الفينيق أبو القاسم الشابي يليق به الضوء* سلطان الزيادنة - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: أُمْسِيَّات لُصُوصِيَّة ! (آخر رد :محمد داود العونه)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-12-2010, 01:40 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سلطان الزيادنة
عضو مؤسس
أكاديميّة الفينيق للأدب العربي
عضو التجمع العربي للأدب والإبداع
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع الأدبي والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الأردن

الصورة الرمزية سلطان الزيادنة

افتراضي الفينيق أبو القاسم الشابي يليق به الضوء* سلطان الزيادنة




سلام الله

تعودنا أن نضع نصاً تحت الضوء
ومن خلاله نشتغل
هنا ووفاءً لتجربةٍ فذّة
سنستميح روح أبي القاسم الشابي
لنضعه تحت الضوء
إذ به يليق الضوء




نبذة عن حياته:


ولد أبو القاسم الشابي في يوم الأربعاء في الرابع والعشرين من فيفري(شباط) عام 1909م الموافق الثالث من شهر صفر سنة 1327 هـ وذلك في مدينة توزر في تونس. قضى الشيخ محمد الشابي حياته المسلكية في القضاء بمختلف المدن التونسية حيث تمتع الشابي بجمالها الطبيعي الخلاب، ففي سنة 1328 هـ 1910م عين قاضيا في سليانة ثم في قفصة في العام التالي ثم في قابس 1332هـ 1914م ثم في جبال تالة 1335 هـ 1917م ثم في مجاز الباب 1337 هـ 1918م ثم في رأس الجبل 1343هـ 1924م ثم انه نقل إلى بلدة زغوان 1345 هـ 1927م ومن المنتظر أن يكون الشيخ محمد نقل أسرته معه وفيها ابنه البكر أبو القاسم وهو يتنقل بين هذه البلدان، ويبدو أن الشابي الكبير قد بقي في زغوان إلى صفر من سنة 1348هـ – أو آخر تموز 1929 حينما مرض مرضه الأخير ورغب في العودة إلى توزر، ولم يعش الشيخ محمد الشابي طويلاً بعد رجوعه إلى توزر فقد توفي في الثامن من أيلول –سبتمبر 1929 الموافق للثالث من ربيع الثاني 1348 هـ.

كان الشيخ محمد الشابي رجلاً صالحاً تقياً يقضي يومه بين المسجد والمحكمة والمنزل وفي هذا الجو نشأ أبو القاسم الشابي ومن المعروف أن للشابي ثلاثة أخوة هم محمد الأمين وعبد الله وعبد الحميد أما محمد الأمين فقد ولد في عام 1917 في قابس ثم مات عنه أبوه وهو في الحادية عشر من عمره ولكنه أتم تعليمه في المدرسة الصادقية أقدم المدارس في القطر التونسي لتعليم العلوم العصرية واللغات الأجنبية وقد أصبح الأمين مدير فرع خزنة دار المدرسة الصادقية نفسها وكان الأمين الشابي أول وزير للتعليم في الوزارة الدستورية الأولى في عهد الاستقلال فتولى المنصب من عام 1956 إلى عام 1958م.

يبدو بوضوح أن الشابي كان يعلم على أثر تخرجه في الزيتونة اعرق الجامعات العربية أو قبلها بقليل أن قلبه مريض ولكن أعراض الداء لم تظهر عليه واضحة إلا في عام 1929 وكان والده يريده أن يتزوج فلم يجد أبو القاسم الشابي للتوفيق بين رغبة والده وبين مقتضيات حالته الصحية بداً من أن يستشير طبيباً في ذلك وذهب الشابي برفقة صديقة زين العابدين السنوسي لاستشارة الدكتور محمود الماطري وهو من نطس الأطباء، ولم يكن قد مضى على ممارسته الطب يومذاك سوى عامين وبسط الدكتور الماطري للشابي حالة مرضه وحقيقة أمر ذلك المرض غير أن الدكتور الماطري حذر الشابي على أية حال من عواقب الإجهاد الفكري والبدني وبناء على رأي الدكتور الماطري وامتثالاً لرغبة والده عزم الشاي على الزواج وعقد قرانه.

يبدو أن الشابي كان مصاباً بالقلاب منذ نشأته وأنه كان يشكو انتفاخاً وتفتحاً في قلبه ولكن حالته ازدادت سوءاً فيما بعد بعوامل متعددة منها التطور الطبيعي للمرض بعامل الزمن والشابي كان في الأصل ضعيف البنية ومنها أحوال الحياة التي تقلّب فيها طفلاً ومنها الأحوال السيئة التي كانت تحيط بالطلاب عامة في مدارس السكنى التابعة للزيتونة. ومنها الصدمة التي تلقاها بموت محبوبتة الصغيرة ومنها فوق ذلك إهماله لنصيحة الأطباء في الاعتدال في حياته البدنية والفكرية ومنها أيضاً زواجه فيما بعد.لم يأتمر الشابي من نصيحة الأطباء إلا بترك الجري والقفز وتسلق الجبال والسياحة ولعل الألم النفساني الذي كان يدخل عليه من الإضراب عن ذلك كان أشد عليه مما لو مارس بعض أنواع الرياضة باعتدال. يقول بإحدى يومياته الخميس 16-1-1930 وقد مر ببعض الضواحي: " ها هنا صبية يلعبون بين الحقول وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل ومن لي بأن أكون مثلهم ؟ ولكن أنى لي ذلك والطبيب يحذر علي ذلك لأن بقلبي ضعفاً ! آه يا قلبي ! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية ".

وقد وصف الدكتور محمد فريد غازي مرض الشابي فقال: " إن صدقنا أطباؤه وخاصة الحكيم الماطري قلنا إن الشابي كان يألم من ضيق الأذنية القلبية أي أن دوران دمه الرئوي لم يكن كافياً وضيق الأذنية القلبية هو ضيق أو تعب يصيب مدخل الأذنية فيجعل سيلان الدم من الشرايين من الأذنية اليسرى نحو البطينة اليسرى سيلاناً صعباً أو أمراً معترضاً (سبيله) وضيق القلب هذا كثيرا ما يكون وراثياً وكثيراً ما ينشأ عن برد ويصيب الأعصاب والمفاصل وهو يظهر في الأغلب عند الأطفال والشباب ما بين العاشرة والثلاثين وخاصة عند الأحداث على وشك البلوغ ". وقد عالج الشابي الكثير من الأطباء منهم الطبيب التونسي الدكتور محمود الماطري ومنهم الطبيب الفرنسي الدكتور كالو والظاهر من حياة الشابي أن الأطباء كانوا يصفون له الإقامة في الأماكن المعتدلة المناخ. قضى الشابي صيف عام 1932 في عين دراهم مستشفياً وكان يصحبه أخوه محمد الأمين ويظهر أنه زار في ذلك الحين بلدة طبرقة برغم ما كان يعانيه من الألم، ثم أنه عاد بعد ذلك إلى توزر وفي العام التالي اصطاف في المشروحة إحدى ضواحي قسنطينة من أرض القطر الجزائري وهي منطقة مرتفعة عن سطح البحر تشرف على مساحات مترامية وفيها من المناظر الخلابة ومن البساتين ما يجعلها متعة الحياة الدنيا وقد شهد الشابي بنفسه بذلك ومع مجيء الخريف عاد الشابي إلى تونس الحاضرة ليأخذ طريقة منها إلى توزر لقضاء الشتاء فيها. غير أن هذا التنقل بين المصايف والمشاتي لم يجد الشابي نفعاً فقد ساءت حاله في آخر عام 1933 واشتدت عليه الآلام فاضطر إلى ملازمة الفراش مدة. حتى إذا مر الشتاء ببرده وجاء الربيع ذهب الشابي إلى الحمّة أو الحامه (حامة توزر) طالباً الراحة والشفاء من مرضه المجهول وحجز الأطباء الاشتغال بالكتابة والمطالعة. وأخيراً أعيا الداء على التمريض المنزلي في الآفاق فغادر الشابي توزر إلى العاصمة في 26-8-1934 وبعد أن مكث بضعة أيام في أحد فنادقها وزار حمام الأنف، أحد أماكن الاستجمام شرق مدينة تونس نصح له الأطباء بأن يذهب إلى أريانة وكان ذلك في أيلول واريانة ضاحية تقع على نحو خمس كيلومترات إلى الشمال الشرقي من مدينة تونس وهي موصوفة بجفاف الهواء. ولكن حال الشابي ظلت تسوء وظل مرضه عند سواد الناس مجهولاً أو كالمجهول وكان الناس لا يزالون يتساءلون عن مرضه هذا: أداء السل هو أم مرض القلب؟.

ثم أعيا مرض الشابي على عناية وتدبير فرديين فدخل مستشفى الطليان في العاصمة التونسية في اليوم الثالث من شهر أكتوبر قبل وفاته بستة أيام ويظهر من سجل المستشفى أن أبا القاسم الشابي كان مصاباً بمرض القلب.

توفي أبو القاسم الشابي في المستشفى في التاسع من أكتوبر من عام 1934 فجراً في الساعة الرابعة من صباح يوم الأثنين الموافق لليوم الأول من رجب سنة 1353 هـ.


تمثال للشابي نحت على الصخر في توزرنقل جثمان الشابي في أصيل اليوم الذي توفي فيه إلى توزر ودفن فيها، وقد نال الشابي بعد موته عناية كبيرة ففي عام 1946 تألفت في تونس لجنة لإقامة ضريح له نقل إليه باحتفال جرى يوم الجمعة في السادس عشر من جماد الثانية عام 1365 هـ. ويعبر الشابي أجمل تعبير عن انوار تونس والمغرب العربي التي استفادت منها بلاد المشرق كما هي الحال مع ابن خلدون والحصري القيرواني وابن رشيق وغيرهم المعبرين أنصع تعبير عن خصوصية المدرسة المغاربية أو مدرسة الغرب الإسلامي الذي تؤهله جغرافيته أن يكون الجسر بين الغرب والشرق والذي ظل مدافعا عن الثغور ولم يمح رغم الداء والأعداء كما يقول الشابي.

ويذكره الشاعر العراقي المعروف فالح الحجية في كتابه (شعراء النهضة العربية) فيقول فيه (فهو شاعر وجداني وهو برغم صغر سنه شاعر مجيد مكثر يمتاز شعره بالرومانسية فهو صاحب لفظة سهلة قريبة من القلوب وعبارة بلاغية رائعة يصوغها بأسلوب أو قالب شعري جميل فهو بطبيعته يرنو إلى النفس الإنسانية وخوالجها الفياضة من خلال توسيعه لدائرة الشعر وتوليد ومسا يرة نفسيته الشبابية في شعر جميل وابتكار افضل للمواضيع المختلفة بحيث جاءت قصيدته ناضجة مؤثرة في النفس خارجة من قلب معني بها ملهما اياها كل معاني التاثرالنفسي بماحوله من حالة طبيعية مستنتجا النزعة الإنسانية العالية لذا جاء شعره متاثرا بالعالمين النفسي والخارجي).



تمثال للشابي نحت على الصخر في توزر

قصائده المغناة:

جزء من قصيد إرادة الحياة في النشيد الوطني لـتونس
إرادة الحياة غناء عدد كبير من المغنين العرب
إلى طغاة العالم غناء لطيفة
اسكني يا جراح غناء أمينة فاخت
عذبةٌ أنت - غناء المطرب محمد عبده
جزء من قصيدة [ رحلة العمر ] غناء المنشد العالمي ياسين التهامي







*دراسات ومقالات عنه:


لم يكن الشابي ومضة في حياة الشعر العربي وإنما كان بحياته القصيرة الطويلة نقطة تحول في الشعر العربي فقد كان من كبار المجددين الذين رأوا في الشعر العربي القديم تراثا يجب احترامه وليس منهجا يجب اتخاذه. فكان رأيه هذا سببا في نفور الناس منه لأنهم لم يفهموه لأنه سبق عصره أم اليوم فنحن فهمناه فاستوعبنا أراه.

لقد كان الشابي بشعره يقف في مصاف كبار جنود وسياسيي العالم الثالث(المستعمر) فقد كان حربا لا هوادة فيها ضد الاستعمار، وأخذ على عاتقه محاربة الرجعية و الجهل وظلام التخلف.
كما أنه لم يظهر نجمه بعد موته لأن بعد موته بفترة بسيطة أشتعل العالم بنيران الحرب العالمية الثانية، وتلتها ثورات التحرير في الوطن العربي، فكاد العالم أن ينسى الشابي إلى أن نشر زميله وأخوه آثاره وبعض النقاد كذلك.

لهذه الأسباب وغيرها رأينا أن نقدم تقرير نعرض فيه نبذة عن حياته وشعر هذا (الشاعر البلسم) بلسم الشعوب المستعمرة بالجهل والمكبلة بالرجعية، ثم نتحدث حول الإطار الاجتماعي الذي عاش فيه، ونختم ذلك بذكر بعض المعاني في شعره.
حياة الشابي.

ولد في مارس 1909 في بلدة (الشابة) على مقربة من توزر، وعين أبوه قاضيا في نفس عام ولادته وراح يتنقل من بلد لبلد، وتلقى تعليمه الأول في المدارس القرآنية وكان ذكيا قوي الحافظة فقد حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره، بعد ذلك أرسله والده لجامع الزيتونة وحصل على شهادة التطويع 1927 وهو في سن الثامنة عشرة، ولم يكتف أبوه بذلك فأدخله كلية الحقوق وتخرج منها سنة 1930 .

وكانت نقطة التحول في حياة شاعرنا موت حبيبته وهي مازلت شابة، ثم تبعه بعد ذلك الموت وأختطف أبوه، فتسبب هذين الحادثين في اعتلال صحته وأصيب بانتفاخ في القلب فأدى ذلك لموته وهو صغير السن في عام 1934 بمدينة تونس، ونقل جثمانه لمسقط رأسه قرية الشابة.

ثقافته وشخصيته:
نشير في هذا المحور لشيء من ثقافته، نشأ في أسرة دينية فقد تربى على يدي أبوه وتلقن روح الصوفية التي كانت سائدة في المغرب العربي، وسددتها دراسته الدينية، وساعده مكوثه في مدينة تونس

لدراسة الحقوق أن ينضم (للنادي الأدبي) وأخذت مواهبه الأدبية تبرز و تعبر عن نفسها في قصائد ومقالات ومحاصرات، أعلن فيها عن نفسه وهو دون العشرين. ونلمح في عجالة لتجربته الكبرى التي بآت بالفشل لأن طائر الموت أختطف حبيبته وأعقبه بفترة أن أختطف أبوه مثله الأعلى ومربيه ومثقفه.

والآن نبين شخصية الشابي التي وجدت الرومانسية الملاذ الوحيد له ليعبر عن ما في نفسه وقد كان الطابع المميز لشبان عصره وهو سر الذيوع. وقد كان مؤمنا بقضيته السياسة وكان من الذين حاربوا الاستعمار، وأبرز عاطفته الصادقة في عدة مواضع.


* بعض المعاني في شعره:

الوطنية:
نلاحظ أن ما أثار وطنية الشابي بالدرجة الأولى هي اصطدامه بالرجعية، ووطنيته وطنية جد صارخة ذات هجمات نارية عاتية مدمرة، ولكن لم تكن موجهة للاستعمار بقدر ما هي موجهة لسلاحه الرجعية التي حبست أنفاس الشعب والتي تقيد طموح الشعب فمنعه من التحرر والانطلاق أرجعته بقوة للماضي البالي الذي فقد معناه في نفوس الشباب المتفهم لرسالته في الحياة.

الطبيعة:
حين نتأمل شعر الشابي في ذكره للطبيعة نستطيع وصف حالته بأنه يصفها وصف المعبود وينظر إليها بعاطفة رفيعة تنبعث من مشاركته لظواهرها والاندماج معها. وتصل به هذه العبادة إلى حد الموت الفاني في جمالها وهنا ندرك مدى شدة تركيب شعوره، لأنه لم يتذوقها إلا بعميق إحساسه حتى أنه يبعث من الطبيعة دفئا وحنانا، وهو يظهرها أمامك في كامل بهائها بما تملكه عباراته من قدرة على الإحياء.

الـمـرأة:
من خلال شعر الشابي الذي يتشوق فيه إلى المثالية المرضية لطموحه ويشبع روحه و الشعر الذي قاله في المرأة لا نستطيع أن نجد فيه على أمراه معينة، لها شخصيتها و طبائعها و مزاياها التي تتفرد بها، ونحن نلاحظ أن شعر الشابي صادر عن نفسه المحرومة وكان يتغنى في المرأة كمثل أعلى.


أسلوبه:
نجد أن شعر الشابي منبثق من قوة إحساسه، أنه أسلوب محسوس لأن الروح التي تسري فيه تسد عليك طريقك وتحاصرك فلا تعرف تحديد موضع القوة فيه، وقوة الإحساس هي كل شيء في فنه وشعره، وقد وجهته هذه القوة توجيها خطابيا فلم يستطع التحرر من تلك الصفة التي أخذها على الشعر العربي وهناك أمثلة كثيرة من شعره التي يشعرك فيها بأنه واقف بين قومه يلقنهم تعاليمه أو يصب عليهم جام غضبه ونقمته.

أيها الشعب! ليتني كنت حطا با فأهوي على الجذوع بفأسي!
أنت روح غبية، تكره النو ر،وتقضي الدهور في ليل ملس







شـاعــــر الـحـب و الـحـيــــاة أبـو القاســـم الشابـــــي

فاطمة جعفر



الـمـقدمـــة
لم يكن الشابي ومضة في حياة الشعر العربي وإنما كان بحياته القصيرة الطويلة نقطة تحول في الشعر العربي فقد كان من كبار المجددين الذين رؤوا في الشعر العربي القديم تراثا يجب احترامه وليس منهجا يجب اتخاذه. فكان رأيه هذا سببا في نفور الناس منه لأنهم لم يفهموه لأنه سبق عصره أم اليوم فنحن فهمناه فاستوعبنا أراؤه.

لقد كان الشابي بشعره يقف في مصاف كبار جنود وسياسيي العالم الثالث (المستعمر) فقد كان محاربا لا هوادة فيها ضد الاستعمار، وأخذ على عاتقه محاربة الرجعية و الجهل وظلام التخلف. كما أنه لم يظهر نجمه إلا بعد موته لأن بعد موته بفترة بسيطة اشتعل العالم بنيران الحرب العالمية الثانية، وتلتها ثورات التحرير في الوطن العربي، فكاد العالم أن ينسى الشابي إلى أن نشر زميله وأخوه آثاره وبعض النقاد كذلك. لهذه الأسباب وغيرها رأينا أن نقدم تقرير نعرض فيه نبذة عن مولده وثقافته وصفاته الخلقية وأخلاقه الرفيعة وشعر هذا (الشاعر البلسم) بلسم الشعوب المستعمرة بالجهل والمكبلة بالرجعية، ثم نتحدث حول الإطار الاجتماعي الذي عاش فيه، ونختم ذلك بذكر أثره بعد وفاته على المستوى الثقافي.

مـولـده ونشأتـه

ولد أبو القاسم الشابي في يوم الأربعاء في الثالث من شهر صفر سنة 1327هـ الموافق للرابع والعشرين من شباط عام 1909م ، وذلك في بلدة توزر في تونس.

أبو القاسم الشابي هو إبن محمد الشابي الذي ولد عام 1296هـ ( 1879 م) ، وفي سنة 1319هـ ( 1901 م) ذهب إلى مصر وهو في الثانية والعشرين من عمره ليتلقى العلم في الجامع الأزهر في القاهرة. ومكث محمد الشابي في مصر سبع سنوات عاد بعدها إلى تونس يحمل إجازة الأزهر. ويبدو أن الشيخ محمد الشابي قد تزوج أثر عودته من مصر ثم رزق ابنه البكر أبا القاسم الشابي وتولى القضاء في نفس عام ولادته ، قضى الشيخ محمد الشابي حياته المسلكية في القضاء ، ويبدو أن الشابي الكبير رغب في العودة الى توزر ، ولم يعش الشيخ محمد الشابي طويلا بعد رجوعه إلى توزر فقد توفي في الثامن من أيلول – سبتمبر 1929 الموافق للثالث من ربيع الثاني 1348هـ. كان الشيخ محمد الشابي رجلا صالحاً تقياً يقضي يومه بين المسجد والمحكمة والمنزل وفي هذا الجو نشأ أبو القاسم الشابي ومن المعروف أن للشابي أخوان هما محمد الأمين وعبدالحميد.

تلقى الشابي تعليمه الأول في المدارس القرآنية وكان ذكيا قوي الحافظة فقد حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره، بعد ذلك أرسله والده لجامع الزيتونة وحصل على شهادة التطويع 1927 وهو في سن الثامنة عشرة، ولم يكتف أبوه بذلك فأدخله كلية الحقوق وتخرج منها سنة 1930 .

وكانت نقطة التحول في حياة شاعرنا موت حبيبته وهي مازلت شابة، ثم تبعه بعد ذلك الموت واختطف أبوه، فتسبب هذين الحادثين في اعتلال صحته وأصيب بانتفاخ في القلب فأدى ذلك لموته وهو صغير السن في عام 1934 بمدينة تونس، ونقل جثمانه لمسقط رأسه قرية الشابة.


ثـقـافـتـــه

نشير في هذا المحور لشيء من ثقافته، نشأ في أسرة دينية فقد تربى على يدي أبوه وتلقن روح الصوفية التي كانت سائدة في المغرب العربي، وسددتها دراسته الدينية، وساعده مكوثه في مدينة تونس لدراسة الحقوق أن ينضم للنادي الأدبي ، وأخذت مواهبه الأدبية تبرز و تعبر عن نفسها في قصائد ومقالات ومحاضرات، أعلن فيها عن نفسه وهو دون العشرين. ونلمح في عجالة لتجربته الكبرى التي باتت بالفشل لأن طائر الموت أختطف حبيبته وأعقبه بفترة أن أختطف أبوه مثله الأعلى ومربيه ومثقفه.

و شخصية الشابي التي وجدت الرومانسية الملاذ الوحيد له ليعبر عن ما في نفسه فقد كان الطابع المميز لشبان عصره وهو سر الذيوع. وقد كان مؤمنا بقضيته السياسة وكان من الذين حاربوا الاستعمار، وأبرز عاطفته الصادقة في عدة مواضع.


عناصر شخصيته

خلق شخصية الشابي العجيبة أربعة عوامل واضحة المعالم في حياته وأحواله النفسية ثم في اتجاهه الفكري وفي شعره :
1. مرضه ، وعن مرضه نشأ تشاؤمه وسويداؤه وشدة انفعاله حينا بعد حين .
2. حالته المادية ، وعنها نشأ ضغط أعباء الحياة وتكاليفها عليه فحرمه كثيرا من الحرية التي كان يجب أن يتمتع بها .
3. مطالعته ، وهي التي طبعت نفسه وشعره بعناصر الخيال والانفلات والنقمة ثم أدخلت على شعره شيئا من الجدة والطرافة .
4. حال بلده تونس ، في البؤس الاجتماعي والتخلف الثقافي والضعف السياسي؛ مما خلفه الاستعمار الفرنسي .

ولقد أضيفت هذه العوامل إلى عبقرية أصيلة وشاعرية فياضة فإذا نحن أمام شخصية فذة ولكنها هائمة مضطربة ؛ وعاجزة لكنها متمردة طموح . وكان أبو القاسم الشابي ضعيف البنية نحيف الجسم مديد القامة ؛ ثم زاده المرض في أبان النمو الطبيعي نحولا وضعفا.


ميزاته الأخلاقية

أجمع الذين عرفوا الشابي عن قرب وتعايشوا معه أن له صفات أخلاقية تميزه عن غيره من الشعراء والأدباء الذين عاصرهم . فكانت علاقة الشابي بأصدقائه طيبة . فكان يحافظ على الصداقة الحميمة التي كانت تربط بيت الشابي ببعض الأسر والعائلات التونسية ، إذ كان يتردد على الشيخ المختار بن محمود في بيته فيتحدثان في شتى فنون الأدب وشؤون الفكر والثقافة العربية والإسلامية .لقد شعر المختار بن محمود بنبوغ أبي القاسم الشابي . فكلاهما لقى في صديقه ضالته . فكانا يتجولان معا في الحدائق والمنتزهات . وإذا ما غادر أبو القاسم الشابي العاصمة ليتحول إلى مسقط رأسه كانت الرسائل تقرب بينهما . وكان أبو القاسم الشابي حريصا على أن تكون علاقته بالمجتمع متسمة بطابع الاقتداء بوالده الذي ترك له طيب الأثر لدى بعض العائلات ، والصدى المحمود عند بعض الأصدقاء والمعارف . ونكاد نجزم أن الشابي كان محل تقدير وإعجاب من طرف أساتذته وشيوخ العلم .


أما علاقة الشابي بأغلب أدباء وشعراء عصره فهي علاقة مبنية على الاحترام المتبادل والود والتقدير والإخلاص. فعندما تقرأ بعض الرسائل التي تبادلها الشابي مع أصدقائه تنبع من نفوس طيبة وصداقة متينة مبنية على حب الأدب والثقافة العربية الإسلامية ، وعلى العمل على رفع مكانة الأدب والأديب التونسي وجعله يساير بعض الأدباء في الأقطار العربية التي أصبحت لها طقوس أدبية .

ولقد عرف عنه أنه خجول لا يتكلم كثيرا ، يهتم بالمحيط الاجتماعي والسياسي والأدبي ، ويتفاعل معه . يهتم بالمطالعة ويقرأ الصحف والمجلات والكتب ، يراسل أصدقاءه ومعارفه فلم تنقطع صلته بأصدقاء الدراسة عندما أنهى تعليمه العالي واستقر بمسقط رأسه في توزر أو في غيرها وأنه شغوف باللغة العربية وحريص على حضور المحاضرات والمسامرات الأدبية .

يعتذر بلبقاة عند تخلفه لموعد ما ، وعرفت فيه مكارم الأخلاق في أسمى معانيها وأجلى مظاهرها ، فهو ذو حلم وكرم وتسامح عن الزلات التي تصدر عن أصدقائه أو أقرب الناس إليه . مخلص لأصدقائه محب لبلاده. متفان في الإخلاص لأسرته نسى آلامه ومرض عندما مرضت زوجته . وكان سروره عظيما حينما شفيت من مرضها . بعيد عن الرياء والتنافس المذموم . لم يكن معجبا بنفسه ولم يفتخر يوما لأصدقائه بأعماله الأدبية . يعتز بنفسه لكنه يخجل من المدح والإطراء.


الـشــابـي الإنـســان

عاش أبو القاسم الشابي بين بني قومه 25 عاما ، ولكن حياته الأدبية والاجتماعية لم تشمل ولو عقدا واحدا من الزمن . ففي السنوات القليلة التي عمرها في دنيا الفكر والأدب كان عملاقا رغم صغر سنه وقد استطاع أن يربط علاقة طيبة ومتينة مع جميع الأوساط الاجتماعية والأدبية .وأصبح الشابي في أعوام قليلة محط أنظار جميع الذين عرفوه عن قرب فالتحموا به التحام الروح بالجسد وعرفوا عنه كل كبيرة وصغيرة وأبهرهم نبوغه المبكر .

وعندما ألقى محاضرة " الخيال الشعري عند العرب " في فاتح بنوفمبر 1929 ، وتصدر لها حسين الجزيري ومحي الدين القليبي وهما من أقدر العناصر الصحافية المعروفة بمتانة الأقلام في نوعها . كما إنهما من العناصر الوطنية البارزة في الحزب الدستوري التونسي فكان لنقد هذين الرجلين طابع سياسي أكثر منه أدبي لأنه فاقد للهجة الاعتدال ومائل إلى التجريح والتهكم والاستخفاف والتشهير .

فلم يقع رد فعل من طرف أبي القاسم الشابي على الذين تهجموا عليه ونقدوه نقدا لاذعا ورموه بالكفر والإلحاد. ولم يتعرض لهم في قصائده بالهجاء المر مثل ما يصنع بعض الشعراء . ولكنه سار في الطريق الذي رسمه لنفسه ولم يعبأ بأصحاب الحزب الدستوري ولم يتعرض لهم في شعره إلا سنة 1933 ، عندما كتب قصيدة " نشيد الجبار " . إذ يقول في هذا القصيد :

و أقول للجمع الذين تشجموا *** هدمي و ودوا لو يخر بنائي
ورأيتموني طائرا مترنمــا *** فوق الزوابع،في الفضاء النائي
فأرموا على ظلي الحجارة،واختفوا *** فوق الرياح الهوج الأنواء
وهناك في أمن البيوت تطارحوا *** غث الحديث ، وميت الآراء
وترنموا ما شئتم بشتائمي *** وتجاهروا – ما شئتم – بعدائي
أما أنا فأجيئكم من فوقكم *** والشمس والشفق الجميل أزائي :
من جاش بالوحي المقدس قلبـه *** لم يحتفل بحجارة الفلتـاء

من هذه الأبيات نشعر بأن أبا القاسم الشابي كان في عداء مستمر مع رجال الحزب الحر الدستوري وقد ناصبهم العداء مثل ما ناصبوه لكنه لم ينزل في هجائه بالشتم والتجريح مثل ما صنعوا به.


آثـــاره

إن الآثار الأدبية التي خلفها الشابي – بالإضافة إلى عمره القصير – آثار كثيرة جياد ، وقد قسمناها إلى قسمين رئيسين :
1. آثاره المطبوعة :
• الخيال الشعري عند العرب .
• أغاني الحياة ( ديوانه ) " ديوان أبي القاسم الشابي ".
• قصائد نشرت في الجرائد والمجلات وفي كتب الدراسات ، قبل موته وبعد موته .
• مقالات ومحاضرات ويوميات ( مذكرات ) نشرت في الجرائد والمجلات وفي كتب الدراسات ، قبل موته وبعده .
• بعض رسائله.
• بعض مذكراته .

2. أثاره التي لا تزال مخطوطة :

• جميل بثينة ( قصة ) .
• قصص أخرى .
• المقبرة ( رواية ).
• صفحات دامية ( قصة ).
• السكير ( مسرحية ).
• مقالات ومحاضرات ورسائل ويوميات .

خـصـائـص شعره الفنـيــــة

نظم الشابي أشعاره في مدى ثماني سنوات أو عشر سنين في الأكثر. مما يلفت النظر أن الشابي ظهر فجأة كشاعر تام النضج كما يقول الحليوي أو على شيء كبير من النضج على الأصح وخصوصاً إذا قيس بأنداده المعاصرين حتى أولئك الذين كانوا أكبر منه سناً.

والشابي شاعر وجداني ، خالص ، وهو على صغر سنه شاعر مكثر مجيد ، ولقد أجمع الدارسون على أن الشابي قد طبع شعره على غرار المذهب الرومانسي. نشر مصطفى ربج سلسلة مقالات في مجلة الأسبوع التونسية عنوانها " الرومانتيكية والشابي " ثم جمعها في كتاب اسماه " شاعران" ولقد رأي مصطفى رجب الخصائص الرومانتيكية تبرز عند الشابي في :

اللفظ –الأسلوب – القالب – الدعوة إلى الطبيعة – الإستماع الى النفس – توسيع دائرة الشعر – ابتكار المواضيع –تأثر العالم الداخلي بالعالم الخارجي – النزعة الانسانية.

جرى الشابي في شعره على أسلوبين : أسلوب فخم متين النسج جاء به في طوره الأول في الأكثر وخص به قصائده في الحكمة والرثاء والفخر ، ثم أسلوب لين سلس جاء به في القصائد التي طواها على أغراضه الوجدانية والخيالية. وكان من الطبيعي أن تضم قصائده التي على الأسلوب الأول ألفاظاً جزلة وألفاظاً غريبة وأن تكون متخيرة تدل على إحاطة بالقاموس العربي إلى حد كبير. والشابي كأمثاله من الناقمين على عمود الشعر العربي ، وعلى الحياة العربية الأصلية ، أراد أن يتجنب الألفاظ الإسلامية ذات النفحه العربية الملامح ليتبدل بها ألفاظاً وثنية الأصل عامية الاستعمال ، وخصوصاً في طوره المتأخر.

وتراكيب الشابي كألفاظة تجري مجريين: مجرى أساليب العرب ومجرى آخر كثير التحرر والانفلات من أساليب العرب يجب أن يكون التركيب صحيحاً متيناً. ونعني بالتركيب الصحيح أن تجري الجملة على أساليب العرب في الترتيب ووجوب التقديم والتأخير أو جوازهما وفي الاضمار وما إلى ذلك.

الشابي خيالي التفكير خيالي التعبير يبحث عن مثل أعلى من صنع هذا الخيال فلا يجده في العالم الذي يعيش فيه فينقلب شاكياً باكياً ثم تصطبغ آراؤه وتعابيره بالأسى والحزن والكآبة والوجوم. وقد لاحظ زين العابدين السنوسي يوم كان عمر الشابي خمسة عشر عاماً أن الشابي قد امتلك ناصية الخيال ورغم أنه سكت عن الخيال عند الشابي بعد ثلاثين عام وذلك في كتابة " أبو القاسم الشابي " لكنه يخبرنا أن التصور عند الشابي قد كان صادقاً حقيقاً لمن عاشرهم وسكنوا نفسه وانطبعوا في روحه وهي أشباح لأناس حقيقين لا خياليين فما كان أبوه رمزاً خيالياً ولا كانت عشيرة صباه بجنة شاعر أو حلم كاذب.

أغراض الشابي محدودة في نطاقها فهي تدور في الوجدانيات وما يتبعها من التأمل في الحياة ، وكان الشابي منذ طوره الأول قد قال إنه عازف عن الفنون المألوفة التقليدية مكتف بما يعبرّ فيه عن شعوره ، فإذا أغراضه الدائرة في ديوانه هي التأمل في الحياة الطبيعية ( الغابة ، العصفور ، الزنبقة ، الخريف ، المساء ) وفي الحياة الاجتماعية ( السياسية والوطنية والحياة الأدبية ) وفي الحياة الماورائية ( الله ، الموت ) ثم الموضوعات الوجدانيات ( رثاء أبيه ، المجد ) والموضوعات النفسانيات ( الكآبة ، الأمومة والطفولة ) ، ثم الغزل والحب.


الشابي بين شعراء عصره وعلاقته الاجتماعية والأدبية

لقد تطورت علاقة الباحثين والأدباء والشعراء تطورا ملحوظا بأبي القاسم الشابي منذ أن التحق بعالم الخلود سنة 1934 م ، وتكاثرت الدراسات والمراثي وتنوعت ، واعتنت بآثاره شعرا ونثرا اعتناء علميا مركزا وترجمت أشعاره إلى لغات أجنبية متعددة .والمعروف أن الموت يكلل جبين العظماء من رجالات الأدب والمسرح والمجتمع. فلقد أحدثت وفاته ضجة في دنيا الفكر بتونس ومصر. وانعكست هذه الفاجعة على أقلام الكتاب فهبوا يدرسون ويبحثون عن شاب نابغ لم يطل مقامه بينهم. فما أحراها لو ظهرت في حياته القصيرة ! لكن النبوغ لا يعترف به المجتمع بشكل سهل متسامح لأنه نابع من الصراع الذي كان دائرا بين واقع بائس وبين مطامح التغيير.

وقد أدرك الشابي ذلك فقال :

الناس لا ينصفون الحي بينهم *** حتى إذا ما توارى بينهم ندموا

وكثيرا ما يتبادر إلى الذهن سؤال : ما هي منزلة الشابي بين شعراء عصره ؟ وما هي علاقته بهم ؟ ، ومن هؤلاء الشعراء ؟ ولماذا طغى شعره على انتاجهم الشعري ؟

إن الشعراء الذين عاصرهم الشابي كثيرون ، فقد بلغ عددهم 26 شاعرا . لكن العديد من المهتمين بالنقد الشعري والمهتمين بالحياة الأدبية كانوا يقولون في العشرينات أن أبرز شعراء تلك الفترة إنما هما اثنان لا غير : الشاذلي خزندار ومصطفى آغة ، إذ كانا متزعمين الحركة الشعرية التونسية وعملا في المجلات السياسية . وكان شعرهما ذا تأثير كبير في المثقفين التونسيين عامة والسياسين خاصة .

فقد كان الشعر عندهم صحافي تلك الفترة ، قد انحدر إلى الدرك الأسفل من الخيال ، واقتصر على ألعاب لفظية لا يحذقها إلا من برع في اللغة العربية الفصحى ، واطلع على آداب العرب . ثم جاء الشابي فجعل الشعر في المرتبة السامية الأولى لعامل الخيال الخلاق ، وعنوان الطموحات الاجتماعية ، وهزة مكهربة تتنفسها الذات الإنسانية الودية في أخص خصائصها ، وتعبير متقد عن كيان تونسي وعربي جديد يصبو إلى امتشاق السماء ، ونشر اللغة العربية وإشاعتها في الشوارع والمحافل والمقاهي والمدارس والحياة اليومية عامة .

والمأساة التي عاشها أبو القاسم الشابي بمرارة هي الغربة في أسمى معانيها. فلقد طاح هذا الطائر الغريب المترنم حسب تعبيره بين جماعة من المتأدبين ومن أنصاف المثقفين ومن المطلعين على الأدب القديم اطلاعا سطحيا ، فاجتمعوا عليه بالثلب والتجريح والتهمة واستهدفوه بالشتيمة بالسر والجهر ، وتعللوا بأن شعره غامض لا يفهم ، ورمزي مستورد، وقد كان أغلب هؤلاء المتأدبين يناصبونه العداء لتنغيص عيشه حتى يمسك عن الشعر .


الـشابي بعـد وفـاتــه

قد أحس الوسط الثقافي يومئذ بأن الشعر العربي نكب في عبقرية فذة وفي رائد من رواد الشعر العربي الحديث فبكوه مر البكاء وأصبح ديوان الشعر العربي يزخر بالمراثي الخالدة التي تمجد عبقرية الشابي الشاعر الناثر.

وهكذا ما أنفك اهتمام الأدباء والشعراء بأدب الشابي بعد وفاته يزداد يوما بعد يوم. فمن اليوم الثالث من وفاة أبي القاسم الشابي أي يوم 11 / 10 / 1934أقامت الشبيبة المدرسية لقاء ترحميا سعى لإقامته الأستاذ الطيب العنابي وقد أشرف على هذا اللقاء الدكتور الصادق المقدم. وفي هذا اللقاء التأبيني ألقيت الكلمات والدراسات والقصائد عن الشابي وكانت جل الكلمات والخواطر مشحونة بالعواطف الصادقة والآلام لفقدان شاعر عبقري خطفته يد المنون وهو في ريعان الشباب. وقد جمع الأستاذ العنابي جل ما قيل في ذلك اللقاء ونشر في كتاب صغير.

وفي سنة 1936 أحيا الأدباء الذكرى الثانية لوفاة الشابي وانفرد عدد من شهر ديسمبر لمجلة الأفكار بعض ما قيل في هذا اللقاء الأدبي التذكاري. ومن ذلك الحين أصبح الأدباء والشعراء يقيمون الحفلات التذكارية تنشد فيها الأشعار، وتقدم الدراسات عن أدب الشابي. ومن أبرز المجلات الأدبية والصحف التي اعتنت بالشابي ، مجلة العالم الأدبي والأفكار والثريا وجريدة الأسبوع ومجلة الندوة إذ قامت هذه الدوريات بنشر أعداد خاصة عن الشابي ساهم فيها الكتاب والشعراء بتلك الفترة .

أما وزارة الشؤون الثقافية فقد نظمة ثلاثينية الشابي وذلك في الستينات ، أما في السبعينات فقد نظمت ذكرى الأربعين عاما على وفاته، وكان لهذين اللقائين صدى كبير في الحياة الفكرية والدبية لما امتازت به تلك اللقاءات من شمولية في البحث والعدد الوافر من المشاركين سواء من تونس أو الأقطار العربية، بالإضافة إلى الشعراء الذين خلدوا الشابي بأشعارهم ، وبذلك دخل الشابي جل أدونة شعراء العرب .وما كتبنا هذا إلا تحية إكبار وتقدير للشابي ولكل الشعراء العرب الذين تفاعلوا مع شعر الشابي وآمنوا بعبقريته على امتداد نصف قرن






التشخيص في شعر أبي القاسم الشابي
بقلم: د. ماجدة عبد الله

مقدمة:

يعد شعر أبي القاسم الشابي مثالا صادقا للشعر الرومانسي بصفة عامة، فيلاحظ أن التجربة الشعرية لدى الشابي ممثلة لآمال وآلام شعراء الحركة الرومانسية، فهو ينشد الجمال المطلق والسعادة، ويرى الحب سبيلا لتحقيق الخير والجمال في الكون كله، ويسمو بالحب، ويقدسه أعلى درجات التقديس.
وقد عاش الشابي حياته في صراع مع مرضه، ومع مجتمعه (تونس) الذي لم يفهم ولم يقدر أفكاره الجديدة، ونبوغه الشعري إلا بعد وفاته.. وقد أدى ذلك إلى شعور الشابي بالغربة، وقد كان هذا الشعور شائعا لدى جميع الشعراء الرومانسيين الذين فضلوا العزلة عن مجتمعاتهم والفرار إلى الطبيعة بكل ما فيها، أو الفرار إلى داخل النفس ليعيشوا في عالم آخر خاص بهم.

وقد تضافرت الظروف الاجتماعية والسياسية وأيضا الخاصة التي عاشها الشابي في تشكيل رؤيته وتجربته، فقد عانى ظلم مجتمعه، وتأثر بما كان سائدا فيه من تخلف وجمود، كما عانى آلام الوحدة بعد أن فقد حبه الذي ظل يبكيه طوال حياته، وبعد أن فقد أباه الذي كان رمزا لكل المبادئ والمعاني السامية التي يؤمن بها الشابي، وعانى آلام المرض الذي أصيب به في مرحلة شبابه، وكان سببا في وفاته وهو في ريعان الشباب.
كل هذه العوامل أدت إلى الإحساس الحاد بالألم داخل نفس الشابي، كما أدت إلى ثورته على الجمود والتخلف من جهة أخرى، وقد عبر عن ذلك في شعره الذي يبدو فيه الصراع بين الحزن والسعادة، وبين الموت والحياة، وينتهي هذا الصراع بتفضيل الموت الذي اعتبره الشابي بداية لحياة أخرى مليئة بالسعادة والجمال المطلق، بعيدة عن الآلام والقبح الذي انتشر في حياة البشر، ويبدو ذلك في قوله:

أما إذا خمدت حياتي وانقضى **عمري وأخرست المنية نائي
فأنا السعيد بأنني متحول ****عن عالم الآثام والبغضاء
لأذوب في فجر الحياة السرمدي **وأرتوي من منهل الأضواء



وقد اعتمد الشابي في تشكيل موقفه ورؤيته التي تصور الصراع والآلام بداخله على التشخيص الذي ينتشر في شعره انتشارا واسعا، إذ يعتبر وسيلته للكشف عن انفعالاته وآلامه الداخلية وصراعه مع مجتمعه، فالتشخيص ذو قدرة كبيرة على التكثيف العاطفي، وعلى الإيجاز والإيحاء، وهذا أمر يسعى إليه شعراء الرومانسية ومنهم الشابي بصفة خاصة.
والتشخيص أكثر الصور قدرة على التعبير عن المشاعر الداخلية، وأكثر قدرة على تحقيق الإسقاط، إذ يسقط الشاعر ذاته على مظاهر الطبيعة من حوله من خلال صوره التشخيصية، ويبدو ذلك في معظم شعر الشابي وخاصة في قصيدة "مأتم الحب" التي سنتوقف عندها.
وقبل ذلك لابد من مناقشة ظاهرة التشخيص التي سادت عند شعراء الرومانسية بصفة عامة.


إن التشخيص سمة من سمات الشعر الرومانسي بصفة عامة، فالرومانسيون يكثرون من تشخيصهم للأشياء ولمناظر الطبيعة وقوى الإنسان، وهذا يدل على عواطفهم المشبوبة وحسهم المرهف بجمال الطبيعة.
وهذا يؤكد رأي فريق من الباحثين الذين يحملون التشخيص على قوة العاطفة وعمقها، فالوجدان الإنساني قد يقوى لدرجة أنه "يمتد فيشمل ما يحيط به من الكائنات"
ولاشك أن إيثار التشخيص يرجع إلى ذاتية المبدع الذي يسقط ذاته على الوجود وعلى الطبيعة من حوله، فيمنح الكائنات كيانا إنسانيا يشاركه حياته ومشاعره، لذا يلجأ الرومانسيون إلى هذا النوع من التصوير تعبيرا عن مشاعرهم ورؤيتهم الذاتية للكون "فالشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر ويهتز لكل هامسة ولامسة فيستبعد جد الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير، وتوقظه تلك اليقظة وهي هامدة جامدة، خلو من الإرادة".


وهذا يفسر ظاهرة التشخيص التي سادت عند الرومانسيين وعدت من خصائص الأدب الرومانسي.
والتشخيص ذو قدرة على التكثيف والإيجاز، وهذا أمر يتناسب مع ذاتية المبدع الرومانسي وتجاربه الخاصة، وهذا يفسر بروز هذه الظاهرة في العصر الحديث بعد ثورة الرومانسيين على الأسس الجمالية للتفكير التقليدي.
ولا شك أن بروز هذه الظاهرة عند الشابي خاصة، وفي الاتجاه الرومانسي بصفة عامة، وإيثار الشعراء الرومانسيين لهذا النوع، لا يعني أن هذه الظاهرة جديدة على الشعراء، وإنما يعني ارتفاع نسبة تكرار هذه الظاهرة الأسلوبية عند الرومانسيين أكثر من سابقيهم، لأن ظاهرة التشخيص تعتبر ظاهرة عالمية في جميع الآداب، لذلك "التفت إليها البلاغيون في كل أدب وأشار إليها أرسطو في شعر هوميروس الذي كان يجري كثيرا من مجازاته على طريقتها، فالرمح مجنون والحجر قاس، كما أشار إليها دارسو الآداب العبرانية القديمة والآداب السامية".


وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى التشخيص وأهميته، لذا يعلق على بيت المتنبي لما جعل "الجوزاء تسمع على عادتهم في جعل النجوم تعقل ووصفهم لها بما يوصف به الأناسي".
كما أشار عبد القاهر إلى هذه الظاهرة وأهميتها في تشكيل الاستعارة.. فبالاستعارة "ترى الجماد حيا ناطقا، والأعجم فصيحا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية".
وهذا يدل على أهمية التشخيص باعتباره ظاهرة فنية وسمة أسلوبية توافرت في الأدب العربي قديمه وحديثه، كما شاعت في الآداب الأخرى قديما وحديثا.. فالتشخيص ظاهرة أسلوبية شملت الآداب العالمية قديما وحديثا، ويبدو التشخيص في قصيدة مأتم الحب واضحا حيث يقول الشابي:



ليت شعري
أي طير
يسمع الأحزان تبكي بين أعماق القلوب
ثم لا يهتف في الفجـ ـر برنات النحيب
بخشوع واكتئاب

لست أدري
أي أمر
أخرس العصفور عني أترى مات الشعور
في جميع الكون حتى في حشاشات الطيور
أم بكى خلف السحاب

في الدياجي
كم أناجي
مسمع القبر بغصــــا ت نحيبي وشجوني
ثم أصغي علني أسـ ـمع ترديد أنيني
فأرى صوتي فريد

فأنادي
يا فؤادي
مات من تهوى وهــذا الـ ـلحد قد ضم الحبيب
فابك يا قلب بما فيـ ـك من الحزن المذيب
ابك يا قلب وحيد

ذل قلبي
مات حبي
فاذرفي يا مقلة الليــ ـل الدراري عبرات
حول حبي فهو قد ودع آفاق الحياة
بعد أن ذاق اللهيب

واندبيه
واغسليه
بدموع الفجر من أكــواب زهر الزنبق
وادفنيه بجلال في ضفاف الشفق
ليرى روح الحبيب


يبدو إيثار الشابي للاستعارة التشخيصية في قصيدة "مأتم الحب" إذ تصل نسبة تكرار التشخيص إلى 77 في المائة تقريبا من صوره في القصيدة.
ويبدو الجانب المأسوي في رؤية الشابي للكون، فهو يعبر عن ألمه وتمزقه النفسي وشعوره بالفقد، ويستخدم الشابي الصور التشخيصية بصفة خاصة في تشكيل موقفه ورؤيته.
ويبدو دور التشخيص واضحا في القصيدة، فالشاعر يجعل عنوان القصيدة "مأتم الحب"... وهنا يبدو أهم محور من محاور التشخيص في القصيدة وهو تشخيص الحب الذي يشيعه الشاعر بالحزن والبكاء، وهذه الصور تحمل شحنات عاطفية كبيرة فهي تصور مدى الآلام التي يعانيها الشاعر بسبب فقده للحب، كما تصور رؤيته العامة للحب، تلك الرؤية الرومانسية التي تجعل الحب سبيلا وحيدا للسعادة والجمال والخير، وهذا يدل على تقديس الحب والحبيب.
كما يستخدم الشاعر التشخيص ليحقق من خلاله الإسقاط إذ يسقط ذاته على الكون من حوله من طير، وعصفور وقبر، فالأحزان (تبكي) والطير (يهتف برنات النحيب)، (بخشوع، واكتئاب) والحزن (أخرس العصفور)، والشعور (بكى خلف السحاب).
وهذه الأشياء تتجاوب مع الشاعر، وهي تشعر بالحزن والألم مثله، فالشاعر يسقط أحزانه الداخلية على كل شيء حوله، وهو يبث مشاعره في هذه الأشياء من خلال تشخيصها، وهذا يدل على الامتزاج بين الشاعر وبين الطبيعة من حوله، لذلك (يناجي القبر بغصات نحيبه).


ويصور الشاعر غربته في الكون من خلال صوره التشخيصية، ومن خلال الألفاظ التي تحمل ظلالا وإيحاءات حزينة منها (القبر – الأنين – صوتي فريد).
وفي المقطع الثالث من القصيدة محور آخر من محاور التشخيص في القصيدة وهو تشخيص الفؤاد الذي يحاوره الشاعر مصورا عذابه الداخلي ويبدو ذلك من خلال الصور التي توحي بالألم والتمزق الداخلي، والحزن الشديد لفقد الحبيب، فالشاعر ينادي الفؤاد (يا فؤادي)، (ابك يا قلب بما فيك من الحزن المذيب).
وتستمر الصور التشخيصية في المقطعين الأخيرين إذ يسقط الشاعر من خلال التشخيص حزنه الداخلي على كل شيء حوله، ويعتمد على تشخيص الحب، وتشخيص الأشياء من حوله لتشاركه آلامه وحزنه على حبه المفقود.. فالشاعر يشخص الحب الذي (ودع آفاق الحياة) ويسقط ذاته على الليل من خلال التشخيص (اذرفي يا مقلة الليل).
وتبدو رؤية الشاعر الرومانسية التي تقدس الحب وترتفع به إلى أسمى مكانة في صوره التشخيصية: (اندبيه، اغسليه، بدموع الفجر، ادفنيه بجلال،ليرى روح الحبيب).
وهي صور تشخيصية تحقق التكثيف العاطفي وتصور رؤية الشاعر بإيجاز، فقد صار موت الحبيب رمزا لموت الحب كله في الكون وفقدان السعادة والجمال، والطهر الذي يبدو في صوره وألفاظه المستمدة من مصادر دينية (جلال، روح، خشوع، اغسليه).
وهكذا يبدو دور التشخيص في تشكيل رؤية الشاعر في هذه القصيدة، مما يؤكد أنه سمة أسلوبية تكثر في شعر الشابي.






أبو القاسم الشابي ناقدا- ريم العيساوي


تتعلق المسالة بأهم عمل نثري تنظيري لأبي القاسم الشابي ، وهو محاضرة "الخيال الشعري عند العرب " تلك المحاضرة التي صدّرها بكلمة تكشف قلقه المعرفي بموضوعه والتي وضعها في إطار الصراع بين الماضي والمستقبل حين قال: "لقد أصبحنا نتطلب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشباب ، ومن يتطلب الحياة فليعبد غده الذي في قلب الحياة . أما من يعبد أمسه وينسى غده فهو من أبناء الموت "
نشرت هذه المحاضرة في كتاب ، طبعة أولى عن دار المعارف للطباعة والنشر _ سوسة – تونس ، في 202 صفحة سنة 1998 .وجاء الكتاب في سبعة أبواب ‘ بعد الإهداء وكلمة المؤلف والتمهيد والمقدمة بقلم الأديب زين العابدين السنوسي عالجت أبواب الكتاب نشأة الخيال في الفكر البشري وأقسام الخيال – الخيال الشعري والأساطير العربية – الخيال الشعري والطبيعة في الأدب العربي – الخيال الشعري والمرأة في الأدب العربي – الخيال الشعري والقصة في الأدب العربي - فكرة عامة عن الأدب العربي – الروح العربية .
لا يخفى على الناس أن شاعرية أبى القاسم الشابي ذاع صيتها شرقاً وغرباً . أخفت شاعريته آراءه النقدية على الكثير ، رغم أن اهتمامه بنقد الشعر وقضاياه ورؤيته النقدية كانت واضحة تتخلل قصائده التي حدد في الكثير منها جوهر الشعر ورسالة الشاعر ودور المثقف في الحياة والمجتمع . كما تحدث في مذكراته عن قضايا لها علاقة بالنقد .
ولا يخفى على الجميع علاقة الشابي برائد حركة أبولو، الشاعر أحمد زكى أبو شادي الذي تيقن من موهبته فطلب منه مقدمة لأحد دواوينه ، فكان الشابي من رواد هذه المدرسة وليس من تلاميذها كما يعتقد البعض .
وما يؤكد شخصية أبى القاسم الناقد محاضرته "الخيال الشعري عند العرب " التي ألقاها سنة 1929 م بالمدرسة الخلدونية بتونس العاصمة ، وهى المؤلف الوحيد الذي نشر في حياته ، مقارنة إلى ديوانه :
" أغاني الحياة " الذي طبع بعد موته بأكثر من عشرين سنة . وهذا الديوان يضم 110 قصيدة ومقطوعة والذي أشرف على طباعته أخوه محمد الأمين الشابي .
وكتابات الشابي النثرية متنوعة تضم : 1- الخيال الشعري عند العرب .
2- رسائل مع معاصريه في تونس ومصر وسوريا
3- يوميات ( 30 يومية )
4- مجموعة من المقالات والمحاضرات
5- كتاب "شعراء المغرب" من خلال وثيقة نادرة :80 صفحة
6- خواطر أدبية واجتماعية
تناول الشابي في كتابه " الخيال الشعري عند العرب" قضايا نقدية عديدة منها الخيال والطبيعة والمرأة حاول في هذا المصنف دراسة الروح العربية وإبراز مميزاتها . وصرح بهدفه منه : "حسبه تلبية رغائب الكثيرين من الشباب الناهض المستنير" . تبرز من خلال هذا الكتاب شخصية الشابي الناقد والتي ظلت سنينًا غامضة بسبب تقصير الدارسين والباحثين مقارنه إلى ما حظي به الشابي شاعرا من اهتمام بمئات الدراسات والبحوث . والحقيقة أنه لولا رؤيته النقدية ولولا مرجعياته النظرية المتأصلة فيه لما كان رائد حركة التجديد الشعري والمؤسس لمشروع شعري جديد .
لقد دعا أبو القاسم الشابي في "الخيال الشعري عند العرب " إلى تجاوز المفاهيم السائدة والموروثة وثار على نظرة العرب المقدسة للشعر والأدب وهى دعوة تتجاوب وقتها مع ما دعا إليه ميخائيل نعيمة في كتابه النقدي " الغربال " وما دعا إليه عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني وطه حسين في المشرق ، لكنها ثورة الشابي فيها من الحماس والانفعال إلى الحد الذي صدمت به الأوساط الثقافية في تونس آنذاك وقد عبر زين العابدين السنوسي في مقدمته للكتاب عن هذه الصدمة بقوله :
" قام في مصر وسوريا والعراق وتونس أفذاذ من النقاد يضعون أصابعهم على مواضع الألم ويبرهنون على مواقع النقص والضعف ولكن هذه العملية تختلف عن السابقة لأنها لا تكتفي من مس القديم بالبناء حوله والإضافة عنه بل هي تقدم رأسا على تشذيب العصا المباركة وهدم أنحاء بعينها من الهيكل المقدس مما يثير صرخات الشيوخ وضجيج المحافظين "
كما كشف زين العابدين السنوسي عن أثر المحاضرة في نفسه :" لما سمعت المحاضرة لأول مرة خرجت من قاعة الاجتماع مهتم العقل أكثر مما كنت منبسط النفس بل يمكنني أن أقول إني خرجت من تلك الجلسة منكمش النفس واجفها ، مع أنى كنت ممن صفقوا لأكثر مقدماتها والمعجبين بدعامتها ولغتها الشعرية الصريحة بل كنت أنا نفسي الذي قدم حضرة المسامر منوها بنبوغه الباكر ووجهته في التجديد الأدبي " .
لكن زين العابدين السنوسي عندما خفت وطأة الصدمة على نفسه أقر بأنه خير لعواطفنا أن يصدمها أبناؤنا بأقلامهم من أن نبقى في غفلتنا مستسلمين لكل ما تعودنا به حتى يصدمنا الدهر، والدهر لا يهادن ولا يرحم .
أما الأديب محمد الحليوي فقد صرح في كتابه " مع الشابي" قائلا :إن المطابع التونسية لم تخرج حتى اليوم أثرا فنيا يعادل كتاب "الخيال الشعري عند العرب" في عباراته الشعرية ولغته النقية وأسلوبه البليغ إنه طرفة فنية أكثر منه بحثا علميا يملي على مؤرخ الأدب نظرياته وأحكامه .
واتفق الدارسون على أن هذا الكتاب يمكّن الباحث من فهم تجربة الشابي الإبداعية في شمولها ويكشف عن مرجعيات تجربته وتعدد روافدها ، وقد أبرز نهم الشابي للقراءة فبدا أثر جبران خليل جبران والمدرسة الرومانسية ومدرسة المهجر إضافة إلى مصادر الأدب القديم ،والآداب الأجنبية القديمة اليونانية ، يعكس هذا الكتاب الأسس الخصبة المتحكمة في تجربة الشابي الإبداعية باعتبارها منطلقه الفكري وأسس قيمه الجمالية.
أما الأستاذ المنجي الشملي ، فيقول :" إنّ الكتاب يحمل قلقا نقديا ، يحمل تساؤل الشابي عن قيمة الأدب العربي القديم بالنسبة إلى الآداب الأخرى ، وهذا التساؤل دليل على حيرة فلسفية قد لا يخلو منها كل من أخلص إلى تراث أمته ورام تغذية ثقافتها برحيق فكري جديد ".
الرؤية النقدية من خلال "الخيال الشعري عند العرب :
حلل أبو القاسم الشابي في القسم الأول من الكتاب : الخيال نشأته في الفكر البشري وما كان يفهم منه عند الإنسان الأول ،عارضا رأيه في الخيال باسطا له في نقط ثلاث :
النقطة الأولى: كون الخيال ضرورة لا غنى عنه ولا تقل ضرورته عن عناصر الحياة الأخرى وضروري لعقل الإنسان ولشعوره وما دام الخيال مصدر الطبع فهو عنصر خالد فينا .
النقطة الثانية : تلخص في أن استعمال الإنسان الأول للخيال لم يكن يعنى منه المجاز الذي نذهب إليه نحن بل يعتقد اعتقادا كاملا في أنه الحقيقة و قد وضّح الشابي هذه الحقيقة بقولة : رأيتم هذا المجهود الخيالي العظيم ، الذي يبذله الإنسان لإرواء نفسه وهو يحسب أنه الحق الأول الذي لا ريب فيه وإلا فهل كان يطمئن إليه ويقيم له فروض العبادة وهو يعلم أنه من زخرف الخيال الشارد ووحي الأوهام المعربدة ؟ *
والطريف في النقطة الثانية هو عرض الشابي إلى أنواع الخيال وقد قسمه إلى قسمين ، قسم يتفهم به الإنسان مظاهرالكون ومعايير الحياة وقسم يظهر به ما في نفسه من معان لا يفصح عنها الكلام العادي المألوف ، وهذا القسم الثاني من الخيال يتولد عنه نوع ثان من الخيال وليد الحضارة ورقي الإنسان ، وسماه الخيال اللفظي وحصر وظيفته في تجميل العبارة وزخرفتها .
وفى تحليل القسم الأول من الخيال يبرز الشابي أنه أقدم القسمين نشوءا في النفس قائلا :" لأن الإنسان أخذ يتعرف ما حوله أولا ، حتى إذا ما جاشت بقلبه المعاني أخذ يعبر عنها بالألفاظ والتراكيب ، ولما مارس كثيرا من خطوب الحياة وعجم كثيرا من أدواء الدهور وامتلك من أعنة القول ما يقتدر به على التعبير أحس بدافع يدفعه إلى الأناقة في القول والخلابة في الأسلوب فكان هذا النوع الجديد من الخيال الذي عمد إليه الإنسان مختارا فكان منه المجاز والاستعارة والتشبيه وغيرها من فنون الصناعة وصياغة الكلام " ( ص27 ) .
و لإبراز فكره أكد الشابي أن الإنسان شاعر بطبعه ولا يجمد شعوره أمام فتنة الطبيعة وسحرها ، ويبرز تفاوت الناس في إدراك الجمال والإحساس به وذلك حسب قوة الغريزة الشاعرة أوضعفها والتي تكون في كثير من الأحيان وليدة الحوادث والظروف.
وفي مسألة العاطفة والعقل فإن الشابي يبين أن الإنسان عند ولادته لا يملك غير حسه وعواطفه ، أما عقله فهو في مهد الحياة ضعيف غير محنك بنوائب الدهر .
والإنسان الأول قوي المشاعر متحفز للخيال بفضله فسر مظاهر الطبيعة الغامضة وعبر عما يجيش في نفسه من أفكار وعواطف وألح الشابي على فكرة أن الإنسان الأول، المعاني الخيالية أقرب إلى ذهنه من المعاني الحقيقية .
ويؤكد في الكتاب على أن الخيال يعتبر حقيقة في أول نشأته ولا يعد خيالا ولم يميز الخيال عن الحقيقة إلا بعد أن تطورت نظرة الإنسان إلى الحياة وأصبح يعرف أن الليل والنهار والعواصف والبحار ليست أرواحا لا آلهة وإنما هي مظاهر للنظام الإلهي .
وفى حاجة الإنسان إلى الخيال يقول الشابي : "الإنسان بحاجة إلى الخيال لأنه وإن أصبح يحتكم إلى العقل ويستطيع التعبير عن خوالج نفسه ، فهو لم يزل يحتكم إلى الشعور ، وسيظل كذلك لأن الشعور هو العنصر الأول من عناصر النفس واحتكامه إلى الشعور يدفعه ولا بد إلى استعمال الخيال لأن الشعور هو ذلك العنصر الجميل المتدفق في صدر الإنسانية منذ القديم مترنما بأفراحها متغنيا بميولها ورغباتها جائشا بكل ما لها من فكر وعاطفة ومن ضجة وسكون ومن هذا النهر الجميل تتولد خرائد الفكر وبنات الخيال" ( ص34 ).
ويعلل الشابي حاجة الإنسان إلى الخيال لأن اللغة مهما بلغت من القوة والحياة فلن تستطيع النهوض من دون الخيال بقدرة التعبير عن خلجات النفس الإنسانية وأفكارها وأحلام البشرية وآلامها بالألفاظ .
وفى مسألة العاطفة والعقل فإن الشابي يبين أن الإنسان عند ولادته لا يملك غير حسه وعواطفه أمام عقله فهو في مهد الحياة ، ضعيف لم تختبره الحياة ولا نوائب الدهر ، والإنسان الأول قوي المشاعر متحفز الخيال بفضله فسر مظاهر الطبيعة الغامضة وبفضله عبر عما يجيش في نفسه من أفكار وعواطف . واللغة في حاجة إلى الخيال لأنه هو الكنز الأبدي الذي يمدها بالحياة والقوة .
وفى تفصيل الشابي لأقسام الخيال فقد سمى القسم الأول " بالخيال الفني " ويسميه الخيال الشعري لأنه فيه تنطبع النظرة الفنية التي يلقيها الإنسان على هذا العالم الكبير وهذا الخيال ضارب بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشعور ، والقسم الباقي من الخيال سماه الشابي الخيال الصناعي لأنه ضرب من الصناعات اللفظية ويسميه الخيال المجازي .
لقد كشف الشابي في كتابه عن زاوية بحثه في الخيال فهو بحث فيه من " ذلك الجانب الذي ينكشف عن نهر الإنسانية الجميل الذي أوله لا نهاية الإنسان وهى الروح وآخره لا نهاية الحياة وهى الله " (38)
و بحث عن الخيال الفني في مظاهر الحياة الفكرية العربية دون حصر البحث في الإبداع الشعري والنثري بل تجاوزه إلى البحث في الأساطير باعتبارها الصوت الأول الذي رن بين جنبي الإنسان والأساطير هي طفولة الشعر في طفولة الإنسان .
الخيال الشعري والأساطير العربية :
يستهل أبو القاسم الشابي هذا الباب من الكتاب بقوله: " لا يعرف التاريخ من الأساطير العربية إلا شيئاً يسيرا لا يستطيع الباحث أن يطمئن إليه كل الاطمئنان . وما نقل من أساطير العرب يغلب عليه الاضطراب والخلط متناثر في كتب الأدب والأخبار ويحمل الشابي الرواة مسؤولية إهمالهم لهذا الفن وعدم اهتمامهم به مثل عنايتهم بالشعر والأمثال ، وعاب على العرب إهمالهم لأساطيرهم ولم ينظم شعراؤهم الأساطير في الجاهلية كما كان شعراء اليونان والرومان يتغنون بها قبل مجيء المسيحية .
ويرى أن القليل الذي نقله التاريخ من الأساطير العربية منها الأساطير الدينية ومنها التاريخية ويبحث في الأساطير الدينية لمعرفة حظها من الخيال الشعري ، ذلك الخيال الذي عرفه في محاولة الإنسان التعرف من ورائه حقائق الوجود وتفهم مظاهر الحياة الغامضة .
ولا يبحث في الأساطير التاريخية لأن هذا النوع وإن كان من صنعة الخيال ، إلا أنه ليس من عمل الخيال الشعري الذي يبحث عنه .
وعن الأساطير العربية الدينية فهو يصرح : " رأيي في هذه الأساطير ، هو أنه لا حظ لها من وضاءة الفن وإشراق الحياة ، وأن من المحال أن يجد الباحث فيها ما ألف أن بجده في أساطير اليونان والرومان من ذلك الخيال الخصب الجميل ومن تلك العذوبة الشعرية التي تتفجر منها الفلسفة الغضة الناعمة تفجر المنبع العذب ، بل إنه لا يعجزه أن يلقى فيها حتى تلك الفلسفة الشعثاء الكالحة التي تطالعه في أساطير الإسكنديناف .
فالآلهة العربية لا تنطوي على شيء من الفكر والخيال ، ولا تمثل مظهرا من مظاهر الكون أو عاطفة من عواطف الإنسان ، وإنما هي أنصاب بسيطة ساذجة شبيهة بلعب الصبية وعرائس الأطفال ، وبقية الأساطير الدينية لا تفصح عن فكر عميق أو شعور دقيق ولا ترمز لمعنى من المعاني السامية ، إنما هي أدنى إلى الوهم منها إلى أي شيء آخر ،لا استثني من ذلك إلا أسطورة النجوم فإن عليها شيئا من وضاءة الشعر ووضاءة الخيال "ص 45



نقد الشابي عبادة العرب الجاهلية لآلهة كثيرة كغيرهم من الأمم الوثنية القديمة ، لكنهم لم يعبدوها عن تفكير عميق لظواهر الوجود كغيرهم من أمم العالم وإنما كانت عبادتهم إما تقليدا للأجداد أو تقليداً للأمم في عبادة آلهتها . كما بين أن الباعث لتلك العقيدة الوثنية في أنفس العرب لم يكن هو "التشخيص " وإنما كان الباعث عليها عبادة الأموات احتذاءً بالأمم الأخرى . واتباع العرب لغير التشخيص هو السبب في خلوها من الخيال الشعري .
ويربط الشابي بين بعد العرب عن الخيال الشعري والروح العربية . ويتساءل عن صنمي "أساف" و " نانلة" وهما حسب زعم العرب رجل وامرأة من جرهم فجرا بالكعبة فمسخهما الله حجرين ويرى الشابي في هذا المسخ تناقضا كيف عبدا ومسخا .
وبتعرض إلى اختلاف الرواة العرب في اللات والعزى .منهم من يزعم أنهما نخلتان ألههما العرب ومنهم من يزعم أنهما صنمان لرجلين صالحين . ويلخص أن آلهة العرب لم تخرج عن تأليه الأموات أو تقليد الأمم الأخرى . ويرى أن عبادة المشتري والشمس أخذها العرب عن الأشوريين وكذلك عبادة تالب وآضر وهبتون وعشتار ولهذا فهي لا تشمل على فكر أو خيال . ويذكر بعض أساطير العرب التي كانوا يؤمنون بها مثل الغول والصدى والهامة وشياطين الشعراء . ويقف عند أسطورة النجوم التي تروى بصور مختلفة فمنهم من بقصها على هذا النحو :"أن سهيلا وأختيه العبور والغميصاء اجتمعوا ثم انحدر سهيل إلى ناحية اليمن بعد أن خاض نهر المجرة وتبعته إحدى أختيه فسميت عبورا ، ولبثت الأخرى مكانها فبكت لفراق أختها حتى غمصت عينها فسميت غميصاء". وروايتها الأخرى :" أن سهيلا كان فارسا جميل الطلعة ، ساحر المنظر فخانه الحظ في معركة سماوية وراء المجرة فخر صريعا تكسوه الدماء فراع أختيه مصرع أخيهما الباسل ، فعبرت إليه إحداهما نهر المجرة وظلت واجمة عند رأسه ، وفى جفنها عبرة فسميت عبورا وعجزت الثانية عن اللحاق بأختها فانهالت دموعها حتى غمصت عينها الباكية فسميت غميصاء.
لاحظ الشابي في أساطير العرب وثنية جامدة وأوهاما لا تعرف الفكر . وأساطير الأمم الأخرى مشبعة بالروح الشعرية الجميلة زاخرة بفلسفة الحياة الفنية- آلهة اليونان وأساطيرهم آراء شعرية يتعانق فيها الفكر والخيال فكل آلهة رمز لفكرة أو عاطفة أو قوة من قوات الوجود – وكل أسطورة صورة شيقة من صور الشعر صادرة من خيال قوي وإحساس فياض يشمل الحياة .


جعلوا للحب آلهة وللجمال آلهة وللحكمة آلهة وللشعر والموسيقى آلهة فهم ينظرون إلى الوجود من خلال أساطيرهم نظرة فنية تحس بتيار الحياة يتدفق في كل كائن .
الخيال الشعري والطبيعة في الأدب العربي
يعمق الشابي وصفه للجمال في الطبيعة في نص نثري قريب إلى الشعر إلى أن يخلص للقول :" إن الجمال هو القسطاس العادل الذي ينبغي أن توزن فيه نفسيات الأمم وشاعريات الشعوب وإن على حسب ما في الإقليم من جمال وروعة، تكون شاعرية الأمم . وللوسط الطبيعي عامة أثره الفعال في تكوين نفسيات الأمم وطبعها .ويخلص أن شاعرية العرب شبيهة كل الشبه بالوسط الطبيعي الذي نمت فيه وبحث الشابي عن وصف الطبيعة وحظ الخيال الشعري في الأدب بمراحله الجاهلية والأموية والعباسية و الأندلسية .واستخلص أن الأدب الجاهلي والأموي خاليان من الشعر الذي تغنى بمحاسن الطبيعة وسحرها وما وجد على قلته وندرته يخلو من الخيال وما نجده من شعر الطبيعة فإننا لا نحس فيه روح الشاعر ولا نبض المشاعر وإنما صور يعرضها الشاعر بل يتناولها تناول القاص الذي لا يحفل بجلال المشهد وجماله – يصفه كما يراه دون أن يخلع عليه نبضا من شعوره ولا إشراقا من خياله ".
لقد كان الأدب العربي في هذين العصرين خاليا من الشعور بجمال الطبيعة والحديث عنه ، ما عدا أصوات ضئيلة خافته .
خلاصة القول : إن شاعرية العرب شبيهة كل الشبه بالوسط الطبيعي الذي نمت فيه .
عاش العرب في وسط لا يعرف سحر الجمال الطبيعي لذلك لم يتحدث أدبهم عن هذا الجمال ولم يتحدثوا عن الطبيعة بلهجة المعجب المأخوذ ، لأن الطبيعة لم تخلع على أرضهم من نضارة الحسن ما يحرك مشاعرهم ويفتح قلوبهم لتذوق الجمال وظل الأدب العربي على هذه الصورة إلى أن أطل العصر العباسي فتلونت الحياة الإسلامية بحضارات جديدة متباينة جمعت أجناسا وعادات وفكرا وطباعا واعتقادات جديدة على الحياة العربية قبل الإسلام ، وتحولت الحياة من شظف العيش وعنجهية البداوة إلى رقة المدينة ، في هذا الوسط المترف شب ذلك الشعر الذي يتغنى بالطبيعة وأصبحنا نسمع شعر البحتري و أبي تمام شعرا فيه دقة وعذوبة ،ظهر هذا التوجه في التغيير بجمال الطبيعة دون أن ينتشر
مثلما انتشر في العصر الأندلسي ، ذلك أن وسط الأدب العباسي لم يكن من الجمال والروعة كما كان في بلاد الأندلس ، التي انتشر فيها حتى كاد يخفي الأغراض الأخرى .

والملاحظة الهامة التي خرج بها الشابي هي أن الشعر العباسي في وصف الطبيعة أعمق خيالا وأدق شعورا منه في الأدب الأندلسي رغم كثرته ورقي أسلوبه ودقة صورة ورغم جمال الطبيعة في بلاد الأندلس ، وهذا الرأي موضع نقاش .
ويضرب الشابي مثالا على قوة الإحساس والصدق في وصف الطبيعة ببيت البحتري :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا* من الحسن حتى كاد أن يتكلما !
ويضرب مثالا على عمق الشعور بالطبيعة قول ابن الرومي :
إذا ما أعارتها الصبا حركاتها * أفادت بها أنس الحياة فتأنس
و شعر أبى تمام والبحتري وابن الرومي فيه عمق الخيال ودقة الإحساس بجمال الوجود مالا نجده في الشعر الأندلسي .ولم يجد الشابي في تفسير هذا التناقض سوى انغماس الأندلسيين في البذخ والترف انغماسا أطفاً حرارة الشعور وأصبحت الطبيعة في حياتهم وسيلة من وسائل المتعة لا منبعا ملهما للإبداع . "كان الشعر الأندلسي رقيقا طليا ولكنه قليل الحظ من عمق الشعور " (86)
كل ما قاله ابن خفاجة في وصف الطبيعة فيه براعة في الوصف وجمال في الأسلوب ولكنه يخلو من عمق الخيال "شغلته اللذة واللهو عن الإفصاح عنه "(88) لا نجد حرارة العاطفة وعمق الإحساس رغم عذوبة التعبير ودقة الوصف .
ويختار الشابي شاعرين غربيين " لا مرتين ألفونس " ( 1790-1869 ) رائد المدرسة الرومانسية الفرنسي و " غوته جوهان " ( 1749-1832 ) الشاعر الألماني لإبراز نظرتيهما إلى الطبيعة وهي أعمق بكثير من نظرة الشعراء العرب الذين لم ينظروا إليها نظرة إجلال وخشوع وإنما نظرة مفتقرة للخيال الشعري " لأنهم لم يشعروا بتيار الحياة المتدفق في قلب الطبيعة إلا إحساسا بسيطا ساذجا خاليا من يقظة الحس ونشوة الخيال ذلك الإحساس الذي يجسده شعر البحتري وأبو تمام".
الخيال الشعري والمرأة في رأى الأدب العربي
ينطلق من مقولة فلسفية هي "أن النفس البشرية قد خلقت من عنصر الحسن وجلبت من فن الجمال " وانطلاقا من هذه المقولة يعلل تعطش النفس البشرية إلى مظاهر الجمال .
ويربط هذا الإحساس عند العرب الذي لم يكن لديهم إلا في المرأة ، تغنوا بمحاسنها وشببوا بمفاتنها فالعرب حسب قوله :" تجاوزوا في التغني بالمرأة كل حد حتى أصبحت اللحن الجميل في استهلال قصائدهم وهى بمثابة إلهة الشعر عند اليونان – لكن الشاعر العربي يصفها ليحدث عن منهل المتعة فنظرتهم لها مادية حسية " أما تلك النظرة السامية التي يزدوج فيها الحب بالإجلال ، والشغف بالعبادة


تلك النظرة الروحية العميقة التي نجدها عند الشعراء الأوروبيين ، فإنها منعدمة بتاتا أو كالمنعدمة في الأدب العربي كله ، لا استثنى إلا الأندر الأقل ، على الرغم من أن أكثره في المرأة"( ص103 )
لم يعرف الشاعر العربي تلك النظرة الفنية التي تعد المرأة كقطعه فنية من فنون السماء ... ولم يحاول أن يحس روحها الجميلة وما تحمله من معاني السعادة والحنان والأمومة هذه المعاني المقدسة في الوجود والشعراء العرب الذين تحدثوا عن جمال المرأة الروحي قليلون ولكنهم بارعون في وصف مفاتنها الجسدية . نظرة الأدب العربي إلى المرأة كنظرتهم إلى الطبيعة أو أدني . لا سمو فيها ولا خيال .
الشاعر العربي مجيد وبارع في وصف محاسن المرأة الجسدية ،والنظرة الشائعة في الأدب العربي كله
على اختلاف العصور ، ويعمق الشابي رأيه بالقول :" لو تعمق الباحث في فهم الروح العربية ، لعلم أن ذلك ليس من الغرابة في شيء ، لان من طبيعة هذه الروح ألا تحيط بغير الظاهر المحسوس " (ص107 ) ويحلل أن نظرة الشعراء العرب للمرأة نظرة جائرة وتستحوذ على أدمغة العالم العربي كله .. و إن هذا الفكر لا يمكنه بحال ، أن يبصر ما وراء جسدها من حياة عذبة ساحرة وعالم شعري جميل .
ويضيف إن المرأة لم تنل في جميع الأعصر العربية ، قسطا من الحرية الحقة يمكنها من إظهار مواهبها ويخلص إلى أن المرأة في الأدب العربي لم تظفر بنصيب من الخيال الشعري ، ولو كان يسيرا ، لأن النظرة إليها كانت مادية محضة .
وفي تتبع الشابي الخيال في القص العربي ، فهو يراه في شعر جميل بثينة ذلك الشاعر العذري العفيف والذي حسب رأيه كان شعره أكثره قصصيا رائعا فيه من الفن والعذوبة ،فيه وحدة قصصية رائعة ، وفي شعر امرئ القيس ذلك الشاعر المستهتر بالحب ،والقصص في الشعر غير مستقل بذاته مما يؤهله لمنزلة القصص الحقيقي . أما القصص الأدبي كفن مستقل معبر عما في الحياة من حق وفن والمراد منه فهم الحياة الإنسانية وذلك الذي يقصد منه سبر جراح النفس البشرية الدامية ، والقصص المتصل بالخيال الشعري . ويضرب الشابي مثالا للشعر القصصي هي قصيدة عمر ابن ربيعة ، تلك التي استهوت عذارى مكة وشبانها وحرم الكبار روايتها وهي القصيدة التي يقول في مطلعها :
راح، صحبي ولم أحيّ النوارا * وقليل ، لو عرّجوا أن تزارا
ويرى أن ابن ربيعة جدير أن يسمى أبا الشعر القصصي لأنه هو الباذر الأول لبذرة هذا الفن .
ويلخص أن حياة القصص في الشعر موجزة كعمر الورود . أما القصص في النثر ، فقد ظهر مع أواخر العصر الأموي ، عندما ترجمت قصص ألف ليلة وليلة ، فقد ألفت من بعدها قصص ذات روح عربية .
دون أن يكون لألف ليلة وليلة التأثير الكبير، إلى أن كان فجر العصر العباسي وبترجمة ابن المقفع كتاب كليلة ودمنة وكتب أخرى من الفارسية ، هذه التراجم بعثت روحا قصصية في الأدب العربي لم تكن فيه من قبل ،فظهر فن المقامة عرف بها الفن القصصي انحطاطا ولكنه نهض ونشط على يدي أبي العلاء المعري في "رسالة الغفران " مثلت صورة من القصص الرائع وفيه من الصور الشعرية ما لا يوجد في غيره .
ويعمم الشابي وينفي أن يكون القصص العربي من النوع الذي ينقد ويمحص ويسبر ويحلل .والقصص العربي إما يهدف إلى الإمتاع ، وإما يضرب للمثل والحكمة ، وإما يقصد به النادرة اللغوية والنكتة الأدبية ، ومن هذا التصنيف فهو ينفي أن يكون للقصص العربي نصيب من الخيال الشعري .



وفي إبداء خلاصة رأيه في الأدب العربي ، فهو يؤكد فكرة كونه أدب مادي لا سمو فيه ولا إلهام ن ثم يستدرك الشابي بقوله :" على أنني حين لأقول هذا الذي يراه بعض الناس خطيئة لا تغفر " ثم يقر بإجادة الأدب العربي في وصف المظاهر البادية وتفوقه في هذا المجال على الآداب الأخرى ويقر بأنه كان في جميع عصوره أدبا حيا وفياضا وبعد وصف الشابي ملامح الأدب العربي عبر عصوره فهو يقر أنه لم يعد يلائم العصر الحاضر الذي تعيشه :"لم يعد ملائما لروحنا الحاضرة ، ولمزاجنا الحالي ، ولميولنا ورغباتنا (..) لقد أصبحنا نتطلب أدبا جديدا نضيرا يجيش بما في أعماقنا من حياة وأمل و شعور ، نقرأه فنتمثل فيه خفقات قلوبنا وخطرات أرواحنا وهسات أمانينا وأحلامنا ، وهذا لا نجده في الأدب العربي القديم .وفي مقارنته للأدب العربي بالأدب الغربي فهو يستخلص خلو الشعر القديم من الوحدة العضوية في التعبير وتشتت الأفكار في القصيدة القديمة والإيجاز في البيان ، أما الشعر الغربي يستقصي كل شيء ويعمق المشاعر .
وفي ختام الكتاب يبسط الشابي ملامح الروح العربية مؤكدا :" أن كل ما أنتجه الذهن العربي ، في مختلف عصوره ، قد كان على وتيرة واحدة ، ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب ، وأن الروح السائدة في ذلك ، هي النظرة القصيرة الساذجة ، التي لا تنفذ إلى جواهر الأشياء وصميم الحقائق "
( ص 173 )
ويوضح أن الروح العربية خطابية مشتعلة ، لا تعرف الأناة في الفكر فضلا عن الاستغراق فيه ، ومادية محضة لا تستطيع الإلمام بغير الظواهر مما يدعو إلى الاسترسال مع الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى ، ولهاتين النزعتين المادية والخطابية الأثر الكبير في إضعاف ملكة الخيال الشعري في النفسية العربية ويعلل بقوله لا يمكن أن تجتمع الخطابة ودقة الإحساس في النفس إلا نادرا , لأنّ الخطابة تعتمد المزاج الناري والنظرة البسيطة والإلمامة القانعة ،ودقة الإحساس تستلزم المزاج الهادي والنظرة الطويلة المتدبرة والإحاطة الشاملة المتقصية .ويربط هذا بمنزلة الشاعر عند العرب ، فهم لا يرونه رسول الحياة للضائعين ، بين لا يفرقون بينه وبين الخطيب في الدفاع عن عرض القبيلة ، ولم يجعلوا مصدر إلهام الشاعر الوحي أو الآلهة بل جعلوا له شيطانا يلهمه شعره ، ويرجع الشابي النزعة الخطابية في النفسية العربية لقسوة الطبيعة وجفاء البيئة ، ويرجع المادية إلى شظف العيش .
إنّ كتاب الخيال الشعري ، نص نقدي قائم بذاته ،وهو نص شاهد على شعر صاحبه وشاهد على الشعر عامة ، نص يتوالج فيه النقد الذاتي والنقد الموضوعي .لقد صاغ أبو القاسم الشابي " الخيال الشعري " كما يصوغ كل صاحب مشروع مشروعه ، ولم يكن فيه منسلا من فيلق الشعراء ، كتب الخيال الشعري
وهو متلبس بالحالة الشعرية ، كما لو كان يقول شعرا في تنظيره للشعر ،فجاء الخطاب النقدي أقرب إلى شعرية الخطابات منه إلى نثرية النقد .
كانت مدارات هذا النص الشاهد وفي هذا النص الميثاق ،الصورة الشعرية وهي جوهر الخيال الشعري،
وهذا النص إذا نزلناه في سياق حضاري ، تجاوزا لحيرة صاحبه وقلقه المعرفي ، فإن جوهر القضية هي تساؤل الشابي عن قيمة الأدب العربي القديم بالنسبة إلى الآداب الأخرى ، وهذا التساؤل دليل على حيرة فلسفية .
ولنا أن نعتبر ديوان أغاني الحياة ثمرة للخيال ، وإن ما جاء في كتاب " الخيال الشعري " كاف لإيضاح مستنداته :" وما من شيء إلا وهو تأكيد على انسجام رؤية الشابي في ما قاله عن الشعر وفي ما صاغه شعرا ، وهذه درجة المواءمة داخل العالم الشعري والوجداني لدى شاعرنا " ( د عبد السلام المسدي )
وإن حديث الشابي عن الخيال في شعره واتكاءه على استلهامه إنما كان ثمرة من ثمرات الخيال الفني الذي جاء في نصه النقدي ومن المؤكد أن الشابي في هذا الكتاب النقدي حاول خلق المناخ النقدي الذي أراد أن يقرأ فيه شعره ، وما يمكن ملاحظته أن بحث الشابي في عناصر الخيال والأسطورة والطبيعة ، من المباحث التي ما تزال تستحوذ على اهتمام النقاد ، وأن " الخيال الشعري " هو الكتاب الذي حمل اسم الشابي إلى الشرق ولفت إليه الأنظار ، وبهذا فقد عرف الشابي ناثرا وشاعرا ، والغالب على الظن أن الشابي كان يترسم خطى العقاد حين حاول أن يتجاوز موقع الشاعر إلى الباحث في ماهية الشعر .






الخصائص الفنية لتجربة الشابي

نظم الشابي أشعاره في مدى ثماني سنوات أو عشر سنين في الأكثر. مما يلفت النظر أن الشابي ظهر فجأة كشاعر تام النضج كما يقول الحليوي أو على شيء كبير من النضج على الأصح وخصوصاً إذا قيس بأنداده المعاصرين حتى أولئك الذين كانوا أكبر منه سناً.

والشابي شاعر وجداني ، خالص ، وهو على صغر سنه شاعر مكثر مجيد ، ولقد أجمع الدارسون على أن الشابي قد طبع شعره على غرار المذهب الرومانسي. نشر مصطفى ربج سلسلة مقالات في مجلة الأسبوع التونسية عنوانها " الرومانتيكية والشابي " ثم جمعها في كتاب اسماه " شاعران" ولقد رأي مصطفى رجب الخصائص الرومانيكية تبرز عند الشابي في :

اللفظة – العبارة – الأسلوب – القالب – الدعوة إلى الطبيعة – الاستماع الى النفس – توسيع دائرة الشعر – ابتكار المواضيع – مسايرة روح الموضوع – تأثر العالم الداخلي بالعالم الخارجي – النزعة الانسانية.

جرى الشابي في شعره على أسلوبين : اسلوب فخم متين النسج جاء به في طوره الأول في الأكثر وخص به قصائده في الحكمة والرثاء والفخر ، ثم أسلوب لين سلس جاء به في القصائد التي طواها على أغراضه الوجدانية والخيالية. وكان من الطبيعي أن تضم قصائده التي على الأسلوب الأول الفاظاً جزلة والفاظاً غريبة وأن تكون متخيرة تدل على إحاطة بالقاموس العربي إلى حد كبير.

والشابي كأمثاله من الناقمين على عمود الشعر العربي ، وعلى الحياة العربية الأصلية ، أراد أن يتجنب الألفاظ الإسلامية النفحه العربية الملامح ليتبدل بها ألفاظاً وثنية الأصل عامية الاستعمال ، وخصوصاً في طوره المتأخر.

وتراكيب الشابي كالفاظة تجري مجريين: مجرى أساليب العرب ومجرى آخر كثير التحرر والانفلات من أساليب العرب يجب أن يكون التركيب صحيحاً متيناً. ونعني بالتركيب الصحيح أن تجري الجملة على أساليب العرب في الترتيب ووجوب التقديم والتأخير أو جوازهما وفي الاضمار وما إلى ذلك.

لم يمس زين العابدين السنوسي ولا مصطفى رجب " التركيب اللغوي عند الشابي " أما التليسي فمسه مساً رفيقاً لما قال : " اناقة التعبير ورصانته وأصالته هي الدعائم الأولى التي يقوم عليها اسلوب الشابي الذي امتاز ببعده عن الركة

( يقصد الركاكة ) التي أخذت على كثيرين من شعراء المدرسه الحديثة ".

- التليسي جانباً من قصيدة " تونس الجميلة " للشاب ثم علّق عليها بقوله " تقوم الرومانسية على الإيمان بالعاطفة وتقديس الشعور والاستخفاف بالعقل والتهوين من شأنه بل تحقيره لأنه يصيب الحياة بالجفاف فيفقدها أجمل ما فيها وأجمل ما فيها كان نتاجاً للعاطفة. وقد كانت العاطفة كل شيء في حياة هذا الشاعر الرومانسي ( الشابي ).

- الشابي خيالي التفكير خيالي التعبير يبحث عن مثل أعلى من صنع هذا الخيال فلا يجده في العالم الذي يعيش فيه فينقلب شاكياً باكياً ثم تصطبغ آراؤه وتعابيره بالأسى والحزن والكآبة والوجوم. وقد لاحظ زين العابدين السنوسي يوم كان عمر الشابي خمسة عشر عاماً أن الشابي قد امتلك ناصية الخيال ورغم انه سكت عن الخيال عند الشابي بعد ثلاثين عام وذلك في كتابة " ابو القاسم الشابي " لكنه يخبرنا " أن التصور عند الشابي قد كان صادقاً حقيقاً لمن عاشرهم وسكنوا نفسه وانطبعوا في روحه وهي اشباح لأناس حقيقياً لا خياليين فما كان ابوه رمزاً خيالياً ولا كانت عشيرة صباه بجنة شاعر أو حلم كاذب.

وكان للشابي خيال مولد موغل في الغرابة يصطنع من الأمور العادية مشاهد وقصصاً. ونحن عادة لا نقدر الأخيلة بما فيها من المادة بل بما فيها من الصور وبالقران الذي بين تلك الصور.

- الجد يغلب على ديوان الشابي ولا ريب في ان اتجاه الرجل كان جدياً حزيناً ولكن يبدو أن الشابي كان في ايام تلمذته قبل ان يعلم مرضه أو قبل أن يدرك خطورة مرضه يميل إلى الهزل والمعابثة ككل شاعر آخر أو ككل أنسان في صباه.

- أغراض الشابي محدودة في نطاقها فهي تدور في الوجدانيات وما يتبعها من التأمل في الحياة وكان الشابي منذ طوره الأول قد قال إنه عازف عن الفنون المألوفة التقليدية مكتف بما يعبرّ فيه عن شعوره ، فإذا أغراض الدائرة في ديوانه التأمل في الحياة الطبيعية ( الغابة ، العصفور ، الزنبقة ، الخريف ، المساء ) وفي الحياة الاجتماعية ( السياسية والوطنية والحياة الأدبية ) وفي الحياة الماورائية ( الله ، الموت ) ثم الموضوعات الوجدانيات ( رثاء أبيه ، المجد ) والموضوعات النفسانيات ( الكآبة ، الشعر ، الأمومة والطفولة ) ، ثم الغزل والحب.






الشابي لوّن حياتنا بالأرض
نفيسة التريكي


سلام الجنوب من الخضراء
صباحكم دجلة من تمور الجريد
صباحكم راقص في الضياء بسكّر "الدجلة في اعراجينها "تحت شمس ذهبية بالجنوب في واحات توزر الغناء
صباحكم إرادة وحب وحق وعدل وجمال وصدق وعلم ومعرفة وفنّ وشعر :قيم النهوض والتآزر والتلاحم والتراحم في نبض الشابي
صباحكم ثورة القلم الناسف للطغيان

الشابي .......لوّن حياتنا بألوان الأرض وانتشر في خلاينا عبر الأجيال وسطع بثورته العارمة ضد الطغيان وانضوى تحت المدرسة الرومنسية العربية
في الأدب
نهل من لغة الضاد كل عمره وكان يعتبر نفسه مكسورالجناح لأنّه لا يقرأ الآداب الأجنبية إلا عن طريق الترجمة ،فأعجب شديد الإعجاب بالرومنسيين الفرنسيين ومنهم فكتور هوقو وبودلار وخاصة لا ماراتين في قصيدته :البحيرة * Le lac
كما تأثر بالأدب المهجري ونهل كثيرا من روح جبران خليل جبران وخاصة
في قصيدته "المواكب" وكانت له رؤى حول الخيال الشعري عند العرب
في كتابه الذي حمل نفس العنوان فهبّ عليه المحافظون هبّات شرسة لأنه اعتبر أنّ الصورة الشعرية العربية القديمة تأثرت بجفاف الصحراء، ورأى
على سبيل المثال أنّ الأدب اليوناني مشحون بالخيال لتأثّره بالأساطير و............أراء أخرى ساتناولها لاحقا.....
لكنّ رؤاه هذه النقدية الهادئة رغم صغر سنّه لم تحجب عنه ما أصاب بلاده والعالم من حيف وظلم من الطغاة .
فلم يخش على قلبه المريض بل أطلق شعره غرّيدا بمواقفه الثائرة ضد المستبدين والفساد والخراب والخمول وحث الشعب على الخروج من رقّ الجبن وعبوديّة المرض والفقر والجهل والتبعية فناشد الإرادة ان تكون رافعة ب"عزم الحياة" لواء الحرية.......





*قالوا في الشابي:

الشابي وتجربة " الفجر الجديد " للشاذلي القليبي:

إن عدداً من القصائد يعبر عن حبه للحياة وفتنتها ولكن نبراته سرعان ماتنكسر فتتحول كآبة وتبرماً ، وإذا الشاعر يتساءل عن معنى الوجود وينتبه إلى أن الجمال فيه مظهر خلاب وسحر مزور. ثم إذا هو التقى بالحياة في بعض آياتها الفاتنة أعرض عن ذلك التشاؤم القاتم وتغنى بنشوة العاشق الولهان ..فرفض الشابي للوجود له إذن مظهران متلازمان ..الصورة على الواقع والسعي نحو النور أو طلب الصباح…

ميلاد الشابي لأبي القاسم محمد كرو:

كيف يمكن أن يموت من علّمنا أغاني الحياة وأنار طريق الشباب بالحب والايمان والنضال لا وألف مرة لا إن الشابي لم يمت يوم 9 اكتوبر 1934 وإنما ولد من جديد …

كيف ندرس الشابي للدكتور محمد فريد غازي:

اشاد نفر بذكر الشابي وجعلوه الهرم الشامخ الذي يرتفع ارتفاعاً ويسمو سمواً فوق صحراء قاحلة : صحرا الأدب التونسي في القرن العشرين … هذه نظرة خاطئة وهي تزييف لحقيقة الأدب التونسي.

الشعب في شعر أبي القاسم الشابي لمحمد العروسي المطوي:

ما شعور الشابي نحو شعبه؟ يتمثل هذا الشعور في الاشفاق والحسرة والعطف ثم في إثارة الشعب على الظلم والطغيان والأحوال الفاسدة والتقاليد البالية ثم في تهديد الظالمين والطغاة بثورة الشعب. ثم يتمثل هذا الشعور في تشاؤم الشابي ويأسه وفي صب غضبه على الشعب ، ثم في الاعتزال والهرب إلى عالم خيالي اختاره الشابي ليعيش فيه مع عالمه العاطفي الذي شاده من آماله وآلامه.








أبو قاسم الشابي في مكتبتنا عمون:


1.ديوان أبو القاسم الشابي- أغاني الحياة-


تحميـــــــــــل

2.قراءات مع الشابي والمتنبي والجاحظ وابن خلدون


د.عبد السلام المسدّى


تحميــــــــــــل

3.مظاهر الإبداع الفني في شعر ابي القاسم الشابي



تحميـــــــــــــل

4.أبو القاسم الشابي .. دراسة في حياته وأدبه


دراسة مقدمة من : فخري طملية


تحميــــــــــــــــــــل






انتقاء رائع لشاعر له بصمة ذهبية في تاريخ الشعر

يقول الشابي في أحد مقالاته: (الشعر ما تسمعه وتبصره في ضجة الريح وهدير البحار و في نسمة الورد الحائرة يدمدم فوقها النحل ويرفرف حولها الفراش, وفي النغمة المرددة يرسلها الفضاء الفسيح)







*باقة من أشعارة


الجنة الضائعة

كَمْ من عُهودٍ عذبةٍ في عَدْوة الوادي النضير
فِضِّيّـةِ الأسحار مُذْهَبَةِ الأصائل والبكورْ
كانت أرقّ من الزهور, ومن أغاريد الطيور
وألذّ من سحر الصِّبا في بَسمة الطفل الغرير
قضيّتُها ومعي الحبيبةُ لا رقيب ولا نذيرْ
إلاّ الطفولة حولنا تلهو مع الحُبِّ الصغيرْ
أيـام كانت للحياة حلاوة الروض المطيرْ
وطهارةُ الموج الجميل, وسِحر شاطئه المنير
ووداعة العصفور, بين جداول الماء النميرْ
أيامَ لم نَعرف من الدُّنيا سوى مَرَحِ السُّرور
وتَتَبُّعِ النَّحْل الأنيق وقَطْفِ تيجان الزهورْ
وتسلُّقِ الجبلِ المكلّل بالصّنَوْبَر والصخورْ
وبناءِ أكواخِ الطفولة تحت أعشاش الطيورْ
مسقوفةً بالورد, والأعشاب والورق النضير
نبني, فتهدمها الرياحُ, فلا نضجُّ ولا نثورْ
ونعودُ نضحكُ للمروج, وللزنابقِ, والغديرْ
ونخاطبُ الأصداءَ, وهي تَرِفُّ في الوادي المنير
ونعيد أغنية السواقي, وهي تلغو بالخريرْ
ونَظَلُّ نركض خلف أسراب الفراش المستطير
ونمرُّ ما بين المروج الخضر , في سكر الشعور
نشدو, ونرقصُ – كالبلابلِ – للحياة , وللحبور
ونظل ننثرُ للفضاء الرّحْبِ, والنهرِ الكبيرْ
ما في فؤادَيْنا من الأحلام, أو حُلْوِ الغرورْ
ونَشِيدُ في الأُفق المخضّب من أمانينا قصور
أزهـى من الشفَقِ الجميل, وروْنق المرج الخضير
وأجلَّ من هذا الوجودِ, وكلِّ أمجادِ الدهورْ
أبـدًا, تُدلِّلُهـا الحياةُ بكلِّ أنواعِ السرورْ
وتبـثُّ فينا من مراحِ الكون ما يغوي الوقور
فنسيرُ, نَنْشُد لهوَنا المبعود – في كل الأمور
ونظل نعبث بالجليل من الوجود, وبالحقيرْ:
بالسائل الأعمى وبالمعتوه, والشيخِ الكبيرْ
بالقطة البيضاءِ, بالشاة الوديعة, بالحميرْ
بالعشب, بالفنن المنوِّر, بالسنابل, بالسَّفيرْ
بالرَّمْلِ, بالصخر المحطَّم, بالجداول , بالغدير
واللهْو, والعبَثُ البريءُ, الحلو , مطمحنا الأخير
ونظل نقفز, أو نُثَرْثِرُ أو نغنِّي, أو ندورْ
لا نسأم اللهوَ الجميلَ, وليس يدركنا الفتورْ
فكأنّنـا نحيا بأعصابٍ من المَرحِ المُثِيرْ
وكأننـا نمشـي بـأقدامٍ مجنَّحـةٍ, تطيرْ
أيـام كنـا لُبَّ هذا الكون, والباقي قشورْ
أيـام تفرشُ سُبْلنا الدنيا بأوراق الزهورْ
وتمـرُّ أيـامُ الحياة بنا, كأسراب الطُّيورْ
بيضـاء لاعبـةً, مُغـرِّدةً مجنَّحةً بنورْ
وتُرَفْرف الأفراحُ فوق رؤوسنا أنَّى نسيرْ
آهٍ! توارى فَجْرِيَ القدُسيُّ في ليل الدهورْ
وفنَى, كما يفنَى النشيدُ الحلو في صمت الأثير
أوّاهُ, قد ضاعت عليَّ سعادةُ القلب الغريرْ
وبقيت في وادي الزمان الجهم أدأب في المسير
وأدوسُ أشواك الحياة بقلبيَ الدّامي الكسيرْ
وأرى الأباطيل الكثيرةَ, والمآثم, والشرورْ
وتصادُمَ الأهواء بالأهواء في كل الأمورْ
ومَذَلّةَ الحقِّ الضعيفِ, وعزّةَ الظلم القديرْ!
وأرى ابنَ آدَمَ سائرًا في رحْلَةِ العُمُرِ القصيرْ
ما بينَ أهوال الوجودِ, وتَحت أعباء الضمير
متسلِّقًا جَبَلَ الحياةِ الوعْرَ, كالشَّيْخِ الضّريرْ
دامي الأكفِّ, مُمَزّقَ الأقْدَامِ, مُغْبَرَّ الشعورْ
مُترنِّحَ الخطواتِ ما بين المزالق والصُّخورْ
هالتْهُ أشْباحُ الظلامِ, وراعهُ صوتُ القبورْ
ودويُّ إعْصار الأسى, والموت, في تلك الوُعورْ
ماذا جنيتُ من الحياة ومن تجاريب الدُّهورْ
غـيرَ الندامةِ والأسى واليأس والدمع الغزير؟
هـذا حَصادي من حقول العالَم الرحب الخطير
هذا حَصادي كلُّه, في يقظة العَهْدِ الأخيرْ
قـد كنتُ في زمن الطفولةِ, و السذاجة و الطهور
أحيا كما تحيا البلابلُ, والجداولُ, والزُّهورْ
لا نحفل, الدنيا تدور بأهلها, أو لا تدورْ
واليومَ أحيا مُرْهَقَ الأعْصاب , مشبوب الشعور
مُتأجِّجَ الإحساسِ, أحفلُ بالعظيم, وبالحقيرْ
تمشـي على قلبي الحياةُ, ويزحف الكون الكبير
هذا مصيري, يا بني, فما أشقى المصيرْ!


:::::::::::::

أيُّها الحُبُّ أنْتَ سِرُّ بَلاَئِي

أيُّها الحُبُّ أنْتَ سِرُّ بَلاَئِي وَهُمُومِي، وَرَوْعَتِي، وَعَنَائي

وَنُحُولِي، وَأَدْمُعِي، وَعَذَابي وَسُقَامي، وَلَوْعَتِي، وَشَقائي

أيها الحب أنت سرُّ وُجودي وحياتي ، وعِزَّتي، وإبائي

وشُعاعي ما بَيْنَ دَيجورِ دَهري وأَليفي، وقُرّتي، وَرَجائي

يَا سُلافَ الفُؤَادِ! يا سُمَّ نَفْسي في حَيَاتي يَا شِدَّتي! يَا رَخَائي!

ألهيبٌ يثورٌ في روْضَة ِ النَّفَسِ، فيـ ـ‍‍‍‍طغى ، أم أنتَ نورُ السَّماءِ؟

أيُّها الحُبُّ قَدْ جَرَعْتُ بِكَ الحُزْ نَ كُؤُوساً، وَمَا اقْتَنَصْتُ ابْتِغَائي

فَبِحَقِّ الجَمَال، يَا أَيُّها الحُـ ـبُّ حنانَيْكَ بي! وهوِّن بَلائي

لَيْتَ شِعْري! يَا أَيُّها الحُبُّ، قُلْ لي: مِنْ ظَلاَمٍ خُلِقَتَ، أَمْ مِنْ ضِيَاءِ؟

:::::::::::

في اللّيل نَادَيتُ الكَوَاكِبَ ساخطاً

في اللّيل نَادَيتُ الكَوَاكِبَ ساخطاً متأجَّجَ الآلام والآراب

"الحقلُ يملكه جبابرة ُ الدّجى والروضُ يسكنه بنو الأرباب

«والنَّهرُ، للغُول المقدّسة التي لا ترتوي، والغابُ للحَطّابِ»

«وعرائسُ الغابِ الجميلِ، هزيلة ٌ ظمأى لِكُلِّ جَنى ً، وَكُلِّ شَرابِ»

ما هذه الدنيا الكريهة ُ؟ ويلَها! حَقّتْ عليها لَعْنَة ُ الأَحْقابِ!»

الكونُ مُصغٍ، ياكواكبُ، خاشعٌ طال انتظاري، فانطقي بِجواب"!

فسمعتُ صوتاً ساحراً، متموجاً فوق المروجِ الفيحِ، والأَعْشابِ

وَحَفيفَ أجنحة ٍ ترفرف في الفضا وصدى ً يَرنُّ على سُكون الغابِ:

الفجرُ يولدُ باسماً، مُتَهَلِّلاً في الكونِ، بين دُحنِّة ٍ وضباب


::::::::::::


يا عذارى الجمالِ، والحبِ، والأحلام

يا عذارى الجمالِ، والحبِ، والأحلام، بَلْ يا بَهَاءَ هذا الوجودِ!

خلق البلبل الجميل ليشدوا وَخُلِقْتُنَّ للغرامِ السَّعيدِ

والوُجودُ الرحيبُ كالقَبْرِ، لولا ما تُجَلِّينَ مِنْ قُطوبِ الوُجودِ

والحياة ُ التي تخرُّ لها الأحلامُ موتٌ مثقَّلٌ بالقيودِ...

والشبابُ الحبيبُ شيخوخة ٌ تسعى إلى الموت في طريق كؤودِ...

والربيعُ الجميلُ في هاتِه الدُنيا خريفٌ يُذْوِي رفيفَ الوُرودِ..

والورودُ العِذابُ في ضيفَّة الجدولِ شوكٌ، مُصفَّحٌ بالحديدِ...

والطُّيورُ التي تُغَنِّي، وتقضي عَيشَها في ترنّمُ وغريدِ؟

إنَّها في الوجودِ تشكو إلى الأيّام عِبءَ الحَياة ِ بالتَّغْريدِ..

والأَنَاشِيدُ؟ إنَّها شَهَقَاتٌ تتشظَّى من كل قلبِ عميدِ...

صورة ٌ للوجودِ شوهاءُ، لولا شفَقُ الحسن فوق تلك الخدودِ

يا زهورَ الحياة ِ للحبّ أنتنَّ ولكنَّهُ مخيفُ الورودِ

فَسَبِيلُ الغرامِ جَمُّ المهاوي

رغمَ ما فيه من جمالٍ، وفنٍّ عبقريُّ، ما أن له من مزيدِ

وَأناشيدَ، تُسْكِرُ الملأَ الأعلى ، وتُشْجِي جوانِحَ الجلمودِ

وأريجٍ، يَكَادُ يَذْهَبُ بالألباب ما بين غَامضٍ وَشَديدِ

وسبيل الحياة رحبٌ، ولأننتنَّ اللواتي تَفْرُشْنَهُ بالوُرودِ

إنْ أردتُنَّ أن يكونَ بهيجاً رَائعَ السِّحْر، ذَا جمالٍ فريدِ

أو بشوكٍ يدميّ الفضيلة َ والحبَّ ويقضي على بهاءِ الوُجودِ

إنْ أردتُنّ أنْ يكونَ شنيعاً، مُظْلِمَ الأُفْقِ ميِّتَ التَّغريدِ

::::::::::::::

صلوات في هيكل الحب

عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصبح الجديد

كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد

يالها من وداعة وجمال وشباب منعم أملود

يالها من طهارة تبعث التقديس

في مهجة الشقي العنيد

يالها من رقة تكاد يرف الورد

منها في الصخرة الجلمود

أي شيء تراك ؟ هل أنت فينيس

تهادت بين الورى من جديد

لتعيد الشباب والفرح المعسول للعالم التعيس العميد

أم ملاك الفردوس جاء إلى الأرض ليحيي روح السلام العهيد

أنت .. ما أنت رسم جميل عبقري من فن هذا الوجود

فيه ما فيه من غموض وعمق

وجمال مقدس معبود

أنت .ما أنت .. أنت فجر من السحر

تجلى لقلبي المعمود

فأراه الحياة في مونق الحسن

وجلى له خفايا الخلود

أنت روح الربيع تختال في الدنيا فتهتز رائعات الورود

تهب الحياة سكرى من العطر ويدوي الوجود بالتغريد

كلما أبصرتك عيناي تمشين

بخطو موقع كالنشيد

خفق القلب للحياة ورف الزهر

في حقل عمري المجرود

وانتشت روحي الكئيبة بالحب

وغنت كالبلبل الغريد

أنت تحيين في فؤادي ما قد

مات في أمسي السعيد الفقيد

وتشيدين في خزائب روحي

ما تلاشى في عهدي المجدود

من طموح إلى الجمال إلى الفن

إلى ذلك الفضاء البعيد

وتبثين رقة الأشواق والأحلام والشدو والهوى في نشيدي

بعد أن عانقت كآبة أيامي فؤادي وألجمت تغريدي

أنت أنشودة الأناشيد غناك

إله الغناء رب القصيد

فيك شب الشباب وشحه السحر

وشدو الهوى وعطر الوجود

وتهادت في أفق روحك أوزان الأغاني ورقة التغريد

فتمايلت في الوجود كلحن عبقري الخيال حلو النشيد

خطوات سكرانة بالأناشيد

وصوت كرجع ناي بعيد

وقوام يكاد ينطق بالألحان

في كل وقفة وقعود

أنت .. أنت الحياة في قدسها السامي وفي سحرها الشجي الفريد

أنت .. أنت الحياة في رقة الفجر

في رونق الربيع الوليد

أنت .. أنت الحياة كل أوان

في رواء من الشباب جديد

أنت .. أنت الحياة فيك وفي عينيك

آيات سحرها الممدود

أنت دنيا من الأناشيد والأحلام والسحر والخيال المديد

أنت فوق الخيال والشعر والفن

وفوق النهى وفوق الحدود

أنت قدسي ومعبدي وصباحي وربيعي ونشوتي وخلودي

يا ابنة النور إنني أنا وحدي

من رأى فيك روعك المعبود

فدعيني أعيش في ظلك العذب

وفي قرب حسنك المشهود

عيشة للجمال والفن والإلهام والطهر والسنى والسجود

عيشة الناسك البتول يناجي الرب

في نشوة الذهول الشديد

وامنحيني السلام والفرح الروحي

يا ضوء فجري المنشود

وارحميني فقد تهدمت في كون

من اليأس والظلام مشيد

أنقذيني من الأسى فلقد أمسيت

لا أستطيع حمل وجودي

في شعب الزمان والموت أمشي

تحب عبء الحياة جم القيود

وأماشي الورى وفسي كالقبر

وقلبي كالعالم المهدود

ظلمة مالها ختام وهول

شائع في سكونها الممدود

وإذا ما استخفى عبث الناس تبسمت في أسى وجمود

بسمة مرة كأني أستل

من الشوك دابلات الورود

وانفخي في مشاعري مرح الدنيا

وشدي من عزمي المجهود

وابعثي في دمي الحرارة علي

أتغنى مع المنى من جديد

وأبت الوجود أنغام قلب بلبلي مكبل بالحديد

فالصباح الجميل ينعش بالدفء

حياة المحطم المكدود

أنقذيني فقد سئمت ظلامي أنقذيني فقد مللت ركودي

آه يا زهرتي الجميلة لو تدرين

ما جد في فؤادي الموحود

في فؤادي الغريب تخلق أكوان

من السحر ذات حسن فريد

وشموس وضاءة ونجوم

تنثر النور في فضاء مديد

وربيع كأنه حلم الشاعر

في سكرة الشباب السعيد

ورياض لا تعرف الحلك الداجي

ولا ثورة الخريف العتيد

وطيور سحرية تتناغى بأناشيد حلوة التغريد

وقصور كأنها الشفق المخضوب

أو طلعة الصباح الوليد

وغيوم رقيقة تتهادى كأباديد من نثار الورود

وحياة شعرية هي عندي

صورة من حياة أهل الخلود

كل هذا يشيده سحر عينيك وإلهام حسنك المعبود

وحرام عليك أن تهدمي ما

شاده الحسن في الفؤاد العميد

وحرام عليك أن تسحقي آمال

نفس تصبو لعيش رغيد

منك ترجو سعادة لم تجدها

في حياة الورى وسحر الوجود

فالإله العظيم لا يرجم العبد

إذا كان في جلال السجود

:::::::::::::::

شعري نُفَاثة صدري




شعري نُفَاثة صدري إنْ جَاشَ فِيه شُعوري

لولاه ما أنجاب عنّي غَيْمُ الحياة ِ الخطيرِ

ولا وجدتَ أكتئابي ولا وجدت سروري

بِهِ تَراني حزيناً أبكي بدمعٍ غزيرِ

به تراني طروباً أجرّ ذيلَ خُبوري

لا أنظمُ الشعرَ أرجو به رضاءَ الأمير

بِمِدْحَة ٍ أو رثاءٍ تُهْدَى لربّ السريرِ

حسْبي إذا قلتُ شعراً أن يرتضيهِ ضَميري

مالشعرُ إلا فضاءٌ يَرفُّ فيه مَقالي

فيما يَسُرُّ بلادي وما يسرُّ المعالي

وما يُثِيرُ شُعوري من خافقاتِ خيالي

لا أقرضُ الشعرَ أبغي به اقتناصَ نَوال

الشِّعرُ إنْ لمْ يكنْ في جمالِهِ ذَا جَلالِ

فإنَّما هُوَ طيفٌ يَسْعَى بوادي الظِّلال

يقضي الحياة َ طريداً في ذِلّة ، واعتزال

يا شعرُ! أنت مِلاكي وطارِفِي، وتِلادي

أنا إليكَ مُرادٌ وأنتَ نِعْمَ مُرادي

قِف، لا تَدَعْني وحيداً ولا أدعك تنادي

فَهَلْ وجدتَ حُساماً يُناط دون نجادِ

كَمْ حَطَّمَ الدَّهْرُ ذا هِمَّة ٍ كثيرَ الرّمادِ

ألقاه تَحْتَ نعالٍ من ذِلَّة وحِدادِ

رِفقاً بأَهْلِ بلادي! يا منجنون العَوادي!


::::::::::::

أُسْكُتي يا جرَاحْ

أُسْكُتي يا جرَاحْ وأسكني يا شجونْ

ماتَ عهد النُّواحْ وَزَمانُ الجُنُونْ

وَأَطَلَّ الصَّبَاحْ مِنْ وراءِ القُرُونْ

في فِجاجِ الرّدى قد دفنتُ الألَمْ

ونثرتُ الدُّموعْ لرياحِ العَدَمْ

واتّخذتُ الحياة مِعزفاً للنّغمْ

أتغنَّى عليه في رحابِ الزّمانْ

وأذبتُ الأسَى في جمال الوجودْ

ودحوتُ الفؤادْ واحة ً للنّشيدْ

والضِّيا والظِّلالْ والشَّذَى والورودْ

والهوى والشَّبابَّ والمنى والحَنانْ

اسكُني يا جراحْ وأسكُتي يا شجونْ

ماتَ عهدُ النّواحْ وزَمانُ الجنونْ

وَأَطَلَ الصَّباحْ مِنْ وراءِ القُرونْ

في فؤادي الرحيبْ مَعْبِدٌ للجَمَالْ

شيَّدتْه الحياة ْ بالرّؤى ، والخيال

فَتَلَوتُ الصَّلاة في خشوع الظّلالْ…

وَحَرقْتُ البخور… وأضأتُ الشُّموع

إن سِحْرَ الحياة ْ خالدٌ لا يزولْ

فَعَلامَ الشَّكَاة ْ مِنْ ظَلامٍ يَحُولْ

ثمَ يأتي الصبَّاح وتمُرُّ الفصولْ..؟

سوف يأتي رَبِيعْ إن تقضَّى رَبِيعْ

کسكُنِي يا جراحْ وأسكتي يا شجونْ

ماتَ عهدُ النّواح وَزَمانُ الجنونْ

وأطلَّ الصَّباحْ مِن وراءِ القُروُنْ

من وراءِ الظَّلامْ وهديرِ المياهْ

قد دعاني الصَّباحْ وَرَبيعُ الحَيَاهْ

يا لهُ مِنْ دُعاءُ هزّ قلبي صَداهْ

لَمْ يَعُد لي بَقاء فوق هذي البقاعْ

الودَاعَ! الودَاعَ! يا جبالَ الهمومْ

يا هضَبابَ الأسى ! يا فِجَاجَ الجحيمْ

قد جرى زوْرَقِي في الخضمِّ العظيمْ…

ونشرتُ الشراعْ… فالوَداعَ! الوَداعْ


:::::::::::::::


ارادة الحياة

إذا الشعـبُ يومًـا أراد الحـيـاة
فـلا بـدّ أن يستجيـب الـقـدرْ
ولا بــدَّ للـيـل أن ينجـلـي
ولا بــدّ للقـيـد أن ينكـسـرْ
ومـن لـم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة
تبخَّـرَ فـي جـوِّهـا وانـدثـرْ
فويـل لمـن لـم تَشُقـهُ الحـيـا
ة مـن صفْعـة العـدَم المنتـصـرْ
كذلـك قالـت لـيَ الكائـنـاتُ
وحدثـنـي روحُـهـا المستـتـرْ
ودمدمـتِ الرِّيـحُ بيـن الفِجـاج
وفـوق الجبـال وتحـت الشجـرْ:
إذا مـا طمحـتُ إلــى غـايـةٍ
ركبـتُ المُنـى, ونسِيـت الحـذرْ
ولـم أتجنَّـب وعـورَ الشِّـعـاب
ولا كُـبَّـةَ اللّـهَـب المستـعـرْ
ومـن يتهيـب صعـود الجـبـال
يعـش أبَـدَ الدهـر بيـن الحفـرْ
فعجَّـتْ بقلبـي دمـاءُ الشبـاب
وضجَّت بصدري ريـاحٌ أخَـرْ...
وأطرقتُ, أصغي لقصـف الرعـودِ
وعـزفِ الريـاحِ, ووقـعِ المطـرْ
وقالت لـي الأرضُ - لمـا سألـت:
أيـا أمُّ هـل تكرهيـن البـشـرْ?
أُبارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح
ومـن يستلـذُّ ركـوبَ الخـطـرْ
وألْعـنُ مـن لا يماشـي الـزمـانَ
ويقنـع بالعيْـشِ عيـشِ الحجَـرْ
هو الكـونُ حـيٌّ, يحـبُّ الحيـاة
ويحتقـر المَيْـتَ, مهـمـا كـبُـرْ
فلا الأفْق يحضـن ميْـتَ الطيـورِ
ولا النحـلُ يلثـم ميْـتَ الزهـرْ
ولـولا أمُومـةُ قلبِـي الــرّؤوم
لَمَا ضمّـتِ الميْـتَ تلـك الحُفَـرْ
فويـلٌ لمـن لـم تشُقـه الحـيـا
ة, مِـن لعنـة العـدم المنتـصِـرْ!
وفـي ليلـة مـن ليالـي الخريـف
مثقَّـلـةٍ بـالأسـى, والضـجـرْ
سكرتُ بهـا مـن ضيـاء النجـوم
وغنَّيْـتُ للحُـزْن حتـى سـكـرْ
سألتُ الدُّجى: هل تُعيـد الحيـاةُ,
لمـا أذبلتـه, ربـيـعَ العـمـرْ?
فلـم تتكلّـم شـفـاه الـظـلام
ولـم تترنَّـمْ عـذارى السَّـحَـرْ
وقـال لـيَ الغـابُ فـي رقَّــةٍ
مُحَبَّبَـةٍ مثـل خـفْـق الـوتـرْ:
يجـئ الشتـاءُ, شتـاء الضبـاب
شتـاء الثلـوج, شتـاء المـطـرْ
فينطفئُ السِّحرُ, سحـرُ الغصـونِ
وسحرُ الزهـورِ, وسحـرُ الثمـرْ
وسحرُ السماءِ, الشجـيُّ, الوديـعُ
وسحرُ المـروجِ, الشهـيُّ, العطِـرْ
وتهـوِي الغـصـونُ, وأوراقُـهـا
وأزهـارُ عهـدٍ حبيـبٍ نـضِـرْ
وتلهو بهـا الريـحُ فـي كـل وادٍ,
ويدفنُهَـا السيـلُ, أنَّـى عـبـرْ
ويفنـى الجميـعُ كحُلْـمٍ بديـعٍ,
تألّـق فــي مهـجـةٍ وانـدثـرْ
وتبقـى البـذورُ, التـي حُمِّلَـتْ
ذخيـرةَ عُمْـرٍ جمـيـلٍ, غَـبَـرْ
وذكرى فصـولٍ, ورؤيـا حيـاةٍ,
وأشبـاحَ دنيـا, تلاشـتْ زُمَــرْ
معانقةً - وهـي تحـت الضبـابِ,
وتحت الثلـوجِ, وتحـت المَـدَرْ -
لِطَيْـفِ الحيـاةِ الـذي لا يُـمَـلُّ
وقلـبِ الربيـعِ الشـذيِّ الخضِـرْ
وحالـمـةً بأغـانـي الـطـيـورِ
وعِطْـرِ الزهـورِ, وطَعـمِ الثمـرْ
ويمشي الزمـانُ, فتنمـو صـروفٌ,
وتـذوِي صـروفٌ, وتحيـا أُخَـرْ
وتُصـبِـحُ أحلامُـهـا يقـظَـةً,
مُوَشَّحـةً بغـمـوضِ السَّـحَـرْ
تُسائـل: أيـن ضبـابُ الصبـاحِ,
وسِحْرُ المسـاء? وضـوء القمـرْ?
وأسـرابُ ذاك الفَـراشِ الأنيـق?
ونحـلٌ يغنِّـي, وغـيـمٌ يـمـرْ?
وأيـن الأشـعَّـةُ والكائـنـاتُ?
وأيـن الحيـاةُ الـتـي أنتـظـرْ?
ظمِئتُ إلى النور, فـوق الغصـونِ!
ظمِئتُ إلى الظـلِ تحـت الشجـرْ!
ظمِئتُ إلى النَّبْـعِ, بيـن المـروجِ,
يغنِّـي, ويرقـص فـوقَ الزّهَـرْ!
ظمِئـتُ إلـى نَغَمـاتِ الطيـورِ,
وهَمْـسِ النّسيـمِ, ولحـنِ المطـرْ
ظمِئتُ إلى الكـونِ! أيـن الوجـودُ
وأنَّـى أرى العـالَـمَ المنتـظـرْ?
هو الكونُ, خلف سُبـاتِ الجمـودِ
وفـي أُفـقِ اليقـظـاتِ الكُـبَـرْ
ومـا هـو إلا كخـفـقِ الجـنـا
حِ حتـى نمـا شوقُهـا وانتـصـرْ
فصَدّعـت الأرضَ مـن فوقـهـا
وأبْصرتِ الكـونَ عـذبَ الصُّـوَرْ
وجــاء الربـيـعُ, بأنغـامِـه,
وأحـلامِـه, وصِـبـاه العـطِـرْ
وقبَّلهـا قُـبَـلاً فــي الشـفـاهِ
تعيدُ الشبـابَ الـذي قـد غَبَـرْ
وقـال لهـا: قـد مُنِحْـتِ الحيـاةَ
وخُلِّـدْتِ فـي نسلـكِ المُـدّخَـرْ
وباركَـكِ الـنُّـورُ, فاستقبـلـي
شبـابَ الحيـاةِ وخِصْـبَ العُمـرْ
ومَـن تعبـدُ النـورَ أحـلامُـه,
يُبَارِكُـهُ الـنّـورُ أنّــى ظـهـرْ
إليـكِ الفضـاءَ, إليـكِ الضيـاءَ
إليـك الثـرى, الحالـمَ, المزدهـرْ!
إليـكِ الجمـالَ الـذي لا يَبيـدُ!
إليكِ الوجودَ, الرحيـبَ, النضِـرْ!
فميدي - كما شئتِ - فوق الحقولِ,
بحلـوِ الثمـارِ وغـضِّ الـزّهَـرْ
وناجي النسيـمَ, وناجـي الغيـومَ,
وناجي النجـومَ, وناجـي القمـرْ
وناجـي الحـيـاةَ وأشواقَـهـا,
وفتنـةَ هـذا الوجـود الأغــرْ
وشفَّ الدجى عـن جمـالٍ عميـقٍ,
يشُـبُّ الخيـالَ, ويُذكـي الفِكَـرْ
ومُدّ على الكـون سِحـرٌ غريـبٌ
يُصَـرّفـه سـاحـرٌ مـقـتـدرْ
وضاءت شموعُ النجـومِ الوِضـاءِ,
وضـاع البَخُـورُ, بخـورُ الزّهَـرْ
ورفـرف روحٌ, غريـبُ الجمـال
بأجنحـةٍ مـن ضـيـاء القـمـرْ
ورنَّ نشـيـدُ الحـيـاةِ المـقـدّ
سُ في هيكـلٍ, حالـمٍ, قـد سُحِـرْ
وأعْلِنَ فـي الكـون: أنّ الطمـوحَ
لهيـبُ الحـيـاةِ, ورُوحُ الظـفَـرْ
إذا طمحـتْ للحيـاةِ النـفـوسُ
فـلا بـدّ أنْ يستجيـبَ الـقـدر

:::::::::::::

ياقلبُ! كم فيكَ من دُنْيا محجَّبة

يا قلبُ! كم فيكَ من دُنْيا محجَّبة ٍ
كأنَّها، حين يبدو فجرُها «إرَمُ»
يا قلبُ! كم فيكَ من كونٍ، قد اتقدَتْ
فيه الشُّموسُ وعاشتْ فَوقُه الأممُ
يا قلبُ! كمْ فيكَ من أفقٍ تُنَمِّقْهُ
كواكبٌ تتجلَّى ، ثُمَّ تَنعِدمُ
يا قلبُ! كمْ فيكَ من قبرٍ، قد انطفَأَتْ
فيهالحياة ُ، وضجَّت تحتُه الرِّمَمُ
يا قلبُ! كمْ فيكَ من كهفٍ قد انبَجَسَتْ
منه الجداولُ تجري مالها لُجُمُ
تمشي..، فتحملُ غُصناً مُزْهِراً نَضِراً
أو وَرْدَة ً لمْ تشَوِّهْ حُسنَها قَدَمُ
أو نَحْلة ً جرَّها التَّيارُ مُندَفِعاً
إلى البحارِ، تُغنّي فوقها الدِّيَمُ
أو طائراً ساحراً مَيتْاً قد انفجرتْ
في مُقْلَتَيْهِ جِراحٌ جَمَّة ٌ وَدَمُ
يا قلبُ! إنَّك كونٌ، مُدهِشٌ عَجَبٌ
إنْ يُسألِ الناسُ عن آفاقه يَجِمُوا
كأنَّكَ الأبدُ المجهولُ...، قد عَجَزَتْ
عنكَ النُّهَى ، واكْفَهَرَّتْ حَوْلَكَ الظُّلَمُ
يا قلبُ! كمْ من مسرَّاتٍ وأخْيِلة ِ
ولذَّة ٍ، يَتَحَامَى ظِلَّها الألمُ
غَنَّتْ لفجرِكَ صوتاً حالماً، فَرِحاً
نَشْوَانَ ثم توارتْ، وانقضَى النَّغمْ
وكم رأى لَيْلُك الأشباحَ هائمة ً
مذعورة ً تتهاوى حولها الرُّجُمُ
ورَفْرَفَ الألمُ الدَّامِي، بأجنحة ٍ
مِنَ اللَّهيبِ، وأنَّ الحُزْنُ والنَّدَمُ
وكمْ مشَتْ فوقكَ الدُّنيا بأجمعها
حتَّى توارتْ، وسار الموتُ والعدمُ
وشيَّدتْ حولك الأيامُ أبنية ً
مِنَ الأناشيدِ تُبْنَى ، ثُمّ تَنْهدمُ
تمضي الحياة ُ بماضيها،وحاضِرها
وتذْهَبُ الشمسُ والشُّطآنُ والقممُ
وأنتَ، أنتَ الخِضمُّ الرَّحْبُ، لا فَرَحٌ
يَبْقَى على سطحكَ الطَّاغي، ولا ألمُ
يا قلبُ كم قد تملَّيتَ الحياة َ، وككمْ
رقَّيتَها مَرَحاً، ما مَسَّك السَأمُ
وكمْ توشَّحتَ منليلٍ، ومن شَفَقٍ
ومن صباحٍ تُوَشِّي ذَيْلَهُ السُّدُمُ
وكم نسجْتَ من الأحلام أردية ً
قد مزَّقّتْها الليالي، وهيَ تَبْتَسِمُ
وكم ضَفَرتَ أكاليلاً مُوَرَّدة ً
طارتْ بها زَعْزَعٌ تدوي وتَحْتَدِمُ
وَكَمْ رسمتَ رسوماً، لا تُشابِهُهَا
هذي العَوَالمُ، والأحلامُ، والنُّظُمُ
كأنها ظُلَلُ الفِردَوْسِ، حافِلة ً
بالحورِ، ثم تلاشَتْ، واختفى الحُلُمُ
تبلُو الحياة َ فتبلِيها وتخلَعُها
وتستجدُّ حياة ً، ما لها قِدمُ
وأنت أنتَ: شبابٌ خالدٌ، نضِرٌ
مِثلُ الطَّبيعة ِ: لا شَيْبٌ ولا هرَمُ

:::::::::::::

الحُبُّ شُعْلَة ُ نُورٍ ساحرٍ،هَبَطَتْ

الحُبُّ شُعْلَة ُ نُورٍ ساحرٍ، هَبَطَتْ منَ السَّماءِ، فكانتْ ساطعَ الفَلَقِ

وَمَزّقتْ عَن جفونِ الدَّهْرِ أَغْشِيَة ً وعن وجوه الليالي بُرقُعَ الغسقِ

الحبُّ رُوحُ إلهيٌّ، مجنّحة ٌ أيامُه بضياء الفجر والشّفقِ

يطوفُ في هذهِ الدُّنيا، فَيَجْعَلُها نجْماً، جميلاً، ضحوكاً، جِدَّ مؤتلقِ

لولاهُ ما سُمِعتْ في الكون أغنية ٌ ولا تألف في الدنيا بَنْو أُفْقِ

الحبُّ جَدْولٌ خمرٍ، مَنْ تَذَوَّقَهُ خاضَ الجحيمَ، ولم يُشْفِق من الحرقِ

الحبُّ غاية ُ آمالِ الحياة ِ، فما خوْفِي إذا ضَمَّني قبرٌ؟ وما فَرَقِي؟



::::::::::::::


نشيد الجبار ( هكذا غنّى بروميثيوس )




سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعْداءِ =كالنِّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ
أَرْنو إِلَى الشَّمْسِ المضِيئّةِ..،هازِئاً= بالسُّحْبِ، والأمطارِ، والأَنواءِ
لا أرمقُ الظلَّ الكئيبَ..، ولا أَرى =ما في قرار الهَوّةِ السوداءِ...
وأسيرُ في دُنيا المشاعِر، حَالماَ= غرِداً- وتلكَ سعادةُ الشعراءِ
أُصغِي لموسيقى الحياة ، وَوَحْيها= وأذيبُ روحَ الكونِ في إنْشائي
وأُصِيخُ للصّوتِ الإلهيِّ، الَّذي= يُحيي بقلبي مَيِّتَ الأصْداءِ
وأقول للقَدَرِ الذي لا يَنْثني =عن حرب آمالي بكل بلاءِ:
"-لا يطفىء اللهبَ المؤجَّجَ في دَمي= موجُ الأسى ، وعواصفُ الأرْزاءِ
«فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّهُ =سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ»
لا يعرفُ الشكْوى الذَّليلةَ والبُكا،= وضَراعَةَ الأَطْفالِ والضُّعَفَاء
«ويعيشُ جبَّارا، يحدِّق دائماً =بالفَجْرِ..، بالفجرِ الجميلِ، النَّائي
واملأْ طريقي بالمخاوفِ، والدّجى= ، وزَوابعِ الاَشْواكِ، والحَصْباءِ
وانشُرْ عليْهِ الرُّعْبَ، وانثُرْ فَوْقَهُ =رُجُمَ الرّدى ، وصواعِقَ البأساءِ»
«سَأَظلُّ أمشي رغْمَ ذلك، عازفاً= قيثارتي، مترنِّما بغنائي»
«أمشي بروحٍ حالمٍ، متَوَهِّجٍ =في ظُلمةِ الآلامِ والأدواءِ»
النّور في قلبِي وبينَ جوانحي =فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ»
«إنّي أنا النّايُ الذي لا تنتهي= أنغامُهُ، ما دامَ في الأحياءِ»
«وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ، ليس تزيدُهُ= إلا حياةً سَطْوة الأنواءِ»
أمَّا إذا خمدَتْ حَياتي، وانْقَضَى =عُمُري، وأخرسَتِ المنيَّةُ نائي»
«وخبا لهيبُ الكون في قلبي الذي= قدْ عاشَ مثلَ الشُّعْلةِ الحمْراءِ
فأنا السَّعيدُ بأنني مُتَحوِّلٌ =عَنْ عَالمِ الآثامِ، والبغضاءِ»
«لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ= وأَرْتوي منْ مَنْهَلِ الأَضْواءِ"
وأقولُ للجَمْعِ الذينَ تجشَّموا= هَدْمي وودُّوا لو يخرُّ بنائي
ورأوْا على الأشواك ظلِّيَ هامِداً =فتخيّلوا أنِّي قَضَيْتُ ذَمائي
وغدوْا يَشُبُّون اللَّهيبَ بكلِّ ما =وجدوا..، ليشوُوا فوقَهُ أشلائي
ومضُوْا يمدُّونَ الخوانَ، ليأكُلوا =لحمي، ويرتشفوا عليه دِمائي
إنّي أقول ـ لَهُمْ ـ ووجهي مُشْرقٌ= وَعلى شِفاهي بَسْمة اسْتِهزاءِ-:
"إنَّ المعاوِلَ لا تهدُّ مَناكِبي =والنَّارَ لا تَأتي عَلَى أعْضائي
«فارموا إلى النَّار الحشائشَ..، =والعبوا يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي»
«وإذا تمرّدتِ العَواصفُ، وانتشى =بالهول قَلْبُ القبّةِ الزَّرقاءِ»
«ورأيتموني طائراً، مترنِّماً =فوقَ الزّوابعِ، في الفَضاءِ النائي
«فارموا على ظلّي الحجارةَ، واختفوا= خَوْفَ الرِّياح الْهوجِ والأَنواءِ..»
وهُناك، في أمْنِ البُيوتِ،تَطارَحُوا =عثَّ الحديثِ، وميِّتَ الآراءِ»
«وترنَّموا ـ ما شئتمُ ـ بِشَتَائمي =وتجاهَرُوا ـ ما شئتمُ ـ بِعدائي»
أما أنا فأجيبكم من فوقِكم =والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي:
مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه= لم يحتفِلْ بفداحة الأعباءِ"


::::::::::::::::

سَئِمْتُ الحياة َ، وما في الحياة ِ




سَئِمْتُ الحياةَ، وما في الحياةِ= وما أن تجاوزتُ فجرَ الشَّبابْ
سَئِمتُ اللَّيالي، وَأَوجَاعَها =وما شَعْشَعتْ مَنْ رَحيقِ بصابْ
فَحَطّمتُ كَأسي، وَأَلقَيتُها =بِوَادي الأَسى وَجَحِيمِ العَذَابْ
فأنَّت، وقد غمرتها الدموعُ =وَقَرّتْ، وَقَدْ فَاضَ مِنْهَا الحَبَابْ
وَأَلقى عَلَيها الأَسَى ثَوْبَهُ =وَأقبرَها الصَّمْتُ والإكْتِئَابْ
فَأَينَ الأَمَانِي وَأَلْحَانُها؟ =وأَينَ الكؤوسُ؟ وَأَينَ الشَّرابْ
لَقَدْ سَحَقَتْها أكفُّ الظَّلاَمِ =وَقَدْ رَشَفَتْها شِفَاهُ السَّرابْ
فَمَا العَيْشُ فِي حَوْمةٍ بَأْسُهَا =شديدٌ، وصدَّاحُها لا يُجابْ
كئيبٌ، وحيدٌ بآلامِه =وأَحْلامِهِ، شَدْوُهُ الانْتحَابْ
ذَوَتْ في الرَّبيعِ أَزَاهِيرُهَا= فنِمْنَ، وقَد مصَّهُنَّ التّرابْ
لَوينَ النَّحورَ على ذِلَّةٍ =ومُتنَ، وأَحلامَهنَّ العِذابْ
فَحَالَ الجَمَالُ، وَغَاضَ العبيرُ =وأذوى الرَّدى سِحرَهُنَّ العُجابْ

::::::::::::::


أَلا إنَّ أَحْلاَمَ الشَّبَابِ ضَئِيلَة



أَلا إنَّ أَحْلاَمَ الشَّبَابِ ضَئِيلَةٌ =تُحَطِّمُهَا مِثْلَ الغُصُونِ المَصَائِبُ
سألتُ الدَّياجي عن أماني شبيبَتي= فَقَالَتْ: «تَرَامَتْهَا الرِّياحُ الجَوَائِبُ»
وَلَمَّا سَأَلْتُ الرِّيحَ عَنْها أَجَابَنِي: ="تلقَّفها سَيْلُ القَضا، والنَّوائبُ
فصارَت عفاءً، واضمحلَّت كذرَّةٍ= عَلى الشَّاطِىء المَحْمُومِ، وَالمَوْجُ صَاخِبُ


::::::::::::::

ياربَّة َ الشّعرِ والأحلامِ، غنِّيتي

ياربَّة َ الشّعرِ والأحلامِ، غنِّيتي
فقد سئمت وجومَ الكَوْنِن من حينِ
إن اللَّيالي اللَّواتي ضمَّختْ كَبِدي
بالسِّحْر أضْحتْ مع الأيَّامِ ترميني
ناخت بنفسي مآسيها، وما وجدتْ
قلباً عطوفاً يُسَلِّيها، فَعزِّيني
وَهَدّ مِنْ خَلَدِي نَوْحٌ، تُرَجِّعُه
بَلوى الحياة ِ، وأحزانُ المساكينِ
على الحياة أنا أبكي لشقوتِها
فَمَنْ إذا مُتُّ يبكيها ويبكيني؟
يا ربة الشّعرِ، غنِّني، فقد ضجرت
نفسي من النّاس أبناء الشياطين
تَبَرَّمَتْ بَيْنيَ الدُّنيا، وَأَعوزَهَا
في مِعزفِ الدَّهرِ غرِّيدُ الأَرانينِ
وَرَاحَة ُ اللَّيل ملأى مِنْ مَدَامِعِهِ
و غادة ُ الحُبّ ثكلى ، لا تغنِّنيني
فهل إذا لُذت بالظلماء منتحباً
أسلو؟ وما نفعُ محزونٍ لمَحزونِ؟
يا ربة َ الشعر! إني بَائسٌ، تعسٌ
عَدِمْتُ ما أرتجي في العالَم الدُّونِ
وفي يديكِ مزاميرٌ يُخَالِجُها
وحي السَّما فهاتيها وغنّيني
ورتِّلي حولَ بيتِ الحُزْن أغْنِيَة ً
تجلُو عن النَّفسِ أحوانَ الأحايينِ
فإن قلبي قبرٌ، مظلمٌ،قُبرت
فيه الأمانِي، فما عادتْ تناغيني
لولاك في هذه الدنيا لما لمست
أوتارَ رُوحِيَ أَصْواتُ الأفَانينِ
ولا تغنَّيتُ مأخوذاً..، ولا عذُبت
لي الحياة ُ لدى غضِّ الرياحينِ
ولا ازدهى النَّفْسَ في أشْجَانَها شَفَقٌ
يُلوِّنُ الغيمَ لهواً أيَّ تلوينِ
ولا استخفَّ حياتي وهي هائمة ٌ
فجرُ الهوى في جفون الخُرَّدِ العِينِ


::::::::::::::::

في اللّيل نَادَيتُ الكَوَاكِبَ ساخطاً




في اللّيل نَادَيتُ الكَوَاكِبَ ساخطاً =متأجَّجَ الآلام والآراب
"الحقلُ يملكه جبابرةُ الدّجى =والروضُ يسكنه بنو الأرباب
«والنَّهرُ، للغُول المقدّسة التي =لا ترتوي، والغابُ للحَطّابِ»
«وعرائسُ الغابِ الجميلِ، هزيلةٌ= ظمأى لِكُلِّ جَنىً، وَكُلِّ شَرابِ»
ما هذه الدنيا الكريهةُ؟ ويلَها! =حَقّتْ عليها لَعْنَةُ الأَحْقابِ!»
الكونُ مُصغٍ، ياكواكبُ، خاشعٌ= طال انتظاري، فانطقي بِجواب"!
فسمعتُ صوتاً ساحراً، متموجاً =فوق المروجِ الفيحِ، والأَعْشابِ
وَحَفيفَ أجنحةٍ ترفرف في الفضا= وصدىً يَرنُّ على سُكون الغابِ:
الفجرُ يولدُ باسماً، مُتَهَلِّلاً =في الكونِ، بين دُحنِّةٍ وضباب

:::::::::::::::


فلسفة الثعبان المقدس




كانَ الربيعُ الحُيُّ روحاً، حالماً =غضَّ الشَّبابِ، مُعَطَّرَ الجلبابِ
يمشي على الدنيا، بفكرة شاعرٍ =ويطوفها، في موكبٍ خلاَّبِ
والأُفقُ يملأه الحنانُ، كأنه قلبُ =الوجود المنتِجِ الوهابِ
والكون من طهرِ الحياة كأنما =هُوَ معبدٌ، والغابُ كالمحرابِ
والشّاعرُ الشَّحْرورُ يَرْقُصُ، مُنشداً =للشمس، فوقَ الوردِ والأعشابِ
شعْرَ السَّعادة والسَّلامِ، ونفسهُ =سَكْرَى بسِحْر العالَم الخلاّبِ
ورآه ثعبانُ الجبالِ، فغمَّه= ما فيه من مَرَحٍ، وفيْضِ شبابِ
وانقضّ، مضْطَغِناً عليه، كأنَّه =سَوْطُ القضاءِ، ولعنةُ الأربابِ
بُغتَ الشقيُّ، فصاح من هول القضا =متلفِّتاً للصائل المُنتابِ
وتَدَفَّق المسكين يصرخُ ثائراً: =«ماذا جنيتُ أنا فَحُقَّ عِقابي؟»
لاشيءِ، إلا أنني متغزلٌ= بالكائنات، مغرِّدٌ في غابي
«أَلْقَى من الدّنيا حناناً طاهراً =وأَبُثُّها نَجْوَى المحبِّ الصّابي»
«أَيُعَدُّ هذا في الوجود جريمةً؟! =أينَ العدالةُ يا رفاقَ شبابي؟»
«لا أين؟، فالشَّرْعُ المقدّسُ ههنا =رأيُ القويِّ، وفكرةُ الغَلاّبِ!»
«وَسَعَادةُ الضَّعفاءِ جُرْمُ..، ما لَهُ =عند القويِّ سوى أشدِّ عِقَاب!»
ولتشهد- الدنيا التي غَنَّيْتَها= حُلْمَ الشَّبابِ، وَرَوعةَ الإعجابِ
«أنَّ السَّلاَمَ حَقِيقةٌ، مَكْذُوبةٌ =والعَدْلَ فَلْسَفَةُ اللّهيبِ الخابي»
«لا عَدْلَ، إلا إنْ تعَادَلَتِ القوَى= وتَصَادَمَ الإرهابُ بالإرهاب»
فتَبَسَّمّ الثعبانُ بسمةَ هازئٍ =وأجاب في سَمْتٍ، وفرطِ كِذَابِ:
«يا أيُّها الغِرُّ المثرثِرُ، إنَّني= أرثِي لثورةِ جَهْلكَ الثلاّبِ»
والغِرُّ بعذره الحكيمُ إذا طغى= جهلُ الصَّبا في قلبه الوثّابِ
فاكبح عواطفكَ الجوامحَ، إنها= شَرَدَتْ بلُبِّكَ، واستمعْ لخطابي»
أنِّي إلهٌ، طاَلَما عَبَدَ الورى= ظلِّي، وخافوا لعنَتي وعقابي»
وتقدَّموا لِي بالضحايا منهمُ =فَرحينَ، شأنَ العَابدِ الأوّابِ»
«وَسَعَادةُ النَّفسِ التَّقيَّة أنّها =يوماً تكونُ ضحيَّةَ الأَربابِ»
«فتصيرُ في رُوح الألوهة بضعةً=، قُدُسيةٌ، خلصت من الأَوشابِ
أفلا يسرُّكَ أن تكون ضحيَّتي= فتحُلَّ في لحمي وفي أعصابي»
وتكون عزماً في دمي، وتوهَّجاً =في ناظريَّ، وحدَّةً في نابي
«وتذوبَ في رُوحِي التي لا تنتهي =وتصيرَ بَعَض ألوهتي وشبابي..؟
إني أردتُ لك الخلودَ، مؤلَّهاً =في روحي الباقي على الأحقابِ..
فَكِّرْ، لتدركَ ما أريدُ، وإنّه =أسمى من العيش القَصيرِ النَّابي»
فأجابه الشحرورُ ، في غُصَ الرَّدى= والموتُ يخنقه: «إليكَ جوابي»:
لا رأي للحقِّ الضعيف، ولا صدّى =، الرَّأيُ، رأيُ القاهر الغلاّبِ
«فافعلْ مشيئَتكَ التي قد شئتَها =وارحم جلالَكَ من سماع خطابي"
وكذاك تتَّخَذُ المَظَالمُ منطقاً =عذباً لتخفي سَوءَةَ الآرابِ

::::::::::::::

إني ارىَ..، فَأرَى جُمُوعاً جَمَّة



إني أرىَ..، فَأرَى جُمُوعاً جَمَّةً =لكنّها تحيا بِلاَ ألْبابِ
يَدْوِي حوالَيْها الزَّمانُ، كأنَّما= يدوي حوالَي جندلٍ وترابِ
وإذا استجَابُوا للزمانِ تَنَاكروا =وَتَرَاشَقُوا بالشَّوكِ والأحْصَابِ
وقضَوا على رُوح الأخوَّةِ بينهم= جَهلاً وعاشُوا عِيشةَ الأَغرابِ
فرِحتْ بهم غولُ التّعاسةِ والفَنَا =وَمَطَامِعُ السّلاَّب والغَلاّبِ
لُعَبٌ، تُحرِّكُها المَطامعُ، واللّهى= وصَغائِرُ الأحقادِ والآرابِ
وأرى نفوساً، مِنْ دُخانٍ، جامدٍ= مَيْتٍ، كأشباحٍ، وراءَ ضَبَابِ
مَوتى ، نَسُوا شَوقَ الحياةِ وعزمَها= وتحرَّكوا كتحرُّكِ الأنصابِ
وخبَا بهمْ لَهَبُ الوجودِ، فما بقُوا= إلاَّ كمحترِقٍ من الأخشابِ
لا قلبَ يقتحمُ الحياةَ، ولا حِجَىً =يسمُو سُمُوَّ الطَّائر الجوَّابِ
بلْ في الترابِ المَيتِ، في حَزن الثَّرى =تنمو مَشَاعِرُهُمْ مع الأَعشابِ
وتموتُ خاملةً، كَزَهرٍ بائسٍ= ينمو ويذبُل في ظَلامِ الغَابِ
أبداً تُحدِّقُ في التراب..، ولا تَرَى= نورَ السماءِ..، فروحُها كتُرابِ..!
الشَّاعرُ الموهوبُ يَهْرِق فنَّه= هدراً على الأَقْدامِ والأَعْتابِ
ويعيشُ في كونٍ، عقيمٍ، ميِّتٍ =قَدْ شيَّدتْهُ غباوةُ الأَحقَابِ
والعاِلِمُ النِّحريرُ يُنفقُ عُمره= في فهمِ ألفاظٍ، ودرسِ كتابِ
يَحيا على رِمَمِ القديم المُجتَوَى =كالدُّود في حِمَمِ الرَّماد الخابي
والشَّعبُ بينهما قطيعٌ، ضَائعٌ =دُنياه دنيا مأكلٍ وشرابِ
الوَيلُ للحسَّاسِ في دُنياهمُ= ماذا يُلاقي من أَسَىّ وعَذِابِ!

:::::::::::::::


ضحِكْنا على الماضي البعيدِ، وفي غدٍ



ضحِكْنا على الماضي البعيدِ، =وفي غدٍ ستجعلُنا الأيامُ أضحوكةَ الآتي
وتلكَ هِيَ الدُّنيا، رِوَايَةُ ساحرٍ= عظيمٍ، غريب الفّن، مبدعِ آياتِ
يمثلها الأحياءُ في مسرح الأسى =ووسط ضبابِ الهّم، تمثيلَ أمواتِ
ليشهدَ مَنْ خَلْفَ الضَّبابِ فصولَها =وَيَضْحَكَ منها مَنْ يمثِّلُ ما ياتي
وكلٌّ يؤدِّي دَوْرَهُ..، وهو ضَاحكٌ =على الغيرِ، مُضْحُوكٌ على دوره العاتي


::::::::::::::


يا عذارى الجمال، والحبِّ، والأحلامِ


يا عذارى الجمال، والحبِّ، والأحلامِ،= بَلْ يَا بَهَاءَ هذا الوُجُودِ
قد رأَيْنا الشُّعُورَ مُنْسَدِلاتٍ= كلّلَتْ حُسْنَها صباحُ الورودِ
ورَأينا الجفونَ تَبْسِمُ..، أو تَحْلُمُ =بالنُّورِ، بالهوى ، بِالنّشيدِ
وَرَأينا الخُدودَ، ضرّجَها السِّحْرُ،= فآهاً مِنْ سِحْرِ تلكَ الخُدود
ورأينا الشِّفاه تبسمُ عن دنيا =من الورد غضّةٍ أملُود
ورأينا النُّهودَ تَهْتَزُّ، كالأزهارِ= في نشوة الشباب السعيدِ
فتنةٌ، توقظ الغرام، وتذكيه =وَلكنْ مَاذا وراءَ النُّهُودِ
ما الذي خلف سحرها الحالي، السكران،-= في ذلك القرارِ البعيدِ..؟
أنفوسٌ جميلةٌ، كطيور الغابِ =تشدوُ بساحر التغريدِ
طاهراتٌ، كأَنَّها أَرَجُ الأَزَهارِ= في مَوْلِدِ الرّبيعِ الجَديد؟
وقلوبٌ مُضيئةٌ، كنجوم الليل= ضَوَاعةٌ، كغضِّ الورودِ؟
أم ظلامٌ، كأنهُ قِطَعُ الليل،= وهولٌ يُشيبُ قلبَ الوليدِ
وخِضَمُّ، يَمُوج بالإثْمِ والنُّكْرِ، =والشَّرِّ، والظِّلالِ المَديدِ؟
لستُ أدري، فرُبّ زهرٍ شذيِّ =قاتل رغمَ حسنه المشهودِ
صانَكنَّ الإلهُ من ظُلمةِ الرّوحِ= وَمِنْ ضَلّة الضّميرِ المُرِيدِ
إن ليلَ النّفوسِ ليلٌ مُريِعٌ= سرمديُّ الأسى ، شنيع الخلودِ
يرزَحُ القَلْبُ فيه بالأَلَم المرّ،= ويشقي بعِيشة المنكودِ
وَربيعُ الشَّبابِ يُذبِلُهُ الدُّهْرُ،= ويمضي بِحُسْنِهِ المَعْبُودِ
غيرَ باقٍ في الكونِ إلا جمالُ =الرُّوح غضًّا على الزَّمانِ الأَبيدِ

::::::::::::::


ليتَ لي أن أعيشَ هذهِ الدنيّا



ليتَ لي أن أعيشَ هذهِ الدنيّا =سَعيداً بِوَحْدتي وانفرادي
أَصرِفُ العْمْرَ في الجبالِ، وفي الغاباتِ =بينَ الصنوبّر الميّادِ
ليس لي من شواغل العيش ما يصرفُ= نفسي عن استماعِ فؤادي
أرقبُ الموتَ، والحياةَ وأصغي= لحديثِ الآزال والآبادِ
وأغنيّ مع البلابل في الغابِ، =وأصغيِ إلى خرير الوادي
وَأُناجي النُّجومَ والفجرَ، والأَطيارَ= والنّهرَ، والضّياءَ الهادي
عيشةً للجمالِ، والفنِ، أبغيها =بعيداً عَنْ أمتَّي وبلادي
لا أعنِّي نفسي بأحزانيِ شعبي =فهو حيٌّ يعيشُ عيشَ الجمادِ!
وبحسبي مِنَ الأسى ما بنفسي =من طريفٍ مُسْتَحْدَثٍ وتِلادِ
وبعيداً عن المدينة ، والنّاس، =بعيداً عن لَغْوِ تلك النّوادي
فهو من معدنِ السّخافة والإفك =ومن ذلك الهُراء العادي
أين هوَ من خريرِ ساقية الوادي =وخفقِ الصدى ، وشدوِ الشادي
وَحَفيفِ الغصونِ، نمَّقها الطَّلُّ =وَهَمْسِ النّسيمِ للأوْراد؟
هذهِ عِيشةٌ تقدِّسُها نفسي= وأدعُو لمجدها وأنادي

::::::::::::::::


في جِبال لهمومِ، أننبتَّ أغصاني



في جِبال لهمومِ، أننبتَّ أغصاني،= فَرَقّتْ بينَ الصُّخُورِ بِجُهْدِ
وَتَغَشَّانيَ الضَّبَابُ..، فأورقتُ =وأزهرتُ للعواضف، وحْدي
وتمايلتُ في الظَّلام، وعطَّرتُ =فضاءَ الأَسى بأنفاس وردي
وبمجد الحياةِ، والشوقِ غّنَّيْتُ=..، فلم تفهم الأعَاصيرُ قصدي
وَرَمَتْ للوهادِ أفنانيَ الخضْرَ،= وظلّتْ في الثَّلْجِ تحفر لَحْدِي
ومَضتْ بالشَّذى فَقُلْتُ: «ستبني= في مروجِ السّماءِ بالعِطْر مَجْدي»
وَتَغَزَلْتُ بالرَّبيعِ، وبالفجرِ= فماذا ستفعلّ الرّيحُ بَعدِي؟


:::::::::::::::


أنتِ كالزهرةِ الجميلةِ في الغاب



أنتِ كالزهرةِ الجميلةِ في الغاب، =ولكنْ مَا بينَ شَوكٍ، ودودِ
والرياحينُ تَحْسَبُ الحسَكَ الشِّرِّيرَ= والدُّودَ من صُنوفِ الورودِ
فافهمي النَاسَ..، إنما النّاسُ خَلْقٌ= مُفْسِدٌ في الوجودِ، غيرُ رشيدِ
والسَّعيدُ السَّعيدُ من عاشَ كاللَّيل= غريباً في أهلِ هَذا الوجودِ
وَدَعِيهِمْ يَحْيَوْنَ في ظُلْمةِ الإثْمِ =وعِيشي في ظهرك المحمودِ
كالملاك البريءِ، كالوردة البيضاءَ، =كالموجِ، في الخضمَّ البعيدَ
كأغاني الطُّيور، كالشَّفَقِ السَّاحِرِ= كالكوكبِ البعيدِ السّعيدِ
كَثلوجِ الجبال، يغَمرها النورُ= وَتَسمو على غُبارِ الصّعيدِ
أنتِ تحتَ السماء رُوحٌ جميلٌ= صَاغَهُ اللَّهُ من عَبيرِ الوُرودِ
وبنو الأرض كالقرود،وما أضـ =أضْيَعَ عِطرَ الورودِ بين القرودِ!
أنتِ من ريشة الإله، فلا تُلْقِ =ي بفنِّ السّما لِجَهْلِ العبيدِ
أنت لم تُخْلَقي ليقْربَكِ النَّاسُ= ولكن لتُعبدي من بعيدِ...


::::::::::::::


أَتَفنى ابتساماتُ تَلك الجفونِ؟



أَتَفنى ابتساماتُ تَلك الجفونِ؟ =ويخبو توهُّجُ تلكَ الخدودْ
وتذوي وُرَيْداتُ تلك الشِّفاهِ؟ =وتهوِي إلى التُّرْبِ تلكَ النُّهودْ؟
وينهدُّ ذاك القوامُ الرَّشيقُ= وينحلُّ صَدْرٌ، بديعٌ، وَجِيدْ
وتربدُّ تلكَ الوحوهُ الصًّباحُ= وفتنة ذاك الجمال الفريد
ويغبرُّ فرعٌ كجنْحِ الظَّلامِ =أنيقُ الغدائر، جعدٌ، مديدْ
ويُصبحُ في ظُلُماتِ القبورِ =هباءً، حقيراً، وتُرْباً، زهيدْ
وينجابُ سِحْرُ الغَرامِ القويِّ= وسُكرُ الشَّبابِ، الغريرِ، السّعيدْ
أتُطوَى سماواتُ هذا الوجودِ؟= ويذهبُ هذا الفَضاءُ البعيدْ؟
وتَهلِكُ تلكَ النُّجومُ القُدامى ؟ =ويهرمُ هذا الزّمانُ العَهيدْ؟
ويقضِي صَباحُ الحياةِ البديعُ؟ =وليلُ الوجودِ، الرّهيبُ، العَتيدْ؟
وشمسٌ توشِّي رداءَ الغمامِ؟ =وبدرٌ يضيءُ، وغَيمٌ يجودْ؟
وضوءٌ، يُرَصِّع موجَ الغديرِ؟= وسِحْرٌ، يطرِّزُ تلكَ البُرودْ؟
جليلاً، رهيباً، غريباً، وَحيدْ =يضجُّ، ويدوي دويَّ الرّعودْ؟
وريحٌ، تمرُّ مرورَ المَلاكِ، =وتخطو إلى الغاب خَطَوَ الوليدْ؟
وعاصفةٌ من بناتِ الجحيم،= كأنَّ صداها زئير الأسودْ
تَعجُّ، فَتَدْوِي حنايا الجبال= وتمشي، فتهوي صُخورُ النُّجودْ؟
وطيرٌ، تغنِّي خِلالَ الغُصونِ،= وتهتفُ للفجر بين الورود؟
وزهرٌ، ينمِّقُ تلك التلال= وَيَنْهَل من كلِّ ضَوءٍ جَدِيدْ؟
ويعبَقُ منه أريجُ الغَرامِ= ونفحُ الشباب، الحَييّ، السعيد
أيسطو على الكُلِّ ليلُ الفَناءِ= ليلهُو بها الموتُ خَلْفَ الوجودْ..
وَيَنْثُرَهَا في الفراغِ المُخِيفِ =كما تنثرُ الوردَ ريحٌ شَرود
فينضبُ يمُّ الحياةِ، الخضيمُّ =ويَخمدُ روحُ الربيع، الولود
فلا يلثمُ النُّورُ سِحْرَ الخُدودِ= ولا تُنبِتُ الأرضُ غضَّ الورود
كبيرٌ على النَّفسِ هذا العَفَاءُ!= وصعبٌ على القلب هذا الهموذ!
وماذا على الَقدَر المستمرِّ =لو استمرَأَ الّناسُ طعمَ الخلود
ولم يُخْفَروا بالخرابِ المحيط= ولم يفُجعَوا في الحبيبِ الودود
ولم يَسلكوا للخلمودِ المرجَّى =سبيلَ الرّدى ، وظَلامَ اللّحودْ
فَدَامَ الشَّبابُ، وَسِحْرُ الغرامِ، =وفنُّ الربيعِ، ولطفُ الورُودْ
وعاش الورى في سَلامٍ، أمينٍ =وعيشٍ، غضيرٍ، رخيٍّ، رَغيد؟
ولكنْ هو القَدَرُ المستبدُّ= يَلَذُّ له نوْحُنا، كالنّشيد


:::::::::::::::::


تَبَرَّمْتَ بالعيشِ



تَبَرَّمْتَ بالعيشِ خوفَ الفناءِ= ولو دُمْتَ حيَّا سَئمتَ الخلودْ
وَعِشْتَ على الأرضِ مثل الجبال= جليلاً، غريباً، وَحيد
فَلَمْ تَرتشفْ من رُضابِ الحياة= ولم تصطبحْ منْ رحيقِ الوُجود
ولم تدرِ ما فتنةُ الكائناتِ =وما سحْرُ ذاكَ الربيعِ الوَليد
وما نشوةُ الحبّ عندَ المحبِّ= وما صرخةُ القلبِ عندَ الصّدودْ
ولم تفتكرْ بالغدِ المسترابِ= ولم تحتفل بالمرامِ البعيدْ
وماذا يُرجِّي ربيبُ الخلودِ =من الكون-وهو المقيمُ العهيد-؟
وماذا يودُّ وماذا يخافُ =من الكونِ-وهو المقيمُ الأبيد-؟
تأمَّلْ..، فإنّ نِظامَ الحياةِ =نظامُ، دقيقٌ، بديعٌ، فريد
فما حبَّبَ العيشَ إلاّ الفناءُ =ولا زانَهُ غيرُ خوْفِ اللحُود
ولولا شقاءُ الحياةِ الأليمِ= لما أدركَ النَّاسُ معنى السُّعودْ
ومن لم يرُعْه قطوبُ الديَاجيرِ= لَمْ يغتبطْ بالصّباح الجديدْ


:::::::::::::

إذا لم يكنْ من لقاءِ المنايا


إذا لم يكنْ من لقاءِ المنايا= مناصٌ لمن حلَّ هذا الوجودْ
فأيُّ غَناءٍ لهذي الحياة =وهذا الصراعِ، العنيفِ، الّشديد
وذاك الجمال الذي لا يُملُّ= وتلك الأغاني،وذاكَ الّنشيد
وهذا الظلامِ، وذاك الضياءِ= وتلكَ النّجومِ، وهذا الصَّعيد
لماذا نمرّ بوادِي الزمان =سِراعاً، ولكنّنا لا نَعُود؟
فنشرب من كلّ نبع شراباً =ومنهُ الرفيعُ، ومنه الزَّهيد؟
ومنه اللذيذُ، ومنه الكريهُ،= ومنه المُشيدُ، ومنه الُمبيد
وَنَحْمِلُ عبْئاً من الذّكرياتِ= وتلكَ العهودَ التي لا تَعود
ونشهدُ أشكالَ هذي الوجوهِ =وفيها الشَّقيُّ، وفيها السَّعيدْ
وفيها البَديعُ، وفيها الشنيعُ،= وفيها الوديعُ، وفيها العنيدْ
فيصبحُ منها الوليُّ، الحميمُ، =ويصبحُ منها العدوُّ، الحقُودْ
وكلٌ إذا ما سألنا الحياةَ=غريبٌ لعَمْري بهذا الوجودْ
أتيناه من عالمٍ، لا نراه =فُرادى ، فما شأنُ هذي الحقُودْ؟
وما شأنُ هذا العَدَاءِ العنيفِ؟ =وما شأنُ هذا الإخاءِ الوَدودْ؟


:::::::::::::::::


خلقنا لنبلغَ شَأوَ الكمالِ


خلقنا لنبلغَ شَأوَ الكمالِ =وَنُصبحَ أهلاً لمجدِ الخُلُودْ
وتطهرُ أرواحنا في الحياة =بنار الأسى وبيأس الوعود
وَنَكْسَبَ من عَثَراتِ الطَّريقِ= قُوىً، لا تُهُدُّ بدأبِ الصّعود
ومجداً، يكون لنا في الخلود= أكاليلَ من رائعاتِ الورود



:::::::::::::::


يَا أيُّها الشَّادِي المغرِّدُ ههُنا


يَا أيُّها الشَّادِي المغرِّدُ ههُنا= ثَمِلاً بِغِبْطةِ قَلْبِهِ المَسْرُورِ
مُتَنَقِّلاً بينَ الخَمائلِ، تَالِياً =وحْيَ الربيعِ السّاحرِ المسحورِ
غرّدْ، ففي تلك السهول زنابقٌ= تَرْنُو إليكَ بِنَاظرٍ مَنْظُورِ
غرِّدْ، ففي قلبي إليْك مودَّةٌ= لكن مودَّة طائر مأسورِ
هَجَرَتْهُ أَسْرابُ الحمائمِ، وانْبَرَتْ= لِعَذَابِهِ جنِّيةُ الدَّيْجُورِ...
غرِّد، ولا ترهَبْ يميني، إنّني= مِثْلُ الطُّيورِ بمُهْجَتي وضَمِيري
لكنْ لقد هاضَ الترابُ ملامعي= فَلَبِثْتُ مِثْلَ البُلبلِ المَكْسُورِ
أشدُو برنّاتِ النِّياحَةِ والأسى= مشبوبة بعواطفي وشعوري
غرِّدْ، ولا تحفَلْ بقلبي، إنّهُ= كالمعزَفِ، المتحطِّمِ، المهجورِ
رتِّل عَلى سَمْع الرَّبيعِ نشيدَهُ =واصدحْ بفيضِ فؤادك المسجورِ
وکنْشِدْ أناشيدَ الجَمال، فإنَّها= روحُ الوجود، وسلوة المقهورِ
أنا طَائرٌ، مُتَغرِّدٌ، مُتَرنِّمٌ =لكِنْ بصوتِ كآبتي وَزَفيري
يهتاجُني صوتُ الطّيور، لأنَّه =مُتَدَفِّقٌ بحرارة وطَهورِ
ما في وجود النَّاس مِنْ شيءٍ به =يَرضَى فؤادي أو يُسَرُّ ضميري
فإذا استمعتُ حديثَهم أَلْفَيْتُهُ= غَثّاً، يَفِيض بِركَّة ٍ وَفُتُورِ
وإذا حَضَرْتُ جُمُوعَهُمْ ألْفَيتَنِي= ما بينهم كالبلبل المأسورِ
متوحِّداً بعواطفي، ومشاعري، =وَخَوَاطِري، وَكَآبتي، وَسُروري
يَنْتَابُنِي حَرَجُ الحياة كأنّني= مِنْهمْ بِوَهْدَة جَنْدلٍ وَصُخورِ
فإذا سَكَتُّ تضجَّروا، وإذا نَطَقْتُ =تذمَّروا مِنْ فكْرَتي وَشُعوري
آهٍ مِنَ النَّاسِ الذين بَلَوْتُهُمْ =فَقَلَوْتُهُمْ في وحشتي وَحُبُوري!
ما منهم إلا خبيثٌ غادرٌ= متربِّصٌ بالنّاس شَرَّ مصيرِ
وَيَودُّ لو مَلَكَ الوُجودَ بأسره =ورمى الوَرى في جاحِمٍ مسجورِ
لِيُبلَّ غُلَّتَهُ التي لا ترتوي= ويكظّ نهمة قلبه المغفورِ
وإذا دخلتُ إلى البلاد فإنَّ أفـ =ـكاري تُرَفْرِفُ في سُفوح الطُّورِ
حيثُ الطبيعةُ حلوةٌ فتَّانَةٌ= تختال بين تَبَرُّجِ وَسُفُورِ
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي غارقةٌ= بموَّار الدَّم المهْدورِ
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي لا= ترثي للصوتِ تَفجُّع المَوْتُورِ؟
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي لا =تَعْنو لِغَير الظَّالمِ الشَّرِّيرِ؟
ماذا أودُّ من المدينة ، وهي مُرْتادٌ =لكل دعارة وفجورِ؟
يا أيُّها الشَّادي المغرِّدُ ههنا= ثَمِلاً بغبطة قَلْبهِ المسرورِ!
قبِّلْ أزاهيرَ الربيعِ، وغنِّها =رنَمَ الصّباحِ الضَاحكِ المحبورِ
واشربْ مِنَ النَّبع، الجميل، الملتوي =ما بين دَوْحِ صنوبر وغدير
وکتْرُكْ دموعَ الفَجْرِ في أوراقِها= حتَّى تُرشِّفَهَا عَرُوسُ النُّورِ
فَلَرُبَّما كانتْ أنيناً صاعداً =في اللَّيل مِنْ متوجِّعٍ، مَقْهورِ
ذرفته أجْفان الصباح مدامعاً =ألاّقة ، في دوحة وزهورِ... ‍‍‍‍‍



::::::::::::::::::



يا موتُ!


يا موتُ! قد مزَّقتَ صدري وقصمْتَ بالأرزاءِ ظَهْري

ورميْتَني من حَالقٍ وسخرتَ منِّي أيَّ سُخْرِ

فَلَبِثْتُ مرضوضَ الفؤادِ أَجُرُّ أجنحتي بِذُعْرِ...

وَقَسَوْتَ إذ أبقيتني في الكَوْن أذْرَعُ كُلَّ وَعْرِ

وفجعتني فيمَن أحبُّ ومنْ إليه أبُثُّ سرّي

وَأَعُدُّهُ، فَجْرِي الجميلَ، إذا کدْلَهَمَّ عليَّ دَهْرِي


::::::::::::::


الأمُّ تلثُمُ طفلَها، وتضـمُّه



الأمُّ تلثُمُ طفلَها، وتضـمُّه= حرَمٌ، سماويُّ الجمالِ، مقدَّسُ
تتألّه الأفكارُ، وهْي جوارَه= وتعودُ طاهرة ً هناكَ الأنفُسُ
حَرَمُ الحياةِ بِطُهْرِها وَحَنَانِها= هل فوقَهُ حرَمٌ أجلُّ وأقدسُ؟
بوركتَ يا حرَمَ الأمومةِ والصِّبا =كم فيك تكتمل الحياةُ وتقدُسُ


::::::::::::::::::::::::

يَنْقَضِي العَيْشُ بَيْنَ شَوْقٍ وَيَأْسِ


يَنْقَضِي العَيْشُ بَيْنَ شَوْقٍ وَيَأْسِ= والمُنَى بَيْنَ لَوْعةٍ وَتَأَسِّ
هذه سُنَّةُ الحياة ، ونفسي= لا تَوَدُّ الرَّحيقَ فِي كَأْسِ رِجْسِ
مُلِىء الدهر بالخداعِ، فكم =قد ضلَّلَ الناسَ من إمام وقَسِّ
كلَّما أَسْأَلُ الحياةَ عَنِ الحقِّ =تكُفُّ الحياةُ عن كل هَمْسِ
لمْ أجِدْ في الحياةِ لحناً بديعاً =يَسْتَبِيني سِوى سَكِينَةِ نَفْسي
فَسَئِمْتُ الحياةَ، إلا غِرَاراً= تتلاشى بِهِ أَناشِيدُ يَأْسِي
ناولتني الحياةُ كأساً دِهاقاً= بالأماني، فما تناولْتُ كأسِي
وسقتْني من التعاسَة أكواباً= تجرعْتُها، فيأشدّ تُعْسي
إنّ في روضةِ الحياةِ لأشواكاً =بها مُزِّقتْ زَنابِقُ نفسي
ضَاعَ أمسي! وأينَ مِنِّي أَمْسِي؟ =وقضى الدهرُ أن أعيش بيأسي
وقضى الحبُّ في سكون مريعٍ= سَاعَةَ الموتِ بين سُخْط وَبُؤْسِ
لم تُخَلِّفْ ليَ الحياة من الأمس= سِوَى لَوْعَةٍ، تَهُبُّ وَتُرسي
تتهادى ما بين غصّات قلبي= بِسُكونٍ وبين أوجاعِ نَفْسي
كخيال من عالم الموْت، ينْساب= بِصَمْتٍ ما بينَ رَمْسٍ وَرَمْسِ
تلك أوجاعُ مهجةٍ، عذَّبتْها= في جحيم الحياة أطيافُ نحسِ



:::::::::::::::::



النبي المجهول


أيْها الشعبُ! ليتني كنتُ حطَّاباً= فأهوي على الجذوعِ بفأسي!
ليتَني كنتُ كالسيّولِ، إذا ما سالَتْ= تهدُّ القبورَ: رمْساً برمٍسِ!
ليتَني كنتُ كالريّاح، فأطوي= ورودُ الرَّبيع مِنْ كلِّ قنْس
ليتني كنتُ كالسّتاء، أُغَشِّي= كل ما أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي!
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ، يا شعبي =فأُلقي إليكَ ثَوْرةَ نفسي!
ليت لي قوةَ الأعاصيرِ! إن ضجَّتْ= فأدعوكَ للحياةِ بنبسي!
ليت لي قوةَ الأعاصيرِ..! لكْ =أنتَ حيٌّ، يقضي الحياة برمسِ..!
أنتَ روحٌ غَبِيَّةٌ، تكره النّور،= وتقضي الدهور في ليل مَلْس...
أنتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ= حواليكَ دون مسّ وجسِ...
في صباح الحياةِ صَمَّخْتُ أكوابي =وأترعتُها بخمرةِ نفسي...
ثُمَّ قدَمْتُها إليكَ، فأهرقْتَ =رحيقي، ودُستَ يا شعبُ كأسي!
فتألَّمت..، ثًمَّ أسكتُّ آلامي،= وكفكفتُ من شعوري وحسّي
ثُم نَضَّدْتُ من أزاهيرِ قلبي= باقة ً، لمْ يَمَسَّها أيُّ إِنْسِي...
ثم قدّمْتُها إليكَ، فَمزَّقْتَ =ورودي، ودُستَها أيَّ دوسِ
ثم ألبَسْتَني مِنَ الحُزْنِ ثوباً= وبشوْك الجِبال توَّجتَ رأسي
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، ياشَعْبي= لأقضي الحياة ، وحدي، بيأسي
إنني ذاهبٌ إلى الغابِ، علَّي= في صميم الغابات أدفنُ بؤسي
ثُمَّ أنْسَاكَ ما استطعتُ، فما أنت= بأهْلِ لخمرتي ولكَأسي
سوف أتلو على الطُّيور أناشيدي،= وأُفضي لها بأشواق نَفْسي
فَهْي تدري معنى الحياة ، وتدري= أنّ مجدَ النُّفوسِ يَقْظَةُ حِسِّ
ثم أقْضي هناك، في ظلمة الليل=، وأُلقي إلى الوجود بيأسي
ثم تَحْتَ الصَّنَوْبَر، النَّاضر، الحلو،= تَخُطُّ السُّيولُ حُفرةَ رمسي
وتظَلُّ الطيورُ تلغو على قبْرِي= ويشدو النَّسيمُ فوقي بهمس
وتظَلُّ الفصولُ تمْشي حواليَّ،= كما كُنَّ في غَضارَة أمْسي
أيّها الشّعبُ! أنتَ طفلٌ صغيرٌ،= لاعبٌ بالتُّرابِ والليلُ مُغْسِ..!
أنتَ في الكَوْنِ قوَّةٌ، لم تَنسْسها =فكرةٌ، عبقريَّةٌ، ذاتُ بأسِ
أنتَ في الكَوْنِ قوةٌ،كبَّلتْها =ظُلُمَاتُ العُصور، مِنْ أمس أمسِ..
والشقيُّ الشقيُّ من كان مثلي =في حَسَاسِيَّتي، ورقَّةِ نفسي
هكذا قال شاعرٌ، ناولَ النَّاسَ= رحيقَ الحياةِ في خير كأسِ
فأشاحُوا عنْها، ومرُّوا غِضابا =واستخفُّوا به، وقالوا بيأس:
"قد أضاعَ الرشّادَ في ملعب الجِنّ= فيا بؤسهُ، أصيب بمسّ
طالما خاطبَ العواصفَ في الليلِ =ويَمْشي في نشوةِ المُتَحَسِّي
طالما رافقَ الظلامَ إلى الغابِ= ونادى الأرواحَ مِن كلِّ جِنْس»
طالما حدَّثَ الشياطينَ في الوادي،= وغنّى مع الرِّياح بجَرسِ»
إنه ساحرٌ، تعلِّمُه السحرَ =الشياطينُ، كلَّ مطلع شمسْ
فابعِدوا الكافرَ الخبيثَ عن الهيكلِ= إنّ الخَبيثَ منبعُ رِجْسِ»
«أطردوه، ولا تُصيخوا إليه =فهو روحٌ شريِّرةٌ، ذات نحْسِ
هَكَذا قَال شاعرٌ، فيلسوفٌ، =عاشَ في شعبه الغبيِّ بتَعْسِ
جَهِلَ الناسُ روحَه، وأغانيها =فساموُا شعورَه سومَ بخْسِ
فَهْوَ في مَذهبِ الحياةِ نبيٌّ =وَهْوَ في شعبهِ مُصَابٌ بمسِّ
هكذا قال، ثمّ سَار إلى الغابِ،= ليَحْيا حياة شعرٍ وقُدْسِ
وبعيداً، هناك..، في معبد الغاب= الذي لا يُظِلُّه أيُّ بُؤْسِ
في ظلال الصَّنوبرِ الحلوِ، والزّيتونِ =يقْضي الحياةَ: حرْساً بحرْسِ
في الصَّباح الجميل، يشدو مع الطّير، =ويمْشي في نشوةِ المنحسِّي
نافخاً نايَه، حوالْيه تهتزُّ =ورودُ الرّبيع منْ كلِّ فنسِ
شَعْرُه مُرْسَلٌ- تداعُبه الرّيحُ= على منكبْيه مثلَ الدُّمُقْسِ
والطُّيورُ الطِّرابُ تشدو حواليه= وتلغو في الدَّوحِ، مِنْ كُلِّ جنسِ
وترا عند الأصيل، لدى الجدول،= يرنو للطَّائرِ المتحسِّي
أو يغنِّي بين الصَّنوبرِ، أو يرنو= إلى سُدْفَة الظَّلامِ الممسّي
فإذا أقْبَلَ الظلامُ، وأمستْ= ظلماتُ الوجودِ في الأرض تُغسي
كان في كوخه الجميل، مقيماً =يَسْألُ الكونَ في خشوعٍ وَهَمْسِ
عن مصبِّ الحياةِ، أينَ مَدَاهُ؟= وصميمِ الوجودِ، أيَّان يُرسي؟
وأريجِ الوُرودِ في كلِّ وادٍ =ونَشيدِ الطُّيورِ، حين تمسِّي
وهزيمِ الرِّياح، في كلِّ فَجٍّ =وَرُسُومِ الحياةِ من أمس أمسِ
وأغاني الرعاة أين يُواريها= سُكونُ الفَضا، وأيَّان تُمْسي؟؟
هكذا يَصْرِفُ الحياةَ، ويُفْني= حَلَقات السنين: حَرسْاً بحرْسِ
يا لها من معيشةٍ في صميم الغابِ =تُضْحي بين الطيور وُتْمْسي!
يا لها مِنْ معيشةٍ، لم تُدَنّسْهَا= نفوسُ الورى بخُبْثٍ ورِجْسِ!
يا لها من معيشةٍ، هيَ في الكون =حياةٌ غريبةٌ، ذاتُ قُدسِ


:::::::::::::::::


الحُبُّ شُعْلَة ُ نُورٍ


الحُبّ شُعْلَةُ نُورٍ ساحرٍ، هَبَطَتْ= منَ السَّماءِ، فكانتْ ساطعَ الفَلَقِ
وَمَزّقتْ عَن جفونِ الدَّهْرِ أَغْشِيَةً= وعن وجوه الليالي بُرقُعَ الغسقِ
الحبُّ رُوحُ إلهيٌّ، مجنّحةٌ =أيامُه بضياء الفجر والشّفقِ
يطوفُ في هذهِ الدُّنيا، فَيَجْعَلُها= نجْماً، جميلاً، ضحوكاً، جِدَّ مؤتلقِ
لولاهُ ما سُمِعتْ في الكون أغنيةٌ =ولا تألف في الدنيا بَنْو أُفْقِ
الحبّ جَدْولٌ خمرٍ، مَنْ تَذَوَّقَهُ= خاضَ الجحيمَ، ولم يُشْفِق من الحرقِ
الحبّ غايةُ آمالِ الحياةِ، فما =خوْفِي إذا ضَمَّني قبرٌ؟ وما فَرَقِي؟


::::::::::::::


ضعفُ العزيمةِ لَحْدٌ، في سكينَتهِ


ضعفُ العزيمةِ لَحْدٌ، في سكينَتهِ= تقْضِي الحياةُ، بَنَاهُ اليأسُ والوجَلُ
وفِي العَزِيمَةِ قُوَّاتٌ، مُسَخَّرَةٌ =يخِرّ دونَ مَداها اليأسُ والوجَلُ
والنّاسُ شَخْصان: ذا يسْعى به قَدَمٌ =من القُنوطِ، وذا يسعَى به الأملُ
هذا إلى الموتِ، والأجداثُ ساخرةٌ،= وَذَا إلى المَجْدِ، والدُّنْيَا لَهُ خَوَلُ
ما كلُّ فعل يُجِلُّ النَّاسُ فَاعلَه مجداً،= فإنَّ الورى في رأَيِهم خطَلُ
ففي التماجد تمويهٌ، وشعْوذَةٌ،= وَفِي الحَقِيقَة مَا لا يُدْرِكُ الدَّجِلُ
مَا المَجْدُ إلا ابتِسَامَاتٌ يَفِيضُ بها= فمُ الزمانْ، إذا ما انسدَّتِ الحِيَلُ
وليسَ بالمَجدْ ما تشْقى الحياة ُ به= فَيَحْسُدُ اليَوْمُ أمْساً، ضَمَّهُ الأَزَلُ
فما الحروبُ سوى وحْشيَّةٍ، نهضَتْ= في أنفُسِ النّاسِ فانقادَتْ لها الدّولُ
وأيقظتْ في قلوبِ النّاسِ عاصفةً= غامَ الوجودُ لها، واربْدَّت السُّبُلُ
فَالدَّهْرُ مُنْتَعِلٌ بالنَّارِ، مُلْتَحِفٌ =بالهوْلِ، والويْلِ، والأيامُ تَشْتَعِلُ
وَالأَرْضُ دَاميةٌ، بالإثْمِ طَامِيَةٌ،= وَمَارِدُ الشَّرِّ في أَرْجَائِهَا ثَمِلُ
والموْتُ كالماردِ الجبَّارِ، منتصِبٌ =فِي الأرضِ، يَخْطُفُ مَنْ قَدْ خَانَهُ الأَجَلْ
وَفِي المَهَامِهِ أشلاءٌ، مُمَزَّقَةٌ= تَتْلُو على القَفْرِ شِعْراً، لَيْسَ يُنْتَحَلُ



::::::::::::::::


قضَّيتُ أدْوارَ الحياة ِ، مُفَكِّراً


قضَّيتُ أدْوارَ الحياةِ، مُفَكِّراً= في الكَائِناتِ، مُعَذَّباً، مَهْمُوما
فَوَجَدْتُ أعراسَ الوُجود مآتماً =ووجدتُ فِرْدَوسَ الزَّمانِ جَحيمَا
تَدْوي مَخَارِمُهُ بِضَجَّة ِ صَرْصَرٍ،= مشبوبَةٍ، تَذَرُ الجيالُ هشيمَا
وحضرتُ مائدةَ الحياة ، فلم أجدْ= إلاّ شراباً، آجناً، مسموماً
وَنَفضْتُ أعماقَ الفَضَاءِ، فَلَمْ أجِدْ =إلا سكوناً، مُتْعَباً محمومَا
تتبخَّرُ الأَعْمارُ في جَنَباتِهِ =وتموتُ أشواقُ النّفوس وَجومَا
ولمستُ أوتارَ الدهور، فلم تُفِض= إلا أنيناً، دامياً، مَكْلُوما
يَتْلُو أقاصيصَ التَّعاسةِ والأسى= ويصيرُ أفراح الحياة همومَا
شُرِّدْتُ عن وَطَنِي السَّماويِّ الذي= ما كانَ يوْماً واجمَا، مغمومَا
شُرِّدْتُ عَنْ وطني الجميل.. أنا الشَّقِـي= ي، فعشت مشطورَ الفؤاد، يتيمَا..
في غُربةٍ، رُوحيَّةٍ، مَلْعُونةٍ= أشواقُها تَقْضِي، عِطاشاً، هِيما...
يا غُربةَ الرُّوحِ المفكِّر‍ إنّه= في النَّاسِ يحيا، سَائماً، مَسْؤُوما
شُرِّدتُ لِلدنيا.. وَكُلٌّ تائهٌ =فيها يُرَوِّعُ رَاحلاً ومقيما
يدعو الحياة ، فلا يُجيبُ سوى الرَّدى= ليدُسَّهُ تَحْتَ التُّرابِ رَميما
وَتَظَلُّ سَائِرةً، كأنّ فقيدها= ما كان يوماً صاحباً وحميمَا‍
يا أيُّها السّاري! لقد طال السُّرى= حَتَّام تَرْقُبُ في الظَّلامِ نُجُوما..؟
أتخالُ في الوادي البعيدِ المُرْتَجى ؟= هيهاتَ! لَنْ تَلْقى هناكَ مَرُوما
سرْ ما اسْتَطَعْتَ، فَسَوْفَ تُلقي ـ مثلما= خلَّفتَ ـ مَمشُوقَ الغُصونِ حَطِيما


::::::::::::::::


تُسائلني: مالي سكتُّ


تُسائلني: مالي سكتُّ، ولا أُهِبْ= بقومي، وديجورُ المصائبِ مُظْلِمُ»
«وَسَيْلُ الرَّزايا جَارفٌ، متدفّعٌ= عضوبٌ، وجه الدّهر أربدُ، أقتمُ؟
سَكَتُّ، وقد كانت قناتيَ غضَّةً= تصيحُ إلى همس النسَّيم، وتحلمُ
وقلتُ، وقد أصغتْ إلى الرّيحِ مرّةً= فجاش بها إعصارهُ المتهزِّمُ
وقلتُ وقد جاش القَريضُ بخاطري= كما جاش صخَّابُ الأواذيِّ، أسْحَمُ:
أرى المجدَ معصوب الجبين مُجدَّلاً= على حَسَكِ الآلم، يغمرهُ الدَّمُ
وقد كان وضَّاحَ الأساريرَ، باسماً= يهبُّ إلى الجلَّى ، ولا يَتَبَرّمُ»
فيا إيها الظلمُ المصَّعرُ حدَّه =رويدكَ! إن الدّهر يبني ويهدمُ
سيثارُ للعز المحطَّم تاجه رجالٌ،= إذا جاش الرِّدى فهمُ هُمُ
رجالٌ يرون الذَلَّ عاراً وسبَّةً =ولا يرهبون الموت، والموتُ مقدمُ
وهل تعتلي إلا نفوسٌ أبيِّةٌ =تصدَّع أغلالَ الهوانِ، وتَحطِمُ»


::::::::::::::


تَرجُو السَّعادة َ يا قلبي


تَرجُو السَّعادةَ يا قلبي ولو وُجِدَتْ =في الكون لم يشتعلْ حُزنٌ ولا أَلَمُ
ولا استحالت حياةُ الناس أجمعها= وزُلزلتْ هاتِهِ الأكوانُ والنُّظمُ
فما السَّعادة في الدُّنيا سوى حُلُمٍ= ناءٍ تُضَحِّي له أيَّامَهَا الأُمَمُ
ناجت به النّاسَ أوهامٌ معربدةٌ= لمَّا تغَشَّتْهُمُ الأَحْلاَمُ والظُّلَمُ
فَهَبَّ كلٌ يُناديهِ وينْشُدُهُ =كأنّما النَّاسُ ما ناموا ولا حلُمُوا
خُذِ الحياةَ كما جاءتكَ مبتسماً= في كفِّها الغارُ، أو في كفِّها العدمُ
وارقصْ على الوَرِد والأشواكِ متَّئِداً= غنَّتْ لكَ الطَّيرُ، أو غنَّت لكَ الرُّجُمُ
وأعمى كما تأمرُ الدنيّا بلا مضضٍ= والجم شعورك فيها، إنها صنمُ
فمن تآلّم لن ترحم مضاضتهُ =وَمَنْ تجلّدَ لم تَهْزأ به القمَمُ
هذي سعادةُ دنيانا، فكن رجلاً =ـ إن شئْتَها ـ أَبَدَ الآباد يَبْتَسِمُ!
وإن أردت قضاء العيشِ في دعَةٍ= شعريّةٍ لا يغشّي صفوها ندمُ
فاتركْ إلى النّاس دنياهمْ وضجَّتهُمْ =وما بنوا لِنِظامِ العيشِ أو رَسَموا
واجعلْ حياتكَ دوحاً مُزْهراً نَضِراً= في عُزْلَةِ الغابِ ينمو ثُمّ ينعدمُ
واجعل لياليك أحلاماً مُغَرِّدةً= إنَّ الحياةَ وما تدوي به حُلُمُ


:::::::::::::::

أيُّها الحُبُّ أنْتَ سِرُّ بَلاَئِي




أيُّها الحُبّ أنْتَ سِرُّ بَلاَئِي =وَهُمُومِي، وَرَوْعَتِي، وَعَنَائي
وَنُحُولِي، وَأَدْمُعِي، وَعَذَابي= وَسُقَامي، وَلَوْعَتِي، وَشَقائي
أيها الحب أنت سرُّ وُجودي= وحياتي ، وعِزَّتي، وإبائي
وشُعاعي ما بَيْنَ دَيجورِ دَهري= وأَليفي، وقُرّتي، وَرَجائي
يَا سُلافَ الفُؤَادِ! يا سُمَّ نَفْسي= في حَيَاتي يَا شِدَّتي! يَا رَخَائي!
ألهيبٌ يثورٌ في روْضَةِ النَّفَسِ، فيـ ـ=‍‍‍‍طغى ، أم أنتَ نورُ السَّماءِ؟
أيُّها الحُبُّ قَدْ جَرَعْتُ بِكَ الحُزْ =نَ كُؤُوساً، وَمَا اقْتَنَصْتُ ابْتِغَائي
فَبِحَقِّ الجَمَال، يَا أَيُّها الحُـ =ـبّ حنانَيْكَ بي! وهوِّن بَلائي
لَيْتَ شِعْري! يَا أَيُّها الحُبّ، قُلْ لي: =مِنْ ظَلاَمٍ خُلِقَتَ، أَمْ مِنْ ضِيَاءِ؟






إعداد :

سلطان الزيادنة / الأردن

عبير محمد / مصر
زياد السعودي / الأردن
نفيسة التريكي/ تونس








 
/
موضوع مغلق

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:12 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط