العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▆ أنا الفينيقُ أولدُ من رَمَادِ.. وفي الْمَلَكُوتِ غِريدٌ وَشَادِ .."عبدالرشيد غربال" ▆ > ⊱ المدينة الحالمة ⊰

⊱ المدينة الحالمة ⊰ مدينة تحكي فيها القصة القصيرة اشياء الزمان المكان

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 07-11-2017, 09:23 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


حارس كامل غير متواجد حالياً


افتراضي صرخة

صرخة


خرجت الصرخة وسط العتمة والسكون كومضة برق خاطفة في شموخ ظلام ليل أسود مهيب.. في البدء لم يهتم لها أحد؛ ربما ظنوا أنها وهم صنعته آذانهم، لكنها تكررت عدة مرات وبصورة أكبر وأبشع حتى تأكدوا أنها يقين؛ فارتجفت لها القلوب، وبعد الصرخة جاء الصوت هادرًا أجوفًا كأنه آتٍ من أعماق كهف سحيق:
- الحقوني!
ترددت الأجساد خلف الأبواب، ولمعت العيون في الظلام كعيون القطط، تهامست الأنفاس تحدث نفسها:
- لا. لا يمكن المجازفة.
بعد وقت طويل بدا كأنه الدهر، وبصعوبة انسحب الظلام كولادة متعثرة، وجاءت الشمس بعد أن ظنوا أنها لن تشرق أبدًا كشعلة متقدة في السماء، راقبوها بحذر، وخرجوا بعد أن اطمأنت قلوبهم قليلًا يجرون خطواتهم في تثاقل، واشرأبت أعناقهم تتلفت يمنة ويسرة تتلصص الأخبار.
كالعادة جاء الخبر على لسان سيد المعتوه كما لقبوه:
- عُقرت بهائم خضر الدمام، وقتل طفله الصغير.
شهقت الأفواه بالخيبة، ولطموا على خدودهم قهرًا وألمًا، تطلعوا يحدقون بلا هدف في البيوت الطينية المتناثرة على المدى بلا نظام كالنجوم، تحيط بها أشجار النخيل بأعناقها الطويلة التي تكاد تلامس السماء.
عند الظهيرة تجمعوا في بيت خضر؛ تفحصوا الجثث المبقورة، وعاينوا ما بقي من أشلاء الطفل، طفرت عيونهم بخوف كادت له قلوبهم أن تقفز من الصدور، ساد الصمت بينهم طويلًا، ولم يتجرأ أحدهم على الكلام.
انسلوا بعدها واحدا وراء الآخر وأجسادهم تتفصد عرقًا؛ تابعوا قرص الشمس بجنون، وهو يسير بخطوات سريعة نحو الغروب، ترجوه في نفوسهم أن يقبع مكانه، وودت صدورهم لو أن أصبحت القرية نهارًا بلا ليل.
جاءت عبر الأفق غيمة داكنة السواد، فحجبت الشمس، ورفلت القرية في الظلمة لا يهتدي فيه الواقف من بجواره؛ تدافعوا بهلع إلى بيوتهم كالفئران تحتمي بجحورها.
عند نخلة عالية وفي طرف القرية جلس (سيد) المعتوه يراقبهم، وهم يختفون من أمام عينيه كأنما ابتلعتهم الأرض، دلف إلى عشته المصنوعة من بوص الغاب، التي وجد نفسه فيها وحيدًا منذ ولادته بلا أم ولا أب.
لا يسأل عنه أحد ولا يهتم بشأنه أحد، شرب ماءً باردًا من قلة مسنودة في قفة مربوطة في جانب العشة، تجشأ بعدها بصوت عال يستطعم بها مذاق لقمة (مش) تناولها عند الغداء، استلقى على حصيرة من الحلف، وأغمض عينيه.
سمع أصوات أقدام خارج العشة، فهب واقفًا، وخرج بعدها مسرعًا. وقف قبالة الباب، وحدَّ بصره يمنة ويسرة في الظلام الذي ترامى ككتل سوداء؛ لم ير شيئًا، عاد إلى عشته يهز رأسه، ويصفر من بين أسنانه.
بعد ساعة تناهى إلى سمعه صوت عواء تبعته الصرخة المعتادة، والصوت الممطوط يطلب النجدة.
وضع طرف جلبابه بين أسنانه، كاشفًا عن سروال أسود يضاهي لون الظلمة. اندفع مسرعًا وشق الظلام بأقدامه العارية.
دار في كل الاتجاهات، والتف حول البيوت الصامتة كالقبور يبحث عن الصوت؛ لمح بطرف عينيه عيونًا تلمع كالزجاج في الظلام، فتسمر مكانه، وحدجها بصعوبة.
تراءى قبالته حيوان في حجم الكلب يستند على قائمتيه الأماميتين.
انتفض (سيد) وارتد مذعورًا إلى عشته، وأحس بالخوف لأول مرة في حياته منذ خروجه للدنيا.
في الصباح نقل (سيد) خبر بهائم حسين المبقورة مع حكاية الحيوان الذي أوشك أن يفتك به.
سألوه عن أوصافه وشكله؛ فأجابهم بأنه أكبر من الكلب له أسنان حادة كالسكاكين، وعيون متقدة كالجمر.
تتابعت الليالي وتوالت البهائم المبقورة والأطفال المقتولون.
ثقل الخوف في صدورهم حتى عجزت أجسادهم عن حملها. فكروا أن يتركوا منازلهم ويهجروا القرية بلا رجعة.
على غير عادتهم اجتمعوا في نهار بائس باهت الظلال، قرب شجرة جميز عتيقة، ترمي ظلالها على ماء الترعة الآسن، المترع بالرائحة الكريهة المنبعثة من الجثث والرمم الملقاة في جوفها بلا عدد، وأطل السؤال بينهم بلا إجابة:
- ما العمل؟
لا أحد يعرف من الذي تكلم، ولا من أين جاء الصوت؛ سمعوا كأن هاتفا من السماء حادثهم:
- اقتلوه!
تلبستهم الرعشة، ودارت أبصارهم كالتائهين في الصحراء تبحث عنه، تجمدت الدماء في عروقهم حين واصل الصوت المرتفع كالدوي:
- انتظروه في المساء؛ حاصروه واقتلوه.
لم تتمالك أجسادهم الصوت الزاعق، ولا الفكرة التي كانت كالعفريت الذي طاردهم، فتفرقوا كأن لم يسمعوا شيئًا.
ظلوا أربعة أيام والليل يطول بلا نهاية، والعواء الذي لا ينقطع يشحذ أعناقهم.
في الليلة الخامسة، جاء الصوت متقطعًا:
- أغيثوني!
أقسموا فيما بعد أنهم لم يعرفوا كيف وجدوا أنفسهم أمام الدار، وأنهم لو فكروا ألف مرة لن يفعلوها ثانية؛ حدقوا في بعضهم البعض من الدهشة أو ربما من الموت المحدق الذي يجابههم، أشار صاحب الدار إلى حوش البهائم، وقال بأنفاس لاهثة:
- إنه في الداخل.
أخذ صدره ينخفض ويرتفع، وتابع بصوت متقطع: لقد رأيته؛ إنه في حجم الحمار.
حملقوا فيه بعيون بلا حياة، ثم أمسك كل منهم مشعله وهراوته لا يعرف ماذا يفعل؛ دلفت إلى قلوبهم شجاعة مجهولة، تقدموا خطوة أو خطوتين، ثم وقفوا بعدها منتظرين من سيتقدم.
مضى وقت لا يعرف إن كان قد طال أو قصر دون أن يتقدم أحد.
تعلقت أبصارهم (بسيد) المعتوه الذي رأوه يتقدم خطوة حتى أصبح يقف تمامًا أمام باب الحوش.
حدجوه بنظرة واحدة اتفقوا جميعًا في مغزاها. قال له أحد الواقفين، وهو يمد له بهراوة في يده ذات طرف حاد:
- ستصبح واحدًا منا منذ الليلة.
أضاف آخر:
- سنكون لك الأب والأم والأهل.
لامس ثالث كتفه من الخلف، وقال مشجعًا: سنبني لك بيتًا ونزوجك أجمل فتاة في القرية.
لمعت الفرحة في عينيه، ورأى نفسه يختال بينهم بجلباب أبيض له ملمس ناعم كالحرير، ممتطيًا حمارًا عاليًا يلكزه بقدمه، يحييهم فيبادلونه التحية.
يقف أمام دكان (إبراهيم خميس)؛ فيطلب منه قمعين سكر، فيعطيه دون أن يوجعه بعصاه الرفيعة على ظهره.
وجد نفسه على فراش لين، وبجواره (علية بنت سليمان) التي يحب رؤية وجهها الصافي كالحليب، وثدييها النافرين كتفاحتين، والتي بصقت في وجهه عندما تطلع إليها خلسة عند البئر ذات نهار.
تواردت الأفكار بسرعة إلى رأسه؛ فشعر بنفسه عملاقًا. دفع الباب بقدمه، فأسرعوا وأغلقوه خلفه... ارتفعت الأصوات المتعاركة واختلطت بين آهات وعواء.
انقطعت بعدها الأصوات حتى ظنوا أن كليهما لقيا حتفه، فجأة خرج من الصمت عواء ممطوط واهن كطفل يستغيث، خرج بعدها (سيد) رافعًا يديه بالهراوة يهلل، تطفر عينيه بالفرحة بلا حدود.
أمعن النظر فيهم قليلًا، ثم قال وهو يمط رقبته إلى الأمام، شادًا جسده باعتزاز:
- لقد قتلته.
تطلعوا إليه برهة، ثم قفزوا إلى الحوش، ليتملُّوا في الجسد المسجى الغارق وسط الدماء والفرحة فوق الشفاه فغرت لها الأفواه.
رفلوا في السعادة بعد ذلك قرابة أسبوعين وسط حسرة (سيد) الذي انزوى في عشته يبكي من الخيبة بعد أن نسوه، حتى تضاءل جسده وانكمش واختفى خلف الشعر الذي نبت وغطاه تمامًا.
فتح فمه وصرخ بآهة، برزت لها أنياب حادة كخناجر، واستحالت الآهة عواء ارتفع صداه في الفضاء عاليًا؛ ليشق سكون الليل...
***11/02/2014






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:46 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط