قراءة في رواية عراة تحت الشمس - ۩ أكاديمية الفينيق ۩



لِنَعْكِسَ بّياضَنا


« تَحْــليقٌ حَيٌّ وَمُثـــابِر »
         :: تحت وطأة الحزن يقال ما يقال (آخر رد :فاتي الزروالي)       :: إلى السارق مهند جابر / جهاد دويكات/ قلب.. (آخر رد :أحلام المصري)       :: طيور في عين العاصفة* (آخر رد :عبدالرحيم التدلاوي)       :: الأصمّ/ إيمان سالم (آخر رد :إيمان سالم)       :: حلم قصير وشائِك (آخر رد :أحلام المصري)       :: ،، نهرُ الأحلام ،، (آخر رد :أحلام المصري)       :: جبلة (آخر رد :أحلام المصري)       :: إخــفاق (آخر رد :أحلام المصري)       :: ثلاثون فجرا 1445ه‍ 🌤🏜 (آخر رد :راحيل الأيسر)       :: الا يا غزّ اشتاقك (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: الأزهر يتحدث :: شعر :: صبري الصبري (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: صَمَتَ الليل؟ (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: الادب والمجتمع (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: مقدّّس يكنس المدّنس (آخر رد :ممدوح أسامة)       :: تعـديل (آخر رد :الفرحان بوعزة)      


العودة   ۩ أكاديمية الفينيق ۩ > ⚑ ⚐ هنـا الأعـلامُ والظّفَـرُ ⚑ ⚐ > ☼ بيادر فينيقية ☼

☼ بيادر فينيقية ☼ دراسات ..تحليل نقد ..حوارات ..جلسات .. سؤال و إجابة ..على جناح الود

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-03-2017, 12:27 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
روضة الفارسي
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديميّة للابداع والعطاء
تونس
افتراضي قراءة في رواية عراة تحت الشمس

"عراة تحت الشمس": في البحث عن العادل المنصف والوقوف
أمام المتوحش الممعن في توحشه والموغل في التجهيز...

الأستاذ مصطفى مدائني

روضة فارسي قاصة تونسية درست الموسيقى وساهمت في فرق فنية ملتزمة وعملت بالإذاعة التونسية وقد وجدت نفسها بحكم حسها المرهف تتوجه بالسليقة والموهبة إلى القصة فأصدرت "أضواء منسية" {مجموعة قصصية بها 14 نصا} سنة 2012 {1}. ولها نصوص مخطوطة هي:
أمطار على أفريكا .
قصائد مشبوهة
رؤى وهواجس: مقالات في الثقافة العربية المعاصرة ..
وهي نصوص تنتظر النشر ...
وقد فاجأتنا بصدور روايتها الأولى "عراة تحت الشمس" {2} هذه السنة بالقاهرة عن مؤسسة أروقة في طبعة أنيقة متميزة..
ونحن في الحقيقة متشوقون أن يتخطى أدبنا التونسي حدود الوطن لينتشر في أصقاع الدنيا وخاصة مصر قلب العروبة النابض..
وقد استجبنا لدراسة هذا الأثر لسببين:
- الجودة الفنية العالية في مجموعتها "أضواء منسية".
- الإيمان المطلق الذي تكنه الكاتبة للفن عموما ورسالة الكاتب خصوصا.
فكيف جاءت عراة تحت الشمس؟ ما علاقة هذا النص بقصة عرايا تحت الشمس{3} ثم علاقة الرواية والقصة برجال تحت الشمس {4} لغسان كنفاني...ثم لِمَ عراة تحت الشمس؟
هي أسئلة نفتتح بها دراستنا لأن النص على ثراء كبير يدل على ما تختزنه الكاتبة من رؤى إبداعية متنوعة ولعل تعدد مواهب الفرد تنير له السبل من أجل إبداع مخصوص...
للإجابة عن هذه التساؤلات نتبع التخطيط التالي :
1 - تحليل عتبات النص.
2 – البناء : الحدث / الشخوص / الفضاء
3 – الأسلوب والدلالات.
4 – الحاصل.

1 – عتبات الرواية:
درج النقاد على إيلاء عتبات النصوص أهمية قصوى لأنها وفق رؤيتهم لها تأثير كبير على القارئ وتتمثل العتبات في :
العنوان والغلاف بصفحاته الأربعة وبصفة أخص الواجهة والأخيرة و ينضاف إلى ذلك الإهداء الذي كثيرا ما يلجأ إليه الكاتب للتعبير عن امتنانه الخالص لبعض خلصائه. وقد يتخذ الكاتب موقفا حياديا فتنعدم عنده. وقد اكتفت الكاتبة بالغلاف فأدرجت فقرة من النص{5} ارتأت أنها معبرة عما تحمله في داخلها من موقف حياتي جاد.
لذلك سنركز في تحليلنا حول الواجهة ثم الصفحة الأخيرة لننغمس بعد ذلك في تفكيك العنوان لفهم مرامي الكاتبة وهدفها الدفين.
الواجهة :
تشمل الواجهة جنس العمل {رواية} واسم الكاتبة فالعنوان وقد وردت كلها في الأعلى حيث يعم السواد وفي النصف الأسفل نجد لوحة كأنها لقطة من فيلم مشهد سينمائي يحيل إلى الربط العميق بين الإنسان والأرض - الطين والإنسان في هذا العالم إنما يعيش حياته في الأرض هذه الأم الأولى التي إليها مرجعنا وفيها تتقلب الثنائي حواء وآدم...نحن إذن أمام استحمام لكنه حمام صراع لا حمام استرخاء لكن ذلك لا يمنع الدارس من أن يتصور أن الكاتبة ومخرج النص ومنتقي اللوحة الذي قد يكون درس الرواية و استشفها قبلنا فقرأها وانغمس فيها وولج أعماقها وحملنا معه لقراءة فريدة فيها من الخيال الكثير ومن الخبال ما يجعل الفن التشكيلي في صراع مع ما ذكرناه في العنوان المتوحش الموغل في توحشه {6}.
لن نستبق القراءة ولكننا نلحظ أن اختيار اللوحة كان مدروسا ومعبرا ومنبها للقارئ بأنه أمام نص / صراع نص حياة نص فرض وجود...
الأخيرة:
تتحلى الأخيرة بصورة للكاتبة صغيرة لكنها موحية هي تنظر إلى أمام مدققة مستغربة وكأنها تكشف العالم وهو بالضبط ما يوحي به النص المتنقى ليكون حسن ختام وفي نفس الوقت يؤدي دوره في دعوة القارئ في الغوص في مهاوي النص..النص عبارة على وصف لأعماق الأحياء الشعبية التي تركزت في أحواز العواصم الكبرى. ففي الأحياء القصديرية كما يقال ينمو أطفال مع الريح بلا هوية فكأن الدول لا تعترف بهؤلاء ولا تعطيهم حقهم الإنساني فيجد الفرد منهم يبحث عن انتماء ما وحالما يجد سندا ينغمس معه ويعتبره السرة الحاضنة عوضا عن العائلة الأصلية التي تخلت اضطرارا لا اختيارا عن دورها حيث تفاقم الفقر وعم الجور وكثر التهميش لتصل الكاتبة إلى الاعتراف أن الثورة ليست إلا سليلة الظلم والقهر وخاصة انعدام العدالة تأكيدا لمقولة ابن خلدون الأثيرة: " العدل أساس العمران والظلم مؤذن بخرابه".
ولعل الكاتبة والناشر والمصمم قد اتفقوا ضمنيا بأن اللوحة المنتقاة تحيل إلى فقرة الصفحة الأخيرة فالحياة عند انعدام السند يعود فيها الفرد لذاته كي يختلق محيطه الجديد وكأن الاستحمام الماثل أمام نظر قارئ فطن أن كل هذا العمل إنما يعود إلى العنوان الذي يحيل بدوره لرواية جديدة حبرتها كاتبة مؤمنة بالفن مدركة لخطورة القول ودور الكلمة باعتبارها سلطة علي وعلكم وعلى قارئ متخيل محتمل متعطش بدوره لفهم عالم محيط ما زلنا جميعا نبحث فيه وسنبقى ...
فماذا عن العنوان: عراة تحت الشمس؟
العنوان:
جاء العنوان جملة اسمية مختزلة عراة تحت الشمس. يمكن أن تكون الجملة كاملة {هؤلاء} عراة تحت الشمس عراة تحت الشمس مركب اسمي معقد عراة خبر لتحديد "الهؤلاء". وتحت الشمس مركب إضافي : تحت: مضاف والشمس مضاف إليه والمركب الإضافي ظرف مكان للدلالة على وضعية الكيان صعوبة الحياة وهو معنى أعمق لأنه يحيل برمزية دقيقة إلى ضعف الفرد وقوته في آن..
عراة جمع عار وعارية فالجمع في العربية يجمع الجنسين كذلك منتهى الجموع عرايا النص الذي أشرنا إليه في البداية وهو القصة 12 في مجموعة الكاتبة الأولى أضواء منسية{7}. والعاري هو المتجرد من ثيابه هو بالنسبة إلينا الفرد الوليد في لحظة تنسمه للعالم الذي سيسعى فيه ويعيش إنه الإنسان المطلق المتجرد وهو يسعى ليكون خليفة الله في ملكوته هي صيحة الفرد وهو يتقبل الأمانة أمانة الحياة... وقد جاء الخبر المركب ليحدد المعنى المستقى: تحت الشمس كناية على مزيد عريه وضربه في صحراء الكون هو إذن جهاد في معناه العميق في البحث عن تأصيل وبقاء مع فرض للذات في عالم لا يناصبه إلا العداء و الحقد.
وترمز الكاتبة إلى قسوة الطبيعة ينضاف إليها المتوحش الكاسر الممعن في التجهيز عندما يمتلئ بعض الأفراد بحب السيطرة والاستحواذ على العالم بلا رقيب...
إننا أمام نص يعيد لنا قصة الإنسان في محنته الأزلية المحنة التي صورها بدقة متناهية في ستينات القرن الماضي الأديب الفلسطيني غسان كنفاني في روايته رجال تحت الشمس...
2 – البناء : الحدث / الشخوص / الفضاء:
درج دارسو الرواية على تحديد البناء بتتبع سلسلة الأحداث التي تتبعها شخصية إشكالية تصارع واقعها لفرض ذاتها لكنها أسوة بدون كيشوت{8} تبقى مصارعة حد الموت دون أن تلتفت غلى الوراء فتتعظ وتستلهم لأن قدرها مصارعة دائمة لذلك يذهب البعض إلى اعتبار الرواية قصة بطل إشكالي متدهور في عالم هو بدوره متدهور{9}..
ويختلف البناء من نص لآخر إلا أن الرواية في عمومها لا تخرج عن مسارين لا ثالث لهما:
البنية الدائرية :
وتتمثل البنية الدائرية في انفتاحها على النهاية ليعود الحدث بعدها إلى منطلقه. فإذا الأحداث تنطلق من نهاية الأعمال وخاتمتها ثم تعيد إنارة قارئ نهم ليفهم السيرورة التي سعى الكاتب إلى إخفائها تدريجيا فتتطور الأحداث وتبرز الخوافي التي توضحها الشخوص وهي تعترف عبر أحاديثها الذاتية فتتجلى ومن وراء كل ذلك كاتب متخف لكنه لا يغيب عن ناقد متفطن وقارئ فطن...وتقود البنية الدائرية إلى رمزية دفينة يسعى الكاتب إلى إماطة اللثام عنها...
البنية الخطية:
وتتمثل في تتبع مسار الأحداث وفق منطق الأعمال. فكل حدث هو بالضرورة نتيجة لعمل سابق يؤدي إليه ويحيله إلى نتيجة معلومة. وتكون هذه القصص في الغالب واقعية أو وفق تعبير الأديب محمود تيمور أب القصة العربية الحديثة "محتملة الوقوع". لذلك تنفتح الرواية ببداية فعقدة فخاتمة..هي نهاية تعتبر حلا لمشاكل أثارتها العقدة أو العقد التي برزت عند تطور الأحداث..
فكيف جاءت بنية عراة تحت الشمس؟
يتضح للقارئ الفطن أن الكاتبة أقامت روايتها على 21 فصلا {10} جاءت في غالبيتها قصيرة تتراوح بين 3 و23 ص. وقد وسمت روضة الفارسي فصولها بعناوين تذكرنا بأقاصيصها القصيرة بل إن العمل كله يحيل لمجموعتها أضواء منسية حيث درجت الكاتبة في قصصها اتّباع البنية الخطية وهو ما يستشفه الدارس أيضا في روايتها الأولى. كما أن قصتها عرايا تحت الشمس تتعرض للموضوع نفسه. وهو موضوع الساعة حيث يتصدر شأن المرأة قضايا العصر الراهن. وما يستتبع ذلك من نتائج إذ عاشت البلاد العربية موجة من التغيرات لمست كل القطاعات وأعادت المسائل إلى مدار الشك.
تعرضت عرايا لقضية المرأة في علاقتها بالزوج وخاصة مسألة اعتبار المرأة قاصرا فهي، في العقل الباطني للمجتمع العربي، كائن مريب كل تحركاته تبيح الخوف والريبة فهي خائنة حتى تثبت براءتها وهو أمر بالنسبة لا إلى الزوج {مثل عادل} بل لكل الأسرة {تعليق الخال حول اللوحة} هو مفروغ منه ولا مجال لمناقشته فضلا عن دحضه.
ويتضح للقارئ أن البطلة في عرايا امرأة مكتملة ربة بيت فنانة تشكيلية بامتياز تسعى إلى النبوغ والإبداع فتبدع لوحة حملتها رؤيتها الدفينة لمعاني الصفاء والاحتفال بالحياة ودعت بفرح شديد زوجها كي يطلع عليها ويشاركها فرحة الانتصار إلا أنه على العكس يغمطها حقها بل يستفزها ويبيعها نقمة فيها ولولا صديق العائلة الذي أعادها إليها لَمَا تمكنت من أن تعرضها على الفنان جوهر يوسف الذي شكرها على إبداعها وشجعها تشجيعا كبيرا أعاد لها الثقة في نفسها...مما جعلها تعود من جديد لفنها تبثه أشجانها وأحاسيسها.
تقوم الرواية وفق التخطيط نفسه..فنحن أمام رواء السلطاني الزوجة المطيعة الفنانة الرسامة المبدعة التي تؤمن في قرارة نفسها بقيمة الفن وهي المتخرجة بامتياز في حقل السينما وتنتظر الفرصة لإبراز مواهبها {11}. وهي أم لطفلين توأمين تغريد وطه وزوجة المذيع طارق. وكما هو الحال في قصة عرايا تعيش حالة انعدام توازن لا مع الزوج فقط بل مع المحيط فهي أخت هالة المتزوجة من الأستاذ العراقي ضياء الذي استشهد ببغداد نتيجة ما تعيشه العراق وجل البلدان العربية من خراب ممنهج...وسيتأزم الوضع عندما تكشف خيانة زوجها على مستويين: خيانة الحب ثم خيانة صديقه الإعلامي عهدي نجم الذي كان طارق وراء تشويه صورته في عصر الفضائح بالجملة الذي عرفته البلاد بعد الثورة {12}...
وقد استعادت رواء توازنها وصارعت بفضل إيمانها المطلق بفنها وخاصة عندما واتتها الفرصة بعد لقائها بصديق الدراسة المبدع المهاجر ريان العلاني الذي أعانها إلى التعرف على الكاتبة العربية السورية فدوى عزام التي وافتها بروايتها "العاشقان" {13} ... فقررت إخراجها بدعم من جمعية تهتم بالشباب.
حاولت في هذا التقديم البسيط أن ألخص جل الأحداث وفق نسقها المنطقي و يتضح لنا أن العمل مقام على :
بداية : هي في الحقيقة حالة هادئة تبدو الأمور على غاية من الطمأنينة والراحة فإلى غاية الفصل الخامس عشر {14} سارت الأحداث بطيئة إلا أنها كانت تعد العدة لبلوغ الأزمة ذروتها القصوى حيث تجتمع خيانة طارق لصديقه الإعلامي عهدي مع خيانته السافرة لأسرته بحضور ابنه طه . وفي هذا المقام نبلغ العقدة التي أرادتها الكاتبة تجمع بين الإثباط الكلي وإرادة التجاوز وهي ما بدا جليا في بقية الفصول...
لقد تداركت البطلة نفسها واعتبرت أن الحياة تجارب متواصلة لا تقف عند حد. لذلك أصرت على المقاومة والصراع والسعي لإثبات الذات... فواجهت طارق مواجهة صارمة لا رضوخ فيها وتابعت نضالها بالاطلاع على رواية العاشقان كما قررت المضي قدما في إنجاز مشروعها وواجهت الحقيقة بلا مواربة...وهذا ما أوصلها لنهاية محتملة بها ختمت الرواية دون غلقها... لقد شرعت في إنجاز الفيلم وهو ما لقي استحسان الجميع بما فيهم زوجها طارق الذي يبدو أنه ثاب إليه رشده {15}...
لقد تمكنت الكاتبة بحذق شديد على السيطرة على الأحداث وقد أعانها على ذلك تلك الصرامة الواقعية التي اتبعتها فجل الأحداث تكاد تكون مستمدة من واقع الحال فبعد الثورة كما قلنا آنفا اشتدت مؤامرات الفضائح والحديث غير المسؤول والتنابز عبر وسائل الإعلام بحيث أصبح التونسي يعيش تخمة من المنجز الإعلامي غير المفيد. وانعدم الاحترام والجرأة المبررة وقوة الحجة وانكشف المستور{16} لكي نرى حقيقة بلدان طالما تشدقت بقيمها المزيفة وقد تمكنت الكاتبة من أن تستقي شخوصها بحرفية وذكاء وأشير في هذا المقام لشخصيات رواء وريان وطارق وما تدل عليه من سعي للتروي والفهم...فكل الشخوص منتقاة بل إن بعضها رغم أنه ورقي إلا أنه يشير إلى شخصية نعرفها جميعا الشاعر آدم فتحي{17}...
3 – الأسلوب والدلالات:
النص السردي يقوم على أسلوب صاحبه {يقول فلوبير:"إيما هي أنا"} {18} والرواية هي النص الممتلك لناصية الكلمة المصورة للعصر فنحن في عهد بلغ فيه الفرد مداه في معرفة العالم فقد كشفت أمامه الأسرار وانبلجت السبل وحام في الأبعاد بل إن العولمة ضمخته بذاتيته حد البلاء والامتلاء {19}.. ومن ثمة كشفت اللغة مدى قوتها وقد تمكن الأديب الأريب الذي استلهم حياته تجربة فريدة من أن يبدع نصه وبث فيه من روحه الكثير.
والأديبة روضة فارسي تنطلق في عالمها القصصي عامة وروايتها الأولى بالأخص من الكلمة باعتبارها حجر زاوية لتصوير ما يعتمل داخلها باحثة بصفة دقيقة عن المشهد وهي في ذلك تتماهى مع بطلتها رواء التي عبرت عبر فصولها عن تقديرها للحرف باعتباره أداة مواجهة في عالم بدأ يناصب الكيان العداء الكبير. فهي تكتب وفق مشاهد صور متوالية تشحذ فيما بينها تناسقا خاصا هو أمواج متتابعة من الدفق الموسيقي تماما كنغمات الاوركسترا كما يشير ليفي ستروس. فالأوركسترا هي نغمات تنفتح بهدوء وأناة لكي تتوالى وهي تزداد تدريجيا لتصبح عند الذروة سلسلة متكاملة تكون مشهدا فريدا هو الإنسان وسط زوبعته يعيش قمة التوهان والارتجاج لكي تتلاشى ببطء وتضمحل كناية على النهاية حيث عودة الهدوء والسكينة {20} وكذا هي الرواية الحديثة: هدوء تتبعه ذروة حادة فعود لهدوء...
إن المشهد عند الكاتبة هو المعطى الأول الذي يحدد مجالها التعبيري فبواسطته تفعل اللغة فعلها في الأذهان فتثير وتخيف وتهيج وتردع. فكل فصل من فصولها تمهيد لما هو قادم والقادم مسار ينتظر قادحا ما فتنفعل نفوس وتتأسى و تطرب لكنها تبقى دوما على المسلك عنه لا تحيد. والكاتبة عاقدة العزم على القول والبوح و المساراة اللطيفة فإذا قارئها منغمس في شبكة كلام هي سلسلة ألفاظ تتوارد تبدأ هادئة مريحة بسيطة غير معقدة تحمل في ظاهرها معناها بجمل لا تحمل ألفاظا حوشية وإنما في الغالب وفق لغة عربية سليمة قريبة من اللغة القحة الصلبة لكنها ممزوجة بلغة ثالثة هي خليط من العربية والدارجة متبعة دوما النسق النحوي العربي مندرجة في بيان لغة الضاد وبلاغتها... ويكفي للدارس أن ينظر في عناوين الفصول ليتأكد من سهولة هذه اللغة ودقتها: نقرأ في الفاتحة: رقصة مع المكنسة {21} ص 5 كذلك النبع يفتح حقيبة الذكريات {22} ص 14 وأيضا براعم وردية بقمصان بيضاء {23} ص 182..إنها كما قلنا آنفا جملة - مشهد هدفه الإبلاغ بما قل ودل وفق نظرة ابن المقفع للبلاغة...
والأكيد أن هذه البساطة والبلاغة تحمل دفقا من الخيال وهو ما يميز لغة الكاتبة فهي لا تتبجح بلغة مجنحة بقدر هي تسعى إلى إرسال معنى خفي يطال القارئ فتنبثق لديه الحاسة التي طالما تغنى بها الشابي نعني الخيال الفني{24} المبطن في النفوس المليئة بما يعبر عنه الناقد يوسف اليوسف النفس الحميمي {25} وهو الدافع الأصيل الذي يمرق بنا للاحتفال عنوة ودوما بالحياة حتى في أحلك الظروف.. والحميمي هو أس الأدب العالمي الأثيل لأنه يصور أعماق الذات ولعل مكمن الإبداع عند روضة فارسي هو الفقرات التي تبرز عمق المأساة الإنسانية كما أشرنا في العنوان عندما يصبح الإنسان أمام المتوحش الموغل في توحشه والممعن في التجهيز فمأساة رواء وهي المرأة الحليمة الطيبة المنفتحة على الحياة تواجه متوحشا صادما كما هي حال هالة أختها في العراق وهذا المتوحش لا يصور كاملا وإنما هو كيان يمثل الإنسان وقد بدأ يلبس جبة الإله فيخطط وينفذ فيمحو بلدانا ويقيم مدنا على أنقاض مدن {العراق اليمن سوريا ليبيا... بلدان الشرق العربي}.. إنها العولمة وقد أبان أسسها العالم الأمريكي سكنر في كتابه "في ما وراء الحرية والكرامة" الصادر سنة 1969 وفيه أكد أن الحرية وهم وأن الفرد يمكن ترويضه تدريجيا فقط تقام له مخططات تجعله يحتمي قصرا بعدوه {26}...وهو عين ما يعيشه العالم العربي اليوم. إلا أن الكاتبة وجل الأدب العربي المعاصر يقوم بضرب من الصراع من أجل فرض الذات وهي ما وسمه سكنر الخوف من إنسان مستقل {27} مما يحمله الفرد في ذاته العميقة و يأبى الخضوع ويهوى الحياة متمتعا بحريته رغم الزوابع والأعاصير والأنواء وفق عبارة أبي القاسم الشابي :
سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء {28}.
إننا مع الكاتبة روضة فارسي نتمتع بفقرات تشدو فيها المبدعة شدوا راقيا عندما تصف الإنسان وهو واع بواقعه المد لهم لكنه لا يني عن الوقوف بندية أمام الأعاصير ويكفي أن أحيل القارئ الكريم لتلك اللحظات التي تقابل فيها رواء زوجة الصحفي عهدي نجم والحوار النابع من القلب حيث بقدر ما ننتظر ثورة عارمة نجد رواء تأخذ نفسها وتحسن الاستماع وتتروى وتتأسى وتميل إلى الحق بترو واعتبار {29}.. إنها المواقف الإنسانية الدالة على قيم أصيلة في مجتمع متدهور .. والكاتبة تبدع فعلا عندما تحيط بالإنسان لحظات المآسي ويعود إلى ما يسميه سكنر الإنسان المستقل الذي يأبى أن تندثر منه الروح بل على العكس يثبت ويصر ويقرر. ولعل وجدت في الفن أداتها الفعالة في المقاومة والصبر والتأسي.. لذلك جاء كل أبطالها يمتلكون حاسة الإبداع فحتى الشخصية المثبطة عندها كما هو حال طارق في الرواية يمتلك أحقية الوجود بل يبدو لنا واقعيا يؤمن بواقعته ويتصرف بحيوية وبهاء وأناقة لأنه في الأخير يبدو مليئا حياة مليئا قوة مليئا إيمانا...
ولا يفوتنا أن ننبه الكاتبة إلى بعض الأخطاء المطبعية القليلة التي يحسن تداركها في الطبعات القادمة ونشير إلى أخطاء أخرى قليلة لكنها غير منعدمة نذكر على سبيل المثال لم أعثر عليه بعد: يحسن حذف بعد ص 25. ...وغزت المساجد والتي ص 25...لا يسبق اسم الموصول بحرف لكنه يأتي مباشرة بعد صلته. كذلك دوما بعد القول إن ثم طلبت أن أقول أن ص32. وأيضا كم كان حلما بالنسبة لي: بالنسبة إلي ص37 . كما نلحظ أحيانا جنوحا إلى تعابير نظن أنها نتيجة تعب الروائي وهو يصارع نصه وشخوصه في الإبلاغ يجتمع الجميع مرة أخرىً {30} ص201.
إلا أن أبلغ المقاطع بلا منازع هي التي تبثها الكاتبة رؤيتها الفني وأحيل القارئ إلى ذلك الوصف الرائع وقراءتها للفن عند تحليلها للوحة عراة:ص234إن الرسم الذي يتمكن من تصوير الأرواح النقية من خلال النظرات والابتسامات الصافية ويمنح النفس جمالها وللحقيقة عمقها هو الإبداع بعينه. لقد رأيت في اللوحة الزوجين الأولين في الأرض حيث لا رقيب ولا حسيب إلا الباري المصور. العري يصدم النفوس المظلمة التي كساها الصدأ وغلفت رؤاها التأويل والتفاسير و العنعنات وهو الحقيقة العارية من كل الحجب والزيف. الشمس هي الأم العظيمة الغفورة التي تقبلنا دائما وتقبل بنا عراة بلا أقنعة وتلهبنا محبة وتسيل الصخور الملتصقة بأرواحنا فتحولها ماء شفافا رقراقا" {31}.

4 – الحاصل:
عراة تحت الشمس رواية تحكي واقع عالم جديد هو واقع القرن الحادي والعشرين واقع العولمة وقد بسطت نفوذها على جل المستويات حتى على المستوى السياسي حيث لاحظنا عودة للمد اليميني بصورة لافتة. وإن سعت الكاتبة إلى إجلاء صور الحياة في نطاق ضيق هو مسيرة أسرة صغيرة إلا أنها نواة لحياة عالم كبير هو تونس والعالم العربي بل هي صورة للإنسان في مساره الحياتي وهو يصارع وجوده ويفعل فعله. وقد تسلحت الكاتبة برؤية أصيلة مفادها أن التاريخ مهما استقر إلا أن أحداثه سرعان ما تعتورها توجهات مستحدثة . وقد أحكمت روضة فارسي مقولها منطلقة من لوحة بسيطة هي الكيان في عرائه الأزلي وارتباطه العضوي بالأرض وإن كان ديدن المبدع الفلسطيني غسان كنفاني في رجال تحت الشمس تصوير الفلسطيني الذي كتب له تعويض اليهودي التائه فإن روضة أقرت أن التيه نمط مخصوص بالإنسان الساعي لعيشه وأن الفرد مهما استبد بأخيه الإنسان إلا أنه لا محالة لا يستطيع أن يتأله وأن الحرية على عكس ما ذهب إليه سكنر ليست وهما وإنما هي حقيقة قد تغيب فإذا بالعبد يبحث لنفسه عن سيد يقوده لكنه حالما ينبثق أمامه نور المعرفة حتى يستعيد وجهه الحقيقي...
عراة إذن توق لحضارة قادمة هي تصور في الذهن الآن لكنها لوحة ستبقى حاضرة طالما يمتلك الفرد قدرة على الطموح والأمل والتخيل الأثيل فهل ستكون أمطار على أفريكا أكثر توهجا حيث يحقق الفرد بعض أحلامه ورؤاه ...؟؟؟
الأستاذ مصطفى مدائني

هوامش:
1 – أضواء منسية مجموعة صدرت عن الدار التونسية للكتاب في 100 ص.
2 – عراة تحت الشمس ط 1 – 2017 – 250 ص
3 – عرايا تحت الشمس أنظر أضواء ص ص 72 - 82
4 – رجال تحت الشمس غسان كنفاني رواية فلسطينية تحولت إلى فيلم وجد صاه في ستينات القرن الماضي.
5 – الفقرة مأخوذة من الصفحة 115 وقد ورد تغير طفيف في مستهل النص : في البدء تعبر ... والأصل تمر..
6 – ج برانديي: "متحضرون على ما يقال" ص 86
7 – أضواء ص 72.
8 – دون كيشوت – سرفنتيس : من القصص المثيرة المشوقة التي اعطت دفعا جديدا لفن الحكي الذي يمكن اعتباره وريث القصة العربية في القرون الوسطى.
9 – Pour une sociologie du roman – Goldman – Gallimard – Paris – 1968 – p 38
10 – فصول الرواية : 21 فصلا ذات عناوين موحية : من أهمها: رقصة مع المكنسة ص5 – نهر تحج البحار اليه ص 66 – منعرج حاد ص 169.
11 – عراة ص 17
12 – م ن ص 170
13 – م ن ص ص 136 – 152
14 – م ن ص 153 – 168
15 – وفردت أجنحتها م ن ص 243 – 245
16 – كشف المستور مقالات في المرأة - سيدة عشتار بن علي – دار زينب ط 1 – 2016.
17 - آدم فتحي: آدم فتحي، شاعر ومترجم تونسي عرف بنمط الشعر الملتزم في الثمانينات مع فرقة البحث الموسيقي وفي التسعينات رافق الفنان لطفي بوشناق في مشروعه الغنائي فكتب الأغنية العاطفية والوطنية ترجم للعربية مذكرات بودلير واقتحم في السنوات الأخيرة ميدان الصحافة المرئية في الإذاعة والتلفزة التونسية. كتب أيضا للشيخ إمام بعض كلمات أغانيه مثل أغنية يا ولدي ولمجموعة البحث الموسيقي بقابس ومجموعة الحمائم البيض بقصيدة الشّيخ الصّغير أنظر موسوعة ويكيبيديا : آدم فتحي
18 - أنظر مقدمة رواية إيما لفلوبير..
19 - ج برانديي: "متحضرون على ما يقال": أنظر مقال: ضد المتوحش الموغل في التوحش والمفرط في التجهيزص 86 – تعريب د. عبد الرزاق حمامي – بيت الحكمة تونس 2004
20 – جبرا ابراهيم جبرا – الحرية والطوفان المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1979 – يعرف الذروة "الذروة في الكتابة الإبداعية والموسيقية هي في شبه الذروة الجنسية والذروة الانفعالية بالضبط ولذلك يجد فيعا المرء لذة أنها وإن تكن فنية انعكاس لميل متأصل في النفس " – "إن عناصر القطعة الفنية يجب أن تكون متفرقة متباعدة أول الأمر ثم تتقارب وبعد ذلك تصطرع ثم تبلغ الذروة من العنف وعندما تنحل الأزمة ويعقبها هبوط أو سلام يؤدي إلى النهاية" ص 5.
21 – مرايا ص 5
22 – م ن ص 14
23 – م ن ص 182
24 – أبو القاسم الشابي – الخيال الشعري عند العرب – مسارة أدبية كانت حدثا أدبيا في تونس في عشرينات القرن الماضي وصدرت في كتاب كان حدثا أدبيا في تونس والعالم العربي..
25 – يوسف سامي اليوسف – القيمة والمعيار : مساهمة في نظرية الشعر – دار كنعان – ط 2 – دمشق – 2003 وفيه العناصر التالية: الشعر وسؤال القيمة ص 11– الشعر والذائقة ص 41 – وظيفة الشعر ص 69 – الشعر والحساسية ص 97
26 – لمزيد التعمق أنظر دراسات في السرديات مصطفى مدائني ص 11.
27 – م ن ص 12
28 – أغاني الحياة أبو القاسم الشابي – النبي المجهول..
29 – مرايا ص 153
30 – م ن ص ص 25 – 32 – 37 – 201
31 – م ن ص 234.

الأستاذ مصطفى مدائني






  رد مع اقتباس
/
قديم 30-05-2017, 07:47 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
رشيدة الفارسي
عضو أكاديمية الفينيق
تحمل أوسمة الأكاديمية للابداع والعطاء
رابطة الفينيق/ تونس
تونس

الصورة الرمزية رشيدة الفارسي

إحصائية العضو








آخر مواضيعي

رشيدة الفارسي غير متواجد حالياً


افتراضي رد: قراءة في رواية عراة تحت الشمس

قراءة ثرية و رشيقة للرواية غاصت في أبعادها
و دلالاتها.و كشفت مواطن الإبداع فيها.
مبروك روضة و هنيئا لك بكتابك المتميز هذا
و هنيئا لنا بك.






  رد مع اقتباس
/
قديم 03-10-2017, 12:33 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
افتراضي رد: قراءة في رواية عراة تحت الشمس

الكتابة تلقى ضوءها الحقيقي في ثوب قراءة متمكنة
شكرا للناقد السيد مصطفى
وتحية للروض
وعسلامة يا طيبة






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
قديم 26-10-2019, 11:48 AM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
فاطمة الزهراء العلوي
عضو أكاديميّة الفينيق
نورسة حرة
تحمل أوسمة الأكاديمية للعطاء والإبداع
عضو لجان تحكيم مسابقات الأكاديمية
المغرب
افتراضي رد: قراءة في رواية عراة تحت الشمس

أين أنت يا الروض؟






الزهراء الفيلالية
  رد مع اقتباس
/
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة نصوص جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:54 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لأكاديمية الفينيق للأدب العربي
يرجى الإشارة إلى الأكاديمية في حالة النقل
الآراء المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة بل تمثل وجهة نظر كاتبها فقط