العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▆ أنا الفينيقُ أولدُ من رَمَادِ.. وفي الْمَلَكُوتِ غِريدٌ وَشَادِ .."عبدالرشيد غربال" ▆ > ⊱ المدينة الحالمة ⊰

⊱ المدينة الحالمة ⊰ مدينة تحكي فيها القصة القصيرة اشياء الزمان المكان

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-10-2017, 08:07 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


حارس كامل غير متواجد حالياً


افتراضي حديث صامت عن الذي كان معي بالأمس

حديث صامت عن الذي كان معي بالأمس.

غادرتُ قبل منتصف الليل بقليل. ارتديت ملابسي، وخرجت للشارع، والوجوه حولي كلها غائمة وقاتمة.. علَيَّ أن أسرع لألحق بآخر قطار. المسافة طويلة ومرهقة، من شقتي بمدينة 6 أكتوبر إلى بلدتي بمدينة قنا. اتصل بي إبراهيم شقيق صديقي خالد، وتمهَّل طويلًا في حديثه يحاول أن يمهد للخبر. كأنه يحاول أن ينتقي كلامًا يخفف من وطأته. مسكين إبراهيم، لا يعرف أن الخبر السيء سيء لأنه سيء لا يحتاج لمحسنات تغيِّر من طعمِه المُر.
دائمًا الأخبار السيئة لا تؤذن قبل حدوثها. تقع فجأة وتتركنا نلهث من فرط الصدمة لوقت طويل قبل أن نستفيق أو لا نستفيق. حتى وإن فعلت في مرات قليلة وطرقت الأبواب، فإنها تكون كالريح العاصفة تظل لأيام محطات الأرصاد تحذِّر منها، حتى إن جاءت تكون أكثر شراسة كأنها تهزأ بنا.
قال إبراهيم بعد تردد: مات خالد!
للوهلة الأولى أحسست أنني لم أسمعه. أخذني الصمت قليلًا، ولمَّا رجعت إليه، سألته صارخا: ماذا تقول؟ لكنه لم يكُن معي على الخط. أغلق الهاتف.. يبدو أنه أغلق الهاتف لأنه لم يعد يتحمل بعد أن أتم مهمته الثقيلة أو لأنه لا كلام بعد ما قال أو أنه هُيِئَ لي أنه أغلق الهاتف. لا أدري ما الذي جرى على وجه الحقيقة. كل الأمور تشابهت أمامي كالضباب.
لطالما سمعت الشيخ يردد حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إنمَّا الصبر عند الصدمة الأولى"، ولكنني لم أقدر وسقطت على الأرض. أكانت قدمي هي التي انزلقت وسقطت على الأرض أم رأسي هو الذي سقط وأخذ بقية جسدي وارتطم بالأرض، ولولا السِجَّادة المفروشة لتهشمت رأسي شظايا؟!
جاءت زوجتي مهرولة تشهق من الخوف. حرَّكت رأسي لما وجدتني صامتًا واطمأنت لمَّا فتحت عيني. أمسكت يدي، تساعدني في لملمة هزائمي الكبيرة، والوقوف مجددًا على قدمي. كانت عيناي تفيضان بالدمع، ولأن الحزن الحقيقي لا يحتاج إلى أقنعة عرفت زوجتي أن ثمَّة أمرًا عظيمًا قد وقع عبر الهاتف المُطوَّح فوق السِجَّادة.
بصعوبة تحركت شفتي، وقلت لها: خالد مات!
ضمتني إلى صدرها، وتركتني أبكي.
غَبتُ في حضنها لفترة، لكنني تذكرت وكأنني استعدت الوعي أن إبراهيم بالفعل أضاف: الجنازة في الثامنة صباحًا.
خرجت من حضنها، أحدث نفسي: "عليَّ أن أؤجل الحفلة الكبرى للحزن حتى لحظة الوداع الأخيرة".
الآن أغوص في كرسي القطار، والضجيج في العربة يمتد ولا تنقطع الضحكات، لكنني بعيد عنهم داخل شرنقة أحزاني. تتداعى أمامي الصور واحدة تلو الأخرى كعربات القطار تجري وراء بعضها.
صعبٌ عليك أن تتحمل فكرة فراق شخص؛ فكيف وإن كان ذلك الشخص خالد، صاحبي الذي كان معي طوال الوقت منذ الولادة وربما قبل ذلك. كل الأمور بيننا تتشابه حد التطابق حتى الاسم. هو من الأمور التي لم أخيَّر فيها، ولو كان كنت سأختاره. كان كالروح في جسدي وكنت كالقلب بين ضلوعه. غدونا كواحد وظله لا نفترق. صرنا كالحقيقة متلازمين. تبصرنا الشمس، والنجوم في كل الأمكنة معًا. حتى في رحيلنا إلى موطننا الجديد بعد أن أغدقت علينا الدنيا بسعادتها كنا معًا، وسكننا متجاورين بمدينة 6 أكتوبر.
لا تزال آثار أقدامنا فوق الرمال هناك في بلدتنا صغارًا، والغبار يتصاعد وراءنا كالسحاب، نشق طريقنا بين البيوت نجري، والأصوات تطاردنا. نذهب في عتمة الليل إلى الشجرة العالية عند تخوم البلدة، نتسلقها دون خوف، نختبئ بين أغصانها، ونصير شبحين لكل الذاهبين والراجعين. تأتينا حكايات العفاريت في الصباح التي كانت عند الشجرة تطوف القرية. نكتم ضحكاتنا، ونعزِّز حكايتهم أننا رأيناها. يجمعني بيته، ويجمعه بيتي. تقول أمي: "أشعر أنني حملته معك في بطني دون أن أدري". نضحك وهي ترقينا من الحسد. هناك أيضًا، مع عائلته كنت عمرًا آخر لهم. "لا فرق بين الخالدين سوى الوجوه". هكذا يردد أبوه. يضيف أيضًا وهو يأخذني إلى جواره على الكنبة المفروشة بصوف الأغنام: "يا رب لا تفرق بينهما أبدًا."
ها قد رحل خالد رغمًا عن اسمه!
يتواصل هدير القطار، ومحطات ترمى وراء ظهره، وبلاد تبعد وأخرى تقرب. دموع تبلل عيني وأسئلة كجرافات تهدم بيوتًا تخترق رأسي. هل يمكن للموت بكل سهولة أن يحدد مصائرنا؟ يسلبنا أحباءنا دون أية خيارات. هل كان هو المخطئ أم ذلك المرض الذي استوطنه كفريسة سهلة؟ أخذني من يدي إلى نفس الشجرة التي كنا نتسلقها، كان يبدو عليه إرهاق المرض، ونحف جسده حتى صار كهبَّة ريح خفيفة. أمسك يدي، ونزفت الكلمات من فمه، ونقيق الضفادع في الزروع وراءنا يمتد: "يبدو أنني لن أكمل معك الرحلة".
أسئلة حائرة كثيرة ظلت عالقة دون إجابات: متى وكيف وأين جاءه المرض، وكنت كنفسه التي داخله؟ كان قويًّا، وعفيًّا، ونضرة عينيه لا تخفى عن كل عين. يبدو الآن.. عليَّ أن أعرف أننا اثنين بجسدين مختلفين حتى لو اتحدت ظلالنا وأحلامنا.
ضغطتُّ على أصابعه، ورجوته: "لا تقل هذا."
هز رأسه دون أن يتكلم وكأنه يخبرني أن ما أقوله مجرد كلام لن يغير من الحقيقة شيئا.. أخذناه إلى أكبر مستشفى، وتم احتجازه فيها. ظل فيها قرابة شهر كامل يتناوب عليه الأطباء والممرضون حتى قهرته الأدوية والمحاليل، حتى لم يعد فوق الاحتمال احتمال. أول أمس، قال الطبيب ناصحًا: "خذوه إلى البيت".
كان أبوه على مقربة مني، وانجرف يبكي، وأصرَّ أن يرجع إلى بلدنا حيث بدأ الحياة. نظرت في عينيه الغارقتين، فرأيت نفسي هشًّا كأوراق شجر الخريف. أسندت ظهري على جدار المستشفى، حتى لا تأخذني الدوَّامة. خرج إبراهيم من عنده، وأخبرني أنه يطلبني. رجعت إليه ووجدته يبتسم. قال بشفاه ذابلة: "هل حانت اللحظة؟".. تأملت جلد الوجه وقد تغضن حتى صار كلون اليود.
ضممت يده، وقلت له: "بالعكس.. لقد طمأننا الطبيب حتى أننا سنخرج من المستشفى". تبسم ضاحكا من قولي، وراقت لي ضحكته رغم جفافها.
عادوا به، وكان عليَّ أن ألحق بهم بعد إنهاء بعض إجراءات. لم يمهلني اللحظة الأخيرة للرؤية، وقرر أن يفارق دون ترتيب موكب الوداع. هكذا تأتي النهايات فوق توقعاتنا لتخلف لنا أحزانًا أكبر.
أنفصل من لهيب الذكريات على صوت رنين الهاتف.. أخرجه من جيبي وأتطلع إلى شاشته ببلادة الاستياء.
صرير العجلات كان قويًّا فوق القضبان، وهو يعبر منحنى صعبًا، لكنه لم يكن أقوى من الهِزَّة التي ارتجت لها جوانح صدري. مرة أخرى يأتيني صوت إبراهيم، يسألني: "أين وصلت؟"
كان عامل البوفيه يمر بجواري، يدفع عربة صغيرة، ينادي على الشاي السخن. ظل صوتي ساكنًا، لا أعرف أين وصلت. فقط تطلَّعتُ إلى شاب يجلس جواري. سألته: "أين نحن؟".. أجابني: "سوهاج!"
أومأت برأسي شاكرًا، ثم أسندت رأسي إلى الكرسي، وشطط قد أعطبها: "لماذا لم تنتظرني يا حقيقة روحي؟"
***






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
قديم 20-10-2017, 10:01 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عبد الكريم محمد
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
فلسطين
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


عبد الكريم محمد غير متواجد حالياً


افتراضي رد: حديث صامت عن الذي كان معي بالأمس

الاديب حارس كامل

تجربة معمقه وأنت بمكوناتك الداخليه موجوده بين السطور وسرد روائي يعتمد على المضمون واللغه التعبيريه الصادقه التي حملت مفهوم الوفاء والصداقه الحيه المبنيه على الاخوة الصادقه وكما قالوا رب اخا لم تلدة امك
حقيقه طقوس خاصه واسلوب شيق وجميل وطريقة الصياغه جميله ورائعه جدا

كل الاحترام والتقدير على هذة الرساله النبيله






  رد مع اقتباس
/
قديم 21-10-2017, 12:42 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
إحصائية العضو







آخر مواضيعي


فاطمة الزهراء العلوي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: حديث صامت عن الذي كان معي بالأمس

قصة مؤلمة
وداع الاحبة دوما صعب تحمله ، ولولا رعاية الله والصبر الذي يبتلينا به معاونا لما استطعنا
عميقة تجربتك السردية
هذه انموذج للسيدة القصيرة
حبكة سردا والفلاش باك الذي لم يشعرنا بفاصلة العودة الى الوراء/ قشق الحديث بانسيابية رائعة
رائعة هذه التجربة السردية على الرغم من قساوة الحدث
كان صمتا رهيبا بالكلام
تحيتي استاذ حارس
همسة
بدا لي العنوان طويلا نوعا ما






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
قديم 21-10-2017, 09:57 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


حارس كامل غير متواجد حالياً


افتراضي رد: حديث صامت عن الذي كان معي بالأمس

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الكريم محمد مشاهدة المشاركة
الاديب حارس كامل

تجربة معمقه وأنت بمكوناتك الداخليه موجوده بين السطور وسرد روائي يعتمد على المضمون واللغه التعبيريه الصادقه التي حملت مفهوم الوفاء والصداقه الحيه المبنيه على الاخوة الصادقه وكما قالوا رب اخا لم تلدة امك
حقيقه طقوس خاصه واسلوب شيق وجميل وطريقة الصياغه جميله ورائعه جدا

كل الاحترام والتقدير على هذة الرساله النبيله
الاستاذ عبدالكريم
أشكر تناولك للنص وقراءتك العميقة
سعدت أيضا بكلماتك الطيبة
تحيتي






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
قديم 22-10-2017, 11:39 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
خالد يوسف أبو طماعه
عضو مجلس إدارة
المستشار الفني للسرد
عضو تجمع الأدب والإبداع
عضو تجمع أدب الرسالة
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
الاردن

الصورة الرمزية خالد يوسف أبو طماعه

إحصائية العضو








آخر مواضيعي


خالد يوسف أبو طماعه غير متواجد حالياً


افتراضي رد: حديث صامت عن الذي كان معي بالأمس

بأسلوب رقيق ولغة هادئة
جرفنا النص نحو مشاعر مليئة بالوجع
وكانت الحكاية تدمي القلب وتدمع العين
والحزن كبير كشيخ مسن أكلته السنون
نص جميل حبكة وتشويق ولغة
"حديث صامت" كعنوان برأيي المتواضع يكفي
نفتقدك كثيرا أخي حارس
محبتي






  رد مع اقتباس
/
قديم 24-10-2017, 02:02 AM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


حارس كامل غير متواجد حالياً


افتراضي رد: حديث صامت عن الذي كان معي بالأمس

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمة الزهراء العلوي مشاهدة المشاركة
قصة مؤلمة
وداع الاحبة دوما صعب تحمله ، ولولا رعاية الله والصبر الذي يبتلينا به معاونا لما استطعنا
عميقة تجربتك السردية
هذه انموذج للسيدة القصيرة
حبكة سردا والفلاش باك الذي لم يشعرنا بفاصلة العودة الى الوراء/ قشق الحديث بانسيابية رائعة
رائعة هذه التجربة السردية على الرغم من قساوة الحدث
كان صمتا رهيبا بالكلام
تحيتي استاذ حارس
همسة
بدا لي العنوان طويلا نوعا ما
الاستاذة الراقية فاطمة الزهراء
أشكرك تناولك النص وكلماتك الطيبة
بشأن العنوان هو عنوان تجريبي، فالنص أحد نصوص مجموعة قصصية ستخرج للنور بإذن الله قريبا بعنوان حصة خبز وقمت فيها بالتراوح في عنوان النصوص بين العناوين القصيرة والطويلة والتجريب في بعضها
أشكرك أستاذتنا القديرة
تحيتي






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
قديم 30-10-2017, 09:21 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
حارس كامل
عضو أكاديميّة الفينيق
يحمل وسام الأكاديمية للابداع
مصر
إحصائية العضو








آخر مواضيعي


حارس كامل غير متواجد حالياً


افتراضي رد: حديث صامت عن الذي كان معي بالأمس

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد يوسف أبو طماعه مشاهدة المشاركة
بأسلوب رقيق ولغة هادئة
جرفنا النص نحو مشاعر مليئة بالوجع
وكانت الحكاية تدمي القلب وتدمع العين
والحزن كبير كشيخ مسن أكلته السنون
نص جميل حبكة وتشويق ولغة
"حديث صامت" كعنوان برأيي المتواضع يكفي
نفتقدك كثيرا أخي حارس
محبتي
الصديق العزيز خالد يوسف
بالفعل أفتقدكم صديقي
دائما أَجِد الدفء بين كلماتكم المرحبة والمشجعة
لولا هي ازدحام الأوقات ومشقة الحياة
دمت بكل خير صديقي






تموت الأسد في الغابات جوعا
ولحم الضأن تأكله الكلاب
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:38 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط