الفينيق جبران خليل جبران يليق به الضوء*سلطان الزيادنة* - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: الادب والمجتمع (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: مقدّّس يكنس المدّنس (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: إخــفاق (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :عبدالماجد موسى)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-07-2010, 10:07 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سلطان الزيادنة
عضو مؤسس
أكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع الأدبي والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية سلطان الزيادنة

افتراضي الفينيق جبران خليل جبران يليق به الضوء*سلطان الزيادنة*

سلام الله

تعودنا أن نضع نصاً
تحت الضوء ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربة فذة
نستميح روح

جبران خليل جبران

لنضعه تحت الضوء
إذ به يليق الضوء



لمحة عن حياة جبران خليل جبران
-----------------------------------

ولد هذا الفيلسوف والأديب والشاعر والرسام من أسرة صغيرة فقيرة في بلدة بشري في 6 كانون الثاني 1883. كان والده خليل جبران الزوج الثالث لوالدته كميلة رحمة التي كان لها ابن اسمه بطرس من زواج سابق ثم أنجبت جبران وشقيقتيه مريانا وسلطانة .

كان والد جبران راعيا للماشية، ولكنه صرف معظم وقته في السكر ولم يهتم بأسرته التي كان على زوجته كميلة، وهي من عائلة محترمة وذات خلفية دينية، ان تعتني بها ماديا ومعنويا وعاطفيا. ولذلك لم يرسل جبران إلى المدرسة، بل كان يذهب من حين إلى آخر إلى كاهن البلدة الذي سرعان ما أدرك جديته وذكاءه فانفق الساعات في تعليمه الأبجدية والقراءة والكتابة مما فتح أمامه مجال المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب.

وفي العاشرة من عمره وقع جبران عن إحدى صخور وادي قاديشا وأصيب بكسر في كتفه اليسرى ، عانى منه طوال حياته.

لم يكف العائلة ما كانت تعانيه من فقر وعدم مبالاة من الوالد، حتى جاء الجنود العثمانيون يوم (1890) والقوا اقبض عليه أودعوه السجن، وباعوا منزلهم الوحيد، فاضطرت العائلة إلى النزول عند بعض الأقرباء. ولكن الوالدة قررت ان الحل الوحيد لمشاكل العائلة هو الهجرة إلى الولايات المتحدة سعيا وراء حياة أفضل.

عام 1894 خرج خليل جبران من السجن، وكان محتارا في شأن الهجرة، ولكن الوالدة كانت قد حزمت أمرها، فسافرت العائلة تاركة الوالد وراءها. ووصلوا إلى نيويورك في 25 حزيران 1895 ومنها انتقلوا إلى مدينة بوسطن حيث كانت تسكن اكبر جالية لبنانية في الولايات المتحدة. وبذلك لم تشعر الوالدة بالغربة، بل كانت تتكلم اللغة العربية مع جيرانها، وتقاسمهم عاداتهم اللبنانية التي احتفظوا بها.

اهتمت الجمعيات الخيرية بإدخال جبران إلى المدرسة، في حين قضت التقاليد بأن تبقى شقيقتاه في المنزل، في حين بدأت الوالدة تعمل كبائعة متجولة في شوارع بوسطن على غرار الكثيرين من أبناء الجالية. وقد حصل خطأ في تسجيل اسم جبران في المدرسة وأعطي اسم والده، وبذلك عرف في الولايات المتحدة باسم "خليل جبران". وقد حاول جبران عدة مرات تصحيح هذا الخطأ فيما بعد إلا انه فشل.

بدأت أحوال العائلة تتحسن ماديا، وعندما جمعت الأم مبلغا كافيا من المال أعطته لابنها بطرس الذي يكبر جبران بست سنوات وفتحت العائلة محلا تجاريا. وكان معلمو جبران في ذلك الوقت يكتشفون مواهبه الأصيلة في الرسم ويعجبون بها إلى حد ان مدير المدرسة استدعى الرسام الشهير هولاند داي لإعطاء دروس خاصة لجبران مما فتح أمامه أبواب المعرفة الفنية وزيارة المعارض والاختلاط مع بيئة اجتماعية مختلفة تماما عما عرفه في السابق.

كان لداي فضل اطلاع جبران على الميثولوجيا اليونانية، الأدب العالمي وفنون الكتابة المعاصرة والتصوير الفوتوغرافي، ولكنه شدد دائما على ان جبران يجب ان يختبر كل تلك الفنون لكي يخلص إلى نهج وأسلوب خاصين به. وقد ساعده على بيع بعض إنتاجه من إحدى دور النشر كغلافات للكتب التي كانت تطبعها. وقد بدا واضحا انه قد اختط لنفسه أسلوبا وتقنية خاصين به، وبدأ يحظى بالشهرة في أوساط بوسطن الأدبية والفنية. ولكن العائلة قررت ان الشهرة المبكرة ستعود عليه بالضرر، وانه لا بد ان يعود إلى لبنان لمتابعة دراسته وخصوصا من أجل إتقان اللغة العربية.

وصل جبران إلى بيروت عام 1898 وهو يتكلم لغة إنكليزية ضعيفة، ويكاد ينسى العربية أيضا.

والتحق بمدرسة الحكمة التي كانت تعطي دروسا خاصة في اللغة العربية. ولكن المنهج الذي كانت تتبعه لم يعجب جبران فطلب من إدارة المدرسة ان تعدله ليتناسب مع حاجاته. وقد لفت ذلك نظر المسؤولين عن المدرسة، لما فيه من حجة وبعد نظر وجرأة لم يشهدوها لدى أي تلميذ آخر سابقا. وكان لجبران ما أراد، ولم يخيب أمل أساتذته إذ اعجبوا بسرعة تلقيه وثقته بنفسه وروحه المتمردة على كل قديم وضعيف وبال.
تعرف جبران على يوسف الحويك واصدرا معا مجلة "المنارة" وكانا يحررانها سوية فيما وضع جبران رسومها وحده. وبقيا يعملان معا بها حتى أنهى جبران دروسه بتفوق واضح في العربية والفرنسية والشعر (1902). وقد وصلته أخبار عن مرض أفراد عائلته، فيما كانت علاقته مع والده تنتقل من سيء إلى أسوأ فغادر لبنان عائدا إلى بوسطن، ولكنه لسوء حظه وصل بعد وفاة شقيقته سلطانة. وخلال بضعة اشهر كانت أمه تدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية لاستئصال بعض الخلايا السرطانية. فيما قرر شقيقه بطرس ترك المحل التجاري والسفر إلى كوبا. وهكذا كان على جبران ان يهتم بشؤون العائلة المادية والصحية. ولكن المآسي تتابعت بأسرع مما يمكن احتماله. فما لبث بطرس ان عاد من كوبا مصابا بمرض قاتل وقضى نحبه بعد أيام قليلة (12 آذار 1903) فيما فشلت العملية الجراحية التي أجرتها الوالدة في استئصال المرض وقضت نحبها في 28 حزيران من السنة نفسها.

إضافة إلى كل ذلك كان جبران يعيش أزمة من نوع آخر، فهو كان راغبا في إتقان الكتابة باللغة الإنكليزية، لأنها تفتح أمامه مجالا ارحب كثيرا من مجرد الكتابة في جريدة تصدر بالعربية في أميركا ( كالمهاجر9 ولا يقرأها سوى عدد قليل من الناس. ولكن انكليزيته كانت ضعيفة جدا. ولم يعرف ماذا يفعل، فكان يترك البيت ويهيم على وجهه هربا من صورة الموت والعذاب. وزاد من عذابه ان الفتاة الجميلة التي كانت تربطه بها صلة عاطفية، وكانا على وشك الزواج في ذلك الحين (جوزيفين بيبادي)، عجزت عن مساعدته عمليا، فقد كانت تكتفي بنقد كتاباته الإنكليزية ثم تتركه ليحاول إيجاد حل لوحده. في حين ان صديقه الآخر الرسام هولاند داي لم يكن قادرا على مساعدته في المجال الأدبي كما ساعده في المجال الفني.

وأخيرا قدمته جوزفين إلى امرأة من معارفها اسمها ماري هاسكل (1904)، فخطّت بذلك صفحات مرحلة جديدة من حياة جبران.

كانت ماري هاسكل امرأة مستقلة في حياتها الشخصية وتكبر جبران بعشر سنوات، وقد لعبت دورا هاما في حياته منذ ان التقيا. فقد لاحظت ان جبران لا يحاول الكتابة بالإنكليزية، بل يكتب بالعربية أولا ثم يترجم ذلك. فنصحته وشجعته كثيرا على الكتابة بالإنكليزية مباشرة. وهكذا راح جبران ينشر كتاباته العربية في الصحف أولا ثم يجمعها ويصدرها بشكل كتب ، ويتدرب في الوقت نفسه على الكتابة مباشرة بالإنكليزية.



عام 1908 غادر جبران إلى باريس لدراسة الفنون وهناك التقى مجددا بزميله في الدراسة في بيروت يوسف الحويك. ومكث في باريس ما يقارب السنتين ثم عاد إلى أميركا بعد زيارة قصيرة للندن برفقة الكاتب أمين الريحاني.

وصل جبران إلى بوسطن في كانون الأول عام 1910، حيث اقترح على ماري هاسكل الزواج والانتقال إلى نيويورك هربا من محيط الجالية اللبنانية هناك والتماسا لمجال فكري وأدبي وفني أرحب. ولكن ماري رفضت الزواج منه بسبب فارق السن، وان كانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بينهما ورعاية شقيقته مريانا العزباء وغير المثقفة.

وهكذا انتقل جبران إلى نيويورك ولم يغادرها حتى وفاته . وهناك عرف نوعا من الاستقرار مكنه من الانصراف إلى أعماله الأدبية والفنية فقام برسم العديد من اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان وساره برنار وغوستاف يانغ وسواهم.

سنة 1923 نشر كتاب جبران باللغة الإنكليزية، وطبع ست مرات قبل نهاية ذلك العام ثم ترجم فورا إلى عدد من اللغات الأجنبية، ويحظى إلى اليوم بشهرة قل نظيرها بين الكتب.

بقي جبران على علاقة وطيدة مع ماري هاسكال، فيما كان يراسل أيضا الأديبة مي زيادة التي أرسلت له عام 1912 رسالة معربة عن إعجابها بكتابه " الأجنحة المتكسرة". وقد دامت مراسلتهما حتى وفاته رغم انهما لم يلتقيا أبدا.


توفي جبران في 10 نيسان 1931 في إحدى مستشفيات نيويورك وهو في الثامنة والأربعين بعد أصابته بمرض السرطان. وقد نقلت شقيقته مريانا وماري هاسكل جثمانه إلى بلدته بشري في شهر تموز من العام نفسه حيث استقبله الأهالي. ثم عملت المرأتان على مفاوضة الراهبات الكرمليات واشترتا منهما دير مار سركيس الذي نقل إليه جثمان جبران، وما يزال إلى الآن متحفا ومقصدا للزائرين.




من الأقوال الخالدة لجبران
-----------------------------

* أنت أعمى،وأنا أصم أبكم ،إذن ضع يدك بيدي فيدرك احدنا الآخر
*بعضنا كالحبر وب عضنا كالورق
فلولا سواد بعضنا لكان البياض أصم
ولولا بياض بعضنا لكان السواد اعمى
*العقل اسفنجةٌ،والقلب جدولٌ،أفَليسَ بالغريب أن أكثر الناس يؤثرون الإمتصاص على الإنطلاق
*أنتم تشربون الخمر لتسكروا ، وأنا أشربها لأصحو من خمرةِ غيرها
*ليست حقيقةُ الإنسان بما يظهرهُ لك ، بل بما لايستطيع أن يظهرهُ .لذلك إذا أردت أن تعرفه، فلا تصغِ
إلى مايقوله بل إلى ما لا يقوله
*نصف ما أقوله لك لامعنى له،ولكنني أقوله ليتم معنى النصف الآخر
*الحقيقي فينا صامت ولكن الإكتسابي ثرثار
*مع ان امواج الألفاظ تغمرنا أبداً فإن عمقنا صامتٌ أبداً
*ما أنبل القلب الحزين الذي لايمنعه حزنه على ان ينشد أغنية مع القلوب الفرحة
*يغمسون اقلامهم في دماء قلوبنا ثمَّ يدَّعون الوحي والإلهام
*ليس الشعر رأياً تعبِّرُ الألفاظُ عنهُ ،بل انشودةٌ تتصاعدُ من جرحٍ دام ٍ أو فم ٍ باسم
*البعض جثَّة راقدة ..... فمن منكم يريد أن يكون قبراً لها؟.
*منبر الإنسانية قلبها الصامت لاعقلها الثرثار.
*الحر الحقيقي هو الذي يحمل أثقال العبد المقيَّد بصبر وشكر.
*الوحدة عاصفة هوجاء صمَّاء تحطِّم جميع الأغصان اليابسة في شجرة حياتنا ولكنها تزيد جذورنا الحيِّة
ثباتاً في القلب الحيِّ للأرض الحيَّة.
*إنما الرجل العظيم ذلك الذي لا يسود ولا يُساد.
*لم يعمل البشر بمقتضى القول القائل "خير الأمور الوسط" لذلك تراهم يقتلون المجرمين والأنبياء.
*ربما عدم الإتفاق أقصر مسافة بين فكرين.
*لقد تعلمت الصمت من الثرثار ، والتساهل من المتعصِّب ، واللطف من الغليظ، والأغرب من كل هذا أنني
لا أعترف بجميل هؤلاء المعلِّمين.
* المتعصِّب بالدين خطيبٌ بالغُ الصمم.
*إذا كنت لاترى إلاما يظهرهُ النور ، ولا تسمع إلا ما تعلنهُ الأصوات بالحقيقة لاترى ولا تسمع.
*لا تستطيع أن تضحك وتكون قاسياً في وقتٍ واحد.
*لايدرك أسرار قلوبنا إلا من امتلأت قلوبهم بالأسرار.
*إذا تعاظم حزنك أو فرحك صَغُرَتْ الدنيا.
*ليس من يصغي للحق بأصغر ممن ينطق بالحق.
*يقولون لي : لو عرفت نفسك لعرفت جميع الناس
فأقول لهم : ألن اعرف نفسي أولاً حتى أعرف جميع الناس.
*إنما المير هو ذلك الذي يجد عرشهُ في قلوب الدراويش.
*الجود أن تعطي أكثر مما تستطيع،والإباء أن تاخذ أقلّ مما تحتاج إليه.
*الرغبة نصف الحياة ، أما عدم الإكتراث فنصف الموت
*-جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك و أنت تعرف حاجته
*إن أيامنا مثل أوراق الخريف تتساقط وتتبدد أمام وجه الشمس
*إن ما تشعرون به من ألم هو انكسار القشرة التي تغلف إدراككم وكما أن قشرة النواة الصلدة يجب أن تتحطم وتبلى حتى يبرز قلبها من ظلمة الارض الى نور الشمس هكذا انتم ايضا يجب أن تحطم الآلام قشوركم قبل أن تعرفوا معنى الحياة
*إن القلب بعواطفه المتشبعة يماثل الارزة بأغصانها المتفرقة فإذا ما فقدت شجرة الارز غصنا قويا تتألم ولكنها لا تموت بل تحول قواها الحيوية إلى الغصن المجاور لينمو ويتعالى ويملأ بفروعه مكان الغصن المقطوع
*وقفت بالامس على باب الهيكل أسأل العابرين عن خفايا الحب ومزاياه .فمر أمامى كهل .....وقال .... الحب ضعف فطرى ورثناه عن الانسان الاول
ومر فتى قوي وقال .......مترنما الحب سم قتال
ومرت صبية وقالت .......... الحب كوثر تسكبه عرائس الفجر فى الارواح القوية
ومر رجل ذو ملابس سوداء ولحية مسترسلة وقال عابسا : الحب جهالة عمياء تبتدئ ببدء الشباب وتنتهى بنهايته
ومر رجل ذو وجه صبيح وقال.........الحب معرفه علوية تنير بصائرنا
ومر أعمى وقال........... الحب ضباب كثيف
ومر شاب يحمل قيثارة وقال.................. الحب شعاع سحرى ينبثق من اعماق الذات وينير جنباتها
ومر هرم منحنى الظهر وقال .............الحب راحة الجسم فى سكينة القبر وسلامة النفس فى اعماق الابدية
ومر طفل ابن خمس وهتف ................... الحب أبى والحب أمى ولايعرف الحب سوى ابى وامى
ولما جاء المساء ............... سمعت صوتا آتيا من داخل الهيكل يقول : الحياة نصفان , نصف متجلد ونصف ملتهب : فالحب هو النصف الملتهب
فدخلت الهيكل ............ وسجدت راكعا مبتهلا ........... هاتفا : اجعلنى يارب طعاما للهيب.
*جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك و أنت تعرف حاجته
*ما أشبه بعض أرواح الناس بالاسفنج انك لا تستقطر منها الا ما امتصته منك أنت




جبران في عمون الفينيق :
--------------------------

الأجنحة المتكسرة
------------------

تحميـــــــــل

************

الشعلة الزرقاء ؛رسائل جبران إلى مي زيادة

تحميـــــــــل

************
كتاب النبي


تحميــــــــل


*************

العواصف


تحميـــــــل

**************
المجنون- أمثاله وأشعاره-

تحميـــــــــل

**************
البدائع والطرائف

تحميـــــــــــــل

**************
المواكب

تحميـــــــــــــــــــــــــــــل

*************
دمعة وابتسامة..

تحميــــــــــــــــــــــــــل

*************
مناجاة أرواح..

تحميــــــــــــــــــــــل

***********
حديقة النبي

تحميـــــــــــــــــــــــــــل

*************
ابن الإنسان

تحميــــــــــــــــــــل

*************
آلهة الارض و السابق

تحميـــــــــــــــــــل

*************

أرباب الأرض

تحميــــــــــــــــــــــــل

*************
المجنون - أمثاله واشعاره

تحميــــــــــــــــــــــــــل

*************
رمل وزبد

تحميـــــــــــــــــــــل

**************

السابق

تحميــــــــــــــــــل

*************

الموسيقى

تحميـــــــــــل

************

رسومات جبران خليل جبران

تحميــــــــــــــــــــــــــل

الأرواح المتمردة

تحميــــــــــــــــــــــل



دراسات عن جبران
---------------------

بنية الخطاب السردي عند جبران خليل جبران
-------------------------------------------
"عرش الموت" كنموذج
ليلى السيد

المقدمة

هذا النص – أمام عرش الموت – هو فصل مقتبس من رواية (الأجنحة المتكسرة) لجبران خليل جبران، الذي يعده النقاد من رواد ممثلي الإتجاه الرومانسي في القصة العربية في مطلع القرن العشرين بل يعبر عنه د. نعيم اليافي (أنه يمثل رومانسية التمرد على الواقع الذي كان يحياه الشعب في الجبل)(1)، فجبران أديب لبناني ولد في بشرى، سنة 1883 من أب يعمل في عد الأغنام، وأم قوية العزيمة والشخصية تدعى (حنا رحمة) كان لها أثرها القوي في حياة جبران على مدى مراحلها المختلفة، وقد هاجر مع أمه إلى بوسطن ثم رجع إلى بيروت ليدرس اللغة العربية وآدابها عام 1898، وقد امتدت صداقته بأستاذه سليم الظاهر، وبهذه العلاقة كتب لجبران أن يتذوق طعم نكهة الحب الأول مع حلا الظاهر والتي أسست بعد ذلك قصة جبران هذه.

وكان لقسوة الحزن موعد مع أديبنا، فقد جاء موت أخته الذي أعاده وهو مجروح القلب لفقده حبه الأول وارتطامه بصخرة واقع التخلف في لبنان- إلى بوسطن ويمتد الحزن إلى أمه وأخوه، ومع علاقته بـ (ماري هاسكل) استطاع أن يتصل بأمين الريحاني في نيويورك وهناك في سنة 1912 صدرت له (الأجنحة المتكسرة) وقبلها كانت كتبه (الموسيقى) و(عرائس المروج)، ثم (الأرواح المتمردة)، وتوالت كتاباته بعد ذلك والتي توجه بها جبران ناحية الكتابة باللغة الإنجليزية منذ عام 1918، بعد ذلك بعامين أسس الرابطة القلمية مع مجموعة من أدباء عصره مثل نعيمة وأبي ماضي والريحاني وعريضه، وقد توالت أعماله الأخرى بعد ذلك حتى كان نيسان 1931 حيث أهلك المرض جسد الأديب المتمرد وفارق الحياة ودفن في قريته بشرى.(2)

وتمثل (الأجنحة المتكسرة) جانباً من جوانب جبران الإبداعية والذاتية في آن معا، وفيها يتبلور الاتجاه القصصي لدى جبران وكذلك أبرز اتجاهاته وأفكاره، وهذا ما نراه بشده واضحاً من خلال فصل (أمام عرش الموت).

وبالتالي ستنحصر هذه الدراسة حول بنية الخطاب السردي في هذا الفصل، والتي تعرف على أنها (الكيفية التي تروى بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها وما تخضع له من مؤثرات، بعضها متعلق بالراوي والمروي له، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها).(3)

ووفق هذا التعريف سوف تنقسم الدراسة إلى قسمين:

أوّلاً: الشكل الروائي
1- الشخصيات.
2- الزمان.
3- المكان.
4- البنية اللغوية والدلالية داخل السرد.
5- إشكالية الشكل الروائي عند جبران.
ثانياً: المضمون
1- بنية الحدث.
2- انعكاس شخصية جبران المؤلف على الفعل الروائي من خلال:
- بنية قضية المرأة الشامية/ العربية.
- مثالية النظرة الجبرانية للحب.
- موقفه من الدين.
- وأخيراً تتعرض الخاتمة لتمثلات الموت الجبراني في القصة.
أولاً: الشكل الروائي
1 - الشخصيات
تمثلت بنية الشخصية الجبرانية داخل رواية (الأجنحة المتكسرة) من خلال عرض نموذجين مختلفين تندرج تحت بنيتها الشخصية الروائية عند جبران؛ إذ تنقسم إلى:
أ - الشخصية السلطوية وتتمثل في:
أ-1 المطران (بولس غالب)، إذ يمثل سلطة دينية مستغلة لمكانتها الروحية عند الناس ويصف لنا هذا التناقض في تركيبة الشخصية فهي تمثل الاتجاه الروحي لكنها تحوله إلى عملية متاجرة زهيدة بآمال الفقراء والبسطاء في التقرب إلى الله فيسلب بذلك أموالهم، ويجعلها في بد ابن أخيه، فارضاً بذلك سلطته الزمنية، (كان المطران يبلغ أمانيه مستتراً بأثوابه البنفسجية ويشبع مطامعه محتمياً بالصليب الذهبي المعلق على صدره...)(4) وبذلك يعبر جبران عن مرحلة التسلط الديني والزمني في عصره، يكشف ذلك انشغال المطران بأمور السياسة (...) ويصرف أيام الأسبوع مشتغلاً بسياسة البلاد).(5) وسوف نتعرض لرؤية جبران هذه من خلال موقفه من العالم الكهنوتي والزمني، لكن ذلك لا يمنع من القول بأن حدة هذا الموقف في نفس جبران قيدته في إطلاق النعوت القريبة من السبّ وأغفلته عن بناء سردي لهذه الشخصية التي كانت تمثل غناء في السرد والأحداث؛ لكونها من الشخصيات المحورية والتي تتمفصل حولها بعض التحولات الجوهرية داخل الحدث الدرامي للقصة.
أ-2 منصور بك غالب، ابن أخ المطران وهو زوج سلمى، شاب ثري وزوج مستهتر، يسكن منطقة في بيروت امتازت بغناء أصحابها (في منزل فخم قائم على شاطئ البحر في رأس بيروت حيث يقطن وجهاء القوم والأغنياء).(6) وهو يشبه عمه في الخصال من حب الجاه والنفوذ السياسي والقمع فيما عند غيره فهو من (أولئك الرجال الذين يطمعون دائماً إلى ما ليس لهم....).(7) وكان خالياً من المشاعر الإنسانية، فقد سعى وعمه لسلب أموال والد سلمى بزواجه منها وبعدها (نسيه وهجره بل صار يطلب حتفه توصلاً إلى ما بقى من ثروته).(8)
ومن خلال المقارنة التي أجراها جبران بين شخصية العم وابن أخيه تتضح الصورة أكثر ولعل هذه المقارنة كانت أكثر فائدة لبروز شخصية منصور.
ب - الشخصيات الأخرى
ب-1 سلمى كرامة، فتاة جميلة تعيش في مدينة بيروت وترمز إلى المرأة الشرقية آنذاك، إذ بدأت تعرف جزءاً من المدنية والرقي والتعليم، كما أنها الابنة الوحيدة لرجل ثري، وهي محبة لوالدها طائعة له فقد نشأت يتيمة الأم وهو المربي لها والصديق الذي يقف إلى جانبها، ذهبت ضحية أطماع المطران وابن أخيه فباتت امرأة تعيسة (وذات قلب لم يمهله القدر فرحة الحب الطاهر حتى صفعه بأحزانه).(9) وأمام كل ذلك لم يبق لها إلا مجاراة هذا القدر وصولاً للخلاص الروحي. وبعيداً عن بنية الوصف وأشكاله إلا أن جبران جعل وصفه لشخصية سلمى مطولاً من أجل إبراز هذه الشخصية الجوهرية في روايته، إلا أن ذلك لا يجعلها تخلو من عدم التوازن في وصفه لها، هي تارة ضعيفة مستسلمة، وأحياناً مثقفة وواعية وصاحبة رؤية في الحب والحياة. الأمر الذي يحيلنا إلى سلطة الراوي أو السارد كما سنرى بعد قليل وإلى انعكاس شخصية جبران فيها.
ب-2 فارس كرامة، أب سلمى، رقيق وذو قلب يتسم بالمحبة الوافرة لابنته الوحيدة وهو رغم غنائه وثروته إلا أنه لطيبته يصفه الكاتب من الناس (القليلين الذين يجيئون هذا العالم ويغادرونه قبل أن يلامسوا بالأذى نفس مخلوق).(10) وبالتالي فهي مثالية تتسم بالسلبية أحياناً، إذ ترك زوج ابنته يتحكم في مصيره ومصير ابنته، كما وصفه الكاتب لحظة مواته قانعاً بما حصل عليه مدة حياته، راضياً بتجربة الموت.
والملاحظ أن صورة الأب هنا كما يراها النقاد قد أخذت بعض التعديل في فكر جبران، فهو رغم ضعفه وقلة حيلته أمام المطران الأمر الذي جعل سلمى تدفع حياتها ثمناً لهذا الضغط، إلا أنه من جانب آخر قد أبعده عن صوره الحانقة للأب، والتي عادة ما يرسمها جبران في كتاباته، فهو عطوف وحنون بل صديق لابنته، وكذلك كان يحنو على الشاب ويطلب منه القدوم له ويعتبره ابنه، وربما يرجع ذلك إلى رغبة جبران الحقيقية لهذا النموذج الذي يعد مقابلاً للصورة السلبية للأب الواقعي.
ب-3 أم سلمى، مجرد امرأة في مخيلة سلمى، ثم تحولت إلى صورة أهداها فارس إلى ابنته، ليبين لنا كيف كانت زوجته حنونة وقوية، وجميلة وحكيمة، وسلمى تشبهها في ذلك.
ب-4 البطل المحب/ الراوي، شاب محب لسلمى وكان والده صديقاً لوالدها ورغم زواجها إلا أنه بقى على حبه مخلصاً وعفيفاً، ومساعداً لها في أبرز مراحل حياتها التأزمية، فكان شاهد للحدث، وراوياً له ومشاركاً فيه.
وللمعرفة التاريخية المسبقة بواقعية الحدث وتماثله مع حياة الكاتب، يصبح جبران ككاتب متماهٍ في شخصية المحب/ الراوي. وعلى هذه المعرفة يكون إطار التفسير الشكلي لبنية السردية داخل القصة.



2 - المكان في الرواية
(إننا ننسى غالباً أن هناك تأثيراً متبادلاً بين الشخصية والمكان الذي تقيم فيه، وأن الفضاء الروائي يمكنه أن يكشف لنا عن الحياة اللاشعورية التي تعيشها الشخصية، وأن لا شيء في البيت يمكنه أن يكون ذا دلالة من دون ربطه بالإنسان الذي يعيش فيه)(11) ولا يتم هذا التأثير بين الشخصية والمكان فقط بوصف جزئيات المكان العينية فقط، بل هو يمثل بفضائيته الواسعة بعضاً من جوانب الشخصية، وانسجامها واتساقها مع ذاتية المكان وهذا ما لا يمكن أن يحققه المظهر الداخلي للمكان فقط. فهو يمثل لدى النقاد المعاصرين نقطةً ينقطع معها الزمن الروائي ويتوقف. لارتباطها بعملية الوصف السردي داخل القصة. على أن ذلك لا ينفي ما لهذا الوصف الجزئي من أهمية في إبراز العينة البشرية التي ستسكن فيه ومدى اهتمامها بهذه الجزئيات، بمعنى أن أهميته فقط إذا أعطيت له وظيفة دلالية وإيقاعية في سردية الحدث ونموه.
ولقد برز المكان في هذا الفصل ضمن صورتين هما:
بيت منصور غالب(زوج سلمى) وقد وصفه (...فسكناً معاً في منزل فخم قائم على شاطئ في رأس بيروت حيث يقطن وجهاء القوم والأغنياء). هذا الوصف على عمومه يوحي الإطلاق للمخيلة بنمط الثراء الذي كان للزوج، وببعده عن الناس فهو في منطقة لا يسكنها الناس البسطاء، وبالتالي فهي للصفوة من الإقطاعيين. ولك أن تتمثل شكل الشاطئ الذي سكانه من الأغنياء، كما أن وصفه للبيت بالفخامة يرجعنا إلى وصفه السابق بأن الصبايا يصبحن في بيت أزواجهن كالسلع أو نظير الأمتعته العتيقة.
ولعلّ ذلك ما يؤكد وصفه لحياة العروس وكيف أصبحت في هذا المكان الفخم (...هي مثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج) وإذن هي رمال ناعمة هادئة لا تستطيع أن تترك بصمة خلفها وبالتالي هو الهدوء والموت، أي أن هذا المكان مؤداه الموت حيث لا حياة حقيقية بينه وبين أفراده.
وأمام وصفه لبيت الزوج يقابله بوصف إلى بيت سلمى (فارس كرامة) بعد فراق سلمى له (بقى فارس كرامة وحده في ذلك البيت المنفرد بين الحدائق والبساتين)، ونحن نعرف مدى ثراء الأب، ورغم أنه يعاني الفرقة لكن موقع البيت يمثل الحنو والبهجة وحميمية العلاقة بين الراوي/ المحب وبين بيت فارس. تلك الحميمية التي نلاحظ وهجها يشع أكبر حينما يعود الراوي/ المحب ليصف لحظة ذهابه إلى بيت فارس لعيادته في مرضه (وذهبت لعيادته ماشياً على ممر منفرد بين أشجار الزيتون المتلمعة أوراقها الرصاصية بقطرات المطر)، فالحياة تبث في البيت من خلال موقعه أولاً، ومن خلال سكنّه بالذكريات الجميلة التي كان الحبيبان بطلها.
وعلى عكس عادة الكتاب آنذاك في الإطالة للوصف كان يتصف الكاتب باختزاله لسرد الجزئيات المكانية، حتى أنه لا يقف وهو يصف داخل البيت غرفة فارس إلا حينما وصف سلمى أمام فراش أبيها، وفكرة للمساند وموضع صورة الأم وكذلك وصفه لغرفة سلمى.
وهنا نرى أنه يغيب المكان ليعطي الجوهرية والبطولة للشخصية ذاتها ولتبقى أمامنا فقط اللحظة الراهنة، لحظة الموت والنزاع وتلك العلاقة بين سلمى وأبيها، ولهذا أغفل صورة المكان ليقع في حدس الصورة الشعرية حيث التركيز والاختزال على الأهم برأي الشاعر.



3- الزمن الجبراني
تتصدر بديهيات التقسيم الزمني لدى النقاد إلى:
الزمن الخارجي: وهو زمن القصة ويفترض فيه التتابع، والزمن الداخلي: (وهو زمن السرد وهذا يصح له عدم التتابع والبدء بالنقطة الزمنية التي يريدها أو يراها الكاتب).(12) ولقد حمل الزمن هنا صفة العموم قاطعاً بذلك ما سبقه من سرد في بنية الحكاية والحدث وبين ما يتقدم، فيبدأ بـ (أيامنا)، ثم يضع المقابلة بين الحاضر بـ (امرأة المدنية الحاضرة)، والأمس بـ(المرأة حينها)، مبرزاً ما تحتويه مفردة (أيامنا) من تداخل زمني يستدعي معها الماضي. وبالتالي فسوف نلمح حضور الماضي في الحاضر كحركة داخلية للنص بشكل عام وللوصف الذي استغرق ما يقارب الثلاث صفحات الأولى اللهم إلا من وميض بسيط للحدث وذلك حينما يصف زواج سلمى من منصور وسكنهما يرجع ويعبِّر عن حركة الزمن بمبدأ القطع الزمني، وقد استخدمه الكاتب ليتجاوز الزمن الحقيقي للقصة ويختصره (ومضت أيام العرس وانقضت ليالي الأفراح.....)، وقوله (ذهب الربيع وتلاه الصيف وحاء الخريف) فهذه أزمنة مجردة تذهب تجاه حركة المطلق التي مؤداها السكون أي الموت. مجسداً العنوان وبنية الحدث، ومستعيضاً بها عن سرد القص أو الحدث والتي ستلاحظ الخلل التركيبي فيها بعد ذلك، فالوصف السابق لمرور أيام الحياة إنما أراد أن يعبِّر عن ملازمة الحب له ومصاحبة حب سلمى لجميع أطوار حياته.
وبالتالي يتحول الزمن لدى الكاتب إلى زمن رمزي وليس آنياً يعبِّر عن فترة بذاتها خاصة تلك التحولات الزمنية المتعلقة بلحظة الموت داخل هذا الفصل. إذ تحول من لحظة زمنية تعبر عن نهاية مراحل الحياة إلى عالم الكينونة الأبدي ذلك ضمن تعبير فارس لها بـ(ها قد ذهب الليل ..... وجاء الصباح....الخ).
كذلك نرى هذه الرمزية في تحول زمن المحب من حالة الضياع (تنتابني الأيام والليالي مثلما تنتاب النسور والعقبان لحمان الفريسة) إلى هواية ولحظة ممارسة القراءة والمعرفة فتكاد تستقر اللحظة الزمنية لتتحول إلى لحظة مكانية بحتة.


4- البنية الدلالية
لقد سلمت الكلمات لجبران زمامها بشكل سلس، فأخذ ينزاح بها عن دلالتها المعهودة قاموسياً ليولد من خلالها نبضه الشعري، والفكري من خلال صوره وتعابيره اللغوية الأخرى.
وما من شك أن الكثير من النقاد أدركوا ما للغة جبران من حضور دلالي مميز، والتي تمتطي حقولاً دلالية مختلفة اقتبستها من الطبيعة أو الحقول المادية، ليوصف بها عالماً روحياً، أو ينزع بها إلى الاتجاه العاطفي الجواني للنفس البشرية. يتجلى ذلك واضحاً في صوره واستعاراته وبالتالي يستخدم النقيض المرفوض لديه وهو العالم المادي ليعبِّر به عن مثاليته ونزعته الروحية، فنراه يعبِّر عن الواقع الاجتماعي الذي يعوق رقي المرأة وتطورها بمكامن اللصوص وكهوف الذئاب ليبرز تربص هذا الواقع الطاغي بالمرأة. كما يصفها بـ(نظير زهرة اختطفها تيار النهر) وأيضاً وصفه لبهرجة الأعراس حيث تمثل خدعة الحياة لديه.
كما يتجلى في مقارنته بين الشعوب الضعيفة ومستغليها بالذئاب والقطعان، في وصفه للمرأة بالشعاع، والأمة بالسراج، والنفس الكئيبة بالغزال الجريح، ثم للصبية بالزنبقة. أضف إلى ذلك وصفه الممتد لمعنى الأمومة في (كل شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة، فالشمس هي أم هذه الأرض (...) وأم كل شيء في الكيان هي الروح الكلية).
لقد استطاع جبران أن يجعل عوالم الصور الحسية المادية مرادفة لنزعته العاطفية والوجدانية. كذلك اقتبس جبران أضف إلى ذلك أخذ صوره من المفردات الدينية, وخاصة تلك التي تجسِّد لحظة التجلي/ الموت بكل معطياته داخل القصة، على سبيل المثال لا الحصر (العناء البطيء/ الارتقاء الروحي/ ضعف الجسد بقوة النفس/ كآبة عمياء/ أنة الحنين أصبحت صلاة عميقة/ الطمأنينة/ السكينة/ العبادة الخرساء/ النفوس المعوجة/ ظلمة القبر/ خمرة الآلهة/ أشباح الليل/ أرواح الفضاء/ الجماجم المطروحة/ الأبدية/ راحة القبر/ روحي إلى ظل الله/ الكليات الأزلية.
كما أن وصفه لعلامات الموت على وجه فارس يعطي أصدق مثالاً على تأثر جبران الديني واستفادته من هذا المعجم الدلالي الذي نراه يتوحد أكثر مع الصورة الاستعارية، التي كثرت في هذا الفصل إلى حد يتجاوز المائة بين استعارة مفردة بسيطة، واستعارة مركبة ممتدة تحمل نبض جبران العاطفي، فالاستعارة كما يراها الداية (يأتلف في تشكيلها أفقان: الأفق النفسي وحيوية التجربة الشعورية والآخر: الحركة اللغوية الدلالية بتفاعل السياق وتركيب الجملة).(13)
نرى ذلك جلياً في الاستعارات التالية: الجبل القابض بكفيه/ يمر الدهر/ يسحقها بأقدامه/ تغمر حياة الشعوب/ أحلام تتصاعد/ أضلّنا الدهر/ يجمعنا الشتاء أمام عرش الموت/ ابتلعت المصات/ نرى الجماجم المطروحة/ أسمعتنا أشباح الليل/ احتضنها الموت/ شبعت من السنين/ أجنحة الموت الناعمة/ دعي روحي تستيقظ. هذا بالإضافة إلى الصور الاستعارية الممتدة حينما يصف معنى الأمومة أو معنى الموت.
وهذه الصور تتزامن في أطر الصور الأخرى من التشبيهات والكنايات، والتي يكاد يتسم بها أدب جبران، فالصورة التشبيهية تسود بكثرة داخل هذا الفصل متشابكة مع الصور الأخرى: (ثلاثة جمعتهم يد القضاء ثم قبضت عليهم بشدة حتى سحقتهم؛ شيخ يمثل بيتاً قديماً هدمه الطوفان، وصبية تحاكي زنبقة قطع عنقها حدّ المنجل، وفتى يشابه غرسه ضعيفة لوت قامتها الثلوج، وجميعنا مثل ألعوبة بين أصابع الدهر).
وهو في اختياره للتشبيه الواضح الأركان واستخدامه لها، يثبت غرض الوصف المباشر والصريح إلى أفكاره وفلسفته الجبرانية، خاصة تلك التي تهدف أن تبرز موقفاً أخلاقياً أو اجتماعيا لديه؛ بينما يعمد إلى الكناية في: كهوف الذئاب/ أجنحة متكسرة/ أوراق الخريف/ الطوفان/ الثلوج...الخ. حينما تعلو نفسه الشاعرة على فلسفته فينحو إلى العمق في المعنى وبث روح الرمزية للقصة، مما يحيلنا إلى القول بالاهتمام الجبراني للشكل الشعري لديه، بينما كان اهتمامه مغيباً تجاه الشكل القصصي وتقنياته.


ولا تقف البنية الدلالية الجبرانية عند الصورة ومكوناتها، بل تتعداها إلى ذلك الخصب الدلالي المتفتق من بنية المطابقة بين الجمل والكلمات، محدثاً تلك المفارقة بين الكلمات، وأثراً موسيقياً خلال ذلك ومن أمثلة ذلك قوله:
مضحكة/ مبكية
خادمة سعيدة/ سيدة تعيسة
كانت بالأمس عمياء/ فأصبحت مبصرة
نور النهار/ ظلمة الليل
جميلة/ قبيحة
ضجة/ سكينة
الحب/ الموت
الأيام/ الليالي
فتى/ كهلاً
وقد استخدمت لبيان رؤية فلسفية لدى جبران: الأولى حول المرأة وقضيتها، والثانية حول فلسفة الموت.
كما قام بعرض الأساليب الترادفية مثل: الصبر=التجلد، اليأس=الضغوط/ القيم=الألم/ السعيد=المغتبط، مما يوحي بالتنوع والخصوبة اللغوية لديه والتي عززتها التجربة والفلسفة الجبرانية.
5- إشكالية الشكل الروائي عند جبران
تبرز هذه الإشكالية وتطرح لدى الكثير من النقاد والدارسين لتجربة جبران بشكل خاص، والفنون النثرية في الآداب المهجري بشكل عام.
وقد عدَّت كتابات جبران القصصية ضمن نسق القصص الرومانسية التي (لا تخفي دلالات كتابها وإنما تبرزها وتكشفها كشفاً جزئياً أو كلياً).(14) مما يجعلها تسعى لوصف قضايا ذاتية أكثر من سعيها لتحقيق لفنية السرد، لتقع حينها بين المقالة الذاتية وما تتصف به حرية في الاسترسال، بين القصة بالإطار الفني والقصصي لها، بل إنها تصبح القصة شكلاً يسرد من خلاله آرائه ونظرته الفلسفية فقط وهذا ما يؤكده د. نعيم اليافي في كتابه، ونازك سابايار في مقدمتها للرواية، وميخائيل نعيمة(15) في مقدمته: (كان فن القصة في الأوج عند الفرنجة وجنينا عندنا أيام انبرى له جبران. ولكن الحياة ما أعدته لذلك الفن فلم يبدع فيه ولم يحلق، وأعدته لفنون أخرى فأبدع فيها وحلق، فقد كانت تسيطر عليه طبيعتان متفوقتان: طبيعة الفنان الوجداني المرهف الحس والشعور، وطبيعة المرشد والمصلح والواعظ). (16)
نرى ذلك واضحاً وجلياً في فصل (أمام عرش الموت) فتلك المقدمة الخاصة بوضع المرأة الشامية آنذاك. ثم يوقف حدث المناجاة بين سلمى ووالدها، والاستطراد حول مفهوم الأمومة كشاهد، وكان الأجدر إن أراد ذلك أن يضعه على لسان سلمى.
كما شكل ضمير المتكلم بطولة مطلقة في سياج البنية التركيبية للرواية، فهو يقدم الأحداث من زاوية نظر الراوي، فيخبر بها، ويعطيها تأويلاً يوقع القارئ به، فيتأثر به ويميل إلى التمسك به. ولم تخفَ هذه الميزة على دارسيه، إذا يقول كلود براغدون (لقد تنزلت على جبران القوى التعبيرية من معين يقيض بالحيوية الروحية ولولا هذا لما فاز بذلك الانتشار العظيم وتلك الفعالية في النفوس).(17)
وعلى الرغم من كونها ميَّزت أعماله، إلاّ أنها عكست أيضاً جانباً سلبياً على الشكل القصصي والروائي لديه. فكلف جبران بآرائه وتصويرها شعرياً قلل من مفهوم الحبكة التي توصل الحدث إلى ذروته لديه؛ فرغم تلمسه الدقيق للجانب النفسي لشخوصه، وبعده عن نمطية بنائه (خيِّرة أو شريرة) لشخوصه في القصص الأخرى، إلا أن ذلك تلاشى وحبه للتفسير والتبرير.



ثانياً: بنية المضمون
أ - بنية الحدث
يقوم السرد الحكائي داخل القصة على حكاية تقترب من ذاتية الشاعر أو حياته، فهي تمثل جزءاً من واقع عاش حوادثه جبران في مرحلة شبابه وتأثر بها، مما يعني أننا نلتصق أيضاً بحيز السيرة الذاتية، وبالتالي فهذه الحكاية والتي تروي قصة سلمى كرامة، فتاة بيروت، ابنة المستقبل التي عاشت كما يصفها جبران قبل زمانها فذهبت ضحية الزمن والحاضر.
وسلمى فتاة غنية ووحيدة لأب رؤوم يبادلها كل مشاعر الرعاية والأبوة، وهي فوق ذلك كلُّه ترتبط بابن صديق أبيها وتبادله الحب العذري الطاهر، إلا أنها تصطدم بأطماع المطران الذي يطلبها لابن أخيه منصور اللاهي العابث في الحياة، فتتزوج سلمى منه لتصبح (نظير الأمتعة القديمة في المنزل). وينصرف الزوج إلى اللهو والعبث والقمار، لتبقى سلمى في تعاستها لا يسليها إلا ذلك المحب الصديق الذي لا يبقى لها غيره بعد موت والدها.
غير أنها تقوم أيضاً بابعاده مخافة عليه من غضب المطران، لتبدأ في الدخول إلى معاناة الوحدة والإهمال, التي لا ينجيها منهما إلا حملها بمولودها الذي توفي لحظة ولادته، أخذاً معه روح الأم...
ورغم الحس التصويري الجبراني والذي تميز برومانسية حالمة، إلاّ أن ما تفرزه هذه القصة من ألم قلبين اتحدت عليهما قوانين الجشع والطمع الزمني والكهنوتي مما يضعها في قالب اجتماعي، على عكس ما عدّه بعض النقاد من خلو القصة من هذا الجانب؛ ذلك لأنها نابعة من حس واقعي أو سيرة ذاتية، بمعنى أنه (لا يكتب إلا ما يعرفه من الحياة، أي مما توحي به رغباته ومشاعره، فلا يصف إلا ما يمس ذاته، ولا ينقل إلا ما يؤثر تأثيراً مباشراً في نفسه (...) ومع هذا فإن قصصه لم تصدر عن ذاتية اجتماعية موضوعية وإنما صدرت عن ذاتية رومانسية صرف تعبد صاحبها في محرابها طويلاً حتى أبعده هذا التعبد عن الواقع).(18)
وهذا القول وإن جاور الحقيقة في بعضه، إلا أنه جانبها في إحدى زواياه، فالصحيح خروج تجربة جبران من خلال طرح رومانسي، إلا أن ذلك لا يعني أنه لا يحمل هاجساً قومياً أو اجتماعيا بل إننا رأينا قصور الجانب الفني في بنية القصة أو الرواية، وأرجعنا ذلك إلى بروز آرائه وأفكاره المتمردة على سطوة الواقع، والإخلاص لطرحه الاجتماعي وأفكاره التنويرية، الأمر الذي نراه يتبلور أكثر في كلامنا حول انعكاس شخصية جبران المؤلف على الفعل الروائي.
ب - انعكاس شخصية جبران على الفعل الروائي
من حيث (إن العالم الخارجي للشخصية يؤثر ويغير عالم الشخصية الداخلي... هذا التغيير يعود مرة أخرى فيؤثر ويغير جزء من العالم الخارجي، وهكذا تصبح العلاقة الجدلية ما بين واقع الإنسان الخارجي ومفهومه أو تصوره/الداخل في حركة مستمرة إلى ما لا نهاية من التأثر والتأثير).(19)
ضمن هذه المقولة كان خضوع الفعل الروائي في (الأجنحة المتكسرة) لشخصية جبران، وانعكاس فعل الكتابة عليه أيضاً، الأمر الذي أحدث بعض التجليات الواضحة في سمات
ضمن هذه المقولة كان خضوع الفعل الروائي في (الأجنحة المتكسرة) لشخصية جبران، وانعكاس فعل الكتابة عليه أيضاً، الأمر الذي أحدث بعض التجليات الواضحة في سمات
الفعل الروائي وحركته إلى الداخل عبر رؤيته للمرأة والتي تعبر عن موقفه الاجتماعي السابق أو عبر الاتجاه الوجداني لجبران وبروز مثالية الحب لديه وموقفه الغاضب من رجال الدين...
إن شخصية سلمى التي تميزت بصفات المدنية والرقي جعلتها تتصف بـ (ابنة المستقبل) مما يوحي بتقدم الرؤية التقدمية والثقافية, ثم التحرر والانعتاق من قيود التخلف، مانحة لنفسها ألقاً تتوهج فيه بمحبة الشاب/ جبران مما يتيح لها الحلم بوردية الأيام والمستقبل, ولكن ما تلبث تلك العلاقات المادية المقيتة المتمثلة في طمع المطران من جهة والضعف من قبل الأب أن تجهض الصورة التقدمية لسلمى, لتتحول سلمى بحادثة زواجها من رجل لم تحبه, وبدون رغبتها إلى رمز الأمة المظلومة, (ولكن أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجعة بين ميول نفسها وقيود جسدها هي كالأمة المعذبة بين حكامها وكهانها؟). وبهذا الربط ما بينهما يريد أن يبسط رفضه للتسلط الديني والزمني على حياة الناس والشعوب. فدعوته لتحرر المرأة من عبودية المجتمع وقيوده قد خضعت لرؤية شاملة لهذا التحرر. (فهل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال والمعرفة، والتفنن بالفضيلة، وضعف الجسد بقوة النفس؟) فهو يريدها أن تتسم بالجمال والضعف الأنثوي، بالإضافة إلى المعرفة والثقافة والأخلاق. وهو يعزو تأخر المرأة في التحرر إلى كثرة العقبات, التي تواجهها من المجتمع الزمني والكهنوتي, اللذين يفرضان وصايتهما عليها. ومن هنا يطرح قضية حرية المرأة في أن تهب نفسها وجسدها لمن تريد, لا لمن تريده رغبات الطامعين. وعليه فلديها المبرر بعد ذلك بأن تعمد إلى التوافق النفسي ولو بالخفاء.
وتفرض شخصية سلمى تساؤلاً عن تلك السلبية التي برزت في مخيلتها تخلي سلمى عن حبها والتمسك به والرضى بزوج لا تشعر تجاهه بأية عاطفة، ثم بعد ذلك إصرارها على العودة للحبيب ومقابلته، ثم الابتعاد عنه، ومحاولة التكيف مع واقعها من أجل قضية الإنجاب.
والأمر ذاته نراه في شخصية البطل الذي مال إلى رغبة سلمى واستسلم إلى مثالية صوفية تسعى إلى ذوبان المحبوب في حبيبه, دون السعي إلى المباشرة الحسية في الحب حتى ولو باللقاء وهذا ما يؤكده في كذا توجه (محبتي لسلمى تتدرج من شغفي في صباح العمر بامرأة حسناء إلى نوع من تلك العبادة الخرساء) أو (إلى كآبة عمياء)، تتحول هذه المثالية في التفاني في ذات المحبوب إلى الدعاء له ولمن تسبب في شقائهما (الزوج), بالسعادة والطمأنينة ثم تنحو النفس إلى العزلة والدموع, لتنقي النفس بالألم الذي يعرِّف المحب جوهر الحياة وحقيقته, وذلك بالالتجاء إلى الغاب والطبيعة العذراء, التي تمثل طهارة النفس الأولى والبعد عن الضجة والمدنية, التي تمثل النفس بعد المعرفة والحضارة وما أدخلته هذه المعرفة من ألم نفسي وأخلاقي.
كما يبلغ جوهر الحياة عند المحب بالعطاء والإحسان، فها هو يذهب لزيارة فارس بعد اعتلال صحته, وليواسي من أحبها حباً نقياً طاهراً (خمرة الآلهة)؛ لتبدأ مرحلة جديدة في الحب، هي مرحلة الصداقة والنصح. فها هو يدعوها إلى (تعالي ننتصب كالأبراج أمام الزوبعة هلمي نقف كالجنود أمام الأعداء...) ليقف بناءه وعبر هذه الكلمات أمام هذا التحول ليبث لنا معنى طهارة الألم الذي يطلب من سلمى أن تصمد وتتحمله. خالقاً منه نزعة مثالية للحياة (فالفراشة التي تظل مرفرفة حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي يعيش براحة وسلامة في نفقه المظلم....).
وبالتالي نرى أن بلوغ الأمل في الحياة هو تذوق النفس لمعنى الألم, حتى تستطيع مجابهة هذه الحياة, والترنم بأنشودة النصر والاستظهار. ولم يخلق جبران هذه المثالية, إلا لتعكس رغبته المحمومة في إثبات أثر الحب العذري أو الطاهر في نفس الرجل, وما تحدثه من تفاني في ذات المحبوبة. الأمر الذي يتيح للصداقة, والتراحم بينهما ما يؤسس حياة اجتماعية مستمرة. وبذلك فهو يطرح بصورة الشاب/ جبران في القصة الوجه المغاير لصورة الزوج (منصور) السلبية الملامح والاتجاه, وتلك الصورة هي الصورة المثالية للزواج المقدس, والذي تربطه الآلهة بين قلبين وجسدين متحدين فيما بينهما.



ومن هنا نراه يبث مفاهيمه حول الزواج, ومعاني الزوج وصفاته بطريقة تقابلية ضدية، حيث أن بنية الحكاية لم تفسح له مجالاً لعرض تلك الصفات في صورة الزوج, فحولها إلى صورة المحب. ولهذا فنحن لا نرى لهذا المحب أية هفوة أو خطأ، بل اتجاه إيجابي يصل به إلى أقصى مراحل الصوفية وإنكار الذات.. (فكانا مثل قوتين متصارعتين يفني بعضهما بعضاً في السكينة. والد دنف يذوب ضنى لتعاسة ابنته، وابنة محبة تذبل متوجعة بعلة والدها. نفس راحلة ونفس يائسة تتعانقان أمام الحب والموت، وأنا بينهما أتحمل ما بي. وأقاسي ما بهما.....)، وهو في حوار آخر على لسان سلمى يصرح بمفهوم الصداقة بينهما (ليس لي غير هذا الصديق يا والدي ولن يبقى لي سواه إذا تركتني) والذي يتحول إلى مفهوم (هو رفيق لنفسي) وأيضاً إلى معنى الأخوة (هو أخ أحبه ويحبني). وبالتالي فهو يحول هذا الحب إلى حب عائلي, خاصة بعد أن وصاه فارس بحفظ سلمى ودوام صداقته لها؛ غير أنه مازال يتصف بصفات الألم والحزن (قلب كسير), و(أجنحة مكسورة), و(لويت ظهره وسملت عينيه).
ويبدأ جبران مرحلة من الضياع إذ يتجدد البعد بينهما, ويصبح طريدة بين الليالي والأيام, أو بين الهواجس والأحلام. وبالتالي يتماثل زمن المحب بين حاضره الخارجي المر, وماضيه الداخلي الجميل. ليبدأ مرحلة النسيان بالمعرفة. ونرى أن الألم من ثماره المعرفة والتزود بثقافات الأمم الأخرى (وكم جربت أن أنسى حاضري لأعود بقراءة الأسفار إلى مسارح الأجيال الغابرة).
وهنا يمتزج الألم بالحب ويوجه المعرفة المطلوبة (لم أكن أرى من مواكب الأجيال سوى أشباحها السوداء). بمعنى حب الألم والصبر عليه والتداوي (بالتي كانت هي الداء)، فهو يهرب من ألمه إلى ألم الآخرين, ومعاناتهم, ليزيد النفس صبراً على الألم وخلاصاً لها من عبودية النفس. وتحرراً لها من الشهوة، وسمواً لها في الحب. وبالتالي فإن التلذذ بمآسي الآخرين، يمدنا إلى نزعة جبران الدينية والتي تقربه من اليسوع الذي يمثل رمز تحمل الألم والصبر عليه. وأيضاً نزعة التصوف، فهو يرى في (سفر أيوب كان عندي أجمل من مزامير داود، ومراثي أرميا كانت أحب لدي من نشيد سليمان، ونكبة البرامكة أشد وقعاً في نفسي من عظمة العباسيين، وقصيدة ابن زريق أكثر تأثيراً من رباعيات الخيام، ورؤية هملت أقرب إلى من كل ما كتبه الإفرنج).
والمتأمل في حياة جبران يرى أن مثالية الحب لديه ترجع في نواتها الأولى إلى النظرة القدسية, التي ولدتها صورة الأمومة لديه وإذا كنا نرى الصفات السلبية واضحة عند الرجل، إلا أننا نراها خاصة في هذه القصة الاتجاه الإيجابي للمرأة التي تتمثل في شخصية سلمى الشكل الإيجابي الظاهر للمرأة. وصورة الأم المغيَّبة ولكنها تتسم بتفعيل المثالية والإيجابية، بل إنها تأتي لتمثل دور الزوجة المخلصة المحبة والصادقة لزوجها، وتؤدي دورها المطلوب منها دون وجل أو خوف, ثم هي تظهر من خلال رسم صورة من الماضي الجميل، فإذا هي ملاك قادم في ذكرى زوج وفيّ ومحب، وهو في طور استعداده للرحيل. وعليه نرى تمثل جبران لهذه الصورة النقية في الحب في عناصر الطبيعة (كل شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة، فالشمس هي أم هذه الأرض ترضعها حرارتها وتحتضنها بنورها ولا تغادرها عند المساء إلا بعد أن تنومها على نغمة أمواج البحر وترنيمة العصافير والسواقي، وهذه الأرض هي أم للأشجار والأزهار تلدها وترضعها ثم تقطفها. والأشجار والأزهار تصير بدورها أمهات حنونات للأثمار الشهية والبذور الحية) وإذا بها تتحول وتتسامى نحو الكلية والمعرفية للكون وتصبح الأمومة بمعناها الشمولي (وأم كل شيء في الكيان هي الروح الكلية الأزلية الأبدية المملوءة بالجمال والمحبة).
ولعل الدارس لسيرة جبران الذاتية وتصريحاته الخاصة بذلك يعلم ما تشكله كلمة (الأم)، أو (الأخت)، أو (الصديقة)، أو (الحبيبة) في حياة جبران من أهمية, بل ومن امتداد لجبران المبدع فإذا ما خرجنا عن تعلقه بأمه, وحبه الشديد لها، ورأينا علاقاته بالأخريات وهذا الاتفاق على هدوئه العاطفي نسبياً تجاهها، والذي يوفره كطاقة على حد تعبيره للإبداع والفن، فهو يقول لماري هاسكل كل (إن الهيجان عنده يعني مرضاً لمدة شهر، بالإضافة إلى ثمن باهظ يدفعه من نفاذ طاقته لأيام عديدة).(20) وهو في فصل (باب الهيكل) من القصة ذاتها نراه يعبر عن التجاذب الروحي والجمالي بين المرأة والرجل (عرفت أن للجمال لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر وتجعلها سكوتاً أبدياً (...) الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفس وتنير خارج الجسد مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لوناً وعطراً، هو تفاهم كلي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفع عن جميع الميول).
وبالتالي نرى هذا الترفع عن الميل الجسدي للمرأة والتناهي لجعل الحب عذرياً خالصاً للحب ولجماله. وهذا التعفف إنما يرجع إلى فكرة تقديس المرأة في صورة الأم، عبر تجلياتها المختلفة في صور المرأة عند جبران إلى الحد الذي يجعل الحب مخلوطاً بالموت، وإن طريق الوصل هو طريق الموت.



الخاتمة

في خاتمة هذه القراءة للاتجاه السردي والفكري لجبران في قصته مع ما استشفّ لدينا من ميول فكرية واجتماعية لديه, تبرز وتتجلى عبر مقولاته وشخصياته. مما أدى به إلى عدم عناية كافية بالشكل السردي للقصة, أو الاهتمام بها من منظور بنية درامية محكمة. كذلك تأثره الديني والفلسفي، والذي يقودنا إلى فكرة الانعتاق من الحياة المادية في الحياة, ووصولاً إلى مرحلة الخلاص الروحي. وقد ذكرنا سابقاً أن الحب لديه يصل في مرحلة ما إلى درجة الفناء والتفاني للمحبوب. وبالتالي فهو هجر الروح للجسد بشكل نفسي وانعتاقها لكل متطلبات هذا الجسد وميوله، تلك هي خلاصة موقف الرومانسيين من الحياة (والرؤية المأساوية للحياة واعتبار الموت هو المخلص من الواقع (الكابوس) والسجن الخانق. فالموت وسيلتهم الوحيدة للعثور على الجديد وما هو هذا الجديد؟ هو شيء غير محدد هو الضد الأجوف الفارغ للواقع الموحش وعلى قمة هذه المثالية يتربع الموت المملوء بالعدم والفراغ).(1)
ولعلنا لا نخطأ إن جعلنا بطل هذا الفصل هو الموت بتوجهاته المختلفة، التي أبرزتها الرؤية الفلسفية السابقة، ثم تصدرها عنوان الفصل (أمام عرش الموت) فلو فصلنا الكلمة (عرش) لوجدنا أن شحنتها الدرامية إيجابية بينما الشحنة الضدية تكون للموت:
عرش الهيبة = الوقار = الأمن والطمأنينة = سلطة فوقية (+)
الموت الخوف = الفراغ = الفزع = العدم = النهاية (-)
وتأتي المفردة الظرفية (أمام) لتسجل الكثافة الزمكانية في هذا الحدث (أمام عرش الموت) وهو تكثيف رمزي ينبض بذات شعرية ورؤية مثالية وإيجابية للموت.
والواقع أن معنى الفناء أو الموت جاء باتجاهين متضادين داخل الفصل:

1- الاتجاه الأول بمعنى العدم وعدم جدوى الحياة نتيجة سيادة واقع غير مرغوب فيه تجد ذلك وفق المفردات التالية والتي عبر فيها عن مصير المرأة بزواجها التجاري:
زوايا المنازل إهمال = تعتيم = عدم ( - )
الأمتعة القديمة
الظلمة = الفناء البطيء العدم (الموت) ( - )
كهوف الذئاب السلطوية الطاعنة = الافتراس = العدم (الموت) ( - )
(تترك الحروب جماجم القتلى في البرية) الاستهزاء بالآخرين + الإهمال + التهاون = العدم (الموت) (-)
الدهر يسحقها التمعن في التدمير والتعتيم = العدم (الموت) ( - )
ظلمة القبر الفناء السلبي = استبعاد – العدم (الموت) ( - )
آثار أقدام/ تمحوها الأمواج الهشاشة السلبية = الزيف = الخواء والعدم (الموت) (-)
وإنما تقابل هذه الألفاظ في دلالتها وشحنتها الشعورية ويستحضر موقف جبران تجاه قضية المرأة الشرقية، ومسألة تحررها من التسلط الاجتماعي والديني.
ودلالة الموت هنا تنبثق من الظلم وعيشة القهر في الحياة، وإنما يتأتى أيضاً من كون الموت الفيسيولوجي ينهي حياة المرء وهي تملأ بالعذاب والحرمان فالخواء يصبح في الحالتين واحداً.
2- وأمام هذا الاتجاه ينبثق اتجاه آخر هو في رؤية الشاعر للموت شفاءً وخلاصاً من العذاب، والألم مطَّهر للنفس وموصِّل لها لسبيل الخلاص حيث أن الموت طريق لخلود الروح وانبثاقها في عالم المثالي إذ العدالة، والحب، والخلود الأبدي، وهذا ما عبر عنه من خلال بطلته سلمى، وأبيها فارس كرامة.
إنَّ جبران إذ يقرر أن (تعاسة سلمى كانت علِّة في داخل النفس لا يشفيها سوى الموت). وهو في أول حديثه في الفصل ليوجه حركة الدائرة إلى أوج اتصالها بالنهاية/ الخلاص.
وكما يتصفح لنا وجه فارس الذي لا يظهر إلاّ بملامح الموت المكشر عن أنيابه في هذا الجسد، وهنا نراه يصف مقدم الموت في ملامح فارس المتغيرة بسلاسة جميلة وشاعرية ذات نزعة تشاؤمية محببة إلى قلب جبران؛ تعمقها مقولته في وصف سلمى وأبيها (نفس راحلة ونفس يائسة تتعانقان أمام الحب والموت). وهو يبرر موت فارس في خطابية شاعرية تبرز هذا المفهوم المتوج لأفكار جبران التأملية (..والآن قد صرت شيخاً طاعناً وراحة الشيوخ بين أجنحة الموت الناعمة) فترى هذه الاستعارة الحالمة للموت مفادها نزعة جبران في عتق الروح من الحياة الزمنية المريرة (فإن أسرعت بي الساعات إلى الأبدية فلأنها علمت أن روحي اشتاقت إلى لقاء أمك...).
ونحن نرى كيف هو إصرار فارس في الخلاص والذهاب بهدوء ينم عن بصيرة لما وراء الغيوم حيث الشفافية والطهر والطيران بأجنحة تحاول كسر كل قيود وأصفاد الحياة والجسد لتلج بالروح إلى مرساها.
ولنرى هذه الفرجة في فسحة الأمل نحو الانعتاق والخلاص عند فارس (ها قد طابت...).
بل نرى قناعة الرحيل والإصرار عليه من خلال وصايا فارس لابنته وحبيبها، إذ أن الحزن والدموع لا تمكِّن المادة الترابية للروح من العودة للطبيعة الأم واحتضانها له واستعادتها منه لتمثل عشباً أخضراً, أو زنبقة جميلة, وكأنما الروح تتقمص عناصر الحياة بشكل أو بآخر.
بل يدعوها للابتهاج والفرح من أجل خلاصه، ويربي بهذه الروح أن تمنعها صلاة كاهن, أو علاج طبيب من إكمال رحلتها الأبدية نحو عاطفة أسمى, وهي عاطفة الأم/ الطبيعة, واحتضانها لتلك العناصر (مات فارس كرامة وعانقت الأبدية روحه واسترجع التراب جسده).
ومما لا شك فيه أن بذر نبتة التقمص في القصة واضحاً من خلال حديثنا السابق.
وإذا كان الموت يشكل خلاصاً للروح وانعتاقاً لها؛ فهذا أيضاً ما يثيره الألم في النفس، فهو يطهرها وينقيها ويجعل من الألم مثالاً للطهر وللتخلص من أوجاع الحياة والظلم. ولهذا فالكاتب يدعو بطلته أن تواجه الألم, وتتحمل قسوة الحياة بإصرار وعزيمة, لترجعنا إلى الاتجاه الديني والفلسفي لمسألة الألم. وكونه محطة من محطات الأبدية للإنسان (تعالي يا سلمى... نيسان).
بل إنه يجعل من الإنسان الذي لا يشعر بالألم لن يشعر بجسده وارتقائه، ولهذا نرى في الكاتب إصراراً على سلك طريق الألم والتلذذ بالبكاء والنواح والحزن (فسفر أيوب كان عندي... الفرنج).
ومن هنا نرى أن الموت والألم طريقان للنفس نحو الأبدية والطهر عند جبران مستكملاً بذلك دائرية المعنى الذي بدأ في بداية هذا الفصل منذ عنوانه (أمام عرش الموت).




المرأة والحبّ في أدب جبران خليل جبران/ريم أبو ريش
-----------------------------------------------------


واجه جبران خليل جبران (1883 - 1931)عصره، فتعارفا وكان صراع، سافر شاعرًا في أبعاد العصر ليبلور الحكمة الكامنة، علّه يدفع بالإنسان نحو ذاته الفضلى.

منذ أوّل مقال نشره بعنوان رؤيا، ومنذ أوّل معرض للوحاته (1904) حتّى اليوم، تتشاسع مدارات انتشار إنتاج جبران، فيزداد عدد ترجمات مؤلّفه النّبيّ، ليتجاوز الثّماني والعشرين لغة، وتقف العواصم الحضاريّة بإجلال أمام أعماله التشكيليّة، التي يقتنيها عدد من أهمّ متاحف العالم.
وتكثّف حضور جبران؛ الشاعر، والحكيم وخلاّق الصّور، كما كان يسمّي نفسه، ويتفرّد نتاجه بمخيلة نادرة، وبإحساس خلاّق مرهف، وبتركيب بسيط، وبهذه الخصائص تبلور في لغته العربيّة - كما في الإنجليزيّة- فجْر ما سيُدعى - فيما بعد- القصيدة النثريّة أو الشّعر الحديث.
إنّه حقًّا لشرف عظيم أن نبحر في محيط أدب وروائع جبران خليل جبران، لنتعمّق
في تلك الفلسفة العميقة.
ناجتْ كلماتُه الوجدان، وحاكت تعابيرُه العواطفَ والأحاسيس، وخاطبتْ مخيلته العقول والقلوب، وصرختْ كتاباته داخل جدار الخواطر والمشاعر الجيّاشة، وأبكتْ صورُه الأفئدة العطشى إلى بلوغ نشوة الإحساس، وأسكرتْ لوحاته النفوس التوّاقة إلى فكّ قيود الواقع والإبحار في بحر الخيال والجَمال، وعبَرتْ إبداعاته المحيطات والبحار على متن سفينة الخلود، ورَستْ على شواطئ العالم كافّة، كما أنّها حلّقتْ في كلّ الأجواء بأجنحة السّلام والمحبّة، وأيقظتْ معانيه ضمائر الأثرياء والحُكّام، حيث أقامتهم من قبورهم المدفونة تحت ظلام الليل الحالك وظلم الشرّ الماكر، وسامرتْ روحُه الإنسان من كلّ جنس ولون ومكانة اجتماعيّة ودين وطائفة.
هذا هو جبران خليل جبران، أديب ورسّام وفيلسوف لبنانيّ، من أعظم الكتّاب المعاصرين. شهد له العالم، ووقفت له الشعوب تقديرًا، لنبع عطائه الذي به أروى ظمأ الأجيال وما يزال.
صحيح أن معظم كتب جبران وُضعت بالإنكليزيّة، وهذا ما ساعد كثيرًا على انتشارها، ولكن جبران كتب ورسم و"فلسف" الأمور بروح مشرقيّة أصيلة لا غبار عليها، سوى غبار المزج بين ثقافات متعدّدة، وعجنها ثمّ رقّها وخبزها على نار الطموح إلى مجتمع أفضل وحياة أرقى، وعلاقات بين البشر تسودها السّعادة المطلقة التي لم يتمتع بها جبران نفسه. وكأنّ قدَرَ كلّ عظماء العالم من فلاسفة ومفكّرين أن يُعانوا الآلام النفسيّة والجسديّة، في سبيل بلوغ الغاية القصوى واكتشاف أسرار الحياة والمعرفة.


لمحة عن حياة جبران
--------------------

1. من بشرِّي لبنان (1883 - 1895)، حيث وُلد وتفتح وجدانه وخياله.
2. انتقل إلى بوسطن (1895 - 1898) التي كانت تشهد -آنذاك- نهضة فكريّة.
3. عاد إلى بيروت (1898 - 1902) ليعيش نكبات شرقه وتخلّفه، بينما كان يستزيد من تعلم العربيّة في بلاده.
4. إلى بوسطن ثانية (1902 - 1908)، ليعيش تجربة موت حصد أسرته 1902 – 1904.
5. إلى باريس (1908 - 1910) ليسبر عمق التحوّل الثقافيّ والفنيّ الذي كانت تشهده.
6. إلى نيويورك (1911 - 1913)، حيث يدرك معنى المدينة الحديثة في أوسع مفاهيمها.
7. وسط (العالم الجديد) يناديه التاريخ في الحواضر العريقة، فيسيح في مصر وفلسطين وسوريا (1903)، وتجذبه روما ولندن، فيقرأ فيهما نموّ الوعي الخلاّق في رحم التاريخ.
8. تقدّم الحرب العالميّة الأولى لجبران أغزر وأغنى مادّة للتأمّل الجذريّ في طبيعة القوّة، وماهيّة الضّعف في النّفس البشريّة، وينتهي إلى اكتشاف مكنون إنسانيّ أعمق وأبعد من ظواهر القوّة والضعف، هو قدرة الإنسان الرّوحيّة اللامتناهية، التي رأى التوصّل إليها ممكنًا عبْر الحوار الباطنيّ مع النفس ومع الإنسانيّة.
9. كان ذلك الحوار هو طريق جبران إلى التجربة الصّوفيّة، وكان أيضًا مصدر تحوّله من الرّومانسيّ إلى رافض الحَرْفية والأنظمة الفكريّة والفلسفيّة، ليركن إلى شاعريّة الحكمة.



علاقة جبران خليل جبران بالطبيعة
---------------------------------

وطد جبران علاقته مع الطبيعة منذ طفولته، وﻻ شكّ أنّ طبيعة القرية التي وُلد فيها كان لها الدّوْر الكبير في جذبه إليها، فهي قرية جبليّة تشرف على الوديان؛ هواؤها عليل يميل إلى البرودة، تحيطها أشجار الأرز، يميل أهلها إلى الطّرب واللّهو، وكما يقول نعيمة: "جبران منذ طفولته ذو عين تتبع الجمال، وأذن مرهفة للشّدو، فكان أن انسجم مع الطبيعة وتناغم معها".
لم يُقم جبران أكثر من اثني عشر عامًا في ظلال هذه القري، وإذا كانت الأرض التي ولد فيها، وبالتحديد بلدته بشري الشّماليّة القريبة من غابات الأرز في لبنان، قد جعلت الفتى الصّغير يتعلق بجماليّات طبيعتها، فهي أيضًا علّمته الثورة والعصيان والتّوق إلى الحرّيّة في خضمّ الأحداث التي شهدتها في الحقبة الزمنيّة التي ولد فيها جبران تمامًا، كالتي عاشها الوطن في كلّ جهاته من فقر وحروب وصراعات داخليّة واحتلالات، نمّتْ لديه روحَ التمرّد وحبّ التغيير.
الطبيعة في أدب جبران
للبيئة حضور واضح وكثيف في أدب جبران خليل جبران، ولا يقتصر حضور البيئة وعناصرها لديه على استعمالها في صياغة أفكاره و عرضها، كما هو الحال عند معظم الأدباء والشعراء الآخرين، ولكنه يتجاوز ذلك إلى اعتبار الطبيعة أو الأرض كائنًا مقدّسًا، واعتبار عناصرها من جبال وبحار وأنهار وأشجار وأزهار وحيوانات وغيرها كائنات مقدّسة، تربطها بالكاتب الشاعر جبران علائق المحبة والاحترام والتقديس ووحدة المنشأ والمصير.
ولعلّ طبيعة جبران الشّاعريّة الفنانة أسهمت في رؤيته، فجبران فنان قبل كلّ شيء، رسّام وشاعر وقاصّ، تؤثر الموسيقى في روحه، تحمله العواطف ليكون البحث عن عالم مليء بالعدالة والمساواة كلَّ عالمِه، لتظلّ روحه متوهّجة بسحر الفن وجماله، وفي "حديقة النبي" أضحى جبران بعُمق نظرته لتجاربه الكثيرة مُعلّمًا، وفيلسوفاً في علاقة الإنسان بالطبيعة، مستعيرًا أسلوب القدامى بروحهم الشرقيّة، مستندًا إلى عوامل التطوّر التاريخيّ في التعبير والتّصوير.
فالحديقة بمساحاتها الخضراء الرّحبة لعبت دورًا في عقائد البشر وخيالاتهم، من هنا توحّد جبران خليل جبران بالطبيعة التي يستمدّ منها الحكمة، وهي المعلم الأساسي له. معظم الناس فهموا جبران على أنه ذلك الرّومانسيّ الحالم الرقيق، ولم يدُرْ بخلد أحد أنّ هذا الشاعر الرّسّام الهائم بالطبيعة والجّمال حتى الجنون، يمكن أن ينفض ويفسد عالمه السّاحر الهادئ هذا بقعقعة الثورة وعنفها، ولم يتصوّر أحد أنّ هذا الفيلسوف الذي سار على طريق التصوّف، يمكن أن يلتفت للواقع المادّيّ المحسوس، وأن يتصدّى بقوّة وشراسة لعيوبه وأمراضه.
يربط جبران ما بين الجّمال البشريّ وجَمال الطبيعة فتقول الحوريّة:
"أنا رمز الطبيعة، أنا العذراء التي عبدها آباؤك، إنّ ألوهيّتي مستمدّة من جَمالٍ تراه كيفما حوّلتَ عينيك، جمالٌ هو الطبيعة بأسرها، جمالٌ كان بدء سعادة الراعي بين الرّبى، والقرويّ بين الحقول، والعشائر الرّحّل بين الجبل والسّاحل، جمال كان للحكيم مرقاة إلى عرش حقيقة لا تجرح".
الطبيعة التي رأى فيها جبران الأم الكبرى هي:
"متحد قائم بحدّ ذاته متآلف الأجزاء، للبحر روح، و للشمس قلب، وللنرجس دموع، وللطير حنين. الطبيعة رمز الخير والصفاء و البراءة والجمال والحرّية والكمال، كلّما ابتعد المرء عنها فقد من أصالته، وضيّع بذورَهُ فمزقّه الحرمان".
إنّ شغف جبران بالطبيعة حتى الانهيار، فالأنخطاف الرّوحي انتهى به إلى الحلوليّة، أي التماهي الجوهري بين الله والكون، فمظاهر الطبيعة في تعدّدها لا تعني في نظره التجزّؤ، بل التكامل العضويّ المنظّم المتسامي، الذي ينتهي إلى الذروة، إلى الله.
انظر إلى المجموعة الكاملة لجبران خليل جبران- العربية ( الطبيعة و الحلولية) ص 55


إيمان جبران خليل جبران بالمرأة
--------------------------------------


آمن جبران إلى أبعد الحدود بدور المرأة العميق في حياة الرّجل مهما كان موقعها من هذا الرّجل، وإذا كانت المرأة قد أخرجت الرّجل من الفردوس السّماويّ، فهي قادرة أن تصنع له من هذه الأرض فردوسًا بديعًا، عندما يُقدّرها حق قدْرها ويتخلى عن نظراته الدّونيّة لها، ويُقلع عن الآراء الخاطئة التي قيلت فيها، وينظر إليها كشريك رائع له في مسيرة الحياة .‏ وإذا كانت هذه نظرة جبران للمرأة، فهل يمكن إلاّ أن يكون مدافعًا عنيدًا عنها، متبنّيا لقضاياها، مُشهرًا سيف لسانه على مُضطهِديها حتى أنه أغضب الكثير من المحافظين، وهو المسيحيّ أباح للمرأة حق الطلاق عندما تصبح حياتها الزّوجيّة متعذّرة، وقد أحدثت آراء جبران هذه وكتاباته هزة عنيفة في الكثير من الأسَر، فأقدَمتْ زوجات بالفعل على مغادرة السّجن الزوجيّ البغيض، وكان جبران يرى في محنة المرأة وتعاستها رمزًا وتجسيدًا لمحنة الأمّة وجهلِها.‏

آمن جبران بأن قلب المرأة لا يمكن شراؤه بذهب الدّنيا كلّه، وأنّ هذا القلب يُعطى مجّانا لمن يشتريه بالحبّ، ولهذا فقد أنكر كلَّ زواج لا يُبنى على الحبّ، فعندها ستكون نتيجته تعاسة مشتركة لكلا الزوجين، ويُعظم جبران من شأن الحبّ في العلاقة بين الرّجل والمرأة، حتى أنّ كلّ أمجاد الرّجل الأخرى التي يعتز بها يجعلها صغيرة في عين المرأة أمام روعة الحبّ، وجبران يتألم من هذا المجتمع الذكوريّ، الذي يمنح الرّجل كلّ شيء، ويترك للمرأة فتات الموائد فيقول:
"الزوج يستبيح لنفسه ما يُحرّمه على زوجته، ويسرحُ ويمرحُ في حزامه مفتاحُ سجنها".
ويُشيد جبران بعظَمَة قلب المرأة وصبْرها وثباتها وتحمّلها مختلف صنوف الأذى، فهي كالأرض التي يمارس فوقها الإنسان كلّ فظاعته وحماقاته، ورغم ذلك تظلّ الأمّ الرّؤوف التي تحتضنها:
"إن قلب المرأة لا يتغير مع الزمن، ولا يتحوّل مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلا، لكنّه لا يموت، قلب المرأة يشابه البرّيّة التي يتّخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويُلطخ صخورها بالدمار، لكنّها تبقى هادئة ساكنة مطمئنة، ويظلّ فيها الرّبيع ربيعًا، والخريف خريفا إلى نهاية الدّهور".



جبران خليل جبران و الحبّ
------------------------------

بمجرد النظر إلى روائع ما كتبه جبران نرى الفلسفة العميقة، والرّومانسيّة التي كانت تغمره، فهو يكتب بإحساس عظيم، حتى تخاله يتحدّث عن إحساسك رغم كونه إحساسه الخاصّ، نَسبَح في عالم آخر، عالم خاص، عالم جبران، ولكن يكون القارئ هو البطل، بطل تلك الأحاسيس والمشاعر وذلك العالم، ونلاحظ من وراء سطوره المفعمة بالحبّ والإحساس يأسًا وآلامًا، فكأنه يعيش آلام الحبّ وعذابه، ولكنه ككلّ حبيب يتلذذ بذاك العذاب، ممّا يجعله يكتب ويكتب ويتحف عالمنا بتلك البلاغة، فهو يحلم بلقاء محبوبته في حقل بعيد فكما قال:
"الصّبا حديث محبّ مغتبط، صارع الدّهر وأرغم أنف البيْن، وأسعدته الليالي بخلوه، فحظي بلقاء محبوبته في حقل بعيد، فأولاه اللقاء فرحًا وابتهاجًا". ينبع منه خوف شديد من خسارة محبوبته، فهو يخشى انقطاع الأخبار والاختفاء بعيدًا، يتوق للقاء ولكنه خائف من خيانة الليل وسكونه!
"وللرصد في سكينة الليل وقعٌ في المشاعر، يحاكي تأثير كلمات رسالة جاءت من عزيز غال انقطعت أخباره في بلاد بعيدة، فجاء الكتاب يحيي عاطفة الأمل ويَعِد النفس باللقاء".
تعلق جبران بروحه و بعواطفه، كان مقرّبًا لنفسه، وكانت روحه ملاذًا له و ملجأً لعواطفه:
"أيتها الروح الجميلة الحائمة في فضاء أحلامي,قد أيقظت في باطني عواطف كانت نائمة مثل بذور الزهور المخبأة تحت أطباق الثلج".
اتخذت المرأة وخاصّة الجميلة مكانةً خاصّة في أدب جبران، فهو يصف المرأة المخلصة، كذلك يصف المرأة التي تعطي قلبها مجّانًا لرجل آخر، بعدما أهرق الذي يُحبها عرقَ جبينه ودم قلبه على قدميها، ووضع بين كفيها ثمار أتعابه وغلة اجتهاده، كما ويُشفق على تلك التي تستيقظ من غفلة الشبيبة، فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه، ويُسربلها بالتكريم والمؤانسة، لكنه لا يَقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحبّ المُحيية، ولا يستطيع أن يُشبع روحَها من الخمره السّماويّة التي يسكبها الله من عيني الرّجل في قلب المرأة.
يُبرز جبران تقديره واحترامه وحبّه للمرأة الرزينة العاقلة المخلصة رائعة الجمال، كما يحتقر تلك التي تخون زوجها أو حبيبها من أجل سعادتها، فهو يوافق على تحقيرها ونبْذها ورجمها بالحجارة، وترْك جسدها لكي تنعم بلحمِهِ الذئاب، وتنخر عظامه الديدان والحشرات، لأنها لا تستحق العيش. وهو أيضا ينتقد تلك الشريعة العمياء والتقاليد الفاسدة التي تعاقب المرأة إذا سقطت، أما الرجل فتسامحه، كما وينتقد بشده عدم المساواة بين الرّجل والمرأة في المجتمع، إذ يُرغمونها على الزواج برجل كهل خشن المظاهر، بينما فؤادها يُناجي قلبًا آخر، قلبًا سكن وهرم داخلها، ولا تستطيع طرده الآن بعد أن صار جزءًا من كيانها.
يرى جبران المرأة شاعريّةً مليئةً بالعواطف التي تختلج داخلها، حسّاسة لطيفه مثاليّة تكاد تصل إلى الكمال، وخاصّة إذا كانت واقعةً في مرض الحبّ، تتكلم مع حبيبها وتُناجيه وتدعوه ليبقى معها. ولكنه من ناحية أخرى يراها ضعيفة أمام مشاعرها لا تقدر على مقاومة قلبها، فهو الذي يتربّع على العرش وليس عقلها، ويلعب بها كيفما شاء.
كان لجبران سلمى خاصة به، فهي تلك التي أيقظت روحه بمحاسنها لأوّل مرّة، وهي التي أبدلت غفلة شبابه بيقظة هائلة بلطفها، جارحةً بعذوبتها فتاكة بحلاوتها، وكانت هي التي أدخلته إلى جنة الحبّ والطهر بحلاوتها، كانت حوّاء قلبه المملوء بالأسرار والعجائب، ولكنه كان خائفًا أن يضيّعها، خائفًا من الفراق الأبديّ، وأن يكلّل قبرَها بالأزهار قبل أن تضع هي أكاليل الأزهار على قبره، وأن تصبحَ سرًّا صامتًا في صدر الأرض، بعدما كانت نغمة شجيّة بين شفتي الحياة، خائفًا أن يُنسيهِ إيّاها البُعد والفراق:
"ورُبّ زهرةٍ تُلقونها على ضريحٍ منسيٍّ، تكون كقطرة الندى التي سكبتها أجفانُ الصّباح بين أوراق الوردة الذابلة".
إنّ النظرة الأولى هي الدقيقة الفاصلة بين نشوة الحياة ويقظتها، هي الشعلة الأولى التي تنير خلايا النفس، أي إنها كالضغط على زر التشغيل، كإنارة الشمعة الحمراء المعلنة انتشار المرض، والذي هو المرض الأخطر في العالم، سريع الانتشار لا دواء له سوى الموت، هو الحبّ. ويتحفنا جبران بقوله:
"إنّ النظرة الأولى هي أوّل رنةٍ سحريّةٍ، على أوّل وتر من قيثارة القلب البشريّ، أوّل نظرةٍ من شريكة الحياة تُحاكي قولَ الله: كُن". ويُظهر لنا جبران إنّ سِرّ المرأة يكمن في الجمال، فهو يُخاطب فتى الجَمال سائلاً عن سِرّ المرأة فيردّه: "هي أنت أيّها القلب البشريّ، وكيفما كنتَ كانت، هي أنا وأينما حلَلْتَ حلّتْ".


الجمال الحقيقي في نظر جبران خليل جبران يقول جبران:
-------------------------------------------------------

"إنّ الجمال الحقيقي هو أشعّة تنبعث من قدس أقداس النفس وتنير خارج الجسد، مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة، وتُكسبُ الزهرة لونًا وعطرًا، هو تفاهمٌ كلّيّ بين الرّجل والمرأة يتمّ بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفع عن جميع الميول، ذلك الانعطاف الرّوحيّ الذي ندعوه حبًّا".

لا يرى الجمال على أنه الذي يكمن في كمال الجسد،م أو في شعر ذهبيّ أو في شفتين ورديّتين أو في عينين كبيرتين أو في العنق العاجيّ، بل الذي يكمن في نبالة الرّوح الشبيهة بشعلة بيضاء متقدة سابحة بين الأرض واللانهاية، ويرى سكوت المرأة موسيقيًّا، ينتقل بجليسها إلى مسارح الأحلام البعيدة، ويجعله يُصغي لنبضات قلبه، ويرى أخيلة أفكاره وعواطفه منتصبة أمام عينيه،

ليس الجمال فمًا ظمئًا، ولا يدًا فارغة مبسوطة، ولكنه قلب ملتهب ونفس مسحورة، وجنة مزهرة، وهو الحياة وقد نزعت الحجاب عن وجهها، وهو الأبديّة محدّقة إلى وجهها في المرآة. إنّ الجمال عنوان الولادة الوجوديّة، يولد مع ألق الحياة، ويواكب الأبديّة في رحلتها الأسطوريّة، ولا يُفارقها كي يكون تاجًا يُزيّن اللَّوحات والصَّفحات، ويسير بين أنامل الحياة وفي سكون الموت. فالجمال الحقّ يولد من همسات أوراق النَّبات في الطبيعة، ويتجدّد في تلاطم الأمواج على صخور البحار، يولد من روح البشريّة وأفكارها، ويكتمل من حضارتها وإنجازاتها؛ فنحن لم نخلقه، لأنه خُلق معنا، وإن طوّرناه بعِلمنا وسعْينا الحثيث. ويُصوّر جبران الجمال بأنه صورة نبصرها حتى ولو أغمضنا عيوننا، وأنشودة نسمعها حتى لو سددنا آذاننا، فهو ينمو تحت عنوان الفنّ البشريّ، فيكون الجمال الفطريّ مصدر الفن البشريّ ومعناه، وتكون ولادة الجمال من الفن وولادة الفن من الجمال، كما تكون ولادة الرّوح من الرّوح، وولادة النّور من النّور والماء من الماء.
فالجمال الذي يحاكي الحواسّ الخمس هو جمال ربّانيّ مِن صنع الله، أمّا الجمال الذي يُحاكي العقل والخيال، فهو جمال فنّيّ من صنع الإنسان؛ وهكذا يأتلف الجمال والفن من أجل كمال واعد، وحضارة منتظرة، دائمة التطوّر والترقي.

يقول جبران "إن الجمال هو دليل الحب وخمرة النفس، مأكل القلب ومبدأ الرّاحة، هو ابتسامة لطيفة على شفتي غادة يراها الشاب فينسى أتعابه، وتصير حياته مسرح أحلام لذيذة، والجمال كالدهر يبني اليوم ويهدم غدًا، يُحيي ويُميت.

يكتب جبران عن الجمال ليُعلي صوته، فيقول لكل الناس إن الجمال حقيقة، "الجمال ضالة الإنسان المنشودة، والمَحبّة كلمة من نور لا تقبل التشكك، وهي تستبعِدُ مَن يُحبّ".

يشكو جبران الفرق بين الطبقات، فذلك الفلاح يقع في حبّ صبيّة يتضح له فيما بعد إنها ابنة الأمير، فيلوم قلبه ويشكو نفسه لنفسه، لكن الملامة لا تميل بالقلب عن الحبّ، والعذل لا يصرف النفس عن الحقيقة، والإنسان بين قلبه ونفسه كغصن في مهبّ ريح الجنوب وريح الشمال.

إذا جمع الحب فمَن يُفرق؟ وإذا أخذ الموت فمَن يُرجع؟ ينتقد جبران الفرق بين الطبقات الذي يمنع ما اختاره القلب. يخاف الضعيف من بطش القوي، فتكون النتيجة كارثيّة...

يلمع في أدب جبران آلام وعذاب الحب، فكأنه يريد أن يقول لنا، إنّ الحبّ يكمن في العذاب ورغم حلاوة طعمه، إلاّ أنه يبقى عذابًا، وكأنه يريد أن يقول لنا، أنه لن يكون هنالك حبّ إذا انعدم العذاب، وإذا انعدمت التضحية، تلك التي يمكن أن تكلفنا أرواحنا، وهنا تكمن روعة و فلسفة الحبّ، أن يضحّي إنسان بحياته وبروحه بكل ما يملك، من أجل الحفاظ على حبيبته..

إن لكلّ شيء في العالم هناك شيئ يكمله، شيئ كأنه نصفه الآخر رغم عدم كونه كذلك. وهذه هي الحال بين البشر، إذ لا يكتمل العالم إن لم يكن شيء يكمله، إنّ المحبّ يكمل محبوبته، وهي تكون النصف الآخر له. هذه هي طبيعة الحال، وهذا هو سر الكون سر البقاء.

"عندئذ تمازج الخيالان وصارا خيالاً واحدًا وسارا، وبعد هنيهة أذاع الهواء هذه الكلمات: لا تحفظ الأبدية إلاّ المحبّة لأنها مثلها".

إن بعض أقاصيص جبران هي في الحقيقة مقالات اجتماعية وإرشادية، صاغها بقالب حكايات لينطلق منها إلى التعبير عن رأيه في قدسية الحب، وعُقم الشرائع التي تنافي الطبيعة، ولكي يصبّ نقمته على الزواج القسري والتعسف الإقطاعي، وعلى بعض رجال الدين الذين تجاهلوا تعاليم المسيح في المحبة والتجرد ومساعدة الفقير، فعملوا بما يناقضها تمامًا.

منذ بدأ جبران يكتب وهاجس الإصلاح الاجتماعي يلازمه، ويقوى في بواكيره القصصيّة، ثار على الفساد والجهل والشرائع المستبعدة والإقطاع وتأليه المال، ونادى بمجتمع حرّ متناغم مع الطبيعة، يساعد الإنسان على اختلاف اللون والجنس والمكان، على تحقيق ذاته في جو المحبة الخلاق.

الحبّ أقوى

إن الحبّ في أدب جبران هو أسمى من مجرد حبّ، أكثر من مجرد أحاسيس ومشاعر، هو مناجاة للروح وجمْع قلبين منفيّين عن العالم العلويّ، هو أزليّة النفس وخلودها، والحبّ أقوى من كلّ شيء:

"فللحبّ وسم يراه الموت فينصرف، ويتوسّمه العدو فيتقهقر"، و"أنا حقيقة سلمت من بين الألسنة والنار لتخبر الناس بغلبة الحبّ على الحرب".

إن الحب هو خمره ممزوجة بمرارة اللذة وحلاوة الأوجاع، هو أيدٍ خفيّة ناعمة خشنة تقبض على الروح في ساعات الوحدة والانفراد، هو شعله تتقد في الصّدور وتلتهم القوى وتذيب العواطف والميول، هو قوة منظورة مميتة ومحيية، هو سرّ خفيّ كامن خلف الدّهور مختبئ وراء المرئيّات، ساكن في ضمير الوجود، هو ضعف فطريّ ورث عن الإنسان الأوّل، هو عزمٌ يُلازم كياننا ويصل الحاضر بماضي الأجيال ومستقبلها، هو سمٌّ قتال تتنفسه الأفاعي السّوداء المستلقية في كهوف الجحيم، فيسيل منتشرًا في الفضاء، ثمّ يهبط مغلّفًا بقطرات الندى، فترشفه الأرواح الظامئة فتسكر دقيقة، ثم تصحو عامًا ثم تموت دهرًا. لكلّ إنسان حبٌّ خاصّ به، خاصّ بتجربته بحياته، "وكلٌّ يُصوّر نفسه متكلّمًا عن الحبّ، ويبوح بأمانيه مُعلِنًا سرّ الحياة".

يرى جبران أنّ الحياة بغير الحبّ كشجره بغير أزهار ولا أثمار، والحبّ بغير الجَمال كأزهار بغير عطر وأثمار بغير بذور، فالحياة والحبّ والجمال ثلاثة أقانيم في ذات واحده مستقلة ومطلقة، لا تقبل التغيير ولا الانفصال. يقول جبران: يصلُ العاشق أوج عشقه عندما يُخفي قلبه ما يشكو ويكتم هواه.

"مَن باح بالأسرار يُشابه الأحمق فالصّمت والكتمان أحرى بمن يعشق."

المجموعة الكاملة لأعمال جبران خليل جبران- الشعر- (بالله يا قلبي) ص 81



رسائله للأديبة مي
------------------


من منا لم يسمع عن رسائل جبران خليل جبران إلى الأديبة مي؟
إن الحب الذي نشأ بين جبران خليل جبران ومي زيادة حبٌّ فريد لا مثيل له في تاريخ الأدب وسِيَر العشاق، ولقد استمرت العلاقة بينهما عشرين عامًا دون أن يلتقيا إلاّ في علم الفكر والروح،
وكيف يلتقيان وبينهما سبعة آلاف ميل؟ ومع ذلك كانا أقرب قريبيْن وأشغف حبيبيْن.
نما حبّهما عبْر مراسلة أدبيّة طريفة، ومساجلات فكريّة وروحيّة ألّفتْ بين قلبَيْ الأدبييْن. وعلى الرغم من كل ما كتب عن علاقات جبران الغراميّة بعدد من النساء، أمثال ماري هاسكل، فإن حبّه لِمَي كان الحبّ الوحيد الذي ملَكَ عليه قلبه وخياله.
أما هي فمع خفرها وتحفظها فقد صرحت عن حبها لجبران في مطلع رسالة 21 أيار 1921, حيث قالت: "أحبك قليلاً، كثيرًا، بحنوّ، بشغفٍ، بجنون، لا أحبّك"...
وفي رسائل مي وجدانيّة صافية، فبعد أن انتظرت دون جدوى حضور جبران إلى القاهرة، وكانت قد تجاوزت الخامسة والثلاثين من العمر، لملمت كلّ شجاعتها، وكتبت له أجمل رسالة حبّ، ورغم عدم التقائهما، إلاّ أنه ربطت بينهما علاقة متينة رغم بعد المسافة، إلاّ أنّ روحيْهما وقلبيْهما تعلقوا ببعض، فأتت علاقتهما كي تشهد على أنّ الحبّ أقوى من كلّ شيء.


الثورة والإنسان في أدب جبران خليل جبران
-------------------------------------------
-

من محاضرة قدمها الاستاذ بدر هدبة


من هو جبران ..? ولد جبران في بلدة بشري شمال لبنان عام 1883 من اسرة متوسطة الحال , كان ابوه سكيرا وكذلك جده وقد ورث جبران عشق الخمرة كما‏

ورث من هذه الاسرة جرثومة السل التي فتكت بأمه واخته وأخيه فلا غرابة بعد ذلك أن يمتلك جبران طاقة عصبية مهتاجة وان يقبل على الخمرة اقبالا مرضيا وان تسهم جرثومة السل في تحريض خلاياه العصبية الدماغية مما دفع بعض الباحثين لربط عبقرية جبران بهذه العوامل الوراثية الآنفة الذكر . امضى جبران في دنيانا ثمانية واربعين عاما بدايتها في بشري - لبنان وختامها في نيويورك - امريكا . جمع جبران في رأسه مواهب متعددة فقد كان كاتبا وشاعرا ورساما ومصورا وكان مبدعا فيها جميعها بشهادة كبار النقاد والدارسين . بدأ بنشر مؤلفاته بالعربية من سنة 1905 ثم توالت مؤلفاته وبعدها انصرف إلى الكتابة باللغة الانكليزية طوال حياته .‏

كان للبيئة الجغرافية التي ولد فيها وعاش فيها طفولته وشبابه اثر كبير في اذكاء واغناء خياله وتوقد مواهبه وعمق افكاره . امتلك جبران شخصية عجيبة جمعت بين الهيبة والرقة والسحر ,. وصفته «غبرييللا» الاديبة الامريكية فقالت : كان يحمل بين تلافيف دماغه كل احلام البشرية, وذكاء خارقاً, ولطفاً غير متناه , نعومة ورقة تفوقان الوصف , ترى في عينيه وهو يحدثك بريق العبقرية ولمعان النبوغ . اطلق عليه الياس ابو شبكة لقب « المسيح الجديد » وقال عنه صديقه ورفيق عمره ودربه الكاتب ميخائيل نعيمة : كان ادب جبران ثورة عنيفة مباركة جامحة هزت الادب العربي هزا وحمل لواءها قلب محب فسيح وفكر انساني جبار وخيال نفاذ وثاب .‏

دوافع وعوامل الثورة والتمرد عند جبران : معظم الناس فهموا جبران على انه ذلك الرومانسي الحالم الرقيق خاصة عندما تغني فيروز اشعاره , ولايدور بخلد احد أن هذا الشاعر الرسام الهائم بالطبيعة والجمال حتى الجنون يمكن أن ينفض ويفسد عالمه الساحر الهادىء هذا بقعقعة الثورة وعنفها ولايتصور احد أن هذا الفيلسوف الذي سار على طريق التصوف والماورائيات أن يلتفت للواقع المادي المحسوس وان يتصدى بقوة وشراسة لعيوبه وامراضه , ثورة نابعة من ذاته وواقعه ولم يكن تلميذا لأحد من المنظرين الثوريين في ذلك الزمان ولم يعرف انه انتمى إلى واحد من التنظيمات الثورية المعروفة آنذاك . من يقرأ جبران يفاجأ انه يقرأ خطبا حماسية ملتهبة تحارب الظلم والاستبداد في جميع صورها واشكالها وهي خطب تليق بأقوى الثوار شكيمة واشدهم حماسة .‏

جبران في انتصاره لقضايا المرأة : آمن جبران إلى ابعد الحدود بدور المرأة العميق في حياة الرجل مهما كان موقعها من هذا الرجل واذا كانت المرأة قد اخرجت الرجل من الفردوس السماوي فهي قادرة أن تصنع له من هذه الارض فردوسا بديعا عندما يقدرها حق قدرها ويتخلى عن نظراته الدونية لها ويقلع عن الآراء الخاطئة التي قيلت فيها وينظر اليها كشريك رائع له في مسيرة الحياة .‏

واذا كانت هذه نظرة جبران للمرأة فهل يمكن الا أن يكون مدافعا عنيدا عنها متبنيا لقضاياها مشهرا سيف لسانه على مضطهديها حتى انه اغضب الكثير من المحافظين حتى انه وهو المسيحي اباح للمرأة حق الطلاق عندما تصبح حياتها الزوجية متعذرة .‏

وقد احدثت آراء جبران هذه وكتاباته هزة عنيفة في الكثير من الاسر, فأقدمت زوجات بالفعل على مغادرة السجن الزوجي البغيض وكان جبران يرى في محنة المرأة وتعاستها رمزا وتجسيدا لمحنة الامة وجهلها.‏

آمن جبران بأن قلب المرأة لايمكن شراؤه بذهب الدنيا كله وان هذا القلب يعطى مجانا لمن يشتريه بالحب ولهذا فقد انكر كل زواج لا يبنى على الحب, فعندها ستكون نتيجته تعاسة مشتركة لكلا الزوجين . ويعظم جبران من شأن الحب في العلاقة بين الرجل والمرأة حتى ليجعل كل امجاد الرجل الاخرى التي يعتز بها, يجعلها صغيرة في عين المرأة امام روعة الحب وسعادته .‏

وجبران يتألم من هذا المجتمع الذكوري الذي يمنح الرجل كل شيء ويترك للمرأة فتات الموائد فيقول «الزوج يستبيح لنفسه ما يحرمه على زوجته ويسرح ويمرح في حزامه مفتاح سجنها .. » ويشيد جبران بعظمة قلب المرأة وصبرها وثباتها وتحملها مختلف صنوف الأذى فهي كالارض التي يمارس فوقها الانسان كل فظاعاته وحماقاته ورغم ذلك تظل الام الرؤوف التي تحتضنها.. «ان قلب المرأة لايتغير مع الزمن ولا يتحول مع الفصول , قلب المرأة ينازع طويلا لكنه لايموت .. قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الانسان ساحة لحروبه ومذابحه فهو يقتلع اشجارها ويحرق اعشابها ويلطخ صخورها بالدمار .. لكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنة ويظل فيها الربيع ربيعا والخريف خريفا إلى نهاية الدهور..».‏





هل أحبت مي جبراناً ؟ وهل أحب جبران مياً ؟!
-----------------------------------------------


نوال مصطفى

هذا هو السؤال الذي طرحه الكثيرون وحاولوا العثور على إجابة له . ولم تكن الإجابة سهلة لأن علاقة مي وجبران علاقة فريدة في تاريخ الأدب العربي .. وكأنها إحدى أساطيره الغامضة !
أسماه البعض بالحب السماوي الذي يحلق عالياً في فضاء الفكر والسمو والعفة .. ووصفه البعض بأنه محض "خيال" أو وهم جميل عاشه العاشقان عن بعد دون أن يرى أحدهما الآخر ولو لمرة واحدة في حياته !!
ورغم كل ذلك فقد تركت هذه العلاقة الفريدة العجيبة تراثاً أدبياً رفيع المستوى تمثل في تلك الرسائل الرائعة المتبادلة بين مي .. وجبران .
إنها ثروة أدبية حقيقية من نصوص كتبها أديبان توهج قلباهما بالحب .. واحترق بالغربة .. وتعذب بالحرمان .

وفي هذه الرسائل إجابة عن الكثير من التساؤلات الحائرة عن مي الإنسانة .. المرأة .. الحبيبة التي ظلت لغزاً غامضاً أمام الكثيرين من معاصريها .. وكذلك من الأجيال التالية لجيلها.

فقد سبقت مي عصرها بفكر متوثب وإبداع متوهج لكنها رغم ذلك ظلت _ حتى آخر يوم في عمرها _ امرأة شرقية محافظة حتى النخاع . فلم يستطع التحرر الفكري والثقافة المنفتحة على ثقافات العالم أن تنتزع ولو قليلاً من التزامها الأخلاقي أو الديني . ولم يمنحها نبوغها ترف أن تخرج على تقاليد وعادات الشرق . فقد كانت صارمة جداً مع نفسها .

أما هذا الحبيب الذي صنعته من وهم وحرمان ورغبات مكبوتة .. أقصد الأديب والشاعر والفنان اللبناني جبران خليل جبران فكان مختلفاً كثيراً عنها من حيث التركيبة الفكرية والإنسانية . رغم توحد مشاعرهما وتقارب معاناتهما في الغربة والوحدة ورهافة الإحساس التي تميزت بها مي كما تميز بها جبران .

جبران الذي عاش حياته حيث هاجر إلى الولايات المتحدة الامريكية . فتعود الحرية في كل شيء ومارس التعبير عن ذاته وإطلاق العنان لمشاعره دون تحفظ أو خوف . كان يريدها أن تحبه بنفس طريقته .. بلا تحفظات .. بلا تردد أو تعقل بل أن تعيش الحب بجنونه وتستجيب لنداء القلب والروح والجسد .

وكان قد رأى ذلك كثيراً وعرفه في الحياة الغربية التي عاش داخلها معظم رحلة حياته .. وكانت له صديقات في غربته , وعاش قصص حب قبل أ، يقع في حب مي .. لكن الحب كما عرفه ومارسه لم يكن هو ذلك الحب الذي عاشه مع مي من خلال رسائل تحمل مشاعر إنسانية استثنائية في كل شيء حتى في عواطفها !

ونما الحب في قلبيهما .. وتأجج ولم يكن هناك إلا الأوراق المتبادلة بينهما هي من مصر .. وهو من الولايات المتحدة الأمريكية .. طوفان من المشاعر المشتعلة بالحرمان .. المصطدمة دائماً بحائط المستحيل !

اللقاء الأول بينهما كان لقاءً على الورق .. بدأته مي برسالة من قارئة وأديبة إلى أديب كبير . كانت قد انتهت من قراءة قصة جبران خليل جبران " مرتا البانية" فكتبت إليه خطاباً تعرفه بنفسها أولاً ثم تعلق على هذه الرواية فماذا قالت له مي في هذا الخطاب :

أمضي مي بالعربية وهو اختصار اسمي , ويتكون من الحرفين الأول و الأخير من اسمي الحقيقي الذي هو : ماري . وأمضي " إيزيس كوبيا" بالفرنجية , غير أن لا هذا اسمي ولا ذاك , إني وحيدة والدي وإن تعددت ألقابي.

حدثته في هذا الخطاب الأول الذي أرسلته له في عام 1912 عن ديوانها الشعري الأول " أزاهير حلم" الذي كتبته بالفرنسية وكلمته عن حياتها في مصر التي استقرت فيها مع والديها وعن مقالاتها في الجرائد والمجلات العربية.

وتلقى جبران رسالة مي الأولى بفرح , وكتب إليها مشجعاً استمرار المراسلة بينهما , فأهداها روايته الجديدة " الأجنحة المتكسرة ".

لم تصدق مي نفسها وهي ترى مظروفاً مكتوباً عليه اسم " جبران خليل جبران " .. وتفتحه لتجد خطاباً منه بخط يده ونسخة من روايته موقعة على إهداء رقيق من الأديب الكبير إليها . طارت من الفرحة وجلست مع روايته .. بل غرقت بين سطورها تحاول أن تدخل في أعماق الحرف وثنايا الكلمة.. ربما وجدته وأمسكت بهذه الروح البعيدة التي تشعر بها قريبة جداً إلى قلبها وعقلها معاً .

انتهت الرواية , ولكن روايتها هي مع هذا الغريب القريب بدأت بخطاب منها تكتب فيه رأيها في الرواية بصراحة وتتوقف عند نقاط الاختلاف الرئيسية بينها وبين جبران " إننا لا نتفق في موضوع الزواج يا جبران , أنا احترم أفكارك , وأجلّ مبادئك لأنني أعرفك صادقاً في تعزيزها , مخلصاً في الدفاع عنها , وكلها ترمي إلى مقاصد شريفة, وأشاركك في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة , فالمرأة يجب أن تكون كالرجل مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشباب .. لا مكيفة حياتها في الغالب الذي اختاره لها الجيران والمعارف , حتى إذا ما انتخبت شريكاً لها تقيدت بواجبات تلك الشركة .. أنت تسمي هذه " سلاسل ثقيلة حبكتها الأجيال" وأنا أقول إنها سلاسل ثقيلة , نعم , ولكن حبكتها الطبيعة التي جعلت المرأة ما هي , فإن توصل الفكر إلى كسر قيود الاصطلاح والتقاليد فلن يتوصل إلى كسر قيود الطبيعة لأن أحكامها فوق كل شيء .. عند الزواج تعد المرأة بالأمانة , فعندما تجتمع سراً برجل آخر تعد مذنبة إزاء المجتمع والواجب والعائلة .

يقف هذا الخلاف الفكري حاجزاً بينهما .. ورغم ذلك تظل الأديبة الفريدة بثقافاتها المتعددة وموهبتها الأصيلة ورؤيتها الناضجة بلونها المميز في الأسلوب .. ومذاق كتاباتها الخاص الذي يجمع بين تعبيرات الغرب ومفردات الشرق ووجدانياته. يظل هذا كله مركزاً للجذب الشديد بينهما . فهذا الذي بينهما ليس حباً بالمعنى البسيط للكلمة .. بل ان علاقتهما كانت علاقة مركبة .. يتداخل فيها القرب الوجداني مع المتعة الفكرية في الحوار المكتوب بينهما.. وتمتزج المشاعر النابضة في القلب بالإعجاب الصادر من العقل. إنها علاقة فريدة .. وبديعة .. ومعذبة بقدر روعتها !

تتوقف مي عن الكتابة إلى جبران عامين كاملين بعد أ، تسلل إليها الخوف من أن يتعلق به قلبها وتتحول الصداقة الفكرية إلى حب معذب ثم تعاود المراسلة وتحكي عما أصابها في رحلتها إلى لبنان في الصيف حيث كسرت يداها أثناء ركوبها الخيل هناك.

ويرد عليها جبران معاتباً : " حضرة الأديبة الفاضلة .. لقد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت دون خطاب منك , لكنه لم يخطر على بالي كونك شريرة .. لنعد إلى متابعة الحديث الذي بدأناه منذ عامين كيف أنت ؟ وكيف حالك ؟ هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان؟).

ويجيبها جبران عن أسئلة كثيرة جاءت في خطابها إليه فيقول لها :

صحتي أشبه بحديث السكران , وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً في أعالي الجبال وشواطئ البحر , ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال , ومصارعة الأحلام ( تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي ).

وتقوم الحرب العالمية الأولى فتتوقف المراسلة بين مي وجبران من 1914 حتى 1919 .. ثم تبدأ مي في إرسال مقلات نشرت لها في جريدة المقتطف .. ويرد جبران عليها في خطاب أرسله مع بداية عام 1919 يقول فيه :

وجدت في مقالاتك سرباً من تلك الميول والمنازع التي طالما حامت حول فكرتي وتتبعت أحلامي . إن مقالاتك هذه تبين سحر مواهبك وغزارة إطلاعك , وملاحة ذوقك في الانتقاء والانتخاب .. وهذا ما يجعل مباحثك من أفضل ما جاء من نوعها في اللغة العربية , ولكن لي سؤال أستأذنك بطرحه : ألا يجيء يوم يا ترى تنصرف فيه مواهبك السامية عن البحث في ماضي الأيام إلى أسرار نفسك واختباراتها الخاصة؟ أليس الإبداع أبقى من البحث في المبدعين .. أنا كواحد من المعجبين بك أفضل أن أقرأ لك قصيدة في ابتسامة أبي الهول من أن أقرأ لك رسالة في تاريخ الفنون, فإنك تدلينني على شيء عمومي عقلي .. إني أشعر بأن الفن , والفن إظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في داخل الروح , هو أحرى وأخلق بمواهبك النادرة في البحث ".

ويدفعها جبران إلى الكتابة الإبداعية التي يراها أبقى وأهم من الكتابة عن الفنون وعن المبدعين فيقول لها " ليس ما تقدم سوى شكل من أشكال الاستعطاف باسم الفن , فأنا أستعطفك لأنني أريد أن استميلك إلى تلك الحقول السحرية , حيث أخواتك اللواتي بنين سلماً من الذهب والعاج بين الأرض والسماء . أرجو أن تثقي بإعجابي وأن تتفضلي بقبول احترامي الفائق والله يحفظك المخلص جبران خليل جبران ".

ويصدر جبران خليل جبران كتابه الجديد " المجنون" .. وكالعادة تكون نسخة مي الموقعة بإهدائه واسمه على رأس قائمة النسخ المهداة . وفور وصوله إليها .. تقرأه ليس بعينيها وفكرها .. بل بكل نبضة في كيانها .. فكتاب جبران هو الجزء الوحيد المادي الذي يجسد هذا الإنسان الهلامي بالنسبة لها .. تقرأه بكل تركيز وغوص .. وترد في خطاب إلى جبران على ما جاء في هذا الكتاب :

لك أجد في كتابك ملاذاً سماوياً بل أثار في الرهبة والخوف أهذه هي كهوف روحك ؟

فيرد جبران عليها في خطاب : ماذا أقول عن كهوف روحي ؟ تلك الكهوف التي تخيفك , إني التجئ إليها عندما أتعب من سبل الناس الواسعة وحقولهم المزهرة وغاياتهم المتعرشة , إني أدخل كهوف روحي عندما لا أجد مكاناً آخر أسند إليه رأسي , ولو كان لبعض من أحبهم الشجاعة لدخول تلك الكهوف لما وجدوا فيها سوى رجل راكع على ركبتيه وهو يصلي .

وتعود " مي " إلى التوقف والتراجع عن الاستمرار في هذه العلاقة التي أصبحت تسيطر على وجدانها .. وتؤثر الإنسحاب من هذا الحب المستحيل .. تتوقف عن المراسلة لمدة ثلاثة أشهر حتى يصلها كتاب جبران " المواكب" مع رسالته التي تحمل سطوراً قليلة في 10 مايو 1919 يقول فيها : " والعمل كما تجدينه حلم لم يزل نصفه ضباباً والنصف الآخر يكاد يكون جسماً محسوساً , فإن استحسنت فيه شيئاً تحول إلى الحقيقة , وإن لم تستحسني عاد إلى مثل ما كان عليه.

وتكتب إليه معجبة بأشعاره في المواكب : " رائعة قصائدك في " المواكب" سأستظهر أبياتها ذات الصور الآخاذة . أنتم أهل الفن تبرزون البدائع بقوى أثيرية احتفظتكم عليها ملوك الجوزاء , فنأتي نحن الجمهور وليس لدينا ما نتفهمها بها سوى العجز ".

ويسافر جبران في أجازة طويلة .. ثم يعود ليجد ثلاث رسائل من مي في انتظاره فتحضنها عيناه من الفرحة .. ويغمره الحنين برؤية حروفها وكلماتها وخطها الدقيق المرسوم.. فيقرأها مرات ومرات .. يتنفس في رائحة الأرواق رائحة مي وأنفاسها العذبة.. ويجلس منفرداً ويكتب لها أجمل خطاب .. تنطق كل كلمة فيه بمعنى الحب والحرمان والافتقاد .. وتتدفق مشاعر الكاتب الفنان صادقة .. صارخة .. متوسلة بقاء الحبيب .. وعدم القطيعة أو البعاد .

10 / 7 / 1919 .. رسالة جبران إلى مي :


رجعت اليوم من سفري فوجدت رسائلك الثلاث بل هذه الثروة الجليلة قد وصلت , فانصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لأصرف نهاري مصغياً إلى حديثك الذي يتمايل بين العذوبة والتعنيف , لأنني وجدت في رسالتك بعض الملاحظات التي لو سمحت لنفسي الفرحة أن تتألم لتألمت منها , ولكن كيف اسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصعة بالنجوم ؟ وكيف أحول عيني عن شجرة زهرة إلى ظل من أغصانها ؟

إن حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحول إلى عتاب أو مناظرة , فأنا أقبل بكل ما تقولينه لاعتقادي بأنه يجمل بنا وسبعة آلاف ميل تفصلنا ألا ضيف متراً واحداً إلى هذه المسافة الشاسعة بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا من الميل إلى الجميل والشوق إلى المنبع والعطش إلى الخالد , يكفينا يا صديقتي ما في هذه الأيام وهذه الليالي من الأوجاع والتشويش والمتاعب والمصاعب , وعندي أ، فكرة تستطيع الوقوف أمام المجرد المطلق لا تزعجها كلمة جاءت في كتاب أو ملاحظة أتت في رسالة .

"ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها , فهي مثل نهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنحاً في وادي أحلامي, بل هي كالأوتار ..".

كلمات في رسالة جبران يطغى عليها الفرح لعودة المراسلات بينه وبين " مي" بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى .. يرسل إليها خطابه ومعه كتاب " المجنون" فترسل مي خطاباً عنيفاً تنتقد فيه كأديبة وناقدة إسلوب جبران الذي جاء على لسان بطل روايته .. وتنهي خطابها بجملة شديدة العنف " أهذا هو المجنون .. هو أنت المجنون ..".

ولا يغضب جبران من عنف مي في رسالتها .. فهو يفهم جيداً أن ما كتبته جاء من الأديبة وليس من الحبيبة الساذجة التي تمتدح الإنسان الذي تحبه بمناسبة وبدون مناسبة . فمي الأديبة والناقدة تحب بشكل مختلف .. وتحاور هذا الحبيب الأديب بلغة الفكر المشتركة بينهما وهي على ثقة إنه سيفهمها ولن يغضبه نقدها مهما كان قاسياً .. فهو يعلم جيداً أن تلك القسوة هي التعبير عن منتهى حبها له وحرصها على أن تخرج أعماله الإبداعية في أكمل صورة .

ويجيب جبران مبرراً : " المجنون ليس أنا بكليتي , واللذة التي أردت بيانها بلسان شخصية ابتدعتها ليست كل ما لدي من الأفكار والمنازع , واللهجة التي وجدتها مناسبة لميول ذلك المجنون ليست باللهجة التي اتخدها عندما أجلس لمحادثة صديق أحبه وأحترمه . وإذا كان لا بد من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبته فما عسى يخدمك عن اتخاذ فتى الغاب في كتابه " المواكب" لهذه الغاية بدلاً من " المجنون؟".

ويعيش الأديبان العاشقان مشاعر فرحة عودة الحبيب إلى الحبيب بعد فترة انقطاع طويلة سببتها الحرب العالمية الأولى وقطع سبل المواصلات بين مصر والعالم وكانت رسائل جبران في تلك الفترة من أروع الآثار الأدبية في أدب الرسائل .. فكتب يقول :

لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خري وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركباً إثر مركب . تلك الاشباح التي ما ثار البركان في أوربا حتى أنزوت محتجة بالسكوت , وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله !

هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي , هنالك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا , قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس .

فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم إتخذت بلادي بلاداً لها وقومي قوماً لها , هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كلما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إليّ , وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة.

وتعود مي إلى التوقف عن المراسلة لفترة خوفاً من أن تغوص أكثر في أعماق تلك المشاعر المستحيلة .. وعندما تفتقد تلك الشحنات القادمة عبر المحيط .. رسائل جبران .. يتحرك داخلها الحنين إلى أوراقه وسطوره وكلماته الرائعة .. فتكتب له لتحاول استعادة هذه العلاقة الفكرية والأدبية بينها وبين جبران .. وأن تجمد الجانب الآخر .. الجانب الذي كانت تراه معذباً ومستحيلاً بالنسبة لتركيبتها الخاصة .. وظروفها العائلية كوحيدة والديها .. وخاصة ان ارتباطها بوالديها كان قوياً وعميقاً .

وتقول مي لجبران في خطاب كتبته لتوضح فيه كل ذلك .. وتحاول استبقائه في حياتها على الأقل في خانة : الصديق العزيز . تقول مي :

لما كنت أجلس للكتابة أنسى من وأين أنت , وكثيراً ما أنسى حتى أن هناك شخصاً , ان هناك رجلاً أخاطبه فأكلمك كما أكلم نفسي وأحياناً كانك رفيقة لي في المدرسة . أنما كانت تطفو تلك الحالة المعنوية عاطفة احترام خاص لا توجد عادة بين رجل وفتاة . أتكون المسافة وعدم التعاون الشخصي والبحار المنبسطة بيننا هي التي كانت تلبس حقيقة ذلك التراسل ثوب الخيال ؟ قد يكون .

غير أن مكانتك في اعتباري وتقديري كانت مصدر هذه الثقة التي ظهرت منذ نشأتها كأنها فطرية بديهية لم تنتظر الوقت لتقوى ولا التجربة لتثبت ؟ فوصلت الرسالة التي سبقت " النشيد الغنائي ". وكنت في الاسكندرية إزاء البحر الذي يجلب التأمل وينمي حب الاختلاء . ولم أشأ أن أجعل لمعنى النشيد أهمية خطيرة فكتبت أقول : أنا أردت أن تحصر مراسلاتنا في مواضيع فكرية . فقلت لك صريحاً أنني ألتمس في رسائلك الفائدة التي أطلبها في كل مكان ...

وتبرر مي موقفها لجبران فتقول :

أنت قيدتني ( مذنبة) في دفترك , وقمت تشكو لأني كلما " حدقت في شيء أخفيه وراء القناع , وكلما مددت يداً أثقبها بمسمار ".نعم فعلت ذلك متعمدة . تعمدت قطع تلك الأسلاك الخفية التي تغزلها يد الغيب وتمدها بين فكرة وفكرة وروح وروح وصرت أحرف المعاني وأمسخ الأسئلة وأضحك عند الكلمات التي تملأ العينين دموعاً . وهل كان لدي وسيلة أخرى لأحولك عن هذا الموضوع وأذكرك إني وحيدة أبواي ؟

قد لا يكون في العائلة الغربية إلا ولد فيقذفون به من إنكلترا إلى الهند , أو فتاة واحدة فترحل من فرنسا إلى الصين بلا جلبة ولا ضوضاء . ولكن أين نحن من هؤلاء , ونحن شرقيون .

تعمدت ذلك خصوصاً لأوفر على نفسي عذاباً هي في غنى عنه ولأتحايد كل كلمة تقربني من ذلك الموضوع الذي ملأ روحي شوكاً وعلقماً في هذه السنوات الماضية . ففهمت ما أريد وإنما في غير معناه الحقيقي , وفهمته على وجه لم أقصده . ثم سطت عليك الكبرياء . كبرياء الرجل , فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة نحن اللذين تكاتبنا أبداً كصديقين مفكرين . نسيت أن الموضوع الآخر جاء عرضاً . وما دام إنه لم يكن الأصل فقد كان له أن يتلاشى دون أن يؤثر في علاقاتنا الأدبية الفكرية .أما صدق القائلون إن صداقة الرجل والمرأة رابع المستحيلات . آلمني سكوتك من هذا القبيل , وأرهف انتباهي , فاعلمني انك لم تشاركني إرتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية لأنك لو كنت سعيداً بها مثلي , لما كنت رميت إلى أبعد منها .علمت إنني كنت وحدي حيث كنت أظننا اثنين .. وقدرتك أنك لم تحسب تلك سوى مقدمة وأنا كنت أقدرها لذاتها . وصار معنى سكوتك عندي " أما ذاك وأما لا شيء .. وأنت أدرى بأثر هذا في نفسي ".

ويتوقف جبران عن مراسلة مي .. ثم ينشغل في كتابه الجديد .. فينتاب مي القلق والخوف .. وتبدأ في لوم نفسها .. لقد كنت عنيفة مع جبران أكثر مما يجب ! لماذا أنبته كل هذا التأنيب .. وماذا فعل معي حتى يستحق كل هذا ؟! أنا المخطئة ولا بد أن أكتب إليه .. وأطلب منه العفو والغفران عما بدر مني في تلك الرسالة الشديدة اللهجة .

وعندما وصلت رسالة " مي" إلى جبران ابتسم.. وأمسك بالقلم على الفور ليرد على رسالتها :

لقد ابتسمت كثيراً منذ هذا الصباح . وها أنا أبتسم في أعماقي , وابتسم بكليتي , وابتسم طويلاً , وابتسم كأني لم أخلق إلا للابتسام .. أما العفو فلفظة هائلة أوقعتني متهيباً خجولاً . إن الروح النبيلة التي تتواضع إلى هذا الحد لهي أقرب إلى الملائكة من البشر ..

أنا المسيء وحدي , وقد اسأت في سكوتي وفي قنوطي .. لذلك استعطفك أن تغفري لي ما فرط مني وأن تسامحيني




قصائد جبران المغناة:


سكن الليل /غناء فيروز

سكن الليل , وفي ثوب السكون تختبي الاحلام

وسعى البدر ,وللبدر عيون ترصد الايام

فتعالي يا ابنة الحقل,نزور كرمة العشاق
علنا نطفي بذياك العصير حرقة الاشواق

اسمعي البلبل ما بين الحقول يسكب الالحان
في فضاء نفحت فيه التلول نسمة الريحان

لا تخافي, فعروس الجن في كهفها المسحور
هجعت سكرى وكادت تختفي في عيون الحور

ومليك الجن ان مر يروح والهوى يثنيه
فهو مثلي عاشق كيف يبوح بالذي يضنيه

سماع

تحميـــــل


..............


اعطني الناي وغني/فيروز


أعطني الناي وغني
فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الوجود
هل إتخذت الغاب مثلي
منـزلاً دون القصور
فتتبعت السواقي
وتسلقت الصخور
هل تحممت بعطره
وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمراً
من كؤوس من أثير
هل جلست العصر مثلي
بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت
كثريات الذهب
هل فرشت العشب ليلاً
وتلحفت الفضاء
زاهداً في ما سيأتي
ناسياً ما قد مضى
أعطني الناي وغني
وانسى داء ودواء
إنما الناس سطورٌ
كتبت لكن بماء






.............

يا بني أمي / فيروز


في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون
مات أهلي و عيونهم محدقة في سواد السماء
في ظلام الليل أناديكم هل تسمعون
مات أهلي و غمرت تلال بلادي الدوع و الدماء
الويل لأمة كثرت فيها طائفها و قل فيها الدين ... الويل لها
الويل لأمة تلبس مما لا تنسج و تشرب مما لا تعصر ... الويل لها
و الويل لأمة مقسمة و كل ينادي انا أمة ... الويل لها
يا بني أمي الحق الحق أقول لكم
وطني يأبى السلاسل وطني أرض السنابل
وطني الفلاحون وطني الكرامون
وطني البناؤون و الغار و الزيتون
وطني هو الأنسان وطني لبنان




..............


غريبة / كاميليا جبران

غريبة في هذا العالم..
غريبة ..
وفي الغربة وحدة قاسية..
ووحشة موجعة ..
غير أنها تجعلني أفكر أبداً
بوطن سحري لا أعرفه
وتملأ احلامي بأشباح أرض قصيّة ما رأتها عيني
غريبة في هذا العالم
وقد جبت مشارق الأرض ومغاربها
فلم أجد مسقط رأسي
ولا لقيت من يعرفني ولا من يسمع بي





.................

المحبة /فيروز


حينئذٍ قالت المِطرة ،قالت المطرة حدّثنا عن المحبة، فقال:
"إذا المحبة اومت اليكم، فاتبعوها...
إذا ضمّتكم بجناحيها، فأطيعوها...
إذا المحبة خاطبتكم، فصدّقوها...

المحبة... تضمكم الى قلبها كأغمار حِنطة...
المحبة... على بيادرها تدرسكم لتُظهر عُريكم
المحبة ...تطحنكم فتجعلكم كالثلج انقياء
ثم تعدكم لنارها المقدسة
لكي تصيروا خبزا مقدسا
يقرب على مائدة الرب المقدسة

المحبة... لا تُعطي إلا ذاتها
المحبة ...لا تأخذُ إلا من ذاتها

لا تملكُ المحبةُ شيئاً، ولا تريد ان احدٌ يملكها
لأن المحبة مكتفية بالمحبة، بالمحبة..."
أما أنت إذا أحبتت
فلا تقل الله في قلبي
لكن قُل أنا في قلب الله


مشاهدة وتحميل





مختارات من قصائد جبران:
-----------------------------


يا نَفسُ لَولا مَطمَعي


يــــا نَــفــسُ لَـــــولا مَـطـمَـعــي بِـالـخُـلـدِ مـــــا كُــنـــتُ أَعـــــي
لَـــحـــنــــاً تُــغَــنّـــيـــهِ الـــــدُّهــــــور
بَل كُنتُ أَنهـى حاضِـري قَــــســــرا فَــيَـــغـــدو ظــــاهِــــري
ســـــــــــرّاً تُــــــواريــــــهِ الــــقُــــبُــــور
يــا نَـفــس لَـــو لَـــم أَغـتَـسِـل بِــالــدَّمـــعِ أَو لَـــــــم يَـكــتَــحــل
جَـفــنــي بِــأَشــبــاح الــسّــقــام
لَــعِــشـــتُ أَعـــمــــى وَعَــــلــــى بَــصــيـــرَتـــي ظـــــفــــــرٌ فَـــــــــــلا
أَرى سِــوى وَجــه الـظَّـلام
يا نَفسُ ما العَيشُ سِـوى لَـــــيـــــلٍ إِذا جَــــــــــنّ اِنـــتَـــهــــى
بِـالـفَــجــر والــفَــجـــرُ يَـــــــدوم
وفــــي ظَــمـــا قَـلــبــي دَلــيـــل عَــلــى وُجُـــــودِ السَّـلـسـبـيـل
في جـرّةِ المَـوتِ الرّحـوم
يا نَفس إِن قالَ الجَهول الــــــرّوحُ كَـالـجِــســمِ تَـــــــزُول
وَمــــــــــا يَــــــــــزول لا يَـــــعــــــود
قُـــولــــي لَــــــــهُ إِنّ الــــزُّهــــور تَــمــضــي وَلَـــكـــنّ الـــبُــــذور
تَـبــقــى وَذا كــنـــه الــخُــلــود
يا زَمانَ الحُبِّ قَد وَلّى الشَّباب




يـــا زَمـــانَ الـحُــبِّ قَـــد وَلّـــى الـشَّـبــاب = وَتَــــــوارى الــعُــمـــرُ كَــالــظـــلِّ الـضَّــئــيــل
وَامّحى الماضي كَسَطرٍ مِن كِتاب =خَـطَّــهُ الـوَهــمُ عَـلــى الـطّــرس الـبَـلـيـل
وَغَـــــــــــــدَت أَيّــــامُـــــنـــــا قَـــــــيـــــــد الـــــــعـــــــذاب فـ=ــــــــــي وُجـــــــــــودٍ بِــالـــمَـــسَـــرّات بــــخَــــيــــل
فَــــــالَّـــــــذي نَـــعـــشَـــقُــــهُ يَــــــأســـــــاً قَــــــضـــــــى = وَالَّــــــــــــــــــــــذي نَـــــطــــــلُــــــبُــــــه مَـــــــــــــــــــــــلَّ وَراح
وَالَّـــــــــذي حُــــزنـــــاهُ بِــــالأَمـــــسِ مَــــضـــــى = مِــــثـــــلَ حُــــلـــــمٍ بَـــــيـــــنَ لَـــــيـــــلٍ وَصَـــــبـــــاح
يـــا زَمـــانَ الـحُــبِّ هَـــل يـغـنـي الأَمَـــل = بِـخُـلــودِ الـنَّــفــسِ عَـــــن ذكـــــرِ الـعُــهــود
هَـل تَــرى يَمـحـو الـكَـرى رَســم القُـبَـل = عَــــــــــن شِـــــفــــــاهٍ مَـــلّــــهــــا وَردُ الـــــخُــــــدود
أَو يُـــــدانـــــيـــــنـــــا وَيُــــنــــســــيــــنــــا الـــــــمَـــــــلَـــــــل = سَــكـــرَة الــوَصـــلِ وَأَشــــــواق الـــصُّـــدود
هَـــــــل يـــصــــمّ الـــمَــــوتُ آذانـــــــاً وَعَــــــــت = أَنّـــــــــــــة الــــظُّــــلـــــمِ وَأَنـــــــغـــــــام الــــسّـــــكـــــون
هَــــــــل يُــغـــشّـــي الـــقَـــبـــرُ أَجـــفـــانـــاً رَأَت = خــافــيــات الــقَــبــر وَالـــســـرّ الــمَــصُــون
كَــــــم شَــرِبــنــا مِــــــن كُــــــؤوس سَــطَــعــت =فــــــــي يَــــــــدِ الــسّـــاقـــي كَــــنــــورِ الــقَـــبَـــس
وَرَشَــــفـــــنـــــا مِــــــــــــــن شِـــــــفـــــــاهٍ جَــــمَـــــعَـــــت = نَــــغــــمَـــــةَ الــــلّــــطـــــفِ بِــــثَــــغـــــرٍ أَلـــــــعَـــــــس
وَتَـــلَـــونــــا الـــشّـــعــــرَ حَـــــتّــــــى سَـــمِــــعــــت = زهــــــــرُ الأَفــــــــلاكِ صَــــــــوتَ الأَنــــفُــــس
تِـــــــلــــــــكَ أَيّـــــــــــــــامٌ تَـــــــوَلّــــــــت كَـــــالـــــزُّهـــــور = بِـهُــبــوطِ الـثَّــلــجِ مِـــــن صَـــــدرِ الــشِّــتــاء
فَــالَّـــذي جـــــادَت بِـــــهِ أَيـــــدي الـــدُّهـــور = ســـلَـــبَـــتــــه خــــلــــسَـــــةً كَـــــــــــــفُّ الــــشّـــــقـــــاء
لَـــــــــــــو عَــــرَفــــنـــــا مـــــــــــــا تَــــرَكـــــنـــــا لَــــيـــــلَـــــةً = تَـــنـــقَـــضــــي بَـــــــيـــــــنَ نُـــــــعـــــــاسٍ وَرقــــــــــــــاد
لَـــــــــــو عَـــرَفــــنــــا مـــــــــــا تَـــرَكــــنــــا لَـــحــــظَــــةً = تَــــنــــثَــــنـــــي بَــــــــيـــــــــنَ خُــــــــلـــــــــوٍّ وَسُــــــــهـــــــــاد
لَــــــــــــو عــــرَفــــنــــا مــــــــــــا تَــــرَكــــنـــــا بُــــــرهَـــــــةً = مِـــن زَمــــان الــحُــبِّ تَـمـضــي بِـالـبـعـاد
قَـــــــــــــد عَــــرَفــــنـــــا الآنَ لَــــــكِـــــــن بَــــعــــدَمـــــا = هَــــتَــــف الــــوجـــــدان قُــــومـــــوا وَاِذهَــــبـــــوا
قَـــــــــــــــد سَـــمِــــعــــنــــا وَذَكَـــــــرنــــــــا عِـــــنـــــدَمــــــا = صَــــــــــــرَخ الــــقَــــبــــرُ وَنــــــــــــادى اِقــــتَــــرِبُـــــوا



المواكب



الخير في الناس مصنوع إذا جبروا =والشر في الناس لا يفنى وان قبروا
واكثر الناس آلات تحركها =أصابع الدهر يوما ثم تنكسر
فلا تقولن هذا عالم علم =ولا تقولن ذاك السيد الوقر
فأفضل الناس قطعان يسير بها= صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر

ليس في الغابات راع=لا ولا فيها القطيع
فالشتا يمشي ولكن =لا يجاريه الربيع
خلق الناس عبيدا =للذي يأبا الخضوع
فإذا ما هب يوما =سائرا سار الجميع
أعطني الناي وغن= فالغنا يرعى العقول
وأنيني الناي أبقى =من مجيد وذليل
وما الحياة سوى نوم تراوده =أحلام من بمراد النفس يأتمر
والسر في النفس حزن النفس يستره=فان تولى فبالأفراح يستتر
والسر في العيش رغد العيش يحجبه =فان أزيل تولى حجبه الكدر
فان ترفعت عن رغد وعن كدر = جاورت ظل الذي حارت به الفكر
ليس في الغابات حزن = لا ولا فيها الهموم
فإذا هب نسيم =لم تجئ معه السموم
وغيوم النفس تبدو =من ثناياها النجوم
أعطني الناي وغن = فالغنا يمحو المحن
وانين الناي يبقى =بعد أن يفنى الزمن
وقل في الأرض من يرضى الحياة كما= تأتيه عفوا ولم يحكم به الضجر
لذاك قد حولوا نهر الحياة إلى =أكواب وهم إذا طافوا بها خدروا
فالناس أن شربوا سروا كأنهم = رهن الهوى وعلى التخدير قد فطروا
فذا يعربد أن صلى وذاك إذا= أثرى وذلك بالأحلام يختمر
فالأرض خمارة والدهر صاحبها = وليس يرضى بها غير الألي سكروا
فإن رأيت أخا صحوا فقل عجبا!= هل استظل بغيم ممطر قمر؟
ليس في الغابات سكر= من مدام أو خيال
فالسواقي ليس فيها = غير إكسير الغمام
إنما التخدير ثدي =وحليب للأنام
فإذا شاخوا وماتوا=بلغوا سن الفطام
اعطني الناي وغن =فالغنا خير الشراب
وانين الناي يبقى = بعد أن تفنى الهضاب
والدين في الناس حقل ليس يزرعه=غير الألي لهم في زرعه وطر
من آمل بنعيم الخلد مبتشر =ومن جهول يخاف النار تستعر
فالقوم لولا عقاب البعث ما عبدوا=ربا ولولا الثواب المرتجى كفروا
كأنما الدين ضرب من متاجرهم = أن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا
ليس في الغابات دين = لا ولا الكفر القبيح
فإذا البلبل غنى = لم يقل هذا الصحيح
أن دين الناس يأتي = مثل ظل ويروح
لم يقم في الأرض دين=بعد طه والمسيح
أعطني الناي وغن =فالغنا خير الصلاة
وانين الناي يبقى =بعد أن تفنى الحياة
والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا =به ويستضحك الأموات لو نظروا
فالسجن والموت للجانين أن صغروا= والمجد والفخر والإثراء أن كبروا
فسارق الزهر مذموم ومحتقر .=وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
وقاتل الجسم مقتول بفعلته =وقاتل الروح لا تدري به البشر
ليس في الغابات عدل=لا ولا فيها العقاب
فإذا الصفصاف ألقى =ظله فوق التراب
لا يقول السرو هذي =بدعة ضد الكتاب
أن عدل الناس ثلج =أن رأته الشمس ذاب
أعطني الناي وغن=فالغنا عدل القلوب
وأنيني الناي يبقى = بعد أن تفنى الذنوب
والحق للعزم، والأرواح أن قويت=سادت وان ضعفت حلت بها الغير
ففي العرينة ريح ليس يقربه =بنو الثعالب غاب الأسد أم حضروا
وفي الزرازير جبن وهي طائرة=وفي البزاة شموخ وهي تحتضر
والعزم في الروح حق ليس ينكره=عزم السواعد شاء الناس أم نكروا
فان رأيت ضعيفا سائدا فعلى =قوم إذا ما رأوا أشباههم نفروا
ليس في الغابات عزم =لا ولا فيها الضعيف
فإذا ما الأسد صاحت =لم تقل هذا المخيف
أن عزم الناس ظل =في فضا الفكر يطوف
وحقوق الناس تبلى = مثل أوراق الخريف
أعطني الناي وغن = فالغنا عزم النفوس
وانين الناي يبقى= بعد أن تفنى الشموس
والعلم في الناس سبل بان أولها =أما أواخرها فالدهر والقدر
وأفضل العلم حلم أن ظفرت به= وسرت ما بين أبناء الكرى سخروا
فان رأيت أخا الأحلام منفردا = عن قومه وهو منبوذ ومحتقر
فهو النبي وبرد الغد يحجبه =عن أمة برداء الأمس تأتزر
وهو الغريب عن الدنيا وساكنها = وهو المجاهر لام الناس أو عذروا
وهو الشديد وان أبدى ملاينة = وهو البعيد تدانى الناس أم هجروا
ليس في الغابات علم =لا ولا فيها الجهول
فإذا الأغصان مالت = لم تقل هذا الجليل
أن علم الناس طراً =كضباب في الحقول
فإذا الشمس أطلت = من ورا الأفق يزول
أعطني الناي وغن=فالغنا خير العلوم
وأنين الناي يبقى =بعد أن تطفى النجوم
والحر في الأرض يبني من منازعه =سجنا له وهو لا يدري فيؤتسر
فان تحرر من أبناء بجدته = يظل عبدا لمن يهوى ويفتكر
فهو الأريب ولكن في تصلبه = حتى وللحق بطل بل هو البطر
وهو الطليق ولكن في تسرعه =حتى إلى أوج مجد خالد صغر
ليس في الغابات حر = لا ولا العبد الذميم
إنما الأمجاد سخف =وفقاقيع تعوم
فإذا ما اللوز ألقى = زهره فوق الهشيم
لم يقل هذا حقير =وأنا المولى الكريم
أعطني الناي وغن =فالغنا مجد أثيل
وانين الناي أبقى =من زنيم وجليل
واللطف في الناس أصداف وان نعمت=أضلاعها لم تكن في جوفها الدرر
فمن خبيث له نفسان: واحدة =من العجين وأخرى دونها الحجر
ومن خفيف ومن مستأنث خنث= تكاد تدمي ثنايا ثوبه الإبر
واللطف للنذل درع يستجير به = أن راعه وجل أو هاله الخطر
فان لقيت قويا لينا فبه = لأعين قد فقدت أبصارها البصر
ليس في الغاب لطيف =لينه لين الجبان
فغصون البان تعلوا = في جوار السنديان
وإذا الطاووس أعطي =حلة كالأرجوان
فهو لا يدري أحسن = فيه أم فيه افتتان
أعطني الناي وغن =فالغنا لطف الوديع
وأنيني الناي أبقى =من ضعيف وضليع
والظرف في الناس تمويه وأبغضه =ظرف الألي في فنون الإقتدا مهروا
من معجب بأمور وهو يجهلها = وليس فيها له نفع ولا ضرر
ومن عتي يرى في نفسه ملكا = في صوتها نغم في لفظها سور
ومن شموخ غدت مرآته فلكا = وظله قمرا يزهو ويزدهر
ليس في الغاب ظريف = ظرفه ضعف الضئيل
فالضبا وهي عليل= ما بها سقم العليل
أن بالأنهار طعما =مثل طعم السلسبيل
وبها هول وعزم =يجرف الصلد الثقيل
أعطني الناي وغن =فالغنا ظرف الظريف
وأنين الناي أبقى = من رقيق وكثيف
والحب في الناس أشكال وأكثرها= كالعشب في الحقل لا زهر ولا ثمر
وأكثر الحب مثل الراح أيسره=يرضي وأكثره للمدمن الخطر
وان الحب أن قادت الأجسام موكبه=إلى فراش من الأغراض ينتحر
كأنه ملك في الأسر معتقل =يأبى الحياة وأعوان له غدروا
ليس في الغاب خليع = يدعي نبل الغرام
فإذا الثيران خارت= لم تقل هذا الهيام
أن حب الناس داء =بين لحم وعظام
فإذا ولى شباب = يختفي ذاك السقام
أعطني الناي وغن = فالغنا حب صحيح
وأنين الناي أبقى =من جميل ومليح
فان لقيت محبا هائما كلفا =في جوعه شبع في ورده الصدر
والناس قالوا هو المجنون ماذا عسى=يبغى من الحب أو يرجو فيصطبر؟
أفي هوى تلك يستدمي محاجره = وليس في تلك ما يحلوا ويعتبر!
فقل هم البهم ماتوا قبلما ولدوا .=أنى دروا كنه من يحيى وما اختبروا
ليس في الغابات عذل= لا ولا فيها الرقيب
فإذا الغزلان جنت =إذ ترى وجه المغيب
لا يقول النسر واها =أن ذا شيء عجيب
إنما العاقل يدعى =عندنا الأمر الغريب
أعطني الناي وغن = فالغنا خير الجنون
وأنيني الناي أبقى = من حصيف ورصين
وقل نسينا فخار الفاتحين وما =ننسى المجانين حتى يغمر الغمر
قد كان في قلب ذي القرنين مجزرة =وفي حشاشة قيس هيكل وقر
ففي انتصارات هذا غلبة خفيت = وفي انكسارات هذا الفوز والظفر
والحب في الروح لا في الجسم نعرفه =كالخمر للوحي لا للسكر ينعصر
ليس في الغابات ذكر = غير ذكر العاشقين
فالألي سادوا ومادوا = وطغوا بالعالمين
أصبحوا مثل حروف =في أسامي المجرمين
فالهوى الفضاح يدعى = عندنا الفتح المبين
أعطني الناي وغن = وانس ظلم الأقوياء
إنما الزنبق كأس =للندى لا للدماء
وما السعادة في الدنيا سوى شبح =يرجى فأن صار جسما مله البشر
كالنهر يركض نحو السهل مكتدحا = حتى إذا جاءه يبطي ويعتكر
لم يسعد الناس إلا في تشوقهم =إلى المنيع فإن صاروا به فتروا
فان لقيت سعيدا وهو منصرف =عن المنيع فقل في خلقه العبر
ليس في الغاب رجاء =لا ولا فيها الملل
كيف يرجوا الغاب جزءا =وعلى الكل حصل؟
وبما السعي بغاب =أملا وهو الأمل؟
إنما العيش رجاء =إحدى هاتيك العلل
أعطني الناي وغن =فالغنا نار ونور
وانين الناي شوق = لا يدانيه الفتور
وغاية الروح طي الروح قد خفيت=فلا المظاهر تبديها ولا الصور
فذا يقول هي الأرواح أن بلغت=حد الكمال تلاشت وانقضى الخبر
كأنما هي أثمار إذا نضجت =ومرت الريح يوما عافها الشجر
وذا يقول هي الأجسام أن هجعت =لم يبق في الروح تهويم ولا سمر
كأنما هي ظل في الغدير إذا=تعكر الماء ولت وامحى الأثر
ظل الجميع فلا الذرات في جسد = تثوى ولا هي في الأرواح تحتضر
فما طوت شمأل أذيال عاقلة =إلا ومر بها الشرقي فتنتشر
لم أجد في الغاب فرقا =بين نفس وجسد
فالهوا ماء تهادى =والندى ماء ركد
والشذى زهر تمادى=والثرى زهر جمد
وظلال الحور حور =ظن ليلا فرقد
أعطني الناي وغن =فالغنا جسم وروح
وأنيني الناي أبقى =من غبوق وصبوح
والجسم للروح رحم تستكن به =حتى البلوغ فتستعلي وينغمر
فهي الجنين وما يوم الحمام سوى=عهد المخاض فلا سقط ولا عسر
لكن في الناس أشباحا يلازمها =عقم القسي التي ما شدها وتر
فهي الدخيلة والأرواح ما ولدت =من القفيل ولم يحبل بها المدر
وكم على الأرض من نبت بلا أرج =وكم علا الأفق غيم ما به مطر
ليس في الغاب عقيم =لا ولا فيها الدخيل
أن في التمر نواة =حفظت سر النخيل
وبقرص الشهد رمز =عن قفير وحقول
إنما العاقر لفظ =صيغ من معنى الخمول
أعطني الناي وغن =فالغنا جسم يسيل
وأنين الناي أبقى =من مسوخ ونغول
والموت في الأرض لابن الأرض خاتمة=وللأثيري فهو البدء والظفر
فمن يعانق في أحلامه سحرا =سيبقى ومن نام كل الليل يندثر
ومن يلازم تربا حال يقظته =يعانق الترب حتى تخمد الزهر
فالموت كالبحر، من خفت عناصره =يجتازه، وأخو الأثقال ينحدر
ليس في الغابات موت =لا ولا فيها القبور
فإذا نيسان ولى =لم يمت معه السرور
أن هول الموت وهم =ينثني طي الصدور
فالذي عاش ربيعا =كالذي عاش الدهور
أعطني الناي وغن=فالغنا سر الخلود
وأنين الناي يبقى =بعد أن يفنى الوجود
أعطني الناي وغن=وانس ما قلت وقلتا
إنما النطق هباء =فأفدني ما فعلتا
هل تخذت الغاب مثلي =منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي =وتسلقت الصخور؟
هل تحممت بعطر =وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرا =في كؤوس من أثير؟
هل جلست العصر مثلي =بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت =كثريات الذهب
هي للصادي عيون=ولمن جاع الطعام
وهي شهد وهي عطر =ولمن شاء المدام
هل فرشت العشب ليلا = وتلحفت الفضا
زاهدا في ما سيأتي =ناسيا ما قد مضى؟
وسكوت الليل بحر =موجه في مسمعك
وبصدر الليل قلب =خافق في مضجعك
أعطني الناي وغن = وانس داء ودواء
إنما الناس سطور =كتبت لكن بماء
ليت شعري أي نفع =في اجتماع وزحام
وجدال وضجيج =واحتجاج وخصام؟
كلها أنفاق خلد = وخيوط العنكبوت
فالذي يحيا بعجز= فهو في بطء يموت
العيش في الغاب والأيام لو نظمت=في قبضتي لغدت في الغاب تنثر
لكن هو الدهر في نفسي له أرب = فكلما رمت غابا قام يعتذر
وللتقادير سبل لا تغيرها = والناس في عجزهم عن قصدهم قصروا




::: وفد الربيع إليك قبل أوانه :::


وفد الربيع إليك قبل أوانه يهدي حلى جناته الفيحاء
من كل بارعة الجمال يرى بها شبه لبعض خلالك الحسناء
في النظم أو في النثر من طاقاتها لطف البيان ورونق الإخفاء
نم البديع بحسنها فرأى النهى من فنها ما ليس بالمترائي
أبهج بإكليل الزفاف وقد جلا للعين كل أثيرة غراء
لو شئت صيغ من الفريد وما وفى لكن أبيت وكان خير إباء
هل في يد الدهقان أبهج زينة من زينة البستان للعذراء


ألنيل عبدك والمياه جواري


ألنيل عبدك والمياه جواري
باليمن والبركات فيه جوار
أمنته بمعاقل وجواري
وجعلته ملكا عزيز جوار
أنظر سفائنك التي سيرتها
فيه كأطواد على التيار
وانظر جنودك في الفلاة تحملوا
شر العقاب لأمة أشرار
حصروا العدو فما وقته حصونه
من بأسهم وكثافة الأسوار
يفنى بمقذوفاتهم حرقا كما
تنفى الفرائس والسباع ضوار
ويدمر النساف شم قلاعه
فيثيرها منثورة كغبار
ويدك من شوس الرجال معاقلا
فيظل شكل الموت شكل دمار
من لم يبد بالسيف منهم والقنا
فهلاكه بالماء أو بالنار
قوم بغوا فجنوا ثمار فسادهم
بالموبقات وتلك شر ثمار
ولو الزمان أراد عادوا خضعا
لجميل رأيك عود الاستغفار
لكن أبى لك أن تفوز مسالما
وقضت بذلك حكمة الأقدار
فسقيت صادئة النصال دماءهم
وكفيت خيلك داء الاستقرار
بالأمس كانوا دولة تعدودة
واليوم هم خبر من الأخبار
بالأمس كانوا سادة واليوم هم
بعض العبيد بصورة الأحرار
بالأمس يملك في الرقاب أميرهم
واليوم يملك نفسه بفرار
صغروا لديك فلم تسر لقتالهم
وهم الكبار رميتهم بكبار
ومضيت تملك أميرهم من قبلما
شب النزال وآذنوا ببوار
تجري بسيد مصر فلك ضمها
فلك من الدأماء غير مدار
سيارة جنح الظلام منيرة
في الأفق مثل الكوكب السيار
أو يستقل به مغير منجد
جواب آفاق كبرق واري
تتقذف النيران منه كأنه
أسد مثار في طلابه ثار
سر كيف شئت لك القلوب منازل
أنى انتقلت فمصر في الأمصار
واطو المغارب خافيا لو أنها
تخفي علاك مطالع الأنوار
وتلق في دار الخلافة مشرفا
ما شئت من شرف ومن إكبار
وارجع إلى الدار التي أوحشتها
عود الربيع إلى ربوع الدار
واهنأ بأبهج ملتقى من أمة
تهواك في الإعلان والإسرار
حلت سرائهم سواد عيونهم
شوقا إليك فثرن في الأبصار
أهلا برب النيل والوادي بما
فيه من الأرياف والأقطار
بالعازم العزمات وهي صوادق
ومعاقب الظلمات بالأسحار
بالفاتح الباني لمصر من العلى
صرحا يزكي شاهد الآثار
ومعقب الفخر التليد بطارف
لولاه كاد يكون سبة عار
فخر تحول مهده لحدا له
زمنا وعاد اليوم مهد فخار


يا مصر أنت الأهل والسكن


يا مصر أنت الأهل والسكن وحمى على الأرواح مؤتمن

حبي كعهدك في نزاهته والحب حيث القلب مرتهن

ملء الجوانح ما به دخل يوم الحافظ وما به دخن

ذاك الهوى هو سر كل فتى منا توطن مصر والعلن

هو شكر ما منحت وما منعت من أن تنغص فضلها المنن

هو شيمة بقولبنا طهرت عن أن تشوب نقاءها الظنن

أي الديار كمصر ما برحت روضا بها يتقيد الظعن

فيها الصفاء وما به كدر فيها السماء وما بها غصن

مصر التي ليست منابتها خلسا وما في مائها أسن

مصر التي أبدا حدائقها غناء لا يعرى بها غصن

مصر التي أخلاق أمتها زهر سقاه العارض الهتن

مصر التي أخلاقها حفل ويدر منها الشهد واللبن

كذب الأولى قالوا محاسنها توهي القوى وجنانها دمن

فهي التي عرفت مروءتها أمم ويعرف مجدها الزمن

وهي التي أبناؤها شهب عن حق مصر ما بها وسن

يذكو هاها في جوانحهم كالجمر مشبوبا وإن رصنوا

هم وارثوا آلامها وبهم سترد عن أكنافها المحن

صحت عقيدتهم فليس تهي في حادث جلل ولا تهن

لله وثبتهم إذا استبقت فيها النهى وتبارت المنن

داعي المبرة والوفاء دعا فأجابت العزمات والفطن

صوت من الوادي تجاوب في ترديده الأسناذ والقنن

روح البلاد تنبهت فجى ما أكبرته العين والأذن

جرت المسالك بالرجال وقد غمرت بهم رحباتها المدن

جري الأتي يفيض منطلقا من حيث يطغى وهو مختزن

من كل مدثر بثوب هدوى لدياره أو ثوبه الكفن

رهن الحياة بعزها فإذا هانت فما لحياته ثمن

ساد الإخاء على الجموع فلا رتب تميزها ولا مهن

فرق تقاربت القلوب بها وتناءت البيئات والسن

لا جنس بل لا دين يفصلها والخلف ممدود له شطن

ألإلف والسلم الوطيد يرى حيث الحفائظ كن والفتن

فإذا بدا فيم وقف ضغن لم يعد رأيا ذلك الضغن

الشعب إن يصدق تكافله ببلوغ غايات العلى قمن

كل يقول وما بمقوله كذب وما في قلبه جبن

يا أيها الوطن العزيز فدى لك مالنا والروح والبدن

منك الكرمة والوجود معا فإذا استعدتهما فلا حزن

حييت يا صلة مباركة شدت ولن يلفى بها وهن

اهلا برهط الفضل من نجب بهم التقى والعلم واللسن

بالناصحين ونصحهم بلج بالناهجين ونهجهم سنن

خير الدعاة الى الوفاق على ما يقتضيه الشرع والسنن

جادوا بسعي لا يوازنه بالقدر حمد جل ما يزن

بجميل ما صنعوا وما رفعوا فاز الوئام وخابت الإحن

حكماء إن عرضت لأمتهم حاج فهم لأدقها فطن

الأزهر الزهى له منن عظمت وهذي دونها المنن

فلتحيا مصر وتحيا أمتها ولترق أوج السعد يا وطن


يا أيها الخافق فوق هامنا

يا أيها الخافق فوق هامنا أشرف ودم فوق البنود بندا

أنت الذي صنت الحمى وأهله قبلا وحررت النفوس بعدا

أنت الذي بعثتنا من الردى وجئتنا بالفخر مستردا

أنت الذي تقبس كل خامد إيمانه من اليقين وقدا

أنت الذي تجلو الهلال زاهرا في كل حين والسماء وردا

أنت الذي تترك أنوار الضحى حواسدا منك الظلال الربدا

طاول فما فيئك إلا أمة ملء البلاد قادة وجندا

أحلاس حرب حلفاء حكمة في السلم غر همة ورفدا

في مثل هذا العيد عاهدناك لم نكذبك واليوم نعيد العهدا

ذمتنا ذمتنا عند العلى والفوز كان للثبات وعاءا


سكـــوتي إنشاد

سكـــوتي إنشاد وجوعــي تخمــــــة ... وفي عطشي ماء وفي صحوتي سكر

وفي لوعتي عرس وفي غربتي لقا ... وفي باطني كشف وفي مظهري ستر

وكم أشتكـــي همــا وقلبــي مفاخـــر ... بهمي وكم أبكي وثغري يفــــتر

وكـم أرتجــي خلا وخلي بجــانبــي ... وكم أبتغي أمرا وفي حوزتي الأمر

وقد ينثــر اللـيــل البهيــم منازعــي ... على بسط أحلامي فيجمعها الفجر

نظرت إلى جسمي بمرآة خاطــري ... فألفيته روحـــا يقلصــــه الفكـــر

فبي من براني والذي مـد فسحتـــي ... وبي الموت والمثوى وبي البعث والنشر

فلو لم أكــــن حيـــا لمـــا كنت مائتا ... ولولا مرام النفس ما رامني القبر

ولما سألت النفس ما الدهر فاعــــل ... بحشد أمانينا، أجابت.... أنا الدهر








 
/
موضوع مغلق

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:38 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط