قراءة تحليلية لقصة "الشال المعطر" للمبدعة منوبية الغضباني/تونس - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :أحلام المصري)       :: نكوص (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: الثمن..//فاتي الزروالي (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: الوطن ...أرقام! (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: وجبة (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: عبير (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: هل تحب الليل؟ (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: في منتصف الحب (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: وحيد بين عيدين - محمد البكري (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: عين الكاميرا (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: بأعلامنا التحفي (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: معايدة للجميع وغزة في الطليعة (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: بائسة (آخر رد :زياد السعودي)       :: إحداثيات* (آخر رد :زياد السعودي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > ☼ بيادر فينيقية ☼

☼ بيادر فينيقية ☼ دراسات ..تحليل نقد ..حوارات ..جلسات .. سؤال و إجابة ..على جناح الود

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-10-2020, 01:30 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الفرحان بوعزة
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
المغرب
إحصائية العضو








آخر مواضيعي

الفرحان بوعزة متواجد حالياً


افتراضي قراءة تحليلية لقصة "الشال المعطر" للمبدعة منوبية الغضباني/تونس

28 ـــ قصة : الشال المعطر/ منوبية الغضباني/ تونس
قراءة تحليلية لقصة "الشال المعطر" للمبدعة منوبية الغضباني/تونس
تحت عنوان:رمزية العطر بين رائحة اللحظة ورائحة استرجاع الذكريات
القصة
وقع منها شالها الحريري .
التقطه ....
ثمّ توجّه صوبها، وقد سرى عطرها فيه لهبا ليوزّعه في فضاءات من التّمني.

1 ـــ دلالة العنوان
قبل تفكيك عنوان القصة، لابد من التساؤل عن وظيفة العنوان في العمل الأدبي. هناك تعريفات كثيرة للعنوان، وسوف نحصره في التعريف التالي: فالعنوان هو صلة بمتن القصة ومحتواها، وأن لا يكون مباشرا لكي يكون القارئ مستعدا لتقبل النص وتذوقه، وبقدر ما يكون العنوان مناسبا، وصادما، ومدهشا، وإيقاعيا بقدر ما يجلب اهتمام القارئ ويدفعه إلى الاستمتاع بفحوى القصة القصيرة جدا،
فالعنوان رسالة لغوية تعرف بهوية النص وتحدد مضمونه، وتجذب القارئ إليه وتغويه به.
يقول الكاتب شعيب حليفي"وهو يمثل سلطة على النص وواجهة إعلامية تمارس في وجه المتلقي، كما أن العنوان هو وسيلة للكشف عن طبيعة النص والمساهمة في فك غموضه." (1)
فالعنوان،"الشال المعطر/ هو بوابة عبور تمنح القارئ القدرة على اكتشاف أغوار النص القصصي. له وظيفة إغرائية، وهو الرابط الأساسي الواصل بين المبدعة والمتلقي. عنوان مركب من كلمتين: "الشال/ المعطر" فما معنى كلمة "الشال"؟ جاء في العربية المعاصرة أن كلمة "الشال" تعني مِلحفة من القماش الخفيف، تُلقى على الرَّأس، فتنسدل على الرَّقبة والكتفين، وغالبًا ما تكون بيضاءَ للرِّجال وسوداءَ للنِّساء. فكلمة "المعطر" حصرت دلالته القريبة في العطر الثابت الذي وضع على الشال، وقد يسكن فيه مدة من الوقت. ويمكن أن تنتشر رائحته عبر المكان، إن كان العطر قويا ومركزا.
اكتفت الساردة بوصف الشال بأنه كان معطرا كإخبار للقارئ، ليتساءل ويدخل في رحلة التأويلات والتوقعات، ما قيمة هذا الشال؟ ما نوع العطر الذي يوجد فيه؟ ما مقدار انتشاره في المحيط؟ هل رائحة عطر الشال مقبولة، أم من العطور"المتوحشة" الخلاقة للفتنة؟ ما هو لون الشال؟ لمن هذا الشال المعطر؟ أهو لامرأة عابرة في الشارع؟ أم لامرأة متزوجة؟ أسئلة قد يتخلى القارئ عن البعض منها، وقد يعمل على تعزيزها لما يدخل عالم النص.
فالشال الذي وقع من البطلة، "منها" كان معطرا، لكن عطره كامن فيه، والبطلة هي التي تدركه وتشعر به. فكلمة "الشال" قد تكررت مرة في العنوان، وفي الجملة السردية التالية/ وقع منها شالها الحريري/؟ فلو جاء العنوان موسوما بكلمة "الشال" وحدها، لكان لها تأثير ربما أقل على المتلقي، فلما أسند إلى كلمة "المعطر" فقد تحددت صفة "الشال" وتركز الانتباه على العطر أكثر. وهي وسيلة لخلق الحدث المثير الذي ستبنى عليه القصة.
2 ـــ تفكيك خطاب النص
ا ـــ وقع منها شالها الحريري/ حدث وقوع الشال على الأرض، هو حدث مألوف، وفعل وقوعه يبقى كحالة تثير التعاطف والتنبه إليه من المارة، لذلك عملت الكاتبة على تسريع الحدث، فحفزت القارئ للمتابعة بخلق مشهد مثير ومختزل في كلمة واحدة "التقطه". فبين وقوع الشال على الأرض والتقاطه يوجد زمن قصير، وابتعاد البطلة عن مكان وقوع الشال منها يتطلب زمنا قصيرا أو طويلا. فلما حل البطل في مكان وقوع الشال، كانت البطلة في مكان آخر، وقد تكون قريبة أو بعيدة. لكن ما دام البطل نوى أن يلحق بها، فهي لم تكن بعيدة عنه. فمشهد وقوع الشال، ومشهد التقاطه، يتميزان بالحركة والفاعلية مما يحفز القارئ أن يتساءل: هل كان إسقاط الشال سهوا؟ هل انزلق عن رأسها، أم عن كتفيها؟ هل كان إسقاط الشال متعمدا؟ هل لديها معرفة مسبقة بمن كان يتبعها في نفس المسلك؟ في أي مكان تم وقوع الشال؟ أمام المنزل؟ في الشارع؟ في السوق؟ في الحديقة؟ جزئيات خفية عملت الساردة على إضمارها لتحفيز القارئ على التساؤل والتخمين للدخول مع المبدعة في جدال ثقافي ومعرفي، يفضي إلى إغناء النص وإبراز جماليته التعبيرية والأدبية.
ب ـــ التقطه ..../ جاء مشهد الالتقاط المتجسد في الفعل "التقطه " منتهيا بأربع نقط، حركات ومواقف مسكوت عنها، ونقط الحذف هذه، هي فجوة تحفز القارئ للتساؤل وبناء فرضيات تنير الفعل: كيفية الالتقاط/ تأمل الشال/ شم العطر/ الارتباك / التردد في اللحاق بصاحبة الشال/ التباطؤ / عدم التزحزح من مكانه/... الجري وراءها إن كانت على مرمى عينيه/ غياب صاحبة الشال/ توزيع النظر بين الشال وصاحبته/ ....
فوقوع الشال نقل البطل من حالة السكون النفسي إلى حالة ارتجاج داخلي، جعله يتحرك، ينفعل، يتأثر، يشتبك مع نفسه، يستحضر ضميره الإنساني، يتخيل صورة المرأة في ذهنه، يتفحص القد والقوام إن كانت ما زالت تظهر له/.. جزئيات تخلت عنها الكاتبة، لتحفز القارئ أن يملأ البياض بتجربته. ويضع نفسه في مكان البطل، يراقب، يتابع المشهد عن كثب، يتساءل مع نفسه: كيف سوف يتحرك البطل؟ كيف يتصرف؟ هل ينادي على صاحبة الشال؟ هل يأخذ الشال معه؟ هل يخفيه تحت سترته؟ هل يحتفظ به كذكرى؟
هناك مسافة مكانية فاصلة بين البطل والبطلة، ولكل منهما زمانه، فللبطل زمن يتجلى في التقاط الشال، فبعد التقاطه يمكن أن يستغرق زمنا وهو يقوم بحركات ظاهرة وخفية والشال في يده /التأمل/ البحث عن صاحبة الشال/ توزيع نظراته بين الشال وصاحبته. وللبطلة زمن يتجلى في الابتعاد عنه غير مبالية بوقوع الشال منها.. فعلى البطل أن يعدو لتقليص المسافة الزمنية والمكانية بينهما. فماذا حدث؟ لقد تغلبت عليه سلطة العطر، بعدما انتشى مدة بقوة عطره الفواحة. والسؤال الملح في هذه الحالة المحرجة للبطل هو: فهل سلم البطل الشال لصاحبته، أم احتفظ به؟ نتأمل الجملة السردية التالية:
ج ـــ ثمّ توجّه صوبها،/ تصدرت الجملة بالرابط "ثم" فهي تشير إلى الترتيب مع التراخي؛ فهناك مدة زمنية بين التقاط الشال، والتوجه نحو صاحبته كما أشرت إلى ذلك سابقا، والتوجه نحو البطلة يؤكد أنها كانت قريبة منه، وأنه كان يراها وهي لا تراه، فهل كانت تنتظره أن يلحق بها؟ أم كانت غافلة عن وقوع الشال منها؟ فهل نادى عليها؟ كيف يكون ردة فعلها لما تتسلم الشال منه؟ هل سوف تشكره؟ هل سيجرى حديث ما، بينهما؟هل عادت لتبحث عن الشال؟ كل هذه التفاصيل غيبتها الكاتبة لأن القصة القصيرة جدا لا تسمح بهذه التفاصيل.
فالجملة السردية " ثم توجه صوبها/ تدل على الفعل والحركة، كما أنها تحدد نمط بطل القصة، فالكاتبة غيبت عدة معطيات عن هذه الشخصية الفاعلة. ما هي وضعية البطل المادية والثقافية والاجتماعية؟ كيف يبدو مظهره الخارجي؟ ما هو الدافع للقيام بالتوجه نحو صاحبة الشال؟ أهي حالة إنسانية، أم لحظة اشتهاء ورغبة؟ هل لعطر الشال لغة صامتة هزت رغبته؟ فهل يعتبر الشال المعطر هو إحالة بشكل مباشر على إثارة الشهوة كطاقة أولى للعطر؟
يقول الكاتب سعيد بنكراد" فلا تخلو وصلة إشهارية من الإحالة، بشكل مباشر أو غير مباشر، على ما يمكن أن يستثيره العطر من “الشهوة”، وهي الطاقة الأولى للعطر، مادة الإغراء وواجهاته الشمية، فالأنف يَشُم خارج كل “رقابة”. فليس أمام الإشهاري لتشخيص رائحة لا تُرى سوى الإيحاء بهذه الخاصية من خلال“لحظة شمية”. فيكفي التمثيل لامرأة مضمخة بعطر عالي الجودة لكي تُستثار حاسة الشم عند رجل لن يتردد في اللحاق بها ليُهديها الورود أو يعرض عليها الزواج." (2)
ألا يمكن أن يكون إسقاط الشال المعطر هي رسالة تتجه نحو إثارة الانتباه، وتحريك الشهوة من أجل الاهتمام بالبطلة ومطاردتها لربط علاقة ما معها؟ فهل البطلة تريد إشهار نفسها وذاتها وجسدها عن طريق عطرها؟
فقوة العطر تتجلى في مقدار بقائه في اللباس والجسد لفترة طويلة، وانتشاره في المحيط لمسافات طويلة، فبالرغم من أنه ليس هناك بالضرورة علاقة بين تركيز وقوة العطر، فقد يحس جميع الناس بالعطر ذاته، ولكن طريقة “تمثله” تختلف في غالب الأحيان من فرد إلى آخر. فالساردة لم تحدد زمن وقوع حادث سقوط الشال، فعملت على إضماره، ولكنها أشرت عليه من خلال الجملة السردية " ثم توجه صوبها" فزمن الحدث قد يكون نهارا، ويبقى زمن الليل مرتبطا بوضوح الرؤية من خلال النور الموجود في المكان.
فالمكان الذي جرى فيه الحدث، هو فضاء لا يتسع إلى جريان أحداث أخرى، فالمسافة المكانية بين وقوع الشال والتقاط البطل له هي مسافة قصيرة جدا، ولما توجه نحو صاحبة الشال كانت حركة الزمن بطيئة. وزمن ابتعاد البطلة كان مفتوحا. فكلما تباطأ في اللحاق بها تزداد المسافة المكانية اتساعا.
د ـــ وقد سرى عطرها فيه لهبا ليوزّعه في فضاءات من التّمني./ جملة سردية طويلة جاءت خالية من علامات الترقيم، ابتدأت ب "وقد" التي دخلت على الفعل الماضي "سرى". وهو حرف تحقيق، فحرف "قد" جاء مسبوقا بالرابط "الواو". فحالة سريان العطر بدأت، وبدت مستمرة في غزو الذات والنفس، وتحريك الرغبة والاشتهاء. فكان التوجه صوبها مقرونا بسريان العطر في دواخل جسده، فأصبح تحت تأثير عطر آخر، يتجلى في عطر الجسد، عطر يشم، وعطر آخر يعتمد على التذوق/ وقد سرى عطرها فيه/ أهو عطر الشال، أم عطر الجسد؟ أيهما أقوى؟ أيهما أكثر تأثيرا؟ كل منهما حرك مشاعره، وألهب عاطفته ومزاجه، فاستيقظت الشهوة، وقفزت بين عينيه لحظة "استهوائية" عنيفة. فلم يعد يهتم بالعطر، فهو يرى عطرا آخر يوجد في لحم الجسد كما قلت سابقا. فعاش مدة داخل دوامة الحيرة والتردد. والسؤال المستجد في هذه الحالة: هل جرى البطل ليلحق بصاحبة الشال؟ هل تراخى وتباطأ في خطواته حتى تغيب البطلة؟ هل البطلة فطنت به وهو يتبعها؟ هل غابت عنه؟ هل اختبأت لتراقبه ماذا سيفعل وكيف بتصرف؟ هل لحق بها وسلمها الشال؟... كل هذه الأسئلة تبقى تأويلات وتصورات يتخيلها القارئ ليصل إلى ما وراء اللغة من معاني ودلالات مضمرة.
فجملة / ثم توجه صوبها/ تجسد صورة متحركة، تدل على أن التوجه صوبها كان بطيئا، مما مكنه من تكرار شم رائحة العطر الذي بسط سلطته عليه، فاشتعل جسمه لهبا، فلم يتمكن من اللحاق بها لإعطائها الشال ، فقد حاصره العطر، وشتت وعيه، وفتح عليه أبوابا مفتوحة من التمني، تدفقت داخله كنهر جارف. مما حد من فاعلية جرأته.
فجملة/ ليوزّعه في فضاءات من التّمني./ نهاية درامية، لكنها قد تكون ممتعة للبطل، وقد تكون جالبة له نوعا من القلق والتوتر والانفعال. فماذا كسب البطل من وقوع الشال؟ فرغم قيمة الشال من ناحية جودة الثوب،/شالها الحريري/ فإن تلك الجودة لم تكن مؤثرة في البطل، فالعطر الثابت في الشال هو المؤثر والمسيطر في نمو الحدث. فقد استأثر العطر بسلطة قوية على نفسية البطل، فقلب حياة البطل، فاختل التفكير، واستيقظ حس الإثارة والشهوة الجسدية، كمؤثر قوي على نفسية البطل، كلما طال ثبات العطر في الشال الحريري.
ما هي درجة تأثير العطر على الحالة النفسية والمزاجية للبطل؟ هل هناك علاقة بين حاسة الشم والمركز العاطفي؟ فكيف تم توزيع لهب العطر في فضاءات من التمني؟
يتبين أن البطل يعيش تحت تأثير هذا العطر الذي خلق له الكثير من الانفعالات العاطفية،
فبمجرد استقرار عطر الشال في ذهنه وفكره وذاكرته، يكون قد نسي صاحبة الشال، على افتراض أنه لم يلحق بها، وبقي غارقا في العديد من الذكريات البعيدة أو التجارب المنسية، ذكريات تتدفق بصورة سريعة وكثيفة جدا، فشم عطر الشال أيقظ عدة مشاعر مختلفة مرت عليها فترات زمنية طويلة، كأن يتذكر عشيقته، أو خطيبته، أو تلميذة كانت تدرس معه، أو صديق كان يستعمل عطرا ما باستمرار."لأن التأثير الذي تحمله رائحة العطر يتفوق بكثير على تأثر الصور والكلمات، كما قال أحد علماء النفس."
وقد عبرت الساردة عن هذه الحالات المختلفة للبطل المتداخلة بين ما عاطفي وشعوري ونفسي بكلمة "فضاءات" مكانية ونفسية، تجلت في استحضار متمنيات منسية ساكنة في الذاكرة، ومتمنيات جديدة نشأت عن تأثير العطر في نفسيته العاطفية. فعاش على التوهم والخيال، والتصور، والتساؤل، وأعتقد أن الفضاءات التي سرح فيها البطل لا تبتعد عن مواطن جمال البطلة المجهولة، ومنازل جسدها، وأناقتها، ولوم نفسه بأسئلة داخلية تأكل عاطفته ومزاجه. لماذا لم أسرع للحاق بها؟ كيف غابت عني بسرعة؟ كيف فاتتني الفرصة لربط علاقة معها؟ أهي متزوجة؟ أهي مخطوبة؟ أهي تبحث عن شريك؟ فهل عطر الشال يعبر عن جمالها وأناقتها؟هل تعمدت أن تخلق لي فتنة؟ هل تريد أن تنتقم مني؟ هل لها علاقة قديمة معي في الماضي؟...
فالعطر ليس محصورا على من هو جميل وأنيق، فهو في متناول الجميع، يقول أحد العلماء المسلمين " إن التعطر يدخل في حيز النظافة ومظهر الإنسان، مؤكدا أنه لابد أن يعيش الإنسان نظيفا، وهذه مطلوبات شرعية. غير أنه لا بد أن يتفق الشكل الجميل مع الجوهر والقلب الطيب، مضيفا أن التعطر للمرأة يعني الظهور بسلوك حضاري وثقافي، ما دام يكون هناك اعتدال في استعمال العطور، ولم يكن ملفت النظر.."(3)
فحالة التلهي بعطر الشال، خلقت بطلا مسلوب الإرادة، انحلت طاقته الفكرية، واهتزت مشاعره وعواطفه، فالكاتبة غيبت عدة معطيات عن هذه الشخصية العابرة، من يكون؟ ما هي حالته الاجتماعية والمادية؟ ما هو مستواه الاجتماعي والثقافي؟ كم عمره؟ أهو متزوج، أم مقبل على الزواج؟ كل هذه البيانات الغائبة لا تؤثر على جمالية القصة، بل أعطتها نفسا إنسانيا سريعا يتعلق بالحالة الشمية للعطر وتأثيرها على النفس والعاطفة والمشاعر. فللعطر رسالة تتجلى في اللغة الصامتة التي تبدو أقوى من الكلام والتلميح. ومن هنا اهتمت الكاتبة بالحالة النفسية لشخصية القصة، كشخصية متحولة، وخاضعة لسلطة العطر الذي قلب حياته، فغرق في شطحات فكرية وذهنية ونفسية وجنسية.
فعدم اللحاق بها لإعطائها الشال، مفارقة خلقت موقفا سلبيا للبطل، وقد يميل القارئ إلى السخرية من البطل، فيصفه بالسلب وعدم الفاعلية المبنية على المنطق والسلوك القويم، ويتجه نحو السؤال التالي: فهل يعتبر العطر من المحرمات في الإسلام؟ وهل يعتبر فتنة؟ فهل البطل وزع أمانيه على فضاءات جسدية لصاحبة الشال، أم أصبح يوزعها بين أجساد النساء المعطرات بنفس العطر أو غيره؟ هل يفتقد البطل للوعي الثقافي بالعطور الاصطناعية؟ وهل ترسخت عادة سيئة لدى البطل، فكلما استنشق عطرا يقوده إلى متعة مفترضة؟
إن قصة "الشال المعطر" تتجه نحو تبيان سلطة العطر على النفس البشرية، كأنه يحمل رسالة ما، بين الرجل والمرأة، تعزز استيقاظ العواطف والمشاعر الدفينة في النفس كنوع من الإغراء والاشتهاء ورائحة مقبولة، والتي لا توفرها الأجساد بروائحها المختلفة، روائح تخرج عبر مسام الجلد لكل شخص.
3 ـــ تركيب وبناء
للعطر لغة خاصة، يعتبر من المثيرات الدافعة نحو تشكيل حالة نفسية معقدة، تتداخل العواطف والمشاعر بالانفعال والتوتر، فتولد سلوكا ما في ظروف معينة، فدافع التقاط الشال هو سلوك حركي يتميز بالإنسانية. وسريان العطر في النفس هو سلوك حسي، وهو الأقوى لأنه استطاع أن ينقل البطل من حالته الإنسانية إلى حالة التمني التي ارتكزت على تشييد رغبات محتملة، ونسج عدة فرضيات مرتبطة بالجسد الأنثوي، انطلاقا ـــ ربما ـــ من خبرته بالعطور التي تستفز النفس، وتوقظ الجسم، وتنعش الرغبات الدفينة. إنها حالة انفعال وقلق، جرته نحو التذكر والتداعي، والتوهم، والمقارنة بين الأجساد الأنثوية. والتنقل بحسه وشعوره وفكره وعينيه بين فضاءات جسدية لكل النساء. فعن طريق المشاهدة والمتابعة تنسل متمنيات نائمة في ذاكرته، /طفولته وشبابه وفحولته./ ومن تم يتخيل لنفسه صورا وهمية تنعش عاطفته ورغبته. وهي حالة عبرت عنها الساردة ب "فضاءات من التمني"، فالبطلة تواصلت مع البطل بعطرها دون قصد أو غير قصد، تواصل صامت يحمل بين طيات العطر رسالة مشحونة ببطارية عملت على تشغيل كل جوارحه الداخلية. لكن.. فحاسة الشم قد تخدعنا، وتزيف لنا حقيقة الشخص الذي سوف نتواصل معه، وإن كان العطر له قيمة نفسية وذاتية واجتماعية. بطل خرج من الواقع ودخل في عمق التخييل، فبنى تصوراته عن طريق متمنيات منتزعة من قلبه ونفسه وفكره وذاكرته.
فالساردة لم تكشف عن متمنيات البطل الدفينة، وهي متمنيات مشتتة ومبعثرة، فرائحة العطر قد تثبت على الشال سويعات وتندثر، ولكن أثرها يمتد لأيام وشهور. فيسقط البطل في حياة متشظية، يعيش على شظايا متمنيات وزعها على فضاءات زمانية ومكانية. كل أمنية تستدعي أمنية أخرى، كلما حل في أي مكان، وكلما عاش في أي زمان إلى ما لا نهاية.
بطل أصبح تائها بين التردد والإقدام، نظرا لسلطة العطر الفواح. دون شك أنه غرق في ذكريات تهم مسار حياته في العشق، في الزواج، في العمل، في الدراسة، في السفر، في التواصل مع الجنس الأنثوي. فكأنه يتحسر على ما فات وما يعيشه الآن ..
ومضة جميلة جمعت بين جودة المبنى والمعنى، مفتوحة على قراءات متعددة مما يكسبها غنى المعاني والدلالات على مستوى النفس والذات والأماني المغيبة في تجاويف الذاكرة الخاصة.
فالساردة جعلت من العطر حياة تدب في النفوس، وتؤلف بين القلوب. وهنا تكمن مهارة المبدعة حين جعلت الأشياء تتكلم من حول البطل، وهي تحمل في عمقها حياة،/الشال، العطر، النفس /الذات/ الفكر/ الرغبة/ الشهوة/الشعور/الإحساس/ الانفعال/ التوتر/ تقلب المزاج/ الانتشاء/ التمني/ حركة دائمة ومستفزة للبطل رغم غياب صاحبة الشال. فنكهته لا تفارقه، قد يوزعها في كل الفضاءات التي يرتادها /المنزل/ الشارع/ الحدائق/ الحافلات / المحلات التجارية./ الحفلات/ ...ومن هنا تكون الساردة قد كشفت عن شخصية القصة المحورية في القصة، والتي ستبقى تحت سلطة عطر الشال المجهول الهوية لمدة غير معينة. فالشال قد يفنى وينسى، لكن رائحة عطره تبقى كذكرى متميزة لا تنسى في حياة البطل. يقول كاتب من فريق "مجلة القافلة" في مقال" تحت عنوان : العطر ذكرى" والعبق لا يبقى في ذاكرة الرسائل التي من ورق، لكنه يترك أثراً لا ينسى لأول وهلة عند فض الرسالة. لذا فإن الحبيبة في الزمن الجميل كانت تُعطر رسائلها إلى الحبيب بعطرها، كي تضوع رسائلها برومانسية الورد. فكم من الحروف التي سال حبرها من قطرات العطر، فاحتار الحبيب: هل هذه دموع الحبيبة أم ماء الورد؟! فهل كانت مي زيادة تعطر رسائلها لجبران؟ وهل كانت غادة السمان تعطر رسائلها لغسان، مثلما تفعل الحبيبات قديماً؟!(4) ألا يمكن أن يطور البطل رائحة عطر الشال إلى لحظات إبداعية؟ ألا يمكن أن يتحول الشال المعطر إلى فكرة إبداعية؟
وخـتـاما
عملت الساردة على خلق بطل عاش لحظة انتشاء، ورغبة في الشهوة الكامنة في النفس والجسد. والبطل ما هو إلا نسخة بشرية منتزعة من خلائق كثيرة يستأثرها عطر المرأة، فيتحول الانتباه من العطر إلى فحص جسد المرأة وتقييمه، وفك شفرة جماله وأناقته من خلال ذوقه الخاص، رغم أن رائحة العطر في الشال لا يحدد درجة جمال وأناقة صاحبة الشال. يقول الكاتب والناقد سعيد بنكراد" فإن الشم “اختيار" حر يخص الفرد وحده، إنه “بديل” عن أصل، هو الداعي إلى “ابتداع” العطر والاحتفاء بمعجزاته في الزينة واشتهاء الرغبة، أو هو “لحم” مستعار يُسَوِّق لحما طبيعيا. فلا مزايا نفعية للعطر: إنه لا يَعِد بالصحة ولا يوحي بالسعادة، إنه “ديكور ثقافي”، يافطة دلالية تشير إلى انتماء اجتماعي أو طائفة عرقية أو دينية"(5)

.............................................
1 ــــ هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل، شعيب حليفي: 11
2 ـــ سعيد بنكراد/ العطر: من الرائحة إلى “القناع الثقافي”/دراسات/ مجلة علامات/ مقال منشور بتاريخ 15/07/2020
3 ــــ شريف سليمان/ مفتي إسلامي/ تعطر المرأة سلوك حضاري ومن المطلوبات الشرعية/ فتاوي المرأة/ مقال منشور بتاريخ/ السبت 19 سبتمبر 2020
4 ـــ فريق مجلة القافلة/ موضوع منشور بتاريخ،مارس،أبريل/2011 / تحت عنوان: العطر/ مجلة القافلة / مجلة ثقافية متنوعة تصدر كل شهرين/
5 ــ سعيد بنكراد / المرجع السابق






  رد مع اقتباس
/
قديم 27-10-2020, 12:13 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
افتراضي رد: قراءة تحليلية لقصة "الشال المعطر" للمبدعة منوبية الغضباني/تونس

بارك الله فيك أستاذنا السي بوعزة
قراءاتك ظلال جميلة ترخي السمع لفصوص الكتابة وتؤنسنها
حين يلتقي الحبر من مبدعة وناقد مبدع نكون في حضرة الكتابة الحقيقية
راق لي كثيرا تعريف العنوان مع الأستاذ شعيب حليفي
تحية كبيرة للمحتفى بها سيدة اللغة الجميلة منوب الغالية
ولأستاذنا السي بوعزة التقدير الكبير






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-10-2020, 01:16 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
منوبية الغضباني
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
تونس

الصورة الرمزية منوبية الغضباني

افتراضي رد: قراءة تحليلية لقصة "الشال المعطر" للمبدعة منوبية الغضباني/تونس

اللّه...اللّه ...
كم أسعدتني هذه القراءة المتمكّنة من الصديق والمبدع الفرحان بوعزة ....
قراءة تحليلية دقيقة تناولت باقتدار وحرفية هذه القصة القصيرة جدّا فشدّت مجمل خيوطها وعتباتها ...
أدوات الرّصد فيها سوّغت لمثل هذا الطّرح المستفيض والملمّ بها ..
كلّ التقدير والإحترام لك سيّدي الكريم فالتلقي عندك لهذهالقصة ق.ج.فاق كل توقّع وارتقى بها ومنحها الضّوء.
وهو لعمري جهد يؤكد الرّأي
"الواحد منّا يكتب ويودع ما كتب لمتلقّ نبيه يفتح مغالق النص ويبحر به نحو الأجمل "
فشكرا شكرا تليق بجهدكم الوارف الماتع في قراءة القصّة ...







لِنَذْهَبَ كما نَحْنُ:

سيِّدةً حُرَّةً

وصديقاً وفيّاً’

لنذهبْ معاً في طريقَيْنِ مُخْتَلِفَيْن

لنذهَبْ كما نحنُ مُتَّحِدَيْن

ومُنْفَصِلَيْن’

ولا شيءَ يُوجِعُنا
درويش
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-10-2020, 01:31 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
منوبية الغضباني
عضو أكاديميّة الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
تونس

الصورة الرمزية منوبية الغضباني

افتراضي رد: قراءة تحليلية لقصة "الشال المعطر" للمبدعة منوبية الغضباني/تونس

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمة الزهراء العلوي مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك أستاذنا السي بوعزة
قراءاتك ظلال جميلة ترخي السمع لفصوص الكتابة وتؤنسنها
حين يلتقي الحبر من مبدعة وناقد مبدع نكون في حضرة الكتابة الحقيقية
راق لي كثيرا تعريف العنوان مع الأستاذ شعيب حليفي
تحية كبيرة للمحتفى بها سيدة اللغة الجميلة منوب الغالية
ولأستاذنا السي بوعزة التقدير الكبير
العزيزة جدا صديقتي وأستاذتي الزهراء
شكرا لمرورك وشكرا لشهادة مجروحة فيّ ...
وهل أقول أنّك من علمتني حبّ التهويم في النّص المقرووء والإحتفاء بكل جهد في هذا السّياق
تقديري ومحبتي التي تعلمين يا أيقونة النّقد والأدب






لِنَذْهَبَ كما نَحْنُ:

سيِّدةً حُرَّةً

وصديقاً وفيّاً’

لنذهبْ معاً في طريقَيْنِ مُخْتَلِفَيْن

لنذهَبْ كما نحنُ مُتَّحِدَيْن

ومُنْفَصِلَيْن’

ولا شيءَ يُوجِعُنا
درويش
  رد مع اقتباس
/
قديم 27-10-2020, 03:35 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
افتراضي رد: قراءة تحليلية لقصة "الشال المعطر" للمبدعة منوبية الغضباني/تونس

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة منوبية الغضباني مشاهدة المشاركة
العزيزة جدا صديقتي وأستاذتي الزهراء
شكرا لمرورك وشكرا لشهادة مجروحة فيّ ...
وهل أقول أنّك من علمتني حبّ التهويم في النّص المقرووء والإحتفاء بكل جهد في هذا السّياق
تقديري ومحبتي التي تعلمين يا أيقونة النّقد والأدب
لن أكون أستاذة في حضرة منوب الغالية
ربي يحفظك صديقتي الوفية النقية الطيبة
الحمد لله مازالت الدنيا بخير
لك القلب منووو
وتحية مجددة لأستاذنا العزيز السي بوعزة






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:23 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط