العنقاء سنية صالح يليق بها الضوء " زياد السعودي " - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: ثلاثون فجرا 1445ه‍ 🌤🏜 (آخر رد :راحيل الأيسر)       :: أُنْثَى بِرَائِحَةِ اَلنَّدَى ! (آخر رد :دوريس سمعان)       :: تراتيل عاشـقة .. على رصيف الهذيان (آخر رد :دوريس سمعان)       :: هل امتشقتني؟ (آخر رد :محمود قباجة)       :: ،، الظـــــــــــــــلّ // أحلام المصري ،، (آخر رد :محمود قباجة)       :: فارسة الأحلام (آخر رد :محمود قباجة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: بَغْيٌ وَشَيْطَانَانِ (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: وَأَحْتَرِقُ! (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: شاعر .. (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: أحـــــــــزان! // أحلام المصري (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: ما زال قلبي يخفق (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: مملكة الشعر الخالدة (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: افطار ودعاء (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: كلما أجدبت الارض ناديت ملح امي! (آخر رد :فاتي الزروالي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-03-2010, 12:02 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي العنقاء سنية صالح يليق بها الضوء " زياد السعودي "

سلام الله

تعودنا ان نضع نصا
تحت الضوء ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربة فذة
نستميح روح السنية الف عذر
لنضع سنية صالح تحت الضوء
اذ بها يليق الضوء
آملين رفدنا من خلال مشاركاتكم
وبما لديكم في أرشيفكم الخاص
من مواد أدبية وسواها تمت لصلة
بالراحلة سنية صالح ونتاجها

نتمنى ان نصل الى موسوعة فينيقية
تلقي الضوء على تجربة الشاعرة السورية الراحلة
علنا نسهم في اثراء المكتبة الرقمية
انصافا متواضعا ...واسهاما فينيقيا
لشاعرة لا يليق بها الظل


والشكر الشكر لكل من سيرفدنا
ولكل من سيعبر ويقرأ
وباسم الله نبدأ




الشاعرة السورية سنية صالح تحت الضوء




تقديم
-------


كاتبة وشاعرة سورية ، ولدت في مدينة مصياف في محافظة حماة عام 1935.وهي زوجة الاديب السوري محمد الماغوط، التقت به في بيت الشاعر السوري أدونيس في بيروت في الفترة التي قضاها الماغوط هناك في أواخر الخمسينيات، وتزوجته عندما كانت طالبة في كلية الآداب في جامعة دمشق في الستينات .

أنجبت منه ابنتين هما شام و سلافة ، لها عدة دواوين شعرية
توفيت سنية صالح عام 1985 في مستشفى في ضواحي باريس
بعد صراع مع المرض استمر 10 شهور.



شاعرة كبيرة في وطن صغير
----------------------------

«إنها شاعرة كبيرة، لم تأخذ حقها نقدياً. ربما أذاها اسمي، فقد طغى على حضورها. كانت شاعرة كبيرة في وطن صغير»، بهذه العبارة اختصر الشاعر الراحل محمد الماغوط، ذات يوم، تجربة رفيقة دربه سنيّة صالح (1935- 1985). كانت صاحبة «حبر الإعدام» شاعرة مفردة حقاً. لكنّ المعجم النقدي أهملها طويلاً في حياتها وغيابها، فهي «لا تنحدر من سلالة شعرية» أو تيار. كتبت ألمها الشخصي وذاتها الجريحة وأحلامها المنكسرة بصمت وعزلة وتمرد، على رغم أنها دخلت حقل الشعر كالإعصار، بعدما فازت قصيدتها «جسد السماء» بجائزة صحيفة «النهار» عام 1961. وكانت مفاجأة حقيقية للجنة تحكيم الجائزة آنذاك.




أعمالها
---------

الزمان الضيق (شعر) عن المكتبة العصرية - بيروت (1964).
حبر الإعدام (شعر) عن دار أجيال - بيروت (1970).
قصائد (شعر) - عن دار العودة - بيروت 1980.
ذكر الورد - (كتاب) الصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر- بيروت 1988.
الغبار (قصص) عن مؤسسة فكر للابحاث والنشر بيروت 1982.




جوائز فازت بها
----------------


جائزة جريدة النهار لأحسن قصيدة حديثة عام 1961.
جائزة مجلة "حواء" للقصة القصيرة عام 1964.
جائزة مجلة "الحسناء" للشعر عام 1967.



الاعمال السنية الكاملة
-----------------------

صدور أعمالها الكاملة في دمشق (منشورات وزارة الثقافة)، حدث استثنائي يعيد بعض الحق الضائع إلى «آخر طفلة في العالم». قدمت للأعمال الكاملة شقيقتها الناقدة خالدة سعيد بدراسة شاملة رصدت خلالها المختبر الشعري الذي بلور تجربة سنيّة صالح. واعتبرت أنّ الألم الذي رافق شعرها هو ترجيع لانكسار الحلم وتصدع الصورة التكونية للعالم وقلق الإحساس بالذات والإحساس بارتجاج موقع الذات ومرتكزها وأفق حضورها. وكان الشعر هو الضوء السري الذي بقدر ما يكشف هول الصراع في التجربة، يقدم المعاني الخلاصية.
ديوانها الأول «الزمان الضيق» (1964)، كان بياناً شعرياً لعبور النار واشتعال الجسد والعقل والمخيّلة بحمّى الكشف، كما لو أنّ الشعر هو حلم وحدس ومكاشفة غامضة لردم الآلام. وهو ما تشير إليه خالدة سعيد إذ تكتب: «هو شعر على حدة لا يشبه أحداً، وليس منضوياً في تيار. شعر لحزن متوحش ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق المطعون المسحوق عبر التاريخ. بقدر ما ينشد حكاية المغدورين، يتقدّم كصيحة للجسد الذي انتهى بين المباضع وأسرّة المشافي».

هل كان شعر سنيّة صالح عصياً على المساطر النقدية، كي يُهمل ويُقصى بعيداً من تجربة الستينيين؟ قد يكون هذا سبباً جوهرياً. وقتها لم تكن الشاعرة في وارد الهتاف ودقّ النفير، بل ذهبت في اتجاه الذات ومكابداتها الشخصية، و«طلبت من الحب أن يكون ثأرها من العالم وحصانها السحري للنجاة». تذكر خالدة سعيد أنّ سنيّة كانت صامتة على الدوام في طفولتها، وتبيّن لاحقاً أنها كانت تكتب أحاسيسها على كراساتها المدرسية بوصفها مجرد «خربشة». وفي بيروت أواخر الخمسينيات، لفتت انتباهها في مجلة «شعر» أولاً قصيدة سان جون بيرس «ضيقة هي المراكب» التي ترجمها أدونيس، ما يعطي فكرة عن حساسيتها المختلفة عمّا كان يُكتب من شعر. وفي حوار مبكر معها إثر فوزها بجائزة جريدة «النهار»، قالت: «أنا أعجز أن أغيّر العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه. أحسّ أنني كمن يتكلم في الحلم. ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟». لم تكن القصيدة رصاصة إذاً، كما كان يتردد آنذاك، إنما تاريخ للطغيان وأرجوحة تتطاير بين الخارق الخرافي والمهمش والفاجع. تشير خالدة سعيد إلى «عالم معطوب ورؤيا جامحة وفوران سديم وأحشاء غاضبة وخيال طفولي. كان الشعر حربها وصراخ جسدها وروحها. كان ثأرها وخشبة الخلاص وفخ الأمل».

لن يجد القارئ في شعر سنيّة صالح عناصر مألوفة ولغة منتهكة. سوف يفاجأ بمفردات صادمة لذائقته، وسيواجه عالماً معدنياً، وبراكين من زرنيخ، وضمادات وأسيد وبوتاسيوم و«قمر طويل للنفايات». في هذا المختبر، تنمو قصيدة سنية صالح كما لو أنها مشتل الخراب والهذيان. تتكشّف الفجائعية على نحو واضح في ديوانها الثاني «حبر الإعدام» (1970)، إذ لا زهور في شعرها ولا عطور ولا مشاهد لنزهة العين. الكلمة هنا، وفق ما تقول خالدة سعيد، «صرخة وجع لا تنتج الجمال والمتعة بل تفتح المداخل على التجربة. الكلمة هنا رسالة لتقليب الهويات فوق المشاهد الشاسعة لإنسانية مسحوقة، فهي تعمّر المشهد بالمفارقة كأنها تعد لفيلم سريالي».

في المقدمة التي كتبتها لديوانها الأخير «ذكر الورد» (1988) الذي صدر بعد وفاتها، تكشف سنيّة صالح عن استراتيجيتها الشعرية: «عندما تحضر الحمّى الشعرية أخفف من حدة يقظتي، وأستسلم. ألغي مقاومتي لأعماقي إلى أقصى حد ممكن. تلي ذلك عملية تدفق داخلية، ترافقها عملية استسلام في الإرادة والحواس. ثم أدوّن ما أحصل عليه في مرحلة الهذيان هذه». هكذا تنهض القصيدة لديها على إضاءات حلمية، تقوى لحظة الانفجار الداخلي في مخاض عسير ومؤلم. تنسحب الشاعرة إلى أعماقها، إلى عالم سري غامض. قراءة «ذكر الورد» الذي كتبت قصائده بين باريس ودمشق خلال رحلة مرضها، تختزل العطب الذي عاشته سنية صالح بفقدان الأمل ونشوة الحب. في قصيدتها «امرأة من الطباشير»، تقول: «كيف يدخل الربيع والحب إلى جسد تحكمه الخسارة؟». الخسارة المعلنة سوف تكون محور قصائدها الأخيرة وأرشيفها في تدوين الألم: «أهدابي يتراكم عليها صدأ العزلة، وزرنيخ المنفى. أطلق سراحنا، فتحتَ لساني مصنّف مليءٌ بالإهانات، بذلّ يكفي لنسيان جميع الحريات». لم تتوقف سنيّة صالح عن كتابة الشعر حتى اللحظة الأخيرة. خلال العلاج الكيميائي أيضاً. الشعر كان عزاءها ووصيتها. تضيء «الأعمال الكاملة» جوانب من سيرتها وعالمها الخاص. نتعرف إلى نصوص غير منشورة، شعرية وقصصية، وبعض مذكراتها «سنيّة صالح، من أنت؟» التي في حوزة ابنتيها شام وسلافة، إضافة إلى حوار أجراه معها محمد الماغوط ونُشر في مجلة «مواقف» (1970) تحت عنوان «حين تكون الضحية أكثر إشعاعاً من النجوم». في تقديمه للحوار، يكتب محمد الماغوط بنوع من طلب الغفران والاعتراف: «في كل قصائدها تبدو زهرة عارية إلا من عطرها وعمرها القصير، تبحث وسط عري الكتب والأشخاص والأيام عن ربيع ما. ربيع ضائع قد لا يأتي أبداً. تبدو قصائدها وسط اللطخ الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تغطي العالم العربي بيضاء ناصعة كثياب الراهبات».




سنية صالح تخرج من ظل الماغوط
--------------------------------------

د. عابد اسماعيل
من شعور دفين بالفقدان، ووعي مأسوي بفداحة العيش في الظلّ، تولد قصيدة الشاعرة السورية الراحلة سنية صالح زوجة الشاعر محمد الماغوط. من ضبابية حلم مستحيل، أو كَدَر رغبة لا تتحقّق، تتوالد صورها الشعرية وتتواتر؛ ومن لحظة مغيب قصوى، تهبط كناياتها، حارة، ملتهبة، لتشعل ليل القصيدة. قصيدة حزينة، متألمة، ومتأمّلة، ترمق العالم بنظرة رثائية، وتزيح القناع عن الجوهر القاتم للوجود. قصيدة تعي عبثية الأشياء في الزمن، واتساع الخواء الكوني، الذي يتغلغل في ثنايا الروح، ويزيد البياضَ إبهاماً. أليس الشعر، كما تقول في إحدى مقدماتها: «عملية عبور النار، واشتعال الجسد والعقل والمخيلة بحمّى الكشف». من هذا الكشف، تحملُ سنية صالح ألمَها إلى أتون القصيدة، تدون فكرتها عن العطب الكوني، وتترجم يأسها اعترافات وجدانية حارة، ينصهر فيها الواقعي بالسريالي، والرمزي بالانطباعي. ولأنها شاعرة «فطرة» بامتياز، ولا يهمّها الشكل بذاته، فإن حسّ البنية في قصيدتها يغيب، وتتراجع الصنعة الفنية ليحضر وهج ذاك الألم الخفي فحسب. أحياناً تكون العلّة في الأنا، التي لا تهدأ لحظة عن الحلم، وأحياناً في اللغة، التي تحرن وتعاند وتراوغ، وطوراً في الثقافة، التي تكرّر آليات بطشها، وتعيد تأبيد مفاهيم وقيم آفلة، وأحياناً في التاريخ المدون ذاته، القائم على القسوة والعنف.

في شعرها يتفتّح ذاك الألم، ويورق نضراً، مشعاً، لاذعاً. وكما تشير خالدة سعيد، شقيقة الشاعرة، في تقديمها للأعمال الكاملة، التي رأت النور حديثاً، وصدرت عن وزارة الثقافة السورية، 2007، فإن سنية صالح طالما ربطت ولادتها بخيبة وفقدان. وتروي سعيد، في مقدمتها البديعة التي تمزج الشخصي بالفكري، والوجداني بالنقدي، كيف أن سنية كانت قليلة الكلام، حتى سن العاشرة، لكنّ صمتها لم يكن «خالياً أو مقفراً»، بل صمت من «رأى ولم يجد لما رأى تعبيراً». بيد أن سنية سرعان ما تجد طريقة لفك عقدة لسانها، وتفوز بجائزة شعرية لأفضل قصيدة عام 1961، بعنوان «جسد السماء»، كانت قد نظّمتها جريدة النهار، ومنحتها الجائزة لجنةٌ مؤلفةٌ من خمسة شعراء هم شوقي أبي شقرا وصلاح ستيتية، وفؤاد رفقة وأدونيس وأنسي الحاج الذي كان مشرفاً على القسم الأدبي آنذاك، حيث وصف لغة القصيدة بقوله إنّ «نزعتها شخصية، وتكنيكها مناخي أكثر منه عضوي». وقد كان لافتاً الصوت الشعري المتفرد لسنية صالح في تلك القصيدة الغنائية الحزينة، والتي قال عنها عباس بيضون، بعد مرور ربع قرن، في جريدة السفير، عام 1985، إنها «يتيمة من يتيمات الشعر الحديث ليس لها أب فارع ولا نسب قوي». هذا التفرّد ستحمله الشاعرة معها في رحلة عمرها القصيرة، وتحافظ على نبرة شخصية، ذاتية، تشيع مناخاً نفسياً، آسراً، وهذا ما يلمسه القارئ بعد الانتهاء من قراءة دواوينها التي جاءت مرتبةً في (الأعمال الكاملة) تبعاً لتسلسل نشرها: «الزمان الضيق» عام 1964، و «حبر الإعدام عام 1970، و «قصائد»، عام 1980، و «ذكر الورد، عام 1988، الذي ظهر بعد وفاتها، إضافة إلى قسم جاء تحت عنوان «قصائد غير منشورة»، وضم خمس قصائد، تبرز من بينها قصيدة غير مكتملة بعنوان «ثوب الهواء»، تكشف مقدرة سنية العالية في توظيف الرّمز، والتعبير عن التجربة الداخلية بالقليل من التلميح والإيماء: «انقضضتُ على فأس المياه/ وغاص خنجر الغبار في صدري،/ ما أسرع فرس الأحلام في الفرار/ وبراري المستحيل تتشقّق».

لكن تشقّق الرغبات، والركض اليائس خلف فرس الأحلام، لم يكن وليد اللحظة، فقد بدأ حقاً مع قصيدة «جسد السماء» التي تفتتح ديوانها الأول «الزمان الضيق»، وهنا نرى سنية تعلن عن رغبتها بإماطة اللثام عن صمتها، وكأنّ الأوان قد حان لتعبّر عما تراه، متخطية وعورة الخطاب الأيديولوجي السائد، وتركز على يأسها الشخصي، وتطلق نبوءة مبكرة عن ليل بدأ يزحف نحوها بخطى واثقة: «ها أنا أتدحرج كالحصى إلى القاع/ فليكن الليل آخر المطاف». على هذا المنوال، تتوالى قصائد الديوان الأول، حارة، ذاتية، داكنة، ترثي وتدين وتستشرف. في قصيدة «أغنية زنجية» من الديوان ذاته، تصل نبرة الاعتراف أوجها، وتتكلم سنية بلسان الأنثى المضطهدة، التي تجد في الشعر ملاذاً للتعبير عن تاريخ طويل من القمع والإقصاء: «أشمّ رائحة احتراقي/ آتيةً من غابة الموت/ آتيةً تهدرُ على الدروب/ وأنا وحدي الضحية.» إن شعور الضحية لازمها طوال سني حياتها، كما يشير الشاعر عبده وازن في مقال له عن علاقة سنية صالح بزوجها الشاعر محمد الماغوط، حيث انها عاشت «ضحية شهرته ومزاجاته المتقلبة وطباعه الحادة». والغريب أن سنية صالح كانت تميل إلى التكتم على هذا العذاب اليومي، بل وتعلن نقيضَه، في أكثر من مناسبة، ففي حوار أجرته معها مجلة الحسناء عام 1980، تعلن أنها أحبّت الماغوط «بعنف وصدق وإخلاص لا مثيل له،» ثمّ تضيف، «لقد غزاني بالشعر في وقت لم يكن يملك فيه إلاّ الشعر». هذه العلاقة الملتبسة بدأت عام 1963، إبان لقائها وارتباطها به، واستمرت حتى وفاتها عام 1985. وتذكّرنا هذه العلاقة بمحنة الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي انتحرت في سن الثلاثين (عام 1963)، وكانت تربطها علاقة عاصفة بزوجها الشاعر الإنكليزي الراحل تيد هيوز.

في ديوان سنية صالح الثاني «حبر الإعدام» استمرار للنبرة الرثائية عينها، واتكاء على المكاشفة التعبيرية، وانفتاح على الذات وتناقضاتها المزمنة، ووقوع في شرك الكينونة بصفتها محنةً وبلوى، حيث تستحضر الشاعرة مناخات كئيبة تذكّر بعوالم أبطال سارتر وكامو، وشعور هؤلاء بالغثيان من محض وجودهم في العالم. في قصيدة «الموت القاطع»، على سبيل المثال، تعبر الشاعرة عن مأزقها كضحية أزلية، حيث الموت يتربّص لها وراء الباب: «يا موت،/ يا من تنتظرني على الأبواب/ حاملاً سيفك القاطع/ اتبعني... اتبعني/ أنا الضحية التي تقتفي أثرك». والعجيب أن رؤيا الموت ستلاحقها، لتشكّل أرضية متحركة للعديد من قصائدها. في ديوانها الثالث «قصائد»، تتنوع المواضيع وتتشعّب، وتختلط نبرة الهجاء في قصائد مثل «جرذان التاريخ» أو «خريف الحرية»، بنبرة البوح الدافئة، كما في قصيدة «شام، أطلقي سراح الليل»، التي تترجم شعورها بأمومة خرافية. كما يضم هذا الديوان قصيدتها الطويلة، الرائعة، «وداعاً يا زنوبيا»، التي تتماهى فيها مع شخصية الملكة التدمرية التي استباح الرومان مملكتها، واقتادوها إلى روما، مكبلة بالقيود. في ديوانها الرابع، (ذكر الورد)، آخر دواوينها، والذي كتبته أثناء مرضها، يهيمن هاجس الفناء، وتعلو الغنائية الشجية لتصل ذروتها، ويشف البوح، وتصل التلقائية درجة عالية من الإدهاش. طوراً نراها تستعيد صورة ابنتها، كما في قولها، «سلافة تهزّ شجرة الغيوم/ فتسقط الدموع كلّها/ الدموع التي أغفلها التاريخ»، وتارة تعيد تذكيرنا بصمتها القديم، الذي رافقها طوال سني حياتها الأولى، كأن تقول في قصيدة «رامبو الألف وبودلير العشرين»: لماذا لا تصغون إلي؟/ لساني الثقيل سيذهلكم/ إذا ما انطلق مرّة واحدة». وقد انطلق لسانها، كاشفاً عن فصاحة سلسة، صافية، تدهشنا حرارته وبدائيته، حيث الأنا تمثل بؤرة اعتراف في كل قصيدة تقريباً. في مقدمة كتبتها خصيصاً لديوان «ذكر الورد»، تشرح الشاعرة رؤيتها للقصيدة، ولفن الشعر بعامة، كاشفة عن ثقافة عميقة، ووعي مدهش بتقنيات الكتابة الشعرية. وهي في هذا تمثل نقيض الماغوط، الذي طالما نبذ الثقافة ورفض حديث الكتب والنظريات. وإذا كانت تتقاطع مع الماغوط في تمسّكها بالتلقائية، واحترام الومضة الأولى، إلا أنها تختلف عنه من حيث فهمها لأهمية الدُربة والثقافة، وضرورة وعي تلك الآليات الشعورية واللاشعورية التي تشكّل جوهر العمل الأدبي. أليست القصيدة، كما تقول في مقدمتها، فاعلية قائمة على الصور والاستعارات والرموز، وتنهض «على إضاءات حلمية، تقوى لحظة اضطرام الطاقة التخيلية أو لحظة الانفجار الداخلي»، كما أنها تقوم على الحلم ذاته بما أن «الحلم، هو بشكل ما، واقع آخر، واقع شفاف هيولي، واقع ممكن، بل هو رحم تتوالد فيه الوقائع». هذا يعيدنا إلى مقدمتها لأعمال الماغوط، بعنوان «طفولة بريئة وإرهاب مسن»، والتي تمثل ركيزة أساسية في فهم حياة الماغوط وشعره، وفيها نقرأ جملتها الافتتاحية الشهيرة: «مأساةُ محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط». وتبرز موهبة سنية النقدية أيضاً في مراجعات قليلة، أصيلة ومبدعة، لبعض نصوص أدونيس وحيدر حيدر، فضلاً عن قراءات ذكية حساسة في الأدب الإنكليزي لبعض أعمال همينغواي وتينيسي ويليامز، كانت تنشرها في مجلة «مواقف»، ومجلة «الأحد» البيروتية.

واللافت أن قراءاتها تبحث عن المتعة في الدرجة الأولى، وهي جمالية، شعرية، في جوهرها، لا يحكمها ناظم نقدي أو منهجي. فالشاعرة تعتمد على ذائقة عالية، وثقافة حاضرة دوماً. كما أنها تجد بعضاً من ذاتها في كل ما تقرأ. فشخصية لورا في مسرحية «حديقة الحيوانات الزجاجية» لتينيسي ويليامز، تشدّ انتباه سنية صالح بسبب ما تعانيه من ذعر داخلي في علاقتها مع العالم حولها، وما اختيارها العزلة المطبقة، بصحبة كائناتها الزجاجية البكماء، سوى فعل انسحاب من الواقع، يقترب من الانتحار البطيء. وتصف سنية حياة البطلة بقطعة زجاج شفاف «وقد مسّها الضوء فأضفى عليها تألقاً عابراً، لا هو بالحقيقي ولا هو بالدائم». ويكاد هذا الوصف ينطبق على حياة سنية ذاتها، التي اتسمت بهشاشة لا مثيل لها. كما تبرز موهبة الشاعرة النقدية أيضاً في بعض الحوارات القليلة التي أجرتها مع بعض شعراء تلك الفترة، كالحوار الذي أجرته عام 1971 في مجلة «مواقف» مع الشاعرين ممدوح عدوان ومحمد عفيفي مطر، حيث يفاجئنا أسلوبها المتدفق، وفكرها الوقّاد، ونقرأ تعريفاً بديعاً للقصيدة تقول فيه: «القصيدة هي في الهواء الطلق. تخرج وتدخلُ إلى الشاعر بحركة سرية، متخفية كالأرواح. تلزم لمن يتعرف إلى مسالكها عينا نبي».

بقي أن نشير الى أن «الأعمال الكاملة»، التي جاءت في مجلد واحد، ضمّت أيضاً مجموعة قصصية يتيمة نشرتها سنية صالح عام 1982، بعنوان «الغبار». وهي تحوي سبع قصص قصيرة، تصفها خالدة سعيد، في المقدمة، بقدرتها على «التقاط الحركة ورسم تحولات السلوك وانقلاباته»، وتبيّن نفاذاً وقدرةً خاصّة «على تصوير المواقف والحالات والمشاعر الرجراجة المسنونة المرتبكة الواقفة فوق سراط التحول». وثمة أربع قصص أخرى، تُنشر للمرة الأولى، أُدرِجت تحت عنوان «قصص غير منشورة»، وبعضها يبدو غير مكتمل، من جهة انسجام الحبكة، أو اكتمال الشخصيات. هذا التنوع من شعر وقصة ونقد وخاطرة، يكشف النقاب عن موهبة سنية صالح الكبيرة، التي لم يُقدّر لها أن تأخذ حقّها من الدرس والتحليل والنقد، ولعلّ نشر أعمالها الكاملة الآن يمثل خطوة مهمة في إزاحة بعض الضباب الذي لفّ حياتها وشعرها، وكاد يطمس صوتها الرّيادي، بعد أن عاشت في الظلّ طويلاً، أسيرةَ مرضها العضال، وأسيرة الشهرة الطاغية لزوجها الشاعر محمد الماغوط .



كان الشعر وعدها وعزاءها ومفتاح السر
------------------------------------------

سعد الحميدين

"هناك نجمتان تضيئان العالم. هاتان النجمتان الجميلتان هما ابنتاي.لقد اكتشفت من خلالهما الشعر".

سنية صالح شاعرة بالطبيعة، خلقت لتكون شاعرة ورسمت حياتها شعرا ينبع من كينونة ذات جذور وأصل في الإبداع والفن، ففي سنواتها الأولى في مجال كتابة الشعر تحصلت على جائزة وربما قصيدتها الأولى التي حاولت أن تطل من خلالها على الساحة الثقافية العربية لفتت إليها الأنظار وطرحت الأسئلة المعهودة من قبل المتلقين من تكون هذه السنية؟

وكانت الإجابة: فوز قصيدتها "جسد السماء" التي قدمتها ضمن مسابقة جريدة النهارلعام 1961فاجأتها مثل الآخرين.

وكما قالت عنها الناقدة خالدة سعيد: "لقد فاجأت الجميع لأنها كانت صامتة ودخلت دائرة الشعر بلا مقدمات ودون أي ادعاء". لكنها كانت تكتب ماتعتقد انها خربشات على جلد الكراسات المدرسية وبعض الصفحات للتسلية ومحاولة التنفيس عن طريق الرسم بالكلمات، وبدأت تحس بقيمة ما تكتب كما أحس به المقابلون ممن لهم عيون تستوعب الآتي وحاسة تتقبل الجديد بذوق وروية بفعل الفحص والتدقيق في المسألة الإبداعية.

باقترانها بالشاعر الكبير محمد الماغوط فاتح باب قصيدة النثر كانت تعطي ولكن عطاءاتها الرفيعة المستوى وشاعريتها المتفردة سارت في طريقها دون أن تتأثر بالملاصق اقتباسا أو تقليدا بل كان لها نبعها الخاص وجدولها الأخص فهي تضيف وتكبر في صورتها التي رسمتها كمبدعة ذات سمة وخصوصية "وقد كان الشعر شطرا صميميا من حياتها. كان وصيتها وصوتها الذي يبقى".

وعندما تصف نفسها تقول: نشأت تحت المطر والريح ولا يزال مطر تلك الأيام يلسعني وريحها تسوقني. وقد أحببت محمد الماغوط بعنف وصدق وإخلاص لا مثيل له لقد غزاني بالشعر في وقت لم يكن يملك فيه إلا الشعر.

مع زوجها الحبيب أنجبت زهرتين (شام وسلاف) هما جناحا الحب اللذان ظلا يرفرفان ويطيران بهما في عالم الإبداع، فحب الأم وحب الأب هما محيط حب الابنتين ومثلما توالى نتاج الماغوط: حزن في ضوء القمر، والعصفور الأحدب، غرفة بملايين الجدران. كانت سنية تبدع وتطبع: الزمان الضيق، حبر الإعدام، قصائد، ذكر الورد،

وبعض القصص والكتابات النقدية والصحفية.

سنية صالح شاعرة مجَّدها وأحبها الجميع لكن صورتها انحشرت في الإطار بين زوجها الشاعر محمد الماغوط وأختها الناقدة خالدة سعيد، الشاعر تمدد على الساحة عرضا وطولا كمبدع متميز ألقى بظلاله على مساحة قصيدة النثر في بداياتها الجديدة عبر مجلة شعر، وخالدة سعيد دخلت الساحة كناقدة حداثية تتألق بامتداد الزمن، متماهية مع طروحات الزوج أدونيس.

لكن صورتها كانت تبرز بينهما بتحد وقوة ووضوح، غير أن الوهج الإعلامي له دوره إنه عندما يركز يصنع نجما وعندما يتجاهل يضيِّع ويُنسي، فمهما كانت الأعمال ومدى صدقها وعمقها فإنها تكون بحاجة للدعم الإعلامي لتتخطى الخاصة وتصل للعامة كسواد أعظم يضيف أبعادا لمساحات التحرك والبروز.

رحلت سنية قبل الماغوط بسنوات وظل الشاعر بين (شام وسلاف) وصورة سنية محفورة في قلبه الذي افرغه لتستولي على كل مساحاته لا يذكر إلاها ولا يستطيع أن يعيش مع سواها فهي لا ولن تتكرر، قال عنها لخليل صويلح: سنية هي حبي الوحيد نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت معي ظروفا صعبة، لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة وأكبر من كون إنها شاعرة كبيرة لم تأخذ حقها. ربما آذاها اسمي، فقد طغى على حضورها، وهو أمر مؤلم جدا. كما أنها لم تأخذ حقها نقديا"

عاشت مغلفة بيقينها الشعري، متعلقة بأمل الذي يجيء من لدن الشعر، بل لائذة بعصمة الحقائق الشعرية وببهاء هذا العالم الذي اعطاها مفتاحه وأجزل الوعود، كانت معتدة بهذه العلاقة الخصوصية بالشعر، بل بالعلاقة شبه السرية مع الشعر، بعيدا عن المنابر والأضواء والعناوين، كان الشعر وعدها وعزاءها ومفتاح السر... هكذا قالت عنهاالناقدة خالدة سعيد في مقدمتها للأعمال الكاملة .




سنية صالح تؤنب العالم



صدرت في سلسلة "كتاب في جريدة" مختارات شعرية للشاعرة السورية الراحلة سنية صالح. الشاعر ممدوح عدوان، اختار القصائد وقدم للشاعرة بكلمات مؤثرة، ومغرقة في العاطفية. يجنح التقديم في الغالب الى المدح ووصف شخصية الممدوح، لكن الشاعر المختلف، استطاع عبر مقدمته المؤثرة، أن يقبض على مفاصل أساسية في النتاج الشعري لسنية صالح من خلال كلماته الدقيقة والصائبة التي اختزلت تجربتها وسلطت الضوء على صوت الشاعرة الخاص. فسنية صالح، على ما يقول، "تؤنب العالم"، وهي شاعرة "متماهية مع الطبيعة".

صدور هذه المختارات بعد نحو عشرين عاماً على وفاة سنية صالح، يسمح للقصيدة (قصيدة النثر هنا) أن تتحرر في اتجاهين: من النظرية الصارمة التي سابقت قصيدة النثر أكثر مما رافقتها أولا، ومن المرجعيات القسرية التي طالما فرضها النقد والتنظير على قصيدة النثر ثانياً.

كيف تكون القراءة اذاً، بعيداً من مصطلحات التنظير الغائمة العائمة كالإيقاع الداخلي والكثافة وما شابه، وبعيداً ايضاً من مرجعيات توحي للوهلة الأولى أنها متعددة، بيد أنها لا تلبث أن تنتظم في نسق وحيد يكبل القصيدة وفضاءها؟ بمعنى أن القراءة النقدية دأبت على النظر الى القصيدة التي كتبها الرعيل الثاني من شعراء قصيدة النثر (وهو الرعيل الذي تنتمي اليه سنية صالح بخجل) كسليلة للشعر الغربي، او كسليلة لنتاج الرواد الأوائل المكرسين كونهم رواداً فقط، من دون أن ننسى أن هؤلاء الرواد اعتبروا في أحايين كثيرة، خصوصاً في البداية، طارئين على المشهد الشعري، وأن نتاجهم ليس الا سليل الشعر الغربي وترجماته.

منعت هذه القراءة النظر الى قصيدة النثر، التي تخص تحديداً كل الشعراء الذين كتبوا بعد الرواد، وظلمتهم مرتين: مرة عبر إصرارها على أنهم الرعيل الثاني المتأثر حكماً بما سبقه، وهو لا يصل الى مرتبة الأول قطعاً. ومرة ثانية حين أتت اغلبية تلك النتاجات الشعرية وبدقة، وفقاً لما فرضته النظرية الصارمة التي طالبت بالهدم والتفكك والبدء من أرض محروقة.

في إمكاننا ايضاً أن نضيف بأن الظلم طاول شعراء لم يذكروا أصلا ولم يتم تتبع نتاجهم كما في حال سنية صالح غير الموجودة في موسوعات الشعراء المكرسة مثل موسوعة الشعراء العرب المعاصرين التي أصدرتها مؤسسة البابطين، او "أعلام الأدب العربي المعاصر: سير وسير ذاتية" التي أعدها الأب اليسوعي روبرت كامبل، وصدرت في بيروت.

سنية صالح موجودة في ثلاثة كتب هي: "معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين" لعبد القادر عياش (دمشق، دار الفكر 1985) و"مصادر الأدب النسائي في العالم العربي الحديث" لجوزف زيدان (جدة، النادي الثقافي الأدبي، 1986) و"أديبات عربيات: سير ودراسات"، الجزء الثاني، لعيسى فتوح (دمشق، دار طلاس 2002). ونصيبها في هذه الكتب مجتمعة لا يتعدى الخمس صفحات. وهي موجودة في مقالات نادرة تناولت نتاجها، أشهرها ما كتبته خالدة سعيد عن مجموعتها الثانية "حبر الإعدام" (1970).

لتنظير قصيدة النثر فضيلة واحدة: الأجواء التي أشاعها التنظير. وهي أجواء لا فضاء يحدها، اذ نادت بالتحرر من كل شيء تحرراً غير مشروط تُرجم عملياً بتحرر لا ضابط له ويقارب الفوضى والانفلات. وكانت مقولة "الشعر فعل تحرر" رائجة كتبرير لا مجال لدحضه لكل تلك العوالم الداخلية لدى فئة واسعة من الشعراء الذين نفّسوا عما في دواخلهم شعراً. ودونما قصد ربما، نظر النقد الى نتاجات هؤلاء الشعراء من هذه الزاوية بالضبط: العوالم الداخلية. لذا راج النقد الانطباعي لقصيدة النثر، ولم يرضِ أحداً لا الناقد ولا الشاعر ولا القارئ. والسؤال: هل يمكن النظر الى عوالم سنية صالح الداخلية من دون الوقوع في براثن النظرة الانطباعية؟

من المفيد هنا التذكير بما راج في قصيدة النثر وما ابتعدت عنه سنية صالح، كي نستطيع النظر الى نتاجها بعيداً من النظرة الانطباعية إياها.

ابتعدت سنية صالح قدر الإمكان عن التكرار (كلمة او أداة نداء أو فعل في بداية الجملة، او تكرار في الموضوع) كما ابتعدت عن السرد والصور الشعرية، الغرائبية منها وغير الغرائبية. ولم تعتمد اعتماداً كلياً على تعمد خرق القواعد النحوية، او تفكيك الجملة المنطقية التقليدية، والجنوح نحو مبدأ الفوضى في التركيب. وهذه "الأدوات"، إن جاز التعبير، تسم غالبية نتاج شعراء قصيدة النثر، وقد استُثمرت خصوصاً في قصائد "العوالم الداخلية". ويعود الأمر بصورة لا لبس فيها الى التنظير الصارم لقصيدة النثر الذي طاول كل عنصر من عناصر الشعر. من الصحيح أن هذا التنظير غيّر في النظرة الى الشعر والى مفهومه، لكنه عبر تحديده مجموعة "العناصر" التي يجب الابتعاد عنها، لم يترك للشعراء متنفساً: كان المطلوب مثلاً التخلص من الأوزان الشعرية بضربة واحدة، مما أدى الى اختفاء الإيقاع. وهي نظرة خاطئة اذ تربط الوزن بالإيقاع مباشرة. وكان المطلوب الاقتراب من لغة الحياة اليومية البسيطة، مما أدى الى التطيّر من اللغة الرنانة الكلاسيكية، وهي نظرة خاطئة كذلك اذ توحي أن اللغة لغتان: رنانة وبسيطة، وأن إبدال واحدة بأخرى يرتبط فقط برغبة الشاعر وبمزاجه. أما الغموض فقد طُلب لذاته، ونُظر اليه بمعزل عن علاقته بالصور الشعرية، التي تضطلع دوماً بدورين: أولهما جمالي، على علاقة مباشرة بكل ما هو حسي. وثانيهما دلالي، يرتبط مباشرة بالمعنى. العناصر الثلاثة الآنفة أدت الى ظهور قصيدة النثر بصورتها التي نعرفها. لذا يمثل نتاج سنية صالح حالة ممتازة للنظر في نتيجة إقصاء أدوات وعناصر، او الاستعانة بها في كتابة القصيدة.

أقصت سنية الصور الشعرية والإيقاع من قصائدها، كما اعتمدت لغة بسيطة لكن متمردة وجارحة (يمكن لمن يرغب أن يرى تأثير زوجها محمد الماغوط في بعض قصائدها مثل "سرير النهر"، "أغنية زنجية"، "حرب الذاكرة"، "جرذان التاريخ"... الخ)، كما اعتمدت الغموض. وهذا الأخير يظهر بصورة جلية في "المخاطَب" الذي توجه قصائدها اليه. فمخاطَب سنية صالح غير واضح الملامح، وهو يمكن أن يكون الطبيعة مثلما يمكن أن يكون شخصاً غير محدد، على نحو يصبح تداخل الملامح بين الطبيعة والشخص باباً مشرعاً على فخ تلاشي الشعر، اذ أن الملامح الغائمة للمخاطَب تظهره ذهنياً مجرداً. هنا لا نجد أثراً لما هو حسي، رغم جنوح سنية صالح الى رصف النعوت (وهو أمر تنبهت اليه خالدة سعيد في مراجعتها النقدية لديوان "حبر الإعدام" انظر ص 193-200 "حركية الإبداع، دراسات في الأدب العربي الحديث"، دار العودة، بيروت). المخاطَب الذهني المجرد هو النتاج الأول لتضافر العناصر الثلاثة إياها، أما النتاج الثاني فيكمن في التركيز على "الأجواء" و"المناخات" الخاصة بسنية صالح. بمعنى آخر تتراجع اللغة والصور الشعرية والايقاع الى خلفية المشهد، بينما تحتل الأجواء الغامضة والتي يزيد من حدة غموضها المخاطَب المجرد المشهد برمته. أما النتيجة الملموسة للتركيز على "الاجواء" و"المخاطَب" والتي نلمسها في قصيدة سنية صالح، فتكمن في تركيز الشاعرة على صوتها، الذي هو عملياً الحل الاخير المتبقي لها كي تطبع قصائدها بشيء شخصي. هذا الصوت الشخصي الذي ظهر في البداية مغرقاً في ذاتيته، بسبب استناده الى "عوالم داخلية" تعاني من قسرية الذهني والمجرد، أصبح لاحقاً حيلتها لضخ الحسية في القصائد. وفي كلام آخر تبين تجربة سنية صالح ان الشاعر لا يستطيع وإن رغب وقصد الانطلاق من الذهني الى الحسي، بل عليه أن يعتمد الحسي والتجربة الشخصية ويتعلم الإصغاء إليهما، قبل الذهاب نحو ما هو ذهني ومجرد. وبالتركيز على هذه النقطة، يمكننا أن نتعرف أكثر الى "صوت" الشاعر كأداة او عنصر من عناصر الشعر، مثلما يمكننا ان نلمس كيفية استخدامه، وتقلبات أحواله بين "الحسي" و"المجرد"، خصوصاً لجهة تأثيره المباشر على آخره، اي "المخاطَب".

أدخل التركيز على "الصوت الشخصي" سنية صالح عالماً داخلياً، يخصها ولا يخصها وحدها في آن واحد. لذلك لم تكن جرعة الأنوثة متساوية الانتشار في متن قصائدها، مما أضفى نوعاً من التنوع على "الصوت الشخصي". فبعض القصائد تحجب الأنوثة، وتنطق بصوت ما بين منزلتين: الذكورة والأنوثة، كما في "أيها الخداع... يا جسدي":

"ألف قرن من بناء العنابر/ ودور العرض والسكن/ ولا شيء يكسر وحدتي".

او كما في "الزمن الآتي من قلبك":

"عندما يثقل الهم قلبي/ وأسير في طرقات الوطن/ أشعر كأنني أعبره من المجاري/ اتجهت صوب الريح التي تشبه المنجل/ وتضرعت إليها ألا تقطع أوصالي/ ريثما أنقض على الحياة من شاهق/ وأظل أغوص فيها حتى أعود الى رحمها".

وبعضها الآخر تتقدم فيه الأنوثة بشفافية لا ابتذال يدانيها، اذ لا يحضر جسد الأنثى وحيداً مغوياً بل يرافقه جسد الحبيب، وخلفية المشهد عالم عربي نعرفه من ضيقه ومن قمعه، كما في قصيدة "فصل الحب":

"إطوني كما تطوي أوراق الشِعر/ كما تطوي الفراشات ذكرياتها/ من أجل سفر طويل/ وارحل الى قمم البحار/ حيث يكون الحب والبكاء مقدسين/ ... الليل نشيد شجي/ وليلة المحبين غابة مسحورة/ لنشهد لليل الصمت./ وليكن ذلك عربون الجنون./ لتكن أبواب الانفلات واسعة./ فالزمان ضيق، وأضيق منه جسد المحبين".

لكن صوت سنية صالح الأكثر سطوعاً، الذي يدخلنا فعلاً إلى عالمها، هو الصوت "الحسي" إن جاز التعبير. ويظهر عملياً في قصائدها الاخيرة، حيث ترثي نفسها والموت يدانيها. نشرت هذه القصائد في ديوانها الأخير، "ذكر الورد"، الذي أثر على ما يبدو في عملية الانتقاء التي قام بها الشاعر ممدوح عدوان، فكتب في المقدمة: "لقد كانت مؤثرة حتى جعلتني أشعر أنني أمّ، وأتمنى أن أكون أماً".

هذا الصوت المؤثر، يمكننا من أن نلمس الأثر المباشر لوضوح "المخاطَب" في القصائد: فقد اتضحت ملامحه: هو تارة الموت (وهو من الموضوعات الكبرى التي شغلت الشعراء)، وطوراً ابنتها. مما أدى عملياً الى طغيان جرعة "الحسيّ" في القصائد من طريق مشاعر إنسانية خالصة، تُظهر صوت الشاعرة واضحاً مقاوماً للموت، ومتحدياً له، كما في "الموت القاطع":

"يا موت/ يا من تنتظرني على الأبواب/ حاملاً سيفه القاطع:/ اتبعني/ اتبعني/ أنا الضحية التي تقتفي أثرك".

بيد أن هذا الصوت لا يتحدى من اجل جمالية التحدي وعنفوانه، بل يستمد العزم على التحدي مما هو "حسيّ": من التشبث بالحياة. لذا تخرج سنية صالح من ذاتها أماً تتشابك بابنتها وتمتزج بها، لا تحتمي من الموت قدر ما تحمي ابنتها من آثاره، فالعلاقة بين الأم والابنة هي الأساس في مرثية النفس وهي الأساس في مواجهة الموت، تكتب في "الذاكرة الأخيرة":

"وينادي منادٍ على الموت فأتقدم/ ولكنني أخرج من ثقوبه العليا كما دخلت/ ممتلكة قصدي وغايتي/ من أجلك يا ابنتي/ لكن أوقيانوس الحرمان بيننا/ فجأة أجد قارة من غبار/ أجلس فوقها وأغني لك الحنين/ وأنا أدفع الموت/ أيتها الطفلة التي تفد الى ذراعي/ تحت مظلة من الربيع والدموع/ لكن نعاس الموت وحراسه دون هذا الاقتراب". وتتضح جرعة "الحسي" حين تلغي الأم المسافة بينها وبين ابنتها كي تحتضنها وتواسيها: "من أين تجيء المسافات/ وأنت في قلبي/ يمينك يميني ويسارك يساري".

وتزداد الجرعة تباعاً، فتمتزج الأم بابنتها، تعطيها كل ما تملك من الحب، ثم تحرر الأم ابنتها منها بالحب بما هو "حسيّ": "أيتها الذات التوأم/ يا أجنحة المحيط وزفيره المنعش/ ستحملك جزره الى المتصوفة والهائمين/ وستنقلك الى أحلام الشوق والربيع/ بينما تغافلني ريح المنعطف/ وتخطف غباري".

الأم التي أصغت الى صوتها فتحت لنا عالماً داخلياً من المشاعر الاكثر حساسية، تمزج الأصوات قبل أن تطلع بصوتها المتعدد المتفرد: أم لها والدة ولها ابنة، تكتب في "مليون امرأة هي أمك":

"عندما يقفل الزمن بابه على الجميع/ أدخل قاطرة الموتى برضى/ أمسك خيط الغياب وأجذبه/ فتأتي ذاتي الخيالية/ ذاتي التي ولدت من رحم المرايا/ بكلامها الغامض السريع/ لكن الأجساد الخائقة تفرز ما ينجبها/ وها هو باب السلام يفتح/ بين الجنة والارض/ الحياة وحدها تأخذنا/ وتعيدنا/ لقد/ بطل الموت".

بطل الموت بالنسبة الى الشاعرة "المتماهية مع الطبيعة"، من طريق لعبة الحواس، اذ تهبط الفصول الى الارض، ويصعد السكان الى السماء، في تبادل للأدوار لا ينتهي. في "الخريف" تكتب متماهية مع المطر:

"تكاثر في راحتي أيها المطر/ لألهو بك/ وأستحم/ قبل أن أفقد مرحي وظمأي/ قبل أن يبتعد ليلك عن قمري/ كلانا شريدان/ أنت منفي في سمائك/ وأنا منفية في ارضي".

"منفية في ارضها" كما كتبت، و"مشوشة بالخسارة" كما وصفت نفسها لابنتها في "تخرجين من أسوار الجسد"، سنية صالح هي الشاعرة التي ظلمها النقد وتجاهلها، متابعاً مسيرته التي تعتمد وتعترف بمن تجد لنتاجه مرجعيات وأصولاً مكرسة، سواء أكانت مخترعة أم متخيلة، مستوردة أم مصابة باستلاب ذاتي. لم ير هذا النقد نتاج سنية صالح، ولم يفطن الى ما يظهره نتاجها بوضوح من أثر التنظير الصارم في تضييق خيارات الشاعر. ببساطة لم ينظر النقد في صورته/ مرآته التي صنعها بنفسه.





محمد الماغوط يرثي زوجته الشاعرة سنية صالح
-------------------------------------------------




اضغط على هذا الرابط
http://noblestube.com/video/1902/%D9...A7%D9%84%D8%AD



الراحلة سنية في عيون الراحل الماغوط
----------------------------------------------

بعض ما قاله الراحل الكبير محمد الماغوط بالأديبة الراحلة ...
_جلست بقربها، وهي على فراش الموت أقبِّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، فقالت لي عبارة لن أنساها: أنت أنبل إنسان في العالم.
_ أحملها في داخلي دائما. عاطفتي شموس، هي ليست مطواعة.
_ كل ما أكتبه فيه شيء من السلمية، فيه شيء من الشام، فيه شيء من بيروت، فيه شيء من سنية.
_سنية أكبر من مدينة، إنها كون. بعد موتها صار حبها يشبه حب السلمية، ثمرة عشر سنين، لا تراها لكنك تظل تتذكرها.
_ بعد موتها قررت أن لا أتزوج ثانية. فهي قدمت لي أجمل ابنتين في العالم: شام وسلافه.
_ أن الحب لم يكن ابدآ مشكلة بالنسبة لي، الحرية هي هاجسي الأوحد.
_ كل النساء من بعدها نجوم تمر وتنطفئ، هي وحدها السماء.
_ كانت حياتنا جميلة، لكننا كنا دائما على خلاف. لم نتفق مرة على رأي. نسهر إلى الصباح، نبقى مختلفين.
_أنا لاأحب الغيبيات.... وهي تسألني إذا كنت سأراها بعد الموت، كيف هذا وأنا في حياتنا المشتركة لم أكن أراها كما يجب.



نماذج من نثار روحها
-----------------------

حطام النافذة الوحيدة
--------------------

لا تأتِني الليلة كخفاش حزين
حاشراً رأسك بين حاجبي.
لقد أنكرنا بعضنا ساعات اليأس
والاندحار.
عبثاً يرتطم الوجه بالوجه
أو القلب بالقلب.
دَع النار في رقادها ،
أو لِتُشتّتها الريح حيث تشاء
لا شيء قادرٌ أن يدفئ العينين الباردتين.
جميع الجهات خانتني
ومتاعي ملموم تحت إبطي.
تثاءبْ
تثاءبْ
عَلّ ذلك الليلَ يمضي.
أنت تُسرعُ وهو يفوقك سُرعة.
ألوهنُ يفتك بِكَ
وعزمه يشتد كالسياط.
وهذا الضباب الذي يحجبني عنك
ما هو إلا رماد حبنا.
هاتِ راحتيك يا قبري الأمين والذكي
هاتِ ظلامك
أنا المرأة المصابة بالذعر.
طعنة واحدة وتغيب شمس الجسد
والروح.




من جموعة ذكر الورد
-------------------------
1



كان الشعراء يفكرون في الثلوج
على قمم كلمنجارو
في الرياح على ضفاف البحيرات
يحلمون بالأميرات النائمات مع قيثارتهن
تحت أشجار الأضاليا
أيها الشعراء
يا سائسي أعمارنا
النار الأولى تمنح من جديد
لآليات العصر ومواقده،
الكشف البدائي
رامبو الألف وبودلير العشرون
جميعهم يجرون في دمائنا
ونهجم في اتجاهات العالم كلها
جموعا تنهش وتفترس
وتستعيد الجوع الخرافي .


2


مساء الخير أيتها الحزينة
وحدك في الليل ومتعددة في النهار
تظهرين بشكلك الهندسي
يغطيك ِ رماد الوحدة
أرقبك من نافذة المنفى
كي لا نفقد مجاذيفنا في الظلام
أعود إلى عصورك الأولى:
قلبي، شعري وأحلامي
لا أجرؤ على عصيانها


3


كان نشاط الحصادين في أوجه
في حركتهم اللائبة تحت شجر الخطيئة
والريح ترفعهم شيئا
فشيئا
يضمون رؤوسهم،يهمسون أو يصلون
يلوحون بأذرعهم في الفضاء
ثم يقذفونه للريح؟
يكررون الحركة الباطلة
والريح ترفعهم
كي يقبضوا لها على الغيوم
أو ليغيبوا فيها،
يا لذلك الحصاد !
بعيدا مضوا
أخذوا ظلالهم ومضوا
تركوا حصادهم ومضوا
ثمة انقسامات كثيرة بين صفوف الغيم
الغيمة الواحدة تتناثر
فيخرج فراخها
ناقلين خبز الخريف إلى موائد الشتاء
أيها الخريف الزاني
هيا ندفن الحصاد الذي أهمل
هيا نجذب الذاكرة المجهولة
لتنساب خيوط العالم تخيط الجزرالمشردة
لتصير القارة الوهمية
أو الوطن الآخر.


4


أيهاالمقنّعون بكل ما نحب
ونكره
لم لا تصغون إلى؟
لساني الثقيل سيذهلكم
إذاما انطلق مرة واحدة
أيها الغامضون إذا مسستكم بسيفي
شطرت لسانكم إلى ألف
كل شطر يناقض الآخر.
أصغيت إلى الأعراب والخراسانيين
وبقيت أصغي
حتى تساقطت أذناي في حسابات الطرق
والمسافات
ولسعتني الهزيمة.


5


لو أن الكارثة تنشطر
وينبت عليها الشجر والعشب الجميل
لو أن الملائكة تخرج من الحجار
والأحباء من شفرة الفأس
لو تجري أعظم الأنهار فوق راحتي
لو يرتوي هذا الظمأ


6


امتطت الآلهة جياد البوتاسيوم
المطهمة
وعندما توقفت على حافة نافذتي
دهشتُ
فجأة انفرط جسدي إلى نمل صغير
وأخذ من الرهبة يقرض بعضه البعض
ولما انتهى من كل شيء
أكملت الآلهة تجوالها الملكي.


7


خريف مبدع لكنه يدمرأنثاه
وعندما يستريح رأسه
يشرب من كأس أنوثتي
كأس من خريف المعدن
من غموض اللغة والشعر
كيف يشعل حروبه
وأنثاه تكنز ذلك المطر؟


8


نحن والذئاب ننام
ومثلها نموت
يا لهذه الشراكة!


9


كيف تجيء النهايات؟
كيف ينتهي الصباح؟
كيف تنتهي الموسيقى؟
كيف أصنع رأسا من تلك الصخرة التي
تعتلي منكبي؟
كيف أروي تلك المساحات الشاسعة من الرمال
وأنا لا أملك إلا قطرة دم واحدة
منحني إياها جمع غفير من الأجداد
وأخبروني أنها سري،
فانتابني نوع من الحيرة:
كيف أدخلها جسدي؟
لا لضيق المكان
وقلة الشرايين
بل لأنني لم أعتد على الوجود بعد





حرب الذاكرة
---------------

نادِني أيها المجهول
بكل أصواتك المدهشة.
إِمنحني سفنك المنقذة
فقلبي بحرُها الصغير
الهائم بحبك.
***
لو كان لي أَحبّاء
لناديتُهُم بصوتِكَ.
لو كان لي وطن
لجعلتك علماً له.
لكنني غريبة وعزلاء كالراهبة



شام، أطلقي سراح الليل
---------------------------

خرجت تقود قطيعاً من اللعب
والأطفال العراة
إلى النوم،
"ماريا، أرى أطفالاً يتضوَّرون،
تريّثي.
ها هو خبز الله،
ولا تنسي:
سيخرج القمر ليباركهم".
فيا له من قمر يبدد ليل الولادة.
أيتها اللؤلؤة
نمتِ في جوفي عصوراً
استمعت إلى ضجيج الأحشاء
وهدير الدماء.
حجبتك طويلاً.. طويلاً
ريثما يُنهي المحاربون العظماء حروبهم،
والجلادون جَلدَ ضحاياهم..
ريثما يأتي عصر من نور
فيخرج واحدنا من جوف الآخر.
ها هُوَ حصانُكِ الثلجيُّ يطير
مجنوناً بنار المستقبل.
تلمع عيناه ببريق الدهشة
شيءٌ ما يغريه في المضي
شيءٌ ما يمنعه ويشد لجامه..
.. وعندما تحاصرك الرياح السوداء،
يحاصرك الأولياء الشرسون،
أَسرجي خيولك للفِرار..
نامي في العراء
حيث نار الحقيقة تضطرم
حيث تقلُّبات الزمن، بخطواتها الخرساء
تذهب وتجيء
كنمر يلتقط الأرض بأقدامه المخملية
***
.. في الجسد تضع الروح بُيُوضَها
فيخرج أطفال شُقرٌ، زُرقُ العيون
يلعبون مع البحر
يبنون له قصوراً من الرمال،
ويُغرونه بالدخول.
ولكنه أذكى من أن يُخدع.
***
لماذا تركُضين وكأنكِ تطيرينَ
تتبعُكِ جدائُلكِ وذيلُ ثوبكِ؟
مهلاً
إنه يقترب...
ذلك الملاك الذي تَسعَينَ جاهدةً لرؤيته
ولكن حذارِ من الفِرار معه
دعيني أرى..
رائع،
رائع،
كدمية من القطن.
ليس كأولئك الذين ينتظروننا في القبور،
يغتالوننا بِرُمحِهِم الإِلهيّ، ويَفِرُّون..
.. ماريا،
إن قلبك يضرب بقوة.
أَخفي صغارك في جوف الوسائد،
أو في ثَقْبٍ دافئٍ من بيوت الطين.
ماريا.
لا تنسَي أن توصدي الزرائب
كي لا تُذعَرَ صِغارُ الماشِية.
.. ما لكَ صامت أيها النهر
إرفع عقيرتك.. ليطرب صغاري.
.. ماريا.
منذ متى يحمل وجهُكِ كلَّ تلك الغُصونْ؟
منذ متى يجدُّ الخريف في أثرك؟
وتجدُّ الكلاب التي تعوي
والذئاب التي تنهش؟
.. ماريا الخجولة كان إسمها منذ سنين
مع الأيام صار شيئاً آخر.
ربما شام.
ماريا.
لماذا تُخَبّئين اسمكِ الحقيقي؟
إنّ فيه بحاراً وأقماراً
إنّ فيه أفلاكاً لا تعرف الهدوء.
ترفرفين بغدائرك الذهبية
بين قطيع من اللعب ذات الفراء،
وهي تهز ذيولها الجميلة
وتعوي عواء مسلياً.
من يستطيع أن يُلجِمَها؟
من يستطيع أن يُلجِمَ خيولك الزرقاء الشاردة بين الغيوم،
ويعيدها إلى زرائبها؟
إنها تبحث عن أبواب حقيقية
لتنطلق..
خارج العالم.
***
يا صغيرتي
عيناك زرقاوان كاللانهاية،
كالأبد.
أيها الطائر الذهبيُّ،
لمن تتركين ظلالك في المرايا،
المرايا الموزعة في قُبّة الليل؟
وتنظر ماريا إلى البعيد
حيث يلهو خيال طفلة.
***
عندما تنطلقين خارج ذراعيّ
أخشى أن يَفِرَّ بك الزمن
أو يَحني ظهرك الصغير
وأنت ترسمين خطوطه
وأن ترسمين خطوطه وتعرجاته
فترتفع سحابة الروح
ويعلق الجسد هناك
بين تلك القضبان الشرسة والمتشابكة.
ماريا
انهضي
إنها فرصتك كي تصرخي.




أحزان العصافير


العصفور الذي يولد مع الليل
----------------------------

يغرد بين قلبي وقلبك
وحين يجفل،
نضيع.

أولد مع الظلّ
وأموت عارية في الضوء،
حيث البنفسج هو الذكرى الوحيدة
من بقايا الروح.
***
ولدتِ مع الضوء
يا امرأةَ العاصفة
وإليه عُدتِ
ونَسيتِ سوطك على الوجه.
***
في الشتاء
تنام أفكارنا وورودنا
كما تنام العصافير
الآتية في أواخر الليل
وهي تحمل الخوف والانتظار
بين أجنحتها الصغيرة.
***
ترتعشين كالعصافير
إِذْ تضربُ خواصِرَها أجنحةُ الريح
والمطر.
وحين أرفعك مصباحاً وحيداً
فوق أحزان المساء
أراك مطفأة.
***
قبل أن يدركني اليأس
أقفلي يا صغيرتي ذراعيك الخائفتين
حولي.
وارمي مفتاحَهُما في البحر
وأغلقي دَهشَةَ عينيكِ بِعَينيّ
كي لا تري أصابعي
ترسم على الحراب
كي لا يفاجئك العويل.
يا ساحرتي
يا امرأة تغزل شعرها في الشمس
من أجل الحزن والسفر عبر الأنهار
من أجل الحبر الممزوج بالدماء
رفعت وجهي بريئاً
كعصفور يرتعش تحت المطر.



الأَرَق

... في الحلم أصير عالية

بيضاء كالغيوم

سعيدة كالأطفال.

الحلم الرائع هو أنت.

الصورة الخفية التي تُسعِدُني

ثم لا تلبث أن تؤرّقَني،

النشيد الخفي الذي يحرضني.

أحب غربتي فيك

أنا وردة الطين المنتهية،

أنا الذاكرة التي تلسع

وتختفي.




أصابع العشاق
------------------

ترى أين يذهب همس الفراق
حين يفاجئه المطر؟
ماذا يحل بالنسيم
وهو يلامس حزنك؟..
سلام عليك أيها الحريق
المتوغّل صوب القلب
حيث لا ظلّ غير الانهيار.
سلام على قلبك المشتعل.
وحده يهبُ الحب
كما يهب الإله الغامض قلبه.
تعطيني أرضك
عشبةً إثر عشبة.
تعطيني ربيعك
ومضةً إثر ومضة.
وأنا أتساقط مع هبوب الزمن
ورقةً إثر ورقة.
وعندما لا تطير الأحلام
تكون الريح راقدة في قلبي.
عندما ابتسمت عيناك
لصمت قلبي
غاص قلبي في ضوء الحب الذهبي
وطار النسيم هادئاً كفراشة
غنّت الجداول الصغيرة
وهي تبتسم وتنثني بين الصخور
مثل صبي يلهو وراء الفراشات.



رماد الحضارات
------------------
كانت تختبئ في دمه.
مع ذلك
لم يكتشفها إلا في ما بعد.
المرأة الوحيدة التي يتطلع إليها
من النوافذ والأحلام.
ثم يمضي إلى أدغاله
كالنار،
يسترق السمع إلى لهاثها،
إلى زفيرها الحار،
ثم يفرُّ مذعوراً إلى الأسواق والحمامات
إلى المواخير المكتظة
ليروي جرحه العميق.
***
من دفعها إلى عبور ذاكرته
في ذلك الوقت،
وهو يعتلي ظهر التاريخ
كيائس يبحث عن متاهة جائعة
لرجل من الثلج،
أو هشيم لرجل من نار،
ليبحث عن الروح الخيالية
التي نحسبها سجينة الجسد
وهي في الطوفان،
الطوفان الذي اجتاحه،
غيّره،
ثم أسلمه لنيرانه....
.... إستيقظي أيتها النار الكونية.
لقد استفحل الظلام
وتَوسّعت خرائطه.
أيتها النار،
في الحضيض رَجْلٌ من الهشيم يبحث عنكِ
مشى بأقدامه المحترقة
على القصائد
لتلتقط تلك الشعلة الذهبية.
وطئها وهو يصرخ بجنونك:
"موتي
موتي
لقد انتهى عهد الحب
عهد الصراخ والإبداع".
أخذ يروح ويجيء في جوفها
وقد اشتدّ أُوارُها
يرفس ألسنتها الضاربة
وهي تروي قصة الفناء.
وشيئاً فشيئاً..
صار الشعر كومة رماد،
راح يُقلّبُهُ بقدميهِ
باحثاً عن الخلود،
عن الأجيال المُسرعة
مع الغيم والضباب،
عن المرأة التي يحبّ،
لم يكن غير الرماد.
تُرَى
ما الذي ينجو من الرّماد
يا نجمة الصباح




جرذان التاريخ
---------------

أيها التاريخ الصدئ،
أنا قمرك الهش،
فاهرب كالورق الميت.
أيها الوطن المتآكل،
أنا الجسور التي بنيت من عظام أطفالك
فاعبر
والحق بالرومان
وهم يقتفون أثر زنوبيا.
...
في فيء الأشجار الدهرية
بنيت حلمي.
في فيء القصور الغابرة،
ولدتكِ من القش
وأدخلتك غرف المستقبل.
ولكن سرعان ما هجمت قطعان عابثة،
قطعان من النعاج المذعورة،
يطاردها كبش النزوات..
وطرتِ
وتناثرتْ حجارة البيت في الفراغ،
فراغ السحر،
السحر الذي يحول الأمير إلى ثعبان
والثعبان إلى أمير،
"وكالأمراء عاش معي العاشق
حتى لَدَغَني"
...
زنوبيا بلا مأوى
مثلجة الأطراف مثلي.
والريح تعصف في الخارج،
والجياد تعيث فساداً في الجوار
مقرورة ببرد الخوف،
بينما نيرانها تدفئ الغزاة،
مقرورة ببرد غامض،
بينما نار التوقع
وجحيم الخيبة
يلتهم كل شيء.
...
جيادها تصهل،
وكلابها تعوي..
وبصمتٍ، بنيتُ لكِ قصراً منيعاً
فوق إحدى الصخور،
ومملكةً من الطحالب المخملية.
كانت عاصمتكِ فراشة من الجليد،
بيوتها صغيرة ومتشابهة،
تسير سيراً رتيباً
في سفرها الشاق والمضني.
وانعكست أضواء السقائين اللّيليين
على قصرك الخرافي
حتى امتلأ بالنجوم..
.. زنوبيا.
لقد أدارت الصحراء ظهرها السام
وانتهى الأمر ببساطة.
الدموع عكرة
وليس من نظرة حب صافية.
زنوبيا..
العالم مضاء
بنار الكلاب.





اعداد :
زياد السعودي / الاردن
سلطان الزيادنة / الاردن
عبير محمد / مصر
سلام الباسل / فلسطين
صبا خليل / فلسطين
سهيل نجم / سوريا







 
/
موضوع مغلق

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:50 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط