صرخة - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :عبدالماجد موسى)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▆ أنا الفينيقُ أولدُ من رَمَادِ.. وفي الْمَلَكُوتِ غِريدٌ وَشَادِ .."عبدالرشيد غربال" ▆ > ⊱ المدينة الحالمة ⊰

⊱ المدينة الحالمة ⊰ مدينة تحكي فيها القصة القصيرة اشياء الزمان المكان

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-11-2017, 09:23 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
افتراضي صرخة

صرخة


خرجت الصرخة وسط العتمة والسكون كومضة برق خاطفة في شموخ ظلام ليل أسود مهيب.. في البدء لم يهتم لها أحد؛ ربما ظنوا أنها وهم صنعته آذانهم، لكنها تكررت عدة مرات وبصورة أكبر وأبشع حتى تأكدوا أنها يقين؛ فارتجفت لها القلوب، وبعد الصرخة جاء الصوت هادرًا أجوفًا كأنه آتٍ من أعماق كهف سحيق:
- الحقوني!
ترددت الأجساد خلف الأبواب، ولمعت العيون في الظلام كعيون القطط، تهامست الأنفاس تحدث نفسها:
- لا. لا يمكن المجازفة.
بعد وقت طويل بدا كأنه الدهر، وبصعوبة انسحب الظلام كولادة متعثرة، وجاءت الشمس بعد أن ظنوا أنها لن تشرق أبدًا كشعلة متقدة في السماء، راقبوها بحذر، وخرجوا بعد أن اطمأنت قلوبهم قليلًا يجرون خطواتهم في تثاقل، واشرأبت أعناقهم تتلفت يمنة ويسرة تتلصص الأخبار.
كالعادة جاء الخبر على لسان سيد المعتوه كما لقبوه:
- عُقرت بهائم خضر الدمام، وقتل طفله الصغير.
شهقت الأفواه بالخيبة، ولطموا على خدودهم قهرًا وألمًا، تطلعوا يحدقون بلا هدف في البيوت الطينية المتناثرة على المدى بلا نظام كالنجوم، تحيط بها أشجار النخيل بأعناقها الطويلة التي تكاد تلامس السماء.
عند الظهيرة تجمعوا في بيت خضر؛ تفحصوا الجثث المبقورة، وعاينوا ما بقي من أشلاء الطفل، طفرت عيونهم بخوف كادت له قلوبهم أن تقفز من الصدور، ساد الصمت بينهم طويلًا، ولم يتجرأ أحدهم على الكلام.
انسلوا بعدها واحدا وراء الآخر وأجسادهم تتفصد عرقًا؛ تابعوا قرص الشمس بجنون، وهو يسير بخطوات سريعة نحو الغروب، ترجوه في نفوسهم أن يقبع مكانه، وودت صدورهم لو أن أصبحت القرية نهارًا بلا ليل.
جاءت عبر الأفق غيمة داكنة السواد، فحجبت الشمس، ورفلت القرية في الظلمة لا يهتدي فيه الواقف من بجواره؛ تدافعوا بهلع إلى بيوتهم كالفئران تحتمي بجحورها.
عند نخلة عالية وفي طرف القرية جلس (سيد) المعتوه يراقبهم، وهم يختفون من أمام عينيه كأنما ابتلعتهم الأرض، دلف إلى عشته المصنوعة من بوص الغاب، التي وجد نفسه فيها وحيدًا منذ ولادته بلا أم ولا أب.
لا يسأل عنه أحد ولا يهتم بشأنه أحد، شرب ماءً باردًا من قلة مسنودة في قفة مربوطة في جانب العشة، تجشأ بعدها بصوت عال يستطعم بها مذاق لقمة (مش) تناولها عند الغداء، استلقى على حصيرة من الحلف، وأغمض عينيه.
سمع أصوات أقدام خارج العشة، فهب واقفًا، وخرج بعدها مسرعًا. وقف قبالة الباب، وحدَّ بصره يمنة ويسرة في الظلام الذي ترامى ككتل سوداء؛ لم ير شيئًا، عاد إلى عشته يهز رأسه، ويصفر من بين أسنانه.
بعد ساعة تناهى إلى سمعه صوت عواء تبعته الصرخة المعتادة، والصوت الممطوط يطلب النجدة.
وضع طرف جلبابه بين أسنانه، كاشفًا عن سروال أسود يضاهي لون الظلمة. اندفع مسرعًا وشق الظلام بأقدامه العارية.
دار في كل الاتجاهات، والتف حول البيوت الصامتة كالقبور يبحث عن الصوت؛ لمح بطرف عينيه عيونًا تلمع كالزجاج في الظلام، فتسمر مكانه، وحدجها بصعوبة.
تراءى قبالته حيوان في حجم الكلب يستند على قائمتيه الأماميتين.
انتفض (سيد) وارتد مذعورًا إلى عشته، وأحس بالخوف لأول مرة في حياته منذ خروجه للدنيا.
في الصباح نقل (سيد) خبر بهائم حسين المبقورة مع حكاية الحيوان الذي أوشك أن يفتك به.
سألوه عن أوصافه وشكله؛ فأجابهم بأنه أكبر من الكلب له أسنان حادة كالسكاكين، وعيون متقدة كالجمر.
تتابعت الليالي وتوالت البهائم المبقورة والأطفال المقتولون.
ثقل الخوف في صدورهم حتى عجزت أجسادهم عن حملها. فكروا أن يتركوا منازلهم ويهجروا القرية بلا رجعة.
على غير عادتهم اجتمعوا في نهار بائس باهت الظلال، قرب شجرة جميز عتيقة، ترمي ظلالها على ماء الترعة الآسن، المترع بالرائحة الكريهة المنبعثة من الجثث والرمم الملقاة في جوفها بلا عدد، وأطل السؤال بينهم بلا إجابة:
- ما العمل؟
لا أحد يعرف من الذي تكلم، ولا من أين جاء الصوت؛ سمعوا كأن هاتفا من السماء حادثهم:
- اقتلوه!
تلبستهم الرعشة، ودارت أبصارهم كالتائهين في الصحراء تبحث عنه، تجمدت الدماء في عروقهم حين واصل الصوت المرتفع كالدوي:
- انتظروه في المساء؛ حاصروه واقتلوه.
لم تتمالك أجسادهم الصوت الزاعق، ولا الفكرة التي كانت كالعفريت الذي طاردهم، فتفرقوا كأن لم يسمعوا شيئًا.
ظلوا أربعة أيام والليل يطول بلا نهاية، والعواء الذي لا ينقطع يشحذ أعناقهم.
في الليلة الخامسة، جاء الصوت متقطعًا:
- أغيثوني!
أقسموا فيما بعد أنهم لم يعرفوا كيف وجدوا أنفسهم أمام الدار، وأنهم لو فكروا ألف مرة لن يفعلوها ثانية؛ حدقوا في بعضهم البعض من الدهشة أو ربما من الموت المحدق الذي يجابههم، أشار صاحب الدار إلى حوش البهائم، وقال بأنفاس لاهثة:
- إنه في الداخل.
أخذ صدره ينخفض ويرتفع، وتابع بصوت متقطع: لقد رأيته؛ إنه في حجم الحمار.
حملقوا فيه بعيون بلا حياة، ثم أمسك كل منهم مشعله وهراوته لا يعرف ماذا يفعل؛ دلفت إلى قلوبهم شجاعة مجهولة، تقدموا خطوة أو خطوتين، ثم وقفوا بعدها منتظرين من سيتقدم.
مضى وقت لا يعرف إن كان قد طال أو قصر دون أن يتقدم أحد.
تعلقت أبصارهم (بسيد) المعتوه الذي رأوه يتقدم خطوة حتى أصبح يقف تمامًا أمام باب الحوش.
حدجوه بنظرة واحدة اتفقوا جميعًا في مغزاها. قال له أحد الواقفين، وهو يمد له بهراوة في يده ذات طرف حاد:
- ستصبح واحدًا منا منذ الليلة.
أضاف آخر:
- سنكون لك الأب والأم والأهل.
لامس ثالث كتفه من الخلف، وقال مشجعًا: سنبني لك بيتًا ونزوجك أجمل فتاة في القرية.
لمعت الفرحة في عينيه، ورأى نفسه يختال بينهم بجلباب أبيض له ملمس ناعم كالحرير، ممتطيًا حمارًا عاليًا يلكزه بقدمه، يحييهم فيبادلونه التحية.
يقف أمام دكان (إبراهيم خميس)؛ فيطلب منه قمعين سكر، فيعطيه دون أن يوجعه بعصاه الرفيعة على ظهره.
وجد نفسه على فراش لين، وبجواره (علية بنت سليمان) التي يحب رؤية وجهها الصافي كالحليب، وثدييها النافرين كتفاحتين، والتي بصقت في وجهه عندما تطلع إليها خلسة عند البئر ذات نهار.
تواردت الأفكار بسرعة إلى رأسه؛ فشعر بنفسه عملاقًا. دفع الباب بقدمه، فأسرعوا وأغلقوه خلفه... ارتفعت الأصوات المتعاركة واختلطت بين آهات وعواء.
انقطعت بعدها الأصوات حتى ظنوا أن كليهما لقيا حتفه، فجأة خرج من الصمت عواء ممطوط واهن كطفل يستغيث، خرج بعدها (سيد) رافعًا يديه بالهراوة يهلل، تطفر عينيه بالفرحة بلا حدود.
أمعن النظر فيهم قليلًا، ثم قال وهو يمط رقبته إلى الأمام، شادًا جسده باعتزاز:
- لقد قتلته.
تطلعوا إليه برهة، ثم قفزوا إلى الحوش، ليتملُّوا في الجسد المسجى الغارق وسط الدماء والفرحة فوق الشفاه فغرت لها الأفواه.
رفلوا في السعادة بعد ذلك قرابة أسبوعين وسط حسرة (سيد) الذي انزوى في عشته يبكي من الخيبة بعد أن نسوه، حتى تضاءل جسده وانكمش واختفى خلف الشعر الذي نبت وغطاه تمامًا.
فتح فمه وصرخ بآهة، برزت لها أنياب حادة كخناجر، واستحالت الآهة عواء ارتفع صداه في الفضاء عاليًا؛ ليشق سكون الليل...
***11/02/2014






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
قديم 09-11-2017, 12:41 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
يوسف قبلان سلامة
عضو أكاديمية الفينيق
عضو تجمع الأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
لبنان
إحصائية العضو








آخر مواضيعي

يوسف قبلان سلامة غير متواجد حالياً


افتراضي رد: صرخة

سلام الله أخي الأستاذ الكريم السيّد حارِس كامِل،
شُكر جَمّ من القَلْب للقِصَّة الرَّاقِيَة الهامَّة التي قَدَّمْتَها والتي تتناوَل مُعْضِلة خطيرة في مُجْتَمِعنا؛ مُعْضِلَة أخلاقِيَة حيث يرى القارِئ في قِصَّتك كيف تتلاشَى القَِيَم الإنسانِيَّة من تضحِيَة وَوعود أخَوِيَّة أمام المصلَحة الشخصِيَّة. فنَرى كيف زَجّوا الرَّجل المسكين في الخَطر ثُمّ أقفَلوا الباب عليه دونما رَحْمة أوشَفقة، دون أن يُعينوه. فكانت النّتيجة المُرْعِبَة.
تقديرنا واحْتِرامنا.






  رد مع اقتباس
/
قديم 09-11-2017, 12:45 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
خالد يوسف أبو طماعه
عضو مجلس إدارة
المستشار الفني للسرد
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدب الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الاردن

الصورة الرمزية خالد يوسف أبو طماعه

افتراضي رد: صرخة

سلام الله
ليتك تكبر الخط ليتسنى
لنا القراءة بكل أريحية
ما عدنا كالسابق أخي الحبيب
محبتي






  رد مع اقتباس
/
قديم 22-11-2017, 12:41 AM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
افتراضي رد: صرخة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة يوسف قبلان سلامة مشاهدة المشاركة
سلام الله أخي الأستاذ الكريم السيّد حارِس كامِل،
شُكر جَمّ من القَلْب للقِصَّة الرَّاقِيَة الهامَّة التي قَدَّمْتَها والتي تتناوَل مُعْضِلة خطيرة في مُجْتَمِعنا؛ مُعْضِلَة أخلاقِيَة حيث يرى القارِئ في قِصَّتك كيف تتلاشَى القَِيَم الإنسانِيَّة من تضحِيَة وَوعود أخَوِيَّة أمام المصلَحة الشخصِيَّة. فنَرى كيف زَجّوا الرَّجل المسكين في الخَطر ثُمّ أقفَلوا الباب عليه دونما رَحْمة أوشَفقة، دون أن يُعينوه. فكانت النّتيجة المُرْعِبَة.
تقديرنا واحْتِرامنا.
كل الشكر والتقدير لمرورك استاذ يوسف قبلان
تحيتي






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
قديم 06-12-2017, 09:02 AM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
ريمه الخاني
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل وسام الأكاديمية للابداع الادبي
سوريا

الصورة الرمزية ريمه الخاني

افتراضي رد: صرخة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حارس كامل مشاهدة المشاركة
صرخة


خرجت الصرخة وسط العتمة والسكون كومضة برق خاطفة في شموخ ظلام ليل أسود مهيب.. في البدء لم يهتم لها أحد؛ ربما ظنوا أنها وهم صنعته آذانهم، لكنها تكررت عدة مرات وبصورة أكبر وأبشع حتى تأكدوا أنها يقين؛ فارتجفت لها القلوب، وبعد الصرخة جاء الصوت هادرًا أجوفًا كأنه آتٍ من أعماق كهف سحيق:
- الحقوني!
ترددت الأجساد خلف الأبواب، ولمعت العيون في الظلام كعيون القطط، تهامست الأنفاس تحدث نفسها:
- لا. لا يمكن المجازفة.
بعد وقت طويل بدا كأنه الدهر، وبصعوبة انسحب الظلام كولادة متعثرة، وجاءت الشمس بعد أن ظنوا أنها لن تشرق أبدًا كشعلة متقدة في السماء، راقبوها بحذر، وخرجوا بعد أن اطمأنت قلوبهم قليلًا يجرون خطواتهم في تثاقل، واشرأبت أعناقهم تتلفت يمنة ويسرة تتلصص الأخبار.
كالعادة جاء الخبر على لسان سيد المعتوه كما لقبوه:
- عُقرت بهائم خضر الدمام، وقتل طفله الصغير.
شهقت الأفواه بالخيبة، ولطموا على خدودهم قهرًا وألمًا، تطلعوا يحدقون بلا هدف في البيوت الطينية المتناثرة على المدى بلا نظام كالنجوم، تحيط بها أشجار النخيل بأعناقها الطويلة التي تكاد تلامس السماء.
عند الظهيرة تجمعوا في بيت خضر؛ تفحصوا الجثث المبقورة، وعاينوا ما بقي من أشلاء الطفل، طفرت عيونهم بخوف كادت له قلوبهم أن تقفز من الصدور، ساد الصمت بينهم طويلًا، ولم يتجرأ أحدهم على الكلام.
انسلوا بعدها واحدا وراء الآخر وأجسادهم تتفصد عرقًا؛ تابعوا قرص الشمس بجنون، وهو يسير بخطوات سريعة نحو الغروب، ترجوه في نفوسهم أن يقبع مكانه، وودت صدورهم لو أن أصبحت القرية نهارًا بلا ليل.
جاءت عبر الأفق غيمة داكنة السواد، فحجبت الشمس، ورفلت القرية في الظلمة لا يهتدي فيه الواقف من بجواره؛ تدافعوا بهلع إلى بيوتهم كالفئران تحتمي بجحورها.
عند نخلة عالية وفي طرف القرية جلس (سيد) المعتوه يراقبهم، وهم يختفون من أمام عينيه كأنما ابتلعتهم الأرض، دلف إلى عشته المصنوعة من بوص الغاب، التي وجد نفسه فيها وحيدًا منذ ولادته بلا أم ولا أب.
لا يسأل عنه أحد ولا يهتم بشأنه أحد، شرب ماءً باردًا من قلة مسنودة في قفة مربوطة في جانب العشة، تجشأ بعدها بصوت عال يستطعم بها مذاق لقمة (مش) تناولها عند الغداء، استلقى على حصيرة من الحلف، وأغمض عينيه.
سمع أصوات أقدام خارج العشة، فهب واقفًا، وخرج بعدها مسرعًا. وقف قبالة الباب، وحدَّ بصره يمنة ويسرة في الظلام الذي ترامى ككتل سوداء؛ لم ير شيئًا، عاد إلى عشته يهز رأسه، ويصفر من بين أسنانه.
بعد ساعة تناهى إلى سمعه صوت عواء تبعته الصرخة المعتادة، والصوت الممطوط يطلب النجدة.
وضع طرف جلبابه بين أسنانه، كاشفًا عن سروال أسود يضاهي لون الظلمة. اندفع مسرعًا وشق الظلام بأقدامه العارية.
دار في كل الاتجاهات، والتف حول البيوت الصامتة كالقبور يبحث عن الصوت؛ لمح بطرف عينيه عيونًا تلمع كالزجاج في الظلام، فتسمر مكانه، وحدجها بصعوبة.
تراءى قبالته حيوان في حجم الكلب يستند على قائمتيه الأماميتين.
انتفض (سيد) وارتد مذعورًا إلى عشته، وأحس بالخوف لأول مرة في حياته منذ خروجه للدنيا.
في الصباح نقل (سيد) خبر بهائم حسين المبقورة مع حكاية الحيوان الذي أوشك أن يفتك به.
سألوه عن أوصافه وشكله؛ فأجابهم بأنه أكبر من الكلب له أسنان حادة كالسكاكين، وعيون متقدة كالجمر.
تتابعت الليالي وتوالت البهائم المبقورة والأطفال المقتولون.
ثقل الخوف في صدورهم حتى عجزت أجسادهم عن حملها. فكروا أن يتركوا منازلهم ويهجروا القرية بلا رجعة.
على غير عادتهم اجتمعوا في نهار بائس باهت الظلال، قرب شجرة جميز عتيقة، ترمي ظلالها على ماء الترعة الآسن، المترع بالرائحة الكريهة المنبعثة من الجثث والرمم الملقاة في جوفها بلا عدد، وأطل السؤال بينهم بلا إجابة:
- ما العمل؟
لا أحد يعرف من الذي تكلم، ولا من أين جاء الصوت؛ سمعوا كأن هاتفا من السماء حادثهم:
- اقتلوه!
تلبستهم الرعشة، ودارت أبصارهم كالتائهين في الصحراء تبحث عنه، تجمدت الدماء في عروقهم حين واصل الصوت المرتفع كالدوي:
- انتظروه في المساء؛ حاصروه واقتلوه.
لم تتمالك أجسادهم الصوت الزاعق، ولا الفكرة التي كانت كالعفريت الذي طاردهم، فتفرقوا كأن لم يسمعوا شيئًا.
ظلوا أربعة أيام والليل يطول بلا نهاية، والعواء الذي لا ينقطع يشحذ أعناقهم.
في الليلة الخامسة، جاء الصوت متقطعًا:
- أغيثوني!
أقسموا فيما بعد أنهم لم يعرفوا كيف وجدوا أنفسهم أمام الدار، وأنهم لو فكروا ألف مرة لن يفعلوها ثانية؛ حدقوا في بعضهم البعض من الدهشة أو ربما من الموت المحدق الذي يجابههم، أشار صاحب الدار إلى حوش البهائم، وقال بأنفاس لاهثة:
- إنه في الداخل.
أخذ صدره ينخفض ويرتفع، وتابع بصوت متقطع: لقد رأيته؛ إنه في حجم الحمار.
حملقوا فيه بعيون بلا حياة، ثم أمسك كل منهم مشعله وهراوته لا يعرف ماذا يفعل؛ دلفت إلى قلوبهم شجاعة مجهولة، تقدموا خطوة أو خطوتين، ثم وقفوا بعدها منتظرين من سيتقدم.
مضى وقت لا يعرف إن كان قد طال أو قصر دون أن يتقدم أحد.
تعلقت أبصارهم (بسيد) المعتوه الذي رأوه يتقدم خطوة حتى أصبح يقف تمامًا أمام باب الحوش.
حدجوه بنظرة واحدة اتفقوا جميعًا في مغزاها. قال له أحد الواقفين، وهو يمد له بهراوة في يده ذات طرف حاد:
- ستصبح واحدًا منا منذ الليلة.
أضاف آخر:
- سنكون لك الأب والأم والأهل.
لامس ثالث كتفه من الخلف، وقال مشجعًا: سنبني لك بيتًا ونزوجك أجمل فتاة في القرية.
لمعت الفرحة في عينيه، ورأى نفسه يختال بينهم بجلباب أبيض له ملمس ناعم كالحرير، ممتطيًا حمارًا عاليًا يلكزه بقدمه، يحييهم فيبادلونه التحية.
يقف أمام دكان (إبراهيم خميس)؛ فيطلب منه قمعين سكر، فيعطيه دون أن يوجعه بعصاه الرفيعة على ظهره.
وجد نفسه على فراش لين، وبجواره (علية بنت سليمان) التي يحب رؤية وجهها الصافي كالحليب، وثدييها النافرين كتفاحتين، والتي بصقت في وجهه عندما تطلع إليها خلسة عند البئر ذات نهار.
تواردت الأفكار بسرعة إلى رأسه؛ فشعر بنفسه عملاقًا. دفع الباب بقدمه، فأسرعوا وأغلقوه خلفه... ارتفعت الأصوات المتعاركة واختلطت بين آهات وعواء.
انقطعت بعدها الأصوات حتى ظنوا أن كليهما لقيا حتفه، فجأة خرج من الصمت عواء ممطوط واهن كطفل يستغيث، خرج بعدها (سيد) رافعًا يديه بالهراوة يهلل، تطفر عينيه بالفرحة بلا حدود.
أمعن النظر فيهم قليلًا، ثم قال وهو يمط رقبته إلى الأمام، شادًا جسده باعتزاز:
- لقد قتلته.
تطلعوا إليه برهة، ثم قفزوا إلى الحوش، ليتملُّوا في الجسد المسجى الغارق وسط الدماء والفرحة فوق الشفاه فغرت لها الأفواه.
رفلوا في السعادة بعد ذلك قرابة أسبوعين وسط حسرة (سيد) الذي انزوى في عشته يبكي من الخيبة بعد أن نسوه، حتى تضاءل جسده وانكمش واختفى خلف الشعر الذي نبت وغطاه تمامًا.
فتح فمه وصرخ بآهة، برزت لها أنياب حادة كخناجر، واستحالت الآهة عواء ارتفع صداه في الفضاء عاليًا؛ ليشق سكون الليل...
***11/02/2014
هذا النمط المعشق بالخيال، بات سمة العصر ومأوى أفكاره.
لك التقدير لجهدك.






  رد مع اقتباس
/
قديم 28-12-2017, 12:05 AM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
افتراضي رد: صرخة

حضور اول
ولي عودة بحول الله
نجعل النص يصعد الى الواجهة لمزيد من قراءة
تحيتي سيدي






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
قديم 19-01-2018, 06:12 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
محمد خالد بديوي
عضو أكاديمية الفينيق
عضو تجمع الأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / عمون
الاردن

الصورة الرمزية محمد خالد بديوي

افتراضي رد: صرخة

لم نعد نهتم بــ "صرخة" يطلقها (سيد) بعد أن ظننا
أن الوحوش لا تتكرر ولا تأتي من جديد، ولم ندرك
بعد أننا ومن الجبن والخسة نحن من يصنع وحوشنا
التي ستغزونا وما نملك بموت أكيد. هذا حال أهل هذه
القرية الموجودة في زوايا وطننا العربي الكبير..!!

سيد سيبقى هو سيدهم وإن نقضوا معه عهودهم
ووعودهم ...سيلقنهم أقسى الدروس دون أن يدركوا
ــ عبرة ـــ ومعناها البعيد..
الخيال الذي حوّل سيد الى وحش يعرف أنه إنسان جريح
لم يعد يقوى على الصبر.. لن يؤجل مخالبه.. ولن يقبل
إلا بدم طازج ليسد جوع قهره وخديعتهم وهو العارف بجبنهم
وضعفهم على مجابهة ما صنع غدرهم.

أديبنا المكرم حارس كامل
قصة وضعت (الصرخة) وسط الجموع معلنة عن وحش
ولد من ذنوبنا وقسوتنا.. تقول بكل وضوح ويل لكل أفاك
أثيم..
سرد رائع ومتين ورسالة عميقة يصل صدى صرختها
الى أبعد نقطة في كون رغم كثافة ضوءه إلا أنه معتم
ومظلم.!!
بوركتم وبورك مدادكم البديع.
احترامي وتقديري






قبل هذا ما كنت أميز..

لأنك كنت تملأ هذا الفراغ


صار للفراغ حــيــــز ..!!
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-03-2018, 02:33 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
افتراضي رد: صرخة

من بين الأقلام الرائعة في السرد وفي كل مواطنه والتي أحب الانصات والحضور إليها
عميق ونص يفتح شهية الكتابة
كما أثني على قراءة أستاذنا البديوي
عساك بخير أخي الفاضل حارس






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
قديم 15-04-2018, 12:51 AM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي رد: صرخة

سلام الله
ميمون منجزكم
طمعاً في رايكم وتعقيبكم
نرشح لكم هذا المنجز :

http://www.fonxe.net/vb/showthread.php?t=71282

رايكم منارة

ود لا يبور






  رد مع اقتباس
/
قديم 15-04-2018, 11:56 PM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
افتراضي رد: صرخة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريمه الخاني مشاهدة المشاركة
هذا النمط المعشق بالخيال، بات سمة العصر ومأوى أفكاره.
لك التقدير لجهدك.
ممتن لحضورك هنا
تحيتي






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
قديم 15-04-2018, 11:57 PM رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
افتراضي رد: صرخة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جمال عمران مشاهدة المشاركة
الله الله عليك اخى حارس
القصة دسمة من تصوير الى تعبير..
الجو ملائم للسرد ..القصة تحمل الكثير من الصور الحية من بداية الليل الى مشرق الشمس الى ليال وشموس ..وجو ريفي بحت اجادت حروفك تصويره .ثم الجانب الانسانى بزوايا مختلفة ..ثم نهاية مؤلمة لرجل حولوه الى ذئب جدبد ..رغم مافعل مما عجز عنه رجال القرية جميعا.وكان لهذا العبيط . المنقذ . عقاب جديد ربما كان والديه وصانعو الخطيئة التى هو نتاجها يقفان بين الرهط .
مودتى وتقديرى
الصديق الغالي
جمال عمران كم اشتقت إليك
سعد برؤيتك هنا وحضورك
دمت بكل خير أيها الوفي
تحيتي






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
قديم 15-04-2018, 11:58 PM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
افتراضي رد: صرخة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد خالد بديوي مشاهدة المشاركة
لم نعد نهتم بــ "صرخة" يطلقها (سيد) بعد أن ظننا
أن الوحوش لا تتكرر ولا تأتي من جديد، ولم ندرك
بعد أننا ومن الجبن والخسة نحن من يصنع وحوشنا
التي ستغزونا وما نملك بموت أكيد. هذا حال أهل هذه
القرية الموجودة في زوايا وطننا العربي الكبير..!!

سيد سيبقى هو سيدهم وإن نقضوا معه عهودهم
ووعودهم ...سيلقنهم أقسى الدروس دون أن يدركوا
ــ عبرة ـــ ومعناها البعيد..
الخيال الذي حوّل سيد الى وحش يعرف أنه إنسان جريح
لم يعد يقوى على الصبر.. لن يؤجل مخالبه.. ولن يقبل
إلا بدم طازج ليسد جوع قهره وخديعتهم وهو العارف بجبنهم
وضعفهم على مجابهة ما صنع غدرهم.

أديبنا المكرم حارس كامل
قصة وضعت (الصرخة) وسط الجموع معلنة عن وحش
ولد من ذنوبنا وقسوتنا.. تقول بكل وضوح ويل لكل أفاك
أثيم..
سرد رائع ومتين ورسالة عميقة يصل صدى صرختها
الى أبعد نقطة في كون رغم كثافة ضوءه إلا أنه معتم
ومظلم.!!
بوركتم وبورك مدادكم البديع.
احترامي وتقديري
أشكرك صديقي العزيز لقراءتك
صراحة مثلها تعطي الأمل للوجود
كنت عميقا وحاضرا
أشكرك
تحيتي






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
قديم 16-04-2018, 12:00 AM رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
افتراضي رد: صرخة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمة الزهراء العلوي مشاهدة المشاركة
من بين الأقلام الرائعة في السرد وفي كل مواطنه والتي أحب الانصات والحضور إليها
عميق ونص يفتح شهية الكتابة
كما أثني على قراءة أستاذنا البديوي
عساك بخير أخي الفاضل حارس
الصديقة العزيزة
كم رائعة هي كلماتك
أشكرك على ثقتك وثنائك
هذه الكلمات وسام
تحيتي






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:30 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط