الفينيق مفدي زكريا به يليق الضوء ،، / زياد السعودي - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :عبدالماجد موسى)       :: رفيف (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: الزمن الأخير (آخر رد :حسين محسن الياس)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :أحلام المصري)       :: لغة الضاد (آخر رد :عدنان عبد النبي البلداوي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: لنصرة الأقصى ،، لنصرة غزة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: السير في ظل الجدار (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إجراءات فريق العمل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: بــــــــــــلا عُنْوَان / على مدار النبض 💓 (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إخــفاق (آخر رد :محمد داود العونه)       :: جبلة (آخر رد :محمد داود العونه)       :: تعـديل (آخر رد :محمد داود العونه)       :: إنه أنـــــــا .. (آخر رد :الفرحان بوعزة)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > 🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘

🌿 فينيقيو بيــــديا ⋘ موسوعات .. بجهود فينيقية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16-06-2012, 09:59 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
زياد السعودي
الإدارة العليا
مدير عام دار العنقاء للنشر والتوزيع
رئيس التجمع العربي للأدب والإبداع
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو رابطة الكتاب الاردنيين
عضو الهيئة التاسيسية للمنظمة العربية للاعلام الثقافي الالكتروني
الاردن

الصورة الرمزية زياد السعودي

افتراضي الفينيق مفدي زكريا به يليق الضوء ،، / زياد السعودي



سلام الله
نستميح روح
الشاعر الجزائري الثوري مفدي زكريا العذر



لنضعه تحت الضوء
فبمثله يليق الضوء



مفدي زكريا 1908-1977 شاعر الثورة الجزائرية
ومؤلف النشيد الوطني الجزائري
عراب ملحمة الشعب الجزائري الخالدة.


نبذة عن حياته
ــــــــــــــــــــــــــــ

هو الشيخ زكرياء بن سليمان بن يحيى بن الشيخ سليمان بن الحاج عيسى، و قد ولد يوم الجمعة 12 جمادى الأولى 1326 هـ، الموافق لـ 12جوان 1908م، ببني يزقن، أحد القصور السبع لوادي مزاب، بغرداية، في جنوب الجزائر من عائلة تعود أصولها من مدينة البيض وبالظبط من مدينة الأبيض سيدي الشيخ

لقبه زميل البعثة الميزابية والدراسة الفرقد سليمان بوجناح بـ: "مفدي"، فأصبح لقبه الأدبي مفدي زكريا الذي اشتهر به كما كان يوَقَّع أشعاره "ابن تومرت"، حيث بداء حياته التعلمية في الكتاب بمسقط رأسه فحصل على شيء من علوم الدين واللغة ثم رحل إلى تونس وأكمل دراسته بالمدرسة الخلدونية ثم الزيتونية وعاد بعد ذالك إلى الوطن وكانت له مشاركة فعالة في الحركة الأدبية والسياسية ولما قامت الثورة إنضم إليها بفكره وقلمه فكان شاعر الثورة الذي يردد أنشيدها وعضوا في جبهة التحرير مما جعل فرنسا تزج به في السجن مرات متوالية ثم فر منه سنة 1959 فأرسلته الجبهة خارج الحدود فجال في العالم العربي وعرف بالثورة وافته المنية بتونس سنة 1977 ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه فكان هو شاعر الثورة.





مؤلفاته وانتاجه الادبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1. تحت ظلال الزيتون (ديوان شعر) صدرت طبعته الأولى عام 1965م.
2. اللهب المقدس (ديوان شعر) صدر في الجزائر عام 1983م صدرت طبعته الأولى في عام 1973م.
3. من وحي الأطلس (ديوان شعر).
4. إلياذة الجزائر (ديوان شعر) وقد كانت الغاية من هذا العمل هو كتابة التاريخ الجزائري وازالة ما علق به من شوائب وتزييفات، وقد اشترك في وضع المقاطع التاريخية كل من مفدي زكريا الذي كان متواجد بالمغرب ومولود قاسم نايت بلقاسم الذي كان بالجزائر إضافة إلى عثمان الكعاك المتواجد حينها في تونس. وتتكون الإلياذة من ألف بيت وبيت تغنت بأمجاد الجزائر، حضارتها ومقاوماتها لمختلف المستعمرين المتتاليين عليها وكانت أول مرة يلقي الإلياذة أو البعض منها لأتها حينها لم تكن قد بلغت الألف بيت بل كانت تبلغ ستمائة وعشرة أبيات ألقاها في افتتاح الملتقى السادس للفكر الإسلامي في قاعة المؤتمرات من قصر الأمم أمام جمع غفير من بينهم الرئيس هواري بومدين، مناسبة أخرى اقترنت بإلقاء هذه الأبيات واختيار التاريخ موضوعا لها، وهي الاحتفال بالعيد العاشر لاسترجاع الحرية والذكرى الألفية لتأسيس مدينة الجزائر والمدية ومليانة على يد بلكين بن زيري.

له عدد من دواوين الشعر لا زالت مخطوطة تنتظر من يقوم بإحيائها.
له عدد اخر من الدواوين بالامازيغية لم تنشر




مستويات الموت في شعر مفدي زكريا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ورقة قدمت في الملتقى المغاربي للشعر بالجاحظية- الجزائر.
الدكتور حسين فيلالي- جامعة بشار- الجزائر.

فلسفة الموت:
يـعد الموت مـن القضايـا التـي شغـلت بال الإنسـان منـد القـدم، و جعلتـه يطـرح عـلى نفسـه أسئلـة كثـيرا مـا كـان يقـف عاجـزا عـن الإجابـة عنهـا إجابة قاطعـة، أين نذهب بعـد المـوت؟
هـل المـوت نهاية مسيـرة الإنسـان ؟
هـل فعـل المـوت يقـع عـلى الروح أم عـلى الجسـد أم عليهـما معـا ؟
هـل هنـاك حيـاة ثانيـة بعـد المـوت ؟
إن الإجابـة عـن هـذه الأسئلـة ظلـت و ما تزال متباينـة تبايـن الثقافـات و المعتقـدات.ففي حين يرى البعض أن الإنسان إذ ما مات انتهت مسيرته وتحول إلى تراب ، يرى البعض الآخر أن الموت ما هي إلى بداية حياة أخرى ،أبدية، لا عمل فيها، و إنما هي محصلة للحياة الأولى. أما اعتقاد آخر فيرى أن الإنسان إذا ما مات انتقلت روحه إلى كائن آجر، بمعنى أن فناء الجسد يجعل الروح تستبدله بآخر. إن ما يزيد في استحالة الإجابة عن السؤال إجابة مادية، ملموسة هو أن الإنسان الحي لم يعش تجربة الموت تجربة ذاتية مما حـذا "بباسكال " "pascal إلى القول:" إنـي فـي حالـة جهـل تـام بكـل شـئ، و كـل مـا أعرفـه هـو لابـد أن أمـوت يومـا مـا، و لكننـي أجهـل كـل الجهـل هـذا المـوت الذي لا أستطيـع تجنبـه "
و رغـم جهـل الإنسـان لفعـل المـوت ،فإنـه يظـل يحـس وقـعه، و يستشعـر آلامـه، و يصطـلي بناره مـن خـلال تجـربـة الآخـر الحبـيب/ العـزيز/ القريـب.
إن قارئ • شعـر مفـدي زكريـا، وخاصـة مـا جـاء فـي ديـوان اللهـب المقـدس تستوقفـه ظاهـرة جديـرة بالتسجيـل و توقـف الدارس عندهـا.
هـذه الظاهـرة تتجـلى فـي رؤيـة الشـاعـر للمـوت و الحيـاة، و في كيفيـة بنائـه للثنائيـة الضديـة: المـوت /الحيـاة.
إن كلمـة المـوت فـي نصـوص الشـاعـر تتعدى معناهـا البيولوجـي الضيـق ( أي توقـف نشـاط الخلايا الحيـة ) لتصبـح عـلامة لغويـة حـرة تتعدد دلالتهـا بتعدد ورودهـا فـي سيـاق النـص الشعـري، فالمـوت فـي شعـر مفـدي زكريـا كما لا حظنا يتمظهـر فـي مستويـات ثلاث.
مـوت الوطـن /حيـاة الوطـن:
ففي قصيدته التي أصبحت نشيدا للدولة الجزائرية نقرأ:
قسمــا بالنـازلات الماحقــات
و الدمـاء الزاكيـات الطاهـرات
نحـن ثرنـا فحيــاة أو ممـات
و عقدنـا العـزم أن تحيـا الجـزائـر
و بالرغـم مـن أن الشاعـر يقابـل لفظيا بيـن الحيـاة و الممـات إلا أنـه يتـرك اللفظتيـن تشعـان بمعـان يؤكدهـا السيـاق ، فليـس الموت هـنا مـا يقـابـل الحيـاة بالمعـنى اللغـوي للكلمتيـن ، و ليـس الحياة المعنيـة هنـا هـي حيـاة الجسـد .
إن المـوت الذي يتحدث عنـه الشـاعـر في هذا المقطوعة الشعرية يأخذ بعدا دلاليـا آخـر مخالفـا للمـوت الذي يحدث بهدم البنيـة، أو بأخذ الروح. فالمـوت الذي يعنـيه الشـاعر هنـا هـو المـوت الحضـاري، أي مـوت الوطـن، أو حيـاة الوطـن ككيـان بشـري لـه خصوصياتـه المتميـزة، و لهـذا استعمـل الشـاعر ضميـر الـ: نحن فـي الشـطر الأول مـن البيـت الثانـي: نحـن ثرنـا فحـياة أو ممـات..
و حدد في الشطر الثاني المخصوص بهذه الحياة:
.....و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر
هـذا المخصـوص الذي يتردد ذكـره عـلى شكـل لازمـة أربعـة مـرات فـي القصيدة، يـؤكـد القضيـة المركـزية للشاعـر المتمثـلة فـي التضحيـة بالنفـس من أجـل حيـاة الوطـن .
مـوت الجسـد /حيـاة الوطـن:
وأقض يامـوت في ما أنـت قاض
أنا راض إن عـاش شعبـي سعيـدا
يفتتـح الشاعـر البيـت بفعـل أمـر « وأقض يا موت" والأمـر يكـون عـادة مـن آمـر إلـى مأمـور أقـل مـنه مرتبـة، ينتظـر مـنه تطبـق أوامـره، غـير أن المتأمل لهـذا الأمـر يجـده يتضمـن نـوعا من الاستسلام للمأمـور،و الـرضـوخ لـه عـن طواعيـة. و نلتمـس أيضـا فـي هـذا الأمـر نـوعا من الاطمئنـان، و الرضا المشروطـين بتحـقيق هـدف نبيـل، يتمثـل فـي توفـير حيـاة جديدة للوطـن. فالمـوت هنـا يأخذ بعـدا دلاليـا عميقـا، و يتحـول إلـى حيـاة.
فزبانـة الذي يتحـدث الشاعـر باسمـه ،لـم يكـن ينظـر إلـى الحيـاة في بعدهـا الضيـق، و لـم تكـن تهمـه حيـاة الأشخـاص كأشخـاص طبيعيـين، و إنمـا كان يحمـل مـعه هـم حيـاة الوطـن كشخـص اعتباري بلغـة – القانـون الدستـوري- و بالتالـي هانـت عنـده التضحيـة بالنفـس من أجـل استمـرار حياة الشخـص الاعتباري، الذي هـو الوطـن الجزائـري.
و مـا يـؤكـد ما أذهـب إليـه مـن زعـم قـول الشاعـر:
أنـا إن مـت فالجـزائـر تحـيا
حـرة مستقلـة لـن تبيـدا
فالأنـا الفـردي للبطـل"زبانة" يضحـى مـن أجـل استمـرار حيـاة الأنـا الجماعـي "الوطن".
و يتجـلى إيمان البطـل بهذه التضحية، و رسـوخ هـذه القناعـة لديه فـي استعماله أداة " لن " التـي ينفـي بهـا الإبادة عـن الوطـن فـي الحاضـر، و يمتـد فعلهـا إلى المستقبـل:
أنـا إن مـت فالجـزائـر تحـيا
حــرة مستقيلــة لــن تبيـدا
و يمكن لنا أن نستخلص من هذا البيت ثنائية جديدة يمكن تسميتها ب:
موت الشخص الطبيعي/حياة الشخص الاعتباري.
وهكذا نكون أمام حياة يميل منحناها إلى التناقص، و يتجه نحو الانعدام هي حياة البطل (الشهيد زبانة)في مقابل حياة أخرى يستمر منحناها في التصاعد، و يطمح إلى الديمومة هي حياة الوطن المفدى بالروح. فكلما سقط شخص من الأشخاص الطبيعيين إلا و كان ذلك بمثابة إضافة لبنة جديدة في بناء صرح الشخص الاعتباري"الوطن"، و ضمان ديمومة الحياة الحرة لديه.

- الذبيح /الصاعد

ثنائية موت الجسد/خلود الروح.
قام يختال كالمسيح وئيدا
يتهادى نشوان يتلو النشيدا
باسم الثغر كالملائك أو كالط...
فل يستقبل الصباح الجديدا
شامخا أنفه جلالا و تيها
رافعا رأسه يناجي الخلودا
رافلا في خلاخل زغردت تم...
لأ من لحنها الفضاء البعيدا
يبدأ الشاعر قصيدته بفعل" قام " هذا الفعل الذي يدل على القيام الإرادي، « ويدل على حركة الجسم الذاتية غير الملاقية لغيرها".
و يتبع الشاعر فعل قام بأفعال، و أوصاف ترسم للمتلقي الجو النفسي للموصوف "زبانة" قام يختال"يتهادى نشوان" "باسم الثغر"، يستقبل الصباح الجديدا"، شامخا أنفه"، «يناجي الخلودا"، " رافلا في خلاخل"..
و لا نكاد نجزم أننا حقيقة في عرس، و أن الموكب سينتهي بنا إلى مكان حددناه، و رسمنا أبعاده في الذهن حتى يصدمنا الشاعر بصورة تحطم كل ما بنيناه من رؤى، و أفكار عن القصيدة:
و امتطى مذبح البطولة مع
راجا و وافى السماء يرجو المز يدا
فنرجع نبحث عن مفاتيح جديدة للولوج إلى دهاليز النص الشعري، بدءا بعنوان القصيدة:الذبيح/ الصاعد، ووقوفا عند الجملة الشعرية "" امتطى مذبح البطولة" و من الجملة تنمو علاقات هرمية تتشابك بها سائر عناصر النص لتكون دلالاته الكلية".
إن هذه الجملة ترتسم أمامنا أسئلة عديدة، وتتشابك عندها خيوط كثيرة، فنضطر إلى دخول النص الشعري برؤيا جديدة، تتجاوز القراءة الحرفية "و القراءة الحرفية هي قراءة أهل الظاهر وهم المتمسكون بحرفية النص، الممسكون عن التفسير و التأويل "
هذه الرؤيا الجديدة تجعلنا ندرك أننا أمام نص محجب ليس ما يظهره هي بالضرورة معانيه الوحيدة.
و الدارس الجاد يجب ألا يرضى بما هو جلي، ومكتشف من المعاني،بل عليه أن يلج عوالم النص المجهولة، ذلك أن (النص بحد ذاته بما هو ظاهر مرفوع، وبما هو بعيد وقصي خاصة الشعري منه، التباس وليس كل ظاهر نص غايته وان كان يدل عليها لذلك كان التحليل تتبعا واستقصاء متأنيا لهدا الدال و مدلولات.) .
إن على الدارس أن يسعى إلى اصطياد المعاني الشاردة كما يقول المتنبي .و أن يتعلم فن تتبع أثر المعاني، يقصها، في تأني، و صبر حتى يظفر بما يريد.
و حتى يكتسب عمل الدارس صفة القراءة الجديدة المتأنية ،فإن عليه أن يكتشف من الأثر، ما لم يرد له صاحبه أن يكشف، أو أضرب صاحبه عن البوح به ما لم ينخرط القارئ في لعبة الأدب.
لعبة الأدب هي إذن الإنفراد بالنص، محاورته، استفزازه، و استدراجه للبوح بما أخفاه، و عماه كاتبه من المعاني، فتحقق اللعبة هذه التمتع بالنص، و إمتاع القاري.
و التمتع يتحقق باكتشاف طبقات جديدة لم يصلها التنقيب من قبل، و الوصول إلى مناطق كانت مجهولة من النص، و فتح أبواب،و نوافذ ظلت مغلقة قبل هذه القراءة.
إن نص الذبيح الصاعد رغم بنية شكله التقليدية الخليلة• لا ينقاد بسهولة للقارئ ،ويظل يتمنع عن كل قراءة استهلاكية لا تدخل في مغامرة مع الدال•( بل انه غالبا ما يقاومها بأشكال شتى بدءا من الانغلاق، ووصولا إلى المراوغة، والمفارقة بين الظاهر، والباطن والمعلن والكامن من أهم أوجه هذه المقاومة، وأكثر أصالة، غير إن النص في انغلاقه يشير إلى مفاتيحه، والمسارب ،المداخل المؤدية إلى باحاته، وأعماقه، وفي مراوغته يومئ إلى النواحي أو الاتجاهات، والوجهات التي تتيح التمكن منه و أخذه).
ثنائية سكون / حركة:
إن بنية قصيدة الذبيح الصاعد في انغلاقاتها على القراءة الحرفية تشير ضمنيا إلى مفاتيحها، والمسارب المؤدية إلى باحاتها، فقراءة الجملة الشعرية الذبيح/ الصاعد المتصدرة للقصيدة قراءة حرفية تولد لدينا نوعا من التوتر على مستوى التصور بقلبها للثنائية حركة/سكون التي ينبني عليها الكون، وتحويلها إلى ثنائية عكسية جديدة تكسر المنطق العقلي سكون/حركة، ذبيح /صاعد، وتكسر معها الميثاق الشعري الذي يربطها ببنية القصيدة التقليدية التي غالبا ما تعتمد على وضوح الصورة الشعرية (وأدوات رسوم الصورة الشعرية حسب ما أورد بعض البلاغيين والأسلوبيين يمكن ردها إلى مايلي: التشبيه/الاستعارة/ الرمز).
هذا القلق المعرفي الذي يخلقه لنا عنوان القصيدة الذبيح/الصاعد بقلبه للمنطق العقلي يجعلنا نحتار في تصنيفها، إن كانت ضربا من الاستعارة ،أو التشبيه، أو الرمز، ويدفعنا هذا القلق إلى الاستنجاد بمستوى آخر من مستويات التفسير، والتأويل هوا لمستوى ألحلمي (فاللغة تتجاوز الحس ، والعقل معا ، تتحرك كما يتحرك الحلم، وهنا يكون الخطاب الشعري في الواقع خطابا غير عادي وغير مألوف، ففي قصيدة الحلم يتجلى الإبداع في اللغة، ففي هذا المستوى يتجاوز الخطاب وصف الأشياء كما هي في حدودها الواقعية، ويتجاوز التركيب الذي يستند إلى المقاييس العقلية، والنسب المنطقية، ففي قصيدة الحلم، لا نطرح التساؤل عن العلاقات الممكنة، وغير الممكنة، وإنما نتتبع الصورة وهي تنمو في القصيدة ،نموا تلقائيا من غير أن نعتمد على الموازنات، والتشبيهات بين الأشياء...إن الصورة تنمو باستمرار إلى أن تصل إلى حدود الرمز، أو إلى حدود الأسطورة."
فالصورة الشعرية في نص مفدي زكريا بلغت بالفعل حدود الرمز ذبيح/صاعد، وأظهرت براعة الشاعر في ابتكار صورة شعرية جديدة.
ورغم الابتكار، والجدة التي تمتاز بها هذه الصورة الشعرية المتفردة في القصيدة بمحاولتها الجمع بين متنافرين ذبيح/صاعد إلى أن إرجاعها إلى المستوى الحلمي، واتخاذه منطلقا لتحليل النص الشعري"الذبيح الصاعد" لا يحل الإشكالية، بل يظل القلق المعرفي قائما، يلاحقنا، يعترينا كلما عثرنا على أمارات(دلائل) خلال رحلتنا عبر خارطة النص الشعري" كالمسيح، كالكليم، كالروح..."
هذه الأمارات تجعلنا نهتدي إلى أننا أمام استعارة قائمة على علاقة المشابهة "وليس تغيير المعني بالطبع عملا مجانيا، إذ يوجد بين المدلول الأول، والثاني علاقة مغايرة، ونحن بهذا التغيير ننتج أنواعا مختلفة من المجازات. إذا كانت العلاقة هي المشابهة نكون بصدد الاستعارة..."
ويمكنا أن نقوم بمحاولة رصد الدلالات المتخفية وراء هذه الصورة الشعرية من خلال البحث عن مستوياتها الدلالية:
الذبيح/ الصاعد
المستوى الأول:
المستوى هذا يظهر عدم مطابقة الوصف للموصوف، ذلك أن العلاقة بين الذبح الذي هو توقيف للحركة، وبين الصعود الذي هو استمرار للحركة تبقى متنافرة.
المستوى الثاني:نحاول فيه الانتقال بالتحليل إلى مستوى آخر أعمق فنلجأ إلى التأويل الذي لا يكتفي بما هو ظاهر لعلنا نقف على تفسير لهذه المفارقة(ذبيح/صاعد) و التي تتصدر القصيدة، و التي نعتبرها النواة الدلالية الكبرى التي تتفرع عنها جميع الدلالات الأخرى.
إن القراءة التأويلية تجعنا نكتشف أننا أمام وجود استعارة تاريخية قديمة(صلب المسيح)•وإسقاطها على لحظة تاريخية معاصرة (إعدام الشهيد زبانة) .
أن قراءة هذه الصورة "الذبيح الصاعد" تبقى مقبولة إذا أخذناها على مرجعية دينية إسلامية، لأن المسيح عليه السلام من المنظور الإسلامي لم يصلب، بل رفعه الله إلى السماء، وزبانة لم يقتل ،لأن الشهداء لا يموتون ،بل يظلون أحياء عند ربهم يرزقون. وعلى هذا ف" إن الاقتصار على المعنى الأول يجعل الكلمة منافرة بينما تستعيد هذه الملاءمة بفضل المعنى الثاني، الاستعارة تتدخل لأجل نفي الانزياح المترتب على هذه المنافرة ".
إن الاستعارة في «الذبيح الصاعد " تظل غامضة لأنها اقرب إلى « حقيقة الذات » الشاعرة » منه إلى « حقيقة الموضوع17. »
هذه الحقيقة التي لا يمكن إدراك كنهها دون العودة إلى القصيدة للبحث عن دليل• نهتدي به ونحن ندخل دهاليز القصيدة، ونبحر عبر متاهاتها، فنقرأ في البيت الأول من القصيدة
قام يختال كالمسيح وئيدا
يتهادى نشوان يتلو النشيد
هذا الدليل الشارد "المسيح" يستوقفنا وجوده في النص الشعري فيحيلنا على مرجعية دينية، نفسية تاريخية، وندرك أننا بإزاء استعارة من نوع خاص.
إن هذه الاستعارة يجب ألا نفهمها على أن الشاعر يشبه بطل قصيدته "زبانة " الإنسان العادي بالمسيح النبي الرسول، وبالتالي يصبح من الصعب تقبل هذه الاستعارة على الأقل من المنظور العقائدي، لأننا نكون أمام تنافر كلي بين المشبه "زبانة " وبين المشبه به "المسيح " أي إحلال "زبانة "محل الأنبياء، والرسل، وإنما يجب أن نفهم أن ما فعله الشاعر لا يعدو كونه استعارة لحظة تاريخية، وموقف (حالة نفسية ) .
فالمسيح عليه السلام لم يفرغ عندما حاولوا صلبه، لإيمانه أنه على حق ،وان الله سينصره ، كما أن زبانة لم يفزع عندما سيق إلى المقصلة لإيمانه أنه يسير في طريق الشهادة ،وان الله وعد الشهداء الجنة، ولن يخلف وعده.
إن الشاعر ينطق من رؤية تؤطرها خلفية دينية، وفكرية إسلامية تؤمن بالآية الكريمة ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) . فالمسيح عليه السلام لم يصلب بل رفعه الله إليه (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ) .
وكذلك "زبانة " لم يمت في نظر الشاعر، وإنما تم هدم البنية فقط أي الجانب المادي من الجسم، في حين صعدت روحه إلى خالقها لتجزى الجزاء الأوفى، إيمانا منه بالآية الكريمة ( ولا تحسبن الدين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) .
فالفرنسيون توهموا خطأ قتل "زبانة "كما توهم من قبل المسيحيون صلب عيسى عليه السلام.
زعموا قتله وما صلبوه ليس في الخالدين عيسى الوحيدا
لفه جبرائيل تحت جناحي... ه إلى المنتهى رضيا شهيدا
فعيسى في الاعتقاد المسيحي صلب .
وفي اعتقاد الشاعر رفع الله إلى السماء.
وزبانة في الاعتقاد الفرنسي قتل.
وفي اعتقاد الشاعر صعدت روحه إلى السماء للحياة الأبدية.
هذه الاستعارة التاريخية ستتوضح أكثر عبر مسار القصيدة، خاصة ونحن نقف عند الجملة الشعرية "امتطى مذبح البطولة ".هذا الفعل "امتطى " الذي يشعرنا بحدوث تغيير على مستوى الفعل بالانتقال من حركة سابقة هي حركة المسير "يختال، وئيدا، يتهادى "، إلى حركة لاحقة، مغايرة ،هي حركة الركوب والقفز الإراديين(امتطى مذبح البطولات). وتشعرنا الحركة الثانية المتولدة عن المذبح بحدوث ميل (ووافى السماء)، وانحراف على مستوى حركة الفاعل حيث يعرج البطل من المذبح إلى السماء، و(تعبر أفعال هذه المجموعة...يعرج...عن الانحناء، والميل، وقد يكون ذلك في جسد الفاعل، أو في مسار حركته).
هذه النقلة التي حدثت على مستوى الفعل، وكسرت خطية الحدث لم يصاحبها تغيير في مستوى الزمن النفسي لدى البطل "زبانة " أي الانتقال من حالة الإحساس بالفرح الذي ترسمه ظلال الصورة الشعرية في الموقف الأول "رافلا في خلال.." إلى حالة الإحساس بالحزن في الموقف الثاني " امتطى مذبح البطولة.."وهو ما يجعلنا نعيد النظر في رؤيتنا للمكان الذي سبق وأن رسمناه في الذهن، وتتحول وجهة البطل عكس ما اعتقدناه من قبل، أي من السير في موكب الفرح (العرس ) "رافلا في خلاخل زغردت.."
إلى السير في موكب الحزن (المأتم )، والامتطاء الإرادي للمذبح.
هذه العلاقة "المذبح " تجعلنا نستجمع حقلا دلاليا نرمز إليه بألف ويتكون من:
المذبح
الذبيح
اصلبوني
اشنقوني
هذا الحقل الدلالي الذي يمكن أن نسميه بالمأتم و يتكون من إشارات لغوية يدل ظاهرها على الفناء، والسكون، والحزن في مقابل حقل دلالي آخر سبق و أن استجمعنا بعض عناصره من قبل ونرمز إليه بباء:
يختال
نشوان
يتهادى
باسم
هذا الحقل الدلالي باء نطلق عليه" العرس" و يتكون من دلائل لغوية تدل في مظهرها على الاحتفال، و ترسم ظلالها جوا من الفرح.
و يمكننا أن نقترح قراءة لفضاء القصيدة بمحاولتنا الموازنة بين الحقلين الدلاليين ألف، و باء على النحو التالي:
إن القراءة السطحية تظهر أن العلاقة بين الحقلين الدلالين ألف، و باء متنافرة تنافر جو المأتم، و جو العرس، بل أن العلاقة بينهما تمثل مجموعة خالية بلغة الرياضيين، بينما القراءة الباطنية تظهر لنا أن الحقل الدلالي ألف يشترك مع الحقل الدلالي باء في نقطة تعتبر نواة الدلالة في الحقلين وهي الفرح، غير أنه لا يمكن إدراك هذه العلاقة إلا بالعودة إلى البنية الاحالية لنص الذبيح الصاعد و القيام بمحاولة رصد الدلالات المتخفية وراء الكلمات، من خلال البحث عن مستوياتها الدلالية المتضمنة في السياق اللغوي للقصيدة.
القراءة الحرفية للحقلين الدلاليين ألف، و باء:
الحقل الدلا لي ألف الحقل الدلالي باء
المذبح يختال
الذبيح باسم
اصلبوني نشوان
اشنقوني يتهادى
و هكذا فإن العلاقة بين الحقلين تبدو في الظاهر منعدمة بينما هي في الباطن تشترك في نقطة جوهرية وهي العرس و الفرح، فالحزن الظاهري يتحول في القراءة الثانية إلى فرح ،و يتحول المأتم إلى عرس، و الموت إلى حياة أبدية، لأن الشهيد في الفكر الإسلامي يزف إلى الجنة كما يزف العريس إلى عروسه.
حركية القصيدة
ثنائية التصاعد/ التنازل
إن المتأمل لحركية النص الشعري "الذبيح الصاعد" يجدها تلائم نفسية البطل ورؤية للكون والإنسان والحياة.
و على هذا الرؤيا الشعرية المستند إلى مرجعية ثقافية خاصة يمكن قراءة حركة البطل وهو يخترق الأمكنة، فنلاحظ أن الحركة تصاعدت لا تتوقف عند محطة الذبح (الموت )وإنما تظل مستمرة تصاعدية إلى ما لا نهاية، بحيث تبدو على مستوى التصور العادي الظاهري غير منطقية، مما يجعلنا نضطر للاستنجاد بمستوى آخر من مستويات القراءة، والتأويل لتحديد الحيز الغيبي المتخفي وراء السماء و الذي يقصده الشاعر في هذا البيت:
"ووافي السماء يرجو المز يدا "
بنية الحيز
مصطلح الحيز:
لعل من ابرز المشكلات التي تواجه الباحث العربي في الوقت الراهن ،إشكالية نقل، وترجمة المصطلح من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ولعل هذه المشكلات تكون أكثر تعقيدا حين تتعلق بنقل وترجمة المصطلح النقدي والالسني الأجنبي.
ولعل جمود حركة الترجمة في الوطن العربي، وانكماش دور مجامع اللغة العربية، وعجزها عن متابعة مسار التطورات العلمية، والمعرفية التي يشهدها العالم هي التي جعلت الباحث العربي يلجا إلى اجتهادات فردية كثيرا ما تكون غير دقيقة.
هده الاجتهادات الفردية بدلا من أن تثري مصطلحات اللغة العربية ساهمت في خلق إشكالية جديدة ،لا تقل خطورتها عن خطورة غياب المصطلح نفسه، فقد ألفيا المصطلح الأجنبي الواحد ينقل إلى اللغة العربية بأسماء متعددة تبلغ أحيانا حد التضارب، حتى أنها – في الكثير من الحيان -توقع القارئ العربي في حيرة، وتدخله في متاهات "والحق أننا نصطدم بالاختلاف والتضارب في اصطناع المصطلحات النقدية والألسنية بين المشرق، و المغرب من وجهة،وبين أي ناقد، وناقد عربي ،أو بين السني عربي آخر من وجهة أخرى ،فهده الآلاف المؤلفة من المفاهيم المستحدثة في الكتابات النقدية، والألسنية ، و السيميائية في الغرب لا تزال تثير في أنفسنا من الهم ما تثير من أجل العثور على ما يقابلها من مصطلحات ملائمة في اللغة العربية، ومن هذه المصطلحات لفظEspace » " « الذي ألفينا معظم النقاد في المشرق (كمال أبو ديب عبد الله الغدامي _ وفي المغرب أيضا يترجمونه إلى الفضاء ) .
وقد وجدنا ماهر عبد القادر محمد علي في كتابه مشكلات الفلسفة يترجم لفظ ( Space (بالمكان وعبارة Space Absolute بالمكان المطلق رغم أن إضافة كلمة Absolute للفظ Space تجعل المعنى الحقيقي ينصرف إلى الفضاء المطلق لان من صفة المكان التحديد ومن صفة الفضاء الاتحديدية.
ولعل عمل عبد المالك مرتاض في اصطناع، ونقل المصطلح- حسب رأينا- تبقى من التجارب الرائدة في الوطن العربي كونها تتحرى الدقة، وتراعي أصول، وقواعد الترجمة العلمية، فهو يأتي إلى المصطلح الأجنبي يقلبه على كافة أوجهه المختلفة (الدلالية_ الاشتقاقية _الأتمولوجية ) حتى إذا خبر أصله ،وعرف أصله، تخير له ما يقابله و يلائمه في اللغة العربية.
فقد ألفيناه يترجم لفظ "Espace " إلى الحيز ،ويفرق بينه وبين المجال ،والمكان، والفضاء "إنا نميز بين المجال و المكان والفضاء و الحيز الذي أثرناه بالاستعمال من بين هذه المصطلحات كلها للياقته في رأينا لمفهوم الحركة الاتجاهية ،والخطية والطولية والعرضية معا، سواء علينا أكانت هذه الحركة أفقية أم عمودية أم مائلة أم أي شيء آخر ،وسواء أكانت تجري في فراغ حقا أم كانت حركة تحدث على نحو ما من التصور في ذهن الشخصية أو مدلول النص المطروح للتشريح ،إن المكان يعني الجغرافيا ،وإن الفضاء يعني الأجواء العليا لا سيادة لأي بلد فيها ،والفضاء يعني الفراغ بالضرورة أما المجال فقد يعني الحيز الأعلى الذي يقوم فوق وطن ما. بينما الحيز في تصورنا واستعمالنا الذي دأبنا عليه قادر على أن يشمل كل ذلك بحيث يكون اتجاها، وبعدا، ومجالا، وفضاء، وجوار وفراغ، وامتلاء، وخطا في أي شكل من أشكاله الهندسية
الكثيرة. "
فالحيز يصبح بهذا المعنى الذي يورده عبد الملك مرتاض، ونتبناه في هذه الدراسة أشمل من مصطلح المكان،والفضاء، فهو قد يكون حيزا متخيلا يرسمه الخيال الشعري وتجسده الصورة الشعرية
أو ترسمه صور الكلمات.
بنية الحيز في الذبيح/ الصاعد
الحيز المحدد المعالم:
إذا كان المذبح في الاستعمال العادي للغة يوحي بالفناء، وانعدام الحركة والتحول من حالة الحياة،إلى حالة الموت، فإن الشاعر قد أضفى على هذه الكلمة "العلامة " بعدا دلاليا أخرجها من الاستعمال العادي للغة ،وحولها إلى إشارة حرة.
( البيت الأول من القصيدة )
قام يختال كالمسيح وئيدا
يتهادى نشوان يتلو النشيدا (1)
( البيت الثاني من القصيدة )
وامتطى مذبح البطولة معر
اجا و وافى السماء يرجوا المز يدا
الحيز اللآمتناهي
ثنائية الأرض/ السماء
وامتطى مذبح البطولة معر
اجا و وافي السماء يرجو المز يدا
إن بطل "الذبيح الصاعد "لا يعرف التوقف عند
مكان محدد ينطلق من الأرض، ويظل يخترق الأمكنة بحثا عن المكان الذي يوفر له الاستقرار الأبدي، فيبدأ باختراق "المذبح " هذا المكان المحدد بأبعاده المعرفية "المفصلة " الدال على الفناء و انعدام الحركة، يتحول إلى مكان عبور لا تتوقف عنده الحياة، ويتم اختراقه أيضا إلى حيز آخر غير محدد الأبعاد "السماء " .
إن الحيز اللآمتناهي " السماء " يتم اختراقه أيضا من طرف البطل هذا الحيز الأخير نجهل عنه كل شيء ، نجهل موقعه ،أبعاده يمكن أن نسميه الحيز الغيبي.
ويتناص بيت مفدي زكريا
وامتطى..........
ووافى السماء يرجو المزيدا
في الرؤيا مع بيت الشاعر النابغة الجعدي
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا
فالنابغة الجعدي عندما سأله الرسول محمد عليه الصلاة والسلام
وقد انشد الشاعر بين يدي رسول الله هدا البيت قال رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى أين يا نابغة ؟
قال إلى الجنة .
فضحك الرسول عليه الصلاة والسلام وقال إلى الجنة إن شاء الله ،واعتقد لو قدر الله للشاعر مفدي زكريا أن يعود إلى الحياة وسألناه عن قوله
"ووافى السماء يرجو المزيدا "
لكان جوابه مطابقا لجواب النابغة يؤكد ما نذهب إليه قول مفدي زكريا
زعموا قتله...... وما صلبوه
ليس في الخالدين عيسى الوحيد
فالخلود توحي بالمكان الغيبي أي الدار الآخرة لان من صفة هذه الأخيرة الخلود أي يخلد فيها الإنسان أما في الجنة وإما في النار .
إن التناقض في قصيدة الذبيح الصاعد لا يقتصر على بيت النابغة الجعدي وإنما هناك بنيات نصية متنوعة (دينية_ تاريخية _ تراثية _ ) تفاعلت وانصهرت في نص الذبيح الصاعد ،لان كل نص بشري هو في الحقيقة تناص كما تقول جوليا كريستيفا julai Kristeva .
ويذهب أمبراطو إيكو إلى أن التناص هو "تحويل وتمثيل عدة نصوص يقوم بها نص مركزي يحتفظ بريادة المعنى "
فكل نص حسب كريستيفا Kristeva وإ يكوEco
إذن هو عبارة عن تراكمات، وتفاعلات، وتحولات نصية، إنه محصلة لقراءات نصوص سابقة قد تختفي معالمها أو تظهر على خريطة النص الجديد المنجز ، وهذا يجعل من العسير على القارئ العادي القبض على هويتها وتحديد كينونتها إذ فعل التناص يشتغل في الواقع على لعبة الخفاء والتجلي ، " لكن ذكاء القارئ وثقافته الواسعة تجعلانه يضع يده على التناص بين النصوص " .



القيمة المعيارية في شعر مفدي زكريا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الدكتور وليد مشوّح

بين القيمة والمعيار:

يطرح الناقد العربي الفلسطيني يوسف سامي اليوسف في كتابه القيّم الموسوم بـ (القيمة والمعيار)، مجموعة من الأسئلة جاعلاً منها مدخلاً لصناعة معيار يروز على أساسه القيمة الأدبية والنفسية للنص الشعري، ومن هذه الأسئلة: لماذا كان الشعر ظاهرة رافقت الإنسان منذ ما قبل التاريخ حتى اليوم؟ ولماذا كان المسرود جذاباً لجميع أصناف البشر، وفي جميع الأماكن والأزمان؟... ما هي المعايير التي يمكن للمرء أن يستند إليها في تحديد قيمة النصوص الأدبية. أو في فك الاشتباك بين جيّدها ورديئها؟ وهل في الميسور أن نغرس المعيار خارج تربة النفس، أي خارج محتوياتها الماهوية الكبرى؟...

ثم لئن ميز المرء بين وعي الثمالة ووعي الدلالة، ولئن ألحق بالمملكة الأولى وحدَها؛ فهل يبقى هنالك منهج لمقاربته، سوى منهج التوسم، أو التذوق والتمتع؟...

وهل النقد الأدبي فكر أو ذوق؛ أم هو مزيج من الشيئين معاً؟ أليس من شأن المناهج التحليلية السائدة أن تسيء إلى جلاله وقدره الرفيع؟ أم تراها تحسن صنعاً إذ تسبر أغواره وتنير أسراره وتكشفه أمام الوعي حقاً؟....

ولعل مسألة القيمة، ومعيار القيمة أن تكون واحدة من أبرز القضايا الأدبية وأحقها بالبحث والتنظير، إذ أن العقل البشري معياريٌ بطبعه، أي بحكم ماهيته نفسها، فهو لا يقبل من الأشياء إلا ما كان ذا قيمة وحسب، ولا ريب في أن نزعته المعيارية آيةٌ على حرارته وحيويته وخصوبة نشاطه، ومع ذلك، فما من أحد في هذا الجيل الراهن قد حاول أن يحدد أية منظومة من المعايير، بغية الاستعانة بها في تحديد القيمة.

ففي الحق أن كل نص أدبي هو استحضار لصباغ عصره، أو لما يستتب في ذلك العصر من ماهية، وهذا يتضمن ما فحواه أن النص البكر لا ينتجه إلا عصر بكر، أو طور تاريخي، لم يرضخ بعد لشيخوخة الروح. وفي صلب الحق أن عصرنا الراهن لم تعد له أية بكارة مهما تك نسبتها، ولهذا فلست أحسبه شديد القدرة على إنتاج الكثير من الأدب الأصيل.

وإن نحن أردنا تحديد أهمية النص فقمين بنا أن نعلّقه على حوامل عدة، مثل الحامل التاريخي، الحامل الاجتماعي، الحامل الثقافي، الحامل السياسي، الحامل الاقتصادي، شريطة أن يكون لهذه الحوامل كلها محور أساس، هو الحامل الأكبر والأهم وأعني به الحامل الغائي.

وهو الذي يحدد ـ بدوره ـ تفرد النص، وخصوصية الشخصية التي أنتجته وفرادتها، وكيفية وماهية الجرعة الوجدانية في الذات المتلقية..

إذن، فالشعر يحمل قيماً مؤثرة، ولكي تكون مؤثرة؛ يجب أن تؤدي وظيفتها في تحقيق الغائية، وهذه القيم ذات الغائيات المعيارية تشمل: القيمة الإنسانية، والقيمة الوطنية، والقيمة القومية، والقيمة اللغوية، والقيمة النفسية، والقيمة الإيقاعية، والقيمة الدينية، فتتكاتف هذه القيم بتكاملية كلية لتشكل القيمة الجمالية.

وهنا أراني مضطراً أن أحدد هذه القيم على جغرافية شعر الشاعر أو على بعض من أقانيمه الشعرية لأجد المعيار الأساس الذي أراه يكمن في ماهيات التأثير النفسي والوجداني والشعوري في الذات الاجتماعية لتحقيق إرادة النضال والمضي قدماً لتحقيق الغاية الكبرى المتمثلة بالحرية والاستقلال.

القيمة النفسية:

إذا كان العربي قد صنع الصوت أو حاكاه ليعبر عنه المعنى؛ فإنه في الوقت نفسه قد استل هذا المعنى من خيالاته، ولكي يرسخه عند الآخر، وأقصد المتلقي، فإنه اعتمد على طرائق عدة في التوصيل وبالتالي إحداث الهزة الشعورية عنده، مثل الطريقة الإيحائية، والطريقة الإحساسية، والطريقة الشعورية، والطريقة الإيمائية الترميزية، وقد تأتي هذه الطرائق بشكل عفوي، وقد تأتي عن مقدرة المبدع على تلوين نفسه الإبداعي بالصوت والحركة واللون ليقدم أفقاً غيرَ منظور لدى الآخر ـ المتلقي، فالأحاسيس هي أجهزة تحويل إيجابية تتعاون مع بعضها لتخلق حاسة جديدة هي الشعور، وكلما اتسعت مدارج الشعور إلى ما وراء المحسوس كان أثر النص المبدع نابزاً في الذات الأخرى.

إذاً؛ فمنطقة المشاعر الإنسانية تتكون من تآلف وتضافر الحواس الخمس التي نرى أن أرقاها هي حاسة السمع، لأنها المصنع الذي يصنع الصوت وبالتالي يصبّه في خزان المشاعر، ومدى الإحساس بالصوت يخضع لمعيار دقيق مصنّع من الزمان والمكان والقائم عليهما، والحادث بينهما.

وتستطيع حاسة الصوت أن تتحول إلى حاسة لمسية إذا ساعدتها المشاعر، وبالتالي تقلب معادلة الإحساس وتخلط المشاعر، فمثلاً شعوري بالسخونة يتحول إلى سماع صوت الضجيج أو شعوري بالدفء يتحول إلى سماع صوت هامس متأوه ومتنهد وهكذا.

كذلك البصر وأعني أنه عندما تتقارب الحواس وتتعاون أيةٌ منها مع المشاعر فإنها تنتج صوتاً تتلقفه الذاكرة عن طريق التداعي، ومن ثم يحدث الأثر المراد.

وهذا ما عناه ابن جني عندما أخذ يشرح قاعدته الذهبية: (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، فالعربي بعد أن يختار الحروف التي تتوافق أصواتها مع الحدث الذي يريد التعبير عنه، يقوم بترتيبها في اللفظة على أساس أن يقدم الحروف الذي يماثل أول الحدث، ويضع في وسطها ما يماثل وسطه، ويؤخر ما يماثل نهايته. وذلك سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد.

وإذا ما أخضعنا ما طرحناه آنفاً للتطبيق على قصيدة «اقرأ كتابك» لمفدي زكريا وقد نظمها وهو قابع في الزنزانة رقم /375/ في سجن البرواقية في الذكرى الرابعة للثورة الجزائرية يوم الفاتح من نوفمبر؛ لوصلنا إلى مصداقية الطرح؛ ولكشفنا عن حقيقة تقول: إن الشعور هو مخزن الحواس، وهو المتصرف المطلق بعطاءات الحوار:

هذا (نفمبر)، قم! وحيِّ المدفعا
واذكر جهادَكَ... والسنينَ
الأربعا
واقرأ كتابك للأنام مفصّلاً
تقرأ به الدنيا الحديثَ الأروعا
واصدع بثورتك الزمانَ وأهلَهُ
واقرع بدولتك الورى _المجمعا)
واعقِدْ لحقك في الملاحم ندوةً
يقف السلاح بها خطيباً
مُصْقِعاً...!
وقل: الجزائر..! واصغِ إن ذُكِرَ
اسمُها
تجد الجبابرَ ساجدينَ وركعَا
إن الجزائر قطعة قدسية
في الكون لحنها الرصاصُ
ووقعا
وقصيدة أزلية، أبياتُها
حمراءُ، كان لها (نفمبرُ)
مطلعاً


نلاحظ أن حرف العين الذي تكونت منه قافية القصيدة هو من الحروف المصوتة الطويلة والعميقة والعالية، اختاره الشاعر ليتناسب مع نزقه وقهره وتمرده على واقعه الخاص والعام، فهو يخرج من العمل (والشاعر يقبع في قرارة الزنزانة)، ليصل إلى البعيد، وهي الرغبة التي تجتاح الشاعر لأن يوصل الصرخة إلى الآخر الذي يؤمل منه أن يحولها إلى فعل نضالي فاعل... هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا سنتوقف عند تزاحم أفعال الأمر في مطلع القصيدة أو ما تضمنه هذا المقطع على الأقل، فهي تدل على الشدة والصلابة، والثبات والثقة، كما تدل على الرفض والنزق والثقة بالآخر، ومحاولة ضعضعة السكون، ودفع الحركة قدماً إلى أمام.

وهكذا نجد الأمر واضحاً عند مفدي زكريا، فهو بحكم تربيته الدينية والروحية العالية، استقر يقينه على الإيمان بمقدرة شعبه على الفعل والحرية مما حوله من شاعر صائغ، إلى شاعر ملتزم يؤدي بشكل راقٍ جداً متطلبات التزامه، ويتمثل القيم السلوكية لموروثاته الاجتماعية، ليصبح في سلوكه الفني ـ التعبيري مثالاً سلوكياً نضالياً ثورياً متميزاً، لا سيما حين اندغمت شخصيته الفردية بقيم النضال الشعبي وضرورته للحرية لاستعادة الهوية القومية والدينية للجزائر، بوصفها الركن المهم في تركيبه أمتها العربية.

لقد مثّلَ الشاعر مفدي زكريا مرحلة تاريخية كان لازماً لها، فوضع نفسه في قلبها، وكأنه كان يحقق استجابة حقيقية لتحديات واقع الجزائر آنذاك وفي أحلك فترة من فترات تاريخه السياسي، ولم يكن استجابة على مستوى التعبير الشعري وحده؛ وإنما هي استجابة على مختلف المستويات.

وهنا لا بد من التنويه إلى أن التكوين النفسي ومنعكساته على شعر زكريا والذي نتناوله بمثل هذه العجالة؛ يأخذ جانباً من المسألة المتكاملة التي لا تأخذ أبعادها بشكل دقيق إلا بدراسة أوجه التعالق بين التجربة الشعرية للشعراء الذين سبقوه، والشعراء الذين عاصروه مثل (عمر بن قدور، ومحمد العيد، ومحمد السعيد الزاهري، ومحمد الأمين العمودي، والأمير عبد القادر الجزائري، ومحمد المبارك، ورمضان حمود، ومحمود بن دويدة، ومحمد جريدي وغيرهم)

وهي تعكس حضورها في تجربة زكريا الشعرية، فالتماثل في الأهداف، والإيمان والقيم والإحساس بالواقع الراهن؛ لا يمكن أن يبث سمات حضوره إلى ذلك قيمة دلالية كبرى، وهو ما مرت الإشارة إليه. غير أن تأمل المكونات الفنية لهذه التجربة واتجاهاتها إلى مذاهب التعبير الشعري ستفضي بنا إلى آفاق حركيتها بين أكثر من رواية واتجاه، لقد كان من المنتظر أن تفرض التعاملات الفكرية الواقعية التي أسس عليها زكريا شعره) قيمها على توجهاته الفنية فيها، فتضعه في أفق التعبير الواقعي وتمثلاته الفنية، وهو ما حصل فعلاً في نصوصه الشعرية. ولكنه لم ينقطع إلى ذلك تماماً، فقد كانت نزعته الذاتية حاضرة، ومتفاعلة مع ما تعبّر عنه، مؤسسة لقيمها الإنسانية والوجدانية في نسيج التعبير عن الهم الوطني وقضاياه.

ومن هنا يمكن تلمس ذلك الحس الوجداني الذي يفضي بتعبيرية الشاعر إلى رواية رومانسية خاصة تدفقت قيمها في نصوص وسياقات تعبير ومشاعر، وكان مرجع ذلك إلى التأسيس الأول في شخصية مفدي زكريا ونزوعه الروحاني الذي يمتلئ بقيميه ذاتية تنجز رؤيتها المتبتلة بما تستحضره من مشاعر وأحاسيس، لأن الأصل عنده هو (الوجدان) الذي أصبح أساساً في حركة الشاعر بعد ذلك. فكلما داهمته الخطوب القوية، عاد إلى الأصل النفسي فانفتحت الذات ليلج فيها. أضف إلى ذلك التأثير الخارجي المستمد من تواصل مفدي زكريا مع التجارب الشعرية التي باتت تطل على عالم الشعر الشعربي، ولا سيما التجارب التجديدية وخاصة عند جماعة الديوان، وجماعة أبولو، وما أعلوا شأنه من تعبيرية وجدانية، ولعلنا وضعنا يدنا على تلك الخصوصية التي كان عليها شعره، وهو يستدرج إلى سماته، مما يلفت إليه من عناصر التشكيل الفني.

ولكن زكريا ـ وهو يسلك في تلك الرؤى ـ كان متمسكاً بتقليدية البناء الشعري الموروث على صعيد التشكيل الموسيقي لشعره، حريصاً على تأكيد طول النفس ـ أحياناً ـ في القصيدة؛ وقصره عندما يجأر بالشكوى من الواقع الراهن، أو يحض على رفع وتائر الفعل الثوري في أحايين كثيرة، وذلك عبر أدائية موسيقية ضاجّة، وهو ما يكشف عن جانب في نزوعه الشعري الموروث والذي انطلقت منه تجربته الشعرية أساساً، وكانت أمثلتها تقليداً محضاً لأمثلته البارزة؛ ولا سيما كان لدى محمد العيد وأقرانه، وهو ما تعكسه قصائد الحض والاستنفار والدفع وهذا ما بوأه مكانة بارزة في حراك وطنه السياسي والنضالي؛ فوسم بشاعر الثورة الجزائرية. بيد أن تلك المرحلة التي خرج زكريا من أسار تعبيريتها الفنية، وتداول أكثر من فاعلية؛ قد مزجت عناصرها وتشكلاتها لتصنع قصيدته بطاقتها الإدائية والجمالية التي تمتلك مواصفات انتمائها إلى مذهبية كلاسيكية؛ خرجت في أحايين معينة إلى واقعية صريحة، أو مدت بصرها إلى تمثل رومانسي ضيّق؛ غير أنها ـ وفي كل أحوالها ـ كانت تستجيب إلى اشتراطاتها الذاتية ـ موقفاً وممارسةً ـ أكثر من أي شيء آخر، وهو ما يستوقف أية قراءة متفحصة لدواوين زكريا، أو لتلك القصائد التي بقيت خارج تلك الدواوين ثم جمعت ضمن دراسة خاصة.

ـ القيمة الوطنية والقومية والدينية:

كانت دعوة الزعيم الوطني المصري محمد فريد من أوائل الدعوات التي تنادي بتحميل الشعراء رسالة معينة في خدمة أوطانهم.

وقد جاء في المقدمة التي كتبها لديوان الغاياتي: (... فعلى حضرات الشعراء أن يقلعوا عن عادة وضع قصائد المديح في أيام معلومة، ومواسم معدودة، وأن يستعملوا هذه المواهب الربانية العالية في خدمة الأمة وتربيتها، وبدل أن يصرفوها في خدمة الأغنياء وتملق الأمراء والتقرب من الوزراء، فالحكام زائلون والأمة باقية)

والحقيقة أن هذا الموقف، وبهذه الدرجة من المباشرة في الدعوة إلى توجيه الشعراء للمشاركة في أحداث وطنهم لا صلة له بالنقد العربي القديم؛ وإنما أملته الظروف التي كانت تعيشها مصر آنذاك، فالشعر عند طائفة من النقّاد القدامى لا يتجاوز كونه سجلاً لأيام العرب، وديواناً لبطولاتهم، فهي دعوات غير مباشرة لأن الشاعر مدعو بحكم وظيفته المعنوية في القبيلة أن يدافع عن حماها، وأن يذود عن شرفها.

وحين يحدد عباس محمود العقاد غايات الشعر، يتوقف طويلاً عند القيم الوطنية والدينية، لأن الخواطر الثورية ـ عنده ـ في الشعر الرفيع شيءٌ، والتحريض على الثورة شيء آخر.

فقد ينظم الشاعر مرة أو مرات قليلة في غرض من أغراض السياسة الموقوتة، إذا تهيأت له مناسباتها، ولكنه لا يعرف المشاركة في الثورة على الوجه الذي يعرفه الكاتب والخطيب.

وفكرة العقاد تحتاج إلى قليل من التصويب على ما أرى، فالشاعر عندما يحمل قضية، ويندب نفسه للنضال من أجلها، وهو شاعر ملتزم بإيماناته حتماً، وهو لا يقل فعلاً عن الكاتب والخطيب وقد يكون أكثر فعلاً منهما، لأن الكاتب يعتمد على الفكرة فيصوغها ضمن مقاييس فنية، والخطيب يعتمد على المقدرة التمثيلية في إيصال الفكرة التي قد يستعيرها من الكاتب، أما الشاعر فيعتمد على الدفق الشعوري المتأتي من الإحساس فيصنع له الصاعق ويجهزه للانفجار ثم يدفع به إلى الجماهير بشكل مباشر ومن غير الحاجة إلى وسائط خارجة عن الأحاسيس والمشاعر، فهو النار التي تشعل الفتيل، وهذه حال شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا:

اعصفي يا رياح
واقصفي يا رعود
وانحني يا جراح
واحدقي يا قيود
نحن قوم أباة
ليس فينا جبان
قد سئمنا الحياة
لا نمل الجهاد
في سبيل البلاد





«في الثلاثينات والأربعينات، رابط الشاعر الجزائري في جبهتين اثنتين، جبهة المنافحة عن المقومات الأساسية للشخصية الوطنية، عقيدةً وروحاً ولغةً وتاريخاً وحضارةً، وهي جبهة لا تحتمل المساومة، ولا تخضع للترغيب والترهيب، ولا تزايد في هذه المقومات بملء الأرض ذهباً، جبهة مستميتة حتى الوريد، منتفضة حتى النفس الأخير، فالحياة المادية للإنسان يمكن أن تتأرجح بين سياط الجلاد ومقاصله، ولكن الكرامة البشرية المتمثلة في مقومات وجوده، لا تحتمل غير مصيري الوجود أو العدم، وليس بينهما مجال للوسطية»

مفدي زكريا مثّل الكاتب والخطيب والمقاتل، مثّل العربيّ والجزائري والمسلم بكل القيم التي تحملها العروبة والإسلام على مر الأزمان، وقد صاغها (القيم الوطنية والقومية والدينية) شعراً وكانت الدروس التي أملتها الثورة الجزائرية، والامتحانات التي خاضها الشعب الجزائري في نضاله، والنجاح الذي تحقق للشعب الجزائري، في التفافه حول الثورة، والفصل فيها.

فهو: «شاعر النضال السياسي لهذه الفترة الذي يمثّل مع (محمد العيد) شاعر البناء الذاتي للشخصية العربية المسلمة؛ يمثلان معاً ومع نظرائهما (الزاهري والسنوسي وأبو اليقظان) رموز الملحمة بأحداثها ومآسيها، وانعكاساتها على الصورة الشعرية؛ إشعاعاً على الأمل، وخفوتاً مع اليأس، وقد يفجّر اليأس الغضبة الضارية عند زكريا أو يولّد الانكفاء عند العيد في شبه صوفية، فقدت أي معنى للحياة خارج الذات، فاستجارت بالعزلة الباطنية، وربما تخطت الخارج والباطن، وعانقت الموت في شرخ الشباب».

هل للحقائق في الحياة وجود؟!!
أخذت على عقلي الشكوك، تسود
دنيا على الأعمى التوت أوعارها
من يرشدِ الأعمى بها، ويقود
صبراً على ليل الحياة وطولِهِ
حتى يشقَ من الصباح عمود
من مات لا ريب استهل فلا تخف
الموت دنيا واللحود مهود
يا موت.. خوّلت ابنَ آدمَ راحةً
ما بعد موتك لابن آدمَ جودُ
في القبرِ، نزلٌ طيّبٌ، وكرامةٌ
كبرى، وظلُّ وارفٌ ممدودُ
والناسُ أطهر في القبور جبلَّةً
ولو انهم رممٌ هناك ودودُ




«ويأتي عقد الخمسينات ليكون زمنَ الثورة التحريرية في الجزائر، ولن تكون القصيدة والتفعيلة إلا وهجاً من هذه الثورة. وقد لمسنا كيف أن الشعراء (وعلى رأسهم زكريا) قد بشروا بهذه الملحمة البطولية سنواتِ طوالاً قبل ميلادها»

وما إن انطلقتُ المبرمجةُ الأولى، حتى تحول شعر زكريا وأقرانه إلى بيان سياسي حادٍ، ترتفع نبرته على صوت العقل، وتنبو توجهاته عن جماليات الصورة، فبات ـ والحالة هذه ـ على صورة تشبه الحداء، إيماناً بالفعل المسلح، ورفضاً للتنظير والمفاوضة الدبلوسية؛ بينما فرش الشاعر أرضية قصيدته بالموروث الشعري العربي، إذ رأى أبو تمام أن السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحدُّ بين الجد واللعب، وعلى هذا تشكلت إيمانات مفدي زكريا في قوله:

نطقَ الرصاص فما يُباح كلامُ
وجرى القصاص فما يتاح كلام
السيف أصدق لهجة من أحرف
كُتِبَت، فكان بيانها الإبهام




إذاً، فهو يريدها نصراً ساحقاً، وأن تكون أيامُها واقعاتٌ كوقعة عمورية التي دحرت الروم وأعادت للتراب العربي طهارتِه.

وكانت إيماناتُهُ بوحدة التراب المغربي جلية واضحة، إذ ظل شعره يرفض الحدود كما رفض القيود... وتجوهر ذلك الإيمان في عروبته التي أرادها مؤطرةً بالإسلام، وقد ركّز على اللغة العربية كمقوّم أساس من مقومات القومية العربية، ولم يحتج إلى الترميز وهو المناضل الجسور، بل أعلنها واضحة بقوله:

تونس والجزائر اليوم والمغرب،
شعبٌ لن يستطيع انفصالا
وحدةٌ أحكم الإله سُداها
وَسمتْ في الحياة، عمّاً وخالا
نصبوا بينها حدوداً من الألوا
ح جهلاً وخِدعةً وضلالا
نحن روح، مزاجه العنادُ والد
ينُ، فلن يستطيع ـ قطُ ـ انحلالا
نحن قوم على الولاء خُلقنا
يشهدُ الدهرُ ذكرَنا، والفعالا
نحن شعبٌ على الزمان عزيزٌ
عربيٌّ، كالنيّرينِ اشتعالا
كلما رِمْتمُ افتراقاً، قَرُبنا
وعقدنا محبةً واتصالا




دعا ابن رشيق القيرواني الشعراء (كي يجيدوا في شعرهم) إلى «الثقافة والرواية والحفظ من أشعار المبرزين من الشعراء، وقد ذهب ابن طباطبا العلوي ـ كذلك ـ إلى أن الثقافة والأخذ بعلوم العصر الأدبية، وخاصة تلك التي تتصل باللغة ومذاهب العرب في تأسيس الشعر والتصرف في معانيه ضرورية للشاعر».

ويرى الدكتور طه حسين ـ وهو يتحدث عن أهمية القراءة والاطلاع في الإبداع ـ أن الثقافة عنصر ضروري وأساسي في الخلق الفني، ويذهب إلى أن «الأديب لا يستطيع أن ينتج إنتاجاً حسناً إلا إذا كان مستكملاً أدوات هذا الإنتاج والثقافة الواسعة العميقة المنوعة هي أهم هذه الأدوات.

ويلوم الدكتور حسين أولئك الأدباء الذين يكتفون بثقافات محدودة، غاية في الضيق، ويتكئون في الإبداع على الموهبة الفطرية، ظناً منهم أنهم ليسوا في حاجة إلى القراءة والاطلاع، «لأنه بإمكانهم أن يبدعوا إذا وجهوا نفوسهم وعقولهم نحو غرض من الأغراض واستحضروا معنى من المعاني»

والمعيار الذي أراده النقاد هنا يتوافق مع الكون الشعري لمفدي زكريا، فهو مثقف، كما تنم على ذلك شاعريته، ولغته العربية النقية، كما أنه عروبيٌّ وتراثيٌّ، نجح في فنه الشعري، وفي عمله الصحفي، وفي حجته التجارية، وفي وكونه مدراً وهب مخزونه الفكري لطلبته، وإذا استعرضنا قصيدته الموسومة بـ (رسالة الشعر في الدنيا مقدسةً)، و(هي القصيدة التي ألقاها باسم الجزائر في مهرجان الشعر بدمشق يوم الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول) عام 1961، وقد عرفته آنذاك، إذ كنت بين الحضور في مدرج جامعة دمشق)؛ لوجدنا مدى سعة اطلاعه على الشعر القديم، والشعر الذي عاصره:

سل العروبة هل ضجّت لشكوانا
وسل أمية... هل رجّت لبلوانا
ويا ذرى الشام... هل هاجت مواجدنا
فباركَ الشعر في ناديكِ لقيانا
ويا دمشق... هل ابتلّت جوانحنا
بعد التنائي الذي قد كان أضنانا
وهل درى السجن: أني بعد وحشته
ألقى بجلّق أصحاباً وخِلانا
هي المشاعر... شبّتها لواعجنا
فصاغها الشعر حباً من حنايانا
هي الحشاشات فارت من مذابحنا
تضوع في الشرق عطراً من زوايانا
هي التسابيح من أعماق مغربنا
يصغي بها مِهرجان الشعر نجوانا
هي الشعاليل... من بركان أطلسنا
تشع في الشرق أنواراً ونيرانا
ووحدة الثورة الكبرى مظفرة
تزف للوحدة الكبرى تحايانا
وتلك أكبادُ عبد القادرِ انطلقت
تبارك النبل في أكباد مروانا
آمنت بالله ـ يا فيحاء ـ كم مهج
خلدّنَ في حرم الفيحاءِ ذكرانا




ففي القصيدة مجموعة من القيم الوحدوية والثورية والقومية والإنسانية والإيمانية، ومنها تطل علينا نفسٌ مؤمنة بالمصير الواحد، والتاريخ الواحد، والجغرافية الواحدة، وعليها سمة عاطفية تقول بالنسر العربي الذي يفرد جناحيه على أرض عربية في مشق الكون العربي ومغربه، ومن عمقها وعذوبتها تأتينا أفواحٌ نثرها شعراء غزل الشاعر على أنوالهم، فابن زيدون في نونيته (أضحى التنائي بديلاً من تدانينا)، وأحمد شوقي (ذهبت للمسجد المحزون أسأله... هل في المصلّى أو المحراب مروانا)، وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) (سائل العلياء عنّا والزمانا... هل خفرنا ذمة مذ عرفانا)، وشفيق جبري (يا طاوي البيد إن يممّت لبنانا... فانثر على أرزه ورداً وريحانا)، وبدوي الجبل (يا سامر الحيِّ هل تعنيك شكوانا... رق الحديد وما رقّوا لبلوانا)، وشعراء كثيرون من بلاد الشام خصوصاً، والمشرق العربي على وجه العموم.

ـ القيمة الإيقاعية:

ليس جديداً قولنا: إن الشعر أسرع حفظاً من النثر، وأثبت في الذاكرة، لذا كان ما روي من شعر العرب أكثر بكثير مما روي من نثرهم... و«السر يرجع إلى ما في الشعر من انسجام المقاطع وقوالبها وخضوعها لنظامِ موسيقي خاص تألفه الأذن، وترتاح إليه النفس، ويدرك المرء بسهولة أسرار توالي أجزائه وتراكيبها، فتغدو الأوزان الموسيقية درباً لاحبة معبّدةً للسير، وتغدو القوافي صوى في هذه الدرب تعين السائر على الاستمرار، وتوحي إليه أن خطواته بعيدة عن العثار والزلل، وأن أقدامه تنتقل على أرض ممهدة واضحة المعالم، لا في مهمه مقفر مجهول الشعاب، ومن هنا، يتبدى سر تجاوب الجمهور مع شاعر يلقي قصيدته المحبوكة المنسّقة المرتبة، فيندفع الناس إلى تكرار الكلمة الأخيرة من البيت بعد نطق الشاعر لها، وربما توقع بعضهم تلك الكلمة بنفسه قبل تفوه الشاعر بها فيسبقه في نطقها، وهذا مما يقيم تواشجاً عاطفياً وجدانياً بين المنشد والسامع، ويجعل روح الشاعر تسري في الجمهور فتنقل إليه التأثير والتوجيه»([20]).

مفدي زكريا يمتلك مكنة لغوية، ومهارة عروضية، وشفافية في الذائقة، لذا اختار لقصائده أبحرها، وعروضها، وقوافيها عن تجربة وقدرة ومعرفية عالية، وهذه خصوصية من خصوصياته، التي أسبغت على شعره سمات احتفى بها الجمهور، وكانت محرّكاً للشارع لأنها تفعل في النفس فعلاً حماسياً، ويحفظها الناس على اختلاف ثقافاتهم وأعمارهم، فيزيدون على موسيقاها موسيقا تحرك الحواس، بل كل نأمة وعصب وشعيرة في الجسم، وهذه الخاصيّة الأخرى.

وهنا لا بد لي من دفع الالتباس الذي قد يعنّ على بال قارئ أو مستمع ويقول خطأ:

هل نقيس نجاح النص الشعري بموسيقاه... أم أنّ هنالك شرطاً موسيقياً آخر لا بد منه لكي يسمو الشعر وينجح؟!...

ثمة موسيقا لفظية وهي جرس الكلمة عن لفظها، وهناك موسيقا وزينة وهي موسيقا الأبحر الشعرية وأنواعها، وثمة موسيقا ثالثة هي الموسيقا الجوانية أي ذلك التناغم بين الإيقاع الشعري الذي يرسله الشاعر، وبين الشعور بالانفعال لدى المتلقي المرسل غليه، فإذا مات ضافرت الموسيقات الثلاث مع الإيقاع برانياً وجوانياً؛ فإن النص الشعري سيحقق غايته التي أرادها مبدعه أصلاً من إبداعه.

وهنا لا بد من إعادة التأكيد على أن الموسيقا لا تقتصر على الحرف أو اللفظة أو البيت الشعري أو المعنى، وإنما هي ترافق الصورة الشعرية؛ خياليةً كانت أم انطباعيةً، سورياليةً كانت أم رمزية، كلاسية، أم رومانسية، كذلك ترافق المنظور المتخيل، والحركة التسجيلية، والحركية المحسوسة ضمن الملموس الجامد، والحركية في اللون، حيث يقترب المتلقي الذوّاقة من نبض الشاعر وأنفاسه وغائياته من صياغاته الشعرية، بل يكاد يتحول (المتلقي) إلى قرين ملازم للشاعر كمثل وحيه.

يقول يوسف سامي اليوسف: «...وقد لا نعدم من يزعم بأن كيفية الجرعة الوجدانية هي العنصر الأول الذي يملك أن يحدد المزيّة أو الجودة في أي نص أدبي، وبأن الشعر قادر على أن يصنع من الألم البشري متعة للنفس، أو مادة صالحة للتذوق. فما من شيء نبيل إلا وينبثق من الفؤاد، أو من الوجدان، الذي هو وحده قادر على إنجاز عيان أصلي، ولكن؛ قد لا نعدم من يزعم أن المعيار الأكبر للقصيدة؛ ليس العاطفة، أو الوجدان، أو الشحنة القلبية؛ بل هو الخيال وقدرته الاختراقية على التشكيل وإنشاء الصور الفنية والسياحة في النائيات».

فالفن جملة ـ كما يعتقد أصحاب هذا الرأي الأخير، ومنهم أبو تمام مثلاً، هو التفكير بالصور قبل كل شيء. والفن كُله يبدأ من توقير الصورة التي هي وحدها القادرة على اختزان اللامفهوم، أو على التحرش بالفسحة التي لا تملك اللغةُ أن تجوس خلالها بأي حال من الأحوال، وعند هذه البرهة ـ أقصد ـ برهة اقتناص الغموض المغلغل في صميم الكينونة كلها؛ فإن الفن يلتقي بالروح الوثني في أصله الجليل، وما الروح الوثني؛ إلا تجانس الإنسان مع الطبيعة، أو تهجسه لأسرارها وقواها المرئية واللامرئية، وعلى هذا فإن هنالك من يؤكد على أن القصيدة ينبغي أن تنسج من الغموض نفسه... ومن قبيل ذلك ما ذهب إليه أبو إسحاق الصابي حين قال: «أفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه». ولكن أنصار هذا المذهب ينسون أنهم عرضة لإنتاج شعر متليّف، لأنه قد يوغل في الشكلانية التي تعتمد على التجريد العمائي الخاوي، ثم إن هنالك من يناقض مذهب الغموض، فيصرّح بأن أية قصيدة برسم الذائقة ينبغي أن تكون قد أُعطيت للبداهة التي من شيمتها أن تعمل على نحو فوري لا يناسبه التعقيد. ولا بأس من التذكير بهذا البيت لأبي تمام، فهو يلخص مبدأه الشعري:

والشعرُ لَمْحٌ تكفي إشارتُهُ
وليس بالهذر طوّلت خُطَبُه

وأياً كان الأمر؛ فقد لا تعدم من يقول لك: بأنه ما من معيار خارج روحك، فالمعيار هو أنت، أو دَرَجَةُ نضجك، وهذا يعني أن النقد الأدبي لا يسعه قط أن يكون علماً، ولا حتى ما يشبه العلم....

أما محمود أمين العالم فيؤكد: «...أن الخلق الفنيّ أو الإبداع لا يمكن أن يكون فيضاً تلقائياً، ولا أن يكون مصدَرَهُ الإلهام والوحي، لأن الأدب والفن بعامة؛ هو ـ أولاً ـ ثمرة انعكاس الواقع الاجتماعي والطبيعي في شعور الفنان أو الأديب، وفي فكره خلال خبرة حياته العلمية وتفاعله مع هذا الواقع، وفي حدود ثقافته الخاصة، وموقفه الاجتماعي. وهو ـ ثانياً ـ ثمرة اختيار الفنان والأديب لعناصر من هذا الواقع؛ نفسية كانت أم اجتماعية أم طبيعية، وهو ليس اختياراً تعسفياً عفوياً؛ وإنما هو اختيارٌ محدودٌ بحدود خبراته العلمية، وثقافته، وموقفه الاجتماعي».

ويتلو هذا ـ ثالثاً ـ: إعادة بناء هذه العناصر جميعاً، وترتيبها في نسق جديد، ولغة جديدة، هي لغة التعبير الأدبي والفني... ومنها الأديب نفسُهُ في استخدام هذه الأدوات ومعرفته بها، ومدى تطورها هي، ومدى حساسيته ومقدرته الذاتية على تحويل هذه الأدوات الخام إلى أدوات معبرة ممتزجة بموضوعاتها، ومدى عبقريته ـ كذلك ـ في تمثل موضوعاته وإعادة صياغتها وبنائها في نسقٍ جديدٍ يستطيع أن يعبر به عن المعنى الذي اختبره في عقله وفي شعوره»).

وهنا أراني لست بحاجة إلى اجتراح نماذجَ عدة من شعر مفدي زكريا لتكون موضع تطبيق على ما ذهبت إليه آنفاً؛ وإنما سأعرض لمعيار القيمة الإيقاعية من خلال قصيدة واحدة أو من خلال مقطع منها، وواقع اختياري لهذا المقطع، إنما يدلل على التقاء العفوية بالعاطفة، الانطباعية بالرومانسية، الواقعية بالرمزية، كذلك سيطرة الموسيقا الداخلية على أجواء القصيدة، فهي قصيدة حارّة، ولدت في لحظة باردة سيطرت قشعريرتها على الذات، وماثلت في صوتها الأصل وصداها الموسيقى الجنائزية، وترنيمة الملائكة عندما يسقط الشهيد في ساحة الجدّ لا في ساحة اللعب:

قام يختال كالمسيح وئيدا
يتهادى نشوانَ، يتلو النشيدا
شامخاً أنفه، جلالاً وتيهاً
رافعاً رأسه، يناجي الخلودا
حالماً، كالكليم، كلّمه المجـ
دُ، فشدَّ الحبالَ، يبغي الصعودا
وتسامى كالروح في ليلة القد
ر، سلاماً، يَشِعُ في الكُوى عيدا
وامتطى مذابح البطولةِ معرا
جاً، ووافى السماءَ يرجو المزيدا
وتعالى مثل المؤذن، يتلو
كلماتِ الهدى ويدعوا الرقودا
صرخة، ترجف العوالمُ منها
ونداء مضى يهزّ الوجودا
اشنقوني، فلستُ أخشى حبالاً
واصلبوني، فلستُ أخشى حديدا
واقضِ يا موت فيَّ ما أنتَ
قاض
أنا راضٍ، أو عاش شعبي سعيدا
أنا إن مِتُ فالجزائر تحيا
حرّةً مستقلةً لن تبيدا




القصيدة ابنةٌ شرعيةٌ لحدث، ولدت عام 1955، في سجن بربوس، والمعزوفة تلك صاغها، وصمم أجواءها، وعزفها الشاعر مفدي زكريا وهو يودع أول شهيد على مقصلة بربروس، إنه الشهيد (أحمد زبانا)، رآه، أو تخيله وهو يتجه من زنزانته إلى آلة حتفه، سيّان، فالخيال ملك الشاعر، والاستعداد لصوغ الملحمة موجود في ذات الشاعر، مشهد منظور، أفقٌ دامٍ، الأداة الموسيقية متوفرة، الإبداع ممكن... فتهادي الشهيد ـ كما المسيح ـ وهو متجه إلى مشنقته يحدث مع نغم جوّاني كأنما ملاك من ملائكة السماء اختصَّ بالعزف على قيثارته وأورغلّه، فكان لحناً جنائزياً ولكنه لحنٌ كونيٌّ يوقع في قرارة الذات حيث القناعة في قضية عادلة أثمانها الأرواح والأنفس الزكية، كذا كانت فاتحة السيمفونية للملحمة الرائعة المهيبة... ثم تتباطأ الموسيقى وتتقطع لتعطي بعداً للحركة الإيمائية التبادلية بين الداخل والخارج، بين الملموس والمحسوس، إنها تصور الحركة، فتعطي مثالاً رائعاً لموسيقا المعنى الذي بنيت عليه القصيدة: (شموخ الأنف)، (التيه، الجلال)، (ارتفاع الرأس)، (نجوى الخلود)... ويستمر الإيقاع ليطال الأفق الواقع خارج حدود ا لعقل، أي ليلامس الخيال بأبعاده الأسطورية والقصيدية، (الكليم)، (المجد هو الله)، (الصعود) ثم تخفت الموسيقا لتتوزع على المعنى والمشهد، والخيال، والحركة، واللون (شد الحبال)، هي لحظة الاستعداد الأكثر دقةً وحبكةً ودراماتيكيةً لصعود الروح، نحو العُلا... التحاقاً بباريها، مروراً أو عبوراً لبرزخ الوجود، استقراراً في برزخ الخلود...

ثم لم تعد الموسيقا تسمع؛ بل أضحت نغماً محسوساً، يتموضع في قرارة الذات، هائدة متساوقة مع الشعور الإنساني بأبعاده وأغواره (حالماً... تسامى كالروح في ليلة القدر... سلاماً يشع...) وتتصاعد الأنغام شيئاً فشيئاً لتخرج من (حركة الصمت)، إلى حيوات اللحظة (امتطى، تعالى، صرخة، اشنقوني)، وهنا تنتقل الأنغام إلى الضجيج على درب الجلجلة لترافق العقل، وصولاً إلى النهايات...

لقد استطاع الشاعر أن يصوّر بالموسيقا، الموقف، الحركة، أما الداخل، الخارج، بتساوق شعوري يندغم في النهاية بين «الأنا (الشاعر)»، والـ(هو... الشهيد)، أم موسيقى الحرف فقد جاءت القافية على الدال المطلقة، والدال من الأحرف الهادئة اليقينية التي طالما استعملها الشعراء الحذّاق كقافية لشعر المواقف المبدئية، أما الروي الذي مثله حرف الواو، فهو للانعطاف، الأمر، التنهد، الهمس، النجوى.

وقد شملت الموسيقا اللفظ بتساوق فني جدُ شفيفٍ ومحكمٍ وأنيق، فكانت اللفظة تستقبل تاليتها بتناغم رشيق كما يفعل الفنانُ المقتدرُ الخبير عندما يشكّل لوحة الفسيفساء بتناغم لوني ومعنوي متساوقين.

الخاتمة:

لا خاتمة إلا ما كتبه الدكتور صالح الخِرفي عن زكريا وأقرانه: «... كان مفدي زكريا يمضي قصائده وأناشيده: بـ/ شاعر الثورة/ وقد عرفناه شاعر النضال السياسي، والكفاح الوطني في الثلاثنيات والأربعينات، وفي الخمسينات كان شاعر النشيد الرسمي للثورة الجزائرية (قسماً بالنازلات الماحقات)، والذي أصبح النشيد الرسمي للدولة الجزائرية، ولما يزل، والشاعر كان مؤلف الأناشيد الرسمية للتنظيمات الجماهيرية كلّها، والرموز الوطنية: العلم، الشهيد، المرأة، الطلبة، العمال، وقد صدر له سنة 1961 ديوان (اللهب المقدس) الذي ضم ملاحمه الشهيرة في الثورة وفي الوطنية طيلة ثلاثين عاماً»

مفدي زكريا هو القيمة المعيارية التي تمثل الكون الثوري النضالي للشاعر القضية، وشعره يمثل القيمة المعيارية الجذر للموقف القيمي... إنه الظاهرة الأكثر رسوخاً في عالم الشعر الذي سيسمه مؤرخو الأدب فيما بعد بـ/ شعر النضال السياسي وقضايا الحرية/.

وأخيراً وفي الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل العبقرية الفذة الذي أسهم في إشعال الفتيل، وكان الحادي الجهوري للشعب، لا بد أن نهتف باسمه مرددين:
قسماً بالنازلات الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات
نحن خضناها حياة أو ممات
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا...
فاشهدوا...


تجليـّات الصـراع و آلياتـه النفسيـة في قصيدة "الذبيـح الصاعـد" لـ "مفـدي زكريا"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ

إعداد: مولـدي بشينية
المركز الجامعي بالطارف/الجزائر

للملتقى الدولي الثالث :الخطاب النقدي العربي المعاصر "النقد النفســي"
المركـز الجامعـي بخنشلـة/الجزائر
05 /06 مـاي 2008

تقتضي دراسة نص أدبي ما وفق تصورات النقد النفسي و أطروحاته وعدّته الإجرائية، أن يكون الدارس بالإضافة إلى مؤهلاته النقدية مؤهّلا "علمنفسيّا" لتقديم تلك الدراسة. و من بين المؤهلات التي يجب الإلمام بها، أن يكون مطّلعا على منشأ وأسس ومنطلقات النظرية السيكولوجية و مختلف التطوّرات و التنقيحات التي مرّت بها خلال مقاربتها للظاهرة الأدبيّة، و يتوقّف أيضا عند الهنّات المسجّلة عليها من قبل الباحثين ليستطيع بعد ذلك أن يتّخذ لدراسته المسار الذي ترتضيه.
و الحديث عن "الصراع و آلياته النفسيّة" في نصّ أدبي ما، يقتضي أوّلاّ معرفة كشوفات علم النفس فيما يخصّ فكرة "الصراع" عند الأدباء، و كيفيات تجلّيها في النصوص الأدبيّة، ثم تحديداته لفكرة "الآليات النفسية" و صور تمظهرها في تلك النصوص؛ أيّ أن حيازة معرفة "علمنفسية" أمرّ لا مناص منه للحديث عن الصراع و آلياته النفسيّة في نصّ أدبيّ ما، حتى يتمكّن الدارس من القبض على اللحظة السيكولوجية، التي نرى أنّها فعّالة في فهم النصّ و في إعادة إنتاجه ما إن تمّ القبض عليها.
و الحديث عن الموضوع ذاته في قصيدة "الذبيح الصاعد" لـ "مفدي زكريا" لا يعني مطلقا الوقوف عند كشوفات علم النفس و إغفال مجموعة من العلوم و المعارف و القضايا الأخرى ذات الصلة؛ كعلم الاجتماع و نظريات الأدب و التاريخ و غيرها...كما لا يعني مطلقا إغفال معرفة تاريخ النصّ – مناط الدرس- و تعاقب الأحداث التي أدّت إلى وجوده، ثم تأثير كلّ ذلك على سيكولوجيّته.
وانطلاقا من هذه المبادئ، سنقسم هذه المداخلة إلى قسمين: قسم أوّل نتعرّض فيه إلى التعريف بالنظرية السيكولوجية مع التطرّق إلى أبرز التطورات التي لحقت بها في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، والتركيز على أهم مقولاتها بخصوص فكرة "الصراع و آلياته النفسيّة" لدى الأدباء على وجه الخصوص.
و قسم ثان نتعرّض فيه لتجليّات الصراع و آلياته النفسيّة في قصيدة "الذبيح الصاعد" لـ "مفدي زكريا". و ذلك بالوقوف عند تيمات الصراع السطحيّة و العميقة وأسبابه الظاهرة و الخفيّة، و آلياته النفسية و دلالاته و أبعاده. للوصول إلى القبض على القيمة الجمالية و المعرفية التي يمكن أن يخلقهما تضافر الحقل النفسي مع بقية الحقول في النص.
1- النظرية السيكولوجية و الظاهرة الأدبية:
ينصبّ اهتمام النظرية السيكولوجية في تفاعلها مع الظاهرة الأدبية تحليلا و نقدا "على الدلالات الباطنية في العمل الأدبي و الفني الذي قد يتأثّر بالعقل الباطن عند الفنان أكثر من تأثره بعّقله الواعي"

و تفيد النظرة الشموليّة لإنجازاتها إنّه يمكن حصرها في ثلاثة اتجاهات رئيسية ذلك بالنظر إلى الكيفية التي تعامل بها كلّ اتجاه مع الظاهرة نفسها؛ فهناك الاتجاه التحليلي الذي رأى أن التركيز على شخصية الأديب قمين بتفسير جوانب كثيرة في العمل الأدبي. و هناك الاتجاه شبه التحليلي؛ الذي رأى أن المزاوجة بين الابستومولوجيا و التحليل النفسي قادر على الإجابة عن التساؤلات التي يثيرها ذلك العمل. و هناك الاتجاه الثالث الذي رأى بأن دراسة العمل الأدبي دراسة نفسية تتم من خلال الربط بين التحليل النفسي و النقد الأدبي، فأنجز ما يسمى بالنقد النفسي للأدب.
فما هي أبرز إسهامات كل اتجاه في تعامله مع الظاهرة الأدبية، و ما هي تحاليلهم لفكرة "الصراع و آلياته النفسية " ؟
أ- الاتجاه التحليلي النفسي للأدب :
يتفق الجميع على عدّ "س. فرويد"(S.Freud) ،من العلماء الأوائل الذين دعوا إلى "ارتباط العالم النفسي بعالم الأدب الفني" ،ليس هذا فحسب، بل إلى تحليل العديد من النصوص الأدبية و غيرها تحليلا نفسيا، إلى درجة أنه "لم يعد في وسع أحد أن يتجاهل كشوف هذا الرائد العظيم في مجال المعنى".

و بالعودة إلى الوراء قليلا نجد أن النداء الذي أطلقه "سانت بيف" (Sainte Beuve) ،مطالبا بإنشاء "سيكولوجيا للكتّاب" يكون عملها الالتفات و الولوج إلى الوجدان الإنساني المبدع، قد شجّع النفسانيين للخروج عن حدود مهنتهم و الالتفات إلى الآثار الفنية و الأدبية، و أخذوا يعون بنسبة كبيرة علاقة الإبداع الأدبي بالسيكولوجيا، "فإذا كان الأثر الأدبي يجد تجانسه في روح عاطفي يسري في بنياته ،فالسيكولوجيا – هي قبل كل شيء-فهم للعاطفي".
و ينبني التحليل النفسي للظاهرة الأدبية عند "فرويد" على اعتبار "المعنى بنية رمزية حافلة بأبعاد، و لها دقّة خاصة رغم تعميتها و تحريفها" . و بالتالي يصبح من المهّم على المحلّل نفسه أن يضع في حسابه إن كل شيء يمكن أن يكون رمزا. و فك شفرات تلك الرموز لا يكون إلا بالرجوع إلى حياة الأديب و النبش في مكونات شخصيته للوصول إلى تركيبة دوافع الصراع لديه الكامنة في عالم "اللاّشعور" .
و يرجع "فرويد" كل الغرائز الإنسانية إلى "غريزة الجنس و الرغبة(...) و إلى غريزة الموت. ويقصد بغريزة الموت، أن في كل إنسان، دوافع تضادّ، تهدف إلى الفناء و الموت، و من جرائها يسعى الإنسان إلى الهروب بمحاولة إعادة الحياة" و بالتالي تغدو كل صورة من صوّر الخلق الفني لها جذورها العميقة في عالم "اللاّشعور" .

و فيما يخصّ فكرة "الصراع و آلياته النفسية" يذهب "فرويد" إلى اعتبار أن الشخصية تتكون من ثلاث قوى: الأنا، الأنا الأعلى، و الهو. و هي في صراع دائم و تتجلّى محصلته في تمظهرات سلوك الشخص في أي موقف. "و لهذا الصراع وسائل معينة يصل بها إلى تكوين المحصلة، يُطلق عيها "فرويد" اسم الآليات منها : القمع "Suppression " و الكبت " répression" و التسامي "sublimation" والتبرير، و القلب" conversion " و التقهقر... ".
و يرى "فرويد" أنه في الحين الذي ينحلّ فيه الصراع إلى صورة مقبولة شخصيا بواسطة آلية "القلب" باعتباره منفذا للطاقة المحتبسة، "فإن التسامي يؤدي إلى إظهار عبقرية و امتياز في الفن أو في العلم".
وإذا كان" فرويد" يركّز في تحاليله بصورة عامة على "اللاّشعور الشخصي" و على "الصراع" باعتباره محصّلة شخصية، فإن "ك. يونج" . " k.Yong « يتجاوز ذلك إلى "اللاّشعور الجمعي"، و يرى "أن علّة الإبداع الفني الممتاز هو تقلقل اللاّشعور الجمعي في فترات الأزمات الاجتماعية،ممّا يقلّل من اتزان الحياة النفسية لدى الفنان و يدفعه إلى محاولة الوصول إلى اتزان جديد" . معتمدا في ذلك على مجموعة من الآليات الموصلة، كآلية الإسقاط "projection" و آلية الحدس «intuition»؛ التي هي "القدرة على سبر أغوار المجهول دون الاعتماد على مشاهدات أو مقدمات أو خطوات عقلية سابقة".
و قد كان لدعوة "فرويد" و "يونج" للاهتمام باللاّشعور، الأثر العميق في تطوير الدراسات النفسية للظاهرة الأدبية، و في ذلك يقول أحد الدارسين : "إن الدعوة إلى اللاّشعور قد أتاحت لنا تصفية إحساسنا بالشعر و تعميق ذلك الإحساس و الشعور".
ب- الاتجاه شبه التحليلي النفسي للأدب (*):
بعد انحسار موجة المحللين النفسيين في دراسة الأعمال الأدبية نظرا للانتقادات التي وجهت لإنجازاتهم، من مثل افتقارها للحسّ النقدي و الجمالي نظرا لعدم قدرتها على إدراك استقلالية الظاهرة الأدبية، و خلوّ طرائق الدراسة فيها من الآليات النقدية و العدّة الإجرائية الكفيلة بحفظ خصوصية الأدب و عدم تحويله إلى عميل من عملاء المصحّات النفسية. ظهر اتجاه جديد عمل على الاستفادة من كشوف التحليل النفسي، دون الوقوع في مطبّات التوجّه الطبّي السريري للأعمال الأدبية و أصحابها. و وضع لنفسه – بالإضافة إلى ذلك- خلفية تنظيريّة و أساليب تحليلية أيضا .
و يعدّ " غاستون باشلار" ( Gaston.Bachelard ) ، رائدا لهذا الاتجاه، إذ أهّلته حصيلته المعرفية و العلمية الثرّة إلى المزج بين فلسفة العلوم و التحليل النفسي، فأنجز ما يربو على الثلاثين كتابا في مختلف حقول المعرفة الإنسانية مثل:" التجانس المتعدد في الكيمياء الحديثة"، و" الروح العلمية الحديثة"، و" حدس اللحظة"، و" جماليات المكان" و "شعرية أحلام اليقظة"، و" حق الحلم"، و" التحليل النفسي للنار"، و" الماء و الأحلام" و "لهب الشمعة"... و تعدّ أفكاره و تصوراته حول" أحلام اليقظة" من أكثر أفكاره وتصوراته شيوعا و استلهاما من قبل المبدعين و النقّاد على حدّ سواء، إذ استطاع أن يجد محددات نفسية لها تقوم على الجمع بين الإدراك والإبداع .
و لأن علاقته بالنقد لم تكن أصيلة – فهو ابستمولوجي بالأساس- "فإن آراءه و تحليلاته النقدية كانت ذات طابع علمي مرتبط بتوظيف الأنساق الفكرية و فهم معطياتها المادية، ممّا جعل خطابه النقدي يميل نحو الخطاب الفلسفي ويستعير منه أكثر الأدوات و المفاهيم".
ج- النقد النفسي:
تعاقبت الجهود الرامية إلى ردم الهوة بين الجانب الجمالي في الفن و الأدب و الجانب العلمي للتحليل النفسي على يدّ مجموعة كبيرة من الدارسين، الذين عملوا على توظيف القسط الضروري فقط من التحليل النفسي، بحيث يضمنوا للأدب استقلاليته، إلى حين ظهور "شارل مورون" ( Charles.Mauron) ، الذي ظهر معه "النقد النفسي".
تحقّّق اللقاء بين النقد الأدبي و التحليل النفسي على يد "شارل مورون"، "الذي لايتردّد في تسمية مذهبه بالنقد النفسي" Psychocritique"). فقد تكونت لهذا الناقد ثقافة علمية و أدبية في وقت معا، و قد كانت لدراساته عن "اللاشعور" في آثار "راسين" و "الاستعارات الملحّة و الأسطورة الشخصية" مساهمات قيّمة في مجال النقد الأدبي و التحليل النفسي.
انطلق "مورون" في نقده النفسي من استبعاد أن يكون التحليل النفسي للأدب و الفن مجرد تحليل "إكلينيكي"، تتحكّم فيه و تضبطه قواعد التشخيص الطبّي، عل الرغم من أهميتها في تناول شخصية الأديب. و ركّز في دراسته لشخصية "راسين" و مسرحياته على "اللاشعور، و مركب أوديب. و مبدأ اللذة، و الصادية و المازوخية، و الكبت الشديد، و رقابة الأنا الأعلى ...و لم يهمل أيضا تحليل الصراعات الكامنة وراء المآسي، و استخلاص بنيتها المتجانسة بالاعتماد على العناصر البيوغرافية".
و يعتبر "مورون" فن القراءة الدعامة الأساسية التي يقوم عليها منهجه النقد نفسي، و الذي ينطلق فيه من رؤية تُحدّدُ الإبداعَ الأدبي في ثلاثة عوامل هي: الوسط الاجتماعي وتاريخه ،وشخصية الأديب وتاريخها،واللغة وتاريخها.ويعتبر عامل شخصية الأديب وتاريخها موضوع النقد النفسي في المقام الأول .
ويمكن إيجاز المبادئ التي اعتمدها "مورون" في منهجه كما يلي:
1- ارتياد عالم النص الأدبي باعتباره ظاهرة فنية ولغوية، وليس كوثيقة معرفية.
2- التنقيب في مخبّآت النفس اللاشعورية للمبدع من خلال العناصر المكونة للأثر الأدبي وفيما اختاره الأديب من عبارات وأفكار تمثل – في الحقيقة-الجانب اللاّواعي من حياته الخفيّة،"وهي التي تقودنا إلى الصور الأسطورية والحالات المأساوية والباطنية التي انطلق منها الأثر الأدبي".
3-دراسة النص الأدبي دراسة نقدية نفسية، لا تقتصر على تحليل الأثر تحليلا شكليا ولغويا، ولا تقتصر على تحليله تحليلا نفسيا، وإنما بتأسيس وحدة بين التحليلين.وذلك بالبحث في الصلة بين جوانب النفس اللاشعورية للشخصية المبدعة – من جهة-،والشبكة الدلالية في العمل الإبداعي من جهة أخرى.
وكخاتمة لهذا المدخل النظري نقول أن موضوع "الصراع وآلياته النفسية"في الأعمال الأدبية، من المواضيع الأساسية في النظرية السيكولوجية، وان اتجاه النقد النفسي وما حققه على المستويين التنظيري والتطبيقي ووضعه التحليل النفسي في خدمة النصوص الأدبية، هو المنهج الأنسب لهذه المداخلة في قسمها التطبيقي. ومن أجل تحقيق ذلك اخترنا الخطّة الإجرائية التالية:
1- تجليات الصراع وعناصره في قصيدة"الذبيح الصاعد".
2- الآليات النفسية للصراع ودلالاتها في القصيدة.
3- خاتمة.
1- تجليّات الصراع وعناصره في قصيدة "الذبيح الصاعد":
لن نجانب الصواب إن قلنا أن ديوان"اللهب المقدس" برمّته،ينبني على فكرة الصراع، ويتخذها كأيديولوجيا.إذ من خلال العنوان الرئيس والعناوين الفرعية أيضا يمكن أن نقرأ ذلك. وبواسطة فن القراءة دائما ندرك إن المطابقات و المقابلات و الحضور الكثيف للثنائيات الضدية و غيرها فيه، لم يأت صياغة فحسب، و إنما هي تغذية راجعة لثقافة مرحلة تاريخية بأكملها؛ مورس فيها الصراع على المجتمع الجزائري، فانعكس على تعابيره المختلفة ومنها ديوان "اللهب المقدس" الذي غدا "الصراع" فيه بمثابة الدم في جسم الإنسان.
و لم تخرج قصيدة "الذبيح الصاعد" –التي تتصدّر الديوان- عن الحلبة الصراعية التي وضع "مفدي" نفسه و فنّه في أتونها، بل جاءت لتأخذ مكان الصدارة فيه أيضا ، و لهذا السبب وقع اختيارنا عليها بالذات، لما رأينا في حقلها النفسي من صلاحية لتقديم دراسة نقد نفسية، و لما تحمله من تعابير ظاهرة و خفية عن مكونات الشاعر و المتلقي النفسية، وما تحتويه من علاقات عاطفية موجبة و سالبة شديدة الثراء، و ما تتناوله من تيمات سيكولوجية تنمّ عن ثقافة عالية تعبر بدورها عن موقف واضح المعالم من الوجود.
أ- تاريخ النص / تاريخ الصراع :
إذا كان صدر المداخلة لا يتسع للحديث عن العلاقة بين التاريخ و الأدب و لا عن علاقة الصراع الإنساني بالفن تاريخيا، فإنه لن يضيق في وجه البحث عن العلاقة بين النص – مناط الدرس- و اللحظة التاريخية التي وُلد من رحمها.و كذا علاقته باللحظة الخافية للصراع، و التي تضرب بجذورها في عمق "المطموس".
و إذا كانت عملية القبض على اللحظة التاريخية التي ولّدتْ النص أمرا يسيرا لأنها بادية فيه، فإن القبض على اللحظة الخافية يستوجب الغوص في المكونات النفسية للشاعر و في لا شعوره الجمعي بالخصوص .لأننا نعتقد أن الشاعر في مواجهته للحظة التاريخية المأساوية التي ولّدت الإبداع لديه استخار موروث شعبه و أمّته – ليس هذا فحسب - و استخار موروث الإنسانية جمعاء أيضا، بطرق واعية حينا و بطرق لاواعية أحيانا أخرى لتحقيق جملة من الأهداف، سنعمل على كشفها في حينه .
يتشكّل النص بالاعتماد على الخيط الشعوري السائد فيه من لحظتين سيكولوجيتين تتوزع اللحظة السيكولوجية الأولى في القصيدة من البيت الأول إلى البيت الواحد و العشرين، و يصف فيها الشاعر "المثير" الذي أفاض كأس الإبداع لديه، و المتمثل في تلك اللحظة التاريخية الهامّة و المأساوية من تاريخ الثورة الجزائرية، و التي سيق فيها الشهيد "أحمد زبانا" من قبل الهمجية الاستعمارية ليدشّن مقصلة سجن بربروس بقطع رأسه. و ذلك في ليلة الثامن عشر من جويلية سنة 1955.
و لأن الحادثة كانت عظيمة في مأساويتها، فقد انعكس ذلك على لغة الخطاب الشعري في هذا القسم من النص، فجاءت حلميّة مُثخنة بسطوة اللاوعي من فرط الصدمة. و سنوضح ذلك في أثناء حديثنا المقبل عن الآليات النفسية للصراع في النص.
أمّا اللحظة السيكولوجية الثانية، فتتوزع على باقي أبيات القصيدة، و يتكفل الشاعر خلالها بالرد و الإجابة على تلك الحادثة المأساوية و السياق الذي أوجدها، الظاهر منه و الخفي.و قد تميزت لغة هذا القسم بسيطرة لغة الشعور مع حضور فجائي لبعض الخطابات اللاشعورية، و التي سنستثمرها في حديثنا عن الصراع الخفي في النص و علاقته بالمكونات النفسية للشاعر و لاشعوره الجمعي.
و النص بالنظر إلى خيطه الشعوري و أجوائه النفسية و التاريخ الذي أوجده، و علاقة ذلك التاريخ بسيكولوجية الشاعر، هوعبارة عن "مثير" و "استجابة" بحسب التعبير "الجشطالتي". و فيما يلي سنقوم بتحديد أطراف الصراع و أسبابه الظاهرة و الباطنية، لنمرّ بعد ذلك إلى آلياته النفسية.
أ- أطراف الصراع و عناصره في النص:
جاء في النص التقديمي للقصيدة أن هذه الأخيرة "نُظمت بسجن بربروس في القـاعة التاسعة في الهزيع الثاني من الليل أثناء تنفيذ حكم الإعدام على أول شهيد دشن المقصلة المرحوم "أحمد زبانا" و ذلك ليلة 18 جويلية 1955 " ونفهم من ذلك أن النص ولد في مكان غير عادي و في زمن غير عادي وفي سياق غير عادي أيضا, وقد تضافرت هذه الفضاءات غير العادية مجتمعة لتشكل الفعل الضاغط على نفسية الشاعر الذي لجأ بدوره إلى الشعر باعتباره تعبيرا غير عادي ليفسح من خلاله عن محصلة الصراع لديه.
و تفيد القراءة الفنية للصراع في النص بأنه يتجلّى عبر مستويين أحدهما ظاهري و الأخر باطني،ولكلّ مستوى من هده المستويات أطرافه وأسبابه، وتيماته، وعلاقاته العاطفية أيضا. وتحديد مكونات المستوى الأول أمر يسير، أما المستوى الثاني فإن تحديد مكوناته ليست كذلك،بل يحتاج منا أن نجتاز حدود القراءة درجة درجة بحثا عن"النفسية" المنشأة للأفكار و الصور.
يقوم الصراع الظاهري في النص بين طرفين، جَمَع كلُ طرف لزاويته مجموعة من العناصر لتقوية جانبه، نظرا لما لتلك العناصر من علاقات عاطفية بينها. ويشكّل (الشاعر+ الشهيد+ المجتمع الجزائري الثائر)، عناصر الطرف الظاهري الأول في عملية الصراع في النص. أما العلاقة الجامعة بين عناصر هذا الطرف فهي التضحية في سبيل الوطن لنيل الاستقلال. نفهم ذلك من مقول القول التالية الواردة في النص:
"نحن ثرنا فلات حين رجوع * أو ننال استقلالنا المنشودا"
ويشكّل المستعمر وجنوده في الجزائر وأتباعه من الجزائريين الذين استمالتهم أطماعه، العناصر الأساسية للطرف الظاهري الثاني. أما العلاقة الجامعة بين العناصر المكونة لهذا الطرف، فهي استعباد الشعب الجزائري السيدّ في أرضه ونهب خيراته. ويعّبر الشاعر عن ذلك بقوله:
دولة الظلــم للزوال إذا ما * أصبح الحرّ للطغام مسـودا
يا ضلال المستضعفين إذا هم * ألفوا الذلّ واستطابوا القعودا
أما باطنيا فإن الصراع أعمق من هذا، إذ يتجاوز حادثة إعدام الشهيد"أحمد زبانا" واغتصاب الأرض الجزائرية من قبل الاستعمار الفرنسي، ليصل إلى الثورة التي شكلها الدين الإسلامي الحنيف والتي هزت أركان العالم القديم، ويعرّج ليستحضر الحروب الصليبية الآثمة والحاقدة التي اكتوى بنارها العالم الإسلامي. ومن هذا المنظور لم يعد الصراع صراعا من أجل استرداد الأرض المغتصبة وإنما استرداد الوظيفة الحضارية المستلبة، والاتزان النفسي الغائب بفعل دلك الاستلاب.
والاستلاب عنصر أساسي من العناصر التي تدخل في صميم المكونات النفسية للمستعمر التي يشكل التحريف والحقد أيضا أبرز أعمدتها. نجد ذلك في قول الشاعر:
سوف لا يعدم الهلال صلاح الد * ين فاستصرخي الصليب الحقودا
فهذا الخطاب الشعري الذي تمكّن من الإفلات من السياق الواعي الذي سبقه وتلاه، يختزن بداخله مجموعة من الرموز، عمل الاستعمار خلال حملته الشرسة ضد المجتمع الجزائري على طمسها وتغييبها، ويكفي أن نستمع"للكاردينال لا فيجري" حين يصرّح قائلا:"علينا أن نخلّص هذا الشعب. ونحرّره من قرآنه، وعلينا أن نعتني على ا للاهتمام باللاّشعور، الأثر العميق في تطوير الدراسات النفسية للظاهرة الأدبية، و في ذلك يقول أحد الدارسين : .
2- الآليات النفسية للصراع ودلالاتها في القصيدة.
3- خاتمة.
1- تجليّات الصراع وعناصره في قصيدة لأقل بالأطفال لتنشئتهم على مبادئ ما شب عليها أجدادهم، فإن واجب فرنسا تعليمهم الإنجيل، أو طردهم إلى أقاصي الصحراء بعيدين عن العالم المتحضر".
فالصراع الخافي-مثلما عبر عنه النص- يضرب بجذوره في عمق التاريخ؛ هذا التاريخ المخزون في الضمير الجمعي للشاعر، فسح له المجال ليتٌمّ توظيفه عبر رمز"الهلال" الرامز إلى الأمة الإسلامية، ورمز"الصليب الحاقد"، الرامز إلى المسيحية المنحرفة الحاقدة على الإسلام. ويأتي اسم "صلاح الدين" ليرمز إلى مآل ذلك الصراع وخاتمته، من باب أن التاريخ يعيد نفسه.
ب-أسباب الصراع في النص:
تنقسم أسباب الصراع في النص بانقسام أطرافه إلى أسباب ظاهرة وأخرى خفيّة، ويبوح النص بالكثير عن الأسباب الظاهرة، بينما يكتفي بالتلميح للأسباب الخفية، تاركا للمتلقي المشاركة في الكشف عنها، من منطلق أن القراءة نقطة التقاء بين سيكولوجيتين بالأساس.
تكشف الأساليب الاستفهامية المتعجّبة والمتعاقبة بشكل لافت للانتباه، الحالة النفسية الثائرة والغاضبة لصاحب النص، وتكشف أيضا عن الأسباب الظاهرة للصراع القائم بين أطرافه الظاهرين. وهي أسباب قائمة على واقع موضوعي أساسه الاغتصاب؛أي بين مستعمر غصب الحقوق وأصحاب حقوق يريدون استردادها . نجد ذلك في قول الشاعر:
ليس في الأرض سـادة و عبيد * وكيف نرضى بأن نعيش عبيدا؟!
أمن العدل صاحب الدار يشـقى * و دخيل بها يعيش سعيـــدا؟!
أمن العدل صاحب الدار يعرى * و غريب يحتل قصرا مشيـدا؟!
ويجوع ابنها فــيعدم قوتــا * و ينال الدخيل عيشا رغيـدا؟!
ويبـيح المسـتعمرون حماهـا * ويظل ابنها طريدا شريــدا؟؟
أما الأسباب الخفيّة للصراع فأنها لا تكاد تبدو حتى تختفي، ولا تكاد تختفي حتى تبدو بأشكال مختلفة، وكأنّ ما تحمله من قدرات على الظهور أقوى من قدرة الشاعر على إخفائها، فبين الحين والآخر تعلن عن شدّة قوتها وسطوتها على "أنا" الشاعر وضغطها على ساحة شعوره ولو من بعيد ، كاشفة بذلك عن مكونات نفسيته وعناصر هويته، ومبتغاه من الصراع أيضا.
إن الصراع لدى"مفدي" في المرحلة التاريخية التي يمثّلها، ليست بين غاصب للحقوق زجّ به في أعماق سجن "بربروس"، وذبح رفيقه ، ونهب خيرات شعبه السيد في أرضه فحسب؛وإنّما هو صراع متصل الحلقات بين الصليب المسيحي المحرّف والحاقد، والتعاليم الإسلامية السمحاء، إنه الصراع الأزلي بين الباطل والحق، والإيمان والكفر؛ صليب اعتاد القتل (حادثة المسيح الذي زعموا قتله)، وإسلام ينبذ الظلم والاعتداء واستلاب الحقوق.
وهنا تظهر قوة حدس الشاعر وقدرته على سبر أغوار المجهول دون الاعتماد على مشاهدات أو مقدمات أو خطوات عقلية سابقة؛ فالمسيح، والهلال، والصليب، و"صلاح الدين" ... رموز بعيدة تقبع في لا شعور الشاعر، وتختزن كرنولوجيا الصراع الدائر في وطنه خلال الفترة التي تواجد فيها .. لجأ إليها محاولا القبض على اللحظة النفسية المنشأة لذلك الصراع فوجدها تتمثل في الحقد الدفين والمسيطر على شخصية المستعمر منذ أمد بعيد. وهو لجوء ينمّ عن مكونات الشاعر النفسية والدينية وتمثّله لموروث مجتمعه وأمته والإنسانية جمعاء.
وفيما يلي جدول توضيحي لأطراف الصراع وأسبابه ونتائجه:

المستعمر الغاصب+أتباعه من الجزائريين الشاعر+الشهيد+الشعب الجزائري الثائر أطراف الصراع الظاهر
الصليب الحاقد/ المسيحية المحرّفة الهلال/الإسلام أطراف الصراع الخافي
اغتصاب الحقوق+التبعية للظالم طمعا فيه وخوفا منه استرداد الحقوق المغصوبة أسباب الصراع الظاهر
الباطل/ الكفر الحق/ الإيمان أسباب الصراع الخافي
الاندحار/ الطرد الاستقلال نتائج الصراع الظاهر
تراجع الحملة الصليبية الحاقدة إعلاء كلمة الإسلام نتائج الصراع الخافي

ونخلص في خاتمة هذا العنصر إلى القول بأن الشاعر لم يكتف في بناء صوره الشعرية بالمعطيات التي أفرزها الواقع الذي أراد تمثيله،وإنما لجأ إلى عناصر ميتا واقعية استمدّها من لاشعوره الجمعي لتشكّل خلفية قوية للرسالة التي يروم توصيلها إلى المتلقّي لاعتقاده أن حضور تلك العناصر في خطابه الشعري من شأنه أن يلبي حاجاته النفسية ويرتب نوازعه المشتتة ويعيد له دوره الحضاري المعطل.
2- الآليات النفسية للصراع في النص :
يشكّل الاستعمار كسلوك، صعوبة نفسيّة و اجتماعية لدى الشعوب التي اكتوت بناره ردحا من الزمن. و تشكّل حادثة ذبح الشهيد "أحمد زبانا" صعوبة نفسيّة و اجتماعية لدى الشاعر؛ فهي فعل دموي عنيف، و نهاية مأسوية لحياة شخص مهم في حياته و في مساره الفكري و النضالي، يختزل العديد من الأفكار و المبادئ و الآمال و الطموحات و الرؤى والمشاريع التي يطمح الشاعر ألاّ تنتهي و أن يكتب لها الحياة. إلا أن حادثة الذبح شكّلت لديه صدمة عنيفة وضغطا إضافيا على نفسيته و ذهنيته على حد سواء.
و تمثّل حادثة الذبح التي برع شاعرنا في تصويرها على امتداد واحد و عشرين بيتا، اختبارا حقيقيا لقدراته النفسية و حدود موهبته الشعرية، و كفاءته الاجتماعية و قدرته على حل المشكلات. فالحدث من هذه الزاوية "اختبار للقدرة العقلية و الكفاءة الذاتية، و القيمة بالنسبة للأشخاص الآخرين".
إن حادثة ذبح الشهيد "أحمد زبانا" يٌمكن تفهُّمها بحسب المقصديّة على أنها تحديد لمصير كل شخص يثور ضد التواجد الاستعماري الفرنسي بالجزائر، و بالتالي فالقصد منها تخويف و ترهيب الشعب الجزائري الثائر و قتل روح الصراع و المواجهة لديه. فماذا وجد فيها الشاعر؟
لقد وجد الشاعر في هذه الحادثة الضاغطة وهذا السلوك الترهيبي فرصة لإظهار فاعلية الذات و قدرتها على اتخاذ المبادرة و المثابرة في مواجهة المحنة / الصدمة. فقد رافق الشهيد بعزم و ثبات من لحظة اقتياده إلى المقصلة إلى لحظة تعريج روحه إلى السماوات العلا ،واصفا تفاصيل تلك الرحلة وصفا يمتزج فيه الواقعي الشعوري بالميتاواقعي اللاشعوري. و يلتحم فيها الفني بالنفسي و التاريخي بالمتخيل. و المؤكد أن تنفيذ حكم الإعدام على رفيقه خلق لديه حالة متقدمة من القلق و التوتر ستؤثر حتما على اتزان نفسيته. فما هي الآليات النفسية التي لجأ إليها الشاعر لتجاوز تلك الحالة و التصدي للدور الاجتماعي الذي رأى أنه لازما له ؟
يطلق علم النفس على "الآليات النفسية للصراع" مصطلح "المكنز مات الدفاعية" تارة و "الحيل الدفاعية" تارة أخرى. و يعرفها "حكمت درو الحلو" و "زريمق خليفة العكروتي" في مؤلفهما "مدخل علم النفس"، "بأنها تنمو مع الشخص منذ الطفولة، و يلجأ إليها لحل أزماته و لو وقتيا". و قد كشف علم النفس أزيد من خمسين آلية أو ميكانيزم أو حيلة من آليات الصراع لحل الأزمات و الصراعات النفسية منها : الإسقاط، الكبت التقمص، التكوين العكسي، النكوص، السلوك العدواني، أحلام اليقظة، طلب الإسناد الانفعالي ...و غيرها. و من بين الآليات النفسية الحاضرة في النص ما يلي:
أ- التسامي:
يُمكن القول أن الأزمة الخانقة التي مرّ بها المجتمع الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، كانت سببا في توجّه تجربة "مفدي" الشعرية، تلك الوجهة الصراعية الثائرة؛ فقد انتجت مجموعة من العوامل نحت بها ذلك المنحى؛ فبالإضافة إلى العامل الأسري المشبّع بالقيم الدينية و الوازع الجهادي، فقد نشأ في كنف العديد من الجمعيات و النوادي الثقافية و الحركات و الأحزاب السياسية و الأفكار و البرامج، التي كان لها الأثر الكبير في تكوين وعيه و إحساسه بأن تلك الأزمة يمكن التصدي لها و حلّها عن طريق المغالبة والصراع .
و قد كانت منعكسات تلك التنشئة بادية في المُحصّلة السلوكية لشاعرنا، و لو أردنا أن نتحقّق من ذلك فلن نجد خيرا من وصف "أحمد توفيق المدني" له إذ يقول : "كان ملكا في صورة إنسان، و ما عرفت في حياتي رجلا مؤمنا كإيمانه، فاضلا كفضله، متواضعا كتواضعه، مجاهدا كجهاده (...) كان كلامه حكمة، و كان عمله جهادا، و كان مسعاه نفعا لأمة الإسلام".
و بالعودة إلى منشأ النص نجد انه ابن شرعي لحدث بعينه، جرت تفاصيله في سجن بربروس، نظمه الشاعر و هو يودّع أول شهيد على مقصلة السجن نفسه، أي أن لحظة ذبح الشهيد كانت ذاتها لحظة ميلاد القصيدة. و ذبحُ الشهيد يؤدي لا محالة إلى إحساس الشاعر بالإحباط، خاصة إذا كان ينتظر المصير نفسه. و الإحباط "حالة يشعر بها الفرد عندما يصطدم مع شيء ما، أو عندما يحول أمر أو آخر بينه و بين ما يريد". إلا أن ذلك لم يحدث. فلماذا يا ترى ؟
استعمل "مفدي" آلية "التسامي"، التي يرى "فرويد" إنها "تؤدي إلى إظهار عبقرية و امتياز في الفن و العلم" و ذلك حين سلك بطريقة لاشعورية مسلكا ثقافيا و حضاريا و فنيا بالتزامن مع الحدث العنفي و الدموي و العدواني الذي مورس على نفسيته. و ذلك حتى لا تتراكم الأحداث و تتضاعف ضغوطها عليه مما يعرقل الدور الاجتماعي الذي ينتظره. و قد مكنه استعمال هذه الآلية، من التعالي بطاقته الداخلية عن السلوك العدواني المباشر (الهيستيريا) و تحويلها إلى سلوك فني و حضاري مقبول ذاتيا و اجتماعيا؛ فعلى المستوى الذاتي: شبّع من خلال ذلك السلوك رغبته في مطارحة المستعمر و النيل منه. وعلى المستوى الاجتماعي: لم يخيب رأي مجتمعه فيه و قدّم له عملا رأى أنه يلبّي حاجاته النفسية و الذهنية.
و الحديث عن آلية "التسامي" عند "مفدي" يقودنا للحديث عن الوظيفة التطهيرية للفن عموما و الشعر بشكل خاص، فهو ينطوي على عامل تطهير النفس من أدرانها لما يحمله من مفاهيم أخلاقية، فهو "خليق بأن يتسامى بأرواحنا و يساعدنا على كبح جماح أهوائنا (...) و قد صنعت الفنون من أجل تنظيم حياة الإنسان الداخلية و تهذيب مشاعره، فهي تسمو بروحه و تبلغ بها قيم الحق و الخير".
ب- القلب:
عدّ "فرويد" "القلب" من الآليات النفسية اللاشعورية التي يلجأ إليها الشخص أثناء الصراع، و رأى أن به "ينحلّ الصراع إلى صورة مقبولة شخصيا، فتفيد كمنفذ للطاقة المحتبسة". و تقوم هذه الآلية عنده على قلب نمط من السلوك من صورة إلى صورة أخرى مقبولة شخصيا، وذلك لبشاعة الصورة الأولى و قسوتها على الجانب النفسي.
و بالرجوع إلى النص، نجد أن أول ما يوحي به العنوان "الذبيح الصاعد" هو أن بطل القصيدة سيذبح أو يكون قد ذبح، وأن الشاعر سيقوم بنقل التفاصيل الدموية لتلك المذبحة من قريب أو بعيد، و وصف فضاءاتها المأسوية و السلبية. هذا هو الإيحاء الأول الذي يطرحه العنوان.. إيحاءات لن تخرج عن الكتابة المشهدية التي سترصد عيون السجناء تطلّ من فجوات أبواب الزنزانات، تراقب مرور السجين مقادا إلى المقصلة. إنه مشهد مؤلم "تتوقف فيه كل حركة : حركة التنفس في الصدور، حركة الزمن بين الجدران، لأن النهاية الدنيوية قد أزفت".
و لكن الولوج الهادف إلى عوالم القصيدة عبر أبياتها الواحدة و العشرين الأولى، يبدّد هذا التصور و يرى عكسه تماما، و ذلك من خلال عملية "القلب" التي قام بها الشاعر : قلب المذبحة إلى عرس، و الموت الأكيد إلى خلاص و فوز، و لقاء الذبّاح إلى لقاء مع الله –عز وجل- .هكذا تصبح المذبحة (المقصلة)، و الموت، و الذبّاح، أمور مقبولة على المستوى النفسي، و لاتشكّل تهديدا عليه . و مقبولة اجتماعيا أيضا.
و قد تضافرت عدة ألفاظ لإشاعة هذا الجو المقبول و الإيجابي و المشرق، بدءا من الفعل "قام" الذي يدل على الحركة الذاتية و الإرادية للشخص عكس الاقتياد أو الأخذ أو الجرّ، و تأتي بعده أفعال و أوصاف ترسم لنا أجواء الفرح و فضاءات المسرة، لينقلب المأتم إلى عرس بهيج، فالشهيد قام يختال، يتهادى، نشوان، باسم الثغر، يستقبل الصباح الجديد، شامخا أنفه، رافعا رأسه، رافلا في خلاخل مزغردة...عبر سلسلة طويلة من الانزياحات التي منشؤها النفس الرافضة للموقف الذي وٌجدت فيه، فقادتها عبقريتها الشعرية و حدسها الخلاق إلى إيجاد معادل موضوعي تطمأن له و يلقى لدى المتلقي الاطمئنان نفسه .و ذلك من خلال الاتكاء على مكنون وجدانها و لا ضميرها الجمعي الذي ينصّ على أن الشهداء لا يموتون بل يظلون أحياء عند ربهم يرزقون .
ج- الإسقاط :
يرجع " ك .يونج" علة الإبداع الفني إلى "تقلقل" اللاشعور الجمعي في فترات الأزمان الاجتماعية"، ممّا يؤدي إلى تشتّت اتزان الحياة النفسية لدى الفنان فيندفع محاولا الوصول إلى اتزان جديد. و يستعمل لذلك آلية "الإسقاط" التي هي "عملية سيكولوجية ينسب الفرد عن طريقها، أفكاره و مخاوفه و رغباته و خصائصه غير المرغوب فيها إلى أشخاص آخرين أو أشياء بطريقة لاشعورية كوسيلة لحماية ذاته". مما يتيح له تجنب السقوط أمام دوافعه العدوانية و التأكيد على أن الآخرين هم الذين يمتلكون مثل هذه الدوافع .
و قد عاش المجتمع الجزائري تقلقلا شديد الأثر من قبل الاستعمار الذي عمل على طمس لاشعوره الجمعي وهدم رموزه المقدسة. و قد أدرك شاعرنا ذلك مبكرا فاندفع محاولا الوصول إلى توازن جديد يعيد للمجتمع دوره الحضاري المعطل و حقوقه الشرعية المستلبة. و سجل ذلك عل امتداد مشواره الحياتي و الأدبي، حتى لقب بشاعر الثورة الجزائرية .
و بالعودة إلى النص – مناط الدرس- نجد أن الشاعر قد تكيّف مع الحادث الدموي الذي وجد نفسه في صميمه عن طريق آلية "الإسقاط" و ذلك حين شبه بطل قصيدته "أحمد زبانا" ؛ذلك الإنسان العادي بالمسيح (النبي، الرسول)، فهو (كالكليم)، و (قد زعموا قتله) و (ما صلبوه)... والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل أراد الشاعر أن يساوي بين شخص "أحمد زبانا" و شخص "المسيح" و أن يضع الإنسان العادي موضع الأنبياء و الرسل ؟
يدرك "مفدي" مدى الاختلاف الموجود بين البشر العاديين و الأنبياء و الرسل، كما يدرك التنافر الكلي بين المشبه و المشبه به من الناحية ذاتها. ويمكن فهم ما فعله كونه أسقط حادثة تاريخية مجتزأة من واقع معيش على حادثة مجتزأة من واقع مختزن في ضميره الجمعي، و ذلك نظرا لتساوي الحادثتين في الفعل و اختلافهما في الشدة في نظر المستعمر بالخصوص، (زبانا ذبح/ المسيح ذبح)، (ذبح زبانا = ذبح المسيح). إن هذا التساوي في الفعل و الاختلاف في شدّة الفعل، هو ما قصد إليه الشاعر، لقد قصد تعويم الحاضر المؤلم في أحداث الماضي الأكثر إيلام و بالتالي يهون الحدث المؤلم الصغير (ذبح زبانا)، أمام فداحة الجرم الأكبر (قتل الأنبياء) . و يكون بهذا الإسقاط قد كشف عن المرجعية العدوانية و الدموية للمستعمر و عمل على تأكيدها في ذهن المتلقي دون أن ينساق هو إلى ذلك السلوك.
د-طلب الإسناد الانفعالي:
تشير نتائج الدراسات العلمية إلى أن"الإسناد الانفعالي مخفّف للضغط ويقلّل من تأثيره السلبي على الجانب النفسي والجسمي". وطلب الإسناد الانفعالي أو الاجتماعي "هو محاولة البعض للحصول على مساعدة الآخرين اجتماعيا أو نفسيا تبعا لتقدير المعنيين أنفسهم"28. فقد يلجأ البعض إلى الأهل أو الأقارب بحثا عن الدعم الأمني عند الشعور بالتهديد، وقد يتجه البعض إلى الأصدقاء أو الأطباء النفسيين، ويتجه البعض الآخر إلى الدين لما يلقون فيه من أمان وسكينة وطمأنينة،ولما تضفيه الصلوات وقراءة الأدعية من راحة نفسية تقوّي العزيمة والإرادة.
وتشير"خالدة سعيد" "أنّ أيّ شخصية ثقافية تواجه تحدّيات مصيرية تردّ على التحدّي عن طريق الإلحاح على مكوّناته الأساسية". جاءت إشارتها هذه في معرض حديثها عن المكوّنات الأساسّية التي ساعدت المشارقة والمغاربة العرب، على مواجهة الهجمة العنصرية التركية والتحدّي الحضاري الغربي في العصر الحديث ولخصتها(المكوّنات) في عنصري"الدين" و"اللغة". وقالت أنا الإلحاح على عنصر "الدين" مكّن"المغاربة" من مواجهة التحدّي الحضاري الغربي. وهي محقّة في ذلك لما مثّله "الدين الإسلامي" من قوّة إسناد فعّالة في تلك المواجهة.
ولا يصعب على قارئ قصيدة "الذبيح الصاعد" أو الديوان بأكمله،أو شعر "مفدي" عموما، ملاحظة ذلك الحضور الكثيف للطلب الإسناد الانفعالي من الدين الإسلامي، إذ لم يترك الشاعر منهلا من مناهل ذلك الموروث إلاّ واغترف منه. واحتمى به طلبا للعون والتأييد والمباركة والقوّة والتمكين لمواجهة الوضع المأساوي الذي وجد نفسه وشعبه فيه.
وقد تنوعت الينابيع الدينية التي قصدها الشاعر طلبا للإسناد الانفعالي بين القرآن الكريم (اقتباسا وتضمينا) والحديث النبوي الشريف، والتاريخ الإسلامي والسيرة النبوية. ولأن مجال المداخلة يضيق لعرض كل تلك الجهات فسنقتصر على عرض جهة واحدة منه ونعضد ذلك بالتحليل المناسب.
يقول الشاعر واصفا بطل قصيدته:
وتسامى كالروح في ليلة القد * ر،سلاما يشع في الكون عيدا.
وهو قول يتقاطع مع قوله تعالى:"إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر"31. وفي البيت تشبيه،حيث شبه الشهيد"زبانا" بجبريل-عليه السلام- وهو تشبيه قصد من ورائه الإسناد العاطفي، فحضور "جبريل الأمين" وما يمثله من طهارة وبشرى ونقاء، أضفى على المشهد العنفي والدموي المؤلم الماثل أمام الشاعر، أجواء نورانية ربانية ملائكية تسعد النفس بالنظر إليها والبقاء عندها، حيث يغدو الذبح سموّا، والموت حياة، والمذبوح ملاكا طاهرا لا تطاله أيدي البشر، وليلة ذبحه، ليلة القدر "وما أدراك ما ليلة القدر".
أما قوله:زعموا قتله وما صلبوه * ليس في الخالدين عيسى الوحيدا
لفّه جبريل تحت جناحيه * إلى المنتهى رضيا شهيـــدا.
ففيه تضمين لقوله – تعالى- في سورة"النساء" "وقولهم إن قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا إتّباع الظن، وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما".
وهو تضمين عالي الجودة سعي من خلاله الشاعر إلى تتفيه الفعل الاستعماري وتسفيه قدرات مرتكبيه العقلية، فزعمهم " قتل زبانا" زعم كاذب، يُشبه زعمهم قتل "المسيح" .وما قتلوا الاثنين ولكن شُبّه لهم لقصور مداركهم العقلية، لأن القادر على الصعود بـ"عيسى"-عليه السلام- قادر على الصعود بالذبيح"زبانا" أيضا، لأنه على كل شيء قدير. وبهذه الكيفية يكون الشاعر قد لاءم بين دوره الاجتماعي والوضعية النفسية التي وجد نفسه فيها، وذلك من خلال طلب الإسناد الانفعالي من القول القرآني المعجز.
كما نلمس الطلب نفسه في قوله:
اقض يا موت فيما أنت قاض * أنا راض إن عاش شعبي سعيدا
وفيه اقتباس لطيف من قوله تعالى في سورة"طه" "فأقضي ما أنت قاض".والغاية الانفعالية منه طلب الجرأة وروح الاستبسال والثبات على الموقف في شموخ وعزة وإباء أثناء مقارعة الفعل الاستعماري الهمجي.
والطلب الانفعالي نفسه نجده في قوله:
نحن ثرنا فلات حين رجوع * أو ننال استقلالنا المنشودا
والغاية النفسية منه الاستعانة بالقدرة الإلهية التي أهلكت القرى الظالمة من قبل، نجد ذلك في قوله تعالى في سورة "ص":"كم أهلكنا من قبلكم من القرى فنادوا ولات حين مناص". قدرة قادرة على إهلاك المستعمر وجعل مصيره كمصير الأقوام الكافرة الماضية التي لم تصغ لحكمة الله وسنن كونه.وبذلك تهدأ نفسية الشاعر والمتلقي ليتمكن الجميع من استجماع قواه مجددا لمطارحة المستعمر في الجولات المقبلة الحاسمة .
والحديث عن آلية طلب الإسناد الانفعالي وغيرها في النص يطول، ولا يتسع له صدر هذه المداخلة،ونفضل ترك المجال مفتوحا للحضور للبحث والتقصي عنها.

خاتمة:
انطلاقا من الحقل النفسي الذي ناقشناه سابقا ،من خلال تركيزنا على "تجليات الصراع وآلياته النفسية " في القصيدة ،اتضح لنا ما يلي :
1- أن" مفدي " شاعر مقاتل ،مثّل الجزائري والعربي والمسلم بكل القيم التي تحملهاالعروبة والإسلام عبرالأزمان.وقد ساعدته خواصه الذاتية الفريدة كالحدس و الذكاء الخارق والنفس الطويل والقدرة على الإبانة وفهم الواقع،على تطوير آلته الاستقبالية وترجمة مطالب شعبه وحاجاتهم النفسية والاجتماعية شعرا.
2- كانت الأزمات والمحن التي مرّ بها الشعب الجزائري اختبارات حقيقية شحذت همته وضبطت نفسيته وحدّدت لها مساراتها النضالية والإبداعية أيضا.
3- لدى" مفدي" قدرة خارقة على التكثيف ،ثم القيام بعملية تفاعلية بين الكم الهائل الذي ضغطه وركزه بحيث يستطيع نقله الى كيف جديد.
4- ان العملية الإبداعية لا تتم في الواقع الموضوعي ،بل تتم في دخيلة المبدع أي في نفسيته وعقله ثم تجد لها ترجمة في الواقع الموضوعي .
5- اتسمت شخصية الشاعر بالتحدي وحب المغامرة ،الثقة بالنفس،وضوح الرؤية قوة الإرادة وإرادة القوة،إرادة الإبداع ،نقد الآخرين ،اكتشاف العلاقات الدقيقة.
6- يمكن وضع الشاعر في ضوء حالته المزاجية في فئة "اللاشعوريين"؛فهو ينبعث في إدراكه وخلقه للعلاقات الدقيقة من مقومات لاشعورية ووجدانية وعقلية ،أعني من مركب عقلي وجداني مكبوت في داخله ويحرك ذهنه ويحمله على الوقوف على العلاقات الدقيقة للموقف الذي يجد نفسه فيه والقيام بعلاقات جديدة غير مسبوقة.



نماذج من انتاجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

إقرأ كتابك


هذا (نوفمبرُ).. قمْ وحيّ المِدفعا واذكرْ جهادَكَ.. والسنينَ الأربعا!
واقرأْ كتابَكَ، للأنام مُفصَّلاً تقرأْ به الدنيا الحديثَ الأَروعا!
واصدعْ بثورتكَ الزمانَ وأهلَهُ واقرعْ بدولتك الورى، و(المجمعا)!
واعقدْ لحقِّك، في الملاحم ندوةً يقف الزمان بها خطيباً مِصْقَعا!
وقُلِ: الجزائرُ..!!! واصغِ إنْ ذُكِرَ اسمُها تجد الجبابرَ.. ساجدينَ ورُكَّعا!
إن الجزائرَ في الوجود رسالةٌ الشعبُ حرّرها.. وربُّك َوَقّعا!
إن الجزائرَ قطعةٌ قدسيّةٌ في الكون.. لحّنها الرصاصُ ووقّعا!
وقصيدةٌ أزليّة، أبياتُها حمراءُ.. كان لها (نفمبرُ) مطلعا!
نَظمتْ قوافيها الجماجمُ في الوغى وسقى النجيعُ رويَّها.. فتدفَّعا
غنَّى بها حرُّ الضّمير، فأيقظتْ شعباً إلى التحرير شمّر مُسرِعا
سمعَ الأصمُّ دويَّها، فعنا لها ورأى بها الأعمى الطريقَ الأنصعا
ودرى الأُلى، جَهلوا الجزائرَ، أنها قالتْ: «أُريد»!! فصمَّمتْ أن تلمعا
ودرى الأُلى جحَدوا الجزائرَ، أنها ثارتْ.. وحكّمتِ الدِّما.. والمِدْفعا!
شقّتْ طريقَ مصيرها بسلاحها وأبتْ بغير المنتهى أن تَقنعا
شعبٌ.. دعاه إلى الخلاص بُناتُهُ فانصبَّ مُذْ سمع النِدا، وتطوَّعا
نادى به «جبريلُ» في سوقِ الفِدا فشرى، وباع بنقدها، وتبرَّعا!
فلكم تصارع والزمانَ.. فلم يجدْ فيه الزمانُ - وقد توحَّد - مطمعا!
واستقبل الأحداثَ.. منها ساخراً كالشامخات.. تمنُّعاً.. وترفُّعا..
وأرادهُ المستعمرون، عناصراً فأبى - مع التاريخ - أن يتصدّعا!
واستضعفوه.. فقرّروا إذلالهُ فأبتْ كرامتُهُ له أن يخضعا
واستدرجوه.. فدبّروا إدماجَهُ فأبتْ عروبتُه له أن يُبلَعا!
وعن العقيدة.. زوّروا تحريفَهُ فأبى مع الإيمان.. أن يتزعزعا!
وتعمّدوا قطعَ الطريق.. فلم تُرِدْ أسبابُه بالعُرْب أن تَتقطَّعا!
نسبٌ بدنيا العُرب.. زكَّى غرسَهُ ألمٌ.. فأورق دوحُه وتفرَّعا
سببٌ، بأوتار القلوب.. عروقُهُ إن رنّ هذا.. رنّ ذاكَ ورجَّعا!
إمّا تنهَّد بالجزائر مُوجَعٌ.. آسى «الشآمُ» جراحَه، وتوجَّعا!
واهتزَّ في أرض «الكِنانة» خافقٌ.. وأَقضَّ في أرض «العراق» المضجعا!
وارتجَّ في الخضراء شعبٌ ماجدٌ لم تُثنِه أرزاؤه أن يَفزعا
وهوتْ «مُراكشُ» حولَه وتألمّتْ «لبنانُ»، واستعدى جديسَ وتُبَّعا
تلك العروبةُ.. إن تَثُرْ أعصابُها وهن الزمانُ حيالَها، وتضعضعا!
الضادُ.. في الأجيال.. خلَّد مجدَها والجرحُ وحَّد في هواها المنزعا
فتماسكتْ بالشرق وحدةُ أمّةٍ عربيّةٍ، وجدتْ بمصرَ المرتعا
ولَـمِصرُ.. دارٌ للعروبة حُرّةٌ تأوي الكرامَ.. وتُسند المتطلِّعا
سحرتْ روائعُها المدائنَ عندما ألقى عصاه بها «الكليمُ».. فروّعا
وتحدّث الهرمُ الرهيب مباهياً بجلالها الدنيا.. فأنطق «يُوشَعا»
واللهُ سطَّر لوحَها بيمينهِ وبنهرها.. سكبَ الجمالَ فأبدعا
النيلُ فتّحَ للصديق ذراعَهُ والشعبُ فتَّحَ للشقيق الأضلعا!
والجيشُ طهَّر بالقتال (قنالَها) واللهُ أعمل في حَشاها المبضعا!
والطورُ.. أبكى مَن تَعوّدَ أن يُرى في (حائط المبكى) يُسيل الأدمعا
(والسدُّ) سدّ على اللئام منافذاً وأزاح عن وجه الذئاب البُرقعا!
و تعلّم ( التاميزُ ) عن أبنائها و ( السينُ ) درساً في السياسة مُقنعا
و تعلّم المستعمرون ، حقيقة ً تبقى لمن جهل العروبة مرجعا
دنيا العروبة ، لا تُرجَّح جانباً في الكتلتين .. و تُفضَّل موضعا !
للشرقِ ، في هذا الوجود ، رسالةُ علياءُ .. صدّقَ وحيَها .. فتجمّعا !
يا مصرُ .. يا أختَ الجزائر في الهوى لكِ في الجزائر حرمةٌ لن تُقطَعا
هذي خواطرُ شاعرٍ .. غنّى بها في ( الثورة الكبرى ) فقال .. و أسمعا
و تشوّقاتٌ .. من حبيسٍ ، مُوثَقٍ ما انفكّ صبّاً بالكنِانَة ، مُولَعا
خلصتْ قصائدُه .. فما عرف البُكا يوماً .. و لا ندب الحِمى و المربعا
إن تدعُه الأوطانُ .. كان لسانَها أو تدعه الجُلَّى .. أجاب و أَسْرعا
سمع الذبيحَ ( 2 ) ( ببربروس ) فأيقظتْ صلواتُه شعرَ الخلود .. فلعلعا!
و رآه كبَّر للصلاة مُهَلَّلاً في مذبح الشهدا .. فقام مُسَمَّعا !
ورأى القنابلَ كالصواعق.. إن هوتْ تركتْ حصونَ ذوي المطامع بلقعا
ورأى الجزائرَ بعد طول عنائها سلكتْ بثورتها السبيل الأنفعا
وطنٌ يعزّ على البقاء.. وما انقضى رغمَ البلاء.. عن البِلى مُتمنِّعا!
لم يرضَ يوماً بالوثاق، ولم يزلْ متشامخاً.. مهما النَّكالُ تنوّعا
هذي الجبالُ الشاهقات، شواهدٌ سخرتْ بمن مسخ الحقائقَ وادّعى
سلْ (جرجرا..) تُنبئكَ عن غضباتها واستفتِ (شليا) لحظةً.. (وشلعلعا)
واخشعْ (بوارَشنيسَ) إن ترابَها ما انفكّ للجند (المعطَّر) مصرعا
كسرتْ (تِلمسانُ) الضليعةُ ضلعَهُ ووهى (بصبرةَ) صبرُهُ فتوزّعا
ودعاه (مسعودٌ) فأدبر عندما لاقاه (طارقُ) سافراً، ومُقنَّعا
اللهُ فجّر خُلدَه، برمالنا وأقام «عزرائيلَ».. يحمي المنبعا!!
تلك الجزائرُ.. تصنع استقلالها تَخذتْ له مهجَ الضحايا.. مصنعا
طاشتْ بها الطرقاتُ.. فاختصرتْ لها نهجَ المنايا للسيادة مهيعا
وامتصّها المتزعّمون!! فأصبحتْ شِلْواً.. بأنياب الذئاب مُمَزَّعا
وإذا السياسةُ لم تفوِّض أمرها للنار.. كانت خدعةً وتصنُّعا!!
إنِّي رأيتُ الكون يسجد خاشعاً للحقّ.. والرشَّاش.. إن نطقا معا!!!
خَبِّرْ فرنسا.. يا زمانُ.. بأننا هيهات في استقلالنا أن نُخدعا!
واستفتِ يا «ديغولُ» شعبَكَ.. إنهُ حُكْمُ الزمان.. فما عسى أن تصنعا؟
شعبُ الجزائر قال في استفتائهِ لا.. لن أُبيح من الجزائر إصبعا
واختار يومَ (الاقتراع) (نفمبراً) فمضى.. وصمّم أن يثورَ ويقرعا!!

الحب أرقني

الحب أرقني واليأس أضناني والبين ضاعف آلامي وأحزاني
والروح في حب "ليلايَ" استحال إلى دمعٍ فأمطره شعري ووجداني
أساهر النجم والأكوان هامدة تصغي أنيني بأشواق وتحنان
كأنما وغراب الليل منحدر روحي وقلبي بجنبيه جناحان
نطوي معًا صهوات الليل في شغف ونرقب الطيف من آن إلى آن
لكِ الحياة وما في الجسم من رمق ومن دماء ومن روح وجثمان
لك الحياة فجودي بالوصال فما أحلى وصالك في قلبي ووجداني

سلمى


رسول الهوى بلغ سلامي إلى سلمى وعاط حميّا ثغرها الباسم الألمى
وناج هواها، علّ في الغيب رحمة تَدارَكُ هذا القلب أن ينقضي همّا
وبثّ شكاة من مشوق متيّم له كبد حرّى تضيق به غمّا
فكم تحت هذا القلب من لاعج الهوى وكم بين هذا الجسم من أضلع كلمى
أبيت أناجي الليل نجما كأنما حبيب فؤادي صار مستترًا ثَمّا
بلادي بلادي، ما ألذّ الهوى وما أمرّ كؤوس الحب ممتزجا سمّا
بلادي ألا عطفٌ عليّ بنظرة حنانينك، ما هذا السلوّ، ولا إثما
ومذ فتحت عيني المدامعُ أبصرَت هواك، فلا عار عليّ ولا لوما
فلله ما حمّلتني من صبابة ولو ذاك في "رضوى" لهدّمه هدما

نشيد يا شباب الجيل


يَا شَبَابْ الجِيلْ، رَاهُو طَالْ اللِّيلْ، قُمْ واعْمَلْ تَاويلْ، رَانَا في حَالَه
ضَيعْنَا الاِيمانْ، وانهارْ البنيانْ واعْمَاتْ الأذهانْ، عَنِ الأصالَه
تَبَّعْنَا الاَحْقَادْ، وَانْكَرنا الامجادْ، بعدْ اَنْ كُنا اَسيادْ، صَرْنا حُثاله
بلْعَتْنَا الخمور، واتْفَشَّا الفجور، نيرانْ الشرورْ، فينا شعّاله
لا رَجْلَه لا نِيفْ، لا ضَمِيرْ انْظِيفْ، واعْمَالنا تَزْييفْ، سُودَا قَتَّاله
واحَدْ قَدْ الفيلْ، تَلْقَى شَعْرُو طْوِيلْ، زَيْ المَادْمُوزِيلْ، بَيْن الرجَّاله
ماشي يَتْرَهْوَجْ، مَايَلْ يَتْغَنَّجْ، سَرْوَالُو مْعَوَّجْ، عِينُ دَبَّالَه
وَافْكَارُو عَوْجَا، وَاخْلاقُو مرجا واقدامو عرْجا، فيها دماله
ما تسمع ياحبيب، غير كلام العيب وقَلَّةْ لَحْيَا، وسَبَّ الجلاله
والبَنْتْ تْقَلَّدْ، صَبْحَتْ زَيّْ القَرْدْ، عَرَّاتْ الساقِين، صَارَتْ بُوقَاله
تَمْشِي في الساحل، كَعِيشَة رَاجَلْ فِي الكَبَرِيَّاتْ، دِيمَا جَوَّالَه
والأمْ تْرَبِّي، تَسْتُرْ وَتْخَبِّي، وتْقُلْ يَا حِبِّي، مَاكِي هَجَّالَه
والأَبْ المَسْكِينْ يَخْزَرْ بَالعِينِينْ، عنْدُو قلبْ حْنِينْ، عِينُو هَمَّالَه
عصْرَ الازدهارْ، فِيه الْبَسْنَا العَار ضيَّعْنَا فيه الدَّارْ، وَاصْبَحْنَا عَاله
بَعْنَا فِلسطينْ، والهمَّة والدينْ واخْدَعْنَا اليمين، وَاصْبَحْنا آله
واشرَبنا النفاقْ، واشْرِينا الشقاقْ واذْبَحْنا الاَخْلاق، طَوْعَ الضَّلاَله
والفْنَا الاِسْرَاف، وَالخَطْفَة بَزَّافْ، جِيلَ الإِنْحِرَافْ، عَرْضُو نَخَّاله
يَارَبِّ والْطُف، بَالأُمَّة وارْحَمْ، وانقَذْ جِيل اليَوْمْ، مِنَ الجَهَالَه.

الذبيح الصاعد


قام يختال كالمسيح وئيدا يتهادى نشوانَ، يتلو النشيدا
باسمَ الثغر، كالملائك، أو كالط فل، يستقبل الصباح الجديدا
شامخاً أنفه، جلالاً وتيهاً رافعاً رأسَه، يناجي الخلودا
رافلاً في خلاخل، زغردت تم لأ من لحنها الفضاء البعيدا!
حالماً، كالكليم، كلّمه المج د، فشد الحبال يبغي الصعودا
وتسامى، كالروح، في ليلة القد ر، سلاماً، يشِعُّ في الكون عيدا
وامتطى مذبح البطولة مع راجاً، ووافى السماءَ يرجو المزيدا
وتعالى، مثل المؤذن، يتلو… كلمات الهدى، ويدعو الرقودا
صرخة، ترجف العوالم منها ونداءٌ مضى يهز الوجودا:
((اشنقوني، فلست أخشى حبالا واصلبوني فلست أخشى حديدا))

((وامتثل سافراً محياك جلا دي، ولا تلتثم، فلستُ حقودا))
((واقض يا موت فيّ ما أنت قاضٍ أنا راضٍ إن عاش شعبي سعيدا))
((أنا إن مت، فالجزائر تحيا، حرة، مستقلة، لن تبيدا))
قولةٌ ردَّد الزمان صداها قدُسِياً، فأحسنَ الترديدا
احفظوها، زكيةً كالمثاني وانقُلوها، للجيل، ذكراً مجيدا
وأقيموا، من شرعها صلواتٍ، طيباتٍ، ولقنوها الوليدا
زعموا قتلَه…وما صلبوه، ليس في الخالدين، عيسى الوحيدا!
لفَّه جبرئيلُ تحت جناحي ه إلى المنتهى، رضياً شهيدا
وسرى في فم الزمان "زَبَانا"… مثلاً، في فم الزمان شرودا
يا"زبانا"، أبلغ رفاقَك عنا في السماوات، قد حفِظنا العهودا

واروِ عن ثورة الجزائر، للأف لاك، والكائنات، ذكراً مجيدا
ثورةٌ، لم تك لبغي، وظلم في بلاد، ثارت تفُكُّ القيودا
ثورةٌ، تملأ العوالمَ رعباً وجهادٌ، يذرو الطغاةَ حصيدا
كم أتينا من الخوارق فيها وبهرنا، بالمعجزات الوجودا
واندفعنا مثلَ الكواسر نرتا دُ المنأيا، ونلتقي البارودا
من جبالٍ رهيبة، شامخات، قد رفعنا عن ذُراها البنودا
وشعاب، ممنَّعات براها مُبدعُ الكون، للوغى أُخدودا
وجيوشٍ، مضت، يد الله تُزْ جيها، وتَحمي لواءَها المعقودا
من كهولٍ، يقودها الموت للن صر، فتفتكُّ نصرها الموعودا
وشبابٍ، مثل النسورِ، تَرامى لا يبالي بروحه، أن يجودا

وشيوخٍ، محنَّكين، كرام مُلِّئت حكمةً ورأياً سديدا
وصبأيا مخدَّراتٍ تبارى كاللَّبوءات، تستفز الجنودا
شاركتْ في الجهاد آدمَ حوا هُ ومدّت معاصما وزنودا
أعملت في الجراح، أنملَها اللّ دنَ، وفي الحرب غُصنَها الأُملودا
فمضى الشعب، بالجماجم يبني أمةً حرة، وعزاً وطيدا
من دماءٍ، زكية، صبَّها الأح رارُ في مصْرَفِ البقاء رصيدا
ونظامٍ تخطُّه ((ثورة التح رير)) كالوحي، مستقيماً رشيدا
وإذا الشعب داهمته الرزايا، هبَّ مستصرخاً، وعاف الركودا
وإذا الشعب غازلته الأماني، هام في نيْلها، يدُكُّ السدودا
دولة الظلم للزوال، إذا ما أصبح الحرّ للطَّغامِ مَسودا!

ليس في الأرض سادة وعبيد كيف نرضى بأن نعيش عبيدا؟!
أمن العدل، صاحب الدار يشقى ودخيل بها، يعيش سعيدا؟!
أمن العدل، صاحبَ الدار يَعرى، وغريبٌ يحتلُّ قصراً مشيدا؟
ويجوعُ ابنها، فيعْدمُ قوتاً وينالُ الدخيل عيشاً رغيداً؟؟
ويبيح المستعمرون حماها ويظل ابنُها، طريداً شريدا؟؟
يا ضَلال المستضعَفين، إذا هم ألفوا الذل، واستطابوا القعودا!!
ليس في الأرض، بقعة لذليل لعنته السما، فعاش طريدا…
يا سماء، اصعَقي الجبانَ، ويا أر ض ابلعي، القانع، الخنوعَ، البليدا
يا فرنسا، كفى خداعا فإنّا يا فرنسا، لقد مللنا الوعودا
صرخ الشعب منذراً، فتصا مَمْتِ، وأبديت جَفوة وصدودا

سكت الناطقون، وانطلق الرش اش، يلقي إليكِ قولاً مفيدا:
((نحن ثرنا، فلات حين رجوعٍ أو ننالَ استقلالَنا المنشودا))
يا فرنسا امطري حديداً ونارا واملئي الأرض والسماء جنودا
واضرميها عرْض البلاد شعالي لَ، فتغدو لها الضعاف وقودا
واستشيطي على العروبة غيظاً واملئي الشرق والهلال وعيدا
سوف لا يعدَمُ الهلال صلاحَ الد ين، فاستصرِخي الصليب الحقودا
واحشُري في غياهب السجن شعبا سِيمَ خسفاً، فعاد شعباً عنيدا
واجعلي "بربروس" مثوى الضحايا إن في بربروس مجداً تليدا!!
واربِطي، في خياشم الفلك الدوَّ ار حبلاً، وأوثقي منه جيدا
عطلى سنة الاله كما عط لتِ من قبلُ "هوشمينَ"(1) المريدا…

إن من يُهمل الدروس، وينسى ضرباتِ الزمان، لن يستفيدا…
نسيَت درسَها فرنسا، فلقنَّا فرنسا بالحرب، درساً جديداً!
وجعلنا لجندها "دار لقمَا نَ"(2) قبوراً، ملءَ الثرى ولحودا!
يا "زبانا" ويا رفاق "زبانا" عشتمُ كالوجود، دهراً مديدا
كل من في البلاد أضحى "زبانا" وتمنى بأن يموت "شهيدا"!!
أنتم يا رفاقُ، قربانُ شعب كنتم البعثَ فيه والتجديدا!!
فاقبلوها ابتهالةً، صنع الرش اشُ أوزانهَا، فصارت قصيدا!!
واستريحوا، إلى جوارِ كريمٍ واطمئنوا، فإننا لن نحيدا!!

إلياذة الجزائر -1

جزائر يا مطلع المعجــــــــــزات و با حجة الله في الكائنـــــات
و يابسمة الرب في أرضــــــــه و يا وجهه الضاحك القسمات
و يا لوحة في سجل الخلــــــو د تموج بها الصور الحالمـــــات
و يا قصة بث فيها الوجــــــــود معاني السمو بروع الحيـــاة
و يا صفحة خط فيها البقــــــــآ بنار و نور جهاد الأبــــــــــــاة
و يا للبطولات تغزو الدنـــــــــــا و تلهمها القيم الخالـــــــدات
و أسطورة رددتها القـــــــــرون فهاجت بأعماقنا الذكريــــات
و يا تربة تاه فيها الجــــــــــلال فتاهت بها القمم الشامخات
و ألقى التهاية فيها الجمـــــال فهمنا بأسرارها الفاتنـــــــات
و أهوى على قدميها الزمــــان فأهوى على قدميها الطفـاة
***
شغلنا الورَى ، و ملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصٌــــــــــلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر
***
جزائر يا بدعة الفاطــــــــــــــر و يا روعة الصانع القـــــــــادر
و يا بابل السحر ، من وحيهـا تلقب هاروت بالساحــــــــــر
و يا جنة غار منها الجنـــــــان و أشغله الغيب بالحاضـــــــر
و يا لجة يستحم الجمــــــــــا ل و يسبح في موجها الكافر
و يا ومضة الحب في خاطري و إشراقة الوحي للشاعـــــر
و يا ثورة حار فيها الزمـــــــان و في شعبها الهادئ الثائـــر
و يا وحدة صهرتها الخطــــــو ب فقامت على دمها الفائـــر
و يا همة ساد فيها الحجــى فلم تك تقنع بالظاهـــــــــــــر
و يا مثلاً لصفاء الضميــــــــــر يجل عن المثل السٌائـــــــــــر
سلام على مهرجان الخلــود سلام على عيدك العاشـــــر
***
شغلنا الورَى ، و ملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصٌــــــــــلاة
تسَابيحه من حَنايَا الجزائر

إلياذة الجزائر - 2


بلادي ، بلادي ، الأمان الأمان أغني علاك ، بأي لسان ؟
جلالك تقصر عنه اللغـــة و يعجزني فيك سحر البيان
وهام بك الناس حتى الطغاة
وما احترموا فيك حتى الزمانا
وأغريت مستعمريك فراحوا
يهيمون في الشرق بالصولجان
ولم يبرحوا الأرض لما استقلت شعوبٌ
ولم تستكن للهوان
وزلزلت الأرض زلزالها
وضج لغاصبها النيّران
فتبيض صفحة افريقيا
وراهنه الشعب يوم التنادي
ورجّ به الشعب يوم الرهان
فتبيض صفحة افريقيا
ويسود وجه المغير الجبان
وإشراقة الروح منك تناهت
تشيع الجمال وتفشي الحنان
إليك صلاتي ، و أزكى سلامي بلادي ، بلادي ، الأمان الأمان
***
شغلنا الورى ،و ملأنا الدنا
بشعر نرتلـــه كالصــــــلاة

فلسطين على الصليب


أناديكِ في الصّـرصر العاتيهْ= وبين قواصـفـهـا الذاريــه
وأدعـوكِ بين أزيز الوغـــى =وبين جمـاجمهـا الجـاثيــه
وأذكر جرحـكِ في حـربنـــا=وفي ثورة المغرب القانيه
فلسطينُ... يامهبـط الأنـبـيـآ-=ويا قبلـة العـرب الثانـيــه
ويـــا حجّـة الله فـي أرضــه = ويا هبة الأزل, الساميـــه
ويــا قــدُســاً, بــاعـــهُ آدم= كما بـاع جنتــه العاليـــــه
وأضحى إبنه - بين إخوانه = يلقـّبــه العرْبُ , بالجـاليـه...
فلسطينُ, والعُـرب في سكرة=قد انحـدروا بك للهـاويــه
رمــاكِ الزمـان بكـل لئيـــمٍ= زنيــمٍ, من الفئة الباغيــه
وكـل شريـد على ظهــرهـا = تسخـّــره, بطنه الخاويــه
وألقــى بكِ الدهــر شُــذّاذه=ومن لم تؤدِّبْـهُ " ألمـانيه"
وصبَّ بكِ الغـَرب أقــذاره= ورجسَ نفـاياتـــه الباقيــه
وحط ابنُ صهيونَ - أنذالـهُ=بأرضكِ, آمِـرةً نـاهيـــــه
ومـن ليس يهتزُّ فيه ضمير= ولا في حوانيـهِ إنسانيــــه
وبالمال تغدقه الصدقات=مضت فيـك بائعـة شاريـه
ودسّ –ابن خريون- أوساخه= فعجّـلَ -من نتنهـا- الغاشيـه
بكيتِ فلسطينُ في حائط= به - قبل - قد كانتِ الباكيـه
فيـالكَ مـن معبـد نجـسّــوا=حناياه بالســوءة البـاديــــه
ويالـك من قِـبــلة كدّســوا =بمحرابـها الجيَـف الباليـه
ويالكَ مـن حَـــرم آمِــــنٍ -= جياع ابن آوى به عــاويه

ثورة الشرفاء


مددنا خيوط الفجر ..قم نصنع الفجرا= وصغنا كتاب البعث ..قم ننشر السفرا
وسقنا سفين الوعد حمرا شراعهـــــا =يوجهها للنصر ، من وعــــد النصرا
ورثنا عصا موسى ، فجدد صنعهـــا =حجانا ،فراحت تلقف النار لا السحرا
وكلم موسى الله في الطور خفيـــــة =وفي الأطلــس الجبــار كلمنــــا جهرا
عبرنـــا على السبع الشداد نشقهـــــا =ولم تثــنــنا الأرزاء ،أن نعبر العشرا
ونفرض في الدنيا احترام وجودنـــا =وننشر في أحلافها الرعــب و الذعرا
ونحن بنو الأشراف عرب،طباعنــا =مقدسة ، لا نضـــمر الغــش و الغدرا
تباركت شهــرا بالخوارق طافحــــا =وسبحان من بالشعب ،في ليله أسرى
فكم كنت يا رحمان،في الشك غارقا= فآمنت بالرحمن ، في الثورة الكبرى
ولبـــاك شعب ، كــاد يفقــد ظنــــه= بوعـــدك لـولا أنـــه يـحـفــظ الذكرا
و أشربـته حــب الشـهــادة فارتمى =على غمــرات الموت تلهبه الذكرى
وفي ساحة التحرير سوق، قوامها =ضمــائر قوم لا تبـــاع ولا تشـــرى
فلا عــز حتــى تسـتـقـل جزائر= ولا مجد حتى نصنع الوحدة الكبرى
][color=

الياذة الجزائر كاملة للشاعر الجزائري مفدي زكريا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





Mfdy Zkrya'a Fy Mktbtna Amwn:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (مفدي زكرياء في مكتبتنا عمون:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ)

1.تحت ظلال الزيتون


تحميــــــــل

2.اللهب المقدس


تحميـــــــل

3.ظاهرة الغربة في شعر مفدي زكريا لـ حمة دحماني


تحميـــــــــــــل






اعداد
ـــــــــــــ

هبه الشايب / الاردن
عبير محمد / مصر
سلطان الزيادنة / الاردن
زياد السعودي / الاردن







  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:38 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط