قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: ثلاثون فجرا 1445ه‍ 🌤🏜 (آخر رد :راحيل الأيسر)       :: أُنْثَى بِرَائِحَةِ اَلنَّدَى ! (آخر رد :دوريس سمعان)       :: تراتيل عاشـقة .. على رصيف الهذيان (آخر رد :دوريس سمعان)       :: هل امتشقتني؟ (آخر رد :محمود قباجة)       :: ،، الظـــــــــــــــلّ // أحلام المصري ،، (آخر رد :محمود قباجة)       :: فارسة الأحلام (آخر رد :محمود قباجة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)       :: بَغْيٌ وَشَيْطَانَانِ (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: وَأَحْتَرِقُ! (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: شاعر .. (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: أحـــــــــزان! // أحلام المصري (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: ما زال قلبي يخفق (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: مملكة الشعر الخالدة (آخر رد :أحمد صفوت الديب)       :: افطار ودعاء (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: كلما أجدبت الارض ناديت ملح امي! (آخر رد :فاتي الزروالي)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > ☼ بيادر فينيقية ☼

☼ بيادر فينيقية ☼ دراسات ..تحليل نقد ..حوارات ..جلسات .. سؤال و إجابة ..على جناح الود

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-05-2019, 06:19 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
طارق المأمون محمد
فريق العمل
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
السودان

الصورة الرمزية طارق المأمون محمد

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

طارق المأمون محمد متواجد حالياً


افتراضي قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون

هديل الغياب
حَما بِصَدْرِكَ وَجْدٌ لَيْسَ يَبتردُ
وَ باحَ سِرَّكَ دمع منكَ يَطّرِدُ

وَ حلَّ لحظَكَ سُهْدٌ لا انْتِهاءَ لَهُ
وَ زادَ بَرْحَكَ حظٌّ مالَ يَبْتَعِدُ

هَذا هَديلُ فِراقٍ ناح مُشْتَكِياً
بَرْدَ الغِيابِ و بُعْداً يَشتَهيه غَدُ

نَقْراً عَلى دفّة الإحساسِ حَلَّ أسىً
كَيْفَ السَّبيلُ لِمَنْ يُصْغي و يَتّقِدُ

هبَّ اشتياقي و عاد القلبَ يسأله
عن حسرةٍ خلّفت في الحزْنِ ما أجِدُ

و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ

يا راحِلا تشْعَلُ الوجدانَ فُرْقَتُه
قضيتَ للقلب جُرْحاً نَزْفُهُ أبَدُ

جعلت للسهد و الأحزان بي وطنا
بكل ما في الأسى من لوعة يَعِدُ

أحْبابَ قَلْبِيَ لِلأَيّامِ دائِرَةٌ
تطوي بنهب و سلبٍ كلما تجِدُ

أنتم غنائمُها تلك التي نهبَتْ
غصْباً فما ينجلي من بعدكم كَمَدُ

لهْفي على الأنس منكم يا ندى عُمُري
ما ذاق من مثله مُسْتأنِساً أحَدُ

هَلْ نستعيدُ أمانينا التي ذَهَبَتْ
أمْ تَنْتهي أمَلاً قد لا تطولُ يَدُ

زَمان وَصْلٍ روى الإحساسَ مِنْ دَعَةٍ
كَأنَّهُ في ندى أيامِهِ رَغَدُ

مَضى كطرفة لحظٍ تارِكاً أثَراً
مِنْ داعيات الهوى يفنى بِهِ كَبِدُ

حَديثُ سِرّي وَ جَهْري وَ انْتِظارُ غَدي
هَلْ يُسْعِفُ الرّوحَ مِنْ إمْدادِهِ مَدَدُ

ذِكْرى تُهَيِّجُ بي ما أشعَلَتْ حُرَقي
هَذا وَ ما يَنْتَهي مِنْ ذِكْرِها خَلَدُ

(على البسيط)


الفكر الذي في القصيدة غلب العاطفة و إن كانت العاطفة هي سبب القصيدة و مضمارها و لا أدري أهذا يحسب لها أم عليها ؟و لكني أرى اجتهاد مفكر حركه قلبه فطاوعته القافية. و الشواهد كثيرة. منها:


حَما بِصَدْرِكَ وَجْدٌ لَيْسَ يَبتردُ
وَ باحَ سِرَّكَ دمع منكَ يَطّرِدُ

وَ حلَّ لحظَكَ سُهْدٌ لا انْتِهاءَ لَهُ
وَ زادَ بَرْحَكَ حظٌّ مالَ يَبْتَعِدُ


حما بصدرك أي احتر ، و الوجد عهده الإحترار و الحميان ، و اطراد الدمع تتابع سيلانه و الدموع خلقها فضح هوى صاحبها ، و من بغيها أنها لا تفضح غير الهوى ، فكل ما سواه مباح معلن سواء أعلنت عنه أم كتمته و بعض وجد القلوب مندوب الدموع ، و العرب يخفون هواهم خوفا على من يحبونه و على أنفسهم إلا القارح المقدام ؛ و الخطاب من الشاعر لنفسه يلومها أو يعزيها أو يندب حظها و لا ت ساعة مندم أو معزى، و التُّؤدةُ بمعنى التأَنِّي في الأَمر فأَصلها وُأَدَةٌ مثل التُّكَأَةِ أَصلها وُكَأَةٌ فقلبت الواو تاء؛ ومنه يقال: اتَّئدْ يا فتى، وقد اتَّأَدَ يَتَّئِدُ اتَّئاداً إِذا تَأَنَّى في الأَمر هكذا في لسان العرب؛ و أجدني أخالف أستاذي محمد ثمار الذي أشار ب (ليس يبترد) بدلا من (ليس يتئد) على الشاعر (أردت ب " ليس يتّئد " أنّه مستعجل في إحماء الصّدر برأيي لو استعملت " ليس يبترد " لكان أنسب..) ، كما قبلها شاعرنا بصدر رحب جميل ، أقول (ليس يبترد) لا أراها أضافت جديدا ، فإن بداية صدر البيت أكدت هذا الحميان و نهايته أكدت اضطراده و دوامه ، ولعل أستاذي و أخي "محمد ثمار" أراد بها أنه لا يفتر أي "حميان الصدر" فيبرد بل يزيد مضطردا و التاء في يبترد امعان في ابتراد ليس يفعله ، و الزيادة في الحرف تزكي الزيادة في الوصف و نفيها بمقدار وصفها . و لكن "ليس يتئد" في رأيي تعطي معانى الإستمرارية و السرعة و الموران أكثر من المقابلة بليس يبترد فالأولى كسبت قوتها من إقدامها و الثانية تقوّت بإحجامها و الإقدام أقوى من الإحجام ، و هو ما عنيت به الفكر الذي صاحب كتابة البيت هنا ، فإن كاتبها اختار مفردته بعناية بحيث تعطي شيئا جديدا يضاف الى البيت.
و قد أكد معناه عجز البيت الثاني حين قال

و زاد برحك حظ مال يبتعد


فالزيادة تؤكد عدم الإتئاد و يبتعد تفيد نفس المراد.
و كلمة مال رغم عامية استخدامها فإنها تشير الى عدم توافق مع المأمول و الميل حيود عن التمام ، و هو في ميلانه يبتعد ، والرياضي يعلم أن شدة الميلان تبتعد حتى تقترب ، فتعيد الوضع الى أصله عند اكتمال الميل فإن أبعد ميل عن الصفر هو عند الزاوية 360 درجة و التي تطابق الصفر نفسه ، وليت قيس ليلى علمها لما قال لمن جاءه بخبرها :إن حب ليلى أغناني عن ليلى .... و لو ذهن لها شاعرنا لما شكى ابتعاد ميل الحظ و لكن الصبر عند الصدمة الأولى و أنى لها من قلب عاشق موجود.

هَذا هَديلُ فِراقٍ ناح مُشْتَكِياً
بَرْدَ الغِيابِ و بُعْداً يَشتَهيه غَدُ


و لقد تحيرت أول أمري من الهديل في مكان العويل و من البرد في موقع الاحترار و قد نصَّ الجاحظ: " هَدَلَ يهدِل هديلًا. فإذا طرَّب، قيل غرّد يغرِّدُ تغريدًا."
و العرب اشتقت اسم الحَمام من الحميم و هو القريب الأودُ ، و الشاعر جعل الهديل صوت الفراق وهو العدو الألدُ ، غير أن العرب ذاتها كانت تحرك صوت اليمام و الحمام لاستدرار الشجو على الفراق لما في صوتها من شجن لا تخطئه أذن فهذا ابوفراس :

أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَة *** أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذَ الهوى ماذقتِ طارقة َ النوى*** وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ
لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة ً*** وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!


و قال البندنيجي

ناحت مطوَّقة بباب الطاق *** فجرت سوابقُ دمعيَ المِهراق
حنَّت إلى أرض الحجاز بحرقة *** تُشجي فؤادَ الهائم المشتاق
تعس الفراق وجذَّ حبل وتينه *** وسقاه من سمِّ الأساود ساقي
بي مثلُ ما بك يا حمامة فاسألي *** من فكّ أسرَك أن يفكَّ وثاقي


و الأساود جمع الأسود مفرده و هو ثعبان عظيم يسميه الهنود "الكوبرا" و يسميه بعض سكان بادياتنا في السودان "كرو كرو" ، و من عجب أن أهالي البادية ينجون من لدغاتها فلا يموتون إلا قليلا ، منهم أما غيرهم من غير سكانها فيموت من لدغتها إلا قليلا منهم ، بيد أنها تخشى فتهرب من مكان وجوده فمن شكى الثعابين في فنائه فعليه بالسنانير .

و الشبلي

رُبَّ وَرقاءَ هتوفٍ في الضُحى *** ذاتِ شَجوٍ صَدَحت في فَنَنِ
ذكرتْ إِلفًا ودهرًا صالحًا *** فبكت حُزنًا وهاجت حَزَني
أتراها بالبكا مولعةً *** أم سقاها البَينُ ما جرّعني


و قد انتبه شوقي لهذا فسخره في قصيدته فقال:

يمامتان في الحجاز حلتا على فنن
الى أن وصل
هب جنة الخلد اليمن لا شيء يعدل الوطن.

و ما هو إلا ما قاله البندنيجي:

إن الحمائم لم تزل بحنينها *** قِدْمًا تبكّي أعين العشاق


و السؤال نسوقه بعيد قليل على لسان المعري لعل شاعرنا يشفي لنا غليلا إن أجاب عليه ، و لكننا نتساءل قبله لم وصف الشاعر الغياب بالبرد و هو يشتكي حمو الصدر و اشتعاله ؟
و أجيب عنه بأنه الفكر الذي عنيته ، فإن الغياب كائن منعزل عن الشاعر و عاطفته ، أصابه البرد أي الغياب مما حدا بأن يوقد المراجل في قلب الشاعر الولهان ، فهي علاقة مطردة تتناسب و حالة الغياب يزيد الغياب بردا فيزيد قلب الشاعر اضطراما ولظى ، ترى ألو قيل "برد الحضور" أيهما أوقع للمعنى أو "فيح الغياب" أو قيظه مثلا فالحضور بارد كالميت و الغياب حاضر فهو متقد كاتقاد قلب الشاعر ؟؟ ليت من قرأها يشاركنا الرأي ، و للشاعر أن يحتج ألم يقل ابن الدمينة قبلا يصف صبا نجد البارد بأنه من يحمي عليه شوقه و يزيده كما زاد برد الغياب غليان الوجد في قلب شاعرنا.

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجداً على وجد


و الفكر يتجلى في البيت الذي يلي هديل القمري الموجع ليشرح لنا :

نَقْراً عَلى دفّة الإحساسِ حَلَّ أسىً
كَيْفَ السَّبيلُ لِمَنْ يُصْغي و يَتّقِ
دُ

و لماذا يصغي إن كان يتقد وليجب ابن عبد ربه الاندلسي هذه المرة عنه و عن قبيل الشعراء:

وإن ارتياحي من بكاء حمامةٍ *** كذي شجنٍ داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت *** حزينٌ بكى من رحمة لحزين.

و يبقى سؤال المعري الذي أجلناه يطرق باب فكر شاعرنا و فكر كل شاعر يستنطق الحمام أن يجيب عليه..

أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد


ومن طريف اختلاف العرب اختلافهم في الفرق بين الحمام و اليمام فمن قائل يقول بوحشية الأولى و أنسية الثانية ، و قائل يعكس ذلك ، و قائل يجعل الفارق طوقها على عنقها ، فذات الطوق حمامة و الأخرى يمامة و قولَ الشَّافعيِّ "المشهورُ أنَّ اسم الحمام يقع على كلِّ ما عبَّ وهدَرَ، فمنه صِغارٌ وكبارٌ، ويدخل فيه اليمامُ -وهي الّتي تألف البيوت- والقُمْرِيُّ والفاختةُ والدَّاس والفاسُ والقطا..." و قال: "الطَّائِرُ صِنْفانِ: حَمامٌ وَغَيْرُ حَمامٍ، فَما كانَ مِنْهُ حَمامًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَفِدْيَةُ الحَمَامَةِ مِنْهُ شَاةٌ" يريد فِدْيةُ قتل الحمامة في الحرَم.
و الجوهري جعل الدواجن التي تستفرخ كلها حماما.. و الخلاف صفحت فيه الكتب لمن أراده ، و الشيء بالشيء يذكر

هبَّ اشتياقي و عاد القلبَ يسأله
عن حسرةٍ خلّفت في الحزْنِ ما أجِدُ

و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ


و هل ينام شوق أو يخلد لراحة ، لولا أن الشاعر يصف لحظة ذات خصوصية زاد فيها الشوق وما كان ناقصا و حما و ما كان باردا و هب ما كان راقدا ، فاضطرب القلب بعد أن مضى مع من مضى ، ليعاود الشوقَ القلبُ مرارا و يسائله لعله أعلم عن هذه الحسرة و ما أجمل صورة الشوق المذهول الواقف المتحفز لسؤال لا يعرف جوابه و القلب العائد من وداع حبيب و الجمال يزداد حين يلح التسآل في ذهن المتلقي ما الذي فرق الشوق عن قلبه الذي يسكنه لعلها اللوعة و الحزن و الحسرة ، و الفكر يجذب الكلمات جذبا فعاد كلمة مختارة بعناية كما حرف الواو الذي يفيد تكرار العودة ، فالعودة ليست واحدة بل عودات فتزداد الصورة جمالا لقلب لا يكاد يصدق أن المحبوب قد فارق أرضه ودياره فيذهب ليتأكد ثم يعود ليسأل ثم يعاود الذهاب و الحضور بين مصدق ومكذب ، هكذا يقول حرف الواو كما قال حرف التاء في تلفت قلب الشريف الرضي :

و تلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب


و لعل الفكر هو من حدا بالشاعر الى هذا اللحن الفكري وليس اللغوي أو المعنوي، فالحزن ليس مستقرا للأحاسيس كالقلب و الفؤاد و النفس و الروح ، فالحزن حاسة معنوية بعينه ، و أخال الشاعر المفكر استثقل تكرار كلمة القلب أو أراد أن يزيد الحزن ضغطا و ألما وجدانيا بإضافة الحسرة إليه ، وهو ما لم يستسغه تذوقي بل فكري ، ترى لو تم تغيير هذه الكلمة الى الروح أو النفس أو ما يكون وعاء حسيا يحتمل إضافة الحسرة المعنوية إليه أيكون أحلى أم أن الحاضر حاضر الهادي آدم :

وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلواً .. إنما الحاضر أحلى


و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ

ما أجمل يلتحد هنا و أبلغها ، و أجمل منها هيجان عيون النوى ففيضها كالسيل الجارف بالهجران بعد الوصال و بالبعد بعد القرب..

بكلٍ تداوينا فلم يشفِ ما بنا على أن قُربَ الدار خير من البعدِ
على أنّ قَرْبَ الدارِ ليس بنافعٍ إذا كان من تهواهُ ليس بذي عهدِ


(و قال يخبره) هي الحسرة إذن ، و هل الحسرة إلا سمر القلب و الشوق في غياب الحبيب

نقّل فؤادَك حيثُ شئتَ مِن الهَوى ما الحبُ إلا للحبيبِ الأولِ


أو هي الحسرة و العمر قد ولت أيامه لا كأيام صاحبة محمد سعيد العباسي المقبلة :

وقد سلا القلب عن سلمى و جارتها .... وربما كنت أدعوه فيعصينى
ما عذر مثلي لاستسلامه لهوى..... يا حالة النقص ما بى حاجة بينى
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ..... فتانة اللحظ ذات الحاجب النون
يا بنت عشرين و الأيام مقبلة..... ماذا تريدين من موعود خمسين؟
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوىلا.... أطيعه ، وحديث ذو أفانين


و لا عزاء لنا ، فيا حالة النقص ما بي حاجة بيني أي فارقيني و البين و البينونة الفراق ،و حالة النقص إن لم تروض النفس على هجرها تملكتها

والنفسُ من خيرِها في خيرِ عافيةٍ....والنفسُ من شَرِّها في مرتع وخم

وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فكن طالباً في الناس أعلى المراتب.

وإذا كانت النفوس كبارا... تعبت في مرادها الأجسام.


و لات حين سامع ، فالعمر لم يعد فيه متسع و ما أجمل كلمة يلتحد و الملتحد الملجأ تجدها في قول الله تعالى:


(ولن أَجِدَ من دُونه مُلْتَحَداً إِلا بلاغاً من اللهِ ورِسالاتِه )


أم ترى الشاعر أراد أنه لو أمضى العمر كله يبحث عن ملجأ يحتمي به من الحسرة و الحزن لما وجد ، و ما ذلك إلا من هول ما يجد ، و المعنيان جليلان جديران بالإعتبار.

يا راحِلا تشْعَلُ الوجدانَ فُرْقَتُه
قضيتَ للقلب جُرْحاً نَزْفُهُ أبَدُ


جعلت للسهد و الأحزان بي وطنا
بكل ما في الأسى من لوعة يَعِدُ


و هنا يطل السبب الذي لم يكن خافيا إنه فراق الحبيب الذي ارتحل وما أشد وقع الفراق على القلوب المحبة ، و يحل ذكر الفراق و الهجر و النوى و البين مرتبة مقدمة في شعر المحبين ، و هل الحب إلا لوعة فراق أو حرقة بين أو زفرة هجر ... يقول المنفلوطي : " وما تفجرتْ ينابيعُ الخيالاتِ الشعرية ، والتصوراتِ الفنية ، إلا من صدوعِ القلوب الكسيرة ، والأفئدة الحزينة " . مما يجعل الإتيان بشعر ذي معنى جديد وسط هذا الكم الهائل من أبيات الفراق شيئا عسيرا:”
قال أسامة بن منقذ:
“شكا ألمَ الفراقِ الناسُ قبلي . . . . ورُوِّعَ بالنوى حيٌ وميتُ
وأمّا مِثْلُ ما ضَمَّتْ ضلوعي . . . . فإِني ما سَمِعْتُ ولا رَأَيْتُ”


و قال طارق المأمون:

كلهم ذاق الهوى لكنهم ...... ما رأوا مثل الذي في أضلعي
نبأت عني أساطير الهوى ........ فادعى كل محب موقعي

و وصف نصيب ابن رباح المحبين:

“ومافي الأرضِ أشْقَىْ من مُحِبٍّ . . . . وإِن وجدَ الهوى حلوَ المذاَقِ
فيبكي إِن نَأوا شوقاً إِليهم . . . . ويبكي إِن دَنَوا خوفَ الفراقِ
فتسخُنُ عينهُ عندَ التنائيْ . . . . وتسخنُ عينُه عند التلاقي”


و يكفي الشاعر أن يعبر تعبيرا جميلا صادقا يستجلب الصور و يحرك الكلمات و يثير المشاعر حتى و إن سبقته المعاني و فاتته الكلمات فإن تفنن و أتى بجديد يضاف الى القديم فذلك هو الشاعر الشاعر.

و الكلمات تخرج من فكر يعي ما يريد قوله : و الرجل ينادي راحلا لم يرحل بعد فهو راحل في قريب آت ، فلم اشتعال الفؤاد إذن و المثل الأمريكي يقول "لاتعبر الجسر قبل أن تبلغه" أي لا تعبره بخيالك فيروعك ما قد تلاقيه قبل أن تبلغه فيثنيك عن المسير ، و لك أن تتخيل الجسر الخشبي الممدود بين جبلين مشدودا بحبلين بينهما يتوزع الخشب كان يخشاه أصحاب المركبات لخطورة العبور عليه "إن كنت من هواة أفلام الكاوبوي الأمريكية سهل عليك الخيال ؛ و تفيد كلمة راحل الفعل المضارع الحاضر المزاول للرحيل الآن present continuance و تفيد نية المستقبل المستمرة كذلك ، انظر كيف قالها الله تعالى:

( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون و لا أنتم عابدون ما أعبد و لا أنا عابد ما عبدتم و لا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم و لي دين )


فعابدون الأولى ليست كالثانية فإحداهما تفيد الحاضر المستمر و الأخرى تفيد النية في المستقبل.
فهو يستدعيه أيا كان حاله ، أشعل الوجدان فرقته أهو خوف بَيْنٍ قادم أم ألم من فراقٍ جاثم:

حبيبي - غدًا - لا شكَّ فيـه مُـوَدّعُ ..... فواللهِ مـا أدري بـه كيـف أصنـعُ ؟
فيا يومُ - لا أدبرتَ - هل لك محبسٌ ؟ ...ويا غدُ - لا أقبلتَ - هل لك مدفـعُ ؟
إذا لـم أُشيّعْـهُ تقطّـعْـتُ حـسـرةً ........ وواكبدي ... إنْ كنتُ ممّـنْ يُشيّـعُ !


، ألم تثرك (تشعل الوجدان) بعلاقتها (بحما الصدر) في البيت الأول ، فالصدر كنانة الوجدان

فإنّي قَدْ سَرَرْتُ بِهِ فُؤادِي
ألَيسَ الحُبُّ مَكْنونَ الصُدُورِ


، أنظر الى (قضيت) التي تفيد بالحكم الحتمي واجب التنفيذ و(أبد) و اتساقها مع قضيت و أحكام القضاء ، و الأبد الدهر و أبد بالمكان أقام به و لم يبرحه و أبدت الوحش توحشت و التأبد التوحش .. أهي ضربة لازب إن اجتمعت المعاني في مراد الشاعر كلا بل هو الفكر ، (وطن) موعود بالأسى ما أضناه من وطن و أقساه من وعد و الوطن المنزل و المطان "الغاية" بكسر الميم و الموطن مشهد الحرب و الطنان سرعة القطع و شدته و توطين النفس تمهيدها

فقُلْتُ لها: يا عَزَّ، كلُّ مُصيبةٍ إذا وُطِّنتْ يوماً لها النَّفْسُ، ذَلَّتِ


لكأن الشاعر يمهد للأسى السريع القاطع في أعتى مشاهده بنفسه موطنا تسكن فيه ، و "جعلت" التي تفيد الماضي تصبح مستقبلا ب"يعد" و ليست "يعد" بالوعد البعيد ولكنه وعد كطنان السيف سريع القطع فالشاعر يعايش لحظة شعورية يمثلها الحاضر الماثل بين ماضي (جعلت) الشديد الوطء على النفس و مستقبل (يعد) الذي تغني شواهده عن مشاهده .

أحْبابَ قَلْبِيَ لِلأَيّامِ دائِرَةٌ
تطوي بنهب و سلبٍ كلما تجِدُ

أنتم غنائمُها تلك التي نهبَتْ
غصْباً فما ينجلي من بعدكم كَمَدُ

لهْفي على الأنس منكم يا ندى عُمُري
ما ذاق من مثله مُسْتأنِساً أحَدُ

هَلْ نستعيدُ أمانينا التي ذَهَبَتْ
أمْ تَنْتهي أمَلاً قد لا تطولُ يَدُ


هي دائرة الميل التي ذكرناها حين قلنا أن آخرها هو أولها .. فالطي ميل أدواته النهب و السلب و كذلك الأمل ميل.. و لولا الأمل ما اشتاقت نفس لنفس ، فالأمل هو الخيط الرابط بين تفاصيل الحياة المخيفة و صاحبها لولاه لابتلعته لجتها ، و لولاه ليئس المريض من حياة فلا يتداوى ولولاه لأعيا الضعيف الخوف فلا يتقاوى و لولاه لقتل الحزن المشتاق المفارق فلا يتشابى للقاء ، فكأن أمل الحياة الناهبة السالبة في غنائمها في صراع مع أمل العاشق الواهب المعطاء في حرصه و استبقائه ، بذينك تتغذا و تعيش و بذين يحيى و يريش و هما في صراع أبدي... لماذا ينظر المحبون الى الحياة هكذا ، هذا نزار قباني ..

أترى سيمهلنا الزمان كي .. نعود .. ونفترق؟
أترى تضيء لنا الشموع ومن .. ضياها .. نحترق
أخشى على الأمل الصغير أن .. يموت .. ويختنق
اليوم سرنا ننسج الأحلاما
وغدآ سيتركنا الزمان حطاما


غير أن إليا أبو ماضي له رأي آخر لربما أعان شاعرنا ومن شايعه فيالتغلب على الحظ المائل:

قال: السماء كئيبة، وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما
قال: الصبا ولّى فقلت له ابتسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
الى أن قال
قال: البشاشة ليس تسعد كائنا
يأتي إلى الدنيا ويذهب مرغما
قلت: ابتسم مادام بينك والردى
شبر فإنك بعد لن تتبسما


و للشاعر كما قلنا مصطلحه و قاموسه الناثر من فكره ، (تطوي) وليس تمضي أو تقضي كما قضت من قبل و لاتزوي ، فالطوي زوي للأمام و الزوي طي للخلف وفي الحديث: إن المسجدِ ليَنْزَوي من النُّخامة كما تَنْزَوي الجلدة في النار أَي ينضمُّ ويتقبَّضُ، ، فكأنها تجعل النهب و السلب أداتها في الطي ، حكى سيبويه: تَطَوَّى انْطِواءً؛ وأَنشد: وقد تَطَوَّيْتُ انطِواءَ الحِضْبِ .. و الحِضْبُ: ضربٌ من الحيات ، و ما طوي اندثر و غاب فلا عود بنشر و الطي ضد النشر ، و كأنها متأهبة لاقتناص فرصة و سانحة.
و الطوي من الإضمار و تبييت النية فما طوته خبأته عن الناس و نيتها الأذى و اقتناص فرص الإيقاع:

غـيـداءُ والأيـامُ جَـيـشٌ غـاشِـمٌ لا يُـثـنِـهِ عَـن غُـشْـمِـهِ الضُعفاءُ
تـحـتـالُ للإيــذاءِ حـتـى أنـّهـــا لــولا الأذَى مــا حَـسّها الأحْياءُ


و الشاعر كأنه يخفف على من يناديه بأحباب قلبي يظن ما به بهم ، يسري عنهم و عن نفسه يسري ، و هم نفسهم من نعتهم من قبل بالراحلين قافلا الباب عن أمل لقاء أو قرب رؤية هكذا سولت له نفسه ربما جزعا ، فحبة فراق العاشق قبة ، يؤكد هذا استعماله للكلمات الدالة على أبدية الفراق منها (و بُعْداً يَشتَهيه غَد،ُ و لا عزاء لنا في العمر ،عن حسرةٍ خلّفت ،جُرْحاً نَزْفُهُ أبَدُ ، فما ينجلي من بعدكم كَمَدُ ...)
و لقد عتبت على الشاعر الذي جعل محبوبه غنيمة الأيام

أنتم غنائمها تلك التي نهبت


و كنت أخال الشاعر جاعلا صفا العيش و الأنس بالمحبوب هو الغنيمة التي يفجع القلب فراقها ، و التي هي متحصلة بقربه و وصاله أي (المحبوب الراحل ) ، و منهوبة مسلوبة بهجره و شد رحاله ، و كما عاتبته من قبل (و لعل الفكر هو من حدا بالشاعر الى هذا اللحن الفكري وليس اللغوي أو المعنوي، فالحزن ليس مستقرا للأحاسيس كالقلب و الفؤاد و النفس و الروح) طالبا إضافة الحسرة الى مادي محسوس فإني أقول هنا أن جعل ما تطوي الأيام معنويا هذه المرة أجمل في نظري و ذائقتي .. و للشاعر رأيه الذي تخبئه طوية فكره ، ولعلي أعذره فلولا الحبيب المادي ما كان أنس و لا صفا عيش معنوي فالعلاقة لا تغني عن المتعلق به عند أهل الهوى...
و لي في بيت المتنبي شافع

بذا قضت الأيام ما بين أهلها.... مصائب قوم عند قوم فوائد


و المصائب كلها معنوية و إن تمادّت الفوائد في بعض معانيها.

و المعري

أَرى الأَيّامَ تَفعَلُ كُلَّ نُكرٍ
فَما أَنا في العَجائِبِ مُستَزيدُ


و المناكر كلها معنوية و إن تلبست المادي أو تلبسها.

و البارودي رغم حسية الموت التي تخالج معنويته..

تسيرُ بنا الأيامُ والموتُ موعدٌ...
وتدفعُنا الأرحامُ والأرضُ تَبلعُ


و لأنها دائرة الدنيا التي منتهاها مبتداها ما زال منها مراود يراود نفس المحب..

هَلْ نستعيدُ أمانينا التي ذَهَبَتْ
أمْ تَنْتهي أمَلاً قد لا تطولُ يَدُ


و إن (قد) التي في كبد العجز أبلغ في التمني و الرجاء من (هل) التي في صدر الصدر ، و من يقرأ الأبيات من أولها و حجم الحسرة التي رسمها الشاعر ، يخال الشاعر حاسما في أبدية الفراق ب(ما) بدلا من ( قد)

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما.... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا


بيد أن الفراق الأبدي لا يكون الجزم به إلا بالموت خاتمة الحياة فما دام نفس قائم و نفس راغم ففي العيش فسحة للقاء ، و كما نقول ( الحي بلاقي) فمن حق نفس المحب التعلق بسبب من الأمل لا ينقطع و إن كان أوهن من بيت العنكبوت ... و إن لم يكن في الدنيا فالأمل لا ينقطع باللقاء:

إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم ... في موقف الحشر نلقاكم و يكفينا




لعلي فتحت بابا لقراءة هذه الخريدة هي أهل لأن يفتح مستبقيا من الأبيات أربعة لمزايد يغلي من قيمتها... شاكرا أستاذي الكريم عبد الحق بن سالم على سعة صدره و على جمال حرفه و طيب محتده فإن راقت له فإني ناشرها كلها مجتمعة في مقال واحد ان شاء الله لمزيد من النقاش و ابداء الرأي فيها و في ما سطرته عنها. وها أنذا فعلت..






  رد مع اقتباس
/
قديم 08-05-2019, 12:30 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
طارق المأمون محمد
فريق العمل
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
السودان

الصورة الرمزية طارق المأمون محمد

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

طارق المأمون محمد متواجد حالياً


افتراضي رد: قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون

الشكر لك و لروحك الكريمة يا أخي جمال
ممتن لحضورك الدائم بصدق أخي الكريم و لنشاط و مثابرتك و إثرائك لا يكون هذا إلا من كريم غيداق.
بارك الله شهرك سيدي الفاضل و حفظك و زادك و أرضاك
رمضان كريم عليك تحياتي لكل أحبابك






  رد مع اقتباس
/
قديم 16-10-2019, 02:58 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
طارق المأمون محمد
فريق العمل
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
السودان

الصورة الرمزية طارق المأمون محمد

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

طارق المأمون محمد متواجد حالياً


افتراضي رد: قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون

لعلها تروي ظمأ متعطش لقراءة فنبعثها له






  رد مع اقتباس
/
قديم 24-10-2019, 05:24 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عبير محمد
الإدارة العليا
عضو تجمع الأدب والإبداع
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية عبير محمد

افتراضي رد: قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون

قراءة راقية
مغزولة بقلم واع
لقصيد فاره
يستحق هذه الرعاية وهذا الغوص في اعماقه.
بوركت جهودك شاعرنا القدير طارق المأمون
وحضورك المكلّل بالنور في كل اركان الفينيق.
تحية تليق
وكل الود والورد








"سأظل أنا كما أريد أن أكون ؛
نصف وزني" كبرياء " ؛ والنصف الآخر .. قصّـة لا يفهمها أحد ..!!"
  رد مع اقتباس
/
قديم 14-01-2020, 09:34 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
طارق المأمون محمد
فريق العمل
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
السودان

الصورة الرمزية طارق المأمون محمد

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

طارق المأمون محمد متواجد حالياً


افتراضي رد: قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون

لك الشكر كله أختي عبير على تذوقك الرائع و مرورك المحبب الى النفس






  رد مع اقتباس
/
قديم 14-08-2020, 05:06 AM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
طارق المأمون محمد
فريق العمل
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
السودان

الصورة الرمزية طارق المأمون محمد

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

طارق المأمون محمد متواجد حالياً


افتراضي رد: قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون

هل من قارئ نبعثها له






  رد مع اقتباس
/
قديم 21-09-2020, 05:07 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
أحلام المصري
الإدارة العليا
شجرة الدرّ
عضو لجنة تحكيم مسابقات الأكاديمية
عضوة تجمع أدباء الرسالة
تحمل صولجان الومضة الحكائية 2013
تحمل أوسمة الاكاديمية للابداع والعطاء
مصر

الصورة الرمزية أحلام المصري

افتراضي رد: قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طارق المأمون محمد مشاهدة المشاركة
هديل الغياب
حَما بِصَدْرِكَ وَجْدٌ لَيْسَ يَبتردُ
وَ باحَ سِرَّكَ دمع منكَ يَطّرِدُ

وَ حلَّ لحظَكَ سُهْدٌ لا انْتِهاءَ لَهُ
وَ زادَ بَرْحَكَ حظٌّ مالَ يَبْتَعِدُ

هَذا هَديلُ فِراقٍ ناح مُشْتَكِياً
بَرْدَ الغِيابِ و بُعْداً يَشتَهيه غَدُ

نَقْراً عَلى دفّة الإحساسِ حَلَّ أسىً
كَيْفَ السَّبيلُ لِمَنْ يُصْغي و يَتّقِدُ

هبَّ اشتياقي و عاد القلبَ يسأله
عن حسرةٍ خلّفت في الحزْنِ ما أجِدُ

و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ

يا راحِلا تشْعَلُ الوجدانَ فُرْقَتُه
قضيتَ للقلب جُرْحاً نَزْفُهُ أبَدُ

جعلت للسهد و الأحزان بي وطنا
بكل ما في الأسى من لوعة يَعِدُ

أحْبابَ قَلْبِيَ لِلأَيّامِ دائِرَةٌ
تطوي بنهب و سلبٍ كلما تجِدُ

أنتم غنائمُها تلك التي نهبَتْ
غصْباً فما ينجلي من بعدكم كَمَدُ

لهْفي على الأنس منكم يا ندى عُمُري
ما ذاق من مثله مُسْتأنِساً أحَدُ

هَلْ نستعيدُ أمانينا التي ذَهَبَتْ
أمْ تَنْتهي أمَلاً قد لا تطولُ يَدُ

زَمان وَصْلٍ روى الإحساسَ مِنْ دَعَةٍ
كَأنَّهُ في ندى أيامِهِ رَغَدُ

مَضى كطرفة لحظٍ تارِكاً أثَراً
مِنْ داعيات الهوى يفنى بِهِ كَبِدُ

حَديثُ سِرّي وَ جَهْري وَ انْتِظارُ غَدي
هَلْ يُسْعِفُ الرّوحَ مِنْ إمْدادِهِ مَدَدُ

ذِكْرى تُهَيِّجُ بي ما أشعَلَتْ حُرَقي
هَذا وَ ما يَنْتَهي مِنْ ذِكْرِها خَلَدُ

(على البسيط)


الفكر الذي في القصيدة غلب العاطفة و إن كانت العاطفة هي سبب القصيدة و مضمارها و لا أدري أهذا يحسب لها أم عليها ؟و لكني أرى اجتهاد مفكر حركه قلبه فطاوعته القافية. و الشواهد كثيرة. منها:


حَما بِصَدْرِكَ وَجْدٌ لَيْسَ يَبتردُ
وَ باحَ سِرَّكَ دمع منكَ يَطّرِدُ

وَ حلَّ لحظَكَ سُهْدٌ لا انْتِهاءَ لَهُ
وَ زادَ بَرْحَكَ حظٌّ مالَ يَبْتَعِدُ


حما بصدرك أي احتر ، و الوجد عهده الإحترار و الحميان ، و اطراد الدمع تتابع سيلانه و الدموع خلقها فضح هوى صاحبها ، و من بغيها أنها لا تفضح غير الهوى ، فكل ما سواه مباح معلن سواء أعلنت عنه أم كتمته و بعض وجد القلوب مندوب الدموع ، و العرب يخفون هواهم خوفا على من يحبونه و على أنفسهم إلا القارح المقدام ؛ و الخطاب من الشاعر لنفسه يلومها أو يعزيها أو يندب حظها و لا ت ساعة مندم أو معزى، و التُّؤدةُ بمعنى التأَنِّي في الأَمر فأَصلها وُأَدَةٌ مثل التُّكَأَةِ أَصلها وُكَأَةٌ فقلبت الواو تاء؛ ومنه يقال: اتَّئدْ يا فتى، وقد اتَّأَدَ يَتَّئِدُ اتَّئاداً إِذا تَأَنَّى في الأَمر هكذا في لسان العرب؛ و أجدني أخالف أستاذي محمد ثمار الذي أشار ب (ليس يبترد) بدلا من (ليس يتئد) على الشاعر (أردت ب " ليس يتّئد " أنّه مستعجل في إحماء الصّدر برأيي لو استعملت " ليس يبترد " لكان أنسب..) ، كما قبلها شاعرنا بصدر رحب جميل ، أقول (ليس يبترد) لا أراها أضافت جديدا ، فإن بداية صدر البيت أكدت هذا الحميان و نهايته أكدت اضطراده و دوامه ، ولعل أستاذي و أخي "محمد ثمار" أراد بها أنه لا يفتر أي "حميان الصدر" فيبرد بل يزيد مضطردا و التاء في يبترد امعان في ابتراد ليس يفعله ، و الزيادة في الحرف تزكي الزيادة في الوصف و نفيها بمقدار وصفها . و لكن "ليس يتئد" في رأيي تعطي معانى الإستمرارية و السرعة و الموران أكثر من المقابلة بليس يبترد فالأولى كسبت قوتها من إقدامها و الثانية تقوّت بإحجامها و الإقدام أقوى من الإحجام ، و هو ما عنيت به الفكر الذي صاحب كتابة البيت هنا ، فإن كاتبها اختار مفردته بعناية بحيث تعطي شيئا جديدا يضاف الى البيت.
و قد أكد معناه عجز البيت الثاني حين قال

و زاد برحك حظ مال يبتعد


فالزيادة تؤكد عدم الإتئاد و يبتعد تفيد نفس المراد.
و كلمة مال رغم عامية استخدامها فإنها تشير الى عدم توافق مع المأمول و الميل حيود عن التمام ، و هو في ميلانه يبتعد ، والرياضي يعلم أن شدة الميلان تبتعد حتى تقترب ، فتعيد الوضع الى أصله عند اكتمال الميل فإن أبعد ميل عن الصفر هو عند الزاوية 360 درجة و التي تطابق الصفر نفسه ، وليت قيس ليلى علمها لما قال لمن جاءه بخبرها :إن حب ليلى أغناني عن ليلى .... و لو ذهن لها شاعرنا لما شكى ابتعاد ميل الحظ و لكن الصبر عند الصدمة الأولى و أنى لها من قلب عاشق موجود.

هَذا هَديلُ فِراقٍ ناح مُشْتَكِياً
بَرْدَ الغِيابِ و بُعْداً يَشتَهيه غَدُ


و لقد تحيرت أول أمري من الهديل في مكان العويل و من البرد في موقع الاحترار و قد نصَّ الجاحظ: " هَدَلَ يهدِل هديلًا. فإذا طرَّب، قيل غرّد يغرِّدُ تغريدًا."
و العرب اشتقت اسم الحَمام من الحميم و هو القريب الأودُ ، و الشاعر جعل الهديل صوت الفراق وهو العدو الألدُ ، غير أن العرب ذاتها كانت تحرك صوت اليمام و الحمام لاستدرار الشجو على الفراق لما في صوتها من شجن لا تخطئه أذن فهذا ابوفراس :

أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَة *** أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذَ الهوى ماذقتِ طارقة َ النوى*** وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ
لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة ً*** وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!


و قال البندنيجي

ناحت مطوَّقة بباب الطاق *** فجرت سوابقُ دمعيَ المِهراق
حنَّت إلى أرض الحجاز بحرقة *** تُشجي فؤادَ الهائم المشتاق
تعس الفراق وجذَّ حبل وتينه *** وسقاه من سمِّ الأساود ساقي
بي مثلُ ما بك يا حمامة فاسألي *** من فكّ أسرَك أن يفكَّ وثاقي


و الأساود جمع الأسود مفرده و هو ثعبان عظيم يسميه الهنود "الكوبرا" و يسميه بعض سكان بادياتنا في السودان "كرو كرو" ، و من عجب أن أهالي البادية ينجون من لدغاتها فلا يموتون إلا قليلا ، منهم أما غيرهم من غير سكانها فيموت من لدغتها إلا قليلا منهم ، بيد أنها تخشى فتهرب من مكان وجوده فمن شكى الثعابين في فنائه فعليه بالسنانير .

و الشبلي

رُبَّ وَرقاءَ هتوفٍ في الضُحى *** ذاتِ شَجوٍ صَدَحت في فَنَنِ
ذكرتْ إِلفًا ودهرًا صالحًا *** فبكت حُزنًا وهاجت حَزَني
أتراها بالبكا مولعةً *** أم سقاها البَينُ ما جرّعني


و قد انتبه شوقي لهذا فسخره في قصيدته فقال:

يمامتان في الحجاز حلتا على فنن
الى أن وصل
هب جنة الخلد اليمن لا شيء يعدل الوطن.

و ما هو إلا ما قاله البندنيجي:

إن الحمائم لم تزل بحنينها *** قِدْمًا تبكّي أعين العشاق


و السؤال نسوقه بعيد قليل على لسان المعري لعل شاعرنا يشفي لنا غليلا إن أجاب عليه ، و لكننا نتساءل قبله لم وصف الشاعر الغياب بالبرد و هو يشتكي حمو الصدر و اشتعاله ؟
و أجيب عنه بأنه الفكر الذي عنيته ، فإن الغياب كائن منعزل عن الشاعر و عاطفته ، أصابه البرد أي الغياب مما حدا بأن يوقد المراجل في قلب الشاعر الولهان ، فهي علاقة مطردة تتناسب و حالة الغياب يزيد الغياب بردا فيزيد قلب الشاعر اضطراما ولظى ، ترى ألو قيل "برد الحضور" أيهما أوقع للمعنى أو "فيح الغياب" أو قيظه مثلا فالحضور بارد كالميت و الغياب حاضر فهو متقد كاتقاد قلب الشاعر ؟؟ ليت من قرأها يشاركنا الرأي ، و للشاعر أن يحتج ألم يقل ابن الدمينة قبلا يصف صبا نجد البارد بأنه من يحمي عليه شوقه و يزيده كما زاد برد الغياب غليان الوجد في قلب شاعرنا.

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجداً على وجد


و الفكر يتجلى في البيت الذي يلي هديل القمري الموجع ليشرح لنا :

نَقْراً عَلى دفّة الإحساسِ حَلَّ أسىً
كَيْفَ السَّبيلُ لِمَنْ يُصْغي و يَتّقِ
دُ

و لماذا يصغي إن كان يتقد وليجب ابن عبد ربه الاندلسي هذه المرة عنه و عن قبيل الشعراء:

وإن ارتياحي من بكاء حمامةٍ *** كذي شجنٍ داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت *** حزينٌ بكى من رحمة لحزين.

و يبقى سؤال المعري الذي أجلناه يطرق باب فكر شاعرنا و فكر كل شاعر يستنطق الحمام أن يجيب عليه..

أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد


ومن طريف اختلاف العرب اختلافهم في الفرق بين الحمام و اليمام فمن قائل يقول بوحشية الأولى و أنسية الثانية ، و قائل يعكس ذلك ، و قائل يجعل الفارق طوقها على عنقها ، فذات الطوق حمامة و الأخرى يمامة و قولَ الشَّافعيِّ "المشهورُ أنَّ اسم الحمام يقع على كلِّ ما عبَّ وهدَرَ، فمنه صِغارٌ وكبارٌ، ويدخل فيه اليمامُ -وهي الّتي تألف البيوت- والقُمْرِيُّ والفاختةُ والدَّاس والفاسُ والقطا..." و قال: "الطَّائِرُ صِنْفانِ: حَمامٌ وَغَيْرُ حَمامٍ، فَما كانَ مِنْهُ حَمامًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَفِدْيَةُ الحَمَامَةِ مِنْهُ شَاةٌ" يريد فِدْيةُ قتل الحمامة في الحرَم.
و الجوهري جعل الدواجن التي تستفرخ كلها حماما.. و الخلاف صفحت فيه الكتب لمن أراده ، و الشيء بالشيء يذكر

هبَّ اشتياقي و عاد القلبَ يسأله
عن حسرةٍ خلّفت في الحزْنِ ما أجِدُ

و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ


و هل ينام شوق أو يخلد لراحة ، لولا أن الشاعر يصف لحظة ذات خصوصية زاد فيها الشوق وما كان ناقصا و حما و ما كان باردا و هب ما كان راقدا ، فاضطرب القلب بعد أن مضى مع من مضى ، ليعاود الشوقَ القلبُ مرارا و يسائله لعله أعلم عن هذه الحسرة و ما أجمل صورة الشوق المذهول الواقف المتحفز لسؤال لا يعرف جوابه و القلب العائد من وداع حبيب و الجمال يزداد حين يلح التسآل في ذهن المتلقي ما الذي فرق الشوق عن قلبه الذي يسكنه لعلها اللوعة و الحزن و الحسرة ، و الفكر يجذب الكلمات جذبا فعاد كلمة مختارة بعناية كما حرف الواو الذي يفيد تكرار العودة ، فالعودة ليست واحدة بل عودات فتزداد الصورة جمالا لقلب لا يكاد يصدق أن المحبوب قد فارق أرضه ودياره فيذهب ليتأكد ثم يعود ليسأل ثم يعاود الذهاب و الحضور بين مصدق ومكذب ، هكذا يقول حرف الواو كما قال حرف التاء في تلفت قلب الشريف الرضي :

و تلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب


و لعل الفكر هو من حدا بالشاعر الى هذا اللحن الفكري وليس اللغوي أو المعنوي، فالحزن ليس مستقرا للأحاسيس كالقلب و الفؤاد و النفس و الروح ، فالحزن حاسة معنوية بعينه ، و أخال الشاعر المفكر استثقل تكرار كلمة القلب أو أراد أن يزيد الحزن ضغطا و ألما وجدانيا بإضافة الحسرة إليه ، وهو ما لم يستسغه تذوقي بل فكري ، ترى لو تم تغيير هذه الكلمة الى الروح أو النفس أو ما يكون وعاء حسيا يحتمل إضافة الحسرة المعنوية إليه أيكون أحلى أم أن الحاضر حاضر الهادي آدم :

وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلواً .. إنما الحاضر أحلى


و قال يُخْبِرهُ: هاجتْ عيون النوى
و لا عزاء لنا في العمر يُلتَحَدُ

ما أجمل يلتحد هنا و أبلغها ، و أجمل منها هيجان عيون النوى ففيضها كالسيل الجارف بالهجران بعد الوصال و بالبعد بعد القرب..

بكلٍ تداوينا فلم يشفِ ما بنا على أن قُربَ الدار خير من البعدِ
على أنّ قَرْبَ الدارِ ليس بنافعٍ إذا كان من تهواهُ ليس بذي عهدِ


(و قال يخبره) هي الحسرة إذن ، و هل الحسرة إلا سمر القلب و الشوق في غياب الحبيب

نقّل فؤادَك حيثُ شئتَ مِن الهَوى ما الحبُ إلا للحبيبِ الأولِ


أو هي الحسرة و العمر قد ولت أيامه لا كأيام صاحبة محمد سعيد العباسي المقبلة :

وقد سلا القلب عن سلمى و جارتها .... وربما كنت أدعوه فيعصينى
ما عذر مثلي لاستسلامه لهوى..... يا حالة النقص ما بى حاجة بينى
ما أنس لا أنس إذ جاءت تعاتبني ..... فتانة اللحظ ذات الحاجب النون
يا بنت عشرين و الأيام مقبلة..... ماذا تريدين من موعود خمسين؟
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوىلا.... أطيعه ، وحديث ذو أفانين


و لا عزاء لنا ، فيا حالة النقص ما بي حاجة بيني أي فارقيني و البين و البينونة الفراق ،و حالة النقص إن لم تروض النفس على هجرها تملكتها

والنفسُ من خيرِها في خيرِ عافيةٍ....والنفسُ من شَرِّها في مرتع وخم

وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فكن طالباً في الناس أعلى المراتب.

وإذا كانت النفوس كبارا... تعبت في مرادها الأجسام.


و لات حين سامع ، فالعمر لم يعد فيه متسع و ما أجمل كلمة يلتحد و الملتحد الملجأ تجدها في قول الله تعالى:


(ولن أَجِدَ من دُونه مُلْتَحَداً إِلا بلاغاً من اللهِ ورِسالاتِه )


أم ترى الشاعر أراد أنه لو أمضى العمر كله يبحث عن ملجأ يحتمي به من الحسرة و الحزن لما وجد ، و ما ذلك إلا من هول ما يجد ، و المعنيان جليلان جديران بالإعتبار.

يا راحِلا تشْعَلُ الوجدانَ فُرْقَتُه
قضيتَ للقلب جُرْحاً نَزْفُهُ أبَدُ


جعلت للسهد و الأحزان بي وطنا
بكل ما في الأسى من لوعة يَعِدُ


و هنا يطل السبب الذي لم يكن خافيا إنه فراق الحبيب الذي ارتحل وما أشد وقع الفراق على القلوب المحبة ، و يحل ذكر الفراق و الهجر و النوى و البين مرتبة مقدمة في شعر المحبين ، و هل الحب إلا لوعة فراق أو حرقة بين أو زفرة هجر ... يقول المنفلوطي : " وما تفجرتْ ينابيعُ الخيالاتِ الشعرية ، والتصوراتِ الفنية ، إلا من صدوعِ القلوب الكسيرة ، والأفئدة الحزينة " . مما يجعل الإتيان بشعر ذي معنى جديد وسط هذا الكم الهائل من أبيات الفراق شيئا عسيرا:”
قال أسامة بن منقذ:
“شكا ألمَ الفراقِ الناسُ قبلي . . . . ورُوِّعَ بالنوى حيٌ وميتُ
وأمّا مِثْلُ ما ضَمَّتْ ضلوعي . . . . فإِني ما سَمِعْتُ ولا رَأَيْتُ”


و قال طارق المأمون:

كلهم ذاق الهوى لكنهم ...... ما رأوا مثل الذي في أضلعي
نبأت عني أساطير الهوى ........ فادعى كل محب موقعي

و وصف نصيب ابن رباح المحبين:

“ومافي الأرضِ أشْقَىْ من مُحِبٍّ . . . . وإِن وجدَ الهوى حلوَ المذاَقِ
فيبكي إِن نَأوا شوقاً إِليهم . . . . ويبكي إِن دَنَوا خوفَ الفراقِ
فتسخُنُ عينهُ عندَ التنائيْ . . . . وتسخنُ عينُه عند التلاقي”


و يكفي الشاعر أن يعبر تعبيرا جميلا صادقا يستجلب الصور و يحرك الكلمات و يثير المشاعر حتى و إن سبقته المعاني و فاتته الكلمات فإن تفنن و أتى بجديد يضاف الى القديم فذلك هو الشاعر الشاعر.

و الكلمات تخرج من فكر يعي ما يريد قوله : و الرجل ينادي راحلا لم يرحل بعد فهو راحل في قريب آت ، فلم اشتعال الفؤاد إذن و المثل الأمريكي يقول "لاتعبر الجسر قبل أن تبلغه" أي لا تعبره بخيالك فيروعك ما قد تلاقيه قبل أن تبلغه فيثنيك عن المسير ، و لك أن تتخيل الجسر الخشبي الممدود بين جبلين مشدودا بحبلين بينهما يتوزع الخشب كان يخشاه أصحاب المركبات لخطورة العبور عليه "إن كنت من هواة أفلام الكاوبوي الأمريكية سهل عليك الخيال ؛ و تفيد كلمة راحل الفعل المضارع الحاضر المزاول للرحيل الآن present continuance و تفيد نية المستقبل المستمرة كذلك ، انظر كيف قالها الله تعالى:

( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون و لا أنتم عابدون ما أعبد و لا أنا عابد ما عبدتم و لا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم و لي دين )


فعابدون الأولى ليست كالثانية فإحداهما تفيد الحاضر المستمر و الأخرى تفيد النية في المستقبل.
فهو يستدعيه أيا كان حاله ، أشعل الوجدان فرقته أهو خوف بَيْنٍ قادم أم ألم من فراقٍ جاثم:

حبيبي - غدًا - لا شكَّ فيـه مُـوَدّعُ ..... فواللهِ مـا أدري بـه كيـف أصنـعُ ؟
فيا يومُ - لا أدبرتَ - هل لك محبسٌ ؟ ...ويا غدُ - لا أقبلتَ - هل لك مدفـعُ ؟
إذا لـم أُشيّعْـهُ تقطّـعْـتُ حـسـرةً ........ وواكبدي ... إنْ كنتُ ممّـنْ يُشيّـعُ !


، ألم تثرك (تشعل الوجدان) بعلاقتها (بحما الصدر) في البيت الأول ، فالصدر كنانة الوجدان

فإنّي قَدْ سَرَرْتُ بِهِ فُؤادِي
ألَيسَ الحُبُّ مَكْنونَ الصُدُورِ


، أنظر الى (قضيت) التي تفيد بالحكم الحتمي واجب التنفيذ و(أبد) و اتساقها مع قضيت و أحكام القضاء ، و الأبد الدهر و أبد بالمكان أقام به و لم يبرحه و أبدت الوحش توحشت و التأبد التوحش .. أهي ضربة لازب إن اجتمعت المعاني في مراد الشاعر كلا بل هو الفكر ، (وطن) موعود بالأسى ما أضناه من وطن و أقساه من وعد و الوطن المنزل و المطان "الغاية" بكسر الميم و الموطن مشهد الحرب و الطنان سرعة القطع و شدته و توطين النفس تمهيدها

فقُلْتُ لها: يا عَزَّ، كلُّ مُصيبةٍ إذا وُطِّنتْ يوماً لها النَّفْسُ، ذَلَّتِ


لكأن الشاعر يمهد للأسى السريع القاطع في أعتى مشاهده بنفسه موطنا تسكن فيه ، و "جعلت" التي تفيد الماضي تصبح مستقبلا ب"يعد" و ليست "يعد" بالوعد البعيد ولكنه وعد كطنان السيف سريع القطع فالشاعر يعايش لحظة شعورية يمثلها الحاضر الماثل بين ماضي (جعلت) الشديد الوطء على النفس و مستقبل (يعد) الذي تغني شواهده عن مشاهده .

أحْبابَ قَلْبِيَ لِلأَيّامِ دائِرَةٌ
تطوي بنهب و سلبٍ كلما تجِدُ

أنتم غنائمُها تلك التي نهبَتْ
غصْباً فما ينجلي من بعدكم كَمَدُ

لهْفي على الأنس منكم يا ندى عُمُري
ما ذاق من مثله مُسْتأنِساً أحَدُ

هَلْ نستعيدُ أمانينا التي ذَهَبَتْ
أمْ تَنْتهي أمَلاً قد لا تطولُ يَدُ


هي دائرة الميل التي ذكرناها حين قلنا أن آخرها هو أولها .. فالطي ميل أدواته النهب و السلب و كذلك الأمل ميل.. و لولا الأمل ما اشتاقت نفس لنفس ، فالأمل هو الخيط الرابط بين تفاصيل الحياة المخيفة و صاحبها لولاه لابتلعته لجتها ، و لولاه ليئس المريض من حياة فلا يتداوى ولولاه لأعيا الضعيف الخوف فلا يتقاوى و لولاه لقتل الحزن المشتاق المفارق فلا يتشابى للقاء ، فكأن أمل الحياة الناهبة السالبة في غنائمها في صراع مع أمل العاشق الواهب المعطاء في حرصه و استبقائه ، بذينك تتغذا و تعيش و بذين يحيى و يريش و هما في صراع أبدي... لماذا ينظر المحبون الى الحياة هكذا ، هذا نزار قباني ..

أترى سيمهلنا الزمان كي .. نعود .. ونفترق؟
أترى تضيء لنا الشموع ومن .. ضياها .. نحترق
أخشى على الأمل الصغير أن .. يموت .. ويختنق
اليوم سرنا ننسج الأحلاما
وغدآ سيتركنا الزمان حطاما


غير أن إليا أبو ماضي له رأي آخر لربما أعان شاعرنا ومن شايعه فيالتغلب على الحظ المائل:

قال: السماء كئيبة، وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما
قال: الصبا ولّى فقلت له ابتسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
الى أن قال
قال: البشاشة ليس تسعد كائنا
يأتي إلى الدنيا ويذهب مرغما
قلت: ابتسم مادام بينك والردى
شبر فإنك بعد لن تتبسما


و للشاعر كما قلنا مصطلحه و قاموسه الناثر من فكره ، (تطوي) وليس تمضي أو تقضي كما قضت من قبل و لاتزوي ، فالطوي زوي للأمام و الزوي طي للخلف وفي الحديث: إن المسجدِ ليَنْزَوي من النُّخامة كما تَنْزَوي الجلدة في النار أَي ينضمُّ ويتقبَّضُ، ، فكأنها تجعل النهب و السلب أداتها في الطي ، حكى سيبويه: تَطَوَّى انْطِواءً؛ وأَنشد: وقد تَطَوَّيْتُ انطِواءَ الحِضْبِ .. و الحِضْبُ: ضربٌ من الحيات ، و ما طوي اندثر و غاب فلا عود بنشر و الطي ضد النشر ، و كأنها متأهبة لاقتناص فرصة و سانحة.
و الطوي من الإضمار و تبييت النية فما طوته خبأته عن الناس و نيتها الأذى و اقتناص فرص الإيقاع:

غـيـداءُ والأيـامُ جَـيـشٌ غـاشِـمٌ لا يُـثـنِـهِ عَـن غُـشْـمِـهِ الضُعفاءُ
تـحـتـالُ للإيــذاءِ حـتـى أنـّهـــا لــولا الأذَى مــا حَـسّها الأحْياءُ


و الشاعر كأنه يخفف على من يناديه بأحباب قلبي يظن ما به بهم ، يسري عنهم و عن نفسه يسري ، و هم نفسهم من نعتهم من قبل بالراحلين قافلا الباب عن أمل لقاء أو قرب رؤية هكذا سولت له نفسه ربما جزعا ، فحبة فراق العاشق قبة ، يؤكد هذا استعماله للكلمات الدالة على أبدية الفراق منها (و بُعْداً يَشتَهيه غَد،ُ و لا عزاء لنا في العمر ،عن حسرةٍ خلّفت ،جُرْحاً نَزْفُهُ أبَدُ ، فما ينجلي من بعدكم كَمَدُ ...)
و لقد عتبت على الشاعر الذي جعل محبوبه غنيمة الأيام

أنتم غنائمها تلك التي نهبت


و كنت أخال الشاعر جاعلا صفا العيش و الأنس بالمحبوب هو الغنيمة التي يفجع القلب فراقها ، و التي هي متحصلة بقربه و وصاله أي (المحبوب الراحل ) ، و منهوبة مسلوبة بهجره و شد رحاله ، و كما عاتبته من قبل (و لعل الفكر هو من حدا بالشاعر الى هذا اللحن الفكري وليس اللغوي أو المعنوي، فالحزن ليس مستقرا للأحاسيس كالقلب و الفؤاد و النفس و الروح) طالبا إضافة الحسرة الى مادي محسوس فإني أقول هنا أن جعل ما تطوي الأيام معنويا هذه المرة أجمل في نظري و ذائقتي .. و للشاعر رأيه الذي تخبئه طوية فكره ، ولعلي أعذره فلولا الحبيب المادي ما كان أنس و لا صفا عيش معنوي فالعلاقة لا تغني عن المتعلق به عند أهل الهوى...
و لي في بيت المتنبي شافع

بذا قضت الأيام ما بين أهلها.... مصائب قوم عند قوم فوائد


و المصائب كلها معنوية و إن تمادّت الفوائد في بعض معانيها.

و المعري

أَرى الأَيّامَ تَفعَلُ كُلَّ نُكرٍ
فَما أَنا في العَجائِبِ مُستَزيدُ


و المناكر كلها معنوية و إن تلبست المادي أو تلبسها.

و البارودي رغم حسية الموت التي تخالج معنويته..

تسيرُ بنا الأيامُ والموتُ موعدٌ...
وتدفعُنا الأرحامُ والأرضُ تَبلعُ


و لأنها دائرة الدنيا التي منتهاها مبتداها ما زال منها مراود يراود نفس المحب..

هَلْ نستعيدُ أمانينا التي ذَهَبَتْ
أمْ تَنْتهي أمَلاً قد لا تطولُ يَدُ


و إن (قد) التي في كبد العجز أبلغ في التمني و الرجاء من (هل) التي في صدر الصدر ، و من يقرأ الأبيات من أولها و حجم الحسرة التي رسمها الشاعر ، يخال الشاعر حاسما في أبدية الفراق ب(ما) بدلا من ( قد)

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما.... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا


بيد أن الفراق الأبدي لا يكون الجزم به إلا بالموت خاتمة الحياة فما دام نفس قائم و نفس راغم ففي العيش فسحة للقاء ، و كما نقول ( الحي بلاقي) فمن حق نفس المحب التعلق بسبب من الأمل لا ينقطع و إن كان أوهن من بيت العنكبوت ... و إن لم يكن في الدنيا فالأمل لا ينقطع باللقاء:

إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم ... في موقف الحشر نلقاكم و يكفينا




لعلي فتحت بابا لقراءة هذه الخريدة هي أهل لأن يفتح مستبقيا من الأبيات أربعة لمزايد يغلي من قيمتها... شاكرا أستاذي الكريم عبد الحق بن سالم على سعة صدره و على جمال حرفه و طيب محتده فإن راقت له فإني ناشرها كلها مجتمعة في مقال واحد ان شاء الله لمزيد من النقاش و ابداء الرأي فيها و في ما سطرته عنها. وها أنذا فعلت..
قراءة موسوعية..و مرجعية في آن

تليق بالقصيدة و تليق بك أخي الكريم طارق

شكرا على الإثراء

احترامي






،، أنـــ الأحلام ـــــا ،،

  رد مع اقتباس
/
قديم 22-09-2020, 05:51 AM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
طارق المأمون محمد
فريق العمل
يحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
السودان

الصورة الرمزية طارق المأمون محمد

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

طارق المأمون محمد متواجد حالياً


افتراضي رد: قراءة لقصيدة "هديل الغياب" للشاعر عبدالحق بن سالم / طارق المأمون

وشكرا لك على الحضور وللمرور شرفت به والله






  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:59 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط