هُوَ وَأَناهُ..- بقلم: محمود مرعي (3) - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ ⟰ ▆ ⟰ الديــــــوان ⟰ ▆ ⟰ ▂ > ⊱ تجليات ســــــــــــردية ⊰

⊱ تجليات ســــــــــــردية ⊰ عوالم مدهشة قد ندخلها من خلال رواية ، متتالية قصصية مسرحية او مقامة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15-06-2020, 06:04 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
محمود مرعي
عضو أكاديميّة الفينيق
فلسطين
افتراضي هُوَ وَأَناهُ..- بقلم: محمود مرعي (3)


سِياحة:

كانَ مُنْذُ انْسَلَخَ مِنْ سِياحَتِهِ وَدَخَلَ في سِباحَتِهِ قَدْ غابَ عَنْهُ حَكيمُ الزَّمانِ.. وَتَماهى مَعَ السِّباحَةِ مُنْذُ أَشْرَقَتْ أَناهُ فيهِ.. وَتَمَلَّكَهُ شُعورٌ أَنَّ السِّياحَةَ وَالسِّباحَةَ نَقيضانِ.. وَأَنَّهُ سَيَخْسَرُ إِحْداهُما أَمام طُغْيانِ الأُخْرى، وَكَما قالَ الـمَثَلُ: لا يُمْكِنُ حَمْلُ بِطِّيخَتَيْنِ بِيَدٍ واحِدَةٍ.. وَكَمْ تَمَنَّى أَنْ يَجْمَعَ بِيْنَهُما وَلا يَخْسَرَ أَيًّا مِنْهُما.. فَلَنْ يَكونَ إِلَّا بِهِما.. وَكَمْ تَمَنَّى أَنْ تَأْخُذَهُ أَناهُ إِلى إِناهُ الأَوَّلِ الطَّيِّبِ الهَنيءِ الـمَريءِ.. الَّذي غادَرَهُ مُنْذُ شُروقِها.. وَتَكونَ مَعَهُ في كُلِّ نَهْلَةٍ مِنْ ذاكَ القَراحِ البارِدِ.. بَدَلَ أَنْ تَمْضي بِهِ في مَتاهاتٍ وَتعاريجَ لا عَهْدَ لَهُ بِها.. وَتَزيدُ غُرْبَتَهُ وَظَمَأَهُ..

مَساءٌ حارِسٌ ميلادَ وَقْتٍ دائِرِيٍّ مَدَّ رُواقَهُ عَلى يَقْظَتي.. كانَ حَكيمُ الزَّمانِ خِلالَ تِلْكَ الفَتْرَةِ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَمَرِيَّة مِنْ سُطوحِ الغَيْبِ أَوْ مِنْ شُقوقِ التَّاريخِ مُتَأَبِّطًا مُسْتَقْبَلًا لَمْ يَمْسَسْهُ غُبارُ الحَضارَةِ وَلا دُخانُها.. أَوْ يُطِلُّ عَلَيْهِ مِنْ فُرَجِ غُيومِ الصَّيْفِ الآنِيِّ الـمُمْتَدَّةِ فَوْقَ كُلِّ صِقْعٍ بِلا مَطَرٍ.. كانَ يُطِلُّ عَلَيْهِ في كُلِّ زَوْرَةٍ.. فَيَجِدُهُ في زَوْراءَ مُظْلِمَةٍ يَتَلَمَّسُ النَّجاةَ وَأَنَّى لَهُ.. وَنَزَلَ إِلَيْهِ وَرَكَضَ الأَرْضَ بِرِجْلِهِ فَاهْتَزَّ الـمَكانُ وَتَصَدَّعَتِ الجُدْرانُ.. وَأَشْرَقَ نورٌ عَمَّ الأَرْجاءَ..

نَظَرَ إِلى حَكيمِ الزَّمانِ فَرَآهُ عَمودَ نورٍ مُتَّصِلًا بِالسَّماءِ.. وَتَذَكَّرَ ما قَدْ نَسِيَهُ مُنْذُ الْتَقى بِأَناهُ عَلى قارِعَةِ القَصيدِ أَيَّامَ انْثِيالِ الكَلامِ وَتَدَفُّقِهِ في مَصَبٍّ جَديدٍ.. فَأَجْهَشَ بُكاءً في حَضْرَةِ حَكيمِ الزَّمانِ.. وَأَدْرَكَ أَنَّهُ ما كان عَلَيْهِ أَنْ يُغادِرَ مَنْهَلَهُ الأَوَّلَ.. كانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْكُنَ وَأَناهُ هُناكَ لا أَنْ يُضَيِّعاهُ.. حَضَنَهُ حَكيمُ الزَّمانِ وَبادَرَهُ مُتَلَطِّفًا في الخِطابِ:

• أَيْنَ هَرَبْتَ مِنْ قَدَرِكَ؟ وَمَنْ سَرَقَكَ مِنْ جانِبِ الواحاتِ؟ اُنْظُرْ إِلى الصَّحراءِ، أَلا تَرى الظَّلامَ يَلُفُّها؟ وَلا أَنْوارَ فيها سوى تِلْكَ الواحاتِ وَالدَّاراتِ وَالأَدْواحِ الـمُتَناثِرَةِ؟ سَتَموتُ غَريبًا بائِسًا مُعْدَمًا لَوْ حاوَلْتَ العَيْشَ خارِجَها.. فَلَها خُلِقْتَ وَبِها تَكونُ.. وَلا حَياةَ لَكَ إِلَّا عِنْدَها.. وَمِنْها سَتَنْطَلِقُ في الزَّمانِ مُزَوَّدًا بِها لِتُعيدَ القُطْعانَ إِلى الحَظيرَةِ.. لا تَنْسَ مَهَمَّتَكَ في الحَياةِ.. فَما خُلِقْتَ لِلَهْوٍ وَلا عَبَثٍ وَلا أَحاديثَ صِبْيانِ الحَياةِ.. وَانْظُرْ إِلى السَّماءِ فَوْقَكَ، أَلا تَرى النُّجومَ تُرْسِلُ أَضْواءَها عَلى الواحاتِ وَالدَّاراتِ وَالأَدْواحِ حَصْرًا دونَ باقي الرِّمالِ وَالكُثْبانِ؟

- لَقَدْ وَجَدْتُ أَنايَ.. وَانْصَهَرْتُ فيها.. وَقَبْلَ مَجيئِكَ كُنْتُ دَمًا في نَبْضِها وَكانَتْ أَنا الخَليقَةَ بي.. كُنَّا شِقِّيْ روحٍ التَقَيا فَاتَّحَدا، وَحينَ نَزَلْتَ فَقَدْتُها.. رَغْمَ أَنَّها قَبْلَ قُدومِكَ كانَتْ قَدْ غادَرَتْ واقِعي لِتَنامَ في ذاكِرَتي، وَحينَ تَصْحو سَنُتابِعُ الطَّريقَ.. هكَذا قالَتْ لي..

• هكَذا أَنْتُمْ مَعْشَرَ العُشَّاقِ الـمَجانينَ.. أَيُّها الغُرَباءُ في كُلِّ زَمَنْ.. تَأْنَسونَ بِالعَذابِ.. تَنْحازونَ إِلى الأَلَمِ دَوْمًا.. بَدْءًا مِنْ مَجْنونِكُمُ الأَوَّلِ عَلى ثَرى نَجْدٍ وَالحِجازِ.. تَهيمونَ بِمَحْبوباتِكُمْ وَتَتيهونَ عَنِ الحَياةِ.. أَنْتُمْ بِلا زَمَنٍ لِأَنَّكُمْ في كُلِّ الزَّمَنِ.. تَعيشونَ في الرُّؤْيا وَتَفْقِدونَ الرُّؤْيَةَ.. كَأَنَّكُمْ جِبِلَّةٌ واحِدَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَشارِبُكُمْ.. أَنْتُمْ أَبْناءُ عِلَّاتٍ وَالطَّريقُ واحِدٌ وَالـمَآلُ واحِدٌ.. وَلِـماذا لَمْ تَأْتِ بِها إِلى الواحاتِ، إِلى الحَياةِ، بَدَلَ أَنْ تَتوها عَلى أَطْرافِ الصَّحْراءِ؟

- لا أَدْري.. كُلُّ ما أَعْرِفُ أَنَّا كُنَّا شَيْئًا واحِدًا لا أَكْثَرَ.. وَكَأَنَّني فَقَدْتُ ذاتي في حَضْرَتِها مُنْذُ تَغَشَّتْني.. كانَتْ دافِئَةً.. كُنَّا نورانِيَّيْنِ هُلامِيَّيْنِ في فَضاءٍ فِرْدَوْسِيٍّ مُعَلَّقٍ بِأَجْنِحَةِ طُيورٍ خُضْرٍ.. أَرْضِيَّتُهُ كَصَرْحِ سُلَيْمانَ.. وَيَمْتَدُّ زَبَرْجَدٌ عَلى الآفاقِ.. وَسَتائِرُ مِنْ سُنْدُسٍ تَرى مِنْ خِلالِها عَوالِمَ يَسْتَعْصي جَمالُها عَلى الإِدْراكِ.. كانَتْ تَفيضُ لَذَّةً وَحياةً وَتَفورُ شَهْوَةَ تَناسُلِ مِثْلَيْنا.. تَنامُ فِيَّ وَأَنامُ فيها..

• كُنْتُ عَلى عِلْمٍ بِحالِكَ.. كُنْتُ أُراقِبُكَ مِنْ شُقوقِ التَّاريخِ وَفُرَجِ الغَيْمِ.. وَالآنَ هَيَّا بِنا إِلى الواحاتِ قَبْلَ أَنْ يُداهِمَكَ سَوادُ النَّهارِ الغَريبِ..

دَخَلَ في نورِ حَكيمِ الزَّمانِ فَأَوْمَضَ.. وَإِذا بِهِ عِنْدَ الواحاتِ في عالَمٍ جَميلٍ الرُّؤى وَالصَّدى.. فَهُنا تَسابيحُ وَهُناكَ تَراتيلُ.. وَفي الجانِبِ موسيقى خُلودٍ تُذيبُ الزَّمانَ نَشْوَةً فَلا يَنْفيها مِنْ صَحائِفِهِ، بَلْ يَنْصَهِرُ فيها وَتَظَلُّ عَصِيَّةً عَلى الفَناءِ..

طافَ حَكيمُ الزَّمانِ بِهِ عَلى جَميعِ الواحاتِ وَالدَّاراتِ وَزَوَّدَهُ بِغِذاءِ الرُّوحِ وَزادِ الرِّحْلَةِ، ثُمَّ وَدَّعَهُ وَأَوْمَضَ فَاخْتَفى.. وَسَقَطَ عَلى الأَرْضِ وَبَقِيَ رَدْحًا مِنَ الزَّمَنِ، وَتَذَكَّرَ سِباحَتَهُ، وَأَنَّ عَلَيْهِ الـمُضِيَّ إِلى العَرَّافَةِ..
سِباحَة:

تَوَجَّهَ إِلى عَرَّافَةِ الشَّمالِ بَحْثًا عَنْ إِجابَةٍ.. كانَتْ عَلى تَلٍّ قَريبٍ مِنَ أَفْعى الزَّمانِ، وَكِلاهُما تَتَعاقَبانِ عَلى الصَّدى.. وَالـمَدى يَقْتُلُ الصَّدى.. وَما إِنْ رَأَتْهُ العَرَّافَةُ حَتَّى هَشَّتْ وَبَشَّتْ وَرَحَّبَتْ بِهِ، وَأَمْسَكَتْ بِيَدِهِ وَدَخَلَتِ الكوخَ..

كانَ الكوخُ مَليئًا بِالجَماجِمِ الـمُعَلَّقَةِ عَلى جُدْرانِهِ وَالبَخورُ تُفوحُ رائِحَتُهُ الـمُسْكِرَةُ.. وَأَجْلَسَتْهُ أَمامَ كانونِ نارٍ يَتَصاعَدُ مِنْهُ دُخانُ البَخورِ.. وَبَدَأَ يَقُصُّ عَلَيْها قِصَّتَهُ.. وَهِيَ تَهُزُّ رَأْسَها مُوافَقَةً وَتَصْديقًا لَهُ.. وَحينَ أَنْهى سَرْدَ حِكايَتِهِ، قامَتْ وَاتَّجَهَتْ إِلى زاوِيَةٍ في الكُوخِ وَهِيَ تَتَلَفَّتُ يَمينًا وَشِمالًا، وَلا تَكُفُّ عَنِ اسْتِراقِ النَّظَرِ إِلَيْهِ.. فَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ وَصارَ يَفْتَحُهُما بِالقَدْرِ الَّذي يَراها دونَ أَنْ تَدْرِكَ ذلِكَ.. وَحانَتْ مِنْها الْتِفاتَةٌ إِلَيْهِ وَكانَ يَراها.. فَابْتَسَمَتْ بَسْمَةً ساخِرَةً مِنْهُ وَعَضَّتْ شَفَتَها السُّفْلى كَمَنْ يُهَدِّدُ وَيَتَحَيَّنُ الفُرْصَةَ لِلْانْقِضاضِ..

صَحا قَليلًا مِنْ تَأْثيرِ البَخورِ وَالْتَفَتَ إِلَيْها.. كانَتْ عَيْناها جاحِظَتَيْنِ وَفي يَدِها سِكِّينٌ.. كانَ حالُها كَفيلًا بِأَنْ يُطَيِّرَ كُلَّ تَأْثيرٍ لِلْبَخورِ مِنْ رَأْسِهِ وَأَنْ يَصْحُوَ كُلِّيًّا.. وَأَدْرَكَ سِرَّ الجَماجِمِ الـمُعَلَّقَةِ عَلى جُدْرانِ الكوخِ.. وَلَمْ يَنْتَظِرْ فَقَدْ كانَ أَسْرَعَ مِنْها.. حَمَلَ كانونَ النَّار دونَ أَنْ يَشْعُرَ بِحَرِّ حَديدِهِ، كَما جَرى لِقَيْسٍ يَوْمَ ذَهَبَ إِلى عَمِّهِ لِيُحْضِرَ نارًا فَاكْتَوى بِالنَّارِ في حَضْرَةِ لَيْلاهُ، وَالفارِقُ بَيْنَهُما أَنَّ قَيْسًا ذُهِلَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لَيْلى، وَهُوَ ذُهِلَ خَوْفًا مِنْ مَصيرٍ أَسْوَدَ، رَمى كانونَ النَّارِ بِما فيهِ عَلى وَجْهِها، وَرَأَى دَمَها يَنْزِفُ وَالنَّارُ بَدَأَتْ تَتَوَغَّلُ في حِجابِها الكَثيفِ.. ثُمَّ وَلَّى هارِبًا، وَلَمْ تَقِفْ لَهُ عَلى أَثَرٍ.

ظَلَّ يَرْكُضُ مُنْحَدِرًا عَنِ التَّلِّ حَتَّى وَقَفَتْ خُطاهُ عَلى شَفى وادٍ.. فَجَلَسَ لِيَلْتَقِطَ أَنْفاسَهُ وَيَرْتاحَ قَليلًا قَبْلَ أَنْ يُتابِعَ هُروبَهُ مِنَ العَرَّافَةِ وَمِنْ وَاقِعِهِ الطّارِئِ الَّذي غَزاهُ وَلا يَدْري كَيْفَ يَتَعايَشُ مَعَهُ.. فَقَدْ رَوَتْ لَهُ ذاكِرَةُ زَمانٍ قَديمٍ أَنَّ الواقِعَ إِذا أَنْكَرْتَهُ انْطَفى أَثَرُهُ، وَأَنَّ عَلَيْكَ لِتَنْتَصِرَ عَلَيْهِ أَنْ تَخْلُقَ واقِعًا بَديلًا، تَتَعَرَّى مِنْ واقِعِكَ الـمُحيطِ وَتَتَعَرَّى مِنْ ذاتِكَ كَأَنَّكَ لَسْتَ أَنْتَ، وَتَدْخُلَ في الواقِعِ البَديلِ كائِنًا جَديدًا.. وَتِلْكَ تَجْرِبَةٌ أَشْبَهُ بَتَجْرِبَةِ الخُروجِ مِنَ الجَسَدِ.. وَقَبْلَ أَنْ يَهِمَّ بِالتَّعَرِّي وَيَبْدَأَ طَقْسَ الواقِعِ البَديلِ، كانَتْ مُقَدَّسَتُهُ تَرْكُلُ ذاكِرَتَهُ بِعُنْفٍ وَتَهُزُّها لِتُعيدَ ما كادَ يَغيبُ مِنْ سيرَتِها مَعَهُ كَأَنَّهُ حَدَثَ الآنَ..

• ما الَّذي جاءَ بِكِ الآنَ وَقَدْ تَرَكْتُكِ عَلى السَّفْحِ الـمُعَلَّقِ غَرْبَ النَّوْمِ، قُرْبَ مَجازِ الحُدوثِ، أَلَمْ تَفْتَحي ذِراعَيْكِ لِلرِّيحِ وَتَمْنَعيني مِنْ صَدِّها عَنْكِ؟ أَلَمْ تَطْرَبي لِهَمْسِها وَعَزْفِها؟ ما الَّذي جاءَ بِكِ الآنَ؟

- ما زِلْتَ ذلِكَ الـمَجْنونَ يا مَجْنونِيَ الأَبَدِيَّ.. أَنا ما زِلْتُ فيكَ وَلَمْ أُفارِقْكَ، وَكُلُّ ما في الأَمْرِ أَنِّي نِمْتُ عَلى أَريكَةِ ذاكِرَتِكَ يَوْمَ جُنِنْتَ مِنِّي لا بي، وَعَهْدي بِكَ مَجْنونِي لا مَجْنونًا مِنِّي.. فَكانَ عَلَيَّ مُعاقَبَتَكَ قَليلًا لِتَعودَ لي، فَأَنْتَ لي أَنا وَحْدي.. هكَذا شِئْتُ أَنا.. فَاخْضَعْ لِـمَشيئَتي تَكُنْ أَنا..

• وَماذا عَنْ طَرْدي؟ وَقَدْ كانَ الواجِبُ طَرْدَ الرِّيحِ.. كانَ بِاسْتِطاعَتي طَرْدُها.. وَلكِنَّكِ حُلْتِ بَيْني وَبَيْنَها.. بَلْ وَقَفْتِ في صَفِّها ضِدِّي.. فَكَيْفَ أَبْقى بَعْدَ فِعْلِكِ؟ لَقَدِ اقْتَرَفْتُ أُمورًا كُنْتُ أُنْكِرُ نَفْسي بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ.. وَكَثيرًا ما سَأَلْتُ نَفْسي: هَلْ هذا أَنا؟ هَلْ أَنا مَنْ يُثيرُهُ صِبْيانُ الكَلامِ لِدَرَجَةِ الخُروجِ عَنْ مَأْلوفِهِ؟ وَكُنْتِ تَضْحَكينَ مَعَ كُلِّ هَياجٍ مِنِّي.. وَكُلُّ ما فَعَلْتُ كانَ لِحِرْصي عَلَيْكِ..

- كانَ عَلَيَّ أَنْ أُعاقِبَكَ.. فَما بِهذا التَّفْكيرِ تَسْتَحِقُّني.. كانَ عَلَيَّ أَنْ أُدَرِّبَكَ عَلى ارْتِقاءِ مَدارِجي.. أَنْ أُعَلِّمَكَ كَيْفَ تَصِلُ إِلى قُبْلَتي وَعِناقي... أَنا لَكَ كُنْتُ وَسَأَكونُ، لكِنْ عَلَيْكَ أَنْ تَتَدَرَّبَ قَبْلَ أَنْ تَحْظى بي وَتنالَني.. كانَ كُلُّ ما صَدَرَ عَنْكَ طَيْشًا لا يَأْتيهِ مَنْ سَكًنْتُ قَلْبَهُ.. فَمَنْ أَسْكُنُ قَلْبَهُ يَجِبُ أَنْ يَكونَ قَلْبُهُ رَوْضًا يَسَعُني، لا رَمْضاءَ وَلا قِفارَ قَتادٍ.

• أَلَمْ تَكوني عَلى عِلْمٍ أَنَّ ما تَراءى لَكِ طَيْشًا كُنْتِ أَنْتِ السَّبَبَ فيهِ؟ أَلَمْ تُفَكِّري لِلَحْظَةٍ في سَبَبِ سُقوطي مِنْ أَعالي الإِدْراكِ إِلى حَضيضِ الهَذَيانِ وَالصِّبْيانِيَّةِ؟ بَعْدَ أَنْ كُنْتُ جَوْهَرَ الـمَعالي لا عَرَضَها؟ أَلَمْ تَعْلَمي أَنَّني لَمْ أَحْتَمِلْ هُبوبَ الرِّيحِ في فِنائِكِ؟ وَحينَ أَفْسَحْتِ لَها الـمَجالَ تَهاوَيْتُ سُقوطًا؟ لِـماذا أَفْسَحْتِ الـمَجالَ لِلرِّيحِ وَمَنَعْتِني مِنْ صَدِّها وَدَحْرِها؟ ثُمَّ لِـماذا لَمْ تُنَبِّهيني؟ لِـماذا تَرَكْتِني أَقْتَرِفُ النَّقائِصَ الَّتي أُنْكِرُها في الآخَرينَ؟ وَمَتى كانَتِ الرِّيحُ صَديقَةَ أَحَدٍ؟ وَهِيَ الَّتي عَرَّتْ قَبائِلَ الـمَسارِبِ السَّعيدَةِ, وَأَحالَتْ مَضارِبَهُمْ أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ.. وَمُنْذُ مَتى تُصادِقينَ الرِّيحِ بِحَضْرَتي؟ كَمْ مَرَّةٍ رَأَيْتِ خَوْفي عَلَيْكِ مِنْها؟ وَعايَنْتِ ذلِكَ في عُيوني.. أَلَمْ أُنْشِدْكِ قَولي:

تَساوى الـخَوْفُ في روحي عَلَيْكِ .. أَما لِلْخَوْفِ مِنْ مَوْتٍ لَدَيْكِ؟

فَخَوْفي في غِيابِكِ أَنَّ خَوْفي .. عَلَيْكِ يَموتُ مِنْ شَوْقٍ إِلَيْكِ

وَخَوْفي في حُضورِكِ أَنَّ شَوْقي .. لِفَرْطِ الـحَرِّ يُؤْذي مُقْلَتَيْكِ

فَصِرْتُ لِفَرْطِ خَوْفي وَاهْتِمامي .. أَخافُ عَلَيْكِ مِنْ خَوْفي عَلَيْكِ

(يتبع)






  رد مع اقتباس
/
قديم 15-06-2020, 09:27 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
محمد خالد بديوي
عضو أكاديمية الفينيق
عضو تجمع الأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق / عمون
الاردن

الصورة الرمزية محمد خالد بديوي

افتراضي رد: هُوَ وَأَناهُ..- بقلم: محمود مرعي (3)

هذا الجزء مختلف في جاذبيته ..آسر..كادت تنقطع أنفاسي
وأنا أتابع الحكي بمتعة وشغف من الحرف الأول حتى الحرف
الآخير .. سرد مثير..بلغة قوية وساحرة ..
من الرائع هذا التنقل ما بين السياحة والسباحة ..وخاتمة مدهشة
لهذا الفصل (الثالث) حيكت بكف خبير.


الأديب المكرم محمود مرعي ..ما زلت أتابع هذه الدرر ..

بوركتم وبورك نبض قلبكم الناصع
احترامي وتقديري






قبل هذا ما كنت أميز..

لأنك كنت تملأ هذا الفراغ


صار للفراغ حــيــــز ..!!
  رد مع اقتباس
/
قديم 15-07-2020, 04:20 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
محمود مرعي
عضو أكاديميّة الفينيق
فلسطين
افتراضي رد: هُوَ وَأَناهُ..- بقلم: محمود مرعي (3)

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد خالد بديوي مشاهدة المشاركة
هذا الجزء مختلف في جاذبيته ..آسر..كادت تنقطع أنفاسي
وأنا أتابع الحكي بمتعة وشغف من الحرف الأول حتى الحرف
الآخير .. سرد مثير..بلغة قوية وساحرة ..
من الرائع هذا التنقل ما بين السياحة والسباحة ..وخاتمة مدهشة
لهذا الفصل (الثالث) حيكت بكف خبير.


الأديب المكرم محمود مرعي ..ما زلت أتابع هذه الدرر ..

بوركتم وبورك نبض قلبكم الناصع
احترامي وتقديري
شكرًا لك أخي الكريم خالد

نسأل الله أن نكون عند حسن الظَّنِّ بنا






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:18 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط