العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ▂ 📜 ▆ 📜 دار العنقاء 📜 ▆ 📜 ▂ > 🔰 سجلات الايداع>>>

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 12-07-2023, 08:28 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني

الصورة الرمزية المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني

إحصائية العضو







آخر مواضيعي


المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني غير متواجد حالياً


افتراضي (ابتسامة نخلتي ـ نفيسة التريكي / رقم الايداع :ن.ت/ 1 / 2023)






ابسامة نخلتي

ذات شتاء شديد البرودة كان الفتى الجلجامشيّ أبو فرات يقلّب ألبوم الصّور في ليلة ليلاء وقد أصابه أرق مؤرّق بعد يوم مّتعب من العمل، فنال نفسه بعض ألم وهزّه الحنين هزّا لاستحضار أقسى ذكرياته الّتي صدمت قلبه وغيّرت كل مجريات حياته .
مضى في ألبومه بين الوجوه الأليفة الحنونة الودودة في لهفة حنين وأنين الصّامت الصّبور الصّامد، يطوي الورقة تلو الأخرى، فتارة كانت تسّاقط من عينيه دمعتان غزيرتان عزيزتان تمسّان خدّه الأيمن، وأخرى خدّه الأيسر، ولقوّة كبريائه حتّى بينه وبين نفسه كان يمسحهما مسح مكابر في صمت صموت، بل يمسح ذاك الماء الحارق حرقة قلبه بظهر يده اليمنى، ثم ينظر للمرآة فيرى عينين محمرّتين جمرتين يعلوهما جبين مقطّب ويلمح في خطفة هنيهة خدّين محمرّين كاد يدفق منهما دم قان يفضحان نار قلب محزون و طورا يضرب الأرض بقدم يؤرجحها من السّرير على بلاط غرفة النّوم الّتي حملت في كلّ أرجائها أسرار الحب والولادة والحياة بأفراحها وأتراحها، وطورا يضرب الحائط الصّلب بكف مقهورة من لهيب الغدر ثم يتكئ على ظهر السّرير ثم يضرب بقوّة في حسرة ما بعدها حسرة وجهه بيدين معرّقتين كأنّهما جبينه، ثم كان يرفع جبهته ويفكّها من كفّيه فكّا، ثم يجول بنظره في الغرفة التي كرهها بقدر ما أحبّها، ثم يدقّ دقّا راس السّرير براسه لألم ألمّ به غزا شرايينه الصرّاخة في صمتها المتنهّد.
ولكم كان يتضاعف ألمه حين كان يذكر تلك اليد الحنونة كلّما مسّه وخز من الضّر، تلك اليد المباركة الأمينة، الشّافية، العزيزة عليه الرّقيقة، الليّنة، الدّافئة البتول التي كانت ترقيه.
لكن... "تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن" كما قال المتنبي، فقد انكسر الأمل بالألم منذ ذاك اليوم المشؤوم، المدلهمّ، المعتّم، المرعب، الرّهيب الملتهب، النّاري، الرماديّ، ذاك ال- كان يوما من أيّام القنابل والصّواريخ والبراميل المتفجّرة، ذاك ال- كان يوما من أيّام ضياع الضّمائر وتوحّش البشر وخسف الأرض والتّنكيل بالعرض والهبوط المدوّي لجوهر المثل والقيم العظيمة الإنسانيّة وانتشار الرّذيلة في الدّنيا.
منذ ذاك الزّمن الموبوء، القاسي ما أحسّ الجلجامشيّ براحة، و ما أبهرته ولا أسرته مباهج الحياة وألوانها وروائحها ومذاقاتها وملمسها وأصواتها السّاحرة من زقزقات وهديل وهسهسات، لكانّي به قد فقد أحاسيسه وحواسّه، فلم يعد يتذوّق لذيذ شاي ولا قهوة ولا فاح طعم ببهارات الودّ والمحبّة في أنفه ولا زارت شفتيه بسمة سوى لسخرية او استهزاء من الزّمن اللّعوب، فكل حركة أو همسة أو طعم أو رائحة أو ملمس زهرة او شجرة أو قارورة عطر او حتى كوب ماء، و كلّ أناشيد طير او غنّات عنادل كانت مختلفة عمّا كانت عليه من قبل، وكل الوجوه كانت تبدو له كأنّها وجه ذاك الملاك المسافر للأّقاصي.
لقد كان ذاك الفتى منذ ذاك اليوم يعيش في الماضي أكثر ممّا في الحاضر، وأحيانا كانت تختلط الأزمنة في ذاكرته وآنه، فتراه يتوقّف عند وجه هذه أو تلك فيغتم بعمق وتتغيم رؤاه لثانية، ثم يحرّك بقوّة رأسه كانّه يصفع ذاكرة تغريه بالمستحيل، ذاكرة لا تكفّ ولا تجفّ وحلم موهوم بالعودة إلى ما قبل ذاك اليوم القاسي.
كان يحرّك ذكراه عساه يرى شيئا من ملامح ملاكه او بريقا من عينيها أو لفتة من نظرتها أو يراها هي ذاتها، فقد تمرّ به الحسناء بهيّة الطّلعة، بعينين كبيرتين مشرقتين بحبّ سنين تأبّد في مكنونه وتوهّجت به روحه.
قد تطلّ عليه من هنالك، فتشفى قروحه وهزائمه حين يراها ولو طيفا عابرا، كان يستنهض وعيه داخله ثم يهتزّ ويعود للحظته الواقعية متسائلا ومجيبا في صمته :
لا لا .. إنّ تلك الرؤى لمجرّد أوهام لا بدّ من مقاومتها أهي... أهي ؟ . لا ليست ملاكي هذه العابرة، أين هذه أو تلك من ملاكي؟" ليس هذا بياضها الحليبي الطفوليّ ولا ذاك عمق عينيها ولا تلك استدارة محيّاها ولا ذاك ضوء خدّيها " .
ثم.. ، فجأة تصمت الحكايا داخله، رويدا، رويدا، فيحكّم عقله ويعود لواقعه القاسي وتنهّداته المكتومة، فيشبّ في قلبه حريق لمّا تزول ظلال الوهم، وتشفّ رؤاه، ويرى الواقع جليّا، وتنجلي ضبابيّة الأزمـــــــــــنة فيه التي لطالما ظلّت - رغم تسآله- تتلاعب بوعيه المتأرجح بين التّكذيب والتّصديق، أمّا الان فبداخله فوضى مشاعر وغمام رؤى، وتحزان مزلزل يزعزع كيانه زعزعة وأحاسيس تمزّق وجوده ووجدانه يخفيها في داخله ويقاتل دخانها بسجائره الّتي ازدادت رفقتها معه وازداد بها التحاما فالدخان المصّاعد من فيه هو دخان أنفاسه، و لهاث قلبه المحترق المغرورق بالدموع بل دخان بلده المقهور وأمّته والإنسانيّة المهزومة في إنسانيّتها وقيمها المثلى في هذا العصر المتعولم، المتصهين، المتطرّف دينيّا ومذهبيّا وعرقيّا و اجتماعيّا واقتصاديّا وثقافيا .
ما الحلّ في فوضاه الغشيمة وفوضى البلد الّتي قلبت كلّ الأوضاع فيه رأسا على عقب؟ .
ما الحلّ في التّفراق والأشواق وغياب حبيبته، نبض حياته، عيده وعيد أولاده، بسمته الضّحوك وضحكته العالية، ملاك جمال روحه ؟ .
ما الجدوى من الدّنيا بغياب صنو وجوده، شقيقة نعمانه يناعة أقحوانه، قرنفلته، ياسمينته، وروده الطيّبة النّشر نخلته... بل بستانه كلّه بما حوى، ما الجدوى ؟ .
هي وحدها تفهمه من ومضة عين وتحبّه في كلّ الأحايين وتمنحه السّكينة والهدوء في الغضب، في القلق، في الأرق في المحن، في الحيرات، في مشاكل ومشاغل الأيام الثّقال .
هي متمّمة حياته، السّاكنة روحه، جوهر استقراره معلّمته، منبّهته من كلّ سقوط، بئر أسراره العميقة محفظة سريرته، انفراج أساريره، ساعات أنسه.. ، صفاء وجده، ملاذ أهه، غنّات نايه، شدو كمانه في الهوى أناشيده في الكرامة والإباء، كم يحلو له خفقها في نبضه إنّها نصف أناه الّذي تاه بعيدا عن مرآه.
همهمات وهمسات وتمتمات وسكرات حزن بداخله تبوح لخالقه الوحيد العارف بأعماقه وتترجّاه أن يلهمه الصّبر ّصارخة جميعها :"رباااااه.
ثم بعد كل تلك الحالات يعود لواقعه كما هو ويستمع لحديث عقله الكاره للوهم كأنّه يقول له :
ـــ أفق أفق يا رجل الألم .. أيّها الواهم المتصبّر بذكراك ورؤاك وأخيلتك .. إنّ حبيبتك رحلت .
ثمّ يعود سائلا ربّه سؤال مؤمن راض بالقضاء والقدر: ربّاه أرحلت؟ قل لي : أنّها لم ترحل .
ثم ينبّهه عقله من جديد للحقيقة المرّة مدويّا بصوت العاقل الحكيم في راسه، ناطقا بالواقع المرسوم أمامه وفي كلّ حواسه :
"صدّق، صدّق أيّها العاشق بواسق النّخيل، نخلتك ليست بالبيت، ليست في المطبخ تعدّ الطّعام اللّذيذ المتنوّع الشهيّ الّذي تسكنه نفحات روحها الطيّبة فتتفانى فيه وتذوقه وتحرص على اعتدال ملحه أو سكّره لتهبه بأقصى الحبّ لك ولفلذات أكبادها .
صدّق، صّدق يا واجدا مجدّا وعاشقا معشوقا، أحببت الحب الــ تعتّق بشرايينك عبر السّنين وسكن في خلاياك.
صدّق يا وفيّا لنخلتك الشّاهقة أنّها ليست بغرفة النّوم ترتّبها لسهرات الوداد الأليفة الفرحة، المرحة والحكايا اللّذيذة النّاعمة، الجميلة، ليست في البهو النّظيف المبخّر، أصابعها لا تتحرّك في مسبحتها يوم الجمعة او في سائر الأّيّام، لن تراها تطوي سجّادتها في أوقات الصّلاة، لن تشاهدها تقلّب مصحفها لتقرأ بقراءاتها السّبع ما تيسّر من الكتاب العزيز ملوّنة حروفها ومطوّعة صوتها الوقور العميق السّاجد لمشاعرها الصّادقة النّبيلة في خشوع وإجلال لكلام الله الذي تعشقه، وتقرأ الكثير منه خاصة في العشر الأواخر من رمضان، وهي مأخوذة تماما بمعانيه وأساليبه المعجزة وقصصه البديع البليغ .
كم كانت متمتّعة ومندهشة بجلال وجمال المعنى والتّشخيص والتّصوير، وكم كانت منتشية بهذا التحليق المقدّس والأسلوب الرّائع الرّباني ! و قد كانت ترتّل في همس قوله تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} صدق الله العظيم [سبأ 10 - 11] .
لقد كانت حبيبة الجلجامشيّ تعشق هذه الآيات الكريمة وهو أيضا كان يعشقها وأصبح يعشقها أكثر بعد ذاك اليوم القاصف ببروقه ورعوده وأعاصيره، فكان يحاول ان يهدّئ من روعه قليلا بترديدها وترتيلها.
هكذا ظلّ هذا الزّوج الوفيّ الباحث عن تفاصيل حبيبته الشابّة الأربعينية الّتي غابت عن حياته إلى الابد، فكنت تراه منفردا، كثير العزلة يغيب عن نفسه مرّة ويعود لها مرّات في صراع مستمرّ مع هزّات ومتناقضات وتحوّلات رهيبة في بيته وبلده.
ظلّ يتردّد على نفسه القلقة للحديث معها عاجزا عن فهم ما حصل، كئيبا، منعزلا جلّ الوقت مع ذكرياته وآهاته وقد كان يستانس أحيانا بصديقه وفيّ أبو صادق ويبوح له ببعض همّه قائلا :"
ـــ لن أنسى صوتها وهي تشرح لي معنى أوّبي بشغف شديد وتؤكد لي انّ تلك الواو هي واو المعيّة، فالطّير كانت مع داوود -عليه السلام- تسبح وتحمد وتمجّد صنع الخالق العظيم . "
يخفت صوته ثم ينقطع، وتتلوّن أّساريره بين الحمرة والّصفرة شفّافة من مسامّ بشرته، ويهزّ عينيه إلى السّماء ثم يغلقهما نصف إغلاق واضعا يديه متشابكتين وراء رأسه، ماسكا بقوة ذكرياته حتى لا تفيض كقهوة مرّة على طاولة الحوار و هو يحدّث صديقه، ثم بعد الاسترحام والاستغفار والاستذكار كان يستانف الدّعاء بصوت جهوريّ، وكان أبو صادق واجما منصتا باهتمام وقد بدت على ملامحه أحزان نافذة لداخله وهو يرى صديقه متضرّعا لخالقه، فاتحا يديه للسّماء، طالبا الرّحمة ممّا به من داء في تهدّج "ربّاه أغثني، أنجدني، ارحمني ممّا بي وأنت أرحم الرّاحمين وحدك القادر على إطفاء لوعاتي .
ربّاه، يتيمان صغيران وطفلة رضيعة في زمن وحشيّ يحاصر فيه الحليب والدّواء والغذاء، وزوجة صفيّة عزيزة وفيّة رحلت، وبلد ضائع، ربّاه أنقذ بلدي من نسف الأرض وهتك العرض " .
هكذا ظلّ الفتى المكلوم على تلك الحال من الحرقة، فتارة يدعو الله وأخرى يحسّ كأّنّه ينصت لصوت في داخله يناديه و يردّ على مناجاته مستجيبا له قائلا :"الصّبر الصّبر ... الإيمان الإيمان لا تياس، لا تقنط أيّها المجذوب بالحزن، فإنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون ".
كان ذاك المريد الشديد الايمان يستمع لذاك النّداء المبعوث لقلبه من عل، فيهدأ قليلا ويبسمل ويحوقل ويقول :"صدق الله العظيم، نعم سأصبر" ويسمع صوت صمته في خشوع وقداسة ويستحضر رموز الصّبر من الأنبياء والصّالحين والمناضلين والعلماء والشهداء الّذين اتّخذهم أسوة حسنة وقدوة له، ثم لا يمر وقت طويل حتى يعود لذكريات نخلتهّ في حواره الدّاخلي، فتنفجر بين ضلوعه جمل وأحداث لن تنسى
كانت تقلّب كتب السّير والانبياء... كانت لا تردّ لي طلبا ... كانت تأخذ بيدي في المصاعب... وكانت وكانت وكانت .... أه رباه كم سأذكر وكم سأنسى .. يا أنت انا أينك أينك ؟ ما أقربك ! ما أّبعدك! .. أه من ذاك الجمال الودود السّاحر في عينيك ساحرتي! .. يا انشودتي، انشودة السّحر والسّمر والمطر يا بيان الشّعر على مساحة بلادي، دناي والقمر .. أتذكرين انشودة المطر قصيدة بدر شاكر السّيّاب، ذات درب في الزّوراء حين كنّا في الغروب نشرب الزّلال من السماء فاتحين فمينا نضحك فرحا بالخصوبة والماء؟ .. ابتسمنا في نفس الوقت فنظرت لك فجأة فأشرقت عيناك وكنت في حسنك المدلّل الخجول مرتخية الجفنين يا امراتي وحبّي الجليل بقلبي العليل عيناك كانتا أسمارا وأسحارا وأمطارا لامعة، فغنيتك يا حبيبتي ونحن في زورائنا اليانعة :
"عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حين تَبسمانِ تورقُ الكروم
وترقص الأضواء .. ، كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهناً ساعة السَّحَرْ
كأنّما تنبض في غوريهما، النّجومْ ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء
دفء الشّتاء فيه وارتعاشة الخريفْ
والموت، والميلاد، والظلام، والضياءْ
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاءْ
ونشوةٌ وحشيّةٌ تعانق السماءْ"
أنشودتي، يا انشودة العراق، يا مطر السخاء والوفاء والإباء والصّفاء والإيمان قومي قوّمي لساني اصحي صحّحي نحوي وصرفي معلّمتي .. ربّاه أنّى لي أن اصدّق أنّك رحلت. سأجنّ... "
تتداخل الضمائر في سمعه وصمته الصّاخب الخفيّ... أنا انت هي هم نحن.... ثم يستعيد رشده وحديثه مع نفسه المكلومة وكأنّ صوتا يصبّره في أمر:"
صدّق يا فتى، أيّها ال-عجنتك الأّيّام بعدها بماء مالح ساخن بدقيق الذّكرى وجنون الخيال وحضور الطّيف وفقد الأحبّة ورعب الخوف في حروب وويلات وانكسارات وانتظارات وصمت الصّقيع وحرارة الدّخان ...
صدّق أيّها الواهم، الان باسقتك لا تسقي الحمامة، لا ترش الحديقة مساء بعد القرّ، لا تطوي ملابسك وتعطّرها .. لا تنفض الأسرّة والزّرابي، لا تغسل غبار الزّمن بساعديها وعينيها، لا تستقبلك من العمل ببسمة ساحرة
تقول لك من خلالها صامتة قنوعة محبّة : "أعانك الله وابقاك لنا، أحبّك رفيق دربي، قرّة عيني، نبض قلبي زينة حياتي، بهجة ليلي ونهاري، حافظ أسراري، ماسح دمعاتي، عاشق بسماتي، جليس ضحكاتي، واهبي الحب، مخفّف آهاتي،، نجومي، أقماري، شمسي السّاطعة بنور الشّوق في قلبي، سمير أسماري، ساعدي في كلّ درب " .. ربّاه ربّاه اصواتها اصواتها تنتابني بكل حيواتها.. في لينها، في رفقها في رقّتها، في هدوء حكمتها، في نبرة حزمها، عزمها، صبرها إرادتها، في غفوتها، صحوتها في حبّها، دلالها، توهّجها، في غضبها، حزنها، شجنها، بكائها، في ضحكها، مزحها، فرحها،في نداءاتها لي ولأبنائي،أصواتها حتى في صمتها لا تبرح سمعي .. ربــــ .... باه ... ربّاه... " .
هكذا كان الزّوج الوفيّ ينادي مولاه حتى يكاد يغمى عليه ثم يستانف أمره لنفسه ناهرا إيّاها، ناهيها عن الغفلة، حاثّا عقله على تصديق الواقع المحتوم في قلق وحيرة وتعجّب ودهشة من حدث عظيم ونار تندلع بين الحين والحين في خفايا خباياه خلاياه دون تباعد في صدره المنتفض وهو يصرخ على سريره بجنون مر :
يا تجاعيد الزّمان .. يا طيّات أحزاني يا غضون اللؤم والألم .. يا تهيام اشجاني .
صدّق أيها المسكون بالمستحيل، بالوهم، بالذّكرى أنّ فجيعة الموت قد أصابتك في صميم قلبك وأنّ المنون اختطفتها منك، "هادم اللّذات" زارك وكان الحتم سريعا سريعا لم يمهلها.
صدق شاعر الزهد أبوالعتاهية، إنّ الموت لهادم كل لذّات الحياة حقا.
ذاك هو الحتم قد حضر باكرا جدّا واختارها الله عروسا تستحم بالرّافدين.
انظر، انظر ألا ترى في كل لحظة حبيبتك تصّاعد، تصّاعد في صورة حمامة اليفة مغنّية لتحطّ على نخلتين جارتين ملتحمتين، نخلتها الفرعاء ونخلتك الخضراء، نخلتان تتراقصان في نسائم الفصول بالزّوراء رقصة المحبّة والوداد والوفاء للأصول في كل الفصول .
أه نخيلتي، يا شغاف القلب المتربّعة وحدك على عرش الوجد في صميمي.. في متاهات الحياة كنّا نصارع معا الأمواج العاتيات، ويْلاه، ويْلاه ... قلْها ساخطا او صاخبا او حائرا -ويْلاه -أو لا تقلها سيّان قبولك أو رفضك للأقدار،فلا مردّ لحقيقة قاسية نسيتها ردحا من الزّمن وحين باغتتك كانت طعّانة في "دنيا غدّارة غرّارة أكّالة عوّالة " نعم هي الدّنيا كذلك - والله -كما نعتها أّبو الحسن والحسين، -كرم الله وجهه- دنيا الغياب والفناء .
صدق - وانت المؤمن الرّاضي بقدرك حتى ولو كان قاسيا-أنّ نخلتك السّامية الآن قريرة العين هناك في ملكوت الله قرب عرش عظيم.
ايه نعم، ويا طول تنهيدك حبيب النّخلة .. تعوّد على آهاتك وانكساراتك واخفق في نبضك بقادم انتصاراتك فلا بدّ من يقظة،لا بدّ من أمل منير في اخر الدّرب،لا تنس أكبادك يا فتى أنت الان الاب و الأمّ لأيتامك..سوف تقضي بقيّة حياتك بدون نخيلتك، لكنّها فيك وفي أطفالك، في طهر الأرض الفوّاحة الّتي تعشقها ستتنفّسها في الصّباحات، في النّهارات، في المساءات، في اللّيالي، في الأسحار، في الأفجار وكذا مدى حياتك في كل دورات الزماّن.
ستسمع همس صوتها الحنون في الذّكر الحكيم لتصبر صبرا جميلا مع الذّكرى، إنّها بعيدة عنك مسافة قريبة منك في صدرك تسكن أنفاسك، سكناها القلب، إنّها أفراح كثيرة وأحزان كثيرة..إنها حبّك الاوّل والأخير، مشاعرك الأقوى والأصفى والأنبل والأكثر توهّجا وفرحا، حبّك المختلف الأخّاذ الرّذاذ الغيث الّذي قدّر لك واخترت.
الأن أصبحت وحدك يافتى تواجه الحياة، فلا تتركها تهزمك وقاوم شراستها، ألست الصّامد الصّبور القويّ؟أراك تتقوقع في تحزانك يا فتى النّكبات .
قل لماذا انتبذت مكانا قصيّا بعيدا عن ولديك ؟ أوليس لهروبك من أسئلتهما وحزنهما الدّاكن وحسرتك على بلد يحترق وشعب يغرق في الموت ظلم ظلما بأّيادي المجرمين، وانت عاجز ان تقدّم حلّا او فرحا حتّى لطفليك؟
ناديت، ناديت..تضرعت، تضرعت..دعوت، دعوت..ولكن كان استنشاقك للأّدخنة السّامة أكبر من دخانك..فتالّمت، تالّمت..حزنت، حزنت..تحسّرت تحسّرت، وما من مجيب ولا سامع ولا معين.
واحسرتاه، ناديت وطناّ متفجعا.." يا بلاد الهلال الخصيب، وطني خسرتك، أين مضيت ؟في ايّ غيهب اختفيت ؟عبثت بك أيادي ساسة العالم الدّموي الدّولية والإقليمية و المحليّة بين الملل والنّحل، والخراب ينتشر وينتشر في هذه الفوضى الفاحشة، لم يبق لي من سند في بلدي وانا في لوعاتي سوى باسلة حياتي أمّي ثم امّي ثم امّي
ف"كل النّاس يا امّي مياه ووحدك زمزم يروي فؤادي".
قم من غيبوبة أحزانك، ها قد جاءتك امّك، باسلة الصّفيّة الوفيّة الودودة الصّبورة التي ظلّت معك في كلّ محنك، بما تيسّر لسد الرّمق حاملة أخبارا عن أولادك، فلا تكسر خاطرها، باسلة الباسلة خاتلت القصف وهرولت في الطّريق إليك لتمنحك قليلا من ماء وفتات خبر وتميرات فلن تردّ ها خائبة.
أمّك التي قاسمتك وتقاسمك همّك وغمّك، الحمّالة الأوزار الّتي كانت معك في حلّك وترحالك وليلك ونهارك وحدها الصّدوقة المساندة لك سرّا وجهرا، وهي فقط من كنت تقبل أن تراها وتأتيك يوميا خلسة بطعام فقير، ذاك النّزر القليل ممّا أبقته الحصارات والحروب من قوت زهيد لا يقيم أودا ولا يشبع، كلّ ما ينبض الحياة حورب ارضا وبحرا وجوا والقوت احرق وحوصر الشعب الأعزل المظلوم و جوّعه الجشعون، الأنذال، السّفهاء، المجرمون، شعب مسالم، متحضر، باني الحضارات أصابه لهيب حضارة الدّمار الشّامل و قاتلته القوى الحاسدة الحاقدة الدّينصورية الفتّاكة، المدجّجة بالرّذيلة لابتلاع ما له تحت الأرض وحرق ما فوقها وانهالت عليه الأمم قصفا ورميا بالنّار فتوزّع دمه في كل الأرجاء في" مشهد مختلف.
"دم على المسلّة - الأولى على الملحمة الأولى - على القباب..دم على المتن . ، على هوامش الكتاب..دم على الثياب .. دم على التراب .. "فاه وآه من حمرة سائلة وهي سائلة حتّام هذا العذاب؟.
وجد أب الايتام و الشهداء نفسه يردّد في حرقة تلك الأسطر للشاعر العراقيّ حميد سعيد وكانه يهذي في كابوس، فلم تسكن أوجاعه ولم يستسلم وعيه للأكاذيب.
كان يرى الحقائق أقوى ممّا تخفيه وسائل الإعلام المأجورة الداخلية والخارجية، فأدرك أن الخراب قادم من وراء البحار وأنّ اللّعبة جهنميّة يقودها كبار في الحقارة والصّغار، وأنّ شعبه الغنيّ بخيراته يعيش قلّة ذات اليد في بلد من أغنى البلاد في العالم نفطيّا، لكن خرّبت الفوضى الخّنّاقة مزارعه وأحرقت نخيله، وهدّمت مصانعه ودمّرت مقدّراته مكائد صاغها عراة من الإنسانيّة ليس في مشاعرهم الضّوء، ولا في قلوبهم الرّحمة، طغاة خدّرت أحاسيسهم المادّة وقتلت إنسانيّتهم القوّة ومرض الانانيّة والجشع والنّفاق والكذب وعمى القلوب و العقول المشحونة بالكبر والاستراتيجيات الهدّامة، لا همّ لهم سوى المال والسّلاح والنّفوذ وهدر حقوق الشّعوب واغتصاب خيراتها.
تبّا لطغاة العالم و لوبيّات الإفك الّذين يتحكّمون بالأزرار النّووية وأسلحة الفتك، يا لهم من مصاّصي دماء فالحرب ديدنها الدّمار والكراهيّة والغبن والقهر، تقتل، تدمّر تهجّر، تفرّق، تمزّق كلّ جميل، تشتّت كلّ الصّلات ... الحرب سواد مكروه وليل عتيم مدحور وفجور أدهم.
الحرب عشّاقها يعيشون بقلوب منسوفة وعقول جشعة و مدبّروها منحرفون ومنفّذوها اليّون.
الحرب داء سقوط المثل في الرّوح الإنسانية، لا يسود بعدها سوى الانهيار والهبوط المدوّي دويّ هدير الرّعد المعبّر عن غضب الإنسان صاحب الضّمير الحرّ والطبيعة والله معا.
الحرب ذلّ، خلاعة، رياء، زهوّ في كلّ مظاهر الحياة ومعانيها.
الحرب لا ينجو فيها الأبرياء مهما هربوا من مصائبها،فمنذ بدأ الإنسان يفتك بأخيه الإنسان وهي مكروهة، وقد شهد شاهد من أهلها وصانعيها سرّا وعلانيّة عبر العالم بأهوالها وخرابها، فالحرب قوة الرّذيلة والطّغيان كما يقول مدبّروها من الطغاة " حقنا يكمن في القوة، وكلمة "الحق" فكرة مجرّدة قائمة على غير أساس، فهي كلمة لا تدلّ على أكثر من اعطني ما أريد لتمكنني من أن أبرهن لك بهذا على أني أقوى منك ... ويجب أن يكون شعارنا كل "وسائل العنف والخديعة"وإنّ هذا لعمري لتفكير مقرف حقّا وعقيم ممّا ورد في "بروتوكولات حكماء صهيون "ّو اراء مكروهة لدى كل البشر الأسوياء، وإنّه لعين الإفك والحقد والفتك بالناس وتحريض على نشر الكراهية وعدم الاعتراف بوجود الأخر، ولذا كان أبو فرات يكفر كفرا بمن وراء الحروب من الجبناء السرّيين ويشمئزّ من رؤاهم السّرطانية، التفافية، الأخطبوطيّة اشمئزازه من كلّ قذر .
فلكم كان الجلجامشيّ يكره تلك الشّمطاء الرّقطاء، الشّرسة، المكشّرة عن أنياب الرّعب !بسببها خسر نصف أهله .
الحرب تلك المنبوذة المذمومة منذ القدم، ففي معلّقة زهير بن أبي سلمى مايؤكّد شؤم ولؤم الحرب وبغيها..
"وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ ...
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته، ومن تخطئ يعمّر فيهرم" .
كلّ ذاك الجرم الموصوف آنفا كان يراه أبو فرات في الحرب، فينبذها ويكرهها كرها شديدا وهي المنكّلة تنكيلا بشعبه، وسبب كلّ دمار حياته وبلده، فكيف لا يمقتها مقتا، ولايبغضها بغضا قويّا، فكلّما كان يعود لأناه المعذّبة مناديا حبيبته الشّهيدة كان يستحضر صنوف وصروف الدّهر من شرور و بشاعة من مخلّفات الحروب والحتوف، فيتذّكر شهيدته بحرقة و كانه يضمّها عن بعد بين احضانه ويهمس في أذنها همس عاشق..
" يا أنت أنا وكلّ أمثالك وأمثالنا، كم كان الوزر ثقيلا على وجودنا كلّه..أتذكّر لمّا أردت الهروب من نار الأسئلة وهجرت بيتي كم تساءلت في نفسي وقتها لماذا غبت ؟
كنت أحدّث نفسي في ما يشبه الخبل:
ــ تكلّم، بح، اصرخ، ابك، غنّ أشجانك، ارقص رقصة النّوى، اردح ردحك العراقيّ، صلّ، سبّح، رتّل قرآنك، أخرج منك مرّ الجوى وقهر النّوى. فصفير دخان الحروب في انفاس دخانك .
قل إنّك صدّقت، قل إنّك رضيت بالقضاء والقدر، بح لقلبك النّازف المجروح، ضمّد بصبرك القروح.
حبيب النخلة -لا وقت للوهم، لليأس، للقنوط، صغارك صغارك، صغارك أليسوا أّمانة بعنقك يا فتى الشّدائد؟
ألم توصك النّخلة بهم خيرا وهي على سرير مشفى الموت؟..ثمّ هدأ أبو فرات يتأمّل حاضره محاولا أن يغمض عينيه قليلا عن ماضيه المكبّل له للإقبال على الحياة من جديد بجديدها المرّ القاسي أو بفرحها الخفيّ في طيّات مفاجآتها، فربّت وحده على كتفيه أن أفق يا جلجامشيّ ليس لك من اختيار سوى إجلاء خرابك عن ديارك وإطفاء نيرانك بالصّمت والصّبر والإيمان وكتم دموعك عن أيتامك .
هكذا كان أبو فرات يتردّد على الحياة، يزورها بين الفينة والأخرى وهو ينظر لأولاده وطفلته الرّضيعة دجلة فتقول له الحياة :
ـــ عد، عد إليّ، الم توصك النّخلة بي خيرا ؟ألم تقل ك أنّي المستمرة رغم ما بي من غدر ؟
أنت مجبر أن تعود إليّ شئت أم أبيت ذاك قدرك"

وعلى هذه الحال من الصّراعات المتلاحقة المتراكمة المتفجّرة دون مواقيت معينة، كان ذاك الفتى الصبور مضطرّا أن ينحت من أوجاعه صخرة سيزيف ومن تراكم الأحزان فينيق صمود ومن زلازله أيّوب صبر أسوة بمن سبقوه من المعذّبين، ولكنّ الذّاكرة كانت ملحاحة بتفاصيلها الدّقيقة جدّا كأنّها هي أيضا قاتلة كالحرب ولا تسعفه للنّسيانّ .
كل التّفاصيل الدّقيقة وأصوات البيت وضجيج السّوق.. ، حتّى بعض الغضب او بعض الهدوء..كل شيء كان حمّالا للذّكرى حتّى أنفاسه وتنهيداته وأهاته الصّامتة الأسيرة الّتي كان يختنق بها صدره ويخفيها عن الجميع والّتي كانت تنفضح وتفضحه في لهيب سجائره المتلاحقة، المشتعلة سيجارة من سيجارة والّتي كان يعتبرها خله الودود الّذي يقاسمه متاعبه بلا مقابل حتى أنّه كان يهزأ من كلّ من ينبّهه من ويلات التدخين، فسمّى سيجارته رفيقة الضّيق الوفيّة الصّدوقة وسمّي كأس شايه المعين على التّنهيد.
و ايّا كان نصح الأطبّاء له حول خطر ذاك الفتّاك، فقد كان يعاند ويردّ عليهم :" هذا ليس بدخان نفّاث مقارنة بما استوطن صدورنا من منضّب ومخصّب وفسفور أبيض قتل ابنائي محمد وايّوب وأساور وزوجتي وأبي وهدر دماء الأبرياء العزّل من شعبي..
أساور بنيّتي حرقة تشتعل في قلبي، فلمّا أسمع بكاء طفل بلا حليب ولا دواء ولا امّ أذكرها وأذكر أطفال شعبي وكل الشّعوب الّتي حوصرت وحوربت قهرا وطغيانا.
أساوري الحبيبة اضطررت أن أدعها عند خالتها لتهتمّ بها، فانا لا أعرف شؤون الأمومة وبقيت أتفقّدها ولكنّي كنت أبا مقهور المشاعر، فابنتي لم تكن بحضني، عجزت عن الاهتمام بشؤونها وشؤون البيت والاعتناء بأطفالي الصّغار ومسؤوليات العمل لتحصيل الرّزق، فكلّ هذه الأعباء كأب على كتفيه أيتام وفي قلبه جليل تحزان جعلتني أضطرّ لفراقها و لم أشبع بأساوري طفلتي حتى بلغني رحيلها وأنا في العمل .
كنت أبا مقّطّعا بين أعبائه الصّعبة لتدبير الحليب والقوت اليوميّ والغذاء الشّحيح الموبوء بسموم ما نفثته على بلدي أسلحة العالم المتحضّر العظيم بجرائمه وقتله للأطفال بالعبثيّة الخليعة المتهوّرة والجبروت... كان وقتا رهيبا فيه صعوبة العيش وشظفه، لقد اصبح الرّزق فيه مطلبا كالمستحيل .
أف منك يا أيّام النّار أفّ ...
أيّوب ابني الطّفل العبقريّ، الجميل، المحبوب، الذكيّ، الوديع الّذي كان بسمة من بسماتي القليلة أيّام الجرح الأعظم كيف أصابتك أسلحة الدّمار الشامل كذبة الأمم والعدم، كذبة العنجهية والطّغاة ؟..بني كيف أدركك الموت و أنت في التّاسعة ربيعا ؟.
سيجارتي، سيجارتي، إليّ بها، أين، أين انت لتحرقي احتراقي؟.
سيجارتي يا عشيرة أحزاني لن أرميك إلّا لمّا أرى أملا ما نقيّا يكنس ما قبله من آلام جعلتني مدمن دخان، سيجارتي نفاثة صدري ودمعي الملوّث بتلويثات الحروب ورماد أيّامي ورفيقة الامي في الرمضاء .
"نبكي على من هوى
في ليلنا فرقد
ندري بانّ الهوى
يبقى له مرقد
عمر الأسى ما طوى"
جرحا ولا أرقد"
كان أب الشّهداء يردّد في قهر ومرارة تلك الأبيات للشّاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد والخسارات لا تبرح نبضه وأنفاسه، والأيّام كانت خرساء لاتسمعه وتمرّ تطوي بعضها بعضا، في طياتها الملل والكلل والقلق والأرق والغرق وذاكرة عنيدة سعيدة بعبثيّتها وكان اسيرا لها يناديها لائما:"
ها يا أ يّتها الأيّام الخؤون أتدرين انّ محمّدي أو مدمدي -كما نسمّيه باسم الدلّال -كان اوّل الشّهداء من أولادي وكاد يكون توأما هو وايّوب و بينهما ما يربو على السّنة فقط، فقد رقدا عاجزين عن الحركة بنفس المستشفى لمرض غامض المّ بهما من غبار القنابل الذّكية، الغبيّة بأنواعها العجيبة الفسفورية والعنقودية والمسيلة للدموع وغيرها :أطنان من ا لغبار استنشقها الصّغار، فكيف لا تشوّههم وتؤثر بمناعتهم ؟.
أيوب ومدمد كانا ينظران لبعضما البعض في سريرين متقابلين وعيونهما شاردة، لامعة، ذكيّة، معبّرة عن وجع وصبر لاحتمال الألم بمشفى الفقر والحصار والحرب والتّعاسة والموت المؤكّد لآلاف الأطفال .
لكنّ يوم مدمدي كان أسبق من يوم أخيه أيوب، فلمّا ذهبت إلى ذاك المستشفى اللّعين ورأيته مخرّبا بالإبر والخيوط لم أر مدمدي الّذي أعرفه والّذي كان يجري ورائي ليشدّ دشداتي حتّى لا اخرج من البيت .
ومرّ وقت قليل حتّى سقيت علقم الخبر وقدّم لي أحد ممرّضي مشفى الشقاء مدمدي جثّة هامدة، طائرا غريبا طار بلا أجنحة.
فنزعت قميصي ولففته فيه ورحت على عجل للبيت، فاعترضتني أمّه نخلتي فاتحة ذراعيها، خائفة، مرعوبة، محمّرة العينين، شاخصة، في دهشتها سؤال صعب :أرحل مدمدنا؟ فقلت لها حازما :"فداك غاليتي، هذا مدمدنا " فانهمرت دموعها، وأخذه اشقائي بسرعة من يديها ثمّ غسّلوه وعطّروه ومضى ملاكا للتراب حيث نام نومة بلا عودة، لكن ظل قلبي وقلب أمّه الثّكلى نابضين به ما حيينا
فقد كان اوّل عصافيرنا للجنان " .
ثم سكت الجلجامشي كأنّه فقد الكلام، وساد صمت رهيب، وادلهمت السماء، وهاجت الأنواء. وأرعدت وأبرقت الأجواء. وهطلت أمطار غزيرة رأها كما كان يراها سوداء أيّام الحرب الهوجاء، فكلّ شيء كان يذكّره بما فات :الشر بالشر والخير الخير .
أحداث جسام بعثرت السّكون والهدوء وحوّلتهما صخبا وضجيجا وصراخا تبثّه الأسلحة بكل اصنافها والّتي كانت تأتي على الأخضر واليابس.
يالها من سموم الجشع والابتزاز والسّطو والغطرسة ووقد رأى خلالها كلّ ما يحمله الإنسان من شرّ لتدمير أخيه الإنسان والطبيعة والوجود تحت حصارات وحروب واحتلال ثلاثينيّ من أمكر وأشنع ما رأت البشريّة عبر العصور، تحت يفطات حقوق الإنسان أو باسم لعبة تلاك
على السنة الجبّارين اسمها دي دي مق.. را... طية مطيّة السّرّاق لخيرات الشّعوب.
تلك لعبة قذرة غصّت بها حلوق الشعوب وحياواتها، كانت تقودها أمريكا سيّدة الأرض والسّماء والبحار بقوّة القوّة وسطوة المال والسّلاح والنّفوذ الشرّاني البائس الفاجر، كانّها الوحش "همبابا" في ملحمة جلجامش الّذي أغلق الغابة على كل العابرين ومنعهم ان يستطلّوا تحت أشجارها او يستفيدوا من خيراتها.
إنّ أمريكا وامثالها يمنعون الشّعوب من حقوقهم لاستغلال خيراتهم بتوحّش منقطع النظير .
ولكن رغم ما كان من حصارات و صراعات و حروب خارجية وفتن داخليّة قابليّة -هابليّة مزّقت البلد إربا -إربا
فقد ثبت ذاك اليوم ثبوتا في روزنامة حياته ولعله من أحزن الأيّام أو الأحزن على الإطلاق حيث عمّت الفوضى كوباء رهيب، وما كان لها أن تكون خلاّقة أبدا إلاّ في قواميس الطّغاة واستراتيجياتهم الهدّامة للحياة القاتلة الأبرياء، النّاسفة للبشر والشجر والبشر .
يقول أبو فرات، "لقد رأيت بأمّ عيني في مستشفى الأطفال أطفالا كالأشباح وجوههم مصفرة لا يقوون على الحركة و بكاؤهم كان شديد الخفوت.
رأيت أمّا علا عويلها تلطم على خدّيها وتقول، "ابني ابني اه يا ويلي، تلاسيميا يا عيني، تلاسيما، راح يروح الولد مني راح يروح، ماكو أمل، ما فيه ولا قطرة دم، ما فيه دواء، ما فيه حليب . "


هناك كان الأطفال أشباحا من فرط النّحافة، وكانوا كثيرين جدا متراصّين على أسرّة بالية في غرفة كاد ينسحب منها الاوكسيجان، كانوا يبكون بكاء مرّا، وقد نزل من عيونهم فتات بلّور مع الدموع.
وأطفال أخرون كانوا يولدون مشوّهين بلا أياد او أرجل أو بيد واحدة، ملتصقة بالرأس ,او برؤوس كبيرة وأجسام لا تكاد ترى.
رأيت رضّعا في مستشفى الأطفال بشفاه مثقوبة ثقوبا صغيرة وامّهات نحيلات جدّا مع أطفال يصيحون بوجع عظيم لنقص الدّواء وانعدام الحليب وفقد حتّى المخدّر والضّمادات والقطن والمعقّمات والمضادّات الحيويّة لإنزال الحمّى الحارقة وتطهير الجروح المتعفّنة، بل كان الكهرّباء منقطعا في أغلب الأحيان والمستشفيات تشغّل المولدات الّتي لم تكن تفي بالحاجة ابدا لإّنجاز العمليّات الجراحيّة العاجلة، فكم من عمليات أنجزت بلا تخدير.
لقد ضرب الأعداء مصنع الحليب ومصانع الأدوية في بغداد، وقالوا زورا وبهتانا إنّها هي أيضا تحتوي
على أسلحة الدّمار الشّامل، وتجندت كل وسائل الإعلام في العالم الغربيّ خاصة للحديث عن امتلاك العراق لذاك النّوع من الأسلحة وقد روّجت الصّحافة المكتوبة والمسموعة والمرئيّة الخدّاعة، الزّائفة لهذه الأكذوبة وأباطرتها المجرمون كانوا يعترفون هم انفسهم بهذا في "بروتوكولات حكماء صهيون" قائلين "ان الصحافة الّتي في أياّدي الحكومة القائمة هي القوّة العظيمة التي بها نحصل على توجيه النّاس، فالصحافة تبين المطالب الحيوية للجمهور، وتعلن شكاوي الشّاكين، وتولد الضّجر أحياناً بين الغوغاء، وانّ تحقيق حريّة الكلام قد ولد في الصّحافة، غير أن الحكومات لم تعرف كيف تستعمل هذه القوة بالطّريقة الصّحيحة، فسقطت في أيدينا، ومن خلال الصّحافة احرزنا نفوذاً، وبقينا نحن وراء السّتار، وبفضل الصّحافة كدّسنا الذّهب" هذا عينه سرّ القتامة والعنجهيّة المنبعثة من الدّواميس السّريّة الغارقة في ظلاميّة الجريمة المنظّمة والموجهة كلّ سهامها للشّعوب، فيالبشاعة هذه النفوس المريضة! ويالهول ما فعلت وما رايت !..يالهول ما رايت !.
رأّيت عائلات بأسرها تمحى وعشت أوقاتا صعبة جدّا تحت احتلال شرس، لعين ـمجرم سفاح، ظلوم، متوحّش.
رأيت أبا يهرب ببعض أولاده و بنيّة من بناته تردم تحت القصف الهدّار المبعثر ناره في السّماء بأصوات الرّعب وغربان الفجيعة، كان الأب الفزع يجري بأطفاله الأخرين ويلتفت إليها بعين دامعة وقلب دام كاد يتوقف نبضه وقد تسابقت دقاته القويّة، فقد كان عليه أن يختار أ ينقذ الثّلاثة الباقين أم يعود لها ويموت معها ويموت بقية أبنائه . فأبقاها لعمرها المغبرّ، الأدهم، وتركها ومصيرها للحتف المؤكد، وهرب ببقيّة الأبناء.
هذا ما فعلته الحرب الثلاثينية على العراق بالأطفال والاباء والامّهات .
أّمّا، أنا فقد رأيت أحد أبنائي أيّوبي الطّفل البريء يهتزّ رعبا من القصف الرّامي بشظاياه السّماء والأرض.
لقد أحرقت الغابات والواحات والأزهار و الفراشات والعصافير وأرعب الأبرياء رعبا ما بعده رعب وقتلوا قتلا لا مثيل له في القتل.
من أجل ماذا كل هذا ؟..من أجل ماذا ؟..أمن اجل النفط ؟!..أمن أجل تجارب أسلحتكم يا طغاة العالم برؤوس الضعفاء ؟امن اجل ألا يكون العراق قوّة اقتصادية وعلمية..أمن أجل المليار الذهبيّ البشريّ والمنطقة اللاّمحدودة الّتي تتحكّم فيها الدّولة المصغّرة العالميّة تحلمون أنّها ستهيمن على كل الدنيا بالمال والسّلاح والإعلام الكاذب الخليع، الأحادي الرؤى، المصنوع جلّه بشراء ذمم الخونة واستخدامهم بيادق للطّغاة ليساهموا في تدمير بلدانهم ؟.
من أنتم يا قاهري البشر وناسفي الجمال، نصّبتم أنفسكم أربابا تقرّرون ما تشاؤون لتتّخذوا قرارات الحياة والموت وتقتلون من لا ترغبون بهم ؟.
أفف من هذا الكبر التجبّر التّكبر الرّياء الطغيان أففف .
ايّها الطاغية المستهتر بقانون التاريخ ستدور عليك الدوائر مهما كبرت وتكبّرت كما قال أبو القاسم التونسي شاعر" إرادة الحياة في قصيدته "إلى الطاغية "
"لك الويل يا صرح المظالم من غد
إذا نهض المستضعفون وصمّموا
إذا حطّم المستعبدون قيودهم
وصبّوا حميم السّخط ايّان تعلم
أغرّك انّ الشّعب مغض على قذى
وانّ الفضاء الرّحب وسنان، مظلم
هو الحق يغفى .. ثم ينهض ساخطا
فيهدم ما شاد الظلام ويحطم"
أيّها، الجبان لك الويلات، انت وكلّ الطغاة، ارفضكم، أرفض ان يقتلعني أحد من جذوري رقضا قطعيّا، فارحلوا وخذوا شياطينكم من المرتزقة معكم وانصرفوا، فلن يدومنّ باطش مهما طغى واستكبر .
هذا صوت الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش، يقول لكم كلّكم :
"أيّها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا اسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
منكم السّيف، ومنّا دمنا
منكم الفولاذ والنار، ومنّا لحمنا
أّيّها العابرون بين الكلمات العابرة
كالغبار المرّ مرّوا أينما شئتم
لا تمرّوا بيننا كالحشرات الطّائرة
فلنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأوّل
ولّنا الدّنيا والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
... واخرجوا من ذكريات الذّاكرة"
فلستم سوى بشر مثلنا
ستنالون من الأرض شبرا
وتعودون ترابا كما بدأتم لا غير.
أيّها الشّذوذ، المكر، الرّعب، الإرهاب، الكذب، الخديعة، لا فتّاك غيركم، ولافتك غير ما فعلتم، ولا دمار سوى بما قتلتم به أطفالنا ونسفتم به سماءنا وأرضنا وإنساننا المسالم الأعزل المقيم في أرضه.
لكن.. نحن الأباة من سلالة حمورابي وجلجامش ومحمد والحسين وغيرهم من الصالحين والأبطال والأنبياء والعلماء نقول لكم وافتحوا اسماعكم جيّدا لن تنالوا منّا يا حشرات الحضارة، وديدان المال الفاسد المسروق
:"إنّا إذا ما غضضنا الطّرف عن سفه
فلا يغرّنّ معتوها تغاضينا
فنصف ما في العراقيين غيرتهم
وما تبقّى دم عنها يقاضينا" .
دوّت في نفسه مرّة أخرى هذه الأبيات للشاعر العراقيّ عبد الرّزاق عبد الواحد صاخبة داخله فأنشدها بقوة في حديقته وكأنّه يردّ بها كيد عدوّ لدود.
وقد تذكّر ممّا تذكّر ما كان ذات يوم حدّث به صديقه الوفي أبو صادق وقد التقيا بعد هدنة قائلا:
"ّلكم طعنني في كتفي بسلاحه الحقير الجنديّ الأمريكي او الأوكراني المرتزق الّذي كان دوما يصاحب سيّده المتوحش لينفّذ طلباته العنيفة الإجراميّة، وكم داس ا لجنود المرتزقة على جرحانا بأحذيتهم اللّعينة القذرة وذاك المستهتر الأفاق المثليّ، الوسخ، المتصهين، الوحش كم كان يقتحم عليّ غرفة نومي ليذلّني او يهدّدني بالاغتصاب والقتل .. وكم اهتزّ بيتي وخاف أطفالي خوفا شديدا أدّى ببعضهم للموت بالأسلحة الفتّاكة، أسلحة الدّمار الشامل الحقيقية من براميل مفخّخة تدوّي برعبها عند الانفجار و طائرات الف 16 وصواريخ هزّت بغداد كلّها بذاك السّلاح المسافر عبر القارات الّذي جرّبه الطّغاة في لحم أهلي ودماء الأبرياء من أبناء
شعبي بملجإ العامرية حيث بصمات اللّحم المحروق على الحيطان لن تمحو من الذاكرة جرائم الحرب ابدا بالتقادم، فالذكريات الباقية لذاتها فينا لتستحقّ البقاء . ولكن يا صديقي وفيّ الوفي رغم كل ما كان من رعب وفزع وخوف كان الأمل قائما في بيتي باستمرار الحياة "رغم الداء والاعداء" في بيتي الذي تمسّكت به أنا ونخلتي، وبسبب ضيق اليد والكبرياء لم نهاجر وبقيت العائلة متشبثة بالأرض والبيت لانّنا كنّا نؤمن معا ألاّ موت بلا أجل وانّ الموت في بيتنا أفضل من الموت ذلاّ في مخيّم تحت إمرة زيد أو عمرو، ثم لانّ الهروب لتلك المخيّمات كان أيضا يحتاج أموالا طائلة لا يملكها إلا تجّار الحروب و تدفع لذوي النفوذ أو المستكرشين السّفهاء من بعض الأحزاب الخراب الّتي باعت دم العراق وشعبه لكلّ الأعداء.
ففي الحروب تتقلّص الفضيلة. تنتشر الرذيلة. يختفي الخلق القويم وينهار، تطغى على البشعين الجشعين غرائز الأنانية وشره حبّ المال وتكديسه من الحرام ومن دموع الأبرياء ودمائهم، فيّنظر للحرام بالحلال، وللكفر بالسّماحة، وللقتل بالواجب، وللخيانة بالوطنيّة، وبالطّبع في مثل هذه الأوضاع كدّس أرباب الحرام المال تكديسا فانتفخت به بطونهم نارا وويلا سيذوقونه قطعا يوما ما.
فكم ظلموا من فقراء وضعفاء ثم ركبوا الكراسي وقالوا نحن الشّرفاء .
لكم تراكم الويل على الويل يا صاحبي وكم تناسل الألم من الألم..حزني عليّ وحزني على بلدي، فأصبحنا كما قال معروف الرصافي
"كأن حياتنا جبل مُطِل على مهواتِه وهي المَمَات
مشيْنا فوقه عُمياً فظلَّت تَهاوَى نحو هُوَّته المشاة
كأن فضاء هذا الكون مجر تموج فيه هذي الكائنات
تبين تارة وتغيب أخرى فشأناها التفرق والشتات"
وانا اخي الوفيّ لم أسلم في حياتي الخاصة ممّا أصابنا جميعا.
واحسرتاه، واحسرتاه ذهب حتى ذاك الهدوء وتبدّدت تلك السّكينة النسبيّة وراح ذاك الدفء وتمزّق تماسك العائلة المستظلّة بنخلتها الصّبورة الحكيمة الوفيّة لزوجها والمحبّة لأبنائها ربّة البيت الصّالحة المدبّرة الذكيّة المهتمة اهتماما واعيا بالتنشئة الصّالحة لأولادها والمؤازرة لزوجها دون شكوى ولا ملل ولا كلل .
تلك الثّابتة الأصل والمحتد ال-فرعها في السماء، نخلتي الشامخة العميقة في أرضها الاصيلة.
اه اأواه اه، كلّ الوان التّحزان كانت بشعة يا صديقي" .
كان أبو فرات يسرد قصّته الحزينة مستانسا بصديقه، فقد حدّثه ببنات صدره ليتنفّس قليلا ويتناسى وزر الأيّام الحارقة الّتي خلّفت في نفسه شروخا وجروحا، وقد تلاحق الدّمع قطرات حتّى ملأ عينيه وهو يقول:
"يا صاحبي أصابني الهول والويل وأنا أرى بلدي شظايا وحتى اليوم لم أنس تلك الكوابيس وأصوات الطائرات وصفّارات الإنذار، فكنت انتفض مرعوبا من كوابيسي ولكن ما أصاب قلبي بالتّيه القاتل ذاك اليوم قد كان إحساسا فريدا بالغبن والوجع القاسي، فقد أصاب الخلايا وانغرست في دمي الامه المجرّحة حتى كريّات دمي، غمّ ذاك اليوم الأسود كان قاتما ترسّخ في الفؤاد والذاكرة .
ذاك اليوم من شتاء قاس بارد وسماء متجهّمة مدلهّمة كان مكفهرّا في الطّبيعة وفي حياتي.
كان ثقيلا ذاك القهر، ثقيلا أثقل من الرّواسي.. في ذاك اليوم بكتني شجرتي الزوراوية الثّابتته على صنوف القهر الحاملة لاسمين عاشقين :
س -النخلة أمّ فرات و وم- الجلجامشي ابو فرات
لقد كتبنا الحروف معا بانامل الحبّ ومن أشعّة النّجوم ومن لالئ الكواكب، فتشابكت الأصابع لتحفر نقشها العاشق على تلك الشجرة شجيرة المحبة للخلود.
ما اقوى الحب حين يكون صفيّا وفيّا، فالذكرى تلو الذكرى وشجيرة : م -ابو فرات و س -ام فرات.
ظلت نخلة شامخة في أرضها وحروفها محفورة خالدة في قلب الحبّ وبصره وبصيرته.
لكنّ القدر ابى الاّ أن يبعث بهجماته وعواصفه وأنوائه ففرّق قلبين عاشقين حبيبين كانا معا يسيران في دروب الحياة المتضادّة الصّاخبة المتصارعة بما لها وما عليها اه منك واه يا قدر اواه، اللّهم لا اعتراض " .
كان اأبو فرات في صمته وفي جهره يردّدها :
- اللهمّ لا اعتراض- بإيمان رجل حزين لم يفتّ الحزن من عزمه فالمقدّر كائن -لا محالة -والله عنده حسن العاقبة والجزاء .
لعلّ للصّابرين صبر أيّوب يجزون بجنان الخلد فإن ْ اصابتهم مصيبة قالوا :"حيثما كنتم يدرككم الموت، وإنّا لله وإنا لله إليه راجعون، وقل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا، صدق الله العظيم"
فأمامي أيتام لا بدّ ألاّ أضعف أمامهم أبدا، ولا بدّ أن أأخذ بأياديهم و أمسح الحزن عن قلوبهم الصّغيرة وأربّت على مشاعرهم الطّريّة.
وهو يواصل حديثه كان م أبو فرات كثيرا ما ينحني على نفسه ضاغطا على صدره الموجوع بين يديه مخاطبا القدر في عتب قائلا : "
كم تدوسنا بما لا يتحمله البشر أيّها القدر، لماذا؟ "ربّنا لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به"لكنّ صوتا ثابتا داخله كان يناديه :" لكلّ أجل كتاب، و لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون"
"صدق الله العطيم، يتمتم، فالموت حتم وله أسبابه ولكلّ موت سبب و سنعبر هذه الدنيا كما عبرها غيرنا قبلنا وسنلاقي غدا ربّا رؤوفا يجمعنا بأحبابنا من الصّالحين والصّالحات والصّابرين والصّابرات والصّامدين والصّامدات والمؤمنين والمؤمنات والشّهداء والشّهيدات والمبشّرين والمبشّرات بالنّعيم. "
لقد كان أبو فرات رجلا مؤمنا ورعا يصمد في الشّدائد ويصبر صبرا جميلا بإيمان جليل. كان يمحق حزنه مهما قست الأيّام عليه، لكنّ نار الشّوق المختلطة بنار الحزن كانت تجعله يعود دائما لألبوم الصور الحبيبة.
وذات قيلولة وهو على تلك الحال من الأسى في لحظة تقليبه للصّور العائلية للمرّة الـ ما فوق الألف أخذه النعاس من شدة وجع الذّكرى، فكان يتقلّب عل جنبيه، فاذ به يرى أمرا عجبا ومعجزا، فقد كان الحلم في ذاك اليوم ملحّا عليه إلحاحا، فرأى سماءه الشّامخة في نورها الأرجواني ولباسها الحريريّ الأخضر المطرّز بالزّهور، وفي سنة من نعاس سرّه ما رأى، فالطّيف العزيز على روحه كان ماثلا أمامه، فسمع في غفوته صوتا ناداه :
" أبو فرات ابو فرات..لا تقنط، لا تحزن، لا تبتئس، لا تيأس، إنّه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون صدق الله العطيم.
الحياة تستمر ياعزيزي، أوصيك بأطفالنا وبنفسك خيرا، يا من أحببت حتى النخاع، أعرف أنك تحبّني كثيرا، فليكن كلّ هذا الحبّ اليوم لأطفالنا، كن لهم الأمّ والأب و حافظ على نفسك، فلا أريدك تعمى من الحزن، ولا اريد لقلبك أن يموت ولا لبسمتك أن تخفى، اترك الحياة تنبض فيك روح دمي، حبّي، والد أبنائي وبناتي، نوّارة روحي، ألوان عمري، فراشي الحائم حول جناني، شمسي الباعثة دفءها دوما في حياة أطفالنا، نجومي السّاكبة ضوءها لعطاشى الضّوء، مائي السّاقي شفاه النّعاس المقدّس، فرسي الحرّ الشّجاع، كريم اليد، أصيل المحتد، سليل يعرب.
يا طائر الحريّة اّبق كما عرفتك ذاك العاشق المبسام، ذاك المازح الضّحوك، ذاك الوفيّ للجمال والحياة والحبّ على الدّوام، لأظلّ أنا أطلّ عليك بين الحين والحين وأظلّ فيك حياة بسّامة لأطفالنا، فإن حزنت روحك ينتاب روحي حزن وقد يسري في دماء أبنائنا وأنفسهم، فتصعب عليهم الحياة وتضيق بما رحبت.
دس على الصّعب واركب خيلك الحرّة واسرجها وقل :ربّا ه أنت الواهب الأمل ومغيّر الأحوال" .
تمتّع أ بو فرات في غفوته بذاك النّداء العاشق وقام يفرك عينيه من لحظة بين النّوم واليقظة وكم أّرادها ان تطول لكنّها سرعان ما أفلت.
ولمّا استفاق تماما وصحا صحت الذّكرى معه ومرّت بخاطره وقلبه كوخز إبر، فتراءت له في اليقظة نخلته العالية باسقة في فضاء رحب يغلب عليه الخضار. فبسمل وحوقل وقام لتوّه من غفلته وأقام صلاة الفجر وقرأ ما تيسّر من القران الكريم وأطال الأدعية بالصّبر له ولصغاره وبالترّحم على أصيلته الثّابته الفرعاء الحسناء الغيداء، الحوراء .
ثم شرب كوب ماء و عاد لسريره يستغفر ويطلب اللّطف ويقلّب الذكريات تترى... حتى أخذه النعاس من جديد فرأى نفسه بحديقة وارفة الشّجر، فسيحة الأرجاء، كثيرة النّبات والزّهور والفراشات كان يسير فيها على مهل فاختلط عليه الامر بين الحلم واليقظة والخيال والرّؤى وعاد لألبّوم الصّور يطوي أوراقه طيّا.
فبدت عروسه أمامه مختالة في لباس عرسها مبسامة فرحة و كاّنّها تعيد له ذات السؤال الّذي ملأ كلّ فضاءات روحه ذكرى فرح وحزن "كيف حالك"؟باسمة رآها وكيف حالك دامعة رآها؟.
كأنّ هذا الاستفهام حمل كلّ معانيه البلاغيّة من قلق وحيرة وتعجّب وإنكار وتودّد وفجيعة وّ .... "ربّاه أجرني" قال في قلبه المخلوع المخدوع بحلم ثانية.
رّباه أنقذني من "كيف حالك " ؟سؤال حملته بسمتها العاشقة و بسمتها المودّعة وقد قال محدّثا صديقه الودود وهما يشربان الشّاي في مقهى الشهبندر ببغداد:
"أخي وفي الوفي ابو صادق
في ذاك اليوم صلّيت في ساحة مشفى الموت المجانيّ الّذي أكرهه كرها شديدا، ذاك المشفى اللاّمبالي بأرواح النّاس حيث خسرت نصف عائلتي، إنّه عنوان الإهمال الطّبيّ واللاّمبالاة، لقد رحل هناك ابي وابني وابنتي وزوجتي . ، ما كنت رأيت من طواقمه اهتماما بالمرضى ولا التزاما بالحرص على أرواح النّاس.
كان همّ بعضهم تجميع المال ونهب الفقراء والتّعامل مع صيدليّات بعينها لشراء الدّواء.
الله أعلم ما كانت تحمل لنا من موت في أدويتها وإبرها زمن تلك الحرب الضّروس التي كانت تخبط خبط عشواء في دمائنا المظلومة.
يالتجّار الحروب و ياللجرائم، ربّاه اذقهم جميعا ممّا اذاقونا من علقم، .
كلّ ما في حياتنا كان معرّضا للنّسف من السّماء والأرض والماء... محنة يا صديقي وما أعظمها من محنة !صدّ ق او لا تصدّق أنّ من بقي منّا على قيد الحياة لم يبقه سوى قدره الحتميّ لمواصلة عمره المقدّر ولكن الحياة يجب أن تستمرّ كما قالت لي نخلتي" تنفّس قليلا بصعوبة وتعطّل النّفس في حلقه، فلقد تمكّن منه اختناق وسكنت حنجرته غصّة كأنّها كتلة دم جامد و جفّ ريقه، ونظر الى أحد جدران المقهى حيث علّقت أبيات من قصيدة "دجلة الخير" للشّاعر الفذّ الجواهري. وكان أ بو فرات وأبو صادق ساكتين سكوتا صاخب المعنى، كانا يتأمّلان مطوّلة من أهمّ مطولات الشعر العربيّ المعاصر في سكون جامع شتّى ما بالّنفس من متناقضات، وكان الاثنان يحبّان الشّعر كثيرا وخاصّة القصائد الوطنيّة الشّامخة فلفتت انتباههما هذه الابيات الزاخرة بالرافد الرّمز دجلة للعبقري الجواهري:
"يا دجلةَ الخيرِ: يا أطيافَ ساحرةٍ
يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُرْجون
يا سكتةَ الموتِ، يا إعصارَ زوبعةٍ
يا خنجرَ الغدرِ، يا أغصانَ زيتون
يا أُم بغدادَ، من ظَرفٍ، ومن غَنَجٍ .. "
ثم بعد أن جالا بعيونهما في الأرجاء واصل أبو فرات حديثه قائلا:
"في ذاك اليوم الشتوي، العاصف، القاسي قبل أن تدخل الغيبوبة حياتنا المنكوبة صلّيت في حديقة ذاك المستشفى، كم أكره ذاك الطّبيب اللّامبالي وكانّه لم يكن يعامل بشرا او ربّما كان هو في عمقه فاقد الإحساس وليس طبيبا إنسانيّا وربّما كان ما فعله بنا الأشرار قصدا، فحتى بعض الاطبّاء استجلبوا لنا من المرتزقة المشعوذين بجنسيات مختلفة تابعة للأعداء ... إنّها الحرب يا صاحبي كلّ ما فيها شرور ونوايا مبيّتة لقتلنا، لقد كان ذلك عمدا وقد نفذ بأياد مريبة ونفوس غريبة ترى في عيونها الأحقاد كلّها، فلا ضرّ لدى ذاك الطّبّيب و أمثاله الشرسين الموالين للمجرمين، لا ضير في نظرهم حتّى لو حقنت كلّ عائلتي وكل المرضى والجرحى بدواء فاسد.. كنت أشكّ في الكثيرين منهم انّهم كانوا من مدفوعي الأجر وعبدة المال وعبيد العدوّ والعدوان، فهم مقابل قتلنا كانوا يترنّحون في القصور والسّيارات الفاخرة ربّما كانوا من المشبوهين، الذين استخدمتهم دول كثيرة هاجمت بلادنا، بلد كامل ضاع يا صاحبي بين الجريمة والفساد.
جاء الأفّاقون من وراء البحار متكالبين علينا حتّى الأشقّاء والجيران لم يقصّروا في قتلنا وعبثت بهم الولاءات الرّخيصة الكاذبة والمصالح الأنية الأنانية وتيجان وكراسي حكم غسّلت بدمائنا، و كلّ الحرب الّتي قامت على أباطيل أسلحة الدمار الشّامل ما كانت غاياتها سوى نهب النّفط وبسط نفوذ الطّغاة المجرمين علينا من الامبرياليين المتصهينين والخونة.
اكره ذاك الرجل المشبوه ولن أسامحه ما حييت، ذاك الّذي اغتال زوجتي وحقنها بدواء خاطئ في وقت خاطئ .
لم يكن يسكن جسد الشابّة الحنون امراتي سكّر، بل تسببت فيه غارة أحرقت جزءا من بيتنا واصابت من اصابت بشظايا، فالرّعب هو المتسبب في أمراضنا وموتنا .
وقد كانت حالة نخلتي وقتها حرجة جدا بعد القصف الشديد، فنقلتها للمستشفى في ظروف قاسية جدا وحقنها ذاك المعتوه بما لا يناسب مرضها، فعجّل بانهيارها، كم كانت بسمتها قاتلة مقتولة وهي تودّعني وتنظر لمدى أبعد من مدى عالمنا الفاني الظلوم .
كانت مودّعتي باسمة وهي تسالني سؤالها الأخير و بنفس العبارة "كيف حالك ؟.
قتلت زوجتي ونصف عائلتي بشرور دول فاعلة ودول تابعة، واستشهدت نخلتي ولم تشأ ان تغادر مكانها ورفضت التهجير، وكان القصف على أشدّه والنّاس في مشهد من الرّعب والفزع والشّهادة والموت المجانّي.
كنت قبل ان أراها مودّعة صلّيت في الحديقة طالبا لرفيقة دربي ونخلتي الباسقة الشّفاء و لكن يا لحرقتي لمّا عدت لغرفة مشفى الموت الّتي كانت تقيم فيه، وأعدت الصّلاة بجوارها في غرفة الوداع ابتسمت لي في فتور قبل الرّحيل، في اخر نفس، وقالت لي "كيف حالك ؟".
ثم توارت وراء سجف الظّلام وتوارت كيف حالك من فم الكلام . ـوصمتت إلى الأبد بين ذراعي اوّاه من يوم مكفهرّ ومن بلد تخرّب وانفجر .
صديقي الوفي قل لي بربّك ماذا يفعل زوج أّمام زوجة محبوبة في ريعانها غادرت وأمّ أولاده الرّاحلين والباقين ؟
ماذا يفعل زوج شاب وهو أمام نوّارته الفائحة وعصفورته الطاّئرة المحلّقة بعيدا وهي بعد في ريعان العمر لمّا تبلغ الأربعين ؟أفلت نخلتي الباسقة وتهاوت في أحضاني.
اه في الصمت، اه في القلب، آه في العين، اه في الرّاس، أه في النّفس، اه في الرّوح، ’ه في الوعي أه في العقل و بكلّ آهات الدنيا كنت اودّعها، وكنت في ذاك الضّياع ابحث عن ملجإ لأحزاني، ومن ذاك اليوم هربت لطريق التّصوف وصرت أترّدد على التّكايا والزوايا التابعة للطّريقة الرّفاعية لسيّدنا إبراهيم الرفاعي وأتعلّم الأذكار والأوراد وأكثر من قراءة القران عساني أجد توازني وسكينتي حتى بلغت درجة المريد .
كما انفجرت لغتي وساندتني ضادي وحمّلت أبجديتها تحزاني المرّ وتحمّلتني فبحثت عن مجلاّت الكترونية اكتب فيها وأنشر قصّتي للاعتبار حتى أفرغ في الكتابة مراراتي وفجيعتي و نلت جوائز كثيرة في العديد من الأماكن لكن لم اكن أبالي بشيء بل كان همّي هو إفراغ ما بي من كأبة وحداد فقط ".
ثم ختم حبيب النخلة حديثه مغرورق العينين متذكّرا قول محمد مهدي الجواهري في قصيدته دجلة الخير منشدا بصوت خافت في تنهيدة عميقة طويلة تصاعدت للسماء
"لم أقوَ صبراً على شجوٍ يرمِّضُني
حرَّانَ في قفصِ الأضلاعِ مسجون
تصعدتْ آهِ من تلقاء فطرتها
وأردفت آهةٌ أُخرى بآمين"
وفي تلك الاثناء حين كان يحكي لوفيّ صديقه كان أبو صادق يتأمّله صامتا متكتّما على الامه الخاصّة وتركه يتنفس قليلا ويبوح بما يريد وكما يريد، ثم تنهّد قائلا له -وهو يمسح عينيه أيضا من دمعات حرّى –
قال :"كلنا عشنا الويلات صديقي ومن المعجزات انّنا صمدنا "و ردّ عليه من نفس القصيدة المذكورة آنفا بالحكم
"والصبرُ ما انفكَّ مَرداةً لمُحترِبٍ
ومستميتٍ، ومنجاةً لمِسكين
يا دجلةَ الخير: والدنيا مُفارَقةٌ
وأيُّ شرٍّ بخيرٍ غيرُ مقرون
وأيُ خيرٍ بلا شرٍّ يُلَقِّحه
طهرُ الملائك منْ رجس الشياطين"
ثم ساد صمت رهيب بينهما، ولم يكن من أصوات تسمع سوى رشفات الشاي على شفاه أثقلها الكلام الموجوع الموجع. و على الطاولة قبع جوّال وفيّ الوفيّ بينهما.
وكان أبو صادق قبل مجيء صاحبه الجلجامشي يقلّب جوّاله، فصادفته قصيدة "الزوبعة"للشاعرة العراقية الموصليّة بشرى البستاني متحدّثة بأقصى المرارة عن وضح الواقع العراقي أثناء هجوم تلك الغيلان عليه تقول فيها:
"نسيتُ أسماءَ الأيام وتواريخَها
والبلدانَ التي هجرت خرائطها
نسيتُ الأنينَ الذي يتحول لوجعٍ مبتور
مذ تعلمتُ احتسابَ تواريخ المعارك
ولياليها الممهورةِ في ممرات عمري
وأعدادَ المفخخاتِ الّتي ضربت بيتي
وفكّكتْ جدرانه
وتركت في السّقوف وفي القلب حفراً
لم بستطعْ المهندسُ الأخيرُ ترميمها
صامتاً كان بيتي
يتلقى الضرباتِ من الأعلى
حيث السماءُ تمطرُ صواعقَ ليلية
من اليمين حيث الجارُ
يلقي القذائفَ على أسرّةِ الطفولة"
نظر ابو فرات للقصيدة وقرأها صامتا وأنّ، وكأنّ أنين القصيدة منه وفيه، ثم استانف كلامه الدّامي، الدّامع قائلا لوفيّ أبو صادق صديق عمره الصدوق.
" كان من أحلك لحظات عمري نقل الخبر لولديّ العزيزين الطّفلين المتعلّقين تعلّقا شديدا بأمّهما النّخلة .
في تلك اللّحظة كنت مشتّتا بين أن أعلم العائلة وأخرج حبيبتي في ظروف حرب من المستشفى وبين إخبار ولديّ الطفلين الصغيرين بأقتم خبر صادم لهما".
انقطع نفس وفي فحرّك راسه قليلا يمنة ويسرة ثم تنفّس بصعوبة ومسح عينيه وقال له في تقطّع بصوته المتهجّد:
"السلامات لك صديقي
يا من لم ترضخ تحت القصف
وامثالك رغم الويل قد بسلوا
وكنت من القامات و امثلك المثل ....
صبر توحدّ بايمان في الوطن
والنخل باسق أعلن انه زحل
فجلّ من وهب لكم قلوبا عزمها حجر
بالحق قد امنت
صبرتم وكان في صبركم أمل
النبلاء أنتم
والسّفهاء منكم خجلوا
فجلّ من أهدى قلوبكم البأساء
فصبرا صبرا "أيها الجمل ... "
ثم صمت أبو صادق وكان متاثّرا جدّا بما سمع وهولم يكن يعلم إلا بالقليل.
فما حصل لا يوصف، ولا يحدّ في معاني الرّعب والفجيعة.
ولكنّ ثبات النّخيل كان أقوى من نيران الحرائق.
كان وفي في تلك الأوقات يتامّل بشموخ نخلة واقفة في لوحة فنية على أحد جدران المقهى وواصل أبو فرات حديثه لصديقه عساه ينفض عن قلبه بعض رماده متضرّعا:
"يا رحمان يا رحيم أعنّي على أن أكون في صبر أيّوب وفي حكمة سليمان أمام هذه المصائب المتراكمة.
في برهة من زمن..كيف سأخبر صغيرين بأنّ امّهما الّتي ولدت وحضنت وربّت وربّتت بحنان عليهما واعطت من حياتها لهما كلّما استحقّا عطاء بلا حدّ ولا حسابات.
كنت أفكّر برويّة كيف سأخبرهما أن قرة عيونهما رحلت شهيدة ؟؟.
أواه من كيف حالك؟عودي حبيبتي واساليني كيف حالي، ساخبرك عن عجزي، عن علقم ريقي، عن دمع ملأ حنجرتي حتّى لا يراه احد .
كيف حالك انت يا وردتي اليانعة الّتي قطفها الموت غضة واختطفها مني، ياغزالتي البهية ؟.
كيف سأخبر طفلين عاشا مدّة قصيرة في رعاية أ مّ المودّة والحنان انّ الام رحلت والمودّة والحنان رحلا معها؟.
كيف ساخبرهما انّ ذاك الحنان من ذاك النّعيم قد أسدل عليه السّتار إلى الابد وانّ تلك الامّ المعطاء البسّامة الغضوبة بحكمة وودّ خفيّ، رؤوف، رقيق، رهيف حين الحزم، تلك الجوهرة السّامية ونعمة من نعم الدّنيا والأخرة تلك الّتي حملت وولدت بعسر، وسهرت اللّيالي وأنامت وأرضعت، وعلّمت ووجّهت للخير والهدى وقبّلت وابتسمت وقطّبت عند الغضب وعفت بحلم، ونظرت دائما لصغيريها بحلم وأّمل وحبّ دفّاق وهما ينهضان من سبات طفولي عميق فّأفاقتهما بعطف الدنيا وأحضرت فطور الصّباح ولمجة العاشرة الّتي كانت تدسّها في حقيبة الدّراسة وبين الكتب و اعدّت بحبّ فطور منتصف النّهار والعشاء... كيف ساقول لهما رحلت امّكما للأبد؟؟؟كيف سيكون حالهما على كل موائد هذه الأزمنة ؟كيف سيرتميان على سرير فرغ من الأمومة ؟.
كيف ستكون صباحاتهما بدون النّخلة الجميلة الهفهافة الأصيلة ؟.
كيف سيصبح صباحي وضحاي ومسائي وسمري دون النخلة أسطورة الحب في حياتي؟.
ربّاه ربّاه أشياء البيت الّتي كانت تمسّها بيديها ستؤلّم تفاصيلها طفليّ الحبيبين كما كانت تؤلمني بل كما هي للأن تؤلمنيّ .
ولدي الحبيبين، إنسانا عينيّ :فراتي، رافدي ابوكما موجوع موجوع ويجب أن يصمت ويكتم أنفاسه حتّى النّهاية، لا باس سأحاول أن أمتصّ كل الصّدمة والوجع وحدي وأتظاهر بما لا أحسّ".
هكذا كان ينقل أبو فرات حديث نفسه المتفجّعة لصاحبهما قاله لأمه ذاك اليوم، يوم النخلة، ثم حدثه كيفا رتمي على امّه باكيا وحضنها بشدّة فهيوحدها من تفهمه.
فكان يشكو لها بعد الله فجيعته و يطلب سندها الذي لا يرد طبعا و كان يتوجّه لها باكيا.."أمي أماه يا باسلة ماذا سافعل ونخلتي تركت لي رافدين ودودين عزيزين رائعين جميلين لاأريدهما ينتحبان ولا يحــــــــــــــــــــزنان مثلي..لا أريدهما يحطّمان بهذه الصّدمة المروّعة؟
باسلة أمّاه من لي ليشدّ أزري، شدّي باسلتي، شدّي أزري
أمّاه..أمّاه طفلاي يبكيان أمّهما وبنيّتي دجلتي الأخرى تبكيها وهي لمّا تبلغ من الحياة إلاّ اشهرا..من سيرضعها ؟من سيربّيها ؟من سيعلّمها الصحيح من الخطإ؟..أمّاه، أنا لا أعرف كيف اغّير الحفّاظات ولا كيف أرضع بنيّة الأشهر الّتي حرمت من حليب الامّ ولا كيف أجلب لها حليبا في هذا الحصار الرهيب الّذي حرم أطفالنا الحليب والدّواء والهواء النّقي، لم أعد احتمل موتا اخر.
أماه قولي لي وأنت حكيمتنا كيف سأخبر صغيريّ بوفاة أمّهما ؟..كيف سأسكت دجلة حين يحين وقت حليبها كيف سأهدهد نومها لتبتسم نائمة ؟.
أماه أرى بنيّتي الرّضيعة مقطّبة الجبين تبكي بحرقة على أمّها، أراها حزينة عليها، أيحزن رضيع على امّه؟.
كم أخشى أن اموت أنا أيضا وأترك أطفالي لليتم والتّحزان والضياع .
أماه ابتهلي، ابتهلي معي كي أكون قويّا، صبورا أعتى من الأحزان حتى أوصل الأمانة لبرّ الأمان.
أمّاه باسلتي ساهزّ بجذع النّخلة يساّقط عليّ الرّطب واغلّيه لدجلتي بنيّتي الرّضيعة وأسقنيها ماءه عوض الحليب المفقود الذي ضربت مصانعه الصواريخ والطائرات .
أمّاه حتّى النخيل أحرقوه، مليون نخلة التهمتا النيران . فانّى لي بالغذاء والدّواء لأبنائي ورضيعتي؟ أنّى لاطفالنا بالحياة؟.
لا اريد لبنيتي أن تموت عطشا و جوعا سأحترق لا يهمّني ساتحدّى القنابل والطّائرات والبراميل المتفجّرة وأمشي عشرات الكيلومترات على درّاجتي تحت الموت العاصف القاصف عساني أجد لدجلتي علبة حليب تسكّن عطشها أمّاه لا أريد لأطفالي وأطفال شعبي أ ن يكبروا في التّحزان.
ربّاه أجعل ميزان الأيّام معنا ولا تجعله ضدّنا، لقد أنهكتنا الدّروب الوعرة.
تعبت تعبت تعبت،، تعبنا تعبنا تعبنا ......
ومضت سنين وسنين صبورة مؤمنة وأولاد النّخلة يكبرون في حضن الأب الصّبور وأمّه باسلة تقيم معه في بيته وبنيّته دجلة مرّة عند خالتها ومرّة مع أمّه تربيها وترعاها.
وذات يوم شعر بأنّ امّه بدأت تكبر وثقل عليها حمل البيت والأطفال وليس بوسعه هو أن يفعل كلّ شيء،فالعمل أخذ يومه والاهتمام بالأطفال وشؤون البيت أمور تحتاج معرفة وخبرة امرأة، و امّه تعبت من ثقل أرهقها وأصبحت كارهة أن ترى ابنها منغمسا في الحزن وأحفادها مثله، فلا يمكن في تصوّرها- وهي الأم -
ان تقبل بهذا المرّ الدائم لهم، فظلّت تلح عليه أن يتزوّج ليخرج قليلا من دمار الذّكريات وثقل الهموم وكانت تطلب منه أن يوافقها على اختيار زوجة تواصل معه معترك الحياة وكثيرا ما كانت تحاول إقناعه بأنّ النخلة كانت تقول له"الحياة تستمر " وهي تستمرّ حقا بكلّ ما لها وما عليها، لكنّه كان يرفض، فلاحظ أن والدته بدأت تغضب وتهدّده بالبعد عن بيته . ، فأطفاله يكبرون ويحتاجون رعاية، وبيته يحتاج ترتيبا، وطعامه يحتاج تحضيرا، وسريره يحتاج دفئا ولن يكون هذا حسب أمّه وحسب الواقع أيضا إلا بدخول امراة في حياته تكون ابنة حلال وتريحه من أعباء كثيرة لا يقدر عليها هو، والحقيقة ما كانت غاية أمّه إزعاجه بل محاولة مساعدته لرمي بعض المرارات، بل كانت تحاول إقناعه حتى بالإنجاب فالأطفال زينة الحياة الدّنيا في نظرها، ويمكن لو أنجب أن يتجدّد فرحه ويبتسم ويكون أولاده كلهم سندا له في الكبر، فأمّه قرّة عينه يقدّرها ويعشقها ويراها سلوته ومؤنسته في الشدائد ولا يرمي بقرارتها أبدا عرض الحائط، فاستجاب لها.
وها هو اليوم بعد مضيّ سنين من تلك الفاجعة ببهو داره المزدان بلعب الأطفال ودرّاجة وكرة بل حتّى بفرخة طلبتها منه بنيته علياء و صغيره إدريس ذاك الولد الدّنيا الذي ملأ حياته هرجا ومرجا، الصّوال الجوّال في شعره والقافز على صدره والناطق بكلمات لا يمكنه أن يكتم معها ضحكاته الخالصة الفالتة من ارق و رق الأحزان.
وتدور الأيّام بضيقها ورحبها، وتكبر تلك الرّضيعة الّتي ولدت في ذاك الزّمن الصّعب وتتامر دجلة مع علياء وادريس على والدهم رميا بالكرة، و كم تحلو الحياة وتزهو بالبسمات والضّحكات البريئة.
وذات يوم شتويّ هو ذاته يوم النخلة أخذ مصحفه وبدا يتلو سورة النّساء و قد كان منكبّا على قرأنه خاشعا طالبا لنخلته الرّحمة في جنان الخلد .
وهو على تلك الحال -وقد ابيضّ شعره سوى شعيرات سوداء فلتت من فعل السنين -كان جالسا تحت شجرة كبرت وشاخت مثله وهي شجرته المفضّلة، إذْ حطّت حمامة على كتفه أبقاها تبرّكا ورفع عينيه، فاذا أبناؤه جميعهم يعانقونه ويتودّدون إليه ويقرّبونه منهم بأقصى الحنان والعرفان اعترافا له بصموده وصبره وتحدّيه للشّدائد بقلب مؤمن ورع، فكلّ واحد جاءه بانتصاراته على الحياة و صعابها.
قفرات طبيب، ورافد صحفي، ودجلة أستاذة رياضيات، والصغيران علياء وإدريس يدرسان بالجامعة، وكانا في تلك اللحظة يتجادلان هل "موطني موطني "نشيد العراق أم نشيد فلسطين، واخذ كلّ واحد منهما جوّاله للبحث فوجداه للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان شقيق الشاعرة فدوى طوقان .. فابتسما.. ثم تبادلا النّظرات وقالا معا:
"يالها من مفاجأة جميلة نحن نغنّي نفس النّشيد"
فنظر الجلجامشي إليهم جميعا بعيون الحبّ دون ان ينبس ببنت شفة - ففي الحزن كما في الفرح يغيب الكلام- واغرورقت عيناه بالدموع وضمّهم إليه وتذكّر قولة عبرت الزّمان والمكان ودلّت على مثابرة الإنسان وصراعه للبقاء وهي من أقدم ما قيل في تاريخ الملاحم منذ العصر القديم وقد قالها جلجامش في الملحمة الشهيرة بعد صراعه الطّويل مع الحياة.
«انسوا الموت واطلبوا الحياة!»
وتلك الأيّام نداولها بين الناس . فحلاوتها لا تردّ ومرارتها لا تردّ نعيشها صراعا قويا بين الجبر والاختيار .









[gdwl]
المنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
أكاديمية الفينيق للأدب العربي

ابتسامة نخلتي ـ نفيسة التريكي
المادة محمية بموجب حقوق المؤلف عضو تجمع أكاديميّة الفينيق لحماية الحقوق الابداعية
رقم الايداع : ن.ت/ 1/ 2023
تاريخ الايداع : 12- 07- 2023
[/gdwl]














  رد مع اقتباس
/
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:41 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط