لِنَعْكِسَ بّياضَنا | |
« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر » |
|
⊱ المدينة الحالمة ⊰ مدينة تحكي فيها القصة القصيرة اشياء الزمان المكان |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
06-10-2012, 08:31 PM | رقم المشاركة : 1 | ||||
|
ذاكرة مذبوحة
مسكني من يدي ومشينا ، و كانت يده كبيرة و أصابعه خشنة . مشينا حتى ظننت أننا لن نقف ، و كان يقول : " نذهب للمقبرة نزور أختك سعدية و أخويك إبراهيم و الهادي ، أمك اسمها أمينة ، و أنا أبوك ، أبوك القاسم ."
كنت أسمعه غير أن عيني كانتا معلقتين بأعالي الكروم على طرفي الطريق الأسود حيث توجد حبات سود تلمع بفعل ضوء الشمس الشديد... قال : أتريد قليلا من التوت ؟ وقصد كرمة وقال : " هذه شجرة توت . إنها مثل كرمة العنب في الدار، و لكنها لا تطرح عنبا بل توتا ، تذكر هذا يا أحمد. امتدت يده إلى أعلى و رأيت الشعر المكوّر على ساعده ، وسمعت خشخشة أوراق التوت الرمادية ، و كانت يدي تشد في سرواله الأسود . وجاءت يده أمام صدري مفتوحة عليها حبات توت غلاظ ، ورأيت حبة تسقط من يدي ، انحنيت أحملها إلى فمي فنهرني : " لا لا ، ارم عنك ، الم تر أنها وسخة ملطخة ؟ ألا يكفيك ما بيدك ؟ لو كانت أمك هنا ... و سكت ...ثم قال : "هيا بنا لقد أضعنا من الوقت ما فيه الكفاية ، ثم إن الإكثار من التوت يؤلمك ، و كانت يده فوق بطني و أسنانه تظهر. ومسكني من يدي و مشينا و كنت آكل التوت... كان حلوا و حامضا ، و ليس حلوا وليس حامضا ، و حين وصلنا الباب كانت يداي فارغتين و أصابعي تلتصق ببعضها . قال : " هي ذي المقبرة ." كنت أرى من خلال سياج الباب أباء آخرين ، كانوا يدخلون ، بعضهم مرفقين بأمثالي ...سيارات كبيرة ،، رمادية و أخرى بيضاء وأخريات سوداء ، ونساء يشبهن خالتي الزهرة يجلسن القرفصاء مكبوبات الرؤوس ، على بعضهن ملاءات بيض تماما كخالتي الزهرة. مررنا بجانب أب غريب الأطوار ، كان يمتص عودا أبيضا قصيرا و ينفث غبارا أبيضا كغبار قدرنا ، وحين تجاوزناه التفت و رأيته ينظرني ، وأغمض عينه اليسرى و ظهرت أسنانه ، أدرت وجهي بسرعة و شدت يدي سرواله وقال :" لا تخف..ألا ترى انه يبتسم لك..انه يمازحك لا غير ..وقد غمزك بعينه." كانت يده لما تزل تمسك بيدي ، وجلس القرفصاء وشدني إليه أفعل مثله ، وقال: " هنا ترقد أمك أمينة ،عن يمينها ، هنا ، و أشار بيده سعدية وإبراهيم ، أما هنا على اليسار فيرقد الهادي " و سكت . رأيت إصبعه و رأيت التراب مكوما. قال :" هم أربعة ، وهنا أمك أمينة " كان فوق أحد الأكوام طست أبيض كالذي يشرب منه كلبي "راكس" ، وفي الأمام مغروسة كرمة صغيرة أوراقها رمادية ، وكانت ركبتاي تؤلمانني ورأسي ساخن مثل الإبريق .قال : "هذا الجيرانيوم عمره ثلاثة أشهر ، كانت امك تفضل الجيرانيوم ، و قد غرسته بيدي يوم جمعة بعد....." ولم أعد أسمع صوته ، وبدأ يتنفس بسرعة...كنت أنظر إليه...ووضع يده على عينييه... وأنا انظر إلى الشعر المصطف فوق فمه..وظهر لي ذقنه مقطبا بينما كان يتنفس بسرعة ثم دعك عينيه وكانت رماديتين تحدقان في وقال :" يا رب..." وسكت ، وجاءت يده وحطت فوق رأسي وبدأ الماء يسيل من عينيه ، وكانت رماديتين أكثر من ذي قبل وكان على الشعر المصفف فوق فمه قليل من التراب مثل التراب الذي نفضته خالتي الزهرة من على التلفاز بالأمس ، وقال : " ستشفى ، ستبرأ وتكبر يا أحمد ، و إذ ذاك يمكنك فهم كل شيء ... سيشفى ولدي ...وتذكر أمك أمينة التي ترقد هنا... لماذا يا رب لا تجعله يذكر؟ " قمت واقفا أريد العودة إلى الدار لمشاهدة التلفاز ، قال : " ما بك ؟ أتريد أن نعود للدار ؟ ألم تعد ترغب في البقاء مع أمك و إخوتك ؟ أنظر ، أخوك الهادي يرقد هنا وأشار إلى كومة التراب الصغرى ما بين الأربعة ، وكان إصبعه غليظا مثل حبة الجزر ولونه رماديا مثل لونها. قال : ألا ترغب في البقاء قليلا ؟ أتذكر حين كنت تلاعبه وتسرق منه لعبته الزرقاء وكنت تساعده على الوقوف ولم يكن يقدر؟ وبدأ يتنفس بسرعة ثانية..ولم تعد عيناه الرماديتان تحدقان في..كان رأسه منكبا ويده على جبهته و كنت أسمعه يتنفس بسرعة ، لم يدعك عينيه ثانية بينما زحفت يده على كومة التراب ، وسمعته يتكلم لوحده ، لم أفهم كلامه . في الواقع لم أرد الفهم ولا رؤية أكوام التراب ، كل ما كنت أريده هو مشاهد " الغابة الخضراء "(1) ، أعود إلى الدار و أشاهد الغابة الخضراء. قام واقفا ولم أعد أحس بالحرارة فوق رأسي وقال : " تريد العودة إذن ؟ هيا لنعد " ومسكني من يدي ، ومشينا وعدت أحس بالحرارة فوق رأسي...تجاوزنا الباب و ابتعدت أكوام التراب وقال ملتفتا : " هناك يرقد أخوك الهادي ، عمره الآن عام ، و بجانبه أمك و بالجهة اليمنى سعدية وإبراهيم ...لا تنسى ذلك أبدا ... و أنا أبوك. " وجاءت أشجار التوت على يمين الطريق و يساره...لم أعد أرغب في أكل التوت ، كل ما رغبته هو مشاهدة الغابة الخضراء.كان يمسكني من يدي و ينظر بعيدا ويقول :" ستكبر وتفهم كل شيء...سأدعو لك الله ليل نهار كي تبرأ و تسترجع ذاكرتك...لتذكرني وأمك وإخوتك..لن أدع أحدهم يمسك بسوء..سأكون معك أينما حللت...سأكون ظلك " ونظر إلي ورأيت أسنانه مصطفة..كان يبتسم ، وتوقف وتوقفت ، انحنى تجاهي وجاءت يداه نحو وجهي ، وحطتا فوق خدي وقال : " عدني يا أحمد ، عدني أنك ستتذكر كل شيء ، عدني فلم أعد اقدر على رؤيتك هكذا ، عدني انك ستتذكر أمك أمينة ، لماذا لا تذكر سعدية ، إبراهيم ، الهادي ، إخوتك يا احمد... حاول يا بني... لقد ذبحوهم أمامك أليس كذلك ؟ هيا يا احمد تذكّر.." وسكت و ارتعدت شفتاه و اتجهتا نحو جبيني و التصقتا به وقام واقفا. مسكني من يدي ومشينا ، ومسحت البصاق عن جبيني غير أني لم أجد بصاقا بيدي التي مسحت بها ، ومشينا و كان يقول " أنا أبوك ، و هم ذبحوا أمك و إخوتك ، كلهم ، الأربعة بما فيهم الهادي ، كان لا يزال يحبو... تذكر يا أحمد.. قيل أن رأسه قطعت بساطور و سقطت متدحرجة إلى أن لامست كتفك و أنت مختبئا تحت السرير... أصحيح ذلك ؟ حاول التذكر يا أحمد..... لماذا يا رب لا يمكنه التذكر؟. وقف... انحنى إلي و قال مبتسما : " الآن سأجعلك تتذكر كل شيء ... اسمع..كان الليل..وكانت الظلمة وانتم حول مائدة العشاء...موافق؟ وكنت أنا واقفا امسح ذراعيي بالمنشفة الوردية بعدما توضأت للذهاب إلى المسجد...موافق؟ وقلت لكم : يمكنكم العشاء من دوني فربما أتأخر بعد الصلاة ، وقلت لك أنت لا تأكل حصتي من لحم الدجاج ، ثم خرجت وتركتكم ..موافق؟ هـه ؟ قل لي ماذا حدث بعدي ؟ وسكت ... وبقيت عيناه تحدقان في و لم تكن رماديتان..ووقف وبدأنا نمشي ولم يعد يقل شيئا ... وبدأت البيوت تقترب شيئا فشيئا و بينما كان يمشي صامتا كنت أغني أغنية "الغابة الخضراء". ـــــــــــــــــ (1) الغابة الخضراء : فيلم كرتون عرض في التلفزيون الجزائري.
|
||||
07-10-2012, 11:31 AM | رقم المشاركة : 2 | |||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
لهم الله ذلكم القتلة الجزارين القادرين على القتل بايديهم...
ما هي القضية التي تبيح لهم قتل الأطفال والنساء بهذه الوحشية..؟ قصة مؤلمة حزينة، قرأتها وأنا ابكي ودموعي تغرق عيني. وأجمل نعمة هي نعمة النسيان بعد خوض هذه التجربة المريرة...! شكرا لك على المهارة في التصوير تحيتي وتقديري. |
|||
07-10-2012, 11:57 AM | رقم المشاركة : 3 | ||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
سلام الله
وتحية ترقى لتليق مُثمنٌ ما نثرتم من إبداع في مضارب الفينيق ولانكم اثراء عيوننا كلها أمل بان تسهموا معنا في مناخ تشاركي بناء قوامه النص / الناص / المتلقي والنّاص كمتلقي متمنين ان نرى المزيد من تعقيباتكم على صفحات الزملاء والزميلات أنعم وأكرم بكم ولكم مودتنا التي لن تبور |
||||
07-10-2012, 05:55 PM | رقم المشاركة : 4 | |||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
وهل يطرح الأسى في النفس غير الأسى..؟؟ أخي سعيد: أجدت..حتى أحزنت وأبكيت زادك الله إبداعا.. |
|||
14-10-2012, 12:03 AM | رقم المشاركة : 5 | ||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
الاخ سعيد
سرد مؤلم يعبر ما يفعلة من لا قلوب لهم وانا اتابع سردك اشتهبت التوت تحياتي لك
|
||||
15-10-2012, 12:44 PM | رقم المشاركة : 6 | ||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
قصة تستحق التصفيق لأن صياغتها السردية محكمة البناء
وعمارتها بلبنات قوية جدا تؤدي الدورين المؤانسة والامتاع ورغم ما يمشي فيه والخط السردي من حيث الفكرة * القاتمة * فهي تذكير بالذي حدث قصة تستحق ايضا الواجهة ثم ذكرتني بعشر جمر مرت بها الجزائر وكانت وحدها تتقاسي لهيب القتل الوحشي عائلة بأكملها ترقد المقبرة جراء اعتداء هذه الذاكرة ذبحتها يد السفلة المجرمون ...مجرموا الانسانية ثم الذي اثارني بالاضفة الى كل هذا الحوار كان اثنان الاب والطفل ولكن صوت الطفل لم نسمعه حتى سؤالا كان صمتا مؤسسا للحوارية وضمينا حاضر بالقوة وبالفعل من خلال ردود وتحركات الصوت المهمين في القصة * صوت الاب* ولكن في القفلة الرائعة * الغابة الخضراء* والمفردتين / غابة / وخضراء/ /حمولة امل واستمرارية ومستقبل فكل من الغابة * كناية عن المدى الواسع والخضراء * كناية عن لون السلام : / ينبثق ضوء ابيض / القفلة : القفلة رائعة والصوت المهيمن الذي كان * صوت الاب* ينمحي في القلفة وفي غناء وترداد * نلاحظ قوة التوظيف في الاشارة الى ترداد الاغنية ..تاكيداعلى استمرارية الحياة والايمان بها لاجل محو ذاكرة رمادية ولاجل الذين سقطوا جراء الاعتداء ... لاجل دم الشهداء ويبرز * صوت الابن * ليؤثث للهمينة الجميلة هذه القصة من بين أجمل ما قرأت ولي مدة انتظر لم ـلتق باثارة سردية تجعلني اعيد القراءة مرات استاذ ماروك شكرا لك زهراء
|
||||
16-10-2012, 12:37 PM | رقم المشاركة : 7 | |||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
اقتباس:
أعتذر أولا عن التأخر في الرد و المتابعة و ذلك لظروف خاصة ألمت بي. ثانيا اشكرك جزيل الشكر على المرور و الاهتمام...فعلا ، نحمد الله على نعمة النسيان غير أننا مجبرين على تقييد حجم المعاناة التي قاسينا ويلاتها. تحياتي و تقديري ...دمت بمودة وحب.
|
|||||
16-10-2012, 12:42 PM | رقم المشاركة : 8 | |||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
اقتباس:
اسعدني هذا التعليق و اني اعتذر عن الغياب. اعدك انني لن اخيب أمنيتك. تحيتي و تقديري
|
|||||
16-10-2012, 12:44 PM | رقم المشاركة : 9 | |||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
اقتباس:
لا يطرح الأسى غير الأسى. اشكرك على هذا التعقيب. تحيتي و مودتي.
|
|||||
16-10-2012, 12:47 PM | رقم المشاركة : 10 | |||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
اقتباس:
أسعدني كثيرا تعليقك هذا. دمت بمحبة ايها المبدع. تحيتي و تقديري.
|
|||||
16-10-2012, 12:50 PM | رقم المشاركة : 11 | |||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
اقتباس:
عاجز أنا عن التعبير عن مدى فرحي بمرورك أيتها الزهراء اليانعة. تحيتي و بالغ تقديري.
|
|||||
16-10-2012, 05:14 PM | رقم المشاركة : 12 | |||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
اقتباس:
استاذ ماروك سرني جدا انك اعجبت بتعليقي فكما الكتابة تحتاج قراءات فان القراءة تحتاج إلى القراءة ايضا شكرا اخي هناك نصوص تاخذنا اليها بكل تفاصيلها فنبقى مدة اطول شكرا وقلمك طيب وجميل ويستحق المتابعة زهراء
|
|||||
16-10-2012, 06:14 PM | رقم المشاركة : 13 | ||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
الأستاذ سعيد مرحبا سرد باهر ومشوق رغم الوجع الشديد الذي تئن به القصة تحياتي روضة |
||||
30-10-2012, 02:09 PM | رقم المشاركة : 14 | |||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
اقتباس:
أعتذر مرة أخرى لك و لكل من تأخرت عن الرد عليهم. تحياتي.
|
|||||
31-08-2013, 05:21 PM | رقم المشاركة : 15 | ||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
مرور بغية عودتها للواجهة من جديد
علها تجد من يعانقها بقراءة متأنية ولنا عودة لتناول حروفها وسكبها لمقام ذائقتكم تحيتي لــ سعيد ماروك
|
||||
31-08-2013, 05:58 PM | رقم المشاركة : 16 | |||||
|
رد: ذاكرة مذبوحة
اقتباس:
شرف لي أن تعيدها للواجهة، صدقني أعدت قراءتها الآن فشعرت بحزن مقيت. تحيتي و تقديري.
|
|||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|