وثبات في المكان الذي يتميز بالضيق والمحدودية، وهما صفتان لا تعرفهما أماكن الإقامة الاعتيادية في المجتمع /البيوت /الشوارع / المقاهي /... فضاء يتميز بعلو الجدران وسمكها تحد من الرؤية الخارجية، رغم أن السجن يسمح للخيال أن يتحرك في فضاءات متنوعة مخزنة في ذهن البطل، خيال مشحون بالعتاب والندم، بالتساؤل، لماذا ؟ وكيف ؟ أين يكمن الخطأ ؟ أين يوجد الصواب ؟ تساؤل يخلق فوضى ذهنية، فيحاول العقل أن يرتبها وينظمها، لكنها سرعان ما تتلاشى بمجرد عودة الخيال إلى معقله ..
فالبطل لما خرج من السجن وهو مكان جرت فيه أحداث مسكوت عنها، أجملها السارد في الرعـــب الغائب، والتوجس الحذر. فقد يتخيل لنا أن السجن مكان خال من الأحداث القاسية المهمينة على النفس والذات والفكر، وصعوبة التكيف مع طبيعة الحياة الجديدة. فالرعب والتخويف، وتقييد الحركة، والإخضاع الكلي، مع الانضباط النفسي والذاتي، كلها أحداث جرت في مكان مغلق ومحدود، كل شيء يسير فيه بقياس. فضاء مجرد من الإنسانية. خال من كل قيمة واعتبار اجتماعي.
فالخروج من السجن، هو انتقال إلى مكان منفتح اللانهائي وهو السماء، مكان أوسع وأرحب لا يدركه العقل، فنظرته إلى السماء ما هي إلا رسالة خفية توحي بالطلب والرجاء والأمل. ويمكن أن نصوغ الومضة كالتالي بدون تأثير على الخطاطة السردية التي تبناها السارد / خرج من السجن، أيقن أنه لا يزال محبوسا، نظر للسماء./ من أجل ترتيب الاتساع الموجود في الأماكن / السجن / المجتمع / السماء/... وأعتقد أن لكل مبدع لونه الأدبي والإبداعي، ورؤيته الخاصة في بناء فكرة النص، كصورة نابعة من أفكاره ووعيه. وما على المتلقي إلا أن يتجاوز النمطية السائدة في تلقي النصوص، من قبيل: كان على المبدع أن يقول هكذا، أو عليه أن ينهي قصته بنهاية سعيدة؟ بل يتطلب من المتلقي أن يتفاعل مع طموح المبدع إلى التميز والتجديد.
اعتمد السارد على ثنائيات ضدية من نوع: ضيق السجن الذي يتميز بالإقامة الجبرية التي تحجب العالم الفسيح، إقامة تكون الحد الفاصل بين الخارج والداخل، مما يعطي للبطل فرصة إعادة بناء ذاته وتشكيل نفسيته وتكيفه مع الوضعية الجديدة.
فاتساع السماء كمكان مفترض أن يكون، اعتمادا على ما هو غيبي، لكن البطل يؤمن بوجوده في قلبه وذهنه.. ومن هنا كان السارد واعيا ليجد مخرجا للبطل، وهو أن يجعله متصلا بالمجتمع مستقبلا رغم أنه لا يبتعد عن السجن في رعبه وقمعه وسلبياته مؤقتا، نهاية قد تتحقق في المستقبل، وقد لا تتحقق، لأن الذاكرة خزنت مآسي المعاملة طيلة مكوث البطل داخل السجن، فالذاكرة تنسى كل ما يكون سارا، ولا تنسى ما يكون محزنا.
بطل خرج إلى المجتمع الذي يتميز بحرية التنقل، لكنه يحس أنه لا زال محبوسا لحظة خروجه، ولا زال يوجد تحت تأثير هندسة المكان الضيق وهو السجن، إذ يحتاج إلى تكيف جديد، وسيكون بطيئا جدا. والفكرة التي يركز عليها السارد، وهي أن فضاء السجن لا يختلف عن فضاء المجتمع لأنهما يشتركان في الاضطهاد، وما يتفرع عنه من مواصفات مشينة تضر بكرامة الإنسان ووجوده. ما ربحه البطل هو السماح له بالتنقل عبر مسافات أكبر مما كانت عليه في السجن ..
من جمالية الومضة القصصية أن الزمن غائب فيها، غير مذكور صراحة، وغير محدد، على اعتبار أن لا حدث بدون زمان، وأن لا سرد بدون زمن، فالزمن الذهني موجود أثناء القراءة. فالسارد أنتج أحداثه داخل زمن ما... فإذا قلنا: متى خرج البطل من السجن؟ ومتى نظر إلى السماء؟ وماذا فعل في المجتمع؟ وهل استطاع الاندماج في أسرته ومجتمعه أم لا؟ كلها أسئلة تبقى مستمرة داخل زمن ممتد ومفتوح وهو زمن القراءة ..
إبداع يدخل ضمن القصة /الومضة، بلغ فيه الاختزال جودته، ممتلئة بدلالات عميقة تدفع بالقارئ إلى البحث والتقصي والنبش لاستجلاء المعاني النائمة وراء الكلمات.
1 ـــ معجم المعاني الجامع، معجم عربي عربي
2 ـــ يوســف حطيني في كتابه مكونات الســرد في الرواية الفلسطينية ص:91،92
3 ــ شَبَكةُ الفَصِيحِ لِعُلُومِ اللُّغةِ العَرَبِيّةِ....






  رد مع اقتباس
/
قديم 06-07-2020, 03:36 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
محمد خالد بديوي
عضو أكاديمية الفينيق
عضو تجمع الأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / عمون
الاردن

الصورة الرمزية محمد خالد بديوي

إحصائية العضو







آخر مواضيعي


محمد خالد بديوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: 36 ـــ قراءة تحليلية لقصة: /اضطهاد/ للكاتب بلال الجميلي/ العراق

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الفرحان بوعزة مشاهدة المشاركة
قصة: اضطهاد
خرج من السجن، نظر للسماء، أيقن أنه لا يزال محبوسا.

دلالة العنوان/ اضطهاد
تعني كلمة "اضطهاد" إساءة المعاملة النظاميّة لفرد أو مجموعة من قِبل فرد أو مجموعة أخرى، ولا تخلو هذه المعاملة مُعامَلَةً قاسِيَةً، أَيْ قَهَرَهُ وَجارَ عَلَيْهِ، وبالغ في إذايته. وللتوسيع، فإن كلمة "اضطهاد" تعني تجاوز الحدّ في السُّلطة ومعاملة قهريّة تعسُّفيَّة، وانتهاك المبادئ الدستوريَّة وخاصَّة ما كان متعلِّقًا بحماية حقوق الإنسان، أما في علم النفس فإنها تدل على عَرَض من أعراض الاضطراب النفسيّ يفسِّر فيه الفرد عدم نجاحه أو إحباطه.(1)
وأنواع الاضطهاد متعددة، له جذور في التاريخ القديم والجديد، ويتجلى الاضطهاد لأسباب عديدة وبأشكال مختلفة: بسبب العرق أو الانتماء إلى فئة معينة. كما يتم الاضطهاد بسبب اللون والرأي والدين. ويمكن أن نتساءل: ما نوع الاضطهاد الذي يعاني منه البطل؟ أهو اضطهاد منفرد أم اضطهاد
جماعي بسبب من الأسباب التي ذكرناها سابقا؟ ذلك ما سوف نكتشفه من تحليل محتوى القصة.
تفكيك الخطاب في القصة الومضة
خرج من السجن،/ للسجن دلالات متعددة، فالسجن هو مكان جغرافي مغلق حسب التصور الذهني، تتحرك فيه الشخصية بضوابط مختلفة على تحركها خارج أسوار السجن، كالبيت والشارع والمقهى، والمكان بصفة عامة نوعان: إما فضاء موضوعي، وإما فضاء مفترض. ففعل " خرج" يدل على أن السارد لا يقصد مكانا متخيلا، بل يعني به مكانا محددا واضح المعالم، رغم أن جغرافيته مجهولة لكثير من الناس إلا من داخل السجن وعاش فيه مدة. واختار السارد فضاء "السجن" لما يحمل من حمولة قمع الحرية. وهو محفز لربط العلاقة بين القارئ والقصة مقربة وقابلة للتصديق أكثر.
وقد قال أحد النقاد: "إن تعدد الأمكنة في الرواية أو القصة ينقسم حسب نوع الإقامة. فهناك إقامة اختيارية وإقامة إجبارية؛ وأما الاختيارية فيمكن الإشــارة إلي: فضــاء البيوت، البيت الراقي، البيــت المضاء، البيــت المظلم والبيت الشــعبي، وأما الإجبارية فمنها: فضاء الســجن، الزنزانة، فضاء الفســحة، فضاء المزار.... وإن أماكن الإقامة الإجبارية تشكل مادة خصبة للسرد، مثل معالجة (فضاء السجن) بوصفه عالما مفارقا لعالم الحرية خارج الأســوار."
فالخروج من السجن ليس محددا بزمن ما، ولم يذكر السارد سبب دخول الشخصية للسجن، فالخروج من السجن هو انتقال من المغلق إلى المفتوح، من فضاء السجن المغلق، إلى فضاء الحياة العادية كمكان مفتوح. " وقد أشــار يوســف حطيني إلي الأماكن المفتوحة التي تشمل الأحياء والشوارع والساحات وما يشبهها، والأماكن المغلقة كالمقاهي والفنادق وغيرها" وقد يتحول الســجن بانغلاقه إلی مكان مفتــوح عند بعض المبدعين كمكان للتخطيط والتفكير والتدوين لأحداث خارجية عن السجين، من تشغيل الذاكرة، وتداعي الأفكار، إذ ذاك يخرج فضاء السجن من الانغلاق إلی آفاق أخری يجعله مفتوحا.(2)
مع المدة، تتأقلم شخصية السجين مع طبيعة الحياة في السجن، في البداية تكون رافضة، وقلقة. ومع الأيام تتحول إلى شخصية تتقبل الوضعية الجديدة، فتجتهد لتتكيف معها، حرصا للبقاء على قيد الحياة.
فالكاتب سكت عن حقبة زمنية للسجين وهو داخل السجن، تجاوز عنها على أساس أن السجن هو أداة لمنع الحرية. كما أنه اختصر تلك المعاناة في العنوان "اضطهاد" لكن، أهو اضطهاد ابتلي به خارج السجن، فرفض الظلم والإذاية، فلم يتقبل تلك المعاملة فدافع عن نفسه، فكانت النتيجة سيئة بعدما دخل إلى السجن؟ أم أنه لقي معاناة كبيرة، واضطهادا واسعا وهو داخل السجن؟ كل تلك الأحداث تركها السارد مجهولة في هذا النص القصير جدا، دافعا القارئ أن يفهم مجرى الأحداث من خلال تجربته وسماعه وثقافته.
نظر للسماء،/ في بعض الأحيان يكون السجن محفزا لتكوين شخصيته، وجعلها شخصية جديدة عن طريق التكوين الجسمي والذهني، فكم من مقهورين في السجون تحولوا إلي كتاب ومبدعين وهم داخل السجن، وكم من سجين تحول إلى كاتب شهير بعد خروجه من السجن، والأمثلة كثيرة وشاهدة على ذلك في العالم، مما أضيف للأدب جنسا أدبيا جديدا تحت تسمية "أدب السجون"
بطل القصة لم يكن من هذا النوع، فماذا يحمل معه أثناء خروجه من السجن، ولعله من السجناء البسطاء الذين اقترفوا جريمة ما، إما عن طريق العمد أو الخطأ، مما يؤكد على أن سجين القصة عانى من اضطهاد داخل " السجن" وكان الاضطهاد طويل المدة، وربما قصير المدة خارج السجن.
السماء التي نظر إليها السجين، هي نفس السماء التي كانت تعلو وتكون سقفا للسجن، لكن الاختلاف يوجد في دلالة النظر، فداخل السجن يرى سماء أثناء الاستراحة كفضاء محدود، يمتد إلى الأعلى، بينما السماء التي يراها بعد خروجه هو فضاء واسع وغير محدود. توزعت نفسه بين المكان الضيق والمكان المفتوح، فنظره إلى السماء لا يقتصر على شعوره بالحرية، بل يمتد نحو خطاب مولد داخل نفسية السجين، لكن السارد غيبه لإثارة القارئ وتحفيزه للتأويل المطابق للحالة النفسية للسجين.
أيقن أنه لا يزال محبوسا./
اختار السارد فعل"أيقن" لكي لا يترك الشك للقارئ، بأن البطل علم بأمره وحالته بعد خروجه من السجن، فهو علم بحقيقة خروجه من السجن بعد إنعام النَّظر والاستقراء والاستدلال، وهو النظر إلى فضاء السماء الفسيح. فرغم يقينه أنه خرج، فإن حالته الأولى لم تتغير. يقول السارد:"أنه لا يزال محبوسا".
فالكثير يقع في الخلط بين "ما يزال" و"لا يزال" في الكلام، وتجدهم يضعون كلا منهما مكان الآخر،
وما يزال: تفيد الديمومة والاستمراريّة، وهي بمعنى "كان" التي تفيد الاستمراريّة كما في قوله تعالى: "وكان الله غفورا رحيما " أي ما يزال الله غفورا رحيما، والمراد الديمومة والاستمراريّة.
و"لا يزال" لا تفيد الاستمراريّة في الأزمنة الثلاث، بل تفيد الاستمراريّة إلى زمن التكلّم، أو إلى وقت ما في المستقبل. وعليه فإن " لا يزال" لا تفيد الاستمراريّة المطلقة بخلاف " ما يزال" (3)
فالجملة السردية / أنه لا يزال محبوسا./ تفيد أن البطل يشعر لحظة خروجه من السجن أنه لا يزال داخل السجن، لكن هذا الشعور سرعان ما يتغير بمجرد مرور زمن معين، وابتعاده عن السجن مستقبلا. صعب على هذا المسجون أن يحس بطعم الحرية بعد ما ترك باب السجن وراءه، يلزمه أياما وأياما حتى يندمج في المجتمع، وتتحول شخصيته الذهنية والفكرية والجسمية نحو التكيف الطبيعي الذي كان عليه قبل دخوله السجن.
فلو قال السارد" أيقن أنه ما يزال محبوسا" فإن المعنى يتغير، وتحل دلالة جديدة ب استعمال "ما يزال". أي أن السجين رغم أنه حر وطليق، ما زال يحس أنه مسجون في مجتمعه، وأن فكرة وجوده في السجن ستعيش معه دوما، فما دام أن هناك رقابة على سلوكه وتفكيره وإبداء رأيه، ورغم أنه يعيش في فضاء المجتمع الواسع، فإنه يحس بالمضايقة والاضطهاد الدائم والمستمر.
بناء وتركيب
اعتمد السارد على توليد فضاء من الواقع الممكن: فضاء ضيق /السجن بسمائه المحدودة الرؤية، وفضاء واسع / المجتمع بسمائه اللامحدودة، والقاسم المشترك بين المكان الأول والثاني هو حبس الأنفاس والحركات والتصرفات رغم شعوره بالتخلص من الفضاء الضيق / السجن/ ..
فالسجن ليس فضاء انتقال وحركة، إنه مكان إقامة إجبارية وثبات في المكان الذي يتميز بالضيق والمحدودية، وهما صفتان لا تعرفهما أماكن الإقامة الاعتيادية في المجتمع /البيوت /الشوارع / المقاهي /... فضاء يتميز بعلو الجدران وسمكها تحد من الرؤية الخارجية، رغم أن السجن يسمح للخيال أن يتحرك في فضاءات متنوعة مخزنة في ذهن البطل، خيال مشحون بالعتاب والندم، بالتساؤل، لماذا ؟ وكيف ؟ أين يكمن الخطأ ؟ أين يوجد الصواب ؟ تساؤل يخلق فوضى ذهنية، فيحاول العقل أن يرتبها وينظمها، لكنها سرعان ما تتلاشى بمجرد عودة الخيال إلى معقله ..
فالبطل لما خرج من السجن وهو مكان جرت فيه أحداث مسكوت عنها، أجملها السارد في الرعـــب الغائب، والتوجس الحذر. فقد يتخيل لنا أن السجن مكان خال من الأحداث القاسية المهمينة على النفس والذات والفكر، وصعوبة التكيف مع طبيعة الحياة الجديدة. فالرعب والتخويف، وتقييد الحركة، والإخضاع الكلي، مع الانضباط النفسي والذاتي، كلها أحداث جرت في مكان مغلق ومحدود، كل شيء يسير فيه بقياس. فضاء مجرد من الإنسانية. خال من كل قيمة واعتبار اجتماعي.
فالخروج من السجن، هو انتقال إلى مكان منفتح اللانهائي وهو السماء، مكان أوسع وأرحب لا يدركه العقل، فنظرته إلى السماء ما هي إلا رسالة خفية توحي بالطلب والرجاء والأمل. ويمكن أن نصوغ الومضة كالتالي بدون تأثير على الخطاطة السردية التي تبناها السارد / خرج من السجن، أيقن أنه لا يزال محبوسا، نظر للسماء./ من أجل ترتيب الاتساع الموجود في الأماكن / السجن / المجتمع / السماء/... وأعتقد أن لكل مبدع لونه الأدبي والإبداعي، ورؤيته الخاصة في بناء فكرة النص، كصورة نابعة من أفكاره ووعيه. وما على المتلقي إلا أن يتجاوز النمطية السائدة في تلقي النصوص، من قبيل: كان على المبدع أن يقول هكذا، أو عليه أن ينهي قصته بنهاية سعيدة؟ بل يتطلب من المتلقي أن يتفاعل مع طموح المبدع إلى التميز والتجديد.
اعتمد السارد على ثنائيات ضدية من نوع: ضيق السجن الذي يتميز بالإقامة الجبرية التي تحجب العالم الفسيح، إقامة تكون الحد الفاصل بين الخارج والداخل، مما يعطي للبطل فرصة إعادة بناء ذاته وتشكيل نفسيته وتكيفه مع الوضعية الجديدة.
فاتساع السماء كمكان مفترض أن يكون، اعتمادا على ما هو غيبي، لكن البطل يؤمن بوجوده في قلبه وذهنه.. ومن هنا كان السارد واعيا ليجد مخرجا للبطل، وهو أن يجعله متصلا بالمجتمع مستقبلا رغم أنه لا يبتعد عن السجن في رعبه وقمعه وسلبياته مؤقتا، نهاية قد تتحقق في المستقبل، وقد لا تتحقق، لأن الذاكرة خزنت مآسي المعاملة طيلة مكوث البطل داخل السجن، فالذاكرة تنسى كل ما يكون سارا، ولا تنسى ما يكون محزنا.
بطل خرج إلى المجتمع الذي يتميز بحرية التنقل، لكنه يحس أنه لا زال محبوسا لحظة خروجه، ولا زال يوجد تحت تأثير هندسة المكان الضيق وهو السجن، إذ يحتاج إلى تكيف جديد، وسيكون بطيئا جدا. والفكرة التي يركز عليها السارد، وهي أن فضاء السجن لا يختلف عن فضاء المجتمع لأنهما يشتركان في الاضطهاد، وما يتفرع عنه من مواصفات مشينة تضر بكرامة الإنسان ووجوده. ما ربحه البطل هو السماح له بالتنقل عبر مسافات أكبر مما كانت عليه في السجن ..
من جمالية الومضة القصصية أن الزمن غائب فيها، غير مذكور صراحة، وغير محدد، على اعتبار أن لا حدث بدون زمان، وأن لا سرد بدون زمن، فالزمن الذهني موجود أثناء القراءة. فالسارد أنتج أحداثه داخل زمن ما... فإذا قلنا: متى خرج البطل من السجن؟ ومتى نظر إلى السماء؟ وماذا فعل في المجتمع؟ وهل استطاع الاندماج في أسرته ومجتمعه أم لا؟ كلها أسئلة تبقى مستمرة داخل زمن ممتد ومفتوح وهو زمن القراءة ..
إبداع يدخل ضمن القصة /الومضة، بلغ فيه الاختزال جودته، ممتلئة بدلالات عميقة تدفع بالقارئ إلى البحث والتقصي والنبش لاستجلاء المعاني النائمة وراء الكلمات.
1 ـــ معجم المعاني الجامع، معجم عربي عربي
2 ـــ يوســف حطيني في كتابه مكونات الســرد في الرواية الفلسطينية ص:91،92
3 ــ شَبَكةُ الفَصِيحِ لِعُلُومِ اللُّغةِ العَرَبِيّةِ....



نص رائع من المبدع بلال الجميلي
وقراءة تحليلة بديعة رائعة غاصت في أدق التفاصيل
لأديبنا القدير الفرحان بو عزة ..جهود قيمة وعطاء كريم
من الأديب بو عزة في اختياراته لنصوص مختلفة ودراستها
بكل أمانة .. ما أجملكما ...

أستاذي وصديقي الفرحان بو عزة
والناص المبدع بلال الجميل

قوافل تحيات طيبات مباركات لكليكما مع شكري الكثير

بوركتم وبورك نبض قلبكم الناصع
احترامي وتقديري






قبل هذا ما كنت أميز..

لأنك كنت تملأ هذا الفراغ


صار للفراغ حــيــــز ..!!
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:32 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط